خطبة الدكتور البوطي: مفتاح الحل الرجوع إلى الله
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
قضى الله سبحانه وتعالى ألا يُمَتِّع عباده المؤمنين بنعمة العصمة التامة من الذنوب والآثام حاشا الرسل والأنبياء على الرغم من أنه خاطبهم بالشرائع الآمرة والناهية المحرضة والمنذرة، ولله في ذلك حكمة يضيق هذا الوقت عن بيانها، ولعلنا سنعود إليها في فرصة أخرى. ولكن الذي يغني عن نعمة العصمة التي منعها الإنسان المؤمن بالله عز وجل حاشا الرسل والأنبياء التوبة إلى الله عز وجل يُهْرَعُ إليها العاصي كلما زلت به القدم، كلما تغلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء، كلما سيطرت عليه رعوناته فارتكب من المعاصي والأوزار ما حملته نفسه الأمارة عليه. التوبة إلى الله عز وجل بصدق مع الذل والضراعة وإعلان صدق العبودية والمسكنة لله عز وجل، ذلك يقوم مقام العصمة لأن الله سبحانه وتعالى يغفر للتائب اللاجئ إلى الله عز وجل بذل الضراعة والمسكنة معاصيه كلها، وصدق رسول الله القائل: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
ولكن الذي هو أخطر من ارتكاب المعاصي العكوف عليها مع الرضا عنها، الذي هو أخطر من ارتكاب المعصية أن يقبل إليها الإنسان وهو راضٍ عن عمله، وهو يبرر إقدامه على هذا المنكر الذي لا يرضى الله سبحانه وتعالى عنه. هذا أخطر وأشد من المعصية ذاتها.
المعاصي التي تُرْتَكَبُ بسائق من الضعف ممحوة في نهاية الأمر، لابد أن تكون التوبة مغتسلاً طاهراً لها، ولكن المعصية عندما ترتكب مع التبرير لها ومع العكوف عليها والرضا عنها تلك هي المصيبة الكبرى التي يحجب الإنسان أمامها عن رحمة الله عز وجل وصدق الله القائل عن هذا النوع من الناس:
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 40].
من هم الذين يقول ربنا عنهم هذا الكلام؟ هم الذين يستمرئون المعصية ويقررون الدوام عليها ويفلسفونها ويبررون سلوكهم السائر نحوها. أما المعصية التي ترتكب بسائق من الضعف فهي تلك التي قال الله عز وجل عنها وعن أصحابها في محكم تبيانه:
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
عباد الله: مجتمعاتنا الإسلامية مغموسة في كثيرٍ من الأوزار والمعاصي والموبقات، مجتمعاتنا الإسلامية – على اختلاف الفئات التي فيها، على تفاوت الطبقات التي فيها – حُمِّلَتْ أو تَحَمَّلَتْ كثيراً من الأوزار التي حذر الله سبحانه وتعالى منها ونهى عنها، ولا أريد أن أُفَصِّلَ الحديث عن أنواع هذه المعاصي فتخيلوا هذه الأنواع واعلموا أنها كلها موجودة، بيوتنا مليئة بظلمات المعاصي إلا من رحم ربك، مكاتبنا مليئة بالمعاصي إلا ما رحم ربك، معسكراتنا مليئة بالمعاصي إلا ما رحم ربك، وأنا أتحدث عن واقع ينبغي أن أذكره بين يدي مفتاح الحل والرجوع إلى ساحةٍ بل واحةٍ وارفة من رحمة الله عز وجل. وإني لأقول لكم وأنا موقن بأن هذا البلاء الذي يمر بنا إنما هو رسائل إيقاظ آتية من عند الله سبحانه وتعالى، يوقظنا مولانا من خلالها برحمة غامرة إلى أن نستيقظ إلى واقعنا وننظر إلى حالنا ونقف ساعة قدسية من نقد الذات ومن اتهام النفس على كل المستويات ثم نقبل إلى الله عز وجل نعلن التوبة الصادقة النابعة من طوايا قلوب عضها الألم وانتابتها حرقة الندم مع التذلل والانكسار والضراعة لمولانا وخالقنا عز وجل، هذا البلاء الذي نمر به ليس إلا إيقاظاً إلى هذا المعنى الذي يريد منا ربنا سبحانه وتعالى أن ننتبه إليه فنهرع جميعاً على كل المستويات سراً قبل الجهر إلى محراب الذل والعبودية لله، نضرع إليه بانكسار، بذل، نعلن التوبة الصادقة بين يديه، نعلن العزم على الاستقامة على صراطه ونهجه، ولسوف تجدون أن البلاء قد امحى وأن المصيبة قد آلت إلى أثرٍ بعد عين، نعم، ألم تقرؤوا قول الله عز وجل:
(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 42-43].
