أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           أعوذ بكلمات الله التَّامَّة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأنْ يحضرون           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-02-2011
  #31
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثالثة والعشرون

وهي مبحثان

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْويمٍ ^ ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ ^ إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غيرُ مَمْنونٍ[ (التين: 4- 6)

المبحث الأول

نبين خمس محاسن من بين آلاف محاسن الايمان وذلك في خمسِ نقاط

C النقطة الاولى:

إن الانسانَ يسمو بنور الايمان الى اعلى عليين فيكتسب بذلك قيمةً تجعلُه لائقاً بالجنة، بينما يتردّى بظلمةِ الكفر إلى اسفل سافلين فيكون في وضعٍ يؤهّلُه لنار جهنم، ذلك لأنّ الايمانَ يربطُ الانسانَ بصانعهِ الجليل، ويربطه بوثاق شديد ونسبةٍ اليه، فالايمانُ انما هو إنتسابٌ؛ لذا يكتسب الانسانُ بالايمان قيمة سامية من حيث تجلِّي الصنعةِ الإلهية فيه، وظهورِ آيات نقوشِ الأسماء الربانية على صفحةِ وجوده. أما الكفرُ فيقطع تلك النسبةَ وذلك الانتسابَ، وتغشى ظلمته الصنعةَ الربانية وتطمِس على معالمها، فَتنقُص قيمةَ الانسانِ حيث تنحصر في مادّته فحسب؛ وقيمةُ المادة لا يُعتدّ بها فهي في حكم المعدوم، لكونها فانية، زائلة، وحياتُها حياةٌ حيوانيةٌ مؤقتة.

وها نحن أولاء نبيّنُ هذا السرَّ بمثال توضيحي:

أن قيمةَ المادة تختلف عن قيمة الصنعة ومدى الاجادة فيما يصنعه الانسانُ، فنرى أحياناً القيمتين متساويتين، وقد تكون المادةُ اكثرَ قيمةً من الصنعة نفسِها، وقد يحدث ان تحتوي مادة حديد على قيمة فنيةٍ وجمالية عاليةٍ جداً، ويحدث أن تحوز صنعةٌ نادرة نفيسة جداً قيمةَ ملايين الليرات رغم كونها من مادة بسيطة جداً. فاذا عُرضَت مثل هذه التحفة النادرة في سوق الصنّاعين والحرفيين الـمُجيدين وعرفوا صانعها الباهر الماهر الشهير فانها تحوز سعر مَليون ليرة، أما إذا اُخذت التحفةُ نفسُها الى سوق الحدادين - مثلاً - فقد لا يتقدم لشرائها أحدٌ، وربما لا ينفق أحدٌ في شرائها شيئاً.

وهكذا الانسانُ، فهو الصنعة الخارقة للخالق الصانع سبحانه، وهو أرقى معجزةٍ من معجزات قدرته وألطفُها، حيث خلقه الباري مظهراً لجميع تجليات أسمائه الحسنى، وجعله مداراً لجميع نقوشه البديعة جلّت عظمته، وصيرّه مثالاً مصغراً ونموذجاً للكائنات بأسرها.

فإذا استقر نورُ الايمان في هذا الانسان لبيّن - ذلك النور - جميع ما على الانسان من نقوش حكيمة، بل يستقرئها الآخرين؛ فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعُر بها في نفسه شعوراً كاملاً، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملّونَها، أي كأنه يقول: ((ها أنا ذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقُه. انظروا كيف تتجلى فيّ رحمتُه، وكرمُه)). وبما شابهها من المعاني الواسعة تتجلّى الصنعة الربانية في الانسان.

اذن الايمان - الذي هو عبارة عن الانتساب الى الصانع سبحانه - يقوم باظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الانسان، فتتعين بذلك قيمةُ الانسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعان تلك المرآة الصمدانية. فيتحول هذا الانسان - الذي لا أهمية له - الى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي، وينال شرفاً يؤهله للضيافة الربانية في الجنة.

أما إذا تسلّل الكفر - الذي هو عبارةٌ عن قطع الانتساب الى الله - في الانسان، فعندئذٍ تسقط جميع معاني نقوش الاسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام وتمحى نهائياً، ويتعذر مطالعتها وقراءتها؛ ذلك لانه لا يمكن ان تُفهَم الجهات المعنوية المتوجهة فيه الى الصانع الجليل، بنسيان الصانع سبحانه، بل تنقلب على عقبيها، وتندرس اكثر آيات الصنعة النفيسة الحكيمة واغلب النقوش المعنوية العالية، أما ما يتبقى منـها مـمـا يتـــراءى للعـين فـــسوف يُعزى الى الاسبــاب التـافهــة، الى الطبـيـعة، والمصادفة، فتسقط نهائياً وتزول، حـيث تتحول كل جــوهرةٍ مــن تـلك الجــواهر المتلألئة الى زجاجةٍ سوداء مظلمة، وتقتصر أهميتها آنذاك على المادة الحيوانية وحدها. وكما قلنا ان غاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول.. وهكذا يهدم الكفر الماهية الانسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة الى فحمة خسيسة.

C النقطة الثانية:

كما ان الايمان نور يضئُ الانسانَ وينوِّرُه ويُظهر بارزاً جميعَ المكاتيب الصمدانية المكتوبة عليه ويستقرِئُها، كذلك فهو يُنير الكائنات أيضاً، وينقذ القرون الخالية والآتية من الظلمات الدامسة.

وسنوضح هذا السرّ بمثال؛ استناداً الى أحد اسرار هذه الآية الكريمة:

] الله وليُّ الذين آمَنوا يُخرجُهُم مِن الظُلماتِ الى النّور[ (البقرة: 257)

لقد رأيتُ في واقعةٍ خيالية أن هناك طودين شامخين متقابلين، نُصبَ على قمتيهما جسرٌ عظيم مدهش، وتحته وادٍ عميقٌ سحيق. وأنا واقف على ذلك الجسر، والدنيا يخيّم عليها ظلامٌ كثيف من كل جانب، فلا يكاد يرى منها شئ. فنظرت الى يميني فوجدت مقبرةً ضخمة تحت جنح ظلمات لا نهاية لها، اي هكذا تخيلت، ثم نظرت الى طرفي الأيسر فكأني وجدت أمواجَ ظلماتٍ عاتية تتدافع فيها الدواهي المذهلة والفواجع العظيمة وكأنها تتأهب للانقضاض، ونظرتُ الى أسفل الجسر فتراءت لعيني هوةٌ عميقةٌ لا قرار لها، وقد كنتُ لا أملك سوى مصباحٍ يدوي خافتِ النور أمامَ كل هذا الهدير العـظـيم من الظـلمات. فاستـخدمته، فبـدا لـي وضـعٌ رهيب، اذ رأيت اُسوداً وضواري ووحوشاً وأشباحاً في كل مكان حتى في نهايات وأطراف الجسر، فتمنيتُ أن لم أكن أملكُ هذا المصباحَ الذي كشف لي كلَّ هذه المخلوقات المخيفة؛ إذ إنني أينما وجَّهتُ نـورَ المصباح شهــدتُ المخــاطر المدهـشة نفـسَها، فتحسرتُ في ذات نفسي وتأوّهتُ قائلاً: ((إن هذا المصباحَ مصيبةٌ وبلاءٌ عليّ)). فاستشاط غيظي فالقيت المصباح الى الأرض وتحطَّمَ، وكأن بتحطُّمه قد أصبتُ زرّاً لمصباح كهربائي هائل، فإذا به يُنور الكائـناتِ جمـيعاً فانـقـشــعتْ تلك الظــلماتُ، وانكشفت وزالت نهائياً، وامتلأ كلُّ مكانٍ وكلُّ جــهةٍ بـذلك النور. وبَدَتْ حقيقةُ كلّ شئ ناصعةً واضحة. فوجدتُ أن ذلك الجسر المعلّقَ الرهيبَ ما هو إلاّ شارعٌ يـمرّ من سهلٍ مـنـبـسط. وتبـيّـنتُ أن تلــك المقـبــرةَ الهــائــلةَ التــي رأيتُها على جهة اليمين ليست الاّ مجالسَ ذكرٍ وتهليلٍ وندوة كريمة لطيفة وخِدمة جليلة، وعبادة سامية تحت إمرة رجالٍ نورانيين في جنائن خُضرٍ جميلة تشعُّ بهجةً ونوراً وتبعث في القلب سعادةً وسروراً. أما تلك الأودية السحيقةُ والدواهي المدهشةُ والحوادثُ الغامضةُ التي رأيتُها عن يساري، فلم تكن الاّ جبالاً مشجرّةً خضراء تسرُّ الناظرين، ووراءَها مضيفٌ عظيمٌ ومروجٌ رائعةٌ ومتنزَّهٌ رائع.. نعم، هكذا رأيتُها بخيالي، أما تلك المخلوقاتُ المخيفة والوحوشُ الضارية التي شاهدتُها فلم تكن الاّ حيوانات أليفة أنيسة؛ كالجمل والثور والضأن والماعز، وعندها تلوتُ الآيةَ الكريمة:

] الله وِليُّ الذينَ آمَنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ الى النّورِ[

وبدأتُ أردّد: الحمدلله على نور الايمان.

ثَمَّ أفقتُ من تلك الواقعةِ.

وهكذا، فذاكما الجبلان هما: بدايةُ الحياةِ ومُنتهاها، أي هما عالمُ الأرض وعالمُ البرزخ.. وذلك الجسرُ هو طريقُ الحياة.. والطرفُ الايمنُ هو الماضي من الزمن، والطرفُ الأيسرُ هو المستقبلُ منه . أما المصباحُ اليدوي فهو أنانيةُ الانسان المعتدةُ بنفسها والمتباهيةُ بما لديها من علم، والتي لا تصغي الى الوحي السماوي.. أما تلك الغيلانُ والوحوشُ الكاسرة فهي حوادثُ العالم العجيبة وموجوداته.

فالانسانُ الذي يعتمد على أنانيته وغروره ويقع في شِراكِ ظلماتِ الغفلةِ ويُبتلى بأغلال الضلالة القاتلة، فإنه يشبه حالتي الأُولى في تلك الواقعة الخيالية، حيث يرى الزمنَ الماضي - بنور ذلك المصباح الناقص الذي هو معرفةُ ناقصةُ منحرفة للضلالة كمقبرةٍ عظيمة في ظلمات العدم، ويصوِّرُ الزمن من المستقبلِ موحشاً تَعبثُ فيه الدواهي والخطوب محيلاً إياه الى الصدفةِ العمياء. كما يصوِّرُ جميعَ الحوادث والموجودات - التي كل منها موظفةٌ مسخرةٌ من لدن ربّ رحيم حكيم - كأنها وحوشٌ كاسرةٌٌ وفواتك ضارية. فيحقّ عليه حُكمُ الآية الكريمة:

] والذينَ كَفَروا أوليَاؤهُم الطّاغوتُ يُخرجُونَهُم من النّورِ الى الظُلُمات[ (البقرة: 257)

اما إذا أغاثت الانسانَ الهدايةُ الإلهيةُ، ووجد الايمانُ الى قلبه سبيلاً، وانكسرت فرعونيةُ النفسِ وتحطّمتْ، وأصغى الى كتاب الله، فيكونُ أشبهَ بحالتي الثانيةِ في تلك الواقعةِ الخيالية، فتصطبغُ الكائناتُ بالنهار وتمتلىءُ بالنور الإلهي، وينطق العالمُ برمَّته : ] الله نورُ السمواتِ والأرض[ (النور:35)

فليس الزمنُ الغابرُ اذ ذاك مقبرةً عظمى كما يُتوهم، بل كل عصرٍ من عصوره كما تشهدُه بصيرةُ القلب، زاخرٌ بوظائفَ عبوديةٍ تحت قيادة نبيّ مُرسَلِ، أو طائفةٍ من الأولياء الصالحين، يديرُ تلك الوظيفة السامية وينشرها ويرُسِّخُ اركانَها في الرعية على أتمِّ وجهٍ وأكمل صورة. ومن بعد انتهاء هذه الجماعات الغفيرة من ذوي الأرواح الصافية من اداء وظائفها الحياتية وواجباتها الفطرية تحلّق مُرتَقيةً الى المقامات العالية مُردّدةً: (الله اكبرُ) مخترقةً حجابَ المستقبل. وعندما يلتفتُ الى يساره يتراءى له من بعيد - بمنظار نور الايمان - أن هناك وراءَ انقلاباتٍ برزخيةٍ واُخروية - وهي بضخامة الجبال الشواهق - قصور سعادة الجنان، قد مُدَّت فيها مضايفُ الرحمن مَداً لا أولَ لها ولا آخر. فيتيقن بأَن كلَّ حادثةٍ من حوادث الكون - كالأعاصير والزلازل والطاعون وامثالها - انما هي مُسخرّات موظفاتٌ مأموراتٌ، فيرى أن عواصفَ الربيع والمطر وأمثالَها من الحوادث التي تبدو حزينةً سمجةً، ما هي في الحقيقة والمعنى الا مدارُ الحِكَمِ اللطيفة، حتى إنه يرى الموتَ مقدمةً لحياةٍ أبديةٍ، ويرى القبرَ بابَ سعادةٍ خالدة.. وقسْ على هذا المنوال سائَر الجهاتِ بتطبيق الحقيقةِ على المثال.

C النقطة الثالثة:

كما أن الايمانَ نورٌ وهو قوةٌ ايضاً. فالانسانُ الذي يظفر بالايمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائناتِ ويتخلصَ من ضيق الحوادثِ، مستنداً الى قوةِ ايمانهفَيبحرُ متفرجاً على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام قائلاً: تَوكَّلتُ على الله، ويسلّم أعباءه الثقيلةَ أمانةً الى يدِ القُدرةِ للقدير المطلق، ويقطعُ بذلك سبيلَ الدنيا مطمئنّ البال في سهولةٍ وراحةٍ حتى يصل الى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع ان يرتفعَ طائراً الى الجنة للدخول الى السعادة الأبدية.

أما اِذا ترك الانسانُ التوكل فلا يستطيع التحليقَ والطيرانَ الى الجنة فحسب بل ستجذبه تلك الأثقالُ الى أسفلَ سافلين.

فالايمان اذن يقتضي التوحيدَ، والتوحيدُ يقودُ الى التسليم، والتسليم يُحقق التوكلَ، والتوكلُ يسهّل الطريقَ الى سعادة الدارَين. ولا تظنن أن التوكل هو رفضُ الأسباب وردّها كلياً، وإنما هو عبارةٌ عن العلمِ بأن الأسبابَ هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أما التشبثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدعاء الفعلي. فطلبُ المسَبَّباتِ اذن وترقّب النتائج لا يكون الاّ مِن الحقِّ سبحانه وتعالى، واَنّ المنةَ والحمدَ والثناءَ لا ترجعُ الاّ اِليه وحدَه.

ان مَثلَ المتوكلِ على الله وغيرَ المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل اعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلت على رأسهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ احدهُما ما على كاهِله حالما دخل السفينة وجلسَ عليه يرقُبُه أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له:

((ضع عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟)). فقال:
- ((كلا، اني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فانا على قوةٍ لا أعبأُ بحملي، وسأحتفظ بما أملُكه فوقَ رأسي وعلى ظهري)). فقيل له ثانية:

- ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عوداً منا جميعاً. وبامكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا اكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن انك تفقُد قوتَك رويداً رويداً، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقاً، واذا رآك ربّان السفينة على هذه الحالة فيسظنــُّك مصاباً بَمسٍ من الجنون وفاقداً للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجاً، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلاً: ان هذا خائنٌ يتهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك باظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعفاً - كما يراه أهلُ البصائر - وبغرورِك الذي يحمل عَجزاً، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك اُضحوكةً ومهزلةً. ألا ترى ان الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..! وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ الى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال:

الحمد لله... ليرضَ الله عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية.

فيا أيها الانسان البعيدُ عن التوكل! ارجع الى صوابك وعُد الى رُشدك كهذا الرجل وتوكّل على الله لتتخلص من الحاجة والتسوّل من الكائنات، ولتنجوَ من الإرتعاد والهلع أمام الحادثات، ولتنقذَ نفسَك من الرياء والاستهزاء ومن الشقاء الابدي ومن أغلال مضايقات الدنيا.

C النقطة الرابعة:

إن الايمانَ يجعل الانسانَ انساناً حقاً، بل يجعله سلطاناً؛ لذا كانت وظيفتُه الأساس: (الايمانُ بالله تعالى والدعاء اليه). بينما الكفرُ يجعل الانسانَ حيواناً مفترساً في غاية العجز.

وسنورد هنا دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً من بين آلاف الدلائل على هذه المسألة، وهو: التفاوتُ والفروقُ بين مجئ الحيوان والانسان الى دار الدنيا.

نعم، ان التفاوتَ بين مجئ الحيوان والانسان الى هذه الدنيا يدل على أن اكتمالَ الانسانيةِ وارتقاءها الى الانسانية الحقة إنما هو بالايمان وحدَه، وذلك لأن الحيوانَ حينما يأتي الى الدنيا يأتي اليها كأنه قد إكتملَ في عالمٍ آخرٍ، فيرُسَلُ اليها متكاملاً حسب إستعداده. فيتعلم في ظرف ساعتين أو يومين أو شهرين جميع شرائط حياته وعلاقاته بالكائنات الأخرى وقوانينَ حياته، فتحصلُ لديه مَلَكةٌ؛ فيتعلّم العصفورُ أو النحلةُ - مثلاً - القدرةَ الحياتية والسلوكَ العملي عن طريق الإلهامِ الرباني وهدايتِه سبحانه. ويحصلُ في عشرين يوماً على ما لا يتعلمه الانسانُ الاّ في عشرين سنة. اذن الوظيفةُ الاساس للحيوان ليست التكمّل والإكمتال بالتعلّم، ولا الترقي بكسب العلم والمعرفة، ولا الاستعانة والدعاء باظهار العجز. وانما وظيفتُه الأصلية: العمل حسب استعداده، اي العبودية الفعلية.

أما الانسانُ فعلى العكس من ذلك تماماً، فهو عندما يَقِدم الى الدنيا يقدِمُها وهو محتاجٌ الى تعلّم كل شئ وادراكه؛ اذ هو جاهلٌ بقوانين الحياة كافة جهلاً مطبقاً، حتى إنه قد لا يستوعب شرائطَ حياته خلال عشرين سنة. بل قد يبقى محتاجاً الى التعلم والتفهم مدى عمره. فضلاً عن أنه يُبعث الى الحياة وهو في غاية الضَعف والعَجز حتى إنه لا يتمكن من القيام منتصباً الاّ بعد سنتين من عمره، ولا يكاد يميّز النفَع من الضرّ الا بعد خمس عشرة سنة، ولا يمكنه أن يحقّق لنفسه منافع حياته ومصالحها ولا دفـع الضرر عنها إلاّ بالتعـاون والانخـراط فـي الحيـاة الاجتماعية البشرية.

يتضح من هذا ان وظيفة الانسان الفطرية انما هي التكمل "بالتعلم" أي الترقي عن طريق كسب العلم والمعرفة، والعبودية (بالدعاء). أي أن يدرك في نفسه ويستفسر: (برحمةِ مَنْ وشَفقته اُدارى بهذه الرعاية الحكيمة؟! وبمَكْرَمةِ مَنْ وسخائِه اُربّى هذه التربية المفعمةَ بالشفقة والرحمة؟ وبألطافِ مَنْ بوجُودِه اُغذّى بهذه الصورة الرازقة الرقيقة؟!). فيرى أن وظيفته حقاً هو الدعاءُ والتضرعُ والتوسلُ والرجاءُ بلسان الفقر والعجز الى قاضي الحاجات ليقضي له طلباته وحاجاته التي لا تصل يدُه الى واحدةٍ من الألفِ منها. وهذا يعني ان وظيفته الأساس هي التحليق والارتفاع بجناحَي (العجز والفقر) الى مقام العبودية السامي.

اذن فلقد جئ بهذا الانسان الى هذا العالم لأجل أن يتكامل بالمعرفة والدعاء؛ لأن كل شئ فيه موجَّه الى العلم ومتعلقٌ بالمعرفة حسبَ الماهية والاستعداد. فأساسُ كلِّ العلوم الحقيقية ومعدنها ونورُها وروحها هو (معرفة الله تعالى) كما ان اُسَّ هذا الاساس هو (الايمانُ بالله جل وعلا).

وحيث ان الانسان متعرضٌ لما لا يحصى من أنواع البلايا والمصائب ومهاجمة الاعداء لما يحمل من عجزٍ مطلقٍ. وله مطالبُ كثيرةٌ وحاجاتٌ عديدة مع أنه في فقرٍ مدقع لا نهاية له؛ لذا تكون وظيفتُه الفطريةُ الأساس (الدعاءَ) بعد الايمان، وهو أساسُ العبادة ومخّها. فكما يلجأ الطفلُ العاجز عن تحقيق مرامه أو تنفيذ رغبته بما لا تصل اليه يدُه، الى البكاء والعويل أو يطلب مأمولَه، أي يدعو بلسان عجزه إما قولاً أو فعلاً فيوفَّق الى مقصوده ذاك، كذلك الانسانُ الذي هو ألطفُ أنواع الأحياء وأعجزُها وأفقرُها وهو بمنزلة صبيٍّ ضعيفٍ لطيفٍ، فلابدّ له من أن يأوى الى كنفِ الرحمن الرحيم والانطراحَ بين يديه إما باكياً معبراً عن ضعفه وعجزه، أو داعياً بفقره واحتياجـه، حتـى تُلبّى حاجتُه وتُنفَّذ رغبتُهُ. وعندئذٍ يكون قد أدّى شكرَ تلك الإغاثات والتلبيات والتسخيرات. والاّ فاذا قال بغرورٍ كالطفل الأحمق. ((أنا أتمكن أن اُسخّرَ جميع هذه الأشياء واستحوذَ عليها بافكاري وتدبيري)) وهي التي تفوق ألوف المرات قوتَه وطاقَته! فليس ذلك الاّ كفرانٌ بنَعم الله تعالى، ومعصيةٌ كبيرة تنافي الفطرة الانسانية وتناقضها، وسببٌ لجعل نفسه مستحقّاً لعذابٍ أليمٍ.

C النقطة الخامسة:

كما أن الايمانَ يقتضي (الدعاء) ويتّخذه وسيلةً قاطعةً ووساطةً بين المؤمن وربّه، وكما اَن الفطرةَ الانسانية تتلهف اليه بشدةٍ وشوق، فان الله سبحانه وتعالى ايضاً يدعو الانسانَ الى الأمر نفسه بقوله:

] قُلْ مَا يَعْبَؤا بكُم ربّي لَولا دُعَاؤكُم[ (الفرقان: 77)

وبقوله تعالى: ] اُدْعوني أستَجِبْ لكُم[ (غافر: 60)

ولعلك تقول: ((إننا كثيراً ما ندعو الله فلا يُستجابُ لنا رغم ان الآية عامةٌ تُصرّح بأنّ كل دعاءٍ مستجابٌ)).

الجواب:

ان إستجابةَ الدعاء شئ، وقبولَه شئ آخر. فكلُّ دعاءٍ مستجابٌ، الاّ أن قبولَه وتنفيذَ المطلوب نفسه منوطٌ بحكمة الله سبحانه.

فمثلاً: يستصرخ طفلٌ عليل الطبيبَ قائلاً:

((أيها الطبيب انظر اليّ واكشف عني)).

فيقول الطبيب: ((أمرُك يا صغيري)). فيقول الطفل:

((اعطني هذا الدواء)). فالطبيب حينذاك إمّا انه يُعطيه الدواء نفسَه، أو يعطيه دواءً أكثر نفعاً وأفضل له، أو يمنع عنه العلاجَ نهائياً. وذلك حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ.

وكذلك الحق تبارك وتعالى (وله المثل الاعلى) فلأنه حكيمٌ مطلقٌ ورقيبٌ حسيب في كل آن، فهو سبحانه يستجيب دعاءَ العبد، وباستجابته يُزيل وحشَته القاتمةَ وغربته الرهيبة، مُبدلاً إياها أملاً واُنساً وإطمئناناً. وهو سبحانه إما أنه يَقبل مَطلبَ العبد ويستجيب لدعائه نفسه مباشرة، أو يمنحه أفضل منه، أو يردّه، وذلك حسب اقتضاء الحكمة الربانية، لا حسبَ أهواء العبد المتحكمة وأمانيّه الفاسدة.

وكذا، فالدعاء هو ضربٌ من العبودية، وثمار العبادة وفوائدُها أخرويةٌ. أما المقاصدُ الدنيوية فهي ((أوقاتُ)) ذلك النوع من الدعاء والعبادة، وليست غاياتها.

فمثلاً: صلاةُ الاستسقاء نوعٌ من العبادة، وانقطاع المطر هو وقتُ تلك العبادة. فليست تلك العبادةُ وذلك الدعاء لأجل نزولِ المطر. فلو اُدّيَتْ تلك العبادةُ لأجل هذه النية وحدَها اذن لكانت غير حريّة بالقبول، حيث لم تكن خالصةً لوجه الله تعالى..

وكذا وقتُ غروبِ الشمس هو اعلانٌ عن صلاة المغرب، ووقتُ كسوف الشمس وخسوف القمر هو وقتُ صلاةِ الكسوف والخسوف. أي أن الله سبحانه يدعو عبادَه الى نوعٍ من العبادة لمناسبة انكساف آية النهار وانخساف آية الليل اللتين تومئان وتُعلنان عظمتَهُ سبحانه. والاّ فليست هذه العبادة لإنجلاء الشمس والقمر الذي هو معلومٌ عند الفلكي..

فكما ان الأمر في هذا هكذا فكذلك وقتُ انحباس المطر هو وقتُ صلاةِ الاستسقاء، وتهافتُ البلايا وتسلطُ الشرور والأشياء المضرة هو وقتُ بعض الادعية الخاصة، حيث يدرك الانسانُ حينئذٍ عجزَه وفقرَه فيلوذ بالدعاء والتضرع الى باب القدير المطلق. واذا لم يدفع الله سبحانه تلك البلايا والمصائب والشرور مع الدعاء الملحّ، فلا يقالُ: إن الدعاءَ لم يُستجبْ، بل يقال: إن وقت الدعاء لم ينقضِ بعدُ. وإذا ما رفع سبحانه بفضله وكرمه تلك البلايا وكشف الغمة فقد انتهى وقتُ الدعاء اذن وانقضى. وبهذا فالدعاء سرٌ من أسرار العبودية.

والعبودية لابد أن تكون خالصةً لوجه الله، بأن يأوي الانسانُ الى ربَّه بالدعاء مُظهراً عجزَه، مع عدم التدخل في اجراءات ربوبيته، أو الاعتراضِ عليها، وتسليمُ الأمر والتدبير كلّه اليه وحدَه، مع الاعتماد على حكمته من دون إتهامٍ لرحمته ولا القنوطِ منها.

نعم! لقد ثبت بالآيات البيّنات أن الموجودات في وضعِ تسبيح لله تعالى؛ كلٌ بتسبيحٍ خاصٍ، في عبادة خاصة، في سجود خاص، فتتمخض عن هذه الأوضاع العبادية التي لا تعدّ ولا تحصى سبلُ الدعاء المؤدية إلى كنف ربٍّ عظيم.

اما عن طريق لسان الاستعداد والقابلية؛ كدعاء جميع النباتات والحيوانات قاطبة، حيث يبتغي كلُّ واحدٍ منهما من الفيّاض المطلق صورةً معينةً له فيها معانٍ لأسمائه الحسنى، أو عن طريق لسان الحاجة الفطرية كأدعية جميع أنواع الاحياء للحصول على حاجاتها الضـرورية التــي هــي خــارجة عن قدرتهــا، فيطــلب كـلُّ حيٍ من الجواد المطلق؛ بلســان حــاجته الفطرية عناصرَ اســتمــرار وجوده التي هي بمثابة رزقها.

أو عن طريق لسان الاضطرار، كدعاء المضطرّ الذي يتضرع تضرعاً كاملاً الى مولاه المغيب، بل لا يتوجّه الاّ الى ربه الرحيم الذي يلّبي حاجته ويقبل التجاءه.

فهذه الانواع الثلاثة من الدعاء مقبولةٌ إن لم يطرأ عليها ما يجعلها غير مقبولة.

النوع الرابع من الدعاء، هو دعاؤنا المعروف، فهو أيضاً نوعان:

احدهما: دعاءٌ فعلي وحالي.

وثانيهما: دعاء قلبي وقولي.

فمثلاً: الأخذُ بالأسباب هو دعاء فعلي، علماً أن اجتماع الأسباب ليس المرادُ منه ايجاد المسَّبب. وانما هو لإتخاذ وضعٍ ملائمٍ ومُرضٍ لله سبحانه لِطَلَب المسَّبب منه بلسان الحال. حتى إن الحراثةَ بمنزلةِ طَرْقِ بابِ خزينةِ الرحمةِ الإلهية. ونظراً لكون هذا النوع من الدعاء الفعلي موجّهٌ نحو اسم (الجواد) المطلق والى عنوانه فهو مقبولٌ لا يُردُّ في أكثر الأحيان.

أما القسم الثاني: فهو الدعاءُ باللسان والقلب. أي طلبُ الحصولِ على المطالب غير القابلة للتحقيق والحاجات التي لا تصلُ اليها اليدُ. فأهمُّ جهةٍ لهذا الدعاء وألطفُ غاياته وألذُّ ثمراته هو أن الداعي يدرك ان هناك مَن يسمع خواطر قلبه، وتصل يدُه الى كل شئ، ومَن هو القادرُ على تلبية جميع رغباته وآمالِه، ومَن يرحم عجزه ويُواسي فقرَه.

فيا أيها الانسان العاجز الفقير! اياك ان تتخلّى عن مفتاح خزينةِ رحمة واسعة ومصدر قوة متينة، ألا وهو الدعاءُ. فتشبَّث به لترتقيَ الى اعلى عليي الانسانية، واجعل دعاءَ الكائنات جزءاً من دعائك. ومن نفسك عبداً كلياً ووكيلاً عاماً بقولك ] إياكَ نَسْتَعينُ[ وكن أحسنَ تقويمٍ لهذا الكون.

















المبحث الثاني

(وهو عبارة عن خمسِ نكات تدورحول سعادة الانسان وشقاوته)

ان الانسانَ نظراً لكونه مخلوقاً في أحسنِ تقويمٍ وموهوباً بأتمّ استعدادٍ جامع، فانه يتمكن من أن يدخل في ميدان الامتحان هذا الذي اُبتلي به ضمن مقاماتٍ ومراتبَ ودرجاتٍ ودركات مصفوفة ابتداءً من سجين ((أسفل سافلين)) الى رياض ((أعلى عليين)) فيسمو أو يتردى، ويرقى أو يهوي ضمن درجاتٍ من الثرى الى العرش الأعلى، من الذرة الى المجرّة، اذ قد فُسِحَ المجالُ أمامَه للسلوك في نجدين لا نهاية لهما للصعود والهبوط. وهكذا اُرسل هذا الانسانُ معجزةَ قدرةٍ، ونتيجةَ خلقةٍ، وأعجوبةَ صنعةٍ.

وسنبين هنا اسرار هذا الترقي والعروج الرائع، أو التدنّي والسقوط المرعب في ((خمسِ نكات)).

C النكتة الأولى

ان الانسانَ محتاجٌ الى اكثر انواع الكائنات وهو ذو علاقة صميمية معها. فلقد انتشرت حاجاتُه في كل طرف من العالم، وامتدت رغباتُه وآمالُه الى حيث الأبد، فمثلـما يطلب أقحـوانةً، يطلب أيضاً ربيعاً زاهياً فسيحاً، ومثلما يرغب في مَرجٍ مبهج يرغب أيضاً في الجنة الأبدية، ومثلما يتلهّف لرؤية محبوبٍ له يشتاق ايضاً ويتوق الى رؤية الجميل ذي الجلال في الجنة، ومثلما أنه محتاجٌ الى فتح باب غرفة لرؤية صديق حميم قابعٍ فيها، فهو محتاجٌ أيضاً الى زيارة عالمِ البرزخ الذي يقبعُ فيه تسـع وتسعون بالمائة من أحبابه وأقرانه. كما هـو محتاج الى اللواذ بباب القدير المطـلـق الـذي سيغـلق بابَ الكـون الأوسـع ويفتـح بابَ الآخـرة الزاخـرة والمحــشـورة بالعجـائب، والذي سيرفع الدنيا ليضـع مكانَها الآخرةَ انقاذاً لهذا الانسان المسكينِ من ألمِ الفراق الأبدي.

لذا فلا معبود لهذا الانسان وهذا وضعُه، الاّ مَن بيده مقاليدُ الأمور كلها، ومَن عنده خزائنُ كل شئ. وهو الرقيبُ على كل شئ، وحاضرٌ في كل مكان، ومنزّهٌ من كل مكان، ومبرّأٌ من العجز، ومقدَّسٌ من القصور، ومتـعـالٍ عن النقـص، وهو القادر ذو الجلال، وهو الرحيم ذو الجمال، وهـو الحكيـــم ذو الكــمــال. ذلك لأنه لايستطيع أحدٌ تلبـية حاجات انــسانٍ بآمــالٍ ومطــامــحَ غــير محــدودة الاّ مَن له قـُـدرة لا نهاية لها وعلم محيط شامل لا حدود له إذ لا يستحق العبادة الاّ هو.

فيا أيها الانسان! اذا آمنتَ بالله وحدَه وأصبحتَ عبداً له وحدَه، فُزتَ بموقعٍ مرموقٍ فوق جميع المخلوقات. أما اذا استنكفتَ من العبودية وتجاهلتَها فسوف تكون عبداً ذليلاً أمام المخلوقات العاجزة، واذا ما تباهيتَ بقدرتك وأنانيتك، وتخلّيتَ عن الدعاء والتوكل، وتكبرّتَ وزِغتَ عن طريق الحق والصواب، فستكون أضعفَ من النملة والنحلة من جهة الخير والايجاد، بل أضعف من الذبابة والعنكبوت. وستكون أثقلَ من الجبل وأضرّ من الطاعون من جهة الشر والتخريب.

نعم، ايها الانسانُ! اِنّ فيك جهتين:

الاولى: جهةُ الايجاد والوجودِ والخير والايجابية والفعل.

والاخرى: جهةُ التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال.

فعلى اعتبار الجهة الاولى (جهة الايجاد) فانك أقلُّ شأناً من النحلة والعصفور وأضعفُ من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك ان تتجاوز الأرضَ والجبال والسموات، وبوسعِكَ ان تحمل على عاتقك ما أشفقن منه فتكسبَ دائرةً أوسعَ ومجالاً أفسح؛ لأنك عندما تقوم بالخير والايجاد فانك تعمل على سعةِ طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما اذا قمتَ بالإساءةِ والتخريب، فإن اساءتكَ تتجاوز وتستشري، وان تخريبَك يعم وينتشر.

فمثلاً: الكفرُ إساءةٌ وتخريبٌ وتكذيبٌ، ولكن هذه السيئةَ الواحدة تُفضي الى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضاً تزييف جميع الاسماء الإلهية الحسنى وإنكارها. وتتمخّض كذلك عن إهانة الانسانية وترذيلها؛ ذلك لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً رفيعاً، ووظيفةً ذات مغزى، حيث انها مكاتيب ربانية، ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـلاً عن إسقاطهِ تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنزلة التسخير ومهمة العبودية، فانه كذلك يُرديها الى درك العَبَث والمصادفة ولا يرى لها قيمةً ووزناً بما يعتريها من زوالٍ وفراق يبدّلان ويفسّخان بتخريبهما وأضرارهما الموجودات الى مواد فــانيـة تافهة عـقيــمة لا أهمية لها ولا جدوى منها. وهو في الوقت نفسه يُنكر الأسماء الإلهية ويتجاهلها، تلك الاسماء التي تتراءى نقــوشُها وتجــليـــاتُها وجـمالاتُها في مــرايا جميــع الكائــنات، حتى إن ما يُطلق عليه: (الانسانية) التي هي قصيدة حكيمةٌٍ منظومةٌ تعلن اعلاناً لطيفاً جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية، وهي معجزةُ قدرةٍ باهرة جامعةٍ كالنواة لأجهزة شجرةٍ دائمةٍ باقية. هذه (الانسانية) يقذفُها الكفرُ من صورتها الحيّة التي تفوّقت بها على الارض والجبال والسماوات بما أخذتْ على عاتقها من الأمانة الكبري وفُضّلت على الملائكة وترجّحت عليها حتى أصبحت صاحبةَ مرتبةِ خلافة الأرض - يقذفها من هذه القمة السامية العالية الى دَركات هي أذلُّ وأدنى من أي مخلوقٍ ذليل فانٍ عاجزٍ ضعيف فقير، بل يُرديها الى دركة أتفهِ الصور القبيحة الزائلة سريعاً.

وخلاصة القول: ان النفس الأمارة بإمكانها اقتراف جنايةٍ لا نهاية لها في جهة الشر والتخريب، أما في الخير والايجاد فان طاقتها محدودة وجزئية؛ اذ الانسان يستطيع هدمَ بيتٍ في يوم واحد الاّ أنه لا يستطيع أن يشيّده في مائة يوم. أما إذا تخلى الانسانُ عن الانانية، وطلب الخير والوجود من التوفيق الإلهي وأرجَعَ الامرَ اليه، وابتعد عن الشر والتخريب، وترك اتباعَ هوى النفس. فاكتمل عبداً لله تعالى تائباً مستغفراً، ذاكراً له سبحانه. فسيكون مَظهراً للآية الكريمة: ] يُبدّلُ الله سَيّئاتِهم حَسَنات[ (الفرقان: 70) فتنقلب القابلية العظمى عندَه للشر الى قابلية عظمى للخير. ويكتسب قيمة (أحسن تقويم) فيحلق عالياً الى أعلى عليين.

أيها الانسان الغافل! انظر الى فضل الحق تبارك وتعالى وكرمِه، ففي الوقت الذي تقتضي العدالةُ أن يكتب السيئةَ مائة سيئةٍ ويكتب الحسنةَ حسنةً واحدة او لا يكتبها حيث أن خيرها ومصلحتها يعودان على الانسان فهو جلّت قدرته يكتب السيئة سيئةً واحدةً والحسنةَ يزنها بَعشر أمثالها أو بسبعين أو بسبعمائة أو بسبعة آلاف أمثالها.

فأفهم من هذه النكتة ان الدخول في جهنم هو جزاء عمل وهو عين العدالة، وأما دخول الجنة فهو فضل إلهي محض ومَكرمةٌ خالصة، ومرحمة بحتة.

C النكتة الثانية

في الانسان وجهان:

الاول: جهة الانانية المقصورة على الحياة الدنيا.

والآخر: جهةُ العبودية الممتدة الى الحياة الأبدية.

فهو على اعتبار الوجه الاول مخلوقٌ مسكينٌ. إذ رأسماله من الارادة الجزئية جزءٌ ضيئل كالشعرة، وله من الاقتدار كسبٌ ضعيف، وله من الحياة شعلةٌ لا تلبث أن تنطفئ، وله من العمر فترةٌ عابرة خاطفة، وله من الوجود جسمٌ يبلى بسرعة. ومع هذا فالانسان فردٌ لطيف رقيق ضعيف من بين الأفراد غير المحدودة والأنواع غير المعدودة المتراصة في طبقات الكائنات.

أما على اعتبار الوجه الثاني وخاصة من حيث العجز والضعف المتوجهين الى العبودية، فهو يتمتع بفسحة واسعة، وأهمية عظيمة جداً؛ لأن الفاطرَ الحكيم قد أودع في ماهيته المعنوية عجزاً عظيماً لا نهاية له، وفقراً جسيماً لا حد له، وذلك ليكون مرآةً واسعة جامعة جداً للتجليات غير المحدودة (للقدير الرحيم) الذي لا نهاية لقدرته ورحمته و (للغني الكريم) الذي لا منتهى لغناه وكرمه.

نعم، ان الانسان يشبه البذرة، فلقد وُهبت للبذرة اجهزةٌ معنوية من لدن (القُدرة) واُدرجت فيها خطةٌ دقيقة ومهمة جداً من لدن (القَدَر) لتتمكن من العمل داخل التربة، ومن النمو والترعرعِ والانتقالِ من ذلك العالم المظلم الضيق الى عالم الهواء الطليق والدنيا الفسيحة، وأخيراً التوسل والتضرع لخالقها بلسان الاستعداد والقابليات لكي تصير شجرةً، والوصولِ الى الكمال اللائق بها. فاذا قامت هذه البذرةُ بجلب المواد المضرة بها، وصرفِ أجهزتها المعنوية التي وُهبت لها الى تلك المواد التي لا تعنيها بشئ وذلك لسوء مزاجها وفساد ذوقها، فلاشك ان العاقبةَ تكون وخيمةً جداً؛ اذ لا تلبث أن تتعفن دون فائدة، وتبلى في ذلك المكان الضيق. أما اذا اخضَعتْ أجهزتَها المعنوية لتتمثل أمر ] فالق الحبِّ والنَّوى[ (الانعام:95) التكويني واحسنتْ استعمالَها، فانها ستنبثق من عالمها الضيق لتكتملَ شجرةً مثمرةً باسقة، ولتأخذ حقيقتُها الجزئية، وروحُها المعنوية الصغيرة صورتَها الحقيقية الكلية الكبيرة.

فكما ان البذرة هكذا فالانسانُ كذلك. فقد اُودعتْ في ماهيته اجهزةٌ مهمةٌ من لدن القدرة الإلهية، ومُنحَ برامجَ دقيقة وثمينة من لدن القَدَر الإلهي. فاذا أخطأ هذا الانسانُ التقديرَ والاختيار، وصَرَف اجهزتَه المعنوية تحت ثرى الحياة الدنيا وفي عالم الارض الضيق المحدود، الى هوى النفس، فسوف يتعفّنُ ويتفسّخ كتلك البذرة المتعفنة، لأجل لذةٍ جزئيةٍ ضمن عمرٍ قصيرٍ وفي مكانٍ محصور وفي وضع متأزم مؤلم، وستتحمل روحُه المسكينة تبعات المسؤولية المعنوية فيرحلُ من الدنيا خائباً خاسراً.

أما اذا ربّى الانسانُ بذرةَ استعداده وسقاها بماءِ الأسلام، وغذّاها بضياءِ الايمان تحت تراب العبودية موجهاً أجهزتَها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية. فلابد أنها ستنشقّ عن أوراقٍ وبراعم واغصانٍ تمتدّ فروعُها وتتفتّح أزاهيرُها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة وفي الجنة نِعَماً وكمالاتٍ لا حد لها. فيصبح الانسان بذرةً قيّمةً حاوية على أجهزة جامعة لحقيقة دائمة ولشجرة باقية، ويغدو آلةً نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرةً مباركة منورة لشجرة الكون.

نعم ان السموَّ والرقي الحقيقي انما هو بتوجيه القلب، والسرِ، والروح، والعقل، وحتى الخيال وسائر القوى الممنوحة للانسان، الى الحياة الأبدية الباقية، وأشتغال كلٍّ منها بما يخصّها ويناسبها من وظائف العبودية. أما ما يتوهمه أهلُ الضلالة من الانغماس في تفاهات الحياة والتلذّذِ بملذاتها الهابطة والإنكباب على جزئيات لذاتها الفانية دون الالتفات الى جمال الكليات ولذائذها الباقية الخالدة مسخّرين القلب والعقل وسائر اللطائف الانسانية تحت إمرةِ النفس الأمارة بالسوء وتسييرها جميعاً لخدمتها، فان هذا لا يعني رقياً قط، بل هو سقوطٌ وهبوط وانحطاط.