أي هلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا.
إياكم يا عباد الله أن تكونوا من هذا الفريق، إياكم أن تكونوا من أولئك الذين قست قلوبكم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعكفون عليه من المعاصي والأوزار، فإن البلاء يذهب ولكن سرعان ما يعود، هكذا كُلِّفْتُ أن أقول لكم وأنذركم، البلاء سيذهب يا عباد الله ولكن المطلوب من عباد الله – وقد أيقظهم الله عز وجل بإقبال هذا البلاء ثم رحمهم بصرفه – مطلوب منهم أن يتوبوا، مطلوب منهم أن يؤوبوا، مطلوب منهم أن يضعوا عبوديتهم لله موضع التنفيذ، وعندما أقول هذا الكلام أوجهه لمجتمعنا بكل فئاته، وأنا أول من أذكر نفسي بهذا الواجب ثم إني أخاطب به كل الفئات وممن أخاطب بهم هؤلاء الذين يُسَمَّون الإرهابيين أو يُسَمَّون المسلحين أو ما إلى ذلك أقول لهم كما أقول لكل الفئات إن بيننا وبينكم جامعاً مشتركاً وأظن أن هذا الجامع المشترك لا يتفاوت فيه فئات ولا يغيب فيه فئات دون أخرى، إنه الإيمان بالله بقطع النظر عن الولوغ في المعاصي، أعتقد أن بيننا وبينكم جامعاً من هذا الإيمان بالله، فإن لم يكن فلعله جامع الإنسانية، فإن لم يكن فلعله جامع المروءة والنخوة والشرف، المهم أن بيننا وبين كل فئات المجتمع ولاسيما هؤلاء الذين يُسمَّون الإرهابيين أو المسلحين أو القتلة أو نحو ذلك أقول لهم ما أقول لكل الفئات: انطلقوا إلى تصرفاتكم من اتهام أنفسكم أولاً، لعلي مخطئ، لعلي آثم، لعلي متنكب عن جادة الصواب، ولكي أعلم أأنا متنكب عن هذه الجادة أم لا لابد أن أستشير ولابد أن أستعين ولابد أن أجلس جلسة قدسية أتأمل فيها وأفكر أعود فيها إلى عقلي لا إلى مزاجي، لا إلى رعوناتي، أقول لنفسي ولكم ولهؤلاء الإخوة: أما الأمزجة والرعونات فهي انفعالات قسرية وليست أفعالاً إرادية، إن كان مزاجك يكره نظاماً أو يحبه، إن كان مزاجك يكره قادةً أو يحبهم فالحب والكراهية ليس فيهما مقياس خير ولا شر، وقديماً قالوا: إنما يأسى على الحب النساء، وإنما المقياس كامن في الرجوع إلى ما يقرره العقل وما يقرره الإدراك، أنا أقول هذا لنفسي وأقول لسائر الإخوة، للقائمين بالأمر، لكل الفئات، أمزجتنا حدِّثْ عنها ولا حرج، لا حرج فيما تتدلل وتدعونا إليه الأمزجة، هي انفعالات تعبر عن نفسها آناً بالكراهية وآناً بالحب وما على المحبين ولا الكارهين من سبيل، أما السلوك فينبغي أن ينبثق من قرار العقل، هل عدتم إلى العقل وتساءلتم – وإن أمزجتكم توحي إليكم كراهية النظام وضرورة العمل على إنهائه – هل سألتم عقولكم عن البديل الذي أعددتموه؟ وهل أجابكم العقل وبيَّنَ لكم البديل الذي أُعِدَّ؟ أعتقد أنكم لم تفكروا في البديل قط وإنما تفكرون فقط بتهديم هذا النظام القائم وإلغائه، وأقول لكم بعبارة أوضح وأجلى: إنكم تقاسمتم مع أعدائنا وأعدائكم المهمة، التزمتم بالتهديم وإلغاء النظام والتزم الأعداء بالبديل، وهاهم قد رسموا البديل بل وضعوه بل قرروه وأصدروا لا أقول تقريراً بل أصدروا قراراً به، صدر القرار في إسرائيل ثم أُرْسِل فوُقِّعَ عليه في البيت الأبيض، هم كلَّفوا أنفسهم بالبديل أما أنتم فقد تكلفتم بالإلغاء، وأنا أقول أيها الإخوة: ما هو هذا البديل، أعود إلى عقلي وأسأله ما البديل، البديل الذي وقعْتُ عليه، ولحسن الحظ أنني أضع يدي على صورة من هذا القرار لا التقرير، قرار، إن البديل يتكون من ثلاث مراحل، المرحلة الأولى إلهاب ما يسمى الفوضى الخلاقة القاتلة، أجل القاتلة، هذه تتمة الشعار، إلهاب وإيقاد الفوضى الخلاقة القاتلة، المرحلة الأولى تسعير الحرب الطائفية اللاهبة، المرحلة الأولى مرحلة النجدة التي تفد إلينا بها ملائكة أوروبا لينقذونا من هذه الحرب اللاهبة وليعيدوا الأمن والسلام والطمأنينة ولكن بثمن، ما هو الثمن؟ تقسيم سورية التي كانت إلى اليوم دولة واحدة إلى أربعة دويلات، واحدة في الساحل، وثانية في الشمال، وأخرى في الوسط، ورابعة في الجنوب، وأنا لا أريد أن أذكر الأسماء التي سُمِّيَ بها كل دويلة من هذه الدويلات، هذا ما يقوم به أولئك، أقول لهؤلاء الإخوة وهذا ما تقومون به أنتم عوضاً عنهم. أيها الإخوة أقول لنفسي ولكم ولكل أخٍ عاقل: أفأنتم غداً ستكونون سعداء بهذا الذي فعلتموه خدمة لأعدائنا وأعدائكم جميعاً؟ أفأنتم ستكونون سعداء بالتاريخ الذي يكتب ويتحدث عن المخالب العربية التي استُخدِمَتْ واستُعمِلَتْ لتقسيم سوريا وتحويلها إلى أثر بعد عين؟ أأنتم على استعداد لأن تستقبلوا لعنات الأجيال وهم يقرؤون التاريخ؟ لا أعتقد يا عباد الله، أبداً لا أعتقد. بيننا وبينكم جامع مشترك لا يمكن أن يذوب، إنه الإيمان بالله حتى وإن كان راقداً بين جوانحكم ولكن بوسعكم أن توقظوه، بيننا وبينكم جامع ينبعث ويتفرع عن الإيمان بالله، هو الإنسانية، بيننا وبينكم جامع مشترك هو النخوة، الشرف، المروءة، الكرامة، كل ذلك يمنعكم من أن تتقاسموا المهمة بهذا الشكل، تتحملون مهمة التهديم وعليهم هم مهمة وضع البديل، وهذا هو البديل وُضِعَ وقد قرأته، ويقول القرار في آخره هذه العبارة: وهذا كله في متناول يدنا اليوم. أقول هذا لأدعو نفسي ولأدعوكم جميعاً بكل فئاتنا إلى توبة صادقة إلى الله، إلى عودٍ حميدٍ إلى رحاب العبودية لله. نحن عبيد مهما تقلبت بنا الأيام ومهما قفزت بنا الرعونات سنظل عبيداً لله
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) [مريم: 93].
مصيرنا الوقوف بين يدي الله عز وجل، الإنسان يُخْدَع، الإنسان يُغْرَى بكثير من العوامل، كلٌّ منا يُعَرَّض لذلك ولكن العقل يعيد صاحبه إلى الرشد، العقل يعيد صاحبه إلى الحمى، أقولها مرة أخرى من منطلق الحب، مرة أخرى من منطلق الشفقة على أنفسنا وعلى إخواننا ثم على هذه الأرض التي ائتمننا الله عليها، من منطلق الغيرة على هذه الدولة القدسية التي ائتمننا الله عليها، ما ينبغي أن نخون الأمانة، ما ينبغي أن نصبح مخالب لأعدائنا جميعاً، يا عباد الله أوبوا إلى الله لاسيما في هذه الأيام التي تناديكم أن أوبوا وتوبوا فباب التوبة مفتوح، باب القبول من الله لكم مفتوح، رجب وما أدراك ما رجب، أول شهر من أشهر الحرم ما أحلى فيه الرجوع إلى الله، ما أحلى فيه الرجوع إلى الخالق، ما أحلى فيه الرجوع إلى مولانا عز وجل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 05-27-2012 الساعة 10:51 PM