ولقد رأيت هذه الحقيقة في واقعة خيالية سأوضحها بهذا المثال:

دخلتُ في مدينة عظيمة، وجدت فيها قصوراً فخمة ودُوراً ضخمة، كانت تُقام أمام القصور والدور حفلات ومهرجانات وأفراح تجلب الانظار كأنها مسارحُ وملاهٍ، فلها جاذبية وبهرجة. ثم امعنت النظر فاذا صاحبُ قصر واقفٌ أمام الباب وهو يداعب كلبه ويلاعبه. والنساء يرقصن مع الشباب الغرباء، وكانت الفتيات اليافعات ينظّمن العابَ الأطفال. وبوّاب القصر قد اتخذ طورَ المشرف يقودُ هذا الحشد. فأدركت ان هذا القصر خالٍ من أهله وأنه قد عُطلّت فيه الوظائف والواجبات. فهؤلاء السارحون من ذويه السادرون في غيّهم قد سقطت أخلاقُهم وماتت ضمائرهم وفرغت عقولُهم وقلوبُهم فأصبحوا كالبهــائم يهـيمون علـى وجوههم ويلعبون أمام القصر. ثم مشــيتُ قــلــيلاً فـفاجأني قصرٌ آخر. رأيت كلباً نائماً امام بابه. ومعه بوّاب شهمٌ وقور هادئ، وليس امام القصر ما يثير الانتباه، فتعجبت من هذا الهدوء والســكـيــنــة واستغـربت! واستفـــسرتُ عن الســـبــب، فــدخلت القصرَ فوجدته عامراً بأهله، فهناك الوظائف المتباينة والواجبات المهمة الدقيقة ينجزها أهلُ القصر، كلٌّ في طابقه المخصص له في جوّ من البهاء والهناء والصفاء بحيث يبعث في الفؤاد الفرحة والبهجة والسعادة. ففي الطابق الأول هناك رجالٌ يقومون بإدارة القصر وتدبير شؤونه، وفي طابقٍ أعلى هناك البناتُ والاولاد يتعلمون ويتدارسون. وفي الطابق الثالث السيداتُ يقمن بأعمال الخياطة والتطريز ونسج الزخارف الملونة والنقوش الجميلة على انواع الملابس، أما الطابق الأخير فهناك صاحبُ القصر يتصل هاتفياً بالملكِ لتأمين الراحةِ والسلامةِ والحياة الحرّة العزيزة المرضية لأهل القصر، كلٌّ يمارس اعماله حسب اختصاصه وينجز وظائفه اللائقة بمكانته الملائمة بكماله ومنزلته. ونظراً لكوني محجوباً عنهم فلم يمنعني أحدٌ من التجوّل في انحاء القصر؛ لذا استطلعت الأمور بحرّية تامة. ثم غادرتُ القصر وتجولت في المدينة فرأيتُ انها منقسمةٌ الى هذين النوعين من القصور والبنايات، فسألت عن سبب ذلك ايضاً فقيل لي: "ان النوع الاول من القصور الخاليةِ من أهلها والمبهرجِ خارجُها والمزينةِ سطوحُها وافنيتُها ما هي الاّ مأوى ائمة الكفر والضلالة. أما النوع الثاني من القصور فهي مساكن أكابر المؤمنين من ذوي الغيرة والشهامة والنخوة". ثم رأيت أن قصراً في زاوية من زوايا المدينة مكتوبٌ عليه اسم (سعيد) فتعجبت، وعندما أمعنت النظر أبصرت كأن صورتي قد تراءت لي، فصرختُ من دهشتي واسترجعت عقلي وافقتُ من خيالي.

واريد أن أفسر بتوفيق الله هذه الواقعة الخيالية:

فتلك المدينة هي الحياة الاجتماعية البشرية ومدنية الحضارة الانسانية، وكل قصر من تلك القصور عبارة عن انسان، أما أهلُ القصر فهم جوارحُ الانسان كالعين والاذن، ولطائفُه كالقلب والسر والروح، ونوازعُه كالهوى والقوة الشهوانية والغضبية. وكلُّ لطيفةٍ من تلك اللطائف معدّةٌ لأداءِ وظيفةِ عبوديةٍ معينة ولها لذائذُها وآلامُها، أما النفس والهوى والقوة الشهوانية والغضبية فهي بحكم البوّاب وبمثابة الكلب الحارس. فإخضاع تلك اللطائف السامية اذن لأوامر النفس والهوى وطمس وظائفها الاصلية لا شك يعتبر سقوطاً وانحطاطاً وليس ترقياً وصعوداً.. وقس أنت سائر الجهات عليها.

C النكتة الثالثة

ان الانسان من جهة الفعل والعمل وعلى اساس السعي المادي حيوانٌ ضعيفٌ ومخلوق عاجز، دائرة تصرفاته وتملكه في هذه الجهة محدودةٌ وضيقةٌ، فهي على مدّ يده القصيرة، حتى ان الحيوانات الأليفة التي أعطي زمامُها بيد الانسان قد تسرّبتْ اليها من ضعف الانسان وعجزِه وكَسَله حصة كبيرة. فاذا ما قيس مثلاً الغنم والبقر الأهلي بالغنم والبقر الوحشي لظَهر فرقٌ هائلٌ وبونٌ شاسعٌ.

الاّ ان الانسان من جهة الانفعال والقبول والدعاء والسؤال ضيفٌ عزيزٌ كريمٌ في دار ضيافة الدنيا، قد استضافه المولى الكريمُ ضيافةً كريمةً حتى فتح له خزائن رحمته الواسعة وسخرّ له خَدَمه ومصنوعاته البديعة غير المحدودة، وهيأ لتنزهه واستجمامه ومنافعه دائرةً عظيمة واسعة جداً، نصفُ قطرها مدُّ البصر بل مدُّ انبساط الخيال.

فإذا استند الانسان الى أنانيته وغروره واتخذ الحياة الدنيا غاية آماله، وكان جهدُه وكدُّه لأجل الحصول على لذاتٍ عاجلةٍ في سعيه وراء معيشته. فسوف يغرق في دائرة ضيقة ويذهب سعيه ادراجَ الرياح، وستشهد عليه يوم الحشر جميعُ الاجهزة والجوارح واللطائف التي اُودعت فيه شاكيةً ضده، ساخطةً ثائرة عليه. أما إذا أدرك انه ضيفٌ عزيز، وتحرك ضمن دائرة مرضاة مَنْ نَزَل عليه ضيفاً وهو الكريمُ ذو الجلال، وصرَفَ رأسمال عمره ضمن الدائرة المشروعة فسوف يكون نشاطه وعمله ضمن دائرة فسيحة رحبة جداً تمتد الى الحياة الأبدية الخالدة، وسيعيش سالماً آمناً مطمئناً، ويتنفس تنفس الصعداء ويستروح، وبإمكانِهِ الصعودُ والرقي الى أعلى عليين. وستشهد له في الآخرة ما منحه الله من الاجهزة والجوارح واللطائف.

نعم، ان الاجهزة التي زُرعت في الانسان ليست لهذه الحياة الدنيا التافهة، وانما اُنعم عليه بها لحياةٍ باقية دائمة، لها شأنها وأيُّ شأن. ذلك لأننا إذا قارنّا بين الانسان والحيوان نرى ان الانسان أغنى من الحيوان بكثير من حيث الأجهزة والآلات، بمائة مرة، ولكنه من حيث لذّتِه وتمتّعه بالحياة الدنيا أفقرُ منه بمائة درجة، لأن الانسان يجد في كل لذةٍ يلتذّ بها ويتذوقها آثارَ آلاف من الآلامِ والمنغّصات. فهناك آلامُ الماضي، وغصصُ الزمن الخالي، ومخاوفُ المستقبل، وأوهامُ الزمان الآتي، وهناك الآلامُ الناتجة من زوال اللذات. كلُّ ذلك يُفسد عليه مزاجَه وأذواقَه ويكدِّر عليه صفوَه ونشوتَه، حيث تترك كلُّ لذةٍ أثراً للألم. بينما الحيوانُ ليس كذلك، فهو يتلذّذُ دون ألمٍ، ويتذوق الاشياء صافيةً دون تكدِّرٍ وتعكر، فلا تعذّبه آلامُ الماضي ولا ترهبهُ مخاوفُ المستقبل، فيعيش مرتاحاً ويغفو هانئاً شاكراً خالقَه،حامداً له.

اذن فالانسان الذي خُلق في (أحسن تقويم) إذا حَصَر فكرَه في الحياة الدنيا وحدَها فسيهبط ويتَّضع ويصبح أقل شأناً بمائة درجة من حيوان كالعصفور وان كان أسمى وأتم من الحيوان من حيث رأسماله بمائة درجة. ولقد وضّحتُ هذه الحقيقة بمَثَلٍ أوردتُه في موضع آخر وسأعيدُه هنا بالمناسبة:

ان رجلاً منح خادَمه عشرَ ليراتٍ ذهبية وأمره أن يفصّل لنفسه بدلةً من أجود أنواع الأقمشة. وأعطى لخادمه الآخر ألفَ ليرة ذهبية الاّ انه أرفق بالمبلغ قائمة صغيرة فيها ما يطلبُه منه، ووضع المبلغَ والقائمةَ في جيب الخادم. وبعثهما الى السوق. اشترى الخادم الأول بدلةً أنيقة كاملة من أفخر الأقمشة البديعة بعشر ليرات. أما الخادمُ الثاني فقد قلّد الخادم الأول وحذا حذوه، ومن حماقته وسخافة عقله لم يراجع القائمة الموجودة لديه، فدفع لصاحب محلٍ كلَّ ما عنده ألفَ ليرة. وطلب منه بدلةً رجاليةً كاملة، ولكن البائع غيرَ المُنصف اختار له بدلةً من أردأ الأنواع، وعندما قفل هذا الخادمُ الشقيُ راجعاً الى سيّده، ووقف بين يديه، عنَّفه سيدُه أشدَّ التعنيف وأنّبه أقسى التأنيب وعذَّبه عذاباً أليماً.

فالذي يملك أدنى شعورٍ وأقلَّ فطنةٍ يدرك مباشرةً بأن الخادم الثاني الذي مُنح ألف ليرة لم يُرسَل الى السوق لشراء بدلة، وانما للأتّجار في تجارة مهمة جداً.

فكذلك الانسان الذي وُهب له هذه الاجهزةُ المعنوية واللطائف الانسانية التي إذا ما قيست كلُّ واحدةٍ منها بما في الحيوان لظهرتْ انها أكثرُ انبساطاً واكثرُ مدى بمائة مرّة. فمثلاً: أين عينُ الانسان التي تميّز جميعَ مراتب الحسن والجمال؟ وأين حاستُه الذوقية التي تميّز بين مختلف المطعومات بلذائذها الخاصة؟ وأين عقلُه الذي ينفذ الى قرارة الحقائق والى أدق تفاصيلها؟ وأين قلبُه المشتاق المتلهّف الى جميع انواع الكمال؟ أين كل هذه الأجهزة وأمثالها مما في الآلات الحيوانية البسيطة التي قد لا تنكشف الاّ لحد مرتبتين اوثلاث!! فيما عدا الاعمال الخاصة المناطة بجهاز خاص في حيوان معين، والذي يؤدي عمله بشكل قد يفضل ما عند الانسان الذي ليس من مهمته مثل هذه الاعمال والوظائف.

والسرُّ في وَفْرَةِ الأجهزة التي مُنحت للانسان وغِناها هو: ان حواسَّ الانسان ومشاعره قد اكتسبت قوةً ونماءً وانكشافاً وانبساطاً اكثر؛ لما يملك من الفكر والعقل، فقد تبايَن كثيراً مدى استقطاب حواسه،نظراً لتباين وكثرة احتياجاته. لذا تنوعت أحاسيُسه وتعددت مشاعرُه.. ولأنه يملك فطرةً جامعةً فقد أصبح محوراً لآمالٍ ورغباتٍ عدة ومداراً للتوجّه الى مقاصدَ شتّى.. ونظراً لكثرة وظائفه الفطرية فقد انفرجت اجهزتُه وتوسّعت.. وبسبب فطرته البديعة المهيأة لشتى انواع العبادة فقد مُنح استعداداً جامعاً لبذور الكمال؛ لذا لا يمكن ان تُمنح له هذه الأجهزة الوفيرة الى هذه الدرجة الكثيفة لتحصيل هذه الحياة الدنيوية المؤقتة الفانية فحسب، بل لابد أن الغايةَ القصوى لهذا الانسان هي أن يفي بوظائفه المتطلعة الى مقاصدَ لا نهاية لها، وأن يعلن عجزَه وفقره بجنب الله تعالى بعبوديته، وان يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ماتمدّه الرحمة الإلهية من إنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمل وينظر اليها نظر العبرة والاعجاب.

فيا عابدَ الدنيا وعاشقَ الحياة الفانية الغافلَ عن سر (أحسَنِ تقويم)! استمع الى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية التي رآها (سعيد القديم) فحوّلته الى (سعيد الجديد) وهي:

رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويل، أي اُرسَل الى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئاً، حتى دخلتُ الى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك - وهي عشرُ ليرات - في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والاعجاب. فاصبحتُ وأنا صفر اليدين لم أتجّر بشئ، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج اليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبتْ من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة اذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:

(أنفقَت جميع رأسمالك سدىً، وصرتَ مستحقاً للعقاب، وستذهب الى البلد الذي تريدُه خاويَ اليدين. فان كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. فبإمكــانــك ان تدّخر نصـــف ما تحــصـل علــيه، مما بقي لك من الـلــيرات الخمس عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج اليه في ذلك المكان..) فاستشرتُ نفسي فاذا هي غير راضية بذلك، فقال الرجل:

- ((فادّخر اذن ثُلُثَه)). ولكن وجدتُ نفسي غير راضية بهذا ايضاً. فقال:

- ((فادّخر ربُعَهَ)). فرأيتُ نفسي لا تريد أن تَدَع العادةَ التي اُبتلَيت بها. فأدار الرجلُ رأسه وأدبر في حدّةٍ وغيظٍ ومضى في طريقه. ثم رأيتُ كأن الأمور قد تغيّرت. فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الارض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهابُ يميناً ولا شمالاً. ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفَي القطار أزهارٌ جميلة جذابة وثمارٌ لذيذة متنوعة فمددتُ يدي - كالاغبياء - نحوَها اُحاول قطفَ أزهارها واحصل على ثمراتها، الاّ انها كانت بعيدةَ المنال، الأشواكُ فيها انغرزتْ في يدي بمجرد ملامستها فأدْمَتها وجرحَتها والقطارُ كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيتُ نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار: ((اعطني خمسة قروش لأنتقيَ لك الكميةَ المناسبة التي تريدُها من تلك الأزهار والأثمار، فانك تخسر بجروحك هذه اضعافَ اضعافِ ما تحصل عليه بخمسة قروش فضلاً عن ان هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث أنك تقطفها من غير إذن.)) فاشتدّ عليّ الكربُ في تلك الحالة فنظرت اتطلّع من النافذة الى الامام لأتعرّف نهايةَ النفق، فرأيت أن هناك نوافذَ كثيرةً وثغوراً عدة قد أحلّت محلَّ نهاية النفق وأن مسافري القطار يُقذَفون خارجاً من القطار الى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات اُقيمَ على طرفيه حجرٌ اشبهُ ما يكونُ بشواهدِ القبر، فنظرت اليها بكل دقة وامعان فرأيتُ أنه قد كُتب عليهما بحروفٍ كبيرة اسم ((سعيد)) فصرختُ من فرقي وحيرتي: يا ويلاه!! وآنذاك سمعتُ صوت ذلك الرجل الذي أطال عليّ النصح في باب الملهى وهو يقول:

((هل استرجعتَ عقلك يا بني وأفقتَ من سكرتك؟)) فقلت:

((نعم ولكن بعد فوات الاوان، بعد أن خارتْ قواي ولم يبقَ لي حولٌ ولا قوة)).

فقال:

- ((تُب وتوكّل)) فقلت:

- ((قد فعلت)).

ثم أفقتُ وقد أختفى سعيدٌ القديم ورأيتُ نفسي سعيداً جديداً.

ونرجو من الله أن يجعل هذه الواقعة الخيالية خيراً. وسأفسر قسماً منها وعليك تفسير الباقي وهو:

ان ذلك السفر هو السفرُ الذي يمرُّ من عالَم الأرواح، ومن أطوار عالم الرَّحم، ومن الشباب، ومن الشيخوخة، ومن القبر، ومن البرزخ، الى الحشر والى الصراط والى أبد الآباد.

وتلك الليرات الذهبية البالغة ستين هي العمر البالغ ستين عاماً. وحينما رأيت تلك الواقعة الخيالية كنت في الخامسة والأربعين من العمر حسب ظني، ولم يكن لي سندٌ ولا حجةٌ من أن أعيش الى الستين من العمر، إلاّ أنه أرشدني أحدُ تلاميذ القرآن المخلصين أن اُنفق نصفَ ما بقي من العمر الغالب - وهو خمسة عشر عاماً - في سبيل الآخرة.

وذلك الفندق هو مدينةُ استانبول بالنسبة اليّ.

وذلك القطار هو الزمن، وكلُّ عامٍ بمنزلة عربة منه.. وذلك النفقُ هو الحياة الدنيا.. وتلك الأزهارُ والثمار الشائكة هي اللذات غير المشروعة واللهو المحظور حيث أن الألمَ الناشئ من تصوّر زوالها يُدمي القلبَ ويَجرح النفسَ فيقاسي الانسان من توقّع فراقِها مرارةَ العذاب. وان معنى ما قاله الخادم في القطار: ((اعطني خمسة قروش اعطك من أحسن ما تحتاجه)) هو: ان اللذات والأذواقَ التي يحصل عليها الانسانُ عن طريق السعي الحلال ضمن الدائرة المشروعة كافيةٌ لسعادته وهنائه وراحته فلا يدع مجالاً للدخول في الحرام.. ويمكنك ان تفسّر ما بقي.

C النكتة الرابعة

ان الانسان في هذا الكون أشبَه ما يكون بالطفل الضعيف المحبوب يحمل في ضعفِه قوةً كبيرةً وفي عجزه قدرةً عظيمة؛ لأنه بقوة ذلك الضعفِ وقدرةِ ذلك العجز سُخِّرت له هــذه الموجــوداتُ وانقــادت. فإذا ما أدرك الانســانُ ضعفَه ودعــا ربَّه قولاً وحالاً وطـوراً، وأدرك عجزَه فاستــنجد واســتغاث ربَّه، وادّى الشــكرَ والثناءَ على ذلك التسخير، فسيوفّق الى مطلوبه وستخضع له مقــاصدُه وتتحــقـق مآربُه وتأتي اليه طائعةً منقادةً مع أنه يعجز عن أن ينال بقدرته الذاتية الجزئية المحدودة بل ولا يتسنّى له عُشر معشار ذلك. الاّ انه يحيل خطأً أحياناً ما ناله بدعاء لسان الحال الى قدرته الذاتية. وعلى سبيل المثال: ان القوة الكامنة في ضعف فرخ الدجاج تجعل أمَّه تدفع عنه الأسدَ بما تملك من قوة. وان القوة الكامنة في ضعف شبل الأسد تسخِّر أمَّه المفترسة الضارية لنفسه، بحيث يبقى الأسدُ يتضوَّرُ من الجوع بينما يشبع هو مع صِغَره وضَعفه. وانه لجدير بالملاحظة؛ القوةُ الهائلةُ في الضعف، بل حريٌّ بالمشاهدة والاعجاب: تجلي الرحمة في ذلك الضعف.

وكما ان الطفل المحبوبَ الرقيقَ يحصل بضعفه على شفقة الآخرين، وببكائه على مطالبه، فيَخضع له الأقوياءُ والسلاطين فينال ما لا يمكنه أن ينال واحداً من الألف منه بقوته الضئيلة. فضعفُه وعجزُه اذن هما اللذان يحرّكان ويثيران الشفقة والحماية بحقه حتى إنه يذلّل بسبابته الصغيرة الكبارَ وينقاد اليه الملوكُ والأمراءُ. فلو أنكر ذلك الطفلُ تلك الشفقةَ واتّهم تلك الحمايةَ وقال بحماقة وغرور: ((أنا الذي سخرتُ كل هؤلاء الأقوياء بقوتي وارادتي))! فلاشك انه يستحق أن يقابَلَ باللطمة والصفعة. وكذلك الانسانُ اذا أنكر رحمةَ خالقه وأتهم حكمتَه وقال مثل ما قال قارون جاحداً النعمة. ] إنّما اُوتيتُهُ على عِلمٍ عندي[ (القصص: 78) فلاشك انه يعرِّض نفسَه للعذاب. فهذه المنزلة والسلطنة التي يتمتع بها الانسانُ اذن وهذه الترقيات البشرية والآفاق الحضارية ليست ناشئة من تفّوقه وقوةِ جدالِه وهيمنةِ غلبتِه ولا هو بجالب لها، بل مُنحت للانسان لضَعفه ومُدّت له يدُ المعاونة لعجزه، واُحسنتُ اليه لفقره، واُكرم بها لإحتياجه. وأن سبب تلك السلطنةِ ليس بما يملك من قوةٍ ولا بما يقدِرُ عليه من علمٍ بل هو الشفقةُ الربانيةُ ورأفتُها والرحمةُ الإلهية وحكمتُها التي سَخَّرت له الأشياءَ وسلَّمتْها اليه. نعم ان الانسان المغلوبَ أمام عقرب بلا عيون وحية بلا ارجل ليست قدرتُه هي التي ألبَستْه الحريرَ من دودة صغيرة واطعمته العسلَ من حشرة سامة، وانما ذلك ثمرةُ ضعفه الناتجة من التسخير الرباني والإكرام الرحماني.

فيا أيها الانسان! ما دامت الحقيقة هكذا فدع عنك الغرورَ والأنانية، وأعلن أمامَ عتبة باب الألوهية عجزَك وضعفَك، اعلنهما بلسان الإستمداد، وأفصِح عن فقرك وحاجتك بلسان التضرع والدعاء، وأظهِر بانك عبدٌ لله خالص قائلاً:

((حَسْبُنا الله ونِعَم الوكيلُ)) فارتفعْ وارتقِ في مدارج العلا.

ولا تقل: ((أنا لست بشئ وما أهميتي حتى يُسخرَّ لي هذا الكون من لدن الحكيم العليم عن قصد وعناية وحتى يطلب مني الشكر الكلي)).

ذلك وان كنتَ بحسب نفسِك وصورتِك الظاهرية في حكم المعدم، إلاّ انك بحسب وظيفتك ومنزلتك مُشاهدٌ فَطِنٌ، ومتفرجٌ ذكي على الكائنات العظيمة. وانك اللسانُ الناطق البليغ ينطق باسم هذه الموجودات الحكيمة.. وانك القارئ الداهي والمطالعُ النبيه لكتاب العالم هذا.. وانك المشرف المتفكر في هذه المخلوقات المسبّحة.. وانك بحكم الاستاذ الخبير والمعمار الكريم لهذه المصنوعات العابدة الساجدة.

نعم ايها الانسان! انك من جهة جسمِك النباتي ونفسِك الحيوانية جزءٌ صغير وجزئيٌ حقيرٌ ومخلوقٌ فقير وحيوانٌ ضعيف تخوض في الأمواج الهادرة لهذه الموجودات المتزاحمة المدهشة. إلاّ أنك من حيث انسانيتك المتكاملة بالتربية الاسلامية المنوَّرة بنور الايمان المتضمن لضياء المحبة الإلهية سلطانٌ في هذه العبدية.. وانك كليٌ في جزئيتك.. وانك عالمٌ واسع في صغرك.. ولك المقامُ السامي مع حقارتك فانت المشرفُ ذو البصيرة النيرّة على هذه الدائرة الفسيحة المنظورة، حتى يمكنك القول: ((ان ربيَ الرحيمَ قد جعلَ لي الدنيا مأوىً ومسكناً، وجعل لي الشمس والقمر سراجاً ونوراً، وجعل لي الربيعَ باقةَ وردٍ زاهية، وجعلَ لي الصيفَ مائدةَ نعمةٍ، وجعل لي الحيوانَ خادماً ذليلاً، وأخيراً جعل لي النباتَ زينةً واثاثاً وبهجة لداري ومسكني)).

وخلاصة القول:

انك اذا ألقيتَ السمعَ الى النفس والشيطان فستسقط الى أسفل سافلين واذا أصغيتَ الى الحق والقرآن فسترتقي الى أعلى عليين وكنتَ ((أحسن تقويم)) في هذا الكون.

C النكتة الخامسة:

ان الانسان اُرسل الى الدنيا ضيفاً وموظفاً ووُهبتْ له مواهبٌ واستعدادات مهمة جداً، وعلى هذا اسُندت اليه وظائفٌ جليلة. ولكي يقوم الانسانُ باعماله وليكدّ ويسعى لتلك الغايات والوظائف العظيمة فقد رُغِّب ورُهَّب لإنجاز عمله.

سنجمل هنا الوظائف الانسانية وأساسات العبودية التي أوضحناها في موضع آخر، وذلك لفهم وادراك سر ((أحسن تقويم)) فنقول:

ان الانسان بعد مجيئه الى هذا العالم له عبوديةٌ من ناحيتين:

الناحية الاولى: عبوديةٌ وتفكرٌ بصورة غيابية.

الناحية الثانية: عبوديةٌ ومناجاةٌ بصورة مخاطبة حاضرة.

الناحية الاولى هي:

تصديقُه بالطاعة لسلطان الربوبية الظاهر في الكون والنظرُ الى كماله سبحانه ومحاسنه باعجاب وتعظيم.

ثم استنباط العبرة والدروس من بدائع نقوش اسمائه الحسنى القدسية وإعلانها ونشرها واشاعتها.

ثم وزنُ جواهر الاسماء الربانية ودررها - كلُّ واحدٍ منها خزينة معنوية خفية - بميزان الإدراك والتبصّر وتقييمها بانوار التقدير والعظمة والرحمة النابعة من القلب.

ثم التفكر بإعجاب عند مطالعة أوراق الأرض والسماء وصحائف الموجودات التي هي بمثابة كتابات قلم القدرة.

ثم النظرُ باستحسان بالغ الى زينة الموجودات والصنائع الجميلة اللطيفة التي فيها والتحببُ لمعرفة الفاطر ذي الجمال والتلهّفُ الى الصعود الى مقام حضورٍ عند الصانع ذى الكمال ونيل التفاته الرباني.

الناحية الثانية هي:

مقامُ الحضور والخطاب الذي ينفذ من الأثر الى المؤثر، فيرى أن صانعاً جليلاً يريد تعريف نفسه اليه بمعجزات صنعته. فيقابله هو بالايمان والمعرفة.

ثم يرى أن ربّاً رحيماً يريد أن يحبب نفسه اليه بالأثمار الحلوة اللذيذة لرحمته، فيقابله هو بجعل نفسه محبوباً عنده بالمحبة الخالصة والتعبد الخالص لوجهه.

ثم يرى: أن مُنعماً كريماً يغرقه في لذائذ نِعَمِه المادية والمعنوية، فيقابله هو بفعله وحاله وقوله بكل حواسه وأجهزته - ان استطاع - بالشكر والحمد والثناء عليه.

ثم يرى: أن جليلاً جميلاً يُظهر في مرآة هذه الموجودات كبرياءَه وعظمتَه وكمالَه ويُبرز جلالَه وجمالَه فيها بحيث يجلب اليها الأنظار فيقابل هو ذلك كله: بترديد ((الله اكبر.. سبحان الله..)) ويسجد سجودَ مَن لا يمل بكل حيرة واعجاب وبمحبة ذائبة في الفناء.

ثم يرى: ان غنياً مطلقاً يعرض خزائنه وثروتَه الهائلة التي لا تنضب في سخاء مطلق، فيقابله هو بالسؤال والطلب بكمال الافتقار في تعظيم وثناء.

ثم يرى: ان ذلك الفاطرَ الجليل قد جعل الأرض معرضاً عجيباً لعرض جميع الصنائع الغريبة النادرة فيقابل هو ذلك بقوله (ما شاء الله) مستحسناً لها، وبقوله (بارك الله) مقدراً لها، وبقوله (سبحان الله) معجباً بها، وبقوله (الله اكبر) تعظيماً لخالقها.

ثم يرى: أن واحداً يختم على الموجودات كلها ختمَ التوحيد وسكّتَه التي لا تقلد وطغراءَه الخاصة به، وينقش عليها آيات التوحيد، وينصبُ رايةَ التوحيد في آفاق العالم معلناً ربوبيتَه، فيقابله هو بالتصديق والايمان والتوحيد والاذعان والشهادة والعبودية.

فالانسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح انساناً حقاً ويُظهر نفسه أنه في (أحسن تقويم) فيصير بيُمن الايمان وبركته لائقاً للأمانة الكبرى وخليفة أميناً على الأرض.

فيا أيها الانسان الغافلُ المخلوقُ في (أحسَن تقويم) والذي ينحدر أسفلَ سافلين لسوء اختياره ونزقه وطيشه. اسمعني جيداً وانظر الى اللوحتين المكتوبتين في المقام الثاني من (الكلمة السابعة عشرة) حتى ترى أنت ايضاً كيف كنتُ أرى الدنيا مثلَك حلوةً خضرة عندما كنتُ في غفلة الشباب وسُكره. ولكن لما أفقتُ من سكر الشباب وصحوتُ منه بصبحِ المشيب رأيت أن وجهَ الدنيا غير المتوجه الى الآخرة والذي كنتُ اعدُّه جميلاً رأيته وجهاً قبيحاً. وان وجه الدنيا المتوجه الى الآخرة حسن جميل.

فاللوحة الأولى:

تصوّر دنيا أهل الغفلة. فقد رأيتها من دون أن اسكر فيها شبيهة بدنيا اهل الضلالة الذين اَطبقت عليهم حجب الغفلة.



اللوحة الثانية:

تشير الى حقيقة أهل الهداية وذوى القلوب المطمئنة.

فلم ابدل شيئاً من تلكما اللوحتين بل تركتهما كما كانتا من قبل، وهما وان كانتا تشبهان الشعر الاّ انهما ليسا بشعر.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربّ اشرح لي صدري ^ ويسر لي امري ^

واحلل عقدةً من لساني ^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلِّ على الذات المحمدية اللطيفة الأحدية شمسِ سماء الأسرار، ومَظهرِ الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطبِ فلكِ الجمال.

اللّهم بسرّه لديك، وبسيره إليكِ، آمِنْ خوفي، واَقِل عَثرتي، واَذهِب حُزني وحرصي، وكُن لي، وخذني إليك مني، وارزقني الفناءَ عني، ولا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسي، واكشف لي عن كل سرّ مكتوم.

ياحي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم.

وارحمني وارحم رفقائي وارحم اهلَ الايمان والقرآن.

آمين آمين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #32
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الرابعة والعشرون

[ هذه الكلمة عبارة عن خمسة اغصان. لاحظ بامعان الغصن الرابع واستمسك بالغصن الخامس واصعد لتقطف ثماره ]

بسم الله الرحمن الرحيم

] الله لا إله الاهو له الاسماء الحسنى[ (طه:8)

نشير الى خمسة اغصان لحقيقة واحدة من الحقائق الكبرى الجليلة لهذه الآية الكريمة.

الغصن الأول

ان للسلطان عناوين مختلفة في دوائر حكومته، واوصافاً متباينة ضمن طبقات رعاياه، واسماءً وعلاماتٍ متنوعة في مراتب سلطنته. فمثلاً: له اسم الحاكم العادل في دوائر العدل، وعنوان السلطان في الدوائر المدنية، بينما له اسم القائد العام في الدوائر العسكرية وعنوان الخليفة في الدوائر الشرعية.. وهكذا له سائر الاسماء والعناوين.. فله في كل دائرة من دوائر دولته مقام وكرسي بمثابة عرش معنوي له؛ وعليه يمكن ان يكون ذلك السلطان الفرد مالكاً لألف اسم واسم في دوائر تلك السلطنة وفي مراتب طبقات الحكومة؛ اي يمكن ان يكون له الف عرش وعرش من العروش المتداخل بعضها في بعض حتى كأن ذلك الحاكم موجود وحاضر في كل دائرة من دوائر دولته.. ويعلم ما يجري فيها بشخصيته المعنوية، وهاتفه الخاص. ويُشاهد ويَشْهَد في كل طبقة من الطبقات بقانونه ونظامه وبممثليه.. ويراقب ويدير من وراء الحجاب كلَّ مرتبة من المراتب بحكمته وبعلمه وبقوته.. فلكل دائرة مركزٌ يخصّها وموقعٌ خاص بها، أحكامُه مختلفة، طبقاتُه متغايرة.

وهكذا فإن رب العالمين وهو سلطان الأزل والابد له ضمن مراتب ربوبيته شؤون وعناوين مختلفة، لكن يتناظر بعضها مـع بعـض.. وله ضمــن دوائــر الوهـيـتــه علامات واسماء متغايرة، لكن يُشاهد بعضها في بعضٍ.. وله ضمن اجراءاته العظيمة تجليات وجلوات متباينة، لكن يشابه بعضها بعضاً.. وله ضمن تصرفات قدرته عناوين متنوعة، لكن يُشعر بعضها ببعض.. وله ضمن تجليات صفاته مظاهر مقدسة متفاوتة، لكن يُظهر بعضُها بعضاً.. وله ضمن تجليات افعاله تصرفات متباينة، لكن تكمّل الواحدة الاخرى.. وله ضمن صنعته ومصنوعاته ربوبية مهيبة متغايرة لكن تلحظ احداها الاخرى.

ومع هذا يتجلى عنوان من عناوين اسمٍ من الاسماء الحسنى، في كل عالمٍ من عوالم الكون وفي كل طائفة من طوائفه. ويكون ذلك الاسم حاكماً مهيمناً في تلك الدائرة، وبقية الاسماء تابعة له هناك، بل مندرجة فيه.

ثم ان ذلك الاسم له تجلٍ خاص وربوبية خاصة في كل طبقات المخلوقات، صغيرة كانت أو كبيرة، قليلة كانت او كثيرة، خاصة كانت أو عامة. بمعنى أن ذلك الاسم وان كان محيطاً بكل شئ وعاماً، الاّ انه متوجه بقصدٍ وبأهمية بالغة الى شئٍ ما، حتى كأن ذلك الاسمَ متوجه فقط وبالذات الى ذلك الشئ، وكأنه خاص بذلك الشئ.

زد على ذلك فان الخالق الجليل قريب الى كل شئ مع ان له سبعين الف حجاب من الـحُجب النورانية. ويمكنك ان تقيس ذلك - مثلاً - من الـحُجب الموجودة في مراتب اسم الخالق، ابتداءً من تجلي اسم الخالق لك - تلك المرتبة الجزئية المتعلقة بالمخلوقية في اسم الخالق - وانتهاء الى المرتبة الكبرى لخالق العالمين جميعاً، ذلك العنوان الاعظم. بمعنى انك تستطيع ان تبلغ نهاية تجليات اسم الخالق وتدخل اليها من باب المخلوقية، بشرط ان تدع الكائنات وراءك، وعندئذٍ تتقرب الى دائرة الصفات.

ولوجود المنافذ في الحجب، والتناظر في الشؤون، والتعاكس في الاسماء، والتداخل في التمثّلات، والتمازج في العناوين، والتشابه في الظهور، والتساند في التصرفات، والتعاضد في الربوبيات، لزم البتة لمن عرفه سبحانه في واحد مما مر من الاسماء والعناوين والربوبية الاّ ينكر سائر الاسماء والعناوين والشؤون، بل يفهم بداهة انه هو هو. وإلاّ يتضرر إن ظل محجوباً عن تجليات الاسماء الاخرى ولم ينتقل من تجلي اسمٍ الى آخر.

فمثلاً: اذا رأى أثر اسمِ الخالق القدير، ولم ير اثر اسم العليم، يسقط في ضلالة الطبيعة، لذا عليه ان يجول بنظره فيما حوله ويرى أن الله هو هو، ويشاهد تجليه في كل شئ. وان تسمع اذنه من كل شئ: ] قل هو الله احد[ وينصت اليه. وان يردد لسانه دائماً: لا إله الاّ الله ويعلن (لآ اِلَه اِلاّ هُو بَرَابَرْ ميزَنَدْ عَالَمْ). وهكذا يشير القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة ] الله لا إله الاّ هو له الاسماء الحسنى[ الى الحقائق التي ذكرناها.

فان كنت تريد ان تشاهد تلك الحقائق الرفيعة عن قرب، فاذهب الى بحرٍ هائج، والى ارضٍ مهتزة بالزلازل، وأسألهما: ما تقولان؟ ستسمع حتماً انهما يناديان: يا جليل.. يا جليل.. يا عزيز.. يا جبار…

ثم اذهب الى الفراخ والصغار من الحيوانات، التي تعيش في البحر أو على الارض، والتي تُربى في منتهى الشفقة والرحمة، وأسألها: ما تقولين؟ لابد أنها تترنم: يا جميل .. يا جميل.. يا رحيم.. يا رحيم(1).

ثم انصت الى السماء كيف تنادي: يا جـليـل ذو الجمال! واعر سمعك الى الارض كــيــف تردد: يــا جمــيـل ذو الـجــلال. وتصــنّت للحـيوانات كيـف تقــول: يا رحمن يا رزاق. واسأل الربيع، فستسمع منـه: يا حـنان يا رحمـن يا رحـيم يا كريم يا لطيف يا عطوف يا مصوّر يا منوّر يـا محـسن يا مزيّن.. وامثالـها من الاسماء الكثيرة.

واسأل انساناً هو حقاً انسان وشاهد كيف يقرأ جميع الاسماء الحسنى، فهي مكتوبةٌ على جبهته، حتى اذا انعمت النظر ستقرؤها انت بنفسك.

وكأن الكون كله موسيقى متناغمة الالحان لذكر عظيم. فامتزاج اصغر نغمة واوطئها مع اعظم نغمة واعلاها ينتج لحناً لطيفاً مهيباً.. وقس على ذلك..

غير ان الانسان مهما كان مظهراً لجميع الاسماء الحسنى الاّ ان تنوع الاسماء الحسنى اصبح سبباً لتنوع الانسان - الى حدٍ ما - كما هو الحال في تنوع الكائنات واختلاف عبادة الملائكة، بل قد نشأت من هذا التنوع شرائع الانبياء المختلفة وطرائق الاولياء المتفاوتة ومشارب الاصفياء المتنوعة.

فمثلاً: ان الغالب في سيدنا عيسى عليه السلام هو تجلي اسم (القدير) مع الاسماء الاخرى، والمهيمن على أهل العشق هو اسم (الودود) والمستحوذ على اهل التفكر هو اسم (الحكيم).

فلو أن رجلاً كان عالماً وضابطاً وكاتبَ عدلٍ ومفتشاً في دوائر الدولة في الوقت نفسه، في كل دائرة من تلك الدوائر علاقةً وارتباطاً ووظيفةً وعملاً، وله ايضاً اجرة ومرتبٌ ومسؤولية فيها، وله كذلك مراتب رقي، فضلاً عن وجود الحسّاد والاعداء الذين يحاولون ان يعيقوا عمله.. فكما ان هذا الرجل وهذا شأنه، يظهر امام السلطان بعناوين كثيرة مختلفة جداً، ويرى السلطان من خلال تلك العناوين المتنوعة، ويسأله العون والمدد بألسنة كثيرة، ويراجعه بعناوين كثيرة ويستعيذ به في صور شتى كثيرة، خلاصاً من شر اعدائه. كذلك الانسان الذي حظي بتجليات اسماء كثيرة، وانيطت به وظائف كثيرة، وابتلي باعداء كثيرين، يذكر كثيراً من اسماء الله في مناجاته واستعاذته، كما أن مدار فخر الانسانية، وهو الانسان الكامل الحقيقي، محمد e يدعو الله ويستعيذ به من النار بألف اسم واسم في دعائه المسمى بالجوشن الكبير.

ومن هذا السر نجد القرآن يأمر بالاستعاذة بثلاثة عناوين، وذلك في سورة الناس ] قل اعوذ برب الناس ^ ملك الناس^ إله الناس^ من شر الوسواس الخناس...[

ويبين في ] بسم الله الرحمن الرحيم[ الاستعانة بثلاثة اسماء من اسمائه الحسنى.



الغصن الثاني

يبين سرين يتضمنان مفاتيح أسرار كثيرة

C السر الأول:

لِمَ يختلف الأولياء كثيراً في مشهوداتهم وكشفياتهم مع أنهم يتفقون في أصول الايمان، اذ تظهر احياناً كشوفهم التي هي في درجة الشهود مخالِفةً للواقع ومجانبة للحق؟

ولماذا يرى - ويبيّن - أصحاب الفكر وارباب النظر الحقيقةَ متناقضةً في أفكارهم رغم اثبات أحقيتها بالبرهان القاطع لدى كل واحد منهم؟ فِلمَ تتلون الحقيقة الواحدة بألوان شتى؟

C السر الثاني:

لماذا ترك الانبياء السابقون عليهم السلام قسماً من أركان الايمان، كالحشر الجسماني، على شئ من الاجمال، ولم يفصّلوه تفصيلاً كاملاً كما هو في القرآن الكريم. حتى ذهب - فيما بعد - قسمٌ من أممهم الى انكار تلك الاركان المجملة؟ ثم لماذا تقدم قسم من الاولياء العارفين الحقيقيين في التوحيد فحسب، حتى بلغوا درجة حق اليقين، مع ان قسماً من أركان الايمان يبدو مجملاً في مشاربهم أو يتراءى نادراً، بل لأجل هذا لم يول متبعوهم فيما بعد تلك الاركان الاهتمام اللازم، بل قد زاغ بعضهم وضل.

فما دام الكمال الحقيقي يُنال بانكشاف أركان الايمان كلها، فلماذا تقدم أهلُ الحقيقة في بعضها بينما تخلّفوا في بعضها الآخر. علما ان الرسول الكريم e وهو امام المرسلين الذي حظى بالمراتب العظمى للاسماء الحسنى كلها، وكذا القرآن الحكيم الذي هو امام جميع الكتب السماوية، قد فصّلا أركان الايمان كلها تفصيلاً واضحاً جلياً وباسلوب جاد ومقصود؟

الجواب: نعم! لأن الكمال الحقيقي الأتم هو هكذا في الحقيقة.

وحكمة هذه الأسرار هي على النحو الآتي:

ان الانسان على الرغم من ان له استعداداً لبلوغ الكمالات كلها ونيل أنوار الاسماء الحسنى جميعها فانه يتحرى الحقيقة من خلال ألوف الحجب والبرازخ، اذ اقتداره جزئي، واختياره جزئي، واستعداداته مختلفة ورغباته متفاوتة.

ولأجل هذا تتوسط الحجب والبرازخ لدى انكشاف الحقيقة، وفي شهود الحق، فبعضهم لا يستطيع المرور من البرزخ. وحيث ان القابليات متفاوتة، فقابلية بعضهم لا تكون منشأ لانكشاف بعض أركان الايمان.

ثم ان ألوان تجليات الاسماء تتنوع، حسب نيل المظاهر، وتصبح متغايرة، فلا يستطيع بعض من حظي بمظهر اسم من الاسماء ان يكون مداراً لتجليه تجلياً كاملاً، فضلاً عن ان تجلي الاسماء تتخذ صوراً مختلفة باعتبار الكلية والجزئية والظلية والأصلية. فيقصر بعض الاستعدادات عن اجتياز الجزئية والخروج من الظل. وقد يغلب اسم من الاسماء - حسب الاستعداد - فينفذُ حكمَُه وحدَه، ويكون مهيمناً في ذلك الاستعداد.

وهكذا، فهذا السر الغامض العميق وهذه الحكمة الواسعة، سنشير اليها ببضع اشارات ضمن تمثيل واسع تمازجه الحقيقة الى حد.

فلنفرض (زهرة) ذات نقوش، و (قطرة) ذات حياة عاشقة للقمر، و(رشحة) ذات صفاء متوجهة نحو الشمس، بحيث ان لكلٍ منها شعوراً، ولكلٍ منها كمالاً، وشوقاً نحو ذلك الكمال.

فهذه الأشياء الثلاثة تشير الىحقائق كثيرة، فضلاً عن اشاراتها الى سلوك النفس والعقل والروح، وهي أمثلة لثلاث طبقات لأهل الحقيقة(1):

أولاها:

أهل الفكر وأهل الولاية وأهل النبوة.. فهذه الأشياء تشير الى هؤلاء.

ثانيتها:

السالكون الى الحقيقة سعياً لبلوغ كمالهم بأجهزة جسمانية.. (أي عن طريق الحواس)

والماضون الى الحقيقة بالمجاهدة بتزكية النفس واعمال العقل..

والسائرون الى الحقيقة بتصفية القلب والايمان والتسليم.. فهذه الأشياء أمثلة لهؤلاء.



ثالثتها:

الذين حصروا السلوك الى الحقيقة باستدلالهم، ولم يدَعوا الانانية والغرور، وأوغلوا في الآثار.

والذين يتحرّون الحقيقة بالعلم والحكمة والمعرفة.

والذين يصلون الى الحقيقة سريعاً بالايمان والقرآن والفقر والعبودية.

فالاشياء الثلاثة تمثيلات تشير الى حكمة الاختلاف في الطوائف الثلاث المتفاوتة في الاستعدادات.

فالسر الدقيق والحكمة الواسعة التي يتضمنها رقي هذه الطبقات الثلاث، نحاول ان نبينها ضمن تمثيل وتحت عناوين "زهرة" و "قطرة" و "رشحة".

فمثلاً: للشمس - باذن خالقها وبأمره - أنواع ثلاثة مختلفة من التجلي والانعكاس والافاضة.

احدها: على الأزهار.

والآخر: على القمر والكواكب السيارة.

وآخر: على المواد اللماعة كالزجاج والماء.

فالأول: من هذا التجلي والافاضة والانعكاس على أوجه ثلاثة:

الاول: تجل كلي وانعكاس عمومي، وهو أفاضتها على جميع الازهار.

الثاني: تجلٍ خاصٍ، وهو انعكاس خاص حسب كل نوع.

الثالث: تجل جزئي، وهو افاضة حسب شخصية كل زهرة.

هذا وان مثالنا مبني على الرأي القائل بأن الالوان الزاهية للازهار انما تنشأ من انعكاس تحلل الالوان السبعة لضياء الشمس.

وبناء على هذا القول فالازهار ايضاً نوع من مرايا الشمس.

ثانيه: هو الفيض والنور الذي تعطيه الشمسُ القمرَ والكواكب السيارة، باذن الفاطر الحكيم. فالقمر يستفيد من النور الذي هو في حكم ظل لضياء الشمس استفادة كلية، بعد ان اُفيض عليه هذا الفيض الكلي والنور الواسع، وبعد ذلك يفيد القمر فيفيض بالنور بشكل خاص على البحار والهواء والتراب اللامع، ويفيض بصورة جزئية على حبابات الماء ودقائق التراب وذرات الهواء.

ثالثه: هو انعكاس للشمس - بأمر آلهي - انعكاساً صافياً كلياً بلا ظلٍ، بحيث يجعل كلاً من جو الهواء ووجه البحار مرايا.. ثم ان تلك الشمس تعطي صورتها الجزئية وتمثالها المصغر الى كل من حبابات البحار وقطرات الماء ورشحات الهواء وبلورات الثلج.

وهكذا فالشمس - في الجهات الثلاث المذكورة - لها افاضة وتوجّه الى كل زهرة، والى كل قطرة متوجهة للقمر، والى كل رشحة، بطريقين اثنين في كل منها:

الطريق الاول: افاضة مباشرة بالاصالة، من دون المرور في البرزخ، وبلا حجاب.. هذا الطريق يمثل طريق النبوة.

الطريق الثاني: تتوسط فيه البرازخ، اذ قابليات المرايا والمظاهر تعطي لوناً لتجليات الشمس.. هذا الطريق يمثل طريق الولاية.

وهكذا، (فالزهرة) و (القطرة) و (الرشحة) كل منها تستطيع ان تقول في الطريق الاول: (انا مرآة شمس العالم أجمع) ولكنها لا تتمكن ان تقولها في الطريق الثاني، بل تقول: (انني مرآة شمسي) أو (انني مرآة للشمس المتجلية على نوعي) لأنها تعرف الشمس هكذا، اذ لا تستطيع ان ترى الشمس المتوجهة الى العالم كله؛ لأن شمس ذلك الشخص، او نوعه، او جنسه، تظهر له ضمن برزخ ضيق وتحت قيد محدود. فـلا يستطـيـع ان يمـنـح تلـك الشمس المقيدة آثار الشـمس المطلـقة بـلا قيد ولا برزخ. اي لا يستطيع ان يمنح بشهود قلبي دفء وجه الارض قاطبة وتنويره وتحريك حياة الحيوانات والنباتات جميـعـها وجـعـل السـيـارات تجـري حـولها..

وامثالها من الآثار الجليلة المهيبة، لا يستطيع منح تلك الشمس الآثار التي شاهدها ضمن ذلك القيد الضيق والبرزخ المحدود.

وحتى لو منحت الاشياءُ الثلاثة - التي فرضناها ذات شعور - الشمسَ تلك الآثار العجيبة التي تشاهدها تحت ذلك القيد، فانها يمكنها ان تمنحها بوجهٍ عقلي وايماني بحت، وبتسليم تام من ان تلك المقيدة هي المطلقة ذاتها.

فتلك (الزهرة والقطرة والرشحة) التي فرضناها شبيهة بالانسان العاقل، اسنادُها هذه الاحكام - اي الآثار العظيمة - الى شموسها اسنادٌ عقلي لا شهودي.. بل قد تتصادم احكامُها الايمانية مع مشهوداتها الكونية، فتصدّق بصعوبة بالغة. وهكذا فعلينا نحن الثلاثة الدخول الى هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة، والذي يضيق بها ولا يسعها، وتشاهَد في بعض جوانبه اعضاء الحقيقة.

سنفرض انفسنا نحن الثلاثة (الزهرة) و (القطرة) و (الرشحة). اذ لا يكفي ما افترضناه من شعور فيها، فنلحق بها عقولَنا ايضاً. اي ان ندرك ان تلك الثلاثة مثلما تستفيض من شمسها المادية، فنحن كذلك نستفيض من شمسنا المعنوية.

فأنت ايها الصديق الذي لا ينسى الدنيا ويوغل في الماديات وقد غلظتْ نفسُه وتكاثفت! كن (الزهرة). لأن استعدادك شبيه بها، اذ ان تلك الزهرة تأخذ لونا قد تحلل من ضياء الشمس وتمزج مثال الشمس من ذلك اللون، وتتلون به في صورة زاهية.

اما هذا الفيلسوف الذي درس في المدارس الحديثة، والمعتقد بالأسباب، والذي يشبهه (سعيد القديم)، فليكن (القطرة) العاشقة للقمر، الذي يمنحها ظل الضياء المستفاد من الشمس فيعطي عينَها نوراً فتتلألأ به... ولكن (القطرة) لا ترى بذلك النور الا القمر، ولا تستطيع ان ترى به الشمس، بل يمكنها رؤية الشمس بإيمانها.

ثم ان هذا الفقير الذي يعتقد أن كل شئ منه تعالى مباشرة، ويعدّ الاسباب حجابا، ليكن هو (الرشحة)، فهي رشحة فقيرة في ذاتها، لا شئ لها كي تستند اليه وتعتمد عليه كالزهرة وليس لها لون كي تشاهد به، ولا تعرف اشياء اخرى كي تتوجه اليها. فلها صفاء خالص يخبئ مثال الشمس في بؤبؤ عينها.

والآن، ما دمنا قد حللنا مواضع هذه الثلاثة، علينا ان ننظر الى انفسنا، لنرى ماذا بنا؟ وماذا نعمل؟

فها نحن ننظر، واذا بالكريم يُسبغ علينا نِعَمه واحسانَه، فينورنا ويربينا ويجمّلنا. والانسان عبد الاحسان، ويسأل القرب ممن يستحق العبادة والمحبة، ويطلب رؤيته، لذا فكل منا يسلك حسب استعداده بجاذبة تلك المحبة.

فيا من يشبه (الزهرة) انت تمضي في سلوكك، ولكن امض وانت زهرة.. وها قد مضيت، وقد ترقيت تدريجياً حتى بلغتَ مرتبةً كلية، كأنك اصبحت بمثابة كل الازهار. بينما الزهرة مرآة كثيفة، فألوان الضياء السبعة تنكسر وتتحلل فيها، فتخفي صورة الشمس المنعكسة فلن توفّق الى رؤية وجه محبوبك الشمس، لأن الألوان المقيدة، والخصائص، تشتت ضوء الشمس وتسدل الحجاب دونه، فيحجب ما وراءه. فانت في هذه الحالة لن تنجو من الفراقات الناشئة من توسط الصور والبرازخ. ولكن النجاة بشرط واحد هو:

ان ترفع رأسك السارح في محبة نفسك، وتكفّ نظرك المستمتع بمحاسن نفسك والمغتر بها، وتحدقه في وجه الشمس التي هي في كبد السماء. ثم تحوّل وجهك المنكب الى التراب - يسأل الرزق - الى الشمس في علاها، ذلك لأنك مرآة لتلك الشمس، ووظيفتك مرآتية واظهار لتجليها. أما رزقك فسيأتيك من باب خزينة الرحمة، التراب، سواء أعلمت أم لم تعلم.

نعم، كما ان الزهرة مرآة صغيرة للشمس، فان هذه الشمس الضخمة ايضاً هي مرآة كقطرة في بحر السماء تعكس لمعة متجلية من اسم الله (النور). فأدرك يا قلب الانسان من هذا ما اعظم الشمس التي أنت مرآتها!

فبعدما انجزت هذا الشرط تجد كمالك، ولكن لن ترى الشمس بذاتها وفي نفس الأمر بل لا تدرك تلك الحقيقة مجرّدة، اذ ألوان صفاتك تعطيها لوناً، ومنظارك الكثيف يلبسها صورة، وقابليتك المقيدة يحددها تحت قيد.

والآن ايها الفيلسوف الحكيم الداخل في (القطرة)! انك بمنظار قطرة فكرِك وسلّم الفلسفة رقيتَ وصعدت حتى بلغت القمر. ودخلت القمر. انظر! القمر في ذاته كثيف مظلم، لا ضياء له ولا حياة. فقد ذهب سعيُك هباءً وعلمك بلا جدوى ولا نفع. فانك تقدر أن تنجو من ظلمات اليأس ووحشة الغربة وازعاجات الارواح الخبيثة بهذه الشروط، وهي:

ان تركتَ ليل الطبيعة وتوجّهت الى شمس الحقيقة، اعتقدت يقينا ان انوار الليل هذا هي ظلال ضياء شمس النهار. فان وفيت بهذا الشرط تجد كمالك، فتجد الشمس المهيبة بديل قمر فقير معتم. ولكنك ايضاً مثل صديقك الآخر لن ترى الشمس صافية، وانما تراها وراء ستائر آنسها عقلُك وألفَتْها فلسفَتُك، تراها خلف ما نسجها علمُك وحكمتُك من حُجب، تراها في صبغة اعطَتْها اياها قابليتُك.

وهذا صديقكم الثالث الشبيه بـ (الرشحة) فقير، عديم اللون، يتبخر بسرعة بحرارة الشمس، يدع انانيَته ويمتطي البخارَ فيصعد الى الجو، يلتهب ما فيه من مادة كثيفة بنار العشق، ينقلب بالضياء نوراً، يمسك بشعاع صادر من تجليات ذلك الضياء ويقترب منه.

فيا مثال الرشحة! ما دمت تؤدي وظيفة المرآة للشمس مباشرة، فكن اينما شئت من المراتب، فيمكنك ان تجد نافذة نظارة صافية تطل منها الى عين الشمس بعين اليقين، فلا تعاني صعوبة في اسناد الآثار العجيبة للشمس اليها، اذ تستطيع ان تسند اليها اوصافها المهيبة بلا تردد، فلا يمكن ان يمسك يَدك ويكفّك شئٌ قطعاً عن اسناد الآثار المذهلة لسلطنتها الذاتية اليها. فلا يحيرك ضيق البرازخ ولا قيد القابليات ولا صغر المرايا، ولا يسوقك الى خلاف الحقيقة شئ من ذلك لأنك صاف وخالص تنظر اليها مباشرة، ولذلك فقد أدركت أن ما يشاهَد في المظاهر ويُرى في المرايا ليس شمساً، وانما نوع من تجلياتها وضرب من انعكاساتها المتلونة. وان تلك الانعكاسات انما هي دلائل وعناوين لها فحسب، ولكن لا يمكنها ان تُظهر آثار هيبتها جميعاً.

ففي هذا التمثيل الممتزج بالحقيقة يُسلَك الى الكمال بطرق ثلاثة مختلفة متنوعة، فهم يتباينون في مزايا تلك الكمالات وفي تفاصيل مرتبة الشهود، الا انهم يتفقون في النتيجة، وفي الاذعان للحق، وفي التصديق بالحقيقة.

هذا فكما ان انساناً ليلياً لم يشاهد الشمس اصلاً، وانما يرى ظلالها في مرآة القمر، لا يمكنه ان يمكّن في عقله ويستوعب هيبة الضياء الخاص بالشمس وجاذبتها العظيمة وانما يقلد مَن رآها ويستسلم لهم. كذلك مَن لم يبلغ بالوراثة النبوية المرتبة العظمى لأسمي (القدير) و (المحيي) وامثالها من الاسماء يرى الحشر الاعظم والقيامة الكبرى ويقبلها تقليداً، قائلاً: انها ليست مسألة عقلية. لأن حقيقة الحشر والقيامة مظاهر لتجلي الاسم الاعظم والمراتب العظمى لقسم من الاسماء. فمن لم يرقَ نظره الى تلك المرتبة يضطر الى التقليد. بينما مَن نفذ فكرُه الى هناك يرى الحشر والقيامة سهلة كسهولة تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف، فيرضى بها مطمئن القلب.

وهكذا فمن هذا السر يذكر القرآنُ الكريم الحشرَ والقيامة في اعظم مرتبة وفي اكمل تفصيل وهكذا يرشد اليهما الرسول الاعظم e الذي حظي بأنوار الاسم الاعظم.

أما الانبياء السابقون عليهم السلام فلم يبينوا الحشر في أعظم درجة واوسع تفصيل بل بشئ من الاجمال، وذلك بمقتضى حكمة الارشاد حيث كانت أممهم على احوال ابتدائية بسيطة.

ومن هذا السر ايضاً لم ير قسمٌ من الاولياء بعض اركان الايمان في مرتبته العظمى أو عجزوا عن ان يبينوه هكذا.

ومن هذا السر ايضاً تتفاوت كثيراً درجات العارفين في معرفة الله.

وهكذا تنكشف من هذه الحقيقة اسرار كثيرة امثال هذه.

والآن نكتفي بالتمثيل، لأنه يُشعر الى حدٍ ما بالحقيقة، اذ الحقيقة واسعة جداً وعميقة جداً،ولا نتدخل بما هو فوق حدنا من اسرار وبما لا طاقة لنا به.



الغصن الثالث

نظراً لشئ من الغموض الذي يكتنف فهمَ قسمٍ من الاحاديث الشريفة التي تبحث في (علامات الساعة واحداثها) وفي (فضائل الاعمال وثوابها) فقد ضعفها عددٌ من أهل العلم المعتدّين بعقولهم، ووضعوا بعضها في عداد (الموضوعات) وتطرّف آخرون من ضعاف الايمان المغرورين بعقولهم فذهبوا الى انكارها.

ونحن هنا لا نريد أن نناقشهم تفصيلاً، بل ننبه الى (اثني عشر) اصلاً من الاصول والقواعد العامة التي يمكن الاستهداء بها في فهم هذه الاحاديث الشريفة موضوعة البحث.

C الاصل الاول

وهو المسألة التي بيناها في الجواب عن السؤال الوارد في نهاية (الكلمة العشرين) ومجملها:

ان الدين امتحان واختبار، يميز الارواح العالية من الارواح السافلة، لذا يبحث في الحوادث التي سيشهدها الناس في المستقبل بصيغة ليست مجهولة ومبهمة الى حد استعصاء فهمها، وليست واضحة وضوح البداهة التي لا مناص من تصديقها. بل يعرضها عرضاً منفتحاًً على العقول، لا يعجزها، ولا يسلب منها القدرة على الاختيار.

فلو ظهرت علامة من علامات الساعة بوضوح كوضوح البديهيات، واضطر الناس الى التصديق، لتساوى عندئذ استعداد فطري كالفحم في خساسته مع استعداد فطري آخر كالألماس في نفاسته، ولضاع سر التكليف وضاعت نتيجة الامتحان سدى.

فلأجل هذا ظهرت اختلافات كثيرة في مسائل عديدة، كمسائل المهدي(1) والسفياني(2) وصدرت احكام متضاربة لكثرة الاختلاف في الروايات.

C الاصل الثاني:

للمسائل الاسلامية طبقات ومراتب، فبينما تحتاج احداها الى برهان قطعي - كما في مسائل العقائد - تكتفي الاخرى بغلبة الظن، واخرى الى مجرد التسليم والقبول وعدم الرفض.

لهذا لا يُطلب برهانٌ قطعي واذعان يقيني في كل مسألة من مسائل الفروع أو الاحداث الزمانية التي هي ليست من اسس الايمان، بل يكتفى بالتسليم وعدم الرفض.

C الاصل الثالث

لقد أسلم كثير من علماء بني اسرائيل والنصارى في عهد الصحابة الكرام y ، وحملوا معهم الى الاسلام معلوماتهم السابقة، فأُخذ وهماً غيرُ قليلٍ من تلك المعلومات السابقة المخالفة لواقع الحال كأنها من العلوم الاسلامية.

C الاصل الرابع

لقد اُدرج شئ من اقوال الرواة، أو المعاني التي استنبطوها ضمن متن الحديث، فاُخذت على علاّتها. ولما كان الانسان لا يسلم من خطأ، ظهر شئ من تلك الاقوال والاستنباطات مخالفاً للواقع، مما سبب ضعفَ الحديث.

C الاصل الخامس

اُعتبر بعض المعاني الملهَمة للاولياء واهل الكشف من المحدّثين على أنها احاديث، بناء على أن في الأمة محدَّثين (1)، اي: ملهمين. ومن المعلوم ان إلهام الاولياء قد يكون خاطئاً لبعض العوارض، فيمكن أن يظهر ما يخالف الحقيقة في امثال هذا النوع من الروايات.

C الاصل السادس

يشتهر بعض الحكايات بين الناس، فتجري تلك الحكاية مجرى الامثال، والامثال لا يُنظر الى معناها الحقيقي، وانما يُنظر الى الهدف الذي يساق اليه المَثَل، لهذا كان في بعض الاحاديث ذكر بعض ما تعارف عليه الناس من قصص وحكايات كناية وتمثيلاً على سبيل التوجيه والارشاد.

فان كان هناك نقص وقصور في المعنى الحقيقي في مثل هذه المسائل فهو يعود الى اعراف الناس وعاداتهم ويرجع الى ما تسامعوه وتعارفوا عليه من حكايات.

C الاصل السابع

هناك كثير من التشبيهات والتمثيلات البلاغية تؤخذ كحقائق مادية، إما بمرور الزمن او بانتقالها من يد العلم الى يد الجهل، فيقع الناس في الخطأ من حسبان تلك التشبيهات حقائقَ مادية.

فمثلاً: ان المَلَكين المسميين بالثور والحوت، والمتمثلين على صورتيهما في عالم المثال، وهما من ملائكة الله المشرفة على الحيوانات البرية والبحرية، قد تحولا الى ثور ضخم وحوت مجسم في ظن الناس وتصورهم الخاطىء، مما ادى الى الاعتراض على الحديث.

ومثلاًَ: سُمع صوت في مجلس الرسول e ، فقال: هذا صوتُ حجرٍ يهوي في جهنم منذ سبعين خريفاً فالآن حين انتهى الى قعرها(1) فالذي يسمع بهذا الحديث ولم تتبين له الحقيقة ينكره، فيزيغ، ولكن اذا علم ما هو ثابت قطعاً، انه بعد فترة وجيزة جاء أحدهم فاخبر النبي e ان المنافق الفلاني المشهور قد مات قبل هنيهة، عندئذ يتيقن ان الرسول e قد صور ببلاغته النبوية الفائقة ذلك المنافق الذي دخل السبعين من عمره كحجرٍ يتدحرج الى قعر جهنم، حيث ان حياته كلها سقوط الى الكفر وتردٍّ الى اسفل سافلين، وقد أسمع الله سبحانه ذلك الصوت في لحظة موت ذلك المنافق وجعله علامة عليه.

C الاصل الثامن

يخفي الحكيم العليم في دار الامتحان وميدان الابتلاء هذا، اموراً مهمة جداً بين ثنايا كثرة من الامور. وترتبط بهذا الاخفاء حكم كثيرة ومصالح شتى.

فمثلاً: قد أخفى سبحانه وتعالى (ليلة القدر) في شهر رمضان، و (ساعة الاجابة) في يوم الجمعة، و(أولياءه الصالحين) بين مجاميع البشر، و(الأجل) في العمر، و(قيام الساعة) في عمر الدنيا.. وهكذا.

فلو كان أجَلُ الانسان معيناً ومعلوماً وقته، لقضى هذا الانسان المسكين نصف عمره في غفلة تامة، ونصفه الآخر مرعوباً مدهوشاً كمن يُساق خطوة خطوة نحو حبل المشنقة. بينما تقتضي المحافظة على التوزان المطلوب بين الدنيا والآخرة ومصلحة بقاء الانسان معلقاً قلبُه بين الرجاء والخوف، أن تكون في كل دقيقة تمر بالانسان امكان حدوث الموت او استمرار الحياة.. وعلى هذا يرجح عشرون سنة من عمر مجهول الاجل على ألف سنة من عمر معلوم الاجل.

وهكذا فقيام الساعة، هو أجَلُ هذه الدنيا، التي هي كانسان كبير، فلو كان وقته معيناً ومعلناً لمضت القرون الاولى والوسطى سادرة في نوم الغفلة، بينما تظل القرون الاخيرة في رعب ودهشة؛ ذلك لان الانسان وطيد العلاقة بحياة مسكنه الاكبر وبلده الاعظم - الدنيا - بحكم حياته الاجتماعية والانسانية مثلما يرتبط بمسكنه وبلده بحكم حياته اليومية والشخصية.

نفهم من هذا أن القرب المذكور في الآية الكريمة] اقتربت الساعة[ لا يناقضه مرور ألف سنة ونيف، اذ الساعة اجل الدنيا. وما نسبة ألف سنة أو ألفين من السنين الى عمر الدنيا الاّ كنسبة يومٍ أو يومين أو دقيقة ودقيقتين الى سني العمر.

وكذلك ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن يوم القيامة ليس أجل الانسانية فحسب حتى يقاس قربه وبعده بمقياس عمرها، بل هو أجل الكائنات والسماوات والارض ذات الاعمار المهولة التي تندّ عن القياس والحساب.

ولأجل هذا فقد أخفى الحكيم العليم موعدَ قيام الساعة في علمه بين المغيّبات الخمسة، وكان من حكمة الاخفاء هذا أن يخشى الناسُ في جميع العصور قيام الساعة، حتى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا أشدّ خشية من قيامها في زمنهم من غيرهم، مع أنهم كانوا يعيشون في خير القرون، وهو قرن السعادة وانجلاء الحقائق، بل قال بعضهم ان أشراط الساعة وعلاماتها قد تحققت. فالذين يجهلون حكمة الاخفاء وحقيقته في الوقت الحاضر يقولون ظلماً: كيف ظن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قرب وقوع حقيقة مهمة وخطيرة ستأتي بعد ألف وأربعمائة سنة، ظنوها قريبة في عصرهم، علماً بأنهم كانوا أقدر المسلمين وأفضلهم في ادراك معاني الآخرة، وأحدّ المؤمنين بصيرة وأرهفهم حساً بارهاصات ما سيأتي به الزمن؟ لكأن فكرهم قد حاد عن الحقيقة الف سنة!

الجواب: لأن الصحابة الكرام - رضى الله عنهم أجمعين - كانوا اكثر الناس تفكراً بالآخرة، وأرسخهم يقيناً بفناء الدنيا، وأوسعهم فقهاً بحكمة اخفاء الله سبحانه لوقت القيامة، وذلك بفضل نور الصحبة النبوية وفيضها عليهم، لذا كانوا منتظرين أجَل الدنيا، متهيئين لموتها كمن ينتظر أجله الشخصى، فسعوا لآخرتهم سعياً حثيثاً.

ثم ان تكرار الرسول e (... فانتظروا الساعة) نابع من هذه الحكمة حكمة الاخفاء والابهام وفيه ارشاد نبوي بليغ، وليس تعييناً لموعد الساعة بالوحي، حتى يُظن بُعده عن الحقيقة، اذ الحكمة شئ يختلف عن العلة.

وهكذا فالاحاديث الشريفة التي هي من هذا القبيل نابعة من حكمة الاخفاء والابهام.

وبناء على هذه الحكمة نفسها، فقد انتظر الناس منذ زمن مديد، بل منذ زمن التابعين ظهور المهدي والدجال السفياني، على أمل اللحاق بهم، حتى قال قسم من الاولياء الصالحين بفوات وقتهم!

فالحكمة في عدم تعيين اوقات ظهورهم هي الحكمة نفسها في عدم تعيين يوم القيامة. وتتلخص بما يأتي:

ان كل وقت وكل عصر بحاجة الى (معنى) المهدي الذي يكون أساساً للقوة المعنوية، وخلاصاً من اليأس. فيلزم ان يكون لكل عصر نصيب من هذا المعنى. وكذلك يجب ان يكون الناس في كل عصر متيقظين وحذرين من شخصيات شريرة تكون على رأس النفاق وتقود تياراً عظيماً من الشر، وذلك لئلا يرتخي عنانُ النفس بالتسيّب وعدم المبالاة.

فلو كانت اوقات ظهور المهدي والدجال وامثالهما من الاشخاص معينةً لضاعت مصلحة الارشاد والتوجيه.

اما سر الاختلاف في الروايات الواردة في حقهما فهو:

ان الذين فسروا تلك الاحاديث الشريفة قد ادمجوا استنباطاتهم واجتهاداتهم الشخصية مع متن الحديث. كتفسيرهم ان وقائع المهدي واحداث الدجال تقع حول الشام والبصرة والكوفة حسب تصورهم؛ اذ كانت تلك المدن تقع حول مركز الخلافة يومئذ في المدينة المنورة والشام.

أو أنهم فسروا تلك الاحاديث بأن الآثار العظيمة التي تمثّل الشخصية المعنوية لاولئك الاشخاص أو تقوم بها جماعاتُهم، تصوّروها ناشئةً من شخصيتهم الذاتية الفردية، مما ادى الى ان يُفهم ان هؤلاء الاشخاص سيظهرون ظهوراً خارقاً للعادة، فيعرفهم جميع الناس، والحال - كما قلنا - ان الدنيا ميدان اختبار وامتحان، وان الله تعالى عندما يختبر الانسان لا يسلب منه الاختيار بل يفتح الباب امام عقله؛ لذا فهؤلاء الاشخاص - اي الدجال والمهدي - لا يُعرفون من قبل كثير من الناس عند ظهورهم، بل لا يَعرف ذلك الدجال الرهيب نفسه انه دجال بادئ الامر، وانما يعرفهم مَن ينظر اليهم بنور الايمان النافذ الى الاعماق.

والدجال الذي هو من علامات الساعة قال عنه الرسول e أن يوماً من ايامه كسنة ويوماً كشهر ويوماً كجمعة وسائر أيامه كأيامكم(1). وان الدنيا تسمع صوته، ويسيح الارض في اربعين يوماً.

فالذين لم ينصفوا قالوا: هذه الرواية ضرب من المحالات، وانكروها. حاشَ لله، بل ان حقيقتها - والعلم عند الله - هي الآتي:

ان في الحديث الشريف اشارة الى ظهور شخص من جهة الشمال - الذي هو اكثف منطقة لعالم الكفر - يقود تياراً عظيماً يتمخض من المادية الجاحدة، ويدعو الى الالحاد وانكار الخالق. فمعنى الحديث فيه اشارة الى ظهور هذا الشخص من شمال العالم. وتتضمن هذه الاشارة رمزاً حكيماً وهو:

ان الدائرة القريبة للقطب الشمالي تكون السنة فيها يوماً وليلة، حيث أن ستة أشهر منها ليل والستة الاخرى نهار. اي يوم الدجال هذا سنة واحدة كما ورد (يوم كسنة). فهذه اشارة الى ظهوره قريباً من تلك الدائرة. أما المراد بـ (يوم كشهر) فهو انه كلما تقدمنا من الشمال نحو مناطقنا يكون النهار احياناً شهراً كاملاً حيث لا تغرب الشمس شهراً في الصيف. وهذه اشارة ايضاً الى تجاوز الدجال الى عالم الحضارة بعد ظهوره في الشمال. وهذه الاشارة آتية من اسناد اليوم الى الدجال.. وهكذا كلما اقتربنا نزولاً من الشمال الى الجنـوب نرى الـشمــس لا تغرب اســبوعاً، الى ان يكون الفرق في الشروق والغروب ثلاث ساعات، اي كأيامنا الاعتيادية. وقد كنتُ في مكان كهذا عندما كنت اسيراً في روسيا، فكانت الشمس لا تغرب اسبوعاً في مكان قريب منا، حتى كان الناس يخرجون لمشاهدة المنظر الغريب للغروب.

اما بلوغ صوت الدجال الى انحاء العالم، وانه يطوف الارض في اربعين يوماً، فقد حلّتهما اجهزة الراديو والمخابرة ووسائل النقل الحاضرة من قطارات وطائرات. فالذين انكروا هاتين الحالتين من الملحدين بالامس وعدّوهما من المحالات يرونهما اليوم من الامور العادية.

أما يأجوج ومأجوج والسد اللذان هما من علامات الساعة، فقد كتبتُ عنهما بشئ من التفصيل في رسالة اخرى، احيل اليها، اما هنا فأقول:

انه مثلما دمرت قبيلتا المانجور والمغول بالامس المجتمعات البشرية وكانوا السبب في بناء سد الصين، فهناك روايات تشير الى انه مع قرب قيام الساعة ستسقط الحضارة الجديدة ايضاً وتنهار تحت ضربات اقدام افكارهم الارهابية والفوضوية المرعبة.

وهنا يتساءل عدد من الملاحدة:

اين هذه الطائفة من البشر، والتي قامت وستقوم بمثل هذه الافعال؟

الجواب: كما ان الجراد آفة زراعية تكتسح منطقة معينة في موسم معين، ثم تختفي تبعاً لتبدل الموسم. فإن خواص تلك الاجناس التي ابادت تلك المنطقة مخبوءة في حنايا بعض افراد محدودين منها، فتظهر تلك الآفة نفسها - بأمر إلهي - في موسم معين، وبكثرة ساحقة، اي ان حقيقة اجناسها تنزوي ولا تضمحل، لتظهر من جديد في موسم معين.

فكما ان الامر هكذا في الجراد، فان الاقوام الذين اشاعوا الفساد في العالم في وقت ما، سيظهرون عند موعد محدد لهم لإهلاك البشرية بأمر إلهي وبمشيئته سبحانه، فيدمرون الحضارة البشرية مرة اخرى، ولكن اثارتهم وتحريكهم سيكون بنمط آخر. ولا يعلم الغيب الا الله.

C الاصل التاسع

ان حصيلة قسم من المسائل الايمانية متوجهة الى امور تتعلق بهذا العالم الضيق المقيد، والقسم الآخر منها يرنو الى العالم الاخروى الواسع الطليق.

وحيث ان قسماً من الاحاديث النبوية الواردة في فضائل الاعمال قد عبّر عنها الرسول الكريم e باسلوب بلاغى يناسب الترغيب والترهيب، فقد ظن مَن لا ينعم النظر ان تلك الاحاديث الشريفة تحمل مبالغة!. كلا، انها جميعاً لعين الحق ومحض الحقيقة وليست فيها مبالغة قط.

مثال: ان الذي يخرش اذهان المتعسفين ويثيرها هو الحديث الآتي:

(لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناح بعوضةٍ ما شَرب الكافرُ منها جُرعة ماء)(1). او كما قال. وحقيقته هي:

ان كلمة (عند الله) تعبّر عن العالم الباقي، فالنور المنبثق من عالم البقاء، ولو بمقدار جناح بعوضة هو أوسع وأعم، لانه ابدي، من نور موقت ولو كان يملأ الارض. اي ان الحديث لا يعقد موازنة بين جناح البعوض والعالم الكبير، وانما الموازنة هي بين دنيا كل فرد - محصورة في عمره القصير - وبين النور الدائم المشع، ولو بمقدار جناح بعوضة من الفيض الإلهي واحسانه العميم.

ثم ان الدنيا لها وجهان، بل ثلاثة اوجه:

الاول: وجه كالمرآة تعكس تجليات الاسماء الحسنى.

والثاني: وجه ينظر الى الآخرة، اي ان الدنيا مزرعة الآخرة.

اما الثالث: فهو الوجه الذي ينظر الى العدم والفناء، فهذا الوجه الاخير هو الدنيا غير المرضية عند الله، وهي المعروفة بدنيا اهل الضلالة.

اذن فالدنيا المذكورة في الحديث الشريف ليست بالدنيا العظيمة التي هي كمرايا للاسماء الحسنى ورسائل صمدانية، ولا هي بالدنيـا التي هـي مزرعـة للآخـرة، وانما هي الدنيا التي هي نقيض الآخرة ومنشأ جميع الخطايا والذنوب ومنبع كل البلايا والمصائب، هي دنيا عبدة الدنيا التي لا تعدِل ذرة واحدة من عالم الآخرة السرمدي الممنوح لعباد الله المؤمنين.فاين هذه الحقيقة الصادقة الصائبة من فهم اهل الالحاد الظالمين لما ظنوه مبالغة؟!

ومثال آخر: هو ما ذهب الملحدون وتمادوا فيه بتعسفهم حين ظنوا أن ما ورد من الاحاديث الشريفة حول ثواب الاعمال وفضائل بعض السور في القرآن الكريم مبالغة غير معقولة، بل حتى قالوا انها محالة!

فقد ورد - مثلاً - ان سـورة ((الفاتحة)) لها ثـواب الـقـرآن(1)، وسورة ((الاخـلاص)) تعدل ثلث الـقرآن(2)، وسورة ((الزلـزال)) ربـع القرآن(3)، وسورة ((الكافرون)) ربع القرآن(4) وسورة ((يس)) لها ثواب عشرة امثال القرآن(5).

فالذين لا ينعمون النظر وليس لهم انصاف وتروٍّ يدّعون استحالة هذه الروايات! اذ يقولون: كيف تكون لسورة ((يس)) هذه الفضيلة وهي سورة من القرآن الكريم وهناك سور اخرى فاضلة؟!

ان حقيقة هذه الروايات هي:

ان لكل حرف من حروف القرآن الكريم ثواباً، وهو حسنة واحدة، ولكن بفضل الله وكرمه يتضاعف ثواب هذه الحروف ويثمر حيناً عشر حسنات، واحياناً سبعين، واخرى سبعمائة (كما في حروف آية الكرسي) ورابعة: الفاً وخمسمائة (كما في حروف سورة الاخلاص) وخامسة: عشرة آلاف حسنة (كقراءة الآيات في الاوقات الفاضلة وليلة النصف من شعبان) وسادسة: ثلاثين الفاً من الحسنات (كما في قراءة الآيات في ليلة القدر) فتتضاعف هذه الحسنات كما تتكاثر بذور الخشخاش. ويمكن فهم تضاعف الثواب الى ثلاثين الفاً من الآية الكريمة ] خير من الف شهر[ (القدر:3).

وهكذا فلا يمكن مقايسة ولا موازنة القرآن الكريم مع وجود هذا التضاعف العددي التصاعدي للثواب المذكور، وانما يمكن ذلك مع اصل الثواب لبعض السور.

ولنوضح ذلك بمثال:

لنفرض ان مزرعة زرعت فيها الف حبة من الذرة، فلو انبتت بعض حباتها سبع سنابل (عرانيس) في كل سنبلة مائة حبة، فان حبة واحدة من الذرة تعدل عندئذ ثلثي ما في المزرعة.

ولو فرضنا - مثلاً - ان حبة اخرى انبتت عشر سنابل (عرانيس) في كل سنبلة منها مائة حبة، فان حبة واحدة عند ذلك تساوي ضعف الحبوب المزروعة أصلاً.. وهكذا قس في ضوء هذا المثال.

فالآن نتصور القرآن الكريم مزرعة سماوية نورانية مقدسة، كل حرف فيه مع ثوابه الاصلي بمثابة حبة واحدة - بغض النظر عن سنابلها - فاذا ما طبقتَ هذا على المثال السابق يمكنك معرفة فضائل السور التي وردت بحقها الاحاديث الشريفة، بمقارنتها بأصل حروف القرآن.

مثال ذلك: ان حروف القرآن الكريم ثلاثمائة الف وستمائة وعشرون حرفاً، وحروف سورة الاخلاص مع البسملة تسع وستين حرفاً، فثلاثة اضعاف تسع وستون تساوي مائتين وسبعة حروف. اي ان حسنات كــل حـرف من حروف سورة الاخلاص تقارب ألفاً وخمـسمـائـة حسنة وكذلك اذا حـسبـــت حــروف سورة ((يس)) واخذت النسبة بينها وبين مجموع حروف القـرآن، واخذنا التضاعف الى عشرة امثالها بنظر الاعتــبار، نجـد ان لكـل حـرف فيها ما يقـارب من خمسـمائة حسنة.

فاذا قست على هذا المنوال بقية ما ورد في فضائل السور في الاحاديث فستدرك مدى كونها حقيقة صائبة لطيفة، ومدى بُعدها عن كل ما يومئ الى المبالغة والاسراف في الكلام.

C الاصل العاشر

قد يظهر افراد من الناس لهم خوارق في الاعمال والافعال كما يحدث في اكثر طوائف المخلوقات. فان كان الفرد الفذ هذا قد سبق الآخرين وبزّهم في الخير والصلاح فسيكون مبعث فخر لبني جنسه ومدار اعتزازهم، والاّ فهو نذير شؤم وبلاء عليهم. فكل من هؤلاء الافذاذ ينبث كشخصية معنوية في كل مكان في المجتمع، ويحاول الآخرون تقليده في افعاله ويجدّون لبلوغ شأوه، وربما يبلغ واحد منهم مبلغه في هذا الفعل أو ذاك. فالقضية اذن من حيث المنطق هي قضية ((ممكنة)) لإمكان وجود ذلك الفرد الخارق في كل مكان وجوداً مخفياً ومطلقاً، اي أنه اصبح شخصاً كلياً بعمله هذا، أي من الممكن ان يولّد هذا النوع من العمل نتيجة كهذه.

فانظر في ضوء هذا المثال الى احاديث نبوية شريفة وردت بهذه المعاني: مَن صلى ركعتين كذا فله أجر حجة(1) أي ثواب ركعتين في اوقات معينة يقابل حجة، هذه حقيقة ثابتة. فيجوز اذن ان تحمل كل ركعتين من الصلاة بالكلية هذا المعنى، ولكن الوقوع الفعلي لهذا النوع من الروايات ليس دائماً ولا كلياً، حيث أن للقبول شرائطه المعينة، لذا تنتفي من امثال هذه الروايات صفة الكلية والديمومة؛ فهي اما بالفعل موقتة مطلقة؛ او هي قضية ممكنة، كلية. والكلية في امثال هذه الاحاديث هي من حيث الامكان الاعتباري، كما هو في: الغيبة كالقتل، اي يكون الفرد بالغيبة سماً زعافاً قاتلاً. وكما هو في: الكلمة الطيبة صدقة كعتق رقبة.

والحكمة في ايراد هذه الاحاديث بهذه الصيغة هي:

ابراز امكانية وقوع هذه الصفة المعنوية الكاملة في كل مكان وفي صورتها المطلقة، لأنه أبلغ في الترغيب والترهيب واكثر حضاً للنفوس على الخير وأشد تجنيباً لها من الشر.

ثم ان شؤون العالم الابدي لا توزن بمقاييس عالمنا الحاضر، اذ ان اضخم ما عندنا يمكن ان يكون اصغر شئ هناك ولا يوازيه، فثواب الاعمال نظراً لكونه يتطلع الى ذلك العالم الابدي فان نظرتنا الدنيوية الضيقة تغدو قاصرة دونه، فنعجز عن ان نستوعبه بعقولنا المحدودة.

فمثلاً: هناك رواية تلفت انظار من لا يدققون النظر ولا ينصفون في احكامهم. هي:

من قرأ هذا اعطي له مثل ثواب موسى، وهارون، أي:

الحمد لله رب السموات ورب الارضين رب العالمين وله الكبرياء في السموات والارض وهو العزيز الحكيم.

الحمد لله رب السموات ورب الارضين رب العالمين وله العظمة في السموات والارض وهو العزيز الحكيم، وله الملك ربّ السموات وهو العزيز الحكيم.

فحقيقة هذه الاحاديث وامثالها التي تثير الاذهان هي:

اننا لا ندرك مدى الثواب الذي يناله نبيان عظيمان هما موسى وهارون عليهما السلام الا حسب تصورنا ووفق اطار فكرنا الضيق وضمن حدود نظرنا القاصر الدنيوي، لذا فحقيقة الثواب الذي يناله عبد عاجز مطلق العجز بقراءته ذلك الورد، من رب رحيم واسع الرحمة، في حياة خالدة ابدية، يمكن ان يكون مماثلاً لذلك الثواب الذي تصورناه بعقولنا القاصرة للنبيين العظيمين، وذلك حسب دائرة علمنا وأفق تفكيرنا.

مثلنا في هذا كمثل بدوي لم ير السلطان ولا يدرك عظمته وابهته، وفي نظره المحدود وفكره الضيق ان السلطان شخص كشيخ القرية او اكبر منه بقليل. حتى لقد كان حوالينا - في شرقي الاناضول - قرويون ســذج يقـولون: ان السلـطان يجلس قرب الموقد ويشرف على طبيخه بنفسه.. بمعـنى ان اقــصى ما يتصــوره البدوي لعظمة السلطان لا يرقى الى مستوى آمر فوج في الجيش.. فلو قيل لأحد هؤلاء: اذا أنجزتَ لي هذا العمل فسأكافئك برتبة السلطان - اي بمكانة آمر الفوج - فهذا القول حقيقة وصواب، حيث ان عظمة السلطان في ذهن السامع وفي فكره المحدود هي بمقدار عظمة آمر الفوج ليس الا.

وهكذا فنحن لا نكاد نفهم حتى بمثل هذا البدوي الحقائق الواردة في ثواب الاعمال المتوجهة الى الآخرة، بعقولنا الضيقة وبافكارنا القاصرة وبنظرنا الدنيوي الكليل؛ اذ ان ما في الحديث الشريف ليس هو عقد لموازنة بين الثواب الحقيقي الذي يناله موسى وهارون عليهما السلام، والذي هو مجهول لدينا، وبين الثواب الذي يناله العبد الذاكر للورد؛ لأن قاعدة التشبيه هي قياس المجهول على المعلوم، أي ادراك حُكم المجهول من حُكم المعلوم. أي ان الموازنة هي بين ثوابهما ((المعلوم)) لدينا حسب تصورنا، والثواب الحقيقي للعبد الذاكر ((المجهول)) عندنا.

ثم ان صورة الشمس المنعكسة من سطح البحر ومن قطرة ماء هي الصورة نفسها، والفرق في النوعية فقط، فكلاهما يعكسان صورة الشمس وضوءها، لذا فأن روح كل من موسى وهارون عليهما السلام التي هي مرآة صافية كالبحر تنعكس عليها من ماهية الثواب ما ينعكس على روح العبد الذاكر التي هي كقطرة ماء. فكلاهما ثواب واحد من حيث الماهية والكمية الا ان النوعية تختلف، اذ تتبع القابلية.

ثم ان ترديد ذكر وتسبيح معين، أو تلاوة آية واحدة قد تفتح من ابواب الرحمة والسعادة ما لا تفتحه عبادة ستين سنة، اي ان هناك حالات تمنح فيها آية واحدة من الفوائد ما للقرآن الكريم كله.

ثم ان الفيوضات الربانية المتجلية على الرسول الكريم e بتلاوته آية واحدة قد تكون مساوية لفيض إلهي كامل على نبي آخر؛ اذ هوe موضع تجلي الاسم الاعظم. فاذا قيل ان العبد الذاكر قد تعرض الى نفحة من ظل الاسم الاعظم بفضل وراثة النبوة ونال ثواباً بها بمقدار قابليته، بقدر الفيض الإلهي على نبي آخر، فليس في قوله خلاف للحقيقة قط.

ثم ان الثواب والأجر من عالم النور الخالد الذي يمكن ان ينحصر عالم منه في ذرة واحدة، بمثل انحصار صـورة الســمـوات بنجـومـها في قطـعـة صغيرة من زجاج ورؤيتها فيها. وهكذا فقراءة آية واحدة أو ذكر معين بنيةٍ خالصة يمكن ان تولد شفافية في الروح - كالزجاج - تستطيع ان تستوعب ثواباً نورانياً كالسموات الواسعة.

النتيجة: ايها الناظر الى كل شئ بعين النقد والتجريح ومن دون تدقيق، ويا ذا الايمان الواهي والفكر المملوء بالفلسفة المادية! أنصف قليلاً! أدم النظر في هذه الاصول العشرة، واياك ان تمدّ اصبع اعتراضك الى الاحاديث الشريفة وبدورها الى ما يخل بمرتبة عصمة النبوة للرسول الكريم e بحجة ما تراه في روايةٍ من خلاف قطعي للواقع ومنافاة للحقيقة.

فهذه الاصول العشرة، وميادين تطبيقها تجعلك تتخلى عن الانكار وتكفّك عن الرفض اولاً. ثم تخاطبك: ان كان هناك تقصيرٌ حقيقي، فهذا راجع الينا - اي الى الاصول - وليس الى الحديث الشريف قطعاً. وان لم يكن ثمة تقصير حقيقي فهو يعود الى سوء فهمك انت!

وحاصل الكلام: ان من يسترسل في الانكار والرفض، عليه ان يفنّد الاصول العشرة المذكورة والاّ لا يستطيع الانكار.

فان كنت منصفاً حقاً فتأمل جيداً في هذه الاصول العشرة، ومن بعدها لا تنهض لإنكار حديث نبوي يراه عقلك مخالفاً للحقيقة، بل قل: ربما هناك تفسير له، أو تأويل، أو تعبير، ودع الاعتراض!

C الاصل الحادي عشر

كما ان في القرآن الكريم آيات متشابهات تحتاج الى تأويل أو تطلب التسليم المطلق، كذلك في الحديث الشريف مشكلات تحتاج احياناً الى تفسير وتعبير دقيقين. ويمكنك الاكتفاء بالامثلة المذكورة.

نعم، ان اليقظ يستطيع ان يعبر عن رؤيا النائم، بينما النائم الذي يسمع مَن حوله من اليقظين قد يطبق كلامهم بشكلٍ ما في منامه فيعبّر عنه بما يلائمه في النوم.

فيا ايها المنوّم بالغفلة والفلسفة المادية، ويا عديمَ الانصاف! ان الذي يقول الله تعالى في حقه ] ما زاغ البصرُ وما طغى[ (النجم:17) والذي يقول عن نفسه تنام عيناي ولا ينام قلبي(1) هو اليقظان الحقيقي، فلا تنكر ما يراه هو، بل عبّر عنه وجِد تعبيراً له في رؤياك، والتمس له تفسيراً، اذ لو لسعت بعوضة شخصاً نائماً، فان آثار ذلك تظهر عليه وكأنه قد جرح في الحرب، واذا ما استفسر عنه بعد صحوه، فسيقول: نعم كنت في حرب دامية والمدافع مصوبة نحوي! بينما اليقظون الذين حوله يأخذون اضطرابه هذا مأخذ الاستهزاء. فنظرُ الغفلة المنومة وفكر الفلسفة المادية لا يمكن ان يكونا قطعاً محكاً للحقائق النبوية.

C الاصل الثاني عشر

ان نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها. أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها. فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى اهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية.

فالذين لا يدركون هذا السر، يظنون ان علماء الاسلام متأخرون عن علماء الطبيعة والفلاسفة، والحال ان من انحدرت عقولهم الى عيونهم واصبحوا لا يفكرون الا بما يرون، وغرقوا في الكثرة من المخلوقات، أنّى لهم الجرأة ليلحقوا بورثة الانبياء عليهم السلام الذين بلغوا المقاصد الإلهية السامية وغاياتها الرفيعة العالية.

ثم ان الرؤية ان كانت من زاويتين مختلفتين، فلاشك من ظهور حقيقتين متباينتين، وقد تكون كلتاهما حقيقة. وحتماً لا تتعارض حقيقة علمية قاطعة مع حقائق النصوص القرآنية المقدسة، اذ اليد القصيرة للعلم التجريبي قاصرة عن بلوغ اهداب طرفٍ من حقائق القرآن الرفيعة المنزهة. وسنورد مثالاً واحداً فقط على هذا:

حقيقة الكرة الارضية في نظر أهل العلم هي:

انها احدى السيارات ذات الحجم المتوسط، تدور حول الشمس، وهي جرم صغير قياساً للكواكب والنجوم التي لا تعد ولا تحصى.

اما اذا نظرنا الى الكرة الارضية بنظر اهل القرآن، فحقيقتها هي كما وضحتها (الكلمة الخامسة عشرة):

ان الانسان الذي هو ألطف ثمرة العالم، ومعجزة جامعة من معجزات القادر الحكيم، وأبدع المخلوقات واعزها وألطفها، مع انه أعجزها وأضعفها.. هذا الانسان يعيش على هذه الارض، فالارض اذن مهدٌ لهذا الانسان، فهي مع صغرها وحقارتها قياساً الى السموات عظيمة وجليلة من حيث المعنى والمغزى والابداع؛ حتى اصبحت بالمنظور القرآني:

قلب الكون ومركزه من حيث المعنى.. ومعرض جميع المصنوعات المعجزة.. وموضع تجلي الاسماء الحسنى كلها، حتى لكانها البؤرة الجامعة لتلك الانوار.. ومحشر الافعال الربانية المطلقة ومرآتها.. وسوق واسع لإبراز الخلاقية الإلهية المطلقة، ولا سيما ايجادها الكثرة الهائلة من النباتات والحيوانات الدقيقة بكل جود وكرم.. ونموذج مصغر لمصنوعات عالم الآخرة الواسع الفسيح.. ومصنع يعمل بسرعة قصوى لانتاج منسوجات خالدة.. وموضع عرض لنماذج المناظر السرمدية المتبدلة بسرعة فائقة.. ومزرعة ضيقة مؤقتة لاستنبات بُذيرات تربّى بسرعة للبساتين الخالدة الرائعة.

لهذا كله يجعل القرآن الكريم الارض صنواً للسموات، من حيث عظمتها معنىً واهميتها صنعةً.وكأنها ثمرة صغيرة لشجرة ضخمة، وكأنها قلب صغير لجسد ضخم. فيذكرها القرآن الكريم مقرونة بالسموات، فهي في كفة والسموات كلها في كفة، فتكرر الآية الكريمة:

] رب السموات والارض[

وهكذا فقس سائر المسائل على هذا المنوال، وافهم:

ان الحقائق الميتة المنكفئة للفلسفة، لا يمكنها ان تتصادم مع حقائق القرآن الحية والمنورة. فكلتاهما حقيقة، الا ان الاختلاف هو في زاوية النظر، فتظهر الحقائق مـتباينة.









الغصن الرابع

] ألم تَرَ أن الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدّوابُّ وكثيرٌ من الناس وكثيرٌ حق عليه العذاب، ومَن يُهِنِ الله فما لَه مِن مُكرِم اِن الله يفعلُ ما يشاء[ (الحج:18)

سنبين جوهرة واحدة فقط من الخزينة العظمى الواسعة لهذه الاية الكريمة، وذلك:

ان القرآن الحكيم يصرح بان كل شئ من العرش الى الفرش، ومن المَلَك الى السمك، ومن المجرات الى الحشرات، ومن السيارات الى الذرات.. كل منها يسجد لله، ويعبده، ويحمده ويقدّسه. الاّ أن عباداتها مختلفة متباينة متنوعة، كلٌ حسب قابلياتها، ومدى نيلها لتجليات الأسماء الحسنى.

نبين هنا تنوّع عبادات المخلوقات وتباينها بمثال:

فمثلاً (ولله المثل الاعلى) أن ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن، يستخدم أربعة أنواع من العمال في بناء قصر أو مدينة.

النوع الاول: هم عبيده، هذا النوع لا مرتّب لهم ولا اُجرة. بل ينالون ذوقاً في منتهى اللطف، ويحصلون على غاية الشوق في كل ما يعملونه ويؤدونه بأمر سيّدهم، بل يزدادون مُتعة وشوقاً من أي كلام في مدح سيدهم ووصفه، فحسبُهم الشرف العظيم الذي ينالونه بانتسابهم الى سيدهم. فضلاً عن تلذذهم لذة معنوية اثناء اشرافهم على العمل باسم ذلك المالك، وفي سبيله ونظره اليهم، فلا داعي الى مرتّبٍ ولا الى رتبة ولا الى أجرة.

القسم الثاني: هم خدّام بسطاء، لا يعرفون لماذا يعملون، بل ذلك المالك العظيم هو الذي يستخدمهم ويسوقهم الى العمل بفكره وعلمه، ويعطيهم اجرة جزئية تناسبهم وهؤلاء الخدام لا يعرفون نوع الغايات الكلية والمصالح العظيمة التي تترتب على عملهم، حتى حدا ببعض الناس ان يتوهم ان عمل هؤلاء لا غاية له الاّ اجرة جزئية تخصّهم بالذات.

القسم الثالث: هو الحيوانات التي يملكها ذلك المالك العظيم، ويستخدمها في أعمال بناء القصر والمدينة، ولا يعطيها الاّ علفها. فهذه الحيوانات تتمتع بلذة في اثناء قيامها بعمل يوافق استعداداتها، اذ القابلية أو الاستعداد ان دخلت طور الفعل والعمل بعدما كانت في طور القوة الكامنة، تنبسط وتتنفس، فتورث لذةً، وما اللذة الموجودة في الفعاليات كلها الا نابعة من هذا السر.

فاُجرة هذا القسم من الخدام ومرتّبهم هو العَلف مع لذة معنويةٍ، فهم يكتفون بهما.

القسم الرابع: وهم عمال يعرفون ماذا يعملون، ولماذا يعملون ولمن يعملون. فضلاً عن معرفتهم لِمَ يعمل العمال الآخرون، وما الذي يقصده المالك العظيم ولِمَ يدفع الجميعَ الى العمل؟

فهذا النوع من العمال، لهم رئاسة على العمال الآخرين، والاشراف عليهم، ولهم مرتّباتهم حسب درجاتهم ورتبهم.

وعلى غرار هذا المثال، فان مالك السماوات والارضين ذا الجلال، وباني الدنيا والآخرة ذا الجمال، وهو رب العالمين، يستخدم الملائكة والحيوانات والجمادات والنباتات والانسان في قصر هذا الكون ضمن دائرة الأسباب، ويسوقهم الى العبادة، لا لحاجةٍ، فهو الخالق، بل لأجل إظهار العزة والعظمة وشؤون الربوبية وأمثالها من الحِكَم..

وهكذا فقد كلف هذه الأنواع الاربعة باربعة أنماط مختلفة من العبادة.

القسم الأول: الذين يمثلون العبيد في المثال، هم الملائكة، فهم لا مراتب لهم في الرقي بالمجاهدة، اذ لكل منهم مقام ثابت ورتبة معينة، الاّ ان لهم ذوقاً خاصاً في عملهم نفسه، وهم يستقبلون الفيوض الربانية - حسب درجاتهم - في عبادتهم نفسها.

بمعنى ان اجرة خدماتهم مندرجة في عين أعمالهم؛ اذ كما يتلذذ الانسان من الماء والهواء والضياء والغذاء، كذلك الملائكة، يتلذذون ويتغذّون ويتنعمون بانوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لانهم مخلوقون من نور، فيكفيهم النور غذاءً، بل حتى الروائح الطيبة القريبة من النور، هي الأخرى نوع من غذائهم حيث يُسرّون بها.

نعم! ان الأرواح الطيبة تحب الروائح الطيبة.

ثم ان للملائكة سعادة عظمى الى درجة لا يدركها عقل البشر ولا يستطيع ان يعرفها الاّ المَلَك نفسه، وذلك فيما يعملون من عمل بأمر معبودهم، وفي الأعمال التي يؤدونها في سبيله، والخدمات التي يقومون بها باسمه، والاشراف الذي يزاولونه بنظره، والشرف الذي يغنمونه بانتسابهم اليه، والتفسح والتنزه الذي ينالونه بمطالعة ملكه وملكوته، والتنعم الذي يحصلون عليه بمشاهدة تجليات جماله وجلاله.

فقسم من الملائكة عبّاد، وآخرون يزاولون عباداتهم في أعمالهم. والقسم العامل من الملائكة الأرضيين شبيه بنوع الانسان - ان جاز التعبير - فمنهم من يؤدي مهمة رعاية الحيوان وهم الرعاة، ونوع آخر لهم الاشراف على نبات الأرض وهم الفلاحون.. بمعنى ان سطح الأرض مزرعة عامة يشرف عليها مَلك موكل بها، أي يشرف على جميع طوائف الحيوانات التي تدبّ على الأرض بأمر الخالق الجليل، وباذنه، وفي سبيله، وبحوله وقوته. وهناك ملك موكل أصغر، للقيام برعاية خاصة لكل نوع من أنواع الحيوانات.

وحيث ان سطح الأرض مزرعة، تزرع فيها أنواع النباتات كلها، فهناك اذن مَلك موكّل للاشراف على تلك النباتات كلها، باسم الله سبحانه، وبقوته، وهناك مَلك أوطأ مرتبة، يشرف على كل طائفة من طوائف النباتات، وهكذا.. فهناك ملائكة مشرفون، وسيدنا ميكائيل عليه السلام الذي هو من حملة عرش الرزاقية؛ هو المشرف الأعظم على هؤلاء الملائكة.

وان الملائكة الذين هم بمثابة الرعاة والفلاحين يختلفون عن الانسان، لأن اشرافهم على الأمور هو عمل خالص في سبيل الله، وباسمه، وبقوته وبأمره، بل ان اشرافهم هو مشاهدة تجليات الربوبية في النوع الذي اُوكل لهم الاشراف عليه.. ومطالعة تجليات القدرة والرحمة فيه.. والقيام بإلهام الأوامر الإلهية اليه.. وأداء ما يشبه التنظيم في أفعاله الاختيارية. ولا سيما الاشراف على النباتات في مزرعة الأرض.. وتمثيل تسبيحاتها المعنوية واعلان تحياتها المعنوية الى فاطرها الجليل بلسان الملائكة.. علاوة على حُسن استعمال الاجهزة الممنوحة لها وتوجيهها الى غايات معينة والقيام بنوع من التنظيم فيها.

وتعدّ هذه الخدمات التي يؤديها الملائكة نوعاً من كسبٍ بالجزء الاختياري، بل هي نوع من العبادة والعبودية، إذ ليس لهم تصرف حقيقي، لأن كل شئ يحمل سكةً خاصة وختماً معيناً لخالق كل شئ لا يمكن لغيره تعالى أن يحشر نفسه في الايجاد قطعاً.

أي ان هذا النوع من عمل الملائكة هو عباداتهم؛ اذ ليس هي عادات كما هي في الانسان.

القسم الثاني: من العمال في قصر الكون، هو الحيوانات.

وحيث ان الحيوانات لها نفس مشتهية، واختيار جزئي، فلاتكون أعمالها خالصة لوجه الله. بل تستخرج النفسُ حظها، وشهوتَها من عملها ، لذا يمنح مالك الملك ذو الجلال والاكرام ، تلك الحيوانات أجرة ومرّتباً ضمن أعمالها ، تُطمئن نفوسها وتشبعها

فمثلا: البلبل المعروف بعاشق الورود والأزهار(1)، يستخدم الفاطرُ الجليل ذلك الحيوان الصغير ويستعلمه في خمس غايات:

اولاها: انه مأمور ومكلّف - باسم القبائل الحيوانية - باعلان شدة العلاقة تجاه طوائف النباتات.

ثانيتها: انه موظف باعلان الفرح والسرور، والترحيب بالهدايا المرسلة من قبل الرزاق الكريم، حيث انه خطيب رباني يسأل بتغريده أرزاق الحيوانات - ضيوف الرحمن - المحتاجين الى الرزق.

ثالثتها: اظهار حسن الاستقبال على رؤوس النباتات جميعاً، تعبيراً عن ارسال النباتات امداداً لبني جنسه من الطير والحيوان.

رابعتها: بيان شدة حاجة الحيوانات الى النباتات التي تبلغ حدّ العشق تجاه الوجوه المليحة للنباتات واعلانها على رؤوس الاشهاد.

خامستها: تقديم ألطف تسبيحٍ الى ديوان رحمة مالك الملك ذي الجلال والاكرام في ألطف شوق ووجد، وفي ألطف وجه، وهو الورد.

وهكذا هناك معان أخرى شبيهة بهذه الغايات الخمس.

فهذه المعاني وهذه الغايات هي الغاية من عمل البلبل الذي يقوم به لأجل الحق سبحانه وتعالى. فالبلبل يغرّد بلغته ونحن نفهم هذه المعاني من نغماته الحزينة، مثلما يفهمها ايضاً الملائكة والروحانيات. وان عدم فهم البلبل لمعنى نغماته معرفة كاملة ليس حائلاً امام فهمنا نحن لذلك، ولا يقدح فيه، والمثل: ((رُب مستمع أوعى من متكلم)) مشهور.

ثم ان عدم معرفة البلبل لهذه الغايات بالتفصيل لا يدل على عدم وجودها، فهو في الأقل كالساعة التي تعرّفك أوقاتك وهي لا تعلم شيئاً مما تعمل. فجهلُها لا يضر بمعرفتك.

اما مرتّب ذلك البلبل ومكافأته الجزئية فهي الذوق الذي يحصل عليه من مشاهدة تبسّم الأزهار الجميلة، والتلذذ الذي يحصل عليه من محاورتها.

أي ان نغماته الحزينة وأصواته الرقيقة ليست شكاوى نابعة من تألمات حيوانية، بل هي شكر وحمد وثناء تجاه العطايا الرحمانية.

وقس على البلبل؛ بلابل النحل والعنكبوت والنمل والهوام والحيوانات الصغيرة، فلكل منها غايات كثيرة في أعمالها، ُادرج فيها ذوق خاص، ولذة مخصوصة، كمرتّب وكمكافئة جزئية، فهي تخدم غايات جليلة لصنعة ربانية بذلك الذوق. فكما ان لعامل بسيط في سفينة السلطان مرتّبهُ الجزئي، كذلك لهذه الحيوانات التي تخدم الخدمات السبحانية مرتّبها الجزئي.

تتمة لبحث البلبل:

لا تحسبنّ ان هذه الوظيفة الربانية في الاعلان والدلالة والتغني بهزجات التسبيحات خاص بالعندليب. بل ان لكل نوع من أكثر انواع المخلوقات صنفاً شبيهاً بالعندليب، له فرد لطيف أو أفراد يمثلون ألطف مشاعر ذلك النوع ويتغنى بألطف التسبيحات بألطف السجعات، ولا سيما أنواع الهوام والحشرات، فبلابلها كثيرة، وعنادلها متنوعة جداً، تُمتّع جميع مَن له آذان صاغية اليهم بدءاً من أصغر حيوان الى أكبره، وتنثر على رؤوسهم تسبيحاتها بأجمل نغماتها.

وقسم من هذه البلابل ليلي، يكونون الأنيس المحبوب والقاصّ المؤنس في ذلك الليل الساكن والموجودات الصامتة، للحيوانات الصغيرة التي خلدت الى الهدوء، حتى كأن كلاً من تلك البلابل قطبٌ في حلقة ذكر خفي وسط ذلك المجلس الذي انسحب كل فرد فيه الى الهدوء والسكون ينصت الى نوع من ذكر الله وتسبيحه، بقلبه المطمئن الى الفاطر الجليل.

وقسم آخر من هذه البلابل نهاري، يعلنون في وضح النهار رحمة الرحمن الرحيم على منابر الاشجار وعلى رؤوس الاشهاد، ويتغنون بها، ولا سيما في موسم الصيف والربيع، وينثرون بتغريداتهم الرقيقة وشَدوِهم اللطيف وتسبيحاتهم المسجّعة الوجدَ والشوق، لدى كل سامع لهم، حتى يشرع السامع بذكر فاطره الجليل بلسانه الخاص، وبنغماته الخاصة.

بمعنى ان لكل نوع من أنواع الموجودات بلبله الخاص به، فهو رئيس حلقة ذكر خاص بهم. بل حتى لنجوم السماء بلبلها الخاص بها، يشدو بأنواره ويترنم باضوائه.

ولكن.. أفضل هذه البلابل طراً وأشرفها وأنورها وابهرها واعظمها وأكرمها، واعلاها صوتاً واجلاها نعتاً واتمّها ذكراً واعمّها شكراً وأكملها ماهية واحسنها صورة، هو الذي يثير الوجدَ والجذب والشوق في الأرض والسماوات العلى، في بستان هذا الكون العظيم، بسجعاته اللطيفة وتضرعاته اللذيذة، وتسبيحاته العلوية.. وهو العندليب العظيم لنوع البشر، في بستان الكائنات، بلبل القرآن لبني آدم، محمد الأمين، عليه وعلى أله وامثاله، أفضل الصلوات واجمل التسليمات.

خلاصة ما سبق: ان الحيوانات الخادمة في قصر الكون تمتثل الأوامر التكوينية امتثالاً تاماً، وتظهر ما في فطرتها من غايات بأجمل صورتها باسم الله. فتسبيحاتها؛ هي قيامها بوظائف حياتها بأبدع طراز بقوة الله سبحانه، وببذل الجهد في العمل. وعباداتها؛ هي هداياها وتحياتها التي تقدمها الى الفاطر الجليل واهب الحياة.

القسم الثالث من العمال: هم النباتات والجمادات.. هؤلاء العمال لا مرتّب لهم ولا مكافأة، لأن لا اختيار لهم، فاعمالهم خالصة لوجه الله. وحاصلة بمحض ارادته سبحانه وباسمه وفي سبيله، وبحوله وقوته. الاّ انه يُستشعر من أحوال النباتات ان لها نوعاً من التـلذذ في ادائها وظــائف التــلــقــيح والــتــوليـد وانمــاء الثــمار. الاّ انها لا تتألم قط، بخلاف الحيوانات التي لها آلام ممزوجة باللذائذ، حيث ان لها اختياراً. ولأجل عدم تدخل الاختيار في أعمال النباتات والجمادات تكون اثارهما أتقن وأكمل من أعمال الحيوانات التي لها اختيار. وفي النحل - مثلاً - التي تتنور بالوحي والالهام، يكون الاتقان في الاعمال أكمل من حيوان آخر يعتمد على جزئه الاختياري.

وكل طائفة من طوائف النباتات في مزرعة الأرض تسأل من فاطرها الحكيم وتدعوه بلسان الحال والاستعداد، قائلة:

يا ربنا آتنا من لدنك قوة، كي ننصب راية طائفتنا في أرجاء الأرض كافة، لنعلن بلساننا عظمة ربوبيتك.. ووفقنا يا ربنا لعبادتك في كل ركن من أركان مسجد الأرض هذا.. وهب لنا قدرة لنسيح في كل ناحية من نواحي معرض الأرض لنشهر فيها نقوش أسمائك الحسنى وبدائع صنعك وعجائبها.

والفاطر الحكيم يستجيب لدعاء النباتات المعنوي هذا، فيهَب لبذور طائفة منها جُنيحات من شعيرات دقيقة لتتمكن بها من الطيران الى كل مكان، فتجعل الناظر اليها يقرأ أسماء الله الحسنى كما في أغلب النباتات الشوكية وقسم من بذور الأزهار الصفراء، ويهب سبحانه لآخر نسيجاً طرياً طيباً يحتاجه الانسان ويرتاح اليه، حتى يجعل الانسان خادماً له، فيزرعه في كل ناحية.. ويهب لطائفة اخرى ما لا يهضم من شبيه العظام مكسواً بما يشبه اللحم تستسيغه الحيوانات، فتنشرها في اقطار الأرض.. ويهب لبعضٍ شويكات دقيقة تتعلق بالأشياء بأدنى تماس. وبهذا ينتقل من مكان الى آخر فينشر راية طائفته هناك.

وهكذا تنشر النباتات بدائع صنع الله سبحانه وتعالى فيهب لقسم آخر علباً مملوءة بالبذور تقذف بها الى مسافة أمتار حين نضوجها..

وقس على هذا المنوال كيف تستنطق النباتات ألسنة كثيرة في ذكر الفاطر الجليل وفي تقديسه. فلقد خلق الفاطر الحكيم والقدير العليم، كل شئ، في أحسن صورة، وفي اكمل انتظام، وجهّزه بأفضل جهاز، ووجّهه الى أحسن وجهة، ووظفه بأحسن وظيفة، فيقوم الشئ بأفضل التسبيحات واجملها، ويؤدي العبادات على أفضل الوجوه.

فان كنت أيها الانسان انساناً حقاً، فلا تقحم الطبيعة والمصادفة والعبثية والضلالة في هذه الأمور الجميلة، ولا تشوّه جمالها بعملك القبيح، فتكون قبيحاً.

القسم الرابع: هو الانسان، فالانسان الذي هو نوع من أنواع الخدم العاملين في هذا القصر، قصر الكون، هذا الانسان شبيه بالملائكة من جهة، وشبيه بالحيوان من جهة اخرى، اذ يشبه الملائكة في العبادة الكلية وشمول الاشراف واحاطة المعرفة وكونه داعياً الى الربوبية الجليلة، بل الانسان هو اكثر جامعية من الملائكة، لأنه يحمل نفساً شريرة شهوية - بخلاف الملائكة - وأمامه نجدان، له ان يختار، اما رقياً عظيماً أو تدنياً مريعاً. ووجه شبه الانسان بالحيوان هو انه يبحث في أعماله عن حظٍ لنفسه، وحصةٍ لذاته، لذا فالانسان له مرتّبان:

الأول: جزئي حيواني معجل

والثاني: كلي ملائكي مؤجل

ولقد ذكرنا في الكلمات الثلاث والعشرين السابقة قسماً من مكافأة ومرتّب الانسان ووظائفه، ومدارج رقيه وتدنيه، ولا سيما في الكلمة (الحادية عشرة والثالثة والعشرين) اذ فيهما تفصيل بيان، لذا نختصر هذا البحث ونختم بابه سائلين العلي القدير ان يفتح علينا أبواب رحمته ويوفقنا الى اتمام هذه الكلمة، راجين منه سبحانه وتعالى ان يعفو عن سيئاتنا ويغفر لنا خطايانا.



الغصن الخامس

لهذا الغصن خمس ثمرات:

C الثمرة الاولى:

يا نفسي المحبة لنفسها، ويا رفيقي العاشق للدنيا!

اعلمي! ان المحبة سبب وجود هذه الكائنات، والرابطة لأجزائها، وانها نور الأكوان، وحياتها.

ولما كان الانسان أجمع ثمرة من ثمرات هذا الكون، فقد اُدرجت في قلبه - الذي هو نواة تلك الثمرة - محبة قادرة على الاستحواذ على الكائنات كلها.

لذا لا يليق بمثل هذه المحبة غير المتناهية الاّ صاحب كمالٍ غير متناهٍ.

فيا نفسي! ويا صاحبي!

لقد أودع الله سبحانه جهازين في فطرة الانسان، ليكونا وسيلتين للخوف وللمحبة، وتلك المحبة والخوف إما سيتوجهان الى الخلق أو الى الخالق. علماً ان الخوف من الخلق بلية أليمة، والمحبة المتوجهة نحوه أيضاً مصيبة منغّصة؛ اذ إنك ايها الانسان تخاف من لا يرحمك، أو لا يسمع استرحامك. فالخوف اذاً في هذه الحالة بلاء أليم.

اما المحبة؛ فان ما تحبه، إما انه لا يعرفك، فيرحل عنك دون توديع - كشبابكَ ومالكَ - أو يحقّرك لمحبتك! ألا ترى ان تسعة وتسعين في المائة من العشاق المجازيين يشكون عن معشوقيهم، ذلك لأن عشق محبوبات دنيوية شبيهة بالاصنام لحد العبادة بباطن القلب الذي هو مرآة الصمد ثقيل في نظر اولئك المحبوبين، إذ الفطرة تردّ كل ما هو ليس فطري وأهلٌ له. (والحب الشهواني خارج عن بحثنا).

بمعنى: ان ما تحبه من أشياء إما انها لا تعرفك أو يحقّرك أو لا يرافقك، بل يفارقك وانفك راغم.

فما دام الأمر هكذا؛ فاصرف هذه المحبة والخوف الى مَن يجعل خوفك تذللاً لذيذاً، ومحبتك سعادة بلا ذلة.

نعم! ان الخوف من الخالق الجليل يعني وجدان سبيل الى رأفته ورحمته تعالى للالتجاء اليه. فالخوف بهذا الاعتبار هو سوط تشويقٍ يدفع الانسان الى حضن رحمته تعالى. اذ من المعلوم ان الوالدة تخوّف طفلها لتضمّه الى صدرها. فذلك الخوف لذيذ جداً لذلك الطفل. لأنه يجذب ويدفع الطفل الى صدر الحنان والعطف. علماً ان شفقة الوالدات كلهن ما هي الاّ لمعة من لمعات الرحمة الإلهية. بمعنى ان في الخوف من الله لذة عظيمة. فلئن كان للخوف من الله لذة الى هذا الحد، فكيف بمحبة الله سبحانه، ألا يفهم كم من اللذائذ غير المتناهية فيها.

ثم ان الذي يخاف من الله ينجو من الخوف من الآخرين، ذلك الخوف الملئ بالقساوة والبلايا.

ثم ان المحبة التي يوليها الانسان الى المخلوقات ان كانت في سبيل الله لا تكون مشوبة بألم الفراق.

نعم، ان الانسان يحب نفسه أولاً، ثم يحب أقاربه، ثم أمته، ثم الاحياء من المخلوقات، ثم الكائنات، ثم الدنيا، فهو ذو علاقة مع كل دائرة من هذه الدوائر، ويمكن ان يتلذذ بلذائذها ويتألم بآلامها. بينما لا يقر قرار لشئ في هذا العالم الصاخب الذي يموج بالهرج والمرج، وتعصف فيه العواصف المدمّرة، لذا ترى قلب الانسان المسكين يجرح دائماً.

فالاشياء التي يتشبث بها هي التي تجرحه بالذهاب عنه، بل قد تقطع يده، لذا لا ينجو الانسان من قلق دائم، وربما يلقي نفسه في أحضان الغفلة والسُكر.

فيا نفسي! ان كنت تعقلين، فاجمعي اذن جميع أنواع تلك المحبة وسلّميها الى صاحبها الحقيقي وانجي من هذه البلايا.

فهذه الأنواع من المحبة غير المتناهية انما هي مخصوصة لصاحب كمال وجمال لا نهاية لهما. ومتى ما سلمتيها الى صاحبها الحقيقي يمكنك ان تحبي الأشياء جميعها باسمه دون قلق ومن حيث انها مراياه.

بمعنى انه ينبغي الاّ تصرفي هذه المحبة مباشرة الى الكائنات، وإلاّ تنقلب المحبةُ الى نقمةٍ أليمة بعد ان كانت نعمة لذيذة.

ظل أمر آخر وهو أهم مما ذكر:

انك يا نفسي تولين وجه محبتك الى نفسك بالذات، فتجعلين نفسك، محبوبة نفسها بل معبودة لها، وتضحين بكل شئ في سبيلها وكأنك تمنحينها نوعاً من الربوبية، مع ان سبب المحبة إما كمال، والكمال محبوب لذاته، أو منفعة أو لذة أو فضيلة أو أي سبب مشابه بهذه الاسباب المؤدية الى المحبة.

والآن يا نفسي!

لقد أثبتنا في عدد من ((الكلمات)) اثباتاً قاطعاً: ان ماهيتك الاصلية هي عجينة مركبة من القصور والنقص والفقر والعجز. فانك حسب الضدّية تؤدين وظيفة المرآة، فبالنقص والقصور والفقر والعجز الموجود في ماهيتك أصلاً، تظهرين كمال الفاطر الجليل وجماله وقدرته ورحمته، مثلما يبيّن الظلامُ الدامس سطوع النور.

فيا أيتها النفس!

عليك الاّ تحبي نفسك بل الأولى لك معاداتها، أو التألم لحالها، والاشفاق عليها، بعد أن تصبح نفساً مطمئنة.

فان كنت تحبين نفسك لكونها منشأ اللذة والمنفعة، وانتِ مفتونة بأذواق اللذة والمنفعة، فلا تفضّلي لذة نفسانية بقدر ذرة على لذة لا نهاية لها ومنافع لا حدّ لها، فلا تكوني كاليراعة التي تغرق جميع الأشياء وجميع أحبتها في وحشة الظلام مكتفية هي بلُميعة في نفسها. لأن لذتك النفسانية ومنفعتك وما تنتفعين من وراء منفعتهم وما تسعدين بسعادتهم وجميع منافع الكائنات ونفعها كلها انما هي من لطف محبوب أزلي سبحانه.

فعليك اذاً ان تحبي ذلك المحبوب الأزلي حتى تلتذي - بسعادتك وبسعادة اولئك - بلذة لا منتهى لها من محبة الكمال المطلق.

وفي الحقيقة ان محبتك الشديدة لنفسك والمغروزة فيك، ما هي الاّ محبة ذاتية متوجهة الى ذات الله الجليلة سبحانه، الاّ انكِ أسأت استعمال تلك المحبة فوجهتيها الى ذاتك، فمزّقي يا نفسي اذن ما فيك من (أنا) واظهري (هو). فان جميع أ نواع محبتك المتفرقة على الكائنات انما هي محبة ممنوحة لك تجاه اسمائه الحسنى وصفاته الجليلة، بيد أنكِ أسأت استعمالها فستنالين جزاء ما قدمت يداك. لأن جزاء محبةٍ غير مشروعة وفي غير محلها، مصيبة لا رحمة فيها.

وان محبوباً أزلياً اعدّ - باسمه الرحمن الرحيم - مسكناً جامعاً لجميع رغباتك المادية، وهو الجنّة المزينة بالحور العين، وهيأ بسائر اسمائه الحسنى آلاءه العميمة لإشباع رغبات روحك وقلبك وسرّك وعقلك وبقية لطائفك. بل له سبحانه في كل اسم من أسمائه الحسنى خزائن معنوية لا تنفد من الاحسان والاكرام. فلاشك ان ذرة من محبة ذلك المحبوب الأزلي تكفي بديلاً عن الكائنات كلها ولا يمكن ان تكون الكائنات برمتها بديلاً عن تجلٍ جزئي من تجليات محبته سبحانه.

فاستمعي يا نفسي واتبعي هذا العهد الأزلي الذي انطقه ذلك المحبوب الأزلي، حبيبه الكريم بقوله تعالى:

] قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله[ (آل عمران: 31).

C الثمرة الثانية:

يا نفس: ان وظائف العبودية وتكاليفها ليست مقدمة لثواب لاحق، بل هي نتيجة لنعمة سابقة.

نعم؛ نحن قد أخذنا أجرتنا من قبل، وأصبحنا بحسب تلك الاجرة المقدمة لنا مكلفين بالخدمة والعبودية؛ ذلك:

لان الخالق ذا الجلال والاكرام الذي ألبسك – ايتها النفس – الوجود وهو الخير المحض قد أعطاك باسمه (الرزاق) معدة تتذوّقين وتتلذذين بجميع ما فرشه أمامك على مائدة النعمة من مأكولات. ثم انه وهب لك حياة حساسة، فهي كالمعدة تطلب رزقا لها، فوضع امام حواسك من عين وأذن وهي كالأيدي مائدة نعمة واسعة سعة سطح الارض. ثم وهب لك انسانية تطلب بدورها أرزاقاً معنوية كثيرة، ففتح امام معدة الانسانية آفاق الملك والملكوت بمقدار ما يصل اليه العقل.

وبما وهب لك من الاسلام والايمان الذي هو (الانسانية الكبرى) والذي يطلب نعماً لا نهاية لها، ويتغذى على ثمار الرحمة التي لا تنفد، فتح لك مائدة النعمة والسعادة واللذة الشاملة للاسماء الحسنى، والصفات الربانية المقدسة، ضمن دائرة الممكنات. ثم أعطاك المحبة التي هي نور من أنوار الايمان، فأحسن اليك بمائدة نعمة وسعادة ولذة لا تنتهي أبداً.

بمعنى انك قد اصبحت - باحسانه سبحانه وتعالى - بحسب جسمك الصغير المحدود المقيد الذليل العاجز الضعيف من جزء الى كلّي، والى كلّ نوراني، اذ قد رفعك من الجزئية الى نوع من الكلية، بما أعطاك (الحياة)، ثم الى الكلية الحقيقية، بما وهب لك (الانسانية)، ثم الى الكلية النورانية السامية بما أحسن اليك (الايمان) ومنها رفعك الى النور المحيط الشامل بما أنعم عليك من (المعرفة والمحبة).

فيا نفس!

لقد قبضت مقدماً كل هذه الاجور والاثمان؛ ثم كلّفت بالعبودية وهي خدمة لذيذة وطاعـة طيبة بـل مريـحة خفيفة؛ أفبعد هذا تتكاسلين عن أداء هذه الخدمة العظيمة المـشرفة؟ وتـقولين بدلال: لِمَ لا يقبل دعـائي. حـتى اذا ما قمت بالخدمة بشكل مهلـهل تطالبين باجرة عظيمة اخرى، وكأنك لم تكتفي بالاجرة السابقة؟

نعم؛ انه ليس من حقك الدلال أبداً، وانما من واجبك التضرع والدعاء، فالله سبحانه وتعالى يمنحك الجنة والسعادة الابدية بمحض فضله وكرمه، لذا فالتجئى الى رحمته، واعتمدي عليها، ورددى هذا النداء العلوي الرباني:

] قل بفـضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون[ (يونس:58)

واذا قلت: كيف يمكنني أن أقابل تلك النعم الكلية التي لا تحد بشكري المحدود الجزئي؟

فالجواب: بالنية الكلية، وبالاعتقاد الجازم الذي لا حدّ له.

فمثلاً: ان رجلا يدخل الى ديوان السلطان بهدية زهيدة متواضعة بقيمة خمسة فلوس، ويشاهد هناك هدايا مرصوصة تقدر أثمانها بالملايين أرسلت الى السلطان من قبل ذوات مرموقين. فعندها يناجي نفسه: ماذ اعمل؟ ان هديتي زهيدة ولا شئ! الاّ انه يستدرك ويقول فجأة :

- يا سيدي؛ انني اقدم لك جميع هذه الهدايا باسمي، فانك اهل لها، ويا سيدي العظيم، لو كان باستطاعتي ان اقدّم لك أمثال أمثال هذه الهدايا الثمينة لما ترددت.

وهكذا فالسلطان الذي لا حاجة له الى أحد والذي يقبل هدايا رعاياه رمزاً يشير الى مدى اخلاصهم وتعظيمهم له، يقبل تلك الهدية المتواضعة جداً من ذلك الرجل المسكين كأنها أعظم هدية، وذلك بسبب تلك النية الخالصة منه، والرغبة الصادقة، واليقين الجازم الجميل السامي.

وهكذا، فالعبد العاجز عندما يقول في الصلاة: (التحيات لله) ينوى بها:

انني ارفع اليك يا إلهي باسمي هدايا العبودية لجميع المخلوقات - التي هي حياتها - فلو كنت استطيع ان اقدم التحيات اليك يا ربي بعددهم لما احجمت ولا ترددت، فانك أهلٌ لذاك، بل اكثر.

فهذه النية الصادقة والاعتقاد الجازم، هي الشكر الكلي الواسع.

ولنأخذ مثلاً من النباتات حيث النوى والبذور فيها بمثابة نيّاتها. فالبطيخ مثلاً يقول بما ينوى من آلاف النوى التي في جوفه: يا خالقي انني على شوق ورغبة أن اعلن نقوش اسمائك الحسنى في ارجاء الارض كلها.

وحيث أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يحـدث وكيف يحدث، فانه يقبل النية الصادقة كأنها عـبادة فعلية، اي كأنها حدثت. ومن هنا تعلم كيف ان نية المؤمن خير من عمله، وتفهم كذلك حكمة التسبيح باعداد غير نهائية في مثل:

(سبحانك وبحمدك عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك)(1) ونسبحك بجميع تسبيحات أنبيائك وأوليائك وملائكتك.

فكما ان الضابط المسؤول عن الجنود يقدم اعمالهم وانجازاتهم الى السلطان باسمه، كذلك هذا الانسان الذي هو ضابط على المخلوقات، وقائد للنباتات والحيوانات، ومؤهل ليكون خليفة على موجودات الارض، ويعدّ نفسه مسـؤولاً ووكيلاً عمّا يحدث فـي عالمه الخاص.. يقول بلسان الجميع: ] اياك نعبد واياك نستعين[ فيقدّم الى المعبود ذي الجلال جميع عبادات الخلق واستعاناتهم.. ويجعل الموجودات قاطبة كذلك تتكلم باسمه وذلك عند قوله:

سبحانك بجميع تسبيحات جميع مخلوقاتك، وبألسنة جميع مصنوعاتك.

ثم انه يصلى على النبي e باسم جميع الاشياء على الارض:

اللّهم صلّ على محمد بعدد ذرات الكائنات ومركباتها.. اذ ان كل شئ في الوجود له علاقة مع النور المحمدي عليه الصلاة والسلام.

وهكذا افهم حكمة الاعداد غير النهائية في التسبيحات والصلوات.

C الثمرة الثالثة:

فيا نفس! ان كنت حقاً تريدين ان تنالي عملاً أخروياً خالداً في عمر قصير؟ وان كنت حقاً تريدين ان تري فائدة في كل دقيقة من دقائق عمرك كالعمر الطويل؟ وان كنت حقاً تريدين أن تحوّلي العادة الى عبادة وتبدلي غفلتك الى طمأنينة وسكينة. فاتبعي السنّة النبوية الشريفة.. ذلك: لان تطبيق السنّة والشرع في معاملةٍ ما ، يورث الطمأنينة والسكينة، ويصبح نوعاً من العبادة، بما يثمر من ثمرات اخروية كثيرة.

فمثلاً: اذا ابتعت شيئاً، ففي اللحظة التي تطبق الامر الشرعي - الايجاب والقبول - فان جميع هذا البيع والشراء يأخذ حكم العبادة حيث تذكرك بالحكم الشرعي، مما يعطي تصوّراً روحياً، وهذا التصور يذكرك بالشارع الجليل سبحانه، اي يعطي توجهاً إلهياً. وهذا هو الذي يسكب السكينة والطمأنينة في القلب.

اي ان انجاز الاعمال وفق السنة الشريفة يجعل العمل الفاني القصير مداراً للحياة الابدية، ذات ثمار خالدة. لذا فانصتي جيداً الى قوله تعالى:

] فآمنوا بالله ورسوله النبي الامّي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون[ (الاعراف:158) واسعي ان تكوني مظهراً جامعاً شاملاً لفيض تجلٍ لكل اسم من تجليات الاسماء الحسنى المنتشرة في احكام السنة الشريفة والشرع.

C الثمرة الرابعة:

ايتها النفس! لا تقلدي أهل الدنيا، ولا سيما أهل السفاهة وأهل الكفر خاصة، منخدعةً بزينتهم الظاهرية الصورية، ولذائذهم الخادعة غير المشروعة، لانك بالتقليد لا تكونين مثلهم قطعاً، بل تتردىن كثيراً جداً، بل لن تكوني حتى حيواناً ايضاً، لأن العقل الذي في رأسك يصبح آلة مشؤومة مزعجة تنزل بمطارقها على رأسك، اذ ان كان ثمة قصر فخم فيه مصباح كهربائي عظيم تشعبت منه قوة الكهرباء الى مصابيح أصغر فأصغر موزعة في منازل صغيرة مرتبطة كلها بالمصباح الرئيس. فلو أطفأ أحدهم المصباح الكهربائي الكبير، فسيعم الظلام المنازل الأخرى كلها وتستولى الوحشة فيها، ولكن لأن هناك مصابيح في قصور أخرى غير مربوطة بالمصباح الكبير في القصر الفخم، فان صاحب القصر هذا إن أطفأ المصباح الكهربائي الكبير فان مصابيح صغيرة تعمل على الاضاءة في القصور الأخرى، ويمكنه ان يؤدي بها عمله، فلا يستطيع اللصوص نهب شئ منه.

فيا نفسي!

القصر الأول، هو المسلم، والمصباح الكبير، هو؛ سيدنا الرسول e في قلب ذلك المسلم، فإن نسيه وأخرج الايمان به من قلبه - والعياذ بالله - فلا يؤمن بعدُ بأي نبي آخر. بل لا يبقى موضع للكمالات في روحه، بل ينسى ربه الجليل ويكون ما اُدرج في ماهيته من منازل ولطائف طعمة للظلام، ويحدث في قلبه دماراً رهيباً وتستولي عليه الوحشة، تُرى ما الذي يغني عن هذا الدمار الرهيب، وما النفع الذي يكسبه حتى يستطيع ان يعمرّ ذلك الدمار والوحشة؟!

أما الاجانب فانهم يشبهون القصر الثاني، بحيث لو أخرجوا نور محمد e من قلوبهم، تظل لديهم أنوار - بالنسبة لهم - أو يظنون أنها تظل! اذ يمكن ان يبقى لديهم شئ من العقيدة بالله والايمان بموسى وعيسى - عليهما السلام - والذي هو محور كمال اخلاقياتهم.

فيا نفسي الامارة بالسوء!

اذا قلت: انا لا أريد أن اكون اجنبياً بل حيواناً، فلقد كررنا عليك القول يا نفسي! إنك لن تكوني حتى كالحيوان، لانك تملكين عقلاً. فهذا العقل - الجامع لآلام الماضي ومخاوف المستقبل - يُنزل ضرباتٍ موجعة وصفعات مؤلمة برأسك وعينك، فيذيقك الوف الآلام في ثنايا لذة واحدة، بينما الحيوان يستمتع بلذة غير مشوبة بالآلام. لذا ان أردت ان تكوني حيواناً فتخلّي عن عقلك أولاً وارميه بعيداً، وتعرّضي لصفعة التأديب في الآية الكريمة: ] كالانعام بل هم أضل[ (الاعراف: 179).

C الثمرة الخامسة:

يا نفس! لقد كررنا القول: ان الانسان ثمرة شجرة الخلقة، فهو كالثمرة أبعد شئ عن البذرة، واجمع لخصائص الكل، وله نظر عام الى الجميع، ويضم جهة وحدة الكل، فهو مخلوق يحمل نواة القلب، ووجهه متوجه الى الكثرة - من المخلوقات - والى الفناء، والى الدنيا، ولكن العبادة التي هي حبل الوصال، أو نقطة اتصال بين المبدأ والمنتهى، تصرف وجه الانسان من الفناء الى البقاء، ومن الخلق الى الحق، ومن الكثرة الى الوحدانية، ومن المنتهى الى المبدأ.

لو أن ثمرة قيمة ذات ادراك أوشكت على ان تكوّن البذور، تباهت بجمالها ونظرت الى أسفل منها من ذوي الأرواح وألقت نفسها في أيديهم أو غفلت فسقطت ، فلا شك انها تتفتت وتتلاشى في ايديهم، وتضيع كأية ثمرة اعتيادية، ولكن تلك الثمرة المدركة ان وجدت نقطة استنادها وتمكنت من التفكير في انها ستكون وساطة لبقاء الشجرة واظهار حقيقتها ودوامها، عما تخبئ في نفسها من جهة الوحدة للشجرة، فان البذرة الواحدة لتلك الثمرة الواحدة تنال حقيقة كلية دائمة ضمن عمر باق دائم..

فالانسان الذي تاه في كثرة المخلوقات وغرق في الكائنات، وأخذ حب الدنيا بلبه حتى غره تبسم الفانيات وسقط في أحضانها، لاشك ان هذا الانسان يخسر خسراناً مبيناً، اذ يقع في الضلال والفناء والعدم، أي يعدم نفسه معنى.

ولكن اذا ما رفع هذا الانسان رأسه واستمع بقلب شهيد لدروس الايمان من لسان القرآن، وتوجّه الى الوحدانية فانه يستطيع ان يصعد بمعراج العبادة الى عرش الكمالات والفضائل فيغدو انساناً باقياً.

يا نفسي! لما كانت الحقيقة هي هذه، وانت من الملة الابراهيمية فقولي على غرار سيدنا ابراهيم: ] لا أحب الافلين[ وتوجهي الى المحبوب الباقي وابكي مثلي، قائلة:

(الأبيات الفارسية لم تدرج هنا، حيث أدرجت في المقام الثاني من الكلمة السابعة عشرة).
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #33
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الخامسة والعشرون



رسالة المعجزات القرآنية

ارى من الفضول التحري عن برهانٍ وفي اليد معجزة خالدة، القرآن

اتُراني أتضايق من إلزام الجاحدين، وفي اليد برهان الحقيقة، القرآن



تنبيه:

لقد عزمنا في بداية هذه الكلمة على ان نكتب خمس شُعَل، ولكن في اواخر الشعلة الاولى - قبل وضع الحروف الجديدة بشهرين(1)1 - اضطررنا الى الأسراع في الكتابة لطبعها بالحروف القديمة، حتى كنا نكتب - في بعض الأيام - عشرين او ثلاثين صحيفة في غضون ساعتين او ثلاث ساعات، لذا اكتفينا بثلاث شُعَلٍ فكتبناها مجملةً مختصرة، وتركنا الآن شعلتين.

فآمل من اخواني الكرام ان ينظروا بعين الأنصاف والمسامحة الى ما كان مني من تقصيرات ونقائص واشكالات واخطاء.

ان كل آية من اكثر الآيات الواردة في هذه الرسالة ((المعجزات القرآنية)) إما أنها اصبحت موضع انتقاد الملحدين، أو أصابها اعتراض اهل العلوم الحديثة، أَو مسَّتها شبهات شياطين الجن والانس واوهامهم.

ولقد تناولت هذه (الكلمة الخامسة والعشرون) تلك الآيات وبيَّنت حقائقها ونكاتها الدقيقة على أفضل وجه، بحيث ان ما ظنه اهلُ الالحاد والعلوم من نقاط ضعف ومدار نقص، أثبتته الرسالة بقواعدها العلمية أنه لمعات اعجاز ومنابع كمال بلاغة القرآن.

اما الشبهات فقد اُجيبت عنها اجوبة قاطعة من دون ذكر الشبهة نفسها وذلك لئلا تتكدر الأذهان. كما في الآية الكريمة ] والشــمــس تجــري..[ ] والجبال اوتاداً[ . إلاّ ما ذكرناه من شبهاتهم في المقام الأول من الكلمة العشرين حول عدد من الآيات.

ثم ان هذه الرسالة (المعجزات القرآنية) وإن كُتبت باختصار شديد وفي غاية السرعة إلاّ أنها قد بيّنت جانب البلاغة وعلوم العربية بياناً شافياً باسلوب علمي رصين وعميق يثير اعجاب العلماء.

وعلى الرغم من ان كل بحث من بحوثها لا يستوعبه كل مهتم ولا يستفيد منه حق الفائدة، فإن لكلٍ حظه المهم في تلك الرياض الوارفة.

والرسالة وإن أُلّفت في اوضاع مضطربة وكتبتْ على عجل، ومع ما فيها من قصور في الافادة والتعبير، إلاّ انها قد بينت حقائق كثير من المسائل المهمة من وجهة نظر العلم.



سعيد النورسي

























رسالة المعجزات القرآنية



بسم الله الرحمن الرحيم

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجن على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعــضُهم لبعـضٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)



لقد اشرنا الى نحو أربعين وجهاً من وجوه إعجازٍ لا تُحد للقرآن الحكيم الذي هو منبع المعجزات والمعجزة الكبرى للرسول الكريم e ، وذلك في رسائلي العربية، وفي رسائل النور العربية، وفي تفسيري الموسوم بـ (( اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) وفي الكلمات الاربع والعشرين السابقة.

وفي هذه الرسالة نشير الى خمسةٍ من تلك الوجوه ونبيّنها بشئٍ من التفصيل، وندرج فيها سائر الوجوه مجملةً.

وفي المقدمة نشير الى تعريف القرآن الكريم وماهيته.

















المقدمة

(( عبارة عن ثلاثة اجزاء))



U الجزء الأول:

القرآن ما هو؟ وما تعريفه؟

لقد وضّح في الكلمة التاسعة عشرة واثبت في رسائل اخرى ان القرآن:

هو الترجمةُ الازلية لكتاب الكائنات الكبير.. والترجمانُ الابدي لألسنتها المتنوعة التالية للايات التكوينية.. ومفسّرُ كتاب عالَم الغيب والشهادة.. وكذا هو كشّافٌ لمخفيات الكنوز المعنوية للاسماء الإلهية المستترة في صحائف السماوات والأرض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المضمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان عالَم الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية الواردة من عالم الغيب المستور وراء حجاب عالم الشهادة هذا.. وكذا هو شمسُ عالم الاسلام المعنوي وأساسُه وهندسته.. وكذا هو خريطةٌ مقدسةٌ للعوالم الاخروية.. وكذا هو القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهانُ القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو المربي لهذا العالم الانساني.. وكالماء والضياء للانسانية الكبرى التي هي الاسلام.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر.. وهو المرشد المهدي الى ما يسوق الأنسانية الى السعادة.. وكذا هو للانسان: كما انه كتاب شريعةٍ، كذلك هو كتابُ حكمةٍ، وكما انه كتابُ دعاءٍ وعبوديةٍ، كذلك هو كتابُ أمرٍ ودعوةٍ، وكما أنه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فكرٍ.. وهو الكتاب الوحيد المقدس الجامع لكل الكتب التي تحقق جميع حاجات الانسان المعنوية، حتى انه قد ابرز لمشرَب كلِّ واحدٍ من اهل المشارب المختلفة، ولمسلك كلِّ واحدٍ من اهل المسالك المتباينة من الاولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرَب وتنويره، ولمساقِ ذلك المسلك وتصويره. فهذا الكتاب السماوي اشبهُ ما يكون بمكتبةٍ مقدسةٍ مشحونةٍ بالكتب.

U الجزء الثاني وتتمة التعريف: لقد وضّح في ( الكلمة الثانية عشرة) واثبت فيها: ان القرآن قد نزل من العرش الاعظم، من الاسم الاعظم، من اعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى؛ فهو كلام الله بوصفه ربّ العالمين، وهو امر الله بوصفه إله الموجودات، وهو خطابه بوصفه خالق السموات والارض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطاب ازلي باسم السلطنة الإلهية الشاملة العظمى، وهو سجل الالتفات والتكريم الرحماني النابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ، وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الالوهية – اذ في بدايات بعضها رموز وشفرات – وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة، نازلٌ من محيط الاسم الاعظم ينظر الى ما احاط به العرش الاعظم. ومن هذا السر اُطلق على القرآن الكريم ويطلق عليه دوماً ما يستحقه من اسم وهو: ( كلام الله) . وتأتي بعد القرآن الكريم الكتب المقدسة لسائر الانبياء عليهم السلام وصحفهم. أما سائر الكلمات الإلهية التي لا تنفد، فمنها ما هو مكالمة في صورة إلهامٍ نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجلٍ خاص لإسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فإلهامات المَلَك والبشر والحيوانات مختلفة جداً من حيث الكلية والخصوصية.

U الجزء الثالث: ان القرآن الكريم، كتاب سماوي يتضمن اجمالاً؛ كتبَ جميع الانبياء المختلفة عصورهم، ورسائل جميع الاولياء المختلفة مشاربهم، وآثار جميع الاصفياء المختلفة مسالكهم.. جهاتُه الست مُشرقة ساطعة نقية من ظلمات الاوهام، طاهرةٌ من شائبة الشبهات؛ اذ نقطةُ استناده: الوحي السماوي والكلام الأزلي باليقين.. هدفُه وغايتُه: السعادة الابدية بالمشاهدة.. محتواه: هداية خالصة بالبداهة.. أعلاه: انوار الايمان بالضرورة.. أسفله: الدليل والبرهان بعلم اليقين.. يمينُه: تسليم القلب والوجدان بالتجربة.. يساره: تسخير العقل والاذعان بعين اليقين.. ثمرتُه: رحمة الرحمن ودار الجنان بحق اليقين.. مقامُه: قبول المَلَك والانس والجان بالحدس الصادق.

ان كل صفةٍ من الصفات المذكورة في تعريف القرآن الكريم باجزائه الثلاثة، قد اثبتت اثباتاً قاطعاً في مواضع اخرى أو ستُثبت، فدعوانا ليست مجرد إدعاء من دون دليل، بل كل منها مبرهنة بالبرهان القاطع.

الشعلة الأولى

(( هذه الشعلة لها ثلاث اشعات))

الشعاع الاول

بلاغة القرآن معجزة

هذه البلاغة المعجزة نَبعت من جزالة نظم القرآن وحسن متانته، ومن بداعة أساليبه وغرابتها وجودتها، ومن براعة بيانه وتفوقه وصفوته، ومن قوة معانيه وصدقها، ومن فصاحة ألفاظه وسلاستها.

بهذه البلاغة الخارقة تحدى القرآن الكريم، منذ ألف وثلاث مئة من السنين، أذكى بلغاء بني آدم وأبرع خطبائهم وأعظم علمائهم، فما عارضوه، وما حاروا ببنت شفة، مع شدة تحديه اياهم، بل خضعت رقابهم بذل، ونكسوا رؤوسهم بهوان، مع أن من بلغائهم مَن يناطح السحاب بغروره.

نشير الى وجه الاعجاز في بلاغته بصورتين:

الصورة الاولى:

ان أكثر سكان جزيرة العرب كانوا في ذلك الوقت أميين، لذا كانوا يحفظون مفاخرهم ووقائعهم التاريخية وأمثالهم وحكمهم ومحاسن أخلاقهم في شعرهم، وبليغ كلامهم المتناقل شفاهاً، بدلاً من الكتابة. فكان الكلام الحكيم ذو المغزى يستقر في الاذهان ويتناقله الخلف عن السلف. فهذه الحاجة الفطرية فيهم دفعتهم الى أن يكون أرغب متاع في أسواقهم وأكثره رواجاً هو: الفصاحة والبلاغة، حتى كان بليغ القبيلة رمزاً لمجدها وبطلاً من أبطال فخرها. فهؤلاء القوم الذين ساسوا العالم بفطنتهم بعد اسلامهم كانوا في الصدارة والقمة في ميدان البلاغة بين أمم العالم. فكانت البلاغة رائجة وحاجتهم اليها شديدة حتى يعدونها مدار اعتزازهم، بل حتى كانت رحى الحرب تدور بين قبيلتين أو يحل الوئام بينهما بمجرد كلام يصدرعن بليغهم بل كتبوا سبع قصائد بماء الذهب لأبلغ شعرائهم وعلقوها على جدار الكعبة، فكانت (المعلقات السبعة) التي هي رمز فخرهم.

ففي مثل هذا الوقت الذي بلغت فيه البلاغة قمة مجدها، ومرغوب فيها الى هذا الحد، نزل القرآن الكريم - بمثل ما كـانت معــجزة ســيدنا مــوسى وعيسى عليهما السلام من جنس ما كان رائجاً في زمانهما، وهو السحر والطب - نزل في هذا الوقت متحدياً ببلاغته بلاغة عصره وكل العصور التالية، ودعا بلغاء العرب الى معارضته، والاتيان ولو بأقصر سورة من مثله، فتحداهم بقوله تعالى:] وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله[ (البقرة: 23) واشتد عليهم بالتحدي ] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار[ (البقرة:24) أي: ستساقون الى جهنم وبئس المصير. فكان هذا يكسر غرورهم، ويستخف بعقولهم ويسفّه أحلامهم، ويقضي عليهم في الدنيا بالاعدام كما هو في الآخرة، أي: إما أن تأتوا بمثله أو أن ارواحكم واموالكم في خطر، ما دمتم مصرين على الكفر!

وهكذا فلو كانت المعارضة ممكنة فهل يمكن اختيار طريق الحرب والدمار، وهي أشد خطراً وأكثر مشقة. وبين أيديهم طريق سهلة هينة، تلك هي معارضته ببضعة أسطر تماثله، لإبطال دعواه وتحديه؟

أجل! هل يمكن لاولئك القوم الاذكياء الذين أداروا العالم بسياستهم وفطنتهم أن يتركوا أسهل طريق وأسلمها، ويختاروا الطريق الصعبة التي تلقي ارواحهم وأموالهم الى الهلاك؟

اذ لو كان باستطاعة بلغائهم أن يعارضوا القرآن ببضعة حروف، لتخلى القرآن عن دعواه، ولنجوا من الدمار المادي والمعنوي، والحال أنهم اختاروا طريق الحرب المريعة الطويلة. بمعنى أن المعارضة بالحروف محالة ولا يمكنهم ذلك بحال من الاحوال، لذا عمدوا الى المقارعة بالسيوف.

ثم أن هناك دافعين في غاية القوة لمعارضة القرآن واتيان مثيله وهما:

الاول: حرص الاعداء على معارضته.

الثاني: شغف الاصدقاء على تقليده.

ولقد ألفت تحت تأثير هذين الدافعين الشديدين ملايين الكتب بالعربية، من دون أن يكون كتاب واحد منها شبيهاً بالقرآن قط، اذ كل من يراها - سواءٌ أكان عالماً أو جاهلاً - لا بد أن يقول: القرآن لا يشبه هذه الكتب، ولايمكن أن يعارض واحد منها القرآن قطعاً. ولهذا فاما أن القرآن أدنى بلاغة من الكل، وهذا باطل محال باتفاق الاعداء والاصدقاء، وإما أن القرآن فوقها جميعاً، واسمى واعلى.

فان قلت: كيف نعلم أن أحداً لم يحاول المعارضة؟ ألم يعتمد أحد على نـفسه وموهبته ليبرز في ميدان التحدي؟ أوَلم ينفع تعاونهم ومؤازرة بعضهم بعضاً؟

الجواب: لو كانت المعارضة ممكنة، لكانت المحاولة قائمة لا محالة، لان هناك قضية الشرف والعزة وهلاك الارواح والاموال. فلو كانت المعارضة قد وقعت فعلاً، لكان الكثيرون ينحازون اليها، لان المعارضين للحق والعنيدين كثيرون دائماً. فلو وجد مَن يؤيد المعارضة لاشتهر به، اذ كانوا ينظمون القصائد لخصام طفيف، ويجعلونها في المآثر، فكيف بصراع عجيب كهذا يبقى مستوراً في التاريخ؟

ولقد نقلت واشتهرت أشنع الاشاعات وأقبحها طعناً بالاسلام، ولم تنقل سوى بضع كلمات تقوَّلها مسيلمة الكذاب لمعارضة القرآن. ومسيلمة هذا، وإن كان صاحب بلاغة لا يستهان به إلاّ أن بلاغته عندما قورنت مع بلاغة القرآن التي تفوق كل حسن وجمال عُدَّت هذياناً. ونقل كلامه هكذا في صفحات التاريخ.

وهكذا فالاعجاز في بلاغة القرآن يقين كيقين حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً. ولهذا يكون الامر هكذا.

الصورة الثانية:

سنبين حكمة الاعجاز في بلاغة القرآن بخمس نقاط:

النقطة الاولى:

ان في نظم القرآن جزالة خارقة، وقد بيّن كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) من أوله الى آخره هذه الجزالة والمتانة في النظم، اذ كما أن عقارب الساعة العادَّة للثواني والدقائق والساعات يكمل كل منها نظام الآخر، كذلك النظم في هيئات كل جملة من جمل القرآن، والنظام الذي في كلماته، والانتظام الذي في مناسبة الجمل كل تجاه الآخر، وقد بُيّن كل ذلك بوضوح تام في التفسير المذكور. فمن شاء فليراجعه ليتمكن من أن يشاهد هذه الجزالة الخارقة في أجمل صورها، إلاّ اننا نورد هنا مثالين فقط لبيان نظم الكلمات المتعانقة لكل جملة (والتي لا يصلح مكانها غيرها بتناسق وتكامل).

C المثال الاول:

قوله تعالى:] ولـئـن مسّـْتهـم نـفحـةٌ مـن عـذابِ ربـّك[ (سورة الانبياء:46)

هذه الجملة مسوقة لإظهار هول العذاب، ولكن باظهار التأثير الشديد لأقله، ولهذا فان جميع هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظر الى هذا التقليل وتمده بالقوة كي يظهر الهول:

فلفظ (لئن) هو للتشكيك، والشك يوحي القلة.

ولفظ (مسَّ) هو اصابة قليلة، يفيد القلة أيضاً.

ولفظ (نفحة) مادته رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغته تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي - مصدر المرة - فيفيد القلة..

وتنوين التنكير في (نفحةٌ) هي لتقليلها، بمعنى أنها شئ صغير الى حد لا يُعلم، فيُنكر.

ولفظ (من) هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة.

ولفظ (عذاب) هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة الى النكال والعقاب، فيشير الى القلة.

ولفظ (ربك) بدلاً من: القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضاً وذلك باحساسه الشفقة والرحمة.

وهكذا تفيد الجملة أنه:

اذا كان العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلة، فكيف يكون هول العقاب الإلهي؟ فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيُعين كلٌ الآخر، فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة.

هذا المثال الذي سقناه يلحظ اللفظ والمقصد.

C المثال الثاني:

قوله تعالى: ] ومما رزقناهم يُنفقون[ (البقرة: 3)

فهيئات هذه الجملة تشير الى خمسة شروط لقبول الصدقة:

الشرط الاول: المستفاد من ((من)) التبعيضية في لفظ (مما) أي: أن لا يبسط المتصدق يده كل البسط فيحتاج الى الصدقة.

الشرط الثاني: المستفاد من لفظ (رزقناهم) أي: أن لا يأخذ من زيد ويتصدق على عمرو، بل يجب أن يكون من ماله، بمعنى: تصدقوا مما هو رزق لكم.

الشرط الثالث: المستفاد من لفظ (نا) في (رزقنا) أي: أن لا يمنَّ فيستكثر، أي: لا منّة لكم في التصدق، فأنا أرزقكم، وتنفقون من مالي على عبدي.

الشرط الرابع: المستفاد من (ينفقون) أي: أن ينفق على مَن يضعه في حاجاته الضرورية ونفقته، وإلاّ فلا تكون الصدقة مقبولة على مَن يصرفها في السفاهة.

الشرط الخامس: المستفاد من (رزقناهم) أيضاً. أي: يكون التصدق باسم الله، أي: المال مالي، فعليكم أن تنفقوه باسمي.

ومع هذه الشروط هناك تعميم في التصدق، اذ كما أن الصدقة تكون بالمال، تكون بالعلم ايضاً، وبالقول والفعل والنصيحة كذلك، وتشير الى هذه الاقسام كلمة (ما) التي في (مما) بعموميتها. وتشير اليها في هذه الجملة بالذات، لانها مطلقة تفيد العموم.

وهكذا تجُود هذه الجملة الوجيزة - التي تفيد الصدقة - الى عقل الانسان خمسة شروط للصدقة مع بيان ميدانها الواسع، وتشعرها بهيئاتها.

وهكذا، فلهيئات الجمل القرآنية نظمٌ كثيرة أمثال هذه.

وكذا للكلمات القرآنية أيضاً ميدان نظم واسع مثل ذلك، كل تجاه الآخر. وكذا للكلام القرآني ولجمله دوائر نظم كتلك.

C فمثلاً: قوله تعالى:

] قل هو الله أحد^ الله الصمد^ لم يلد ولم يولد^ ولم يكن له كفواً أحد[ .

هذه الآيات الجليلة فيها ست جمل: ثلاث منها مثبتة وثلاث منها منفية، تثبت ست مراتب من التوحيد كما تردّ ستة أنواع من الشرك. فكل جملة منها تكون دليلاً للجمل الاخرى كما تكون نتيجة لها. لان: لكل جملة معنيين، تكون باعتبار أحدهما نتيجة، وباعتبار الآخر دليلاً.

أي أن سورة الاخلاص تشتمل على ثلاثين سورة من سور الاخلاص. سور منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضاً، على النحو الآتي:

] قل هو الله[ لانه أحد، لانه صمد، لانه لم يلد، لانه لم يولد،لانه لم يكن له كفواً أحد.



وكذا: ] ولم يكن له كفواً[ : لانه لم يولد، لانه لم يلد، لانه صمد، لانه أحد، لانه هو الله.

وكذا: ] هو الله[ فهو أحد، فهو صمد، فاذاً لم يلد، فاذاً لم يولد، فاذاً لم يكن له كفواً أحد.

وهكذا فقس على هذا المنوال.

C ومثلاً: قوله تعالى:

] الم ^ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين[ (البقرة:1،2)

فلكلٍ من هذه الجمل الاربع معنيان: فباعتبار أحدهما يكون دليلاً للجمل الاخرى، وباعتبار الآخر نتيجة لها. فيحصل من هذا نقش نظمي اعجازي من ستة عشر خطاً من خطوط المناسبة والعلاقة.

وقد بين ذلك كتاب (اشارات الاعجاز) حتى كأن لكل آية من أكثر الآيات القرآنية عيناً ناظرة الى أكثر الآيات، ووجهاً متوجهاً اليها، فتمد الى كل منها خطوطاً معنوية من المناسبات والارتباطات، ناسجة نقشاً اعجازياً. كما بُيّن ذلك في ( الكلمة الثالثة عشرة).

وخير شاهد على هذا (اشارات الاعجاز) اذ من اول الكتاب الى اخره شرح لجزالة النظم هذه.

النقطة الثانية:

البلاغة الخارقة في معناه، اذا شئت ان تتذوق بلاغة المعنى في الآية الكريمة:

] سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم[ (الحديد: 1)

فانظر الى هذا المثال الموضّح في ( الكلمة الثالثة عشرة) . فتصوَّر نفسَك قبل مجئ نور القرآن، في ذلك العصر الجاهلي، وفي صحراء البداوة والجهل، فبينما تجد كل شئٍ قد اُسدل عليه ستارُ الغفلة وغشيَه ظلامُ الجهل ولُفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد بصدى قوله تعالى:] سبح لله ما في السموات والارض او تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن[ (الاسراء: 44) قد دبّت الحياةُ في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة بصدى (سبح..) و (تسبّح) في اذهان السامعين فتنهض مسبحةً ذاكرة الله. وان وجه السماء المظلمة التي تستعرّ فيها نجومٌ جامدة والارض التي تدبّ فيها مخلوقاتٌ عاجزة، تتحول في نظر السامعين بصدى (تسبح) وبنوره الى فمٍ ذاكر لله، كلُّ نجمٍ يشع نور الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بالغة. ويتحول وجهُ الارض بذلك الصدى السماوي ونوره الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

C ومثلاً:

انظر الى هذا المثال الذي اثبت في " الكلمة الخامسة عشرة " وهو قوله تعالى:

] يامعشرَ الجنِّ والانسِ إن استَطَعْتُمْ أنْ تَنفذوا مِن أقطارِ السموات والارضِ فانفذوا لا تنفذونَ إلاّ بسلطانٍ^ فبأي آلاء ربكما تُكذبان ^ يُرسَلُ عليكُما شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران ^ فبأي آلاء ربكما تُكّذبان[ (الرحمن:33 ـ36) ] ولقد زيّنا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعلناها رجوماً للشياطين[ (الملك:5)

استمع لهذه الآيات وتدبّر ما تقول؟ انها تقول: ايها الانس والجان، ايها المغرورون المتمردون، المتوحلون بعجزهم وضعفهم، ايها المعاندون الجامحون المتمرغون في فقرهم وضعفهم! انكم إن لم تطيعوا أوامري، فهيا اخرجوا من حدود ملكي وسلطاني إن استطعتم! فكيف تتجرأون اذاً على عصيان أوامر سلطان عظيم: النجوم والاقمار والشموس في قبضته، تأتمر بأوامره،كأنها جنود متأهبون.. فأنتم بطغيانكم هذا إنما تبارزون حاكماً عظيماً جليلاً له جنود مطيعون مهيبون يستطيعون ان يرجموا بقذائف كالجبال، حتى شياطينكم لو تحملت.. وانتم بكفرانكم هذا إنما تتمردون في مملكة مالك عظيم جليل، له جنود عظام يستطيعون ان يقصفوا اعداءً كفرة - ولو كانوا في ضخامة الارض والجبال - بقذائف ملتهبة وشظايا من لهيب كامثال الأرض والجبال، فيمزقونكم ويشتتونكم!. فكيف بمخلوقات ضعيفة امثالكم؟.. وانتم تخالفون قانوناً صارماً يرتبط به من له القدرة - باذن الله - ان يمطر عليكم قذائف وراجمات امثال النجوم.

قس في ضوء هذا المثال قوة معاني ســائر الآيات ورصــانة بــلاغــتها وســمو إفاداتها.

النقطة الثالثة:

البداعة الخارقة في اسلوبه. نعم، ان اساليب القرآن الكريمغريبة وبديعة كما هي عجيبة ومقنعة، لم يقلّد أحداً قط ولا يستطيع احدٌ ان يقلده. فلقد حافظ وما يزال يحافظ على طراوة أساليبه وشبابيته وغرابته مثلما نزل اول مرة.

C فمثلاً:

ان الحروف المقطّعة المذكورة في بدايات عدةٍ من السور تشبه الشفرات؛ امثال:

الم. الر. طه. يس. حم. عسق. وقد كتبنا نحو ستٍ من لمعات اعجازها في (اشارات الاعجاز) نذكر منها:

ان الحروف المذكورة في بدايات السور تنصِّف كلَّ ازواج طبائع الحروف الهجائية من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة ..(1) وغيرها من اقسامها الكثيرة. اما الاوتار - التي لا تقبل التنصيف - فمن الثقيل النصف القليل كالقلقلة، ومن الخفيف النصف الكثير كالذلاقة.

فسلوكه في التنصيف والأخذ بهذا الطريق الخفي الذي لا يدركه العقل من بين هذه الطرق المتداخلة المترددة بين مائتي احتمال، ثم سَوق الكلام في ذلك السياق وفي ذلك الميدان الواسع المشتبهة الأعلام ليس بالامر الذي يأتي مصادفة قط، ولا هو من شأن البشر!

فهذه الحروف المقطعة التي في اوائل السور والتي هي شفرات ورموز إلهية تبين خمساً أو ستاً من اسرار لمعات اعجاز اخرى، بل ان علماء علم اسرار الحروف والمحققين من الاولياء قد استخرجوا من هذه المقطعات اسراراً كثيرة جداً، ووجدوا من الحقائق الجليلة ما يثبت لديهم ان المقطعات معجزة باهرة بحد ذاتها. اما نحن فلن نفتح ذلك الباب لأننا لسنا اهلاً لأسرارهم، زد عـلى ذلك لا نستــطــيــع ان نثبتها إثباتاً يكون مشهوداً لدى الجميع.وانما نكتفي بالاحالة الى ما في (اشارات الاعجاز) من خمس او ست لمعات اعجاز تخص المقطعات.

والآن نشير عدة اشارات الى اساليب القرآن، باعتبار السورة، والمقصد، والآيات، والكلام، والكلمة:

C فمثلاً:

سورة ( النبأ) ] عمّ يتساءلون..[ الى آخرها، اذا اُنعم النظر فيها فانها تصف وتثبت احوال الآخرة والحشر والجنة وجهنم باسلوب بديع يُطمئِن القلب ويقنعه، حيث تبين أن ما في هذه الدنيا من افعال إلهية وآثار ربانيةٍ متوجهة الى كلٍّ من تلك الاحوال الاخروية.

ولما كان ايضاح اسلوب السورة كلها يطول علينا، فسنشير الى نقطة او نقطتين منه:

تقول السورة في مستهلها اثباتاً ليوم القيامة: لقد جعلنا الأرض لكم مهداً قد بسط بسطاً جميلاً زاهياً.. والجبال أعمدة واوتاداً مليئة بالخزائن لمساكنكم وحياتكم.. وخلقناكم ازواجاً تتحابّون فيما بينكم ويأنس بعضكم ببعض.. وجعلنا الليل ساتراً لكم لتخلدوا الى الراحة.. والنهار ميداناً لمعيشتكم.. والشمس مصباحاً مضيئاً ومدفئاً لكم.. وانزلنا من السحب لكم ماءً باعثاً على الحياة يجري مجرى العيون.. وننشئُ بسهولة من ماء بسيط أشياء شتى من مزهر ومثمر يحمل ارزاقكم.. فاذاً يوم الفصل - وهو يوم القيامة - ينتظركم. وان إتيانه ليس بعسير علينا.

وبعد ذلك يشير اشارة خفية الى اثبات ما يحدث في يوم القيامة من سير الجبال وتناثرها، وتشقق السموات وتهيؤ جهنم، ومنح الجنة أهلها الرياض الجميلة. وكأنه يقول:

ان الذي يفعل هذه الأفعال في الجبال والأرض بمرآى منكم سيفعل مثلها في الآخرة.

أي ان ما في بداية السورة من جبال تشير الى احوال الجبال يوم القيامة، وان الحدائق التي في صدر السورة تشير الى رياض الجنة في الآخرة.

فقس سائر النقاط على هذا لتشاهد علو الاسلوب ومدى لطافته.

C ومثلاً:

] قل اللّهّمَّ مالكَ الملكِ تؤتي الملكَ مَن تَشاءُ وتنزعُ الملكَ ممن تشاءُ وتعزُّ من تشاءُ وتذّل من تشاء بيدك الخيرُ انَّكَ على كل شئٍ قدير ^ تولجُ الَّيلَ في النهار وتولج النهار في الّيل وتُخرجُ الحيَّ مِن الميتِ وتخرجُ الميتَ من الحيِّ وترزقُ مَن تشاءُ بغيرِ حِسابٍ[ (آل عمران: 26ـ27)

هذه الآية تبين باسلوب عالٍ رفيع: ما في بني الانسان من شؤون إلهية، وما في تعاقب الليل والنهار من تجليات إلهية، وما في فصول السنة من تصرفات ربانية، وما في الحياة والممات والحشر والنشر الدنيوي على وجه الارض من اجراءات ربانية.. هذا الاسلوب عالٍ وبديع الى حد يسخّر عقول اهل النظر. وحيث أن هذا الاسلوب العالي ساطع يمكن رؤيته بأدنى نظر فلا نفتح الآن هذا الكنز.

C ومثلاً:

] اذا السماءُ انشقّت ^ واَذِنَتْ لربِّها وحُقّت^ واذا الارضُ مُدّت^ وألقتْ ما فيها وتخلّت^ وأذنتْ لربها وحُقت[ (سورة الانشقاق: 1ـ5)

تبين هذه الايات مدى انقياد السموات والارض وامتثالهما أوامر الله سبحانه، تبينها باسلوب عالٍ رفيع؛ اذ كما ان قائداً عظيماً يؤسس دائرتين عسكريتين لأنجاز متطلبات الجهاد؛ كشُعَب المناورة والجهاد، وشُعَب التجنيد والسَوق الى الجهاد، وانه حالما ينتهي وقت الجهاد والمناورة يتوجه الى تينك الدائرتين ليستعملهما في شؤون اخرى، فقد انتهت مهمتهما. فكأن كلاً من الدائرتين تقول بلسان موظفيها وخدّامها أو بلسانها لو أُنطقت:

(( يا قائدى أمهلنا قليلاً كي نهئَ اوضاعنا ونطهّر المكان من بقايا اعمالنا القديمة ونطرحها خارجاً.. ثم شرِّف وتفضَّل علينا!)) وبعد ذلك تقول: (( فها قد ألقيناها خارجاً، فنحن طوع امرك، فافعل ما تشاء فنحن منقادون لأمرك. فما تفعله حق وجميل وخير)) .

فكذلك السموات والارض دائرتان فتحتا للتكليف والامتحان، فعندما تنقضي المدة، تخلّي السموات والأرض باذن الله ما يعود إلى دائرة التكليف، ويقولان: يا ربنا استخدمنا فيما تريد، فالامتثال حق واجب علينا، وكل ما تفعله هو حق.

فانظر الى سمو هذا الاسلوب الخارق في هذه الجمل وأنعم النظر فيه.

C ومثلاً:

] يا أرضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي، وغيضَ الماءُ وقـضيَ الأمرُ واستوتْ على الجوديّ، وقيلَ بُعداً للقوم الظالمين[ (هود: 44)

للاشارة الى قطرة من بحر بلاغة هذه الآية الكريمة نبين اسلوباً منها في مرآة التمثيل، وذلك:

ان قائداً عظيماً في حرب عالمية شاملة يأمر جيشه بعد إحراز النصر: اوقفوا اطلاق النار ويأمر جيشه الآخر: كفوا عن الهجوم. ففي اللحظة نفسها ينقطع اطلاق النار ويقف الهجوم، ويتوجه اليهم قائلاً: لقد انتهى كل شئ واستولينا على الأعداء وقد نصبتْ راياتنا على قمة قلاعهم ونال اولئك الظالمون الفاسدون جزاءهم وولوا الى اسفل سافلين.

كذلك، فان السلطان الذي لا ندّ له ولا مثيل، قد أمر السموات والارض باهلاك قوم نوح. وبعد أن امتثلا الأمر توجه اليهما: ايتها الارض ابلعي ماءَك، وانتِ ايتها السماء اسكني واهدأي فقد انتهت مهمتكما. فانسحب الماء فوراً من دون تريث واستوت سفينة المأمور الإلهي كخيمة ضربت على قمة جبل. ولقي الظالمون جزاءهم.

فانظر الى علو هذا الاسلوب، اذ الارض والسماء كجنديين مطيعين مستعدين للطاعة وتلقي الاوامر. فتشير - الآية - بهذا الاسلوب الى ان الكائنات تغضب من عصيان الانسان وتغتاظ منه السموات والارض. وبهذه الاشارة تقول: (( ان الذي تمتثل السموات والأرض بأمره لا يُعصى ولا ينبغي ان يُعصى)) مما يفيد زجراً شديداً رادعاً للأنسان. فأنت ترى ان الآية قد جمعت ببيان موجز معجز جميل مجملٍ في بضع جمل حادثة الطوفان التي هي عامةٌ وشاملة مع جميع نتائجها وحقائقها.

فقس قطرات هذا البحر الاخرى على هذه القطرة.

والان انظر الى الاسلوب الذي يريه(القرآن) من نوافذ الكلمات:فمثلاً الى كلمة (( كالعرجون القديم)) في الآية الكريمة :] والقمرَ قدّرناهُ منازلَ حتى عادَ كالعرجونِ القديم[ (يس:39) كيف تعرض اسلوباً في غاية اللطف، وذلك:

ان للقمر منزلاً هو دائرة الثريا. حينما يكون القمر هلالاً فيه يشبه عرجوناً قديماً ابيض اللون. فتضع الآية بهذا التشبيه امام عين خيال السامع، كأن وراء ستار الخضراء(1) شجرة شق احدُ اغصانها النورانية المدببة البيضاء ذلك الستار ومدّ رأسه الى الخارج، والثريا كأنها عنقود معلق فيه. وسائر النجوم كالثمرات النورانية لشجرة الخلقة المستورة. ولا جرم فان عرض الهلال بهذا التشبيه لاولئك الذين مصدر عيشهم ومعظم قوتهم من النخيل هو اسلوب في غاية الحُسن واللطافة وفي منتهى التناسق والعلو. فإن كنت صاحب ذوق تدرك ذلك.

C ومثلاً:

كلمة ((تجري)) في الآية الكريمة ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس:38) تفتح نافذة لاسلوب عالٍ - كما اثبت في ختام الكلمة التاسعة عشرة - وذلك:

ان لفظ ((تجري)) الذي يعنى دوران الشمس، يفهّم عظمة الصانع الجليل بتذكيره تصرفات القدرة الإلهية المنتظمة في دوران الصيف والشتاء وتعاقب الليل والنهار، ويلفت الانظار الى المكتوبات الصمدانية التي كتبها قلم القدرة الإلهية في صحائف الفصول، فيعلّم حكمة الخالق ذي الجلال.

وان قوله تعالى ] وجعل الشمس سراجاً[ (نوح: 16) اي مصباحاً، يفتح بتعبير ((سراجاً)) نافذةً لمثل هذا الاسلوب وهو:

انه يُفهِّم عظمة الصانع واحسان الخالق بتذكيره: ان هذا العالم كأنه قصر، وان ما فيه من لوازم واطعمة وزينة قد اُعدت للأنسان وذوي الحياة، وان الشمس أيضاً ما هي إلاّ مصباح مسخر. فيبين بهذا دليلاً للتوحيد، إذ الشمس التي يتوهمها المشركون اعظم معبود لديهم وألمعها ما هي إلاّ مصباح مسخّر ومخلوق جامد.

فاذاً بتعبير ((سراجاً)) يذكّر رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، ويفهّم احسانه في سعة رحمته، ويُشعر - بذلك الافهام - بكرمه في عظمة سلطانه، ويفّهم الوحدانية بهذا الإشعار. وكأنه يقول: ان مصباحاً مسخراً وسراجاً جامداً لا يستحق العبادة بأي حال من الأحوال.

ثم ان جريان الشمس بتعبير ((تجري)) يذكّر بتصرفات منتظمة مثيرة للاعجاب في دوران الصيف والشتاء والليل والنهار، ويفهّم بذلك التذكير عظمة قدرة الصانع المتفرد في ربوبيته. بمعنى أنه يصرف ذهن الانسان من الشمس والقمر الى صحائف الليل والنهار والصيف والشتاء، ويجلب نظره الى ما في تلك الصحائف من سطور الحادثات المكتوبة.

أجل! ان القرآن لا يبحث في الشمس لذات الشمس بل لمن نوّرها وجعلها سراجاً، ولا يبحث في ماهيتها التي لا يحتاجها الانسان، بل في وظيفتها، اذ هي تؤدي وظيفة نابض (زنبرك) لانتظام الصنعة الربانية، ومركز لنظام الخلقة الربانية، ومكّوك لإنسجام الصنعة الربانية، في الأشياء التي ينسجها المصوّر الازلي بخيوط الليل والنهار.

ويمكنك ان تقيس على هذا سائرَ الكلمات القرآنية فهي وإن كانت تبدو كأنها كلمات مألوفة بسيطة، إلاّ أنها تؤدي مهمة مفاتيح لكنوز المعاني اللطيفة.

وهكذا فلعلو اسلوب القرآن - كما في الوجوه السابقة في الأغلب - كان الأعرابي يعشق كلاماً واحداً منه احياناً، فيسجد قبل ان يؤمن، كما سمع احدهم الآية الكريمة ] فاصدع بما تؤمر[ (الحجر 94) فخرَّ ساجداً، فلما سئل: أأسلمت؟ قال: لا بل اسجد لبلاغة هذا الكلام!

النقطة الرابعة:

الفصاحة الخارقة في لفظه. نعم، إن القرآن كما هو بليغ خارق من حيث اسلوبه وبيان معناه، فهو فصيح في غاية السلاسة في لفظه. والدليل القاطع على فصاحته هو عدم ايراثه السأم والملل. كما ان شهادة علماء فن البيان والمعاني برهان باهر على حكمة فصاحته.

نعم! لو كرّر الوف المرات فلا يورث سأماً ولا مللاً. بل يزيد لذةً وحلاوة.. ثم أنه لا يثقل على ذهن صبي بسيط فيستطيع حفظه.. ولا تسأم منه أذن المصاب بداء عضال الذي يتأذى من ادنى كلام، بل يتلذذ به.. وكأنه الشراب العذب في فم المحتضر الذي يتقلب في السكرات، وهو لذيذ في اذنه ودماغه لذة ماء زمزم في فمه.

والحكمة في عدم الملل والسأم من القرآن هو:

ان القرآن قوتٌ وغذاء للقلوب، وقوة وغناء للعقول، وماء وضياء للارواح، ودواء وشفاء للنفوس، لذا لا يُمَلّ. مثاله الخبز الذي نأكله يومياً دون ان نملّ، بينما لو تناولنا اطيب فاكهة يومياً لشعرنا بالملل. فإذاً لأن القرآن حق وحقيقة وصدق وهدى وذو فصاحة خارقة فلا يورث الملل والسآمة ، وانما يحافظ على شبابيته دائماً كما يحافظ على طراوته وحلاوته، حتى ان أحد رؤساء قريش وبلغائها عندما ذهب الى الرسول الكريم ليسمع القرآن، قال بعد سماعه له: (( والله ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة .. وما يقوله بشر. ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل اعلم بالشعر مني.. ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا)).

فلم يبق امامهم إلاّ ان يقولوا انه ساحر، ليغرروا به أتباعهم ويصدوهم عنه. وهكذا يبقى حتى أعتى اعداء القرآن مبهوتاً أمام فصاحته.

ان ايضاح اسباب الفصاحة في آيات القرآن الكريم وفي كلامه وفي جمله يطول كثيراً، فتفادياً من الإطالة نُقصر الكلام على اظهار لمعة اعجاز تتلمع من اوضاع الحروف الهجائية وكيفياتها في آية واحدة فقط، على سبيل المثال وهي: قوله تعالى: ] ثم اَنزلَ عليكم مِن بعدِ الغمّ اَمنةً نُعاسَاً يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّـتْهُم أنفسهم يظنونَ بالله غيرَ الحقِ ظنَّ الجاهليةِ يقولون هل لنا من الأمِر من شئٍ، قُل ان الأمرَ كلَّّه لله يُخفون في أنفسهم ما لا يُبْدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُـتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرزَ الذين كُتبَ عليهم القتلُ الى مـضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم ولـــيمــحـّص مـــا في قـــلوبـكـم والله علـيم بـذات الصــــدور[ (آل عمران: 154)

لقد جمعت هذه الآية جميع حروف الهجاء واجناس الحروف الثقيلة، ومع ذلك لم يفقدها هذا الجمع سلاستها بل زادها بهاءً الى جمالها ومزج نغمة من الـفصاحة نبعت من اوتار متناسبة متنوعـة.

فأنعم النظر في هذه اللمعة ذات الاعجاز وهي: أن الألف والياء لأنهما أخف حروف الهجاء، وتنقلب إحداهُما بالاخرى كأنهما اختان، تكرّر كلٌ منهما احدى وعشرين مرة.. وان الميم والنون(1) لأنهما اختان، ويمكن ان تحل احداهما محل الأخرى فقد ذُكر كلٌ منهما ثلاثاً وثلاثين مرةً.. وان الصاد والسين والشين متآخية حسب المخرج والصفة والصوت فذُكر كل واحد منها ثلاث مرات.. وان العين والغين متآخيتان فذكر العين ست مرات لخفتها بينما الغين لثقلها ذُكرت ثلاث مرات أي نصفه.. وان الطاء والظاء والذال والزاي، متآخية حسب المخرج والصفة والصوت، فذكر كل واحد منها مرتين.. وان اللام والالف متحدتان في صورة (لا)، وان حصة الالف نصف في صورة (لا) فذُكرت اللام اثنتين واربعين مرة، وذُكرت الالف - نصفها - احدى وعشرين مرة .. وان الهمزة والهاء متآخيتان حسب المخرج فذكرت الهمزة ثلاث عشرة مرة(2) والهاء اربع عشرة مرة لكونها أخفّ منها بدرجة.. وان القاف والفاء والكاف متآخية، فذُكرت القاف عشر مرات لزيادة نقطة فيها، وذكرت الفاء تسع مرات والكاف تسع.. وان الباء ذُكرت تسع مرات، والتاء ذُكرت اثنتا عشرة مرة، لأن درجتها ثلاثة.. وان الراء اخت اللام . ولكن الراء مئتان واللام ثلاثون حسب حساب " ابجدية الجمل " أي ان الراء فوق اللام بست درجات فأنخفضت عنها بست درجات. وايضاً الراء تتكرر كثيراً في التلفظ، فيثقل، فذُكرت ست مرات فقط.. ولأن الخاء والحاء والثاء والضاد ثقيلة وبينها مناسبات ذكر كل منها مرة واحدة.. ولأن الواو أخف من ((الهاء والهمزة)) واثقل من ((الياء والالف)) ذُكرت سبع عشرة مرة فوق الهمزة الثقيلة باربع درجات وتحت الالف الخفيفة باربع درجات ايضاً.

وهكذا فان هذه الحروف بهذا الوضع المنتظم الخارق، مع تلك المناسبات الخفية، والانتظام الجميل، والنظام الدقيق، والانسجام اللطيف تثبت بيقين جازم كحاصل ضرب اثنين في اثنين يساوي اربعاً: أنه ليس من شأن البشر ولا يمكنه أن يفعله. أما المصادفة فمحال ان تلعب به.

هذا فإن ما في اوضاع هذه الحروف من الانتظام العجيب والنظام الغريب مثلما هو مدار للفصاحة والسلاسة اللفظية، يمكن ان تكون له حِكم كثيرة اخرى.

فما دام في الحروف هذا الانتظام، فلا شك انه قد روعي في كلماتها وجملها ومعانيها إنتظام ذو أسرار، وانسجام ذو أنوار، لو رأته العين لقالت من اعجابها: ما شاء الله، واذا ادركه العقل لقال من حيرته: بارك الله.

النقطة الخامسة:

براعة البيان: أي التفوق والمتانة والهيبة، اذ كما ان في نظم القرآن جزالة، وفي لفظه فصاحة، وفي معناه بلاغة، وفي اسلوبه إبداعاً، ففي بيانه ايضاً براعة فائقة.

نعم! ان بيان القرآن لهو في أعلى مرتبة من مراتب طبقات الخطاب واقسام الكلام: كالترغيب والترهيب، والمدح والذم، والاثبات والارشاد، والافهام والافحام.

فمن بين الآف امثلة مقام ((الترغيب والتشويق)) سورة ((الانسان))، إذ بيان القرآن في هذه السورة سلس ينساب كالسلسبيل، ولذيذ كثمار الجنة، وجميل كحلل الحور العين(1).

ومن بين الأمـثلة التي لاتحد لمقام ((الترهيب والتهديد)) مقـدمة ســورة ((الغاشية)) اذ بيان القرآن في هذه السورة يؤثر تأثير غليان الرصاص في صماخ الضالين، ولهيب النار في عقولهم، وكالزقوم في حلوقهم، وكلفح جهنم في وجوههم، وكالضريع الشائك في بطونهم.

نعم، إن كانت مأمورةُ العذاب جهنم ] تكاد تميز من الغيظ[ فكيف يكون تهديد وترهيب آمرها بالعذاب؟

ومن بين الآف امثلة مقام ((المدح)) السور الخمس المستــهلة بـ((الحمد لله))؛ اذ بيان القرآن في هذه السور ساطع كالشمس(2)، مزّين كالنجوم، مهيب كالسموات والارض، محبوب مأنوس كالملائكة، لطيف رؤوف كالرحمة على الصغار في الدنيا، وجميل بهيج كالجنة اللطيفة في الآخرة.

ومن بين آلاف امثلة مقام ((الذم والزجر)) الآية الكريمة:

] أيحبُ احدكُم انْ يأكل لحم اخيهِ ميتاً فكرهتُموه[ . (الحجرات:12)

تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مراتب وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث ان خطاب الآية موجه الى المغتابين، فيكون المعنى كالاتي:

ان الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الانكاري حيث يسري حكمه ويسيل كالماء الى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حكماً.

ففي الكلمة الاولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة:

أليس لكم عقل - وهو محل السؤال والجواب - ليعي هذا الامر القبيح؟

وفي الكلمة الثانية: ((ايحب)) تخاطب الآية بالهمزة:

هل فسد قلبكم - وهو محل الحب والبغض - حتى أصبح يحب اكره الاشياء واشدها تنفيراً.

وفي الكلمة الثالثة: ((احدكم)) تخاطب بالهمزة:

ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية - التي تستمد حيويتها من حيوية الجماعة - وما بال مدنيتكم وحضارتكم حتى اصبحت ترضى بما يسمم حياتكم ويعكر صفوكم.

وفي الكلمة الرابعة: ((ان يأكل لحم)) تخاطب بالهمزة:

ماذا اصابت انسانيتكم؟ حتى اصبحتم تفترسون صديقكم الحميم.

وفي الكلمة الخامسة: ((اخيه)) تخاطب بالهمزة:

اليس بكم رأفة ببني جنسكم، أليس لكم صلة رحم تربطكم معهم، حتى اصبحتم تفتكون بمن هو اخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصه المعنوي المظلوم نهشاً قاسياً ، ايملك عقلاً من يعض عضواً من جسمه؟ اوَليس هو بمجنون؟.

وفي الكملة السادسة: ((ميتاً)) تخاطب بالهمزة:

اين وجدانكم؟ أفسدت فطرتكم حتى اصبحتم تجترحون ابغض الاشياء وافسدها - وهو أكل لحم اخيكم - في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير.

يفهم من هذه الآية الكريمة - وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها - ان الغيبة مذمومة عقلاً وقلباً وانسانية ووجداناً وفطرة وملةً.

فتدبر هذه الآية الكريمة، وانظر كيف انها تزجر عن جريمة الغيبة باعجاز بالغ وبايجاز شديد في ست مراتب.

ومن بين آلاف امثلة مقام ((الاثبات)) الآية الكريمة:

] فانظر الى آثارِ رحمتِ الله كيفَ يحيى الأرضَ بعدَ موتِها انّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلِّ شيء قديرٌ[ (الروم:50) فانها تثبت الحشر وتزيل استبعاده ببيانٍ شافٍ وواف لا بيان فوقه. وذلك كما اثبتنا في الحقيقة التاسعة من الكلمة العاشرة وفي اللمعة الخامسة من الكلمة الثانية والعشرين بأنه: كلما حلّ موسم الربيع، فكأن الأرض تُبعث من جديد بانبعاث ثلاثمائة الف نوع من انواع الحشر والنشور، في انتظام متقن وتمييز تام علماً انها في منتهى الاختلاط والتشابك، حتى يكون ذلك الإحياء والبعث ظاهراً لكل مشاهد، وكأنه يقول له: ان الذي أحيا الأرضَ هكذا لن يصعب عليه اقامة الحشر والنشور. ثم أن كتابة هذه الالوف المؤلفة من انواع الاحياء على صحيفة الأرض بقلم القدرة دون خطأ ولا نقص لهي ختم واضح للواحد الأحد،فكما أثبتت هذه الآية الكريمة التوحيدَ، تثبت القيامة والحشر ايضاً مبينةً ان الحشر والنشور سهل على تلك القدرة وقطعي ثابت كقطعية ثبوت غروب الشمس وشروقها.

ثم ان الآية الكريمة اذ تبين هذه الحقيقة بلفظ ((كيف)) أي من زاوية الكيفية فان سوراً اخرى كثيرة قد فصّلت تلك الكيفية منها: سورة ((ق)) مثلاً: فانها تثبت الحشر والقيامة ببيان رفيع جميل باهر يفيد انه لا ريب في مجئ الحشر كما لا ريب فيمجئ الربيع - فتأمل في جواب القرآن الكفارَ المنكرين وتعجبهم من احياء العظام وتحولها الى خلق جديد، اذ يقول لهم:

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهُم كيفَ بنيناها وزينّاها ومالها من فروج^ والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كلٍّ زوجٍ بهيج^ تبصرةً وذكرى لكلّ عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا بهِ جنّاتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد ^ رزقاً للعبادِ واحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق: 6ـ11)

فهذا البيان يسيل كالماء الرقراق، ويسطع كالنجوم الزاهرة، وهو يطعم القلب ويغذّيه بغذاء حلو طيب كالرطب. فيكون غذاء ويكون لذة في الوقت نفسه.

ومن ألطف امثلة مقام ((الاثبات)) هذا المثال:

] يس^ والقرآنِ الحكيم ^ إنك لمن المرسلين[ (يس : 1ــ3) . هذا القَسَم يشير الى حجية الرسالة وبرهانها بيقين جازم وحق واضح حتى بلغت في الحقانية والصدق مرتبة التعظيم والإجلال، فيُقْسَم به.

يقول القرآن الكريم بهذه الاشارة: انك رسول لأن في يدك قرآناً حكيماً، والقرآن نفسه حق وكلام الحق لأن فيه الحكمة الحقة وعليه ختم الاعجاز.

ونذكر من امثلة مقام ((الاثبات)) ذات الاعجاز والايجاز هذه الآية الكريمة:] قال من يحيى العظامَ وهي رميمٌ^ قلْ يحييها الذي أنشأها أولَ مرةٍ وهو بكلّ خلقٍ عليم[ (يس: 78 - 79 ).

ففي المثال الثالث من الحقيقة التاسعة للكلمة العاشرة تصوير لطيف لهذه المسألة، على النحو الآتي:

ان شخصاً عظيماً يستطيع ان يشكّل - أمام انظارنا - جيشاً ضخماً في يوم واحد. فاذا قال احدهم: ان هذا الشخص يمكنه ان يجمع جنود طابوره المتفرقين للاستراحة ببوق عسكري فينتظم له الطابور حالاً. وانت ايها الانسان إن قلت: لا اصدق!! تدرك عندئذٍ مدى بعد انكارك عن العقل.

والأمر كذلك (ولله المثل الاعلى): ان الذي يبعث أجساد الاحياء قاطبة من غير شئ كأنها أفراد جيش ضخم بكمال الانتظام وبميزان الحكمة، ويجمع ذرات تلك الاجساد ولطائفها ويحفظها بأمر ((كن فيكون)) في كل قرن، بل في كل ربيع، على وجه الارض كافة، ويوجِد مئات الالوف من امثالها من انواع ذوي الحياة. ان القدير العليم الذي يفعل هذا هل يمكن أن يستبعد منه جمع الذرات الاساسية والاجزاء الاصلية المتعارفة تحت نظام الجسد كأنها افراد جيش منظم، بصيحة من صور اسرافيل؟ إن استبعاد هذا من ذلكم القدير العليم لا محالة جنون!

وفي مقام ((الارشاد)) فان البيانات القرآنية مؤثرة ورفيعة ومؤنــسة ورقيقة حتى أنها تملأ الروح شوقاً والعقل لهفة والعين دمعاً. فلنأخذ هذا المثال من بين الآف امثلته:

] ثم قسَتْ قُلوبكُم منْ بعدِ ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُّ قسوةً وانَّ من الحجارة لَمَا يتفجّر منه الانهارُ وانّ منها لَمَا يشّقّـق فيخرجُ منه الماءُ وانّ منها لما يهبطُ من خشية الله وما الله بغافلٍ عما تعملون[ (البقرة: 74) فكما اوضحنا واثبتنا في مبحث الآية الثالثة من ((المقام الاول للكلمة العشرين)) فان الآية هذه تخاطب بني اسرائيل قائلة: ماذا اصابكم يا بني اسرائيل حتى لا تبالون بجميع معجزات موسى عليه السلام، فعيونكم شاخصة جافة لا تدمع، وقلوبكم قاسية غليظة لا حرارة فيها ولا شوق، بينما الحجارة الصلدة القاسية قد ذرفت الدموع من اثنتي عشرة عيناً بضربة من عصا موسى - عليه السلام - وهي معجزة واحدة من معجزاته!

نكتفي بهذا القدر هنا ونحيل الى تلك الكلمة حيث وُضّح هذا المعنى الارشادى ايضاحاً كافياً.

وفي مقام ((الافحام والالزام)) تأمل في هذين المثالين فحسب من بين الآف امثلته.

C المثال الاول:

] وان كنتم في ريبٍ مما نزّلنا على عَبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءَكُم من دون الله إن كنتم صادقين[ (البقرة:23)

سنشير هنا اشارة مجملة فحسب، اذ قد اوضحناه واثبتناه واشرنا اليه في ((اشارات الاعجاز)) وهو:

ان القرآن المعجز البيان يقول: يا معشر الانس والجن إن كانت لديكم شبهة في أن القرآن ليس كلام الله، وتتوهمون انه من كلام بشر. فهيا، فها هو ميدان التحدي. فأتوا بقرآنٍ مثل هذا يصدر عن شخص أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، مثل محمد الذي تصفونه انتم بـ ((الأمين))..

فان لم تفعلوا هذا فأتوا به من غير أمي، وليكن بليغاً أو عالماً..

فان لم تفعلوا هذا فأتوا به من جماعة من البلغاء وليس من شخص واحد، بل اجمعوا جميع بلغائكم وخطبائكم والآثار الجيدة للسابقين منهم ومدد اللاحقين وهمم شهدائكم وشركائكم من دون الله، وابذلوا كل ما لديكم حتى تأتوا بمثل هذا القرآن..

فان لم تفعلوا هذا فاتوا بكتابٍ في مثل بلاغة القرآن ونظمه،بصرف النظر عن حقائقه العظيمة ومعجزاته المعنوية.

بل القرآن قد تحداهم بأقل من هذا اذ يقول:] فاتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات[ (هود:13) أي ليس ضرورياً صدق المعنى فلتكن اكاذيب مفتريات.

وان لم تفعلوا، فليكن عشر سور منه وليس ضرورياً كل القرآن..

وان لم تفعلوا هذا، فأتوا بسورة واحدة من مثله فحسب، وان كنتم ترون هذا ايضاً صعباً عليكم، فلتكن سورة قصيرة..

واخيراً ما دمتم عاجزين لا تستطيعون ان تفعلوا ولن تفعلوا مع انكم في أمسّ الحاجة الى الاتيان بمثيله، لأن شرفكم وعزتكم ودينكم وعصبيتكم واموالكم وارواحكم ودنياكم واخراكم انما تصان باتيان مثله، والاّ ففي الدنيا يتعرض شرفكم ودينكم الى الخطر وتسامون الذل والهوان وتُهدر أموالكم، وفي الآخرة تصيرون حطباً للنار مع اصنامكم ومحكومين بالسجن الابدي ] فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة[ (البقرة: 24).

فما دمتم قد عرفتم عجزكم بثماني مراتب، فلابد ان تعرفوا ان القرآن معجز بثماني مراتب فإما ان تؤمنوا به أو تسكتوا نهائياً وتكون جهنم مثواكم وبئس المصير.

وبعد ما عرفت بيان القرآن هذا والزامه في مقام ((الافحام)) قل: حقاً انه ((ليس بعد بيان القرآن بيان)).

C المثال الثاني:

] فذكّر فما انتَ بنعمتِ ربّك بكاهنٍ ولا مجنون ^ أم يقولون شاعرٌ نتربّصُ به ريبَ المنون ^ قُل تربصوا فاني معكم من المتربصين ^ أم تأمرُهُم احلامُهم بهذا أم هم قوم طاغون ^ أم يقولون تَقَوّله بل لا يؤمنون ^ فليأتوا بحديثٍ مثله ان كانوا صادقين ^ ام خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون^ أم خَلقوا السموات والارض بل لا يـُوقنون^ أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ^ أم لهم سلّمٌ يستمعون فيه فليأتِ مستمعُهم بسلطانٍ مبين ^ أم له البنات ولكم البنونَ^ أم تسئلهم اجراً فهم من مغْرَم مُثقلون^ أم عندهم الغيبُ فهم يكتبون ^ أم يُريدون كيداً فالذين كفروا هم الـمَكيدون ^ أم لهم إلهٌ غيرُ الله سبحان الله عما يشركون[ (الطور: 29 - 43)

من بين الآف الحقائق التي تتضمنها هذه الآيات الجليلة سنبين حقيقة واحدة فقط مثالاً للإلزام وإفحام الخصم. كالآتي:

ان هذه الايات الكريمة تُلزم جميع اقسام اهل الضلالة وتسكتهم، وتسدّ جميع منابت الشبهات وتزيلها، وذلك بلفظ: أم .. أم، بخمس عشرة طبقة من الاستفهام الانكاري التعجبي، فلا تدع ثغرة شيطانية ينزوي فيها اهل الضلالة إلاّ وتسدها، ولا تدع ستاراً يتسترون تحته إلاّ وتمزقه، ولا تدع كذباً من اكاذيبهم إلاّ وتفنّده. فكل فقرة من فقراتها تبطل خلاصة مفهوم كفرٍ تحمله طائفة من الطوائف الكافرة؛ إما بتعبير قصير وجيز، أو بالسكوت عنه واحالته الى بداهة العقل لظهور بطلانه، أو باشارة مجملة إذ قد رُدّ ذلك المفهوم الكفري واُفحم في موضع آخر بالتفصيل. فمثلاً:

الفقرة الاُولى تشير الى الآية الكريمة ] وما عَلّمناهُ الشعرَ وما ينبغي له[ أما الفقرة الخامسة عشرة فهي ترمز الى الآية الكريمة ] لو كانَ فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[ . قس بنفسك سائر الفقرات في ضوء هذه الفقرة، وذلك:

ففي المقدمة تقول: بلّغ الاحكام الآلهية، فانك لستَ بكاهنٍ، لان كلام الكاهن ملفّق مختلط لا يعدو الظن والوهم، بينما كلامك هو الحق بعينه وهو اليقين.. وذكّر بتلك الاحكام فلستَ مجنوناً قط، فقد شهد اعداؤك كذلك على كمال عقلك.

] أم يقولون شاعرٌ نتربصُ بهِ ريبَ المنون[ فيا عجباً! أيقولون لك: شاعر، كالكفار العوام الذين لا يحتكمون الى العقل! أوَهم ينتظرون هلاكك وموتك! قل لهم: انتظروا وأنا معكم من المنتظرين.فان حقائقك العظيمة الباهرة منزّهة عن خيالات الشعر ومستغنية عن تزييناته.

] أم تأمُرهم أحلاُمهم بهذا[ : أم أنهم يستنكفون عن اتباعك كالفلاسفة المعتدين بعقولهم الفارغة؟؛ الذين يقولون: كفانا عقلنا. مع أن العقل نفسه يأمر باتباعك، فما من قول تقوله إلاّ وهو معقول، ولكن لا يبلغه العقل بمفرده.

] أم هم قوم طاغون[ أم ان سبب انكارهم هو عدم رضوخهم للحق كالطغاة الظلمة؟ مع أن عقبى الجبارين العتاة من فراعنة ونماريد معلومة لا تخفى على أحد.

] أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون[ . أم أنهم يتهمونك بأن القرآن كلام من عندك، كما يقول المنافقون الكاذبون الذين لا ضمير لهم ولا وجدان؟ مع أنهم هم الذين يدعونك الى الآن بـ ((محـمد الأمين)) لصدق كلامك. فاذاً لا ينـوون الايـمان. وإلاّ فليجدوا في آثار البشر مثيلاً للقرآن.

] أم خُلقوا من غير شئ[ أم أنهم يعدّون أنفسهم سائبين، خُلقوا سدىً بلا غاية ولا وظيفة ولا خالق لهم ولا مولى؟ . ويعتقدون الكونَ كله عبثاً كما يعتقد به الفلاسفة العبثيون! أفعَميتْ ابصارهم؟ افلا يرون الكون كله من اقصاه الى اقصاه مزيّناً بالحِكَم ومثمراً بالغايات، والموجودات كلها من الذرات الى المجرات مناطة بوظائف جليلة ومسخرة لأوامر آلهية.

] أم هم الخالقون[ أم أنهم يظنون أن الاشياء تتشكل بنفسها وتُربّى بنفسها وتخلق لوازمها بنفسها كما يقول الماديون المتفرعنون! حتى غدوا يستنكفون من الايمان والعبودية لله، فاذاً هم يظنون أنفسهم خالقين. والحال: ان خالق شئٍ واحد يلزم ان يكون خالقاً لكل شئ. فلقد دفعهم اذن غرورُهم وعتوّهم الى منتهى الحماقة والجهل حتى ظنوا أن مَن هو عاجز امام أضعف مخلوق - كالذباب والميكروب - قادرٌ مطلق! فما داموا قد تخلّوا الى هذا الحد عن العقل وتجردوا من الانسانية، فهم اذاً اضلّ من الأنعام بل أدنى من الجمادات.. فلا تهتم لإنكارهم، بل ضعهم في عداد الحيوانات المضرة والمواد الفاسدة. ولا تلقِ لهم بالاً ولا تلتفت اليهم أصلاً.

] أم خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون[ أم يجحدون وجود الله تعالى كالمعطلة الحمقى المنكرين للخالق؟ فلا يستمعون للقرآن! فعليهم اذاً ان ينكروا خلق السموات والارض، أو يقولوا:

نحن الخالقون؛ ولينسلخوا من العقل كلياً وليدخلوا في هذيان الجنون، لأن براهين التوحيد واضحة تُقرأ في أرجاء الكون بعدد نجوم الســماء وبعـدد ازاهير الارض، كلها تدل عـلــى وجــوده تعــالى وتفــصــح عنه. فاذاً لا يرغبــون في الرضــوخ الى الحق واليقين، والاّ فكيف ظنوا ان كتاب الكون العظيم هذا الذي تندرج في كل حرف منه الوف الكتب أنه دون كاتب، مع أنهم يعلمون جيداً أن حرفاً واحداً لا يكون دون كاتب؟

] أم عندهم خزائن ربك[ أم أنهم ينفون الارادة الآلهية كبعض الفلاسفة الضالين او ينكرون اصل النبوة كالبراهمة، فلا يؤمنون بك! فعليهم اذاً ان ينكروا جميع آثار الحِكَم والغايات الجليلة والانتظامات البديعة والفوائد المثمرة واثار الرحمة الواسعة والعناية الفائقة الظاهرة على الموجودات كافة، والدالة على الارادة الآلهية واختيارها، وعليهم ان ينكروا جميع معجزات الانبياء عليهم السلام، أو عليهم أن يقولوا: أن الخزينة التي تفيض بالاحسان على الخلق اجمعين هي عندنا وبايدينا. وليُسْفِروا عن حقيقتهم بأنهم لا يستحقون الخطاب، ولا هم أهلٌ له. اذاً فلا تحزن على انكارهم. فلله حيوانات ضالة كثيرة.

] أم هم المصيطرون[ أم أنهم توهموا أنفسهم رقباء على اعمال الله تعالى؟ أفَيريدون ان يجعلوه سبحانه مسؤولاً، كالمعتزلة الذين نصبوا العقل حاكماً! فلا تبالِ ولا تكترث بهم إذ لا طائل وراء انكار هؤلاء المغرورين وامثالهم.

] أم لهم سلمٌ يستمعونَ فيه فليأتِ مستمعُهُم بسلطانٍ مبين[ أم أنهم يظنون أنفسهم قد وجدوا طريقاً آخر الى عالم الغيب كما يدّعيه الكهان الذين اتبعوا الشياطين والجان، وكمشعوذي تحضير الارواح؟ أم يظنون أن لديهم سلماً الى السموات التي صُكت ابوابها بوجوه الشياطين، حتى لا يصّدقوا بما تتلقاه من خبر السماء! فانكار هؤلاء الفجرة الكذابين وامثالهم، هو في حكم العدم.

] أم لهُ البناتُ ولكم البنون[ أم أنهم يسندون الشرك الى الأحد الصمد باسم العقول العشرة وارباب الانواع كما يعتقد به فلاسفة مشركون، أو بنوعٍ من الالوهية المنسوبة الى النجوم والملائكة كالصابئة، أو باسناد الولد اليه تعالى كالملحدين والضالين، أو ينسبون اليه الولد المنافي لوجوب وجود الأحد الصمد، ولوحدانيته وصمدانيته وهو المستغني المتعال؟ أم يسندون الأنوثة الى الملائكة المنافية لعبوديتهم وعصمتهم وجنسهم (طبيعتهم)؟ أفَهُم يظنون أنهم بهذا يوجدون شفعاء لأنفسهم، فلا يتّبعونك!؟ ان الانسان الفاني الذي يطلب الوريث المعين، والمطبوع على حب الدنيا الى حدّ الهيام بها، وهو العاجز الفقير الى بقاء نوعه، والمؤهل للتناسل والتكاثر والتجزؤ الجسماني، ذلك التناسل الذي هو رابطة البقاء وآصرة الحياة للمخلوقات كافة.. فاسناد التناسل هذا الى مَن وجودُه واجب وهو الدائم الباقي، الأزلي الأبدي، الذاتي، المنزّه عن الجسمانية، المقدس عن تجزئة الماهية، المتعالي عن ان يمس قدرته العجز، وهو الواحد الأحد الجليل ذو الجلال.. واسناد الاولاد اليه ولاسيما الضعفاء العاجزين أي البنات اللاتي لم يرتضها غرورُ هؤلاء، انما هو نهاية السفسطة ومنتهى الجنون وغاية الهذيان، حتى انه لا حاجة الى تفنيد افتراءاتهم واظهار بطلانهم فلا تنصت اليهم ولا تلق لهم بالاً اذ لا تُسمَع سفسطة كل ثملٍ ولا هذيان كل مجنون.

] أم تسألهم أجراً فهم من مغْرمٍ مُثقلون[ أم أنهم يرون تكاليف العبودية التي تطلبها منهم ثقيلاً عليهم؟ كما يراها الطغاة الباغون الحريصون على الدنيا المعتادون على الخسة فيهربون من تلك التكاليف! ألا يعلمون انك لا تريد منهم أجراً ولا من أحدٍ إلاّ منه سبحانه؟ أيعزّ عليهم التصدق من مال الله الذي اعطاه اياهم ليزداد المال بركة وليحصَّن من حسد الفقراء، ومن الدعاء بالسوء على مالكه؟ فالزكاة بمقدار العُشر أو واحد من اربعين، والتصدق بها على فقرائهم أتعدّ أمراً ثقيلاً حتى يهربوا من الاسلام؟ انهم لا يستحقون حتى الجواب على تكذيبهم، فهو واضح جداً وتافه جداً بل يستحقون التأديب لا الاجابة.

] أم عندهم الغيب فهم يكتبون[ أم أنهم لا يروق لهم ما تتلقاه من اخبار الغيب، فيدّعون معرفة الغيب كالبوذيين وكالعقلانيين الذين يحسبون ظنونهم يقيناً! أعندهم كتاب من الغيب وهو مفتوح لهم يكتبون منه حتى يردّوا كتابك الغيبي!؟ ان ذلك العالَم لا ينزاح حجابُه الاّ للرسل الموحى اليهم، ولا طاقة لأحد بالولوج فيه بنفسه قط.

ولا يستخفنَّك عن دعوتك تكذيب هؤلاء المغرورين المتكبرين الذين تجاوزوا طورهم وتعدّوا حدودهم. فعن قريب ستحطم حقائقُك احلامَهم وتكون أثراً بعد عين.

] أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون[ أم أنهم يريدون أن يكونوا كالمنافقين الذين فسدت فطرتهم وتفسخ وجدانهم، وكالزنادقة المكّارين الذين يصّدون الناس عن الهدى - الذي حرموا منه - بالمكيدة والخـديعـة فيصرفوهم عن سواء السبيل، حتى اطلقوا عليك اسم الكاهن أو المجنون أو الساحر، مع أنهم هم أنفسهم لا يصّدقون دعواهم فكيف بالآخرين؟ فلا تهتم بهؤلاء الكذابين الخداعين ولا تعتبرهم في زمرة الأناسي، بل امضِ في الدعوة الى الله، لا يفترك شئ عنها، فاولئك لا يكيدونك بل يكيدون أنفسهم، ويضرونها بأنفسهم. وما نجاحهم في الفساد والكيد إلاّ أمر مؤقت زائل بل هو استدراج ومكر إلهي.

] أم لهم إلهٌ غيرُ الله سبحان الله عما يُشركون[ أم أنهم يعارضونك ويستغنون عنك لانهم يتوهمون الهاً غير الله يستندون اليه كالمجوس الذين توهموا إلهين اثنين باسم خالق الخير وخالق الشر! أو كعبّاد الاسباب والاصنام الذين يمنحون نوعاً من الالوهية للاسباب ويتصورونها موئل استناد؟ اذاً فقد عميت ابصارهم أفلا يرون هذا الانتظام الاكمل الظاهر كالنهار في هذا الكون العظيم ولا هذا الانسجام الاجمل فيه!..

فبمقتضى قوله تعالى ] لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا[ اذا ما حلّ مختاران في قرية، وواليان في ولاية وسلطانان في بلد، فالانتظام يختل حتماً والانسجام يفسد نهائياً. والحال ان الانتظام الدقيق واضح بدءاً من جناح البعوضة الى قناديل السماء. فليس للشرك موضع ولو بمقدار جناح بعوض. فما دام هؤلاء يمرقون من نطاق العقل ويجافون الحكمة والمنطق ويقومون باعمال منافية كلياً للشعور والبداهة، فلا يصرفك تكذيبهم لك عن التذكير والارشاد.

وهكذا فهذه الايات التي هي سلسلة الحقائق، قد بينا بياناً مجملاً جوهرةً واحدة منها فقط من مئات جواهرها، تلك الجوهرة التي تخص (الالزام والافحام). فلو كانت لي قدرة لأبين عدة جواهر اخرى منها لكنتَ تقول ايضاً: ان هذه الآيات معجزة بحد ذاتها!

أما بيان القرآن في ((الافهام والتعليم)) فهو خارق وذو لطافة وسلاسة، حتى ان ابسط شخص عامي يفهم - بتلك البيانات - اعظم حقيقة واعمقها بيسر وسهولة.

نعم! ان القرآن المبين يرشد الى كثير من الحقائق الغامضة ويعلّم الناس اياها باسلوب سهل وواضح وببيان شافٍ يراعي نظر العوام، من دون ايذاء لشعور العامة ولا إرهاق لفكر العوام ولا ازعاج له، فكما اذا ما حاور انسان صبياً فانه يستعمل تعابير خاصــة به، كــذلــك الاســــاليب القرآنية والتــي تســمى بـ ((التنزلات الإلهية الى عقول البشر)) خطاب ينزل الى مستوى مدارك المخاطبين، حتى يفهّم أشد العوام أمية، من الحقائق الغامضة والاسرار الربانية ما يعجز حكماءٌ متبحرون عن بلوغها بفكرهم؛ وذلك بالتشبيهات والتمثيلات بصور متشابهات.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #34
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

فمثلاً: الآية الكريمة:

] الرحمن على العرشِ استوى[ تبين الربوبية الإلهية وكيفية تدبيرها لشؤون العالم في صورة تمثيل وتشبيه لمرتبة الربوبية بالسلطان الذي يعتلي عرشه ويدير أمر السلطنة.

نعم! لما كان القرآن كلاماً لرب العالمين نزل من المرتبة العظمى لربوبيته الجليلة، مهيمناً على جميع المراتب الاخرى، مرشداً البالغين الى تلك المراتب، مخترقاً سبعين ألف حجاب، ملتفتاً اليها ومنوراً لها، وقد نشر نوره على الاف الطبقات من المخاطبين المتباينين في الفهم والادراك، ونثر فيضه طوال عصور وقرون متفاوتة في الاستعدادات. وعلى الرغم من نشره لمعانيه بسهولة تامة في جميع الانحاء والازمان، احتفظ بحيويته ونداوته ونضارته ولم يفقد شيئاً منها، بل ظل في منتهى الطراوة والجدة واللطافة سهلاً ممتنعاً، اذ مثلما يلقى دروسه على أي عامي كان في غاية السهولة يلقيه على المختلفين في الفهم والمتباينين في الذكاء لكثير جداً من الطبقات المتفاوتة ويرشدهم الى الصواب ويورثهم القناعة والاطمئنان.

ففي هذا الكتاب المبين اينما وجهت نظرك يمكنك ان تشاهد لمعة اعجاز.

حاصل الكلام:

كما ان لفظة قرآنية مثل: ((الحمد لله)) عندما تُتلى تملأ الكهف الذي هو بمثابة اُذن الجبل، فانها تملأ في الوقت نفسه ما تشبه الاُذين الصغيرة جداً لبعوض فتستقر اللفظة نفسها فيهما معاً. كذلك الأمر في معاني القرآن الكريم. اذ مثلما تُشبع عقولاً جبارة، تعلّم عقولاً صغيرة وبسيطة جداً، وتُطمئنها بالكلمات نفسها، ذلك لأن القرآن يدعو جميع طبقات الجن والانس الى الايمان ويعلّم جميعهم علوم الايمان ويثبتها لهم جميعاً، لذا يستمع الى درس القرآن وارشاده اغبى الاغبياء من عامة الناس مع اخص الخواص جنباً الى جنب متكاتفين معاً.

أي أن القرآن الكريم مائدة سماوية تجد فيها الآف من مختلف طبقات الأفكار والعقول والقلوب والارواح غذاءهم، كل حسب ما يشتهيه ويلبّي رغباته. حتى ان كثيراً من أبواب القرآن ظلت مغلقة لتفتح في المستقبل من الزمان.

فإن شئت مثالاً على هذا المقام، فالقرآن كله من بدايته الى نهايته أمثلة لهذا المقام.

نعم، أن تلامذة القرآن والمستمعين لإرشاده من المجتهدين والصديقين وحكماء الاسلام والعلماء المحققين وعلماء اصول الفقه والمتكلمين والاولياء العارفين والاقطاب العاشقين والعلماء المدققين وعامة المسلمين.. كلهم يقولون بالاتفاق ((نحن نتلقى الارشاد على أفضل وجه من القرآن)).

والخلاصة:

أن لمعة اعجاز القرآن تتلمع في هذا المقام ايضاً - مقام الافهام والتعليم - كما هو الحال في سائر المقامات.

الشعاع الثاني

جامعية القرآن الخارقة

لهذا الشعاع خمس لمعات

اللمعة الاولى:

الجامعية الخارقة في لفظه. هذه الجامعية واضحة جلية في الآيات المذكورة في (الكلمات) السابقة وفي هذه (الكلمة).

نعم! ان الالفاظ القرآنية قد وُضعت وضعاً بحيث: أن لكلِ كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكون احياناً وجوهاً كثيرة جداً، تمنح كل مخاطب حظّه ونصيبه من ابواب مختلفة، كما يشير الى ذلك الحديث الشريف، فلكل آية ظهرٌ وبطن وحدّ ومطّلع(1)، ولكلٍ شجون وغصون وفنون(2).

U فمثلاً:

] والجبالَ اوتاداً[ (النبأ: 7)

فحصة عامي من هذا الكلام أنه:

يرى الجبال كالاوتاد المغروزة في الارض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نِعم وفوائد، ويشكر خالقه.

وحصة شاعر من هذا الكلام أنه:

يتخيل أن الارض سهل منبسط، وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزينت الخيمة بمصابيح، وان الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الافق، تمس قممها اذيال السماء، وكأنها اوتاد تلك الخيمة العظيمة. فتغمره الحيرة والاعجاب ويقدس الصانع الجليل.

أما البدوي البليغ فحصته من هذا الكلام أنه:

يتصور سطح الارض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم كثيرة بانواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى أن طبقة التراب عبارة عن غطاء اُلقي على تلك الاوتاد المرتفعة فرفعتها برؤوسها الحادة، جاعلةً منها مساكن مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات.. هكذا يفهم فيسجد للفاطر الجليل سجدة حيرة واعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الارض.

أما الجغرافي الاديب فحصته من هذا الكلام أن:

كرة الارض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي أو الاثيري.وان الجبال أوتاد دقّت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة.. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الارضية الضخمة سفينة منتظمة وأركَبَنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: (سبحانك ما اعظم شأنك).

أما المتخصص في امور المجتمع والملم بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصتهُ من هذا الكلام:

أنه يفهم الارض عبارة عن مسكن، وان عماد حياة هذا المسكن هو حياة ذوي الحياة، وان عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب، التي هي شرائط الحياة. وان عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبال مخازن الماء، مشّاطة الهواء ومصفاته - اذ ترسب الغازات المضرة - وحامية التراب - اذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل - وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الانسان.. هكذا يفهم فيحمد ويقدّس ذلكم الصانع ذا الجلال والاكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة اوتاداً ومخازن معايشنا على الارض التي هي مسكن حياتنا.

وحصة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام:

أنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الارض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سبباً لهدوء الارض واستقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي وكأن الارض تتنفس بمنافذ الجبال فيخفّ غضَبُها وتسكن حدّتها.. هكذا يفهم ويطمئن ويلج في الايمان قائلاً: الحكمة لله.

U ومثلاً: ] ان السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما[ (الانبياء: 30)

ان كلمة ((رتقاً)) في هذه الآية تفيد لمن لم يتلوث بالفلسفة:

السماء كانت صافية لا سحاب فيها. والارض جدباء لا حياة فيها، فالذي فتح ابواب السماء بالمطر وفرش الارض بالخضرة هو الذي خلق جميع ذوي الحياة من ذلك الماء، وكأنه حصل نوع من المزاوجة والتلقيح بينهما، وما هذا إلاّ من شأن القدير ذي الجلال الذي يكون وجه الارض لديه كبستان صغير والسحب التي تحجب وجه السماء معصرات لذلك البستان.. يفهم هكذا فيسجد امام عظمة قدرته تعالى.

وتفيد تلك الكلمة ((رتقاً)) للعالم الكوني:

انه في بدء الخليقة، كانت الارض والسماء كتلتين لا شكل لهما وعجينتين طريتين لا نفع لهما، فبينما هما مادة لا مخلوقات لهما ولا مَن يدب عليهما، بسطهما الفاطر الحكيم بسطاً جميلاً، ومنحهما صوراً نافعة وزينة فاخرة وكثرة كاثرة من المخلوقات.. هكذا يفهم ويأخذه العجب أمام سعة حكمته تعالى.

وتفيد هذه الكلمة للفلاسفة المعاصرين:

ان كرتنا الارضية وسائر السيارات التي تشكل المنظومة الشمسية كانت في البداية ممــتـزجة مـع الشــمــس بشــكل عجينة لم تُفـرش بعــدُ، ففتـّق القادر القـيوم تلك العجينة ومكّن فيها السيارات كلاً في موضعه، فالشمس هناك والارض هنا.. وهكذا. وفرش الارض بالتراب وانزل عليها المطر من السماء، ونثر عليها الضياء من الشمس واسكنها الانسان.. هكذا يفهم ويرفع رأسه من حمأة الطبيعة قائلاً:آمنت بالله الواحد الأحد.

U ومثلاً: ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس: 38): فاللام في (لمستقر) تفيد معنى اللام نفسها ومعنى (في) ومعنى (الى).

فهذه (اللام) يفهمها العوام بمعنى (الى) ويفهم الآية في ضوئها؛ أي:

ان الشمس التي تمنحكم الضوء والحرارة، تجري الى مستقرٍ لها وستبلغه يوماً، وعندها لـن تفيدكم شيئاً. فيتذكر بهذا ما ربط الله سبحانه وتعالى من نعمٍ عظيمة بالشمس، فيحمد ربه ويقدّسه قائلاً: سبحان الله والحمد للّه.

والآية نفسها تظهر (اللام) بمعنى (الى) الى العالِم ايضاً، ولكن ليس بمعنى ان الشمس مصدر الضوء وحده، وانما كمكوك تحيك المنسوجات الربانية التي تنسج في معمل الربيع والصيف. وانها مدادٌ ودواةٌ من نور لمكتوبات الصمد التي تُكتب على صحيفة الليل والنهار. فيتصورها هكذا ويتأمل في نظام العالم البديع الذي يشير اليه جريان الشمس الظاهري، فيهوي ساجداً أمام حكمة الصانع الحكيم قائلاً: ما شاء الله كان، تبارك الله.

أما بالنسبة للفلكي، فان (اللام) يفهمها بمعنى (في) أي: ان الشمس تنظم حركة منظومتها ((كزنبرك)) الساعة بحركة محورية حول نفسها. فأمام هذا الصانع الجليل الذي خلق مثل هذه الساعة العظمى يأخذه العجب والانبهار فيقول: العظمة والقدرة لله وحده، ويدع الفلسفة داخلاً في ميدان حكمة القرآن.

و(اللام) هذه يفهمها العالِم المدقق بمعنى ((العلة)) وبمعنى ((الظرفية)) أي: أن الصانع الحكيم جعل الاسباب الظاهرية ستاراً لأفعاله وحجاباً لشؤونه. فقد ربط السيارات بالشمس بقانونه المسمى بـ((الجاذبية)) وبه يُجري السيارات المختلفة بحركات مختلفة ولكن منتظمة. ويجري الشمس حول مركزها سبباً ظاهرياً لتوليد تلك الجاذبية. أي أن معنى لمستقر هو: ان الشمس تجري في مستقر لها لإستقرار منظومتها، لأن الحركة تولد الحرارة والحرارة تولد القوة والقوة تولد الجاذبية الظاهرية، وذلك قانون رباني وسنة إلهية.

وهكذا، فهذا الحكيم المدقق يفهم مثل هذه الحكمة من حرف واحد من القرآن الحكيم ويقول: الحمد لله، ان الحكمة الحقة لهي في القرآن فلا اعتبر الفلسفة بعدُ شيئاً يذكر.

ومن هذه (اللام) والاستقرار يرد هذا المعنى الى مَن يملك فكراً وقلباً شاعرياً: ان الشمس شجرة نورانية، والسيارات التي حولها انما هي ثمراتها السائحة، فالشمس تنتفض دون الثمرات - بخلاف الاشجار الاخرى - لئلا تتساقط الثمرات، وبعكسه تتبعثر الثمرات.

ويمكن ان يتخيل ايضاً أن الشمس كسيد في حلقة ذكر، يذكر الله في مركز تلك الحلقة ذكر عاشقٍِ ولهان، حتى يدفع الآخرين الى الجذبة والانتشاء.

وقد قلت في رسالة اخرى في هذا المعنى

نعم، ان الشمس مثمرة، تنتفض لئلا تتساقط الثمرات الطيبة ولو سكنت وسكتت، لانفقد الانجذاب، فيصرخ العشاقُ المنسّقون في الفضاء الواسع هلعاً من السقوط والضياع!

U ومثلاً: ] واولئك هم المفلحون[ (البقرة: 5) فيها سكوت، وفيها اطلاق؛ اذ لم تعين بم يفلحون؟ ليجد كل واحد مبتغاه في هذا السكوت. فالآية تختصر الكلام ليتسع المعنى.

اذ إن قصد قسم من المخاطبين هو النجاة من النار، وقسم آخر لا يفكر إلاّ بالجنة، وقسم يأمل السعادة الابدية، وقسم يرجو الرضى الإلهي فحسب، وقسم غاية امله رؤية الله سبحانه. وهكذا.. فيترك القرآنُ الكلامَ على إطلاقه ليعمّ، ويحذف ليفيد معاني كثيرة، ويوجز ليجد كلُ واحدٍ حظَه منها.

وهكذا فـ (المفلحون) هنا لا يعِّين بِمَ سيفلحون. وكأن الآية بسكوتها تقول: أيها المسلمون: لكم البشرى! أيها المتقي: ان لك نجاة من النار. أيها العابد الصالح: فلاحُك في الجنة. أيها العارف باللّه: ستنال رضاه. أيها العاشق لجمال الله: ستحظى برؤيته تعالى.. وهكذا.

ولقد أوردنا من القرآن الكريم من جهة جامعية اللفظ في الكلام والكلمة والحروف والسكوت مثالاً واحداً فحسب من بين الآف الامثلة؛ فقس الآية والقصة على ما اسلفناه.

U ومثلا:ً ] فاعلم انه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك[ (محمد:19)

هذه الآية لها من الوجوه الكثيرة والمراتب العديدة حتى رأت جميع طبقات الاولياء في شتى وسائل سلوكهم ومراتبهم حاجتهم الى هذه الآية. فأخذ كلٌ منهم غذاءً معنوياً لائقاً بمرتبته التي هو فيها، لأن لفظ الجلالة (الله) اسم جامع لجميع الاسماء الحسنى، ففيه انواع من التوحيد بقدر عدد الاسماء نفسها، أي: لا رزاق إلاّ هو، لا خالق إلاّ هو، لا رحمن إلاّ هو.. وهكذا.

U ومثلاً: قصة موسى عليه السلام من القصص القرآنية، فيها من العبر والدروس بقدر ما في عصا موسى عليه السلام من الفوائد؛ اذ فيها تطمين للرسول e وتسلية له، وتهديد للكفار، وتقبيح للمنافقين، وتوبيخ لليهود وما شابهها من المقاصد. فلها اذاً وجوه كثيرة جداً. لذا كررت في سور عدة. فمع انها تفيد جميع المقاصد في كل موضع إلاّ أن مقصداً منها هو المقصود بالذات، وتبقى المقاصد الاخرى تابعة له

اذا قلت: كيف نفهم ان القرآن قد أراد جميع تلك المعاني التي جاءت في الامثلة السابقة، ويشير اليها؟

فالجواب: ما دام القرآن الكريم خطاباً أزلياً، يخاطب به الله سبحانه وتعالى مختلف طبقات البشرية المصطفة خلف العصور ويرشدهم جميعاً، فلابد أنه يدرج معاني عدة لتلائم مختلف الافهام، وسيضع إمارات على ارادته هذه.

نعم، ففي كتاب ((اشارات الاعجاز)) ذكرنا هذه المعاني الموجودة هنا وأمثالها من المعاني المتعددة لكلمات القرآن، واثبتناها وفق قواعد علم الصرف والنحو وحسب دساتير علم البيان وفن المعاني وقوانين فن البلاغة.

والى جانب هذا فان جميع الوجوه والمعاني التي هي صحيحة حسب علوم العربية، وصائبة وفق اصول الدين، ومقبولة في فن المعاني، ولائقة في علم البيان ومستحسنة في علم البلاغة، هي من معاني القرآن الكريم، باجماع المجتهدين والمفسرين وعلماء اصول الدين واصول الفقه وبشهادة اختلاف وجهات نظرهم. وقد وضع القرآن الكريم امارات على كل من تلك المعاني حسب درجاتها وهي؛ إما لفظية أو معنوية، والامارة المعنوية هي: اما السياق نفسه او سباق الكلام أو أمارة من آيات اُخر تشير الى ذلك المعنى.

ان مئات الالوف من التفاسير التي قد بلغ بعضها ثمانين مجلداً(1) وقد الّفها علماء محققون، برهان قاطع باهر على جامعية وخارقية لفظ القرآن.

وعلى كل حال فلو اوضحنا في هذه الكلمة كل امارة تدل على كل معنى من المعاني بقانونها وبقاعدتها لطالت بنا الكلمة، لذا نختصر الكلام هنا ونحيل الى كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز).

اللمعة الثانية:

الجامعية الخارقة في معانيه. نعم، ان القرآن الكريم قد افاض من خزينة معانيه الجليلة مصادرَ جميع المجتهدين، ومذاقَ جميع العارفين، ومشاربَ جميع الواصلين ومسالكَ جميع الكاملين، ومذاهبَ جميع المحققين فضلاً عن انه صار دليلَهم في كل وقتٍ ومرشدَهم في رقيهم كل حين ناشراً على طرقهم انواره الساطعة من خزينته التي لا تنضب، كما هو مصدَّق ومتفق عليه بينهم.

اللمعة الثالثة:

الجامعية الخارقة في علمه. نعم، ان القرآن الكريم مثلما اجرى من بحر علومه؛ علومَ الشريعة المتعددة الوفيرة، وعلومَ الحقيقة المتنوعة الغزيرة، وعلومَ الطريقةِ المختلفة غير المحدودة، فانه اجرى كذلك من ذلك البحر بسخاء وانتظام؛ الحكمة الحقيقية لدائرة الممكنات، والعلومَ الحقيقية لدائرة الوجوب والمعارف الغامضة لدائرة الآخرة.

ولو اردنا ايراد مثال لهذه اللمعة فلابد من كتابة مجلد كامل! لذا نبيّن ((الكلمات)) الخمسة والعشرين السابقة فحسب.

نعم ان الحقائق الصادقة للكلمات الخمس والعشرين كلها إن هي إلاّ خمس وعشرون قطرة من بحر علم القرآن. فان وجد قصور في تلك ((الكلمات)) فهو راجع الى فهمي القاصر.

اللمعة الرابعة:

الجامعية الخارقة في مباحثه. نعم، ان القرآن قد جمع المباحث الكلية لما يخص الانسان ووظيفته، والكون وخالقه والارض والسموات والدنيا والاخرة والماضي والمستقبل والازل والابد فضلاً عن ضمه مباحث مهمة اساسية ابتداءً من خلق الانسان من النطفة الى دخوله القبر، ومن آداب الاكل والنوم الى مباحث القضاء والقدر، ومن خلق العالم في ستة ايام الى وظائف هبوب الريح التي يشير اليها القَسَم في والمرسلاتوالذاريات ومن مداخلته سبحانه في قلب الانسان وارادته باشارات الآيات الكريمة ] وما تشاؤن إلاّ أن يشاء الله[ (التكوير :29) ] يحولُ بين المرء وقلبهِ[ (الانفال:24) الى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67)، ومن ] وجعلنا فيها جنات من نخيلٍ واعناب[ (يس:34) الى الحقيقة العجيبة التي تعبّر عنها الآية ] اذا زلزلت الارض زلزالها[ (الزلزال)، ومن حالة السماء ] ثم استوى الى السماء وهي دخان[ (فصلت: 11) الى انشقاق السماء وانكدار النجوم وانتشارها في الفضاء الذي لايحد، ومن انفتاح الدنيا للامتحان الى انتهاء الاختبار، ومن القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة والبرزخ والحشر والصراط الى الجنة والسعادة الابدية، ومن وقائع الزمان الماضي الغابر من خلق آدم عليه السلام وصراع إبنَيْهِ الى الطوفان، الى هلاك قوم فرعون وحوادث جليلة لأغلب الانبياء عليهم السلام، ومن الحادثة الازلية في ] ألستُ بربكم[ (الاعراف: 172) الى ] وجوه يومئذ ناضرة ^ الى ربها ناظرة[ (القيامة:22،23) التي تفيد الابدية.

فجميع هذه المباحث الاساسية والمهمة تُبين في القرآن بياناً واضحاً يليق بذات الله الجليلة سبحانه الذي يدير الكون كله كأنه قصر ويفتح الدنيا والآخرة كغرفتين يفتح احداهما ويسد الاخرى بسهولة ، ويتصرف في الارض تصرفه في بستان صغير، وفي السماء كأنها سقف مزيّن بالمصابيح ، ويطّلع على الماضي والمستقبل كصحيفتين حاضرتين امام شهوده كالليل والنهار ويشاهد الازل والابد كاليوم وامس، يشاهدهما كالزمان الحاضر الذي اتصل فيه طرفا سلسلة الشؤون الإلهية . فكما ان معمارياً يتكلم في بناءين بناهما وفي إدارتهما ويجعل للاعمال المتعلقة بهما صحيفة عمل وفهرس نظـام؛ فالقــرآن الكــريم كــذلك كلام مبين يلــيـق بمن خلق هذا الــكـون ويديره وكتب صحيفة اعمـــاله وفــهارس برامــجه - إن جاز التعــبيــر - واظــهــرهــا. فلا يُشاهَد فيه اثرٌ من تصَـنّع وتكلّف باي جهة كانت كما لا أمارة قطعاً لشائبة تقليد أي كلامٍ عن أحد وفرض نفسه في موضع غير موضــعه وامثــالها من الخــدع. فهو بكل جديته، وبكل صـفائه، وبكــل خلوصـــه صـــافٍ بـــراق ســـاطــع زاهــر، اذ مثلما يقول ضوء الشمس: انا منبعث من الشمس فالقرآن كذلك يقول: ((انا كلام رب العالمين وبيانه)).

نعم ان الذي جمّل هذه الدنيا وزينها بصنائعه الثمينة وملأها باطايب نعمه الشهية ونشر في وجه الارض بدائع مخلوقاته ونعمه القيمة بكل إبداع واحسان وتنسيق وتنظيم ذلكم الصانع الجليل والمنعم المحسن، مَن غيرُهُ يليق أن يكون صاحب هذا البيان، بيان القرآن الكريم الذي ملأ الدنيا بالتقدير والتعظيم والاستحسان والاعجاب والحمد والشكر حتى جعل الارض رباط ذكر وتهليل،ومسجداً يرفع فيه اسم الله ومعرضاً لبدائع الصنعة الإلهية؟ ومَن يكون غيرُه صاحب هذا الكلام؟ ومَن يمكنه ان يدّعى ان يكون صاحبه؟ فهل يليق للضياء الذي ملأ الدنيا نوراً ان يعود لغير الشمس؟ وبيان القرآن الذي كشف لغز العالم ونوّره، نور مَن يكون غير نور من خلق السموات والارض؟ فمن يجرؤ ان يقلّده ويأتي بنظيرِ له؟

حقاً، ان الصانع الذي زيّن بابداع صنعته هذه الدنيا، محال الاّ يتكلم مع هذا الانسان المبهور بصُنعهِ وابداعه، فما دام انه يفعل ويعلم فلابد انه يتكلم، وما دام انه يتكلّم فلا يليق بكلامه إلاّ القرآن. فمالك الملك الذي يهتم بتنظيم زهرة صغيرة كيف لا يبالي بكلام حوّل مُلكه الى جذبة ذكر وتهليل؟ أيمكن أن يُنزّل من قدر هذا الكلام بنسبته الى غيره؟.

اللمعة الخامسة:

الجامعية الخارقة في اسلوبه وايجازه

((في هذه اللمعة خمسة اضواء))

الضوء الاول:

ان لأسلوب القرآن جامعية عجيبة، حتى ان سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضم الكون بين جوانحه، وان آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. وان اكثر الايات - كل منها - كسورة صغيرة، واكثر السور - كل منها - كقرآن صغير. فمن هذا الايجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للارشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل انسان على الرغم من حاجتـه الى تــلاوة القــرآن كل وقــت، فانه قــد لا يتاح له تلاوته، اما لغباوته وقصور فهمه أو لأسباب اخرى. فلكي لا يُحرم أحدٌ من القرآن فان كل سورة في حكم قرآن صغير، بل كل آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى أن اهل الكشف متفقون ان القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة.أما البرهان على هذا فهو اجماع أهل التحقيق العلماء.

الضوء الثاني:

ان الايات القرآنية جامعة بدلالاتها واشاراتها لأنواع الكلام والمعارف الحقيقية والحاجات البشرية كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، الترغيب والترهيب، الزجر والارشاد، القصص والامثال، الاحكام والمعارف الإلهية، العلوم الكونية، وقوانين وشرائط الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية والحياة القلبية والحياة المعنوية والحياة الاخروية. حتى يصدق عليه المَثَل السائر بين اهل الحقيقة: ((خذ ما شئت لما شئت)) بمعنى ان الايات القرآنية فيها من الجامعية ما يمكن ان يكون دواء لكل داء وغذاء لكل حاجة.

نعم هكذا ينبغي ان يكون، لأن الرائد الكامل المطلق لجميع طبقات اهل الكمال الذين يقطعون المراتب دوماً الى الرقي - ذلك القرآن العظيم - لابد أن يكون مالكاً لهذه الخاصية.

الضوء الثالث:

الايجاز المعجز للقرآن. فقد يذكر القرآن مبدأ سلسلة طويلة ومنتهاها ذكراً لطيفاً يُري السلسلة بكاملها، وقد يدرج في كلمة واحدة براهين كثيرة لدعوىً؛ صراحة واشارة ورمزاً وايماءً.

فمثلاً:

] ومن آياتهِ خلقُ السموات والارض واختلافُ ألسنتِكُم وألوانكم[ (الروم:22)

هذه الآية الكريمة تذكر مبدأ سلسلة خلق الكون ومنتهاها. وهي سلسلة آيات التوحيد ودلائله، ثم تبين السلسلة الثانية، جاعلة القارئ يقرأ السلسلة الاولى وذلك:

ان أولى صحائف العالم الشاهدة على الصانع الحكيم هي خلق السموات والارض، ثم تزيين السموات بالنجـوم واعمــار الارض بـــذوي الحياة، ثم تبدل المواسم بتسخير الشمس والقمر،ثم سلسلة الشؤون الربانية في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما.. وهكذا تدريجياً حتى تبلغ خصوصية الملامح والاصوات وامتيازها وتشخصاتها التي هي اكثر مواضع انتشار الكثرة.

فاذا ما وجد انتظام بديع حكيم محير للالباب، وتبينَ عملُ قلمٍ صَنّاع حكيم في اكثر المواضع بُعداً عن الانتظام وازيدها تعرضاً للمصادفة ظاهراً، تلك هي ملامح وجوه الانسان والوانه، فلابد أن الصحائف الأخرى الظاهر نظامها تفهم بنفسها وتدل على مصّورها البديع.

ثم انه لما كان اثر الابداع والحكمة يُشاهد في أصل خلق السموات والارض التي جعلها الصانع الحكيم الحجر الاساس للكون، فلابد أن نقش الحكمة واثر الابداع ظاهر جداً في سائر اجزاء الكون.

فهذه الآية حوت ايجازاً لطيفاً معجزاً في اظهار الخفي واضمار الظاهر فأوجزتْ وأجملت. حقاً ان سلسلة البراهين المبتدئة من ] فسبحان الله حين تمسون..[ الى ] وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم[ والتي تتكرر فيها ست مرات ((ومن آياته... ومن آياته)) انما هي سلسلة جواهر، سلسلة نور، سلسلة اعجاز، سلسلة ايجاز اعجازي؛ يتمنى القلب ان اُبيّن الجواهر الكامنة في هذه الكنوز، ولكن ما حيلتي فالمقام لا يتحمله، فلا افتح ذلك الباب، واعلق الامر الى وقت آخر بمشيئة الله.

ومثلاً:

] ...فارسلون ^ يوسفُ ايها الصدِّيق[ (يوسف: 45-46) فبين كلمة (فارسلون) وكلمة (يوسف) يكمن معنى العبارة التالية: الى يوسف لأستعبر منه الرؤيا، فأرسلوه، فذهب الى السجن، وقال.. بمعنى انه أوجز عدة جملٍ في جملة واحدة من دون ان يخلّ بوضوح الآية ولا أشكل في فهمها.

ومثلاً:

] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ (يس: 80)

ففي معرض ردّ القرآن على الانسان العاصي الذي يتحدى الخالق بقوله: ] مَن يحيى العظام وهي رميم[ (يس: 78) يقول ] قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم[ (يس 79) ويقول أيضاً ] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

فهذا الكلام يتوجه الى دعوى الاحياء من عدة جهات ويثبتها. إذ إنه يبدأ من سلسلة الاحسانات التي احسن الله بها الى الانسان فيذكّره بها ويثير شعوره، إلاّ انه يختصرالكلام لأنه فصّله في آيات اخرى، ويوجزه محيلاً اياه على العقل. أي: أن الذي منحكم من الشجر الثمرَ والنار، ومن الاعشاب الرزقَ والحبوب ، ومن التراب الحبوبَ والنباتات، قد جعل لكم الارض مهداً، فيها جميع ارزاقكم، والعالم قصراً فيه جميع لوازم حياتكم، فهل يمكن ان يترككم سدىً فتفروا منه، وتختفوا عنه في العدم؟ فلا يمكن أن تكونوا سدىً فتدخلوا القبر وتناموا براحة دون سؤال عما كسبتم ودون احيائكم؟.

ثم يشير الى دليل واحد لتلك الدعوى: فيقول رمزاً بكلمة ] الشجر الاخـضر[ ايها المنكر للحشر! انظر الى الاشجار! فإن مَن يحيى اشجاراً لاحدّ لها في الربيع بعد أن ماتت في الشتاء واصبحت شبيهة بالعظام.. ويجعلها مخضرّة ، بل يُظهر في كل شجرة ثلاثة نماذج من الحشر؛ في الاوراق والازهار والاثمار.. ان هذا القدير لا تُتحدّى قدرتُه بالانكار ولا يُستبعد منه الحشر.

ثم يشير الى دليل آخر ويقول:

ان الذي اخرج لكم النار، تلك المادة الخفيفة النورانية، من الشجر الكثيف الثقيل المظلم، كيف تستبعدون منه منح حياةٍ لطيـفة كالـنار، وشعورٍ كالــنور لعظـام كالحطب.

ثم يأتي بدليل آخر صراحة ويقول:

ان الذي يخلق النار من الشجر المشهور لدى البدويين بحكّ غصنين معاً، ويجمع بين صفتين متضادتين الرطوبة والحــرارة ويجعل احــداهما منــشأ للاخــرى، يدلنا على أن كل شـــئ حتى العــنــاصــر الأصــلية والتابعة انما تتــحرك بقــوته وتــتمـثل بأمره. ولاشئ منها يتحرك بذاته أو سدىً. فمثل هذا الخالق العظيم لا يمكن أن يُستبعد منه احياء الانسان من التراب ـ وقد خلقه من التراب ويعود اليه - فلا يُتحدى بالعصيان.

ثم بعد ذلك يذكّر بكلمة ] الشجر الاخـضر[ شجرة موسى عليه السلام المشهورة فيومئ الى اتفاق الانبياء ايماءً لطيفاً، بأن هذه الدعوى الاحمدية (عليه الصلاة والسلام) هي بعينها دعوى موسى عليه السلام. مما يزيد ايجاز هذه الكلمة لطافةً وحسناً آخر.

الضوء الرابع:

ان ايجاز القرآن جامع ومعجز، فلو انعم النظر فيه لشوهد بوضوح ان القرآن قد بيّن في مثالٍ جزئي وفي حادثة خاصة، دساتيرَ كلية واسعة وقوانينَ عامة طويلة، وكأنه يبين في غرفة ماءٍ بحراً واسعاً.

سنشير الى مثالين اثنين من آلاف امثلته.

C المثال الاول:

هو الايات الثلاث التي فصّلنا شرحها في المقام الاول من ((الكلمة العشرين)) : وهي:

انه بتعليم آدم عليه السلام الاسماء كلها تفيد الآية الكريمة: تعليم جميع العلوم والفنون الملهَمة لبني آدم.

وبحادثة سجود الملائكة لآدم عليه السلام وعدم سجود الشيطان تبين الآية: ان اكثر الموجودات ـ من السمك الى المَلَك ـ مسخرةٌ لبني الانسان، كما ان المخلوقات المضرة ـ من الثعبان الى الشيطان ـ لا تنقاد اليه بل تعاديه.

وبحادثة ذبح قوم موسى عليه السلام البقرة تعبّر الآية عن: ان فكرة عبادة البقر قد ذُبحتْ بسكين موسى عليه السلام، تلك الفكرة التي كانت رائجة في مصر حتى ان لها اثراً مباشراً في حادثة العجل.

وبنبعان الماء من الحجر وتشقق الصخور وسيلان الماء منها تبين الآية: ان الطبقة الصخرية التي تحت التراب خزائن أوعية الماء تزوّد التراب بما يبعث فيه الحياة.

C المثال الثاني:

ان قصة موسى عليه السلام قد تكررت كثيراً في القرآن الكريم؛ اذ إن في كل جملة منها، وفي كل جزء منها إظهاراً لطرفٍ من دستور كلي، ويعبّر عن ذلك الدستور.

منها: الآية الكريمة ] يا هامان ابنِ لي صرحاً[ (غافر: 36) يأمر فرعون وزيره: إبنِ لي برجاً عالياً لأطّلِع على احوال السموات وانظر هل هناك إله يتصرف فيها كما يدّعيه موسى عليه السلام؟ فبكلمة ((صرحا)) تبين الآية الكريمة بحادثة جزئية دستوراً عجيباً وعُرفاً غريباً كان جارياً في سلالة فراعنة مصر الذين ادّعوا الربوبية لجحودهم بالخالق وايمانهم بالطبيعة، وخلّدوا اسماءهم بجبروتهم وعُتوهم، فشيّدوا الاهرام المشهورة كأنها جبال وسط صحراء لا جبال فيها، ليشتهروا بها، وحفظوا جنائزهم بالتحنيط واضعين اياها في تلك المقابر الشامخة، لاعتقادهم بتناسخ الارواح والسحر.

ومنها: قوله تعالى ] فاليوم ننجيك ببدنك[ (يونس: 92) والخطاب موجه الى فرعون الذي غرق، وفي الوقت نفسه تبين الآية: ما كان للفراعنة من دستور لحياتهم مذكّرٍ بالموت ملئٍ بالعبر، وهو نقل اجساد موتاهم بالتحنيط من الماضي الى الاجيال المقبلة لعرضها امامهم وفق اعتقادهم بتناسخ الارواح، كما تفيد الآية الكريمة باسلوب معجز اشارة غيبية الى: ان الجسد الذي اكتشف في العصر الأخير هو نفسه جسد فرعون الذي غرق، فكما اُلقي به الى الساحل في الموضع الذي غرق فيه، فسيلقى به كذلك من بحر الزمان فوق امواج العصور الى ساحل هذا العصر.

ومنها: قوله تعالى ] يذبّحون ابناءكم ويستحيون نساءكم[ (البقرة: 49) فانه بحادثة ذبح بنى اسرائيل واستحياء نسائهم وبناتهم في عهد فرعون يبين الإبادة الجماعية التي يتعرض لها اليهود في اكثر البلدان وفي كل عصر، والدور المهم الذي تؤديه نساؤهم وبناتهم في حياة السفاهة للبشرية وتحلل اخلاقها.

ومنها: ] ولتجدنّهم أحرصَ الناسِ على حياة[ (البقرة: 96)

] وترى كثيراً منهم يُسارعون في الاثم والعدوان واكلهم السُحت لبئسَ ما كانوا يعملون[ (المائدة: 62 )

] ويسعوْن في الارض فساداً والله لا يحبُ المفسدين[ (المائدة: 64)

] وقـضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الارض مرتين[ (الاسراء:4)

] ولاتعثوا في الارض مفسدين[ (البقرة: 60)

هذان الحكمان القاضيان في حق اليهود - الحرص والفساد - يتضمنان هذين الدستورين العامين المهمين، اللذين يديرهما اولئك القوم في حياة المجتمع الانساني بالمكر والحيل والخديعة؛ فالآية تبين: انهم هم الذين زلزلوا الحياة الاجتماعية الانسانية واوقدوا الحرب بين الفقراء والاغنياء بتحريض العاملين على اصحاب رأس المال. وكانوا السبب في تأسيس البنوك بجعلهم الربا أضعافاً مضاعفة، وجمعوا اموالاً طائلة بكل وسيلة دنيئة بالمكر والحيل، هؤلاء القوم هم انفسهم ايضاً انخرطوا في كل انواع المنظمات الفاسدة ومدّوا أيديهم الى كل نوع من انواع الثورات، أخذاً لثأرهم من الشعوب الغالبة ومن الحكومات التي ذاقوا منها الحرمان وسامتهم انواع العذاب.

ومنها:

] فتمنوا الموت إن كنتم صادقين^ ولن يتمنوه ابداً[ (البقرة: 94ـ95)

فالآية تبين بعنوان حادثة جزئية وقعت في مجلس صغير في الحضرة النبوية الكريمة من أن اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة وأخوفهم من الموت، لن يتمنوا الموت ولن يتخلّوا عن الحرص على الحياة حتى قيام الساعة.

ومنها:

] وضربت عليهم الذلة والمسكنة[ (البقرة:61)

تبين الآية الكريمة بهذا العنوان مقدرات اليهود في المستقبل بصورة عامة، وحيث أن الحرص والفساد قد تغلغل في سجاياهم وتمكن من طبعهم فالقرآن الكريم يغلظ عليهم في الكلام ويصفعهم صفعات زجر عنيفة للتأديب.

ففي ضوء هذه الامثلة، قس بنفسك قصة موسى عليه السلام وحوادث وقعت لبني اسرائيل وقصصهم.

وبعد، فان وراء كلمات القرآن البسيطة ومباحثه الجزئية هناك كثير من امثال ما في هذا الضوء الرابع من لمعات اعجاز كلمعة ايجاز اعجازي، والعارف تكفيه الاشارة.

الضوء الخامس:

هو الجامعية الخارقة لمقاصد القرآن ومسائله ومعانيه واساليبه ولطائفه ومحاسنه. نعم! اذا انعم النظر في سور القرآن الكريم وآياته، ولاسيما فواتح السور، ومبادئ الآيات ومقاطعها تبيّن:

ان القرآن المعجز البيان قد جمع انواع البلاغة، وجميع اقسام فضائل الكلام، وجميع اصناف الاساليب العالية وجميع افراد محاسن الاخلاق، وجميع خلاصات العلوم الكونية، وجميع فهارس المعارف الإلهية، وجميع الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية، وجميع القوانين النورانية السامية لحكمة الكون.. وعلى الرغم من جمعه هذا لايظهر عليه أي اثر كان من آثار الخلط وعدم الاستقامة في التركيب أو المعنى.

حقاً، ان جمع جميع هذه الاجناس المختلفة الكثيرة في موضع واحد من دون أن ينشأ منه اختلال نظامٍ أو اختلاط وتشوش، انما هو شأن نظام اعجاز قهّار ليس إلاّ.

وحقاً ان تمزيق ستار العاديّات - التي هي مصدر الجهل المركب - ببيانات نافذة، واستخراج خوارق العادات المتسترة تحت ذلك الستار واظهارها بجلاء، وتحطيم طاغوت الطبيعة - التي هي منبع الضلالة - بسيوف البراهين الالماسية، وتشتيت حجب نوم الغفلة الكثيفة بصيحات مدوية كالرعد، وحل طلسم الكون المغلق والمعمّى العجيب للعالم الذي أعجز الفلسفة البشرية والحكمة الانسانية... ما هو إلاّ من صنع هذا القرآن المعجز البيان، البصير بالحقيقة ، المطّلع على الغيب، المانح للهداية، المظهر للحق.

نعم، إذا اُنعم النظر في آيات القرآن الكريم بعين الانصاف لشوهدت أنها لا تشبه فكراً تدريجياً متسلسلاً يتابع مقصداً أو مقصدين كما هو الحال في سائر الكتب بل انها تُلْقى إلقاءً، ولها طور دفعي وآني، وان عليها علامة أن كل طائفة منها ترد معاً انما ترد مستقلة وروداً وجيزاً منجّماً ومن مكان قصي ضمن مخابرة في غاية الاهمية والجدية.

نعم، مَن غيرُ رب العالمين يستطيع ان يجري هذا الكلام الوثيق الصلة بالكون وبخالق الكون وبهذه الصورة الجادة؟ ومَن غيرُه تعالى يتجاوز حدّه بما لا حد له من التجاوز فيتكلم حسب هواه باسم الخالق ذي الجلال وباسم الكون كلاماً صحيحاً كهذا؟

نعم، انه واضح جلي في القرآن أنه كلام رب العالمين.. هذا الكلام الجاد الحق السامي الحقيقي الخالص، ليس عليه اية امارة كانت تومئ بالتقليد. فلو فرضنا محالاً ان هناك مَن هو مثل مسيلمة الكذاب الذي تجاوز حدّه بغير حدود فقلّد كلام خالقه ذي العزة والجبروت وتكلّم من بنات فكره ناصباً نفسه متكلماً عن الكون، فلابد أن ستظهر الاف من أمارات التقليد والتصنع والاف من علامات الغش والتكلف. لأن مَن يتلـبّس طوراً اسمى واعلى بكثير من حالته الدنيئة لا شك أن كل حالة من حالاته تدل على التقليد والتصنع.

فانظر الى هذه الحقيقة التي يعلنها هذا القَسَم وانعم النظر فيها:

] والنجم اذا هوى ^

ما ضل صاحبكم وما غوى ^

وما ينطق عن الهوى ^

ان هو إلاّ وحيٌ يوحى[ (النجم: 1ـ4).



الشعاع الثالث

اعجاز القرآن الكريم الناشئ من إخباره عن الغيوب وديمومة شبابه، وصلاحه لكل طبقة من الناس . ولهذا الشعاع ثلاث جلوات.

الجلوة الاولى:

إخباره عن الغيوب . لهذه الجلوة ثلاث قبسات.

القبس الاول:

إخباره الغيبي عن الماضي

ان القرآن الحكيم، بلسان امي امين بالاتفاق يذكر اخباراً من لدن آدم عليه السلام الى خير القرون، مع ذكره أهم احوال الانبياء عليهم السلام واحداثهم المهمة، يذكرها ذكراً في منتهى القوة وغاية الجد، وبتصديق من الكتب السابقة كالتوراة والانجيل فيوافق ما اتفقت عليه تلك الكتب السابقة ويصحح حقيقة الواقعة ويفصِل في تلك المباحث التي اختلفت فيها.

بمعنى أن نظر القرآن الكريم ذلك النظر المطّلع على الغيب يرى احوال الماضي أفضل من تلك الكتب وبما هو فوقها جميعاً بحيث يزكيّها ويصدّقها في المسائل المتفق عليها، ويصححها ويفصِل في المباحث التي اختلف فيها. علماً ان إخبار القرآن الذي يخص احوال الماضي ووقائعه ليس امراً عقلياً حتى يُخبر عنه بالعقل، بل هو أمر نقلي متوقف على السماع، والنقل خاص بأهل القراءة والكتابة، مع ان الاعداء والاصدقاء متفقون معاً على أن القرآن انما نزل على شخص امي لا يعرف القراءة والكتابة، معروف بالامانة موصوف بالأُمية. وحينما يخبر عن تلك الاحوال الماضية يخبر عنها وكأنه يشاهدها كلها، اذ يتناول روح حادثة طويلة وعقدتها الحياتية، فيخبر عنها، ويجعلها مقدمة لمقصده. بمعنى ان الخلاصات والفذلكات المذكورة في القرآن الكريم تدل على: ان الذي أظهرها يرى جميع الماضي بجميع احواله، إذ كما ان شخصاً متخصصاً في فن أو صنعة اذا اتى بخلاصة من ذلك الفن، أو بنموذج من تلك الصنعة، فانها تدل على مهارته وملكته. كذلك الخلاصات وروح الوقائع المذكورة في القرآن الكريم تبين:

ان الذي يقولها انما يقولها وقد أحاط بها ويراها ثم يخبر عنها بمهارة فوق العادة (ان جاز التعبير).

الفبس الثاني:

إخباره الغيبي عن المستقبل

لهذا القسم انواع كثيرة:

القسم الاول: خاص بقسم من اهل الكشف والولاية.

C مثلاً:

ان محي الدين بن عربي وجد كثيراً من الإخبار عن الغيب في سورة الروم ] الم ^ غُلبت الروم[ (الروم:1- 2)

وان الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) قد شاهد في المقطّعات التي في بدايات السور كثيراً من اشارات المعاملات الغيبية.

وبالنسبة الى علماء الباطن فالقرآن الحكيم من اوله الى آخره نوع من الاخبار عن الغيب.

أما نحن فسنشير الى قسم منها، الى الذي يخص العموم ويرجع الى الجميع. ولهذا القسم ايضاً طبقات كثيرة، فسنقصركلامنا على طبقة واحدة.

فالقرآن الكريم يقول للرسول الكريم e (1) : ] فاصبر إنّ وعدَ الله حقٌ[ (الروم: 60)

] لتدخُلنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسَكُم ومقصّرين لا تخافون[ (الفتح: 27)

] هو الذي ارسل رسُولهُ بالهدى ودين الحق ليُظْهرهُ على الدين كله..[ (الفتح:28)

] وهم مِن بعدِ غَلَبهم سَيغْلِبون^ في بـضع سنين للّه الامر[ (الروم: 3،4)

] فستبْصِر ويُبصرون^ بأيّكم المفتون[ (القلم: 5،6)

] ام يقولون شاعرٌ نتربّص به ريبَ المنون^ قل تربّصوا فاني معكم من المتربصين[ (الطور: 30 - 31)

] والله يعصِمُك من الناس[ (المائدة: 67)

] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا..[ (البقرة:24)

] ولن يتمنَوه ابداً[ (البقرة:95)

] سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهِم حتى يتبيّن لهم انه الحقّ[ (فصلت: 53)

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجنُ على ان ياتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتون بمثله ولو كان بعـضُهم لبعضٍٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)

] ياتى الله بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلةٍ على المؤمنين اعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[ (المائدة :54)

] وقل الحمد لله سيريكم اياته فتعرفونها[ (النمل: 93)

] قل هو الرحمنُ امنّا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين[ (الملك:29)

] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليَستَخلفنَّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم ديَنهم الذي ارتـضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا[ (النور: 55)

وامثال هذه الآيات كثيرة جداً تتضمن اخباراً عن الغيب وقد تحققت كما أخبرت.

فالإخبار عن الغيب دون تردد وبكمال الجد والاطمئنان وبما يُشعر بقوة الوثوق، على لسان مَن هو معرّض لاعتراضات المعترضين وانتقاداتهم، وربما يفقد دعواه لخطأ طفيف، يدل دلالة قاطعة: انه يتلقى الدرس من استاذه الازلي ثم يقوله للناس.

القبس الثالث:

إخباره الغيب عن الحقائق الإلهية والحقائق الكونية والامور الاخروية.

نعم! ان بيانات القرآن التي تخص الحقائق الإلهية، وبياناته الكونية التي فتحت طلسم الكون وكشفت عن معمّى خلق العالم لهي اعظم البيانات الغيبية، لأنه ليس من شأن العقل قط، ولا يمكنه أن يسلك سلوكاً مستقيماً بين مالايحد من طرق الضلالة، فيجد تلك الحقائق الغيبية. وكما هو معلوم فان اعظم دهاة حكمـاء البــشر لم يصلوا الى اصغر تلك الحقائق وابسطها بعقولهم. ثم ان عقول البشر ستقول بلا شك امام تلك الحقائق الإلهية والحقائق الكونية التي اظهرها القرآن الكريم: صدقتَ، وستقبل تلك الحقائق بعد استماعها الى بيان القرآن بصفاء القلب وتزكية النفس، وبعد رقي الروح واكتمال العقل، وستباركه.

وحيث ان ((الكلمة الحادية عشرة)) قد أوضحت وأثبتت نبذة من هذا القسم فلا داعي للتكرار.

أما اخبار القرآن الغيبي عن الآخرة والبرزخ، فان عقل البشر وإن لم يدرك احوال الآخرة والبرزخ بمفرده ولا يراها وحده، إلاّ ان القرآن يبينها ويثبتها اثباتاً يبلغ درجة الشهود.

فراجع ((الكلمة العاشرة)) لتلمس مدى صواب الاخبار الغيبي عن الآخرة الذي أخبر به القرآن الكريم. فقد اثبتته تلك الرسالة ووضحته ايّما ايضاح.

الجلوة الثانية:

شبابية القرآن وفتوته

ان القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نضراً فتياً.

نعم! ان القرآن الكريم لأنه خطاب ازلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم ان تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً وهو كذلك كما كان. حتى انه ينظر الى كل عصر من العصور المختلفة في الافكار والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر ووفق مقتضياته ملقناً دروسه ملفتاً اليها الانظار.

ان آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتُبدَّل. إلاّ ان احكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها اكثر كلما مرت العصور.

نعم، ان هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ اذنيه عن سماع القرآن اكثر من أي عصر مضى، واهل الكتاب منهم خاصة، أحوج ما يكونون الى ارشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ ((يا اهل الكتاب.. يا اهل الكتاب)) حتى كأن ذلك الخطاب موجّه الى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ ((اهل الكتاب)) يتضمن معنى: اهل الثقافة الحديثة ايضاً!

فالقرآن يطلق نداءه يدوّي في اجواء الآفاق ويملأ الارض والسبع الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول:

] يا أهل الكتاب تعالَوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم..[ (آل عمران 64)

فمثلاً: ان الافراد والجماعات مع انهم قد عجزوا عن معارضة القرآن إلاّ أن المدنية الحاضرة التي هي حصيلة افكار بني البشر وربما الجن ايضاً قد اتخذت طوراً مخالفاً له واخذت تعارض اعجازه باساليبها الساحرة. فلأجل اثبات اعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن..[ لهذا المعارض الجديد الرهيب نضع الاسس والدساتير التي اتت بها المدنية الحاضرة امام اسس القرآن الكريم.

ففي الدرجة الاولى: نضع الموازنات التي عقدت والموازين التي نصبت في الكلمات السابقة، ابتداءاً من الكلمة الاولى الى الخامسة والعشرين، وكذا الآيات الكريمة المتصدرة لتلك الكلمات والتي تبين حقيقتها، تثبت إعجاز القرآن وظهوره على المدنية الحاضرة بيقين لا يقبل الشك قطعاً.

وفي الدرجة الثانية: نورد اجمالاً قسماً من دساتير المدنية والقرآن التي وضحته واثبتته (الكلمة الثانية عشرة).

فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها: ان ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي (القوة) وهي تستهدف (المنفعة) في كل شئ. وتتخذ (الصراع) دستوراً للحياة. وتلتزم بالعنصرية والقومية السلبية رابطةً للجماعات. وغايتها هي (لهو عابث) لإشباع رغبات الاهواء وميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس واثارة الهوى. ومن المعلوم ان شأن (القوة) هو (التجاوز). وشأن (المنفعة) هو (التزاحم) اذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتهم. وشأن (الصراع) هو (التصادم) وشأن (العنصرية) هو (التجاوز) حيث تكبر بابتلاع غيرها.

فهذه الدساتير والاسس التي تستند اليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلتها عاجزة - مع محاسنها - عن ان تمنح سوى عشرين بالمائة من البشر سعادة ظاهرية بينما ألقت البقية الى شقاء وتعاسة وقلق.

أما حكمة القرآن فهي تقبل (الحق) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلاً من (القوة).. وتجعل (رضى الله ونيل الفضائل) هو الغاية والهدف، بدلاً من (المنفعة)..

وتتخذ دستور (التعاون) اساساً في الحياة، بدلاً من دستور (الصراع).. وتلتزم رابطة الدين والصنف والوطن لربط فئات الجماعات، بدلاً من (العنصرية والقومية السلبية).. وتجعل غاياتها (الحدّ من تجاوز النفس الامارة ودفع الروح الى معالي الامور وتطمين مشاعرها السامية لسوق الانسان نحو الكمال والمثل العليا لجعل الانسان انساناً حقاً).

ان شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن (التعاون) هو (اغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الاخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس وكبح جماحها واطلاق الروح وحثها نحو الكمال) هو (سعادة الدارين).

وهكذا غُلبت المدنية الحاضرة أمام القرآن الحكيم مع ما أخذت من محاسنَ من الاديان السابقة ولا سيما من القرآن الكريم.

وفي الدرجة الثالثة: سنبين - على سبيل المثال - اربعة مسائل فحسب من بين الاف المسائل:

U المسألة الاولى:

ان دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنها آتية من الازل فهي باقية وماضية الى الابد. لاتهرم ابداً ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان.

فمثلاً: ان المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وانظمتها الصارمة ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الاخلاقية لم تستطع ان تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل انهارت امامهما وهي في قوله تعالى :

] وآتوا الزكاة[ (البقرة: 43) و] ..واحلّ الله البيع وحرّم الربا[ (البقرة: 275)

سنبين هذا الظهور القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة:

ان اس اساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الانساني انما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الاخلاق الرذيلة كلمة واحدة ايضاً. كما اُثبت ذلك في (اشارات الاعجاز).

الكلمة الاولى: (ان شبعتُ، فلا عليّ ان يموت غيري من الجوع).

الكلمة الثانية: (اكتسبْ انتَ، لآكل انا، واتعبْ انت لأستريح أنا).

نعم، انه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلاّ بالمحافظة على التوزان القائم بين الخواص والعوام، اي بين الاغنياء والفقراء، واساس هذا التوزان هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، واطاعة العوام واحترامهم للخواص.

فالآن، ان الكلمة الاولى قد ساقت الخواص الى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام الى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والامان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث اوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين واصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد.

فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الاخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزت عن ان تصلح بين تينك الطبقتين من البشر كما عجزت عن ان تضمد جرحي الحياة البشرية الغائرَين.

أما القرآن الكريم فانه يقلع الكلمة الاولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمة الثانية من اساسها ويداويها بحرمة الربا.

نعم، ان الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا: الدخول ممنوع. وتأمر البشرية: اوصدوا ابواب الربا لتنسد امامكم ابواب الحروب. وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #35
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

فمثلاً: الآية الكريمة:

] الرحمن على العرشِ استوى[ تبين الربوبية الإلهية وكيفية تدبيرها لشؤون العالم في صورة تمثيل وتشبيه لمرتبة الربوبية بالسلطان الذي يعتلي عرشه ويدير أمر السلطنة.

نعم! لما كان القرآن كلاماً لرب العالمين نزل من المرتبة العظمى لربوبيته الجليلة، مهيمناً على جميع المراتب الاخرى، مرشداً البالغين الى تلك المراتب، مخترقاً سبعين ألف حجاب، ملتفتاً اليها ومنوراً لها، وقد نشر نوره على الاف الطبقات من المخاطبين المتباينين في الفهم والادراك، ونثر فيضه طوال عصور وقرون متفاوتة في الاستعدادات. وعلى الرغم من نشره لمعانيه بسهولة تامة في جميع الانحاء والازمان، احتفظ بحيويته ونداوته ونضارته ولم يفقد شيئاً منها، بل ظل في منتهى الطراوة والجدة واللطافة سهلاً ممتنعاً، اذ مثلما يلقى دروسه على أي عامي كان في غاية السهولة يلقيه على المختلفين في الفهم والمتباينين في الذكاء لكثير جداً من الطبقات المتفاوتة ويرشدهم الى الصواب ويورثهم القناعة والاطمئنان.

ففي هذا الكتاب المبين اينما وجهت نظرك يمكنك ان تشاهد لمعة اعجاز.

حاصل الكلام:

كما ان لفظة قرآنية مثل: ((الحمد لله)) عندما تُتلى تملأ الكهف الذي هو بمثابة اُذن الجبل، فانها تملأ في الوقت نفسه ما تشبه الاُذين الصغيرة جداً لبعوض فتستقر اللفظة نفسها فيهما معاً. كذلك الأمر في معاني القرآن الكريم. اذ مثلما تُشبع عقولاً جبارة، تعلّم عقولاً صغيرة وبسيطة جداً، وتُطمئنها بالكلمات نفسها، ذلك لأن القرآن يدعو جميع طبقات الجن والانس الى الايمان ويعلّم جميعهم علوم الايمان ويثبتها لهم جميعاً، لذا يستمع الى درس القرآن وارشاده اغبى الاغبياء من عامة الناس مع اخص الخواص جنباً الى جنب متكاتفين معاً.

أي أن القرآن الكريم مائدة سماوية تجد فيها الآف من مختلف طبقات الأفكار والعقول والقلوب والارواح غذاءهم، كل حسب ما يشتهيه ويلبّي رغباته. حتى ان كثيراً من أبواب القرآن ظلت مغلقة لتفتح في المستقبل من الزمان.

فإن شئت مثالاً على هذا المقام، فالقرآن كله من بدايته الى نهايته أمثلة لهذا المقام.

نعم، أن تلامذة القرآن والمستمعين لإرشاده من المجتهدين والصديقين وحكماء الاسلام والعلماء المحققين وعلماء اصول الفقه والمتكلمين والاولياء العارفين والاقطاب العاشقين والعلماء المدققين وعامة المسلمين.. كلهم يقولون بالاتفاق ((نحن نتلقى الارشاد على أفضل وجه من القرآن)).

والخلاصة:

أن لمعة اعجاز القرآن تتلمع في هذا المقام ايضاً - مقام الافهام والتعليم - كما هو الحال في سائر المقامات.

الشعاع الثاني

جامعية القرآن الخارقة

لهذا الشعاع خمس لمعات

اللمعة الاولى:

الجامعية الخارقة في لفظه. هذه الجامعية واضحة جلية في الآيات المذكورة في (الكلمات) السابقة وفي هذه (الكلمة).

نعم! ان الالفاظ القرآنية قد وُضعت وضعاً بحيث: أن لكلِ كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكون احياناً وجوهاً كثيرة جداً، تمنح كل مخاطب حظّه ونصيبه من ابواب مختلفة، كما يشير الى ذلك الحديث الشريف، فلكل آية ظهرٌ وبطن وحدّ ومطّلع(1)، ولكلٍ شجون وغصون وفنون(2).

U فمثلاً:

] والجبالَ اوتاداً[ (النبأ: 7)

فحصة عامي من هذا الكلام أنه:

يرى الجبال كالاوتاد المغروزة في الارض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نِعم وفوائد، ويشكر خالقه.

وحصة شاعر من هذا الكلام أنه:

يتخيل أن الارض سهل منبسط، وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزينت الخيمة بمصابيح، وان الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الافق، تمس قممها اذيال السماء، وكأنها اوتاد تلك الخيمة العظيمة. فتغمره الحيرة والاعجاب ويقدس الصانع الجليل.

أما البدوي البليغ فحصته من هذا الكلام أنه:

يتصور سطح الارض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم كثيرة بانواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى أن طبقة التراب عبارة عن غطاء اُلقي على تلك الاوتاد المرتفعة فرفعتها برؤوسها الحادة، جاعلةً منها مساكن مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات.. هكذا يفهم فيسجد للفاطر الجليل سجدة حيرة واعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الارض.

أما الجغرافي الاديب فحصته من هذا الكلام أن:

كرة الارض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي أو الاثيري.وان الجبال أوتاد دقّت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة.. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الارضية الضخمة سفينة منتظمة وأركَبَنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: (سبحانك ما اعظم شأنك).

أما المتخصص في امور المجتمع والملم بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصتهُ من هذا الكلام:

أنه يفهم الارض عبارة عن مسكن، وان عماد حياة هذا المسكن هو حياة ذوي الحياة، وان عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب، التي هي شرائط الحياة. وان عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبال مخازن الماء، مشّاطة الهواء ومصفاته - اذ ترسب الغازات المضرة - وحامية التراب - اذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل - وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الانسان.. هكذا يفهم فيحمد ويقدّس ذلكم الصانع ذا الجلال والاكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة اوتاداً ومخازن معايشنا على الارض التي هي مسكن حياتنا.

وحصة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام:

أنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الارض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سبباً لهدوء الارض واستقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي وكأن الارض تتنفس بمنافذ الجبال فيخفّ غضَبُها وتسكن حدّتها.. هكذا يفهم ويطمئن ويلج في الايمان قائلاً: الحكمة لله.

U ومثلاً: ] ان السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما[ (الانبياء: 30)

ان كلمة ((رتقاً)) في هذه الآية تفيد لمن لم يتلوث بالفلسفة:

السماء كانت صافية لا سحاب فيها. والارض جدباء لا حياة فيها، فالذي فتح ابواب السماء بالمطر وفرش الارض بالخضرة هو الذي خلق جميع ذوي الحياة من ذلك الماء، وكأنه حصل نوع من المزاوجة والتلقيح بينهما، وما هذا إلاّ من شأن القدير ذي الجلال الذي يكون وجه الارض لديه كبستان صغير والسحب التي تحجب وجه السماء معصرات لذلك البستان.. يفهم هكذا فيسجد امام عظمة قدرته تعالى.

وتفيد تلك الكلمة ((رتقاً)) للعالم الكوني:

انه في بدء الخليقة، كانت الارض والسماء كتلتين لا شكل لهما وعجينتين طريتين لا نفع لهما، فبينما هما مادة لا مخلوقات لهما ولا مَن يدب عليهما، بسطهما الفاطر الحكيم بسطاً جميلاً، ومنحهما صوراً نافعة وزينة فاخرة وكثرة كاثرة من المخلوقات.. هكذا يفهم ويأخذه العجب أمام سعة حكمته تعالى.

وتفيد هذه الكلمة للفلاسفة المعاصرين:

ان كرتنا الارضية وسائر السيارات التي تشكل المنظومة الشمسية كانت في البداية ممــتـزجة مـع الشــمــس بشــكل عجينة لم تُفـرش بعــدُ، ففتـّق القادر القـيوم تلك العجينة ومكّن فيها السيارات كلاً في موضعه، فالشمس هناك والارض هنا.. وهكذا. وفرش الارض بالتراب وانزل عليها المطر من السماء، ونثر عليها الضياء من الشمس واسكنها الانسان.. هكذا يفهم ويرفع رأسه من حمأة الطبيعة قائلاً:آمنت بالله الواحد الأحد.

U ومثلاً: ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس: 38): فاللام في (لمستقر) تفيد معنى اللام نفسها ومعنى (في) ومعنى (الى).

فهذه (اللام) يفهمها العوام بمعنى (الى) ويفهم الآية في ضوئها؛ أي:

ان الشمس التي تمنحكم الضوء والحرارة، تجري الى مستقرٍ لها وستبلغه يوماً، وعندها لـن تفيدكم شيئاً. فيتذكر بهذا ما ربط الله سبحانه وتعالى من نعمٍ عظيمة بالشمس، فيحمد ربه ويقدّسه قائلاً: سبحان الله والحمد للّه.

والآية نفسها تظهر (اللام) بمعنى (الى) الى العالِم ايضاً، ولكن ليس بمعنى ان الشمس مصدر الضوء وحده، وانما كمكوك تحيك المنسوجات الربانية التي تنسج في معمل الربيع والصيف. وانها مدادٌ ودواةٌ من نور لمكتوبات الصمد التي تُكتب على صحيفة الليل والنهار. فيتصورها هكذا ويتأمل في نظام العالم البديع الذي يشير اليه جريان الشمس الظاهري، فيهوي ساجداً أمام حكمة الصانع الحكيم قائلاً: ما شاء الله كان، تبارك الله.

أما بالنسبة للفلكي، فان (اللام) يفهمها بمعنى (في) أي: ان الشمس تنظم حركة منظومتها ((كزنبرك)) الساعة بحركة محورية حول نفسها. فأمام هذا الصانع الجليل الذي خلق مثل هذه الساعة العظمى يأخذه العجب والانبهار فيقول: العظمة والقدرة لله وحده، ويدع الفلسفة داخلاً في ميدان حكمة القرآن.

و(اللام) هذه يفهمها العالِم المدقق بمعنى ((العلة)) وبمعنى ((الظرفية)) أي: أن الصانع الحكيم جعل الاسباب الظاهرية ستاراً لأفعاله وحجاباً لشؤونه. فقد ربط السيارات بالشمس بقانونه المسمى بـ((الجاذبية)) وبه يُجري السيارات المختلفة بحركات مختلفة ولكن منتظمة. ويجري الشمس حول مركزها سبباً ظاهرياً لتوليد تلك الجاذبية. أي أن معنى لمستقر هو: ان الشمس تجري في مستقر لها لإستقرار منظومتها، لأن الحركة تولد الحرارة والحرارة تولد القوة والقوة تولد الجاذبية الظاهرية، وذلك قانون رباني وسنة إلهية.

وهكذا، فهذا الحكيم المدقق يفهم مثل هذه الحكمة من حرف واحد من القرآن الحكيم ويقول: الحمد لله، ان الحكمة الحقة لهي في القرآن فلا اعتبر الفلسفة بعدُ شيئاً يذكر.

ومن هذه (اللام) والاستقرار يرد هذا المعنى الى مَن يملك فكراً وقلباً شاعرياً: ان الشمس شجرة نورانية، والسيارات التي حولها انما هي ثمراتها السائحة، فالشمس تنتفض دون الثمرات - بخلاف الاشجار الاخرى - لئلا تتساقط الثمرات، وبعكسه تتبعثر الثمرات.

ويمكن ان يتخيل ايضاً أن الشمس كسيد في حلقة ذكر، يذكر الله في مركز تلك الحلقة ذكر عاشقٍِ ولهان، حتى يدفع الآخرين الى الجذبة والانتشاء.

وقد قلت في رسالة اخرى في هذا المعنى

نعم، ان الشمس مثمرة، تنتفض لئلا تتساقط الثمرات الطيبة ولو سكنت وسكتت، لانفقد الانجذاب، فيصرخ العشاقُ المنسّقون في الفضاء الواسع هلعاً من السقوط والضياع!

U ومثلاً: ] واولئك هم المفلحون[ (البقرة: 5) فيها سكوت، وفيها اطلاق؛ اذ لم تعين بم يفلحون؟ ليجد كل واحد مبتغاه في هذا السكوت. فالآية تختصر الكلام ليتسع المعنى.

اذ إن قصد قسم من المخاطبين هو النجاة من النار، وقسم آخر لا يفكر إلاّ بالجنة، وقسم يأمل السعادة الابدية، وقسم يرجو الرضى الإلهي فحسب، وقسم غاية امله رؤية الله سبحانه. وهكذا.. فيترك القرآنُ الكلامَ على إطلاقه ليعمّ، ويحذف ليفيد معاني كثيرة، ويوجز ليجد كلُ واحدٍ حظَه منها.

وهكذا فـ (المفلحون) هنا لا يعِّين بِمَ سيفلحون. وكأن الآية بسكوتها تقول: أيها المسلمون: لكم البشرى! أيها المتقي: ان لك نجاة من النار. أيها العابد الصالح: فلاحُك في الجنة. أيها العارف باللّه: ستنال رضاه. أيها العاشق لجمال الله: ستحظى برؤيته تعالى.. وهكذا.

ولقد أوردنا من القرآن الكريم من جهة جامعية اللفظ في الكلام والكلمة والحروف والسكوت مثالاً واحداً فحسب من بين الآف الامثلة؛ فقس الآية والقصة على ما اسلفناه.

U ومثلا:ً ] فاعلم انه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك[ (محمد:19)

هذه الآية لها من الوجوه الكثيرة والمراتب العديدة حتى رأت جميع طبقات الاولياء في شتى وسائل سلوكهم ومراتبهم حاجتهم الى هذه الآية. فأخذ كلٌ منهم غذاءً معنوياً لائقاً بمرتبته التي هو فيها، لأن لفظ الجلالة (الله) اسم جامع لجميع الاسماء الحسنى، ففيه انواع من التوحيد بقدر عدد الاسماء نفسها، أي: لا رزاق إلاّ هو، لا خالق إلاّ هو، لا رحمن إلاّ هو.. وهكذا.

U ومثلاً: قصة موسى عليه السلام من القصص القرآنية، فيها من العبر والدروس بقدر ما في عصا موسى عليه السلام من الفوائد؛ اذ فيها تطمين للرسول e وتسلية له، وتهديد للكفار، وتقبيح للمنافقين، وتوبيخ لليهود وما شابهها من المقاصد. فلها اذاً وجوه كثيرة جداً. لذا كررت في سور عدة. فمع انها تفيد جميع المقاصد في كل موضع إلاّ أن مقصداً منها هو المقصود بالذات، وتبقى المقاصد الاخرى تابعة له

اذا قلت: كيف نفهم ان القرآن قد أراد جميع تلك المعاني التي جاءت في الامثلة السابقة، ويشير اليها؟

فالجواب: ما دام القرآن الكريم خطاباً أزلياً، يخاطب به الله سبحانه وتعالى مختلف طبقات البشرية المصطفة خلف العصور ويرشدهم جميعاً، فلابد أنه يدرج معاني عدة لتلائم مختلف الافهام، وسيضع إمارات على ارادته هذه.

نعم، ففي كتاب ((اشارات الاعجاز)) ذكرنا هذه المعاني الموجودة هنا وأمثالها من المعاني المتعددة لكلمات القرآن، واثبتناها وفق قواعد علم الصرف والنحو وحسب دساتير علم البيان وفن المعاني وقوانين فن البلاغة.

والى جانب هذا فان جميع الوجوه والمعاني التي هي صحيحة حسب علوم العربية، وصائبة وفق اصول الدين، ومقبولة في فن المعاني، ولائقة في علم البيان ومستحسنة في علم البلاغة، هي من معاني القرآن الكريم، باجماع المجتهدين والمفسرين وعلماء اصول الدين واصول الفقه وبشهادة اختلاف وجهات نظرهم. وقد وضع القرآن الكريم امارات على كل من تلك المعاني حسب درجاتها وهي؛ إما لفظية أو معنوية، والامارة المعنوية هي: اما السياق نفسه او سباق الكلام أو أمارة من آيات اُخر تشير الى ذلك المعنى.

ان مئات الالوف من التفاسير التي قد بلغ بعضها ثمانين مجلداً(1) وقد الّفها علماء محققون، برهان قاطع باهر على جامعية وخارقية لفظ القرآن.

وعلى كل حال فلو اوضحنا في هذه الكلمة كل امارة تدل على كل معنى من المعاني بقانونها وبقاعدتها لطالت بنا الكلمة، لذا نختصر الكلام هنا ونحيل الى كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز).

اللمعة الثانية:

الجامعية الخارقة في معانيه. نعم، ان القرآن الكريم قد افاض من خزينة معانيه الجليلة مصادرَ جميع المجتهدين، ومذاقَ جميع العارفين، ومشاربَ جميع الواصلين ومسالكَ جميع الكاملين، ومذاهبَ جميع المحققين فضلاً عن انه صار دليلَهم في كل وقتٍ ومرشدَهم في رقيهم كل حين ناشراً على طرقهم انواره الساطعة من خزينته التي لا تنضب، كما هو مصدَّق ومتفق عليه بينهم.

اللمعة الثالثة:

الجامعية الخارقة في علمه. نعم، ان القرآن الكريم مثلما اجرى من بحر علومه؛ علومَ الشريعة المتعددة الوفيرة، وعلومَ الحقيقة المتنوعة الغزيرة، وعلومَ الطريقةِ المختلفة غير المحدودة، فانه اجرى كذلك من ذلك البحر بسخاء وانتظام؛ الحكمة الحقيقية لدائرة الممكنات، والعلومَ الحقيقية لدائرة الوجوب والمعارف الغامضة لدائرة الآخرة.

ولو اردنا ايراد مثال لهذه اللمعة فلابد من كتابة مجلد كامل! لذا نبيّن ((الكلمات)) الخمسة والعشرين السابقة فحسب.

نعم ان الحقائق الصادقة للكلمات الخمس والعشرين كلها إن هي إلاّ خمس وعشرون قطرة من بحر علم القرآن. فان وجد قصور في تلك ((الكلمات)) فهو راجع الى فهمي القاصر.

اللمعة الرابعة:

الجامعية الخارقة في مباحثه. نعم، ان القرآن قد جمع المباحث الكلية لما يخص الانسان ووظيفته، والكون وخالقه والارض والسموات والدنيا والاخرة والماضي والمستقبل والازل والابد فضلاً عن ضمه مباحث مهمة اساسية ابتداءً من خلق الانسان من النطفة الى دخوله القبر، ومن آداب الاكل والنوم الى مباحث القضاء والقدر، ومن خلق العالم في ستة ايام الى وظائف هبوب الريح التي يشير اليها القَسَم في والمرسلاتوالذاريات ومن مداخلته سبحانه في قلب الانسان وارادته باشارات الآيات الكريمة ] وما تشاؤن إلاّ أن يشاء الله[ (التكوير :29) ] يحولُ بين المرء وقلبهِ[ (الانفال:24) الى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67)، ومن ] وجعلنا فيها جنات من نخيلٍ واعناب[ (يس:34) الى الحقيقة العجيبة التي تعبّر عنها الآية ] اذا زلزلت الارض زلزالها[ (الزلزال)، ومن حالة السماء ] ثم استوى الى السماء وهي دخان[ (فصلت: 11) الى انشقاق السماء وانكدار النجوم وانتشارها في الفضاء الذي لايحد، ومن انفتاح الدنيا للامتحان الى انتهاء الاختبار، ومن القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة والبرزخ والحشر والصراط الى الجنة والسعادة الابدية، ومن وقائع الزمان الماضي الغابر من خلق آدم عليه السلام وصراع إبنَيْهِ الى الطوفان، الى هلاك قوم فرعون وحوادث جليلة لأغلب الانبياء عليهم السلام، ومن الحادثة الازلية في ] ألستُ بربكم[ (الاعراف: 172) الى ] وجوه يومئذ ناضرة ^ الى ربها ناظرة[ (القيامة:22،23) التي تفيد الابدية.

فجميع هذه المباحث الاساسية والمهمة تُبين في القرآن بياناً واضحاً يليق بذات الله الجليلة سبحانه الذي يدير الكون كله كأنه قصر ويفتح الدنيا والآخرة كغرفتين يفتح احداهما ويسد الاخرى بسهولة ، ويتصرف في الارض تصرفه في بستان صغير، وفي السماء كأنها سقف مزيّن بالمصابيح ، ويطّلع على الماضي والمستقبل كصحيفتين حاضرتين امام شهوده كالليل والنهار ويشاهد الازل والابد كاليوم وامس، يشاهدهما كالزمان الحاضر الذي اتصل فيه طرفا سلسلة الشؤون الإلهية . فكما ان معمارياً يتكلم في بناءين بناهما وفي إدارتهما ويجعل للاعمال المتعلقة بهما صحيفة عمل وفهرس نظـام؛ فالقــرآن الكــريم كــذلك كلام مبين يلــيـق بمن خلق هذا الــكـون ويديره وكتب صحيفة اعمـــاله وفــهارس برامــجه - إن جاز التعــبيــر - واظــهــرهــا. فلا يُشاهَد فيه اثرٌ من تصَـنّع وتكلّف باي جهة كانت كما لا أمارة قطعاً لشائبة تقليد أي كلامٍ عن أحد وفرض نفسه في موضع غير موضــعه وامثــالها من الخــدع. فهو بكل جديته، وبكل صـفائه، وبكــل خلوصـــه صـــافٍ بـــراق ســـاطــع زاهــر، اذ مثلما يقول ضوء الشمس: انا منبعث من الشمس فالقرآن كذلك يقول: ((انا كلام رب العالمين وبيانه)).

نعم ان الذي جمّل هذه الدنيا وزينها بصنائعه الثمينة وملأها باطايب نعمه الشهية ونشر في وجه الارض بدائع مخلوقاته ونعمه القيمة بكل إبداع واحسان وتنسيق وتنظيم ذلكم الصانع الجليل والمنعم المحسن، مَن غيرُهُ يليق أن يكون صاحب هذا البيان، بيان القرآن الكريم الذي ملأ الدنيا بالتقدير والتعظيم والاستحسان والاعجاب والحمد والشكر حتى جعل الارض رباط ذكر وتهليل،ومسجداً يرفع فيه اسم الله ومعرضاً لبدائع الصنعة الإلهية؟ ومَن يكون غيرُه صاحب هذا الكلام؟ ومَن يمكنه ان يدّعى ان يكون صاحبه؟ فهل يليق للضياء الذي ملأ الدنيا نوراً ان يعود لغير الشمس؟ وبيان القرآن الذي كشف لغز العالم ونوّره، نور مَن يكون غير نور من خلق السموات والارض؟ فمن يجرؤ ان يقلّده ويأتي بنظيرِ له؟

حقاً، ان الصانع الذي زيّن بابداع صنعته هذه الدنيا، محال الاّ يتكلم مع هذا الانسان المبهور بصُنعهِ وابداعه، فما دام انه يفعل ويعلم فلابد انه يتكلم، وما دام انه يتكلّم فلا يليق بكلامه إلاّ القرآن. فمالك الملك الذي يهتم بتنظيم زهرة صغيرة كيف لا يبالي بكلام حوّل مُلكه الى جذبة ذكر وتهليل؟ أيمكن أن يُنزّل من قدر هذا الكلام بنسبته الى غيره؟.

اللمعة الخامسة:

الجامعية الخارقة في اسلوبه وايجازه

((في هذه اللمعة خمسة اضواء))

الضوء الاول:

ان لأسلوب القرآن جامعية عجيبة، حتى ان سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضم الكون بين جوانحه، وان آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. وان اكثر الايات - كل منها - كسورة صغيرة، واكثر السور - كل منها - كقرآن صغير. فمن هذا الايجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للارشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل انسان على الرغم من حاجتـه الى تــلاوة القــرآن كل وقــت، فانه قــد لا يتاح له تلاوته، اما لغباوته وقصور فهمه أو لأسباب اخرى. فلكي لا يُحرم أحدٌ من القرآن فان كل سورة في حكم قرآن صغير، بل كل آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى أن اهل الكشف متفقون ان القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة.أما البرهان على هذا فهو اجماع أهل التحقيق العلماء.

الضوء الثاني:

ان الايات القرآنية جامعة بدلالاتها واشاراتها لأنواع الكلام والمعارف الحقيقية والحاجات البشرية كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، الترغيب والترهيب، الزجر والارشاد، القصص والامثال، الاحكام والمعارف الإلهية، العلوم الكونية، وقوانين وشرائط الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية والحياة القلبية والحياة المعنوية والحياة الاخروية. حتى يصدق عليه المَثَل السائر بين اهل الحقيقة: ((خذ ما شئت لما شئت)) بمعنى ان الايات القرآنية فيها من الجامعية ما يمكن ان يكون دواء لكل داء وغذاء لكل حاجة.

نعم هكذا ينبغي ان يكون، لأن الرائد الكامل المطلق لجميع طبقات اهل الكمال الذين يقطعون المراتب دوماً الى الرقي - ذلك القرآن العظيم - لابد أن يكون مالكاً لهذه الخاصية.

الضوء الثالث:

الايجاز المعجز للقرآن. فقد يذكر القرآن مبدأ سلسلة طويلة ومنتهاها ذكراً لطيفاً يُري السلسلة بكاملها، وقد يدرج في كلمة واحدة براهين كثيرة لدعوىً؛ صراحة واشارة ورمزاً وايماءً.

فمثلاً:

] ومن آياتهِ خلقُ السموات والارض واختلافُ ألسنتِكُم وألوانكم[ (الروم:22)

هذه الآية الكريمة تذكر مبدأ سلسلة خلق الكون ومنتهاها. وهي سلسلة آيات التوحيد ودلائله، ثم تبين السلسلة الثانية، جاعلة القارئ يقرأ السلسلة الاولى وذلك:

ان أولى صحائف العالم الشاهدة على الصانع الحكيم هي خلق السموات والارض، ثم تزيين السموات بالنجـوم واعمــار الارض بـــذوي الحياة، ثم تبدل المواسم بتسخير الشمس والقمر،ثم سلسلة الشؤون الربانية في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما.. وهكذا تدريجياً حتى تبلغ خصوصية الملامح والاصوات وامتيازها وتشخصاتها التي هي اكثر مواضع انتشار الكثرة.

فاذا ما وجد انتظام بديع حكيم محير للالباب، وتبينَ عملُ قلمٍ صَنّاع حكيم في اكثر المواضع بُعداً عن الانتظام وازيدها تعرضاً للمصادفة ظاهراً، تلك هي ملامح وجوه الانسان والوانه، فلابد أن الصحائف الأخرى الظاهر نظامها تفهم بنفسها وتدل على مصّورها البديع.

ثم انه لما كان اثر الابداع والحكمة يُشاهد في أصل خلق السموات والارض التي جعلها الصانع الحكيم الحجر الاساس للكون، فلابد أن نقش الحكمة واثر الابداع ظاهر جداً في سائر اجزاء الكون.

فهذه الآية حوت ايجازاً لطيفاً معجزاً في اظهار الخفي واضمار الظاهر فأوجزتْ وأجملت. حقاً ان سلسلة البراهين المبتدئة من ] فسبحان الله حين تمسون..[ الى ] وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم[ والتي تتكرر فيها ست مرات ((ومن آياته... ومن آياته)) انما هي سلسلة جواهر، سلسلة نور، سلسلة اعجاز، سلسلة ايجاز اعجازي؛ يتمنى القلب ان اُبيّن الجواهر الكامنة في هذه الكنوز، ولكن ما حيلتي فالمقام لا يتحمله، فلا افتح ذلك الباب، واعلق الامر الى وقت آخر بمشيئة الله.

ومثلاً:

] ...فارسلون ^ يوسفُ ايها الصدِّيق[ (يوسف: 45-46) فبين كلمة (فارسلون) وكلمة (يوسف) يكمن معنى العبارة التالية: الى يوسف لأستعبر منه الرؤيا، فأرسلوه، فذهب الى السجن، وقال.. بمعنى انه أوجز عدة جملٍ في جملة واحدة من دون ان يخلّ بوضوح الآية ولا أشكل في فهمها.

ومثلاً:

] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ (يس: 80)

ففي معرض ردّ القرآن على الانسان العاصي الذي يتحدى الخالق بقوله: ] مَن يحيى العظام وهي رميم[ (يس: 78) يقول ] قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم[ (يس 79) ويقول أيضاً ] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

فهذا الكلام يتوجه الى دعوى الاحياء من عدة جهات ويثبتها. إذ إنه يبدأ من سلسلة الاحسانات التي احسن الله بها الى الانسان فيذكّره بها ويثير شعوره، إلاّ انه يختصرالكلام لأنه فصّله في آيات اخرى، ويوجزه محيلاً اياه على العقل. أي: أن الذي منحكم من الشجر الثمرَ والنار، ومن الاعشاب الرزقَ والحبوب ، ومن التراب الحبوبَ والنباتات، قد جعل لكم الارض مهداً، فيها جميع ارزاقكم، والعالم قصراً فيه جميع لوازم حياتكم، فهل يمكن ان يترككم سدىً فتفروا منه، وتختفوا عنه في العدم؟ فلا يمكن أن تكونوا سدىً فتدخلوا القبر وتناموا براحة دون سؤال عما كسبتم ودون احيائكم؟.

ثم يشير الى دليل واحد لتلك الدعوى: فيقول رمزاً بكلمة ] الشجر الاخـضر[ ايها المنكر للحشر! انظر الى الاشجار! فإن مَن يحيى اشجاراً لاحدّ لها في الربيع بعد أن ماتت في الشتاء واصبحت شبيهة بالعظام.. ويجعلها مخضرّة ، بل يُظهر في كل شجرة ثلاثة نماذج من الحشر؛ في الاوراق والازهار والاثمار.. ان هذا القدير لا تُتحدّى قدرتُه بالانكار ولا يُستبعد منه الحشر.

ثم يشير الى دليل آخر ويقول:

ان الذي اخرج لكم النار، تلك المادة الخفيفة النورانية، من الشجر الكثيف الثقيل المظلم، كيف تستبعدون منه منح حياةٍ لطيـفة كالـنار، وشعورٍ كالــنور لعظـام كالحطب.

ثم يأتي بدليل آخر صراحة ويقول:

ان الذي يخلق النار من الشجر المشهور لدى البدويين بحكّ غصنين معاً، ويجمع بين صفتين متضادتين الرطوبة والحــرارة ويجعل احــداهما منــشأ للاخــرى، يدلنا على أن كل شـــئ حتى العــنــاصــر الأصــلية والتابعة انما تتــحرك بقــوته وتــتمـثل بأمره. ولاشئ منها يتحرك بذاته أو سدىً. فمثل هذا الخالق العظيم لا يمكن أن يُستبعد منه احياء الانسان من التراب ـ وقد خلقه من التراب ويعود اليه - فلا يُتحدى بالعصيان.

ثم بعد ذلك يذكّر بكلمة ] الشجر الاخـضر[ شجرة موسى عليه السلام المشهورة فيومئ الى اتفاق الانبياء ايماءً لطيفاً، بأن هذه الدعوى الاحمدية (عليه الصلاة والسلام) هي بعينها دعوى موسى عليه السلام. مما يزيد ايجاز هذه الكلمة لطافةً وحسناً آخر.

الضوء الرابع:

ان ايجاز القرآن جامع ومعجز، فلو انعم النظر فيه لشوهد بوضوح ان القرآن قد بيّن في مثالٍ جزئي وفي حادثة خاصة، دساتيرَ كلية واسعة وقوانينَ عامة طويلة، وكأنه يبين في غرفة ماءٍ بحراً واسعاً.

سنشير الى مثالين اثنين من آلاف امثلته.

C المثال الاول:

هو الايات الثلاث التي فصّلنا شرحها في المقام الاول من ((الكلمة العشرين)) : وهي:

انه بتعليم آدم عليه السلام الاسماء كلها تفيد الآية الكريمة: تعليم جميع العلوم والفنون الملهَمة لبني آدم.

وبحادثة سجود الملائكة لآدم عليه السلام وعدم سجود الشيطان تبين الآية: ان اكثر الموجودات ـ من السمك الى المَلَك ـ مسخرةٌ لبني الانسان، كما ان المخلوقات المضرة ـ من الثعبان الى الشيطان ـ لا تنقاد اليه بل تعاديه.

وبحادثة ذبح قوم موسى عليه السلام البقرة تعبّر الآية عن: ان فكرة عبادة البقر قد ذُبحتْ بسكين موسى عليه السلام، تلك الفكرة التي كانت رائجة في مصر حتى ان لها اثراً مباشراً في حادثة العجل.

وبنبعان الماء من الحجر وتشقق الصخور وسيلان الماء منها تبين الآية: ان الطبقة الصخرية التي تحت التراب خزائن أوعية الماء تزوّد التراب بما يبعث فيه الحياة.

C المثال الثاني:

ان قصة موسى عليه السلام قد تكررت كثيراً في القرآن الكريم؛ اذ إن في كل جملة منها، وفي كل جزء منها إظهاراً لطرفٍ من دستور كلي، ويعبّر عن ذلك الدستور.

منها: الآية الكريمة ] يا هامان ابنِ لي صرحاً[ (غافر: 36) يأمر فرعون وزيره: إبنِ لي برجاً عالياً لأطّلِع على احوال السموات وانظر هل هناك إله يتصرف فيها كما يدّعيه موسى عليه السلام؟ فبكلمة ((صرحا)) تبين الآية الكريمة بحادثة جزئية دستوراً عجيباً وعُرفاً غريباً كان جارياً في سلالة فراعنة مصر الذين ادّعوا الربوبية لجحودهم بالخالق وايمانهم بالطبيعة، وخلّدوا اسماءهم بجبروتهم وعُتوهم، فشيّدوا الاهرام المشهورة كأنها جبال وسط صحراء لا جبال فيها، ليشتهروا بها، وحفظوا جنائزهم بالتحنيط واضعين اياها في تلك المقابر الشامخة، لاعتقادهم بتناسخ الارواح والسحر.

ومنها: قوله تعالى ] فاليوم ننجيك ببدنك[ (يونس: 92) والخطاب موجه الى فرعون الذي غرق، وفي الوقت نفسه تبين الآية: ما كان للفراعنة من دستور لحياتهم مذكّرٍ بالموت ملئٍ بالعبر، وهو نقل اجساد موتاهم بالتحنيط من الماضي الى الاجيال المقبلة لعرضها امامهم وفق اعتقادهم بتناسخ الارواح، كما تفيد الآية الكريمة باسلوب معجز اشارة غيبية الى: ان الجسد الذي اكتشف في العصر الأخير هو نفسه جسد فرعون الذي غرق، فكما اُلقي به الى الساحل في الموضع الذي غرق فيه، فسيلقى به كذلك من بحر الزمان فوق امواج العصور الى ساحل هذا العصر.

ومنها: قوله تعالى ] يذبّحون ابناءكم ويستحيون نساءكم[ (البقرة: 49) فانه بحادثة ذبح بنى اسرائيل واستحياء نسائهم وبناتهم في عهد فرعون يبين الإبادة الجماعية التي يتعرض لها اليهود في اكثر البلدان وفي كل عصر، والدور المهم الذي تؤديه نساؤهم وبناتهم في حياة السفاهة للبشرية وتحلل اخلاقها.

ومنها: ] ولتجدنّهم أحرصَ الناسِ على حياة[ (البقرة: 96)

] وترى كثيراً منهم يُسارعون في الاثم والعدوان واكلهم السُحت لبئسَ ما كانوا يعملون[ (المائدة: 62 )

] ويسعوْن في الارض فساداً والله لا يحبُ المفسدين[ (المائدة: 64)

] وقـضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الارض مرتين[ (الاسراء:4)

] ولاتعثوا في الارض مفسدين[ (البقرة: 60)

هذان الحكمان القاضيان في حق اليهود - الحرص والفساد - يتضمنان هذين الدستورين العامين المهمين، اللذين يديرهما اولئك القوم في حياة المجتمع الانساني بالمكر والحيل والخديعة؛ فالآية تبين: انهم هم الذين زلزلوا الحياة الاجتماعية الانسانية واوقدوا الحرب بين الفقراء والاغنياء بتحريض العاملين على اصحاب رأس المال. وكانوا السبب في تأسيس البنوك بجعلهم الربا أضعافاً مضاعفة، وجمعوا اموالاً طائلة بكل وسيلة دنيئة بالمكر والحيل، هؤلاء القوم هم انفسهم ايضاً انخرطوا في كل انواع المنظمات الفاسدة ومدّوا أيديهم الى كل نوع من انواع الثورات، أخذاً لثأرهم من الشعوب الغالبة ومن الحكومات التي ذاقوا منها الحرمان وسامتهم انواع العذاب.

ومنها:

] فتمنوا الموت إن كنتم صادقين^ ولن يتمنوه ابداً[ (البقرة: 94ـ95)

فالآية تبين بعنوان حادثة جزئية وقعت في مجلس صغير في الحضرة النبوية الكريمة من أن اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة وأخوفهم من الموت، لن يتمنوا الموت ولن يتخلّوا عن الحرص على الحياة حتى قيام الساعة.

ومنها:

] وضربت عليهم الذلة والمسكنة[ (البقرة:61)

تبين الآية الكريمة بهذا العنوان مقدرات اليهود في المستقبل بصورة عامة، وحيث أن الحرص والفساد قد تغلغل في سجاياهم وتمكن من طبعهم فالقرآن الكريم يغلظ عليهم في الكلام ويصفعهم صفعات زجر عنيفة للتأديب.

ففي ضوء هذه الامثلة، قس بنفسك قصة موسى عليه السلام وحوادث وقعت لبني اسرائيل وقصصهم.

وبعد، فان وراء كلمات القرآن البسيطة ومباحثه الجزئية هناك كثير من امثال ما في هذا الضوء الرابع من لمعات اعجاز كلمعة ايجاز اعجازي، والعارف تكفيه الاشارة.

الضوء الخامس:

هو الجامعية الخارقة لمقاصد القرآن ومسائله ومعانيه واساليبه ولطائفه ومحاسنه. نعم! اذا انعم النظر في سور القرآن الكريم وآياته، ولاسيما فواتح السور، ومبادئ الآيات ومقاطعها تبيّن:

ان القرآن المعجز البيان قد جمع انواع البلاغة، وجميع اقسام فضائل الكلام، وجميع اصناف الاساليب العالية وجميع افراد محاسن الاخلاق، وجميع خلاصات العلوم الكونية، وجميع فهارس المعارف الإلهية، وجميع الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية، وجميع القوانين النورانية السامية لحكمة الكون.. وعلى الرغم من جمعه هذا لايظهر عليه أي اثر كان من آثار الخلط وعدم الاستقامة في التركيب أو المعنى.

حقاً، ان جمع جميع هذه الاجناس المختلفة الكثيرة في موضع واحد من دون أن ينشأ منه اختلال نظامٍ أو اختلاط وتشوش، انما هو شأن نظام اعجاز قهّار ليس إلاّ.

وحقاً ان تمزيق ستار العاديّات - التي هي مصدر الجهل المركب - ببيانات نافذة، واستخراج خوارق العادات المتسترة تحت ذلك الستار واظهارها بجلاء، وتحطيم طاغوت الطبيعة - التي هي منبع الضلالة - بسيوف البراهين الالماسية، وتشتيت حجب نوم الغفلة الكثيفة بصيحات مدوية كالرعد، وحل طلسم الكون المغلق والمعمّى العجيب للعالم الذي أعجز الفلسفة البشرية والحكمة الانسانية... ما هو إلاّ من صنع هذا القرآن المعجز البيان، البصير بالحقيقة ، المطّلع على الغيب، المانح للهداية، المظهر للحق.

نعم، إذا اُنعم النظر في آيات القرآن الكريم بعين الانصاف لشوهدت أنها لا تشبه فكراً تدريجياً متسلسلاً يتابع مقصداً أو مقصدين كما هو الحال في سائر الكتب بل انها تُلْقى إلقاءً، ولها طور دفعي وآني، وان عليها علامة أن كل طائفة منها ترد معاً انما ترد مستقلة وروداً وجيزاً منجّماً ومن مكان قصي ضمن مخابرة في غاية الاهمية والجدية.

نعم، مَن غيرُ رب العالمين يستطيع ان يجري هذا الكلام الوثيق الصلة بالكون وبخالق الكون وبهذه الصورة الجادة؟ ومَن غيرُه تعالى يتجاوز حدّه بما لا حد له من التجاوز فيتكلم حسب هواه باسم الخالق ذي الجلال وباسم الكون كلاماً صحيحاً كهذا؟

نعم، انه واضح جلي في القرآن أنه كلام رب العالمين.. هذا الكلام الجاد الحق السامي الحقيقي الخالص، ليس عليه اية امارة كانت تومئ بالتقليد. فلو فرضنا محالاً ان هناك مَن هو مثل مسيلمة الكذاب الذي تجاوز حدّه بغير حدود فقلّد كلام خالقه ذي العزة والجبروت وتكلّم من بنات فكره ناصباً نفسه متكلماً عن الكون، فلابد أن ستظهر الاف من أمارات التقليد والتصنع والاف من علامات الغش والتكلف. لأن مَن يتلـبّس طوراً اسمى واعلى بكثير من حالته الدنيئة لا شك أن كل حالة من حالاته تدل على التقليد والتصنع.

فانظر الى هذه الحقيقة التي يعلنها هذا القَسَم وانعم النظر فيها:

] والنجم اذا هوى ^

ما ضل صاحبكم وما غوى ^

وما ينطق عن الهوى ^

ان هو إلاّ وحيٌ يوحى[ (النجم: 1ـ4).



الشعاع الثالث

اعجاز القرآن الكريم الناشئ من إخباره عن الغيوب وديمومة شبابه، وصلاحه لكل طبقة من الناس . ولهذا الشعاع ثلاث جلوات.

الجلوة الاولى:

إخباره عن الغيوب . لهذه الجلوة ثلاث قبسات.

القبس الاول:

إخباره الغيبي عن الماضي

ان القرآن الحكيم، بلسان امي امين بالاتفاق يذكر اخباراً من لدن آدم عليه السلام الى خير القرون، مع ذكره أهم احوال الانبياء عليهم السلام واحداثهم المهمة، يذكرها ذكراً في منتهى القوة وغاية الجد، وبتصديق من الكتب السابقة كالتوراة والانجيل فيوافق ما اتفقت عليه تلك الكتب السابقة ويصحح حقيقة الواقعة ويفصِل في تلك المباحث التي اختلفت فيها.

بمعنى أن نظر القرآن الكريم ذلك النظر المطّلع على الغيب يرى احوال الماضي أفضل من تلك الكتب وبما هو فوقها جميعاً بحيث يزكيّها ويصدّقها في المسائل المتفق عليها، ويصححها ويفصِل في المباحث التي اختلف فيها. علماً ان إخبار القرآن الذي يخص احوال الماضي ووقائعه ليس امراً عقلياً حتى يُخبر عنه بالعقل، بل هو أمر نقلي متوقف على السماع، والنقل خاص بأهل القراءة والكتابة، مع ان الاعداء والاصدقاء متفقون معاً على أن القرآن انما نزل على شخص امي لا يعرف القراءة والكتابة، معروف بالامانة موصوف بالأُمية. وحينما يخبر عن تلك الاحوال الماضية يخبر عنها وكأنه يشاهدها كلها، اذ يتناول روح حادثة طويلة وعقدتها الحياتية، فيخبر عنها، ويجعلها مقدمة لمقصده. بمعنى ان الخلاصات والفذلكات المذكورة في القرآن الكريم تدل على: ان الذي أظهرها يرى جميع الماضي بجميع احواله، إذ كما ان شخصاً متخصصاً في فن أو صنعة اذا اتى بخلاصة من ذلك الفن، أو بنموذج من تلك الصنعة، فانها تدل على مهارته وملكته. كذلك الخلاصات وروح الوقائع المذكورة في القرآن الكريم تبين:

ان الذي يقولها انما يقولها وقد أحاط بها ويراها ثم يخبر عنها بمهارة فوق العادة (ان جاز التعبير).

الفبس الثاني:

إخباره الغيبي عن المستقبل

لهذا القسم انواع كثيرة:

القسم الاول: خاص بقسم من اهل الكشف والولاية.

C مثلاً:

ان محي الدين بن عربي وجد كثيراً من الإخبار عن الغيب في سورة الروم ] الم ^ غُلبت الروم[ (الروم:1- 2)

وان الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) قد شاهد في المقطّعات التي في بدايات السور كثيراً من اشارات المعاملات الغيبية.

وبالنسبة الى علماء الباطن فالقرآن الحكيم من اوله الى آخره نوع من الاخبار عن الغيب.

أما نحن فسنشير الى قسم منها، الى الذي يخص العموم ويرجع الى الجميع. ولهذا القسم ايضاً طبقات كثيرة، فسنقصركلامنا على طبقة واحدة.

فالقرآن الكريم يقول للرسول الكريم e (1) : ] فاصبر إنّ وعدَ الله حقٌ[ (الروم: 60)

] لتدخُلنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسَكُم ومقصّرين لا تخافون[ (الفتح: 27)

] هو الذي ارسل رسُولهُ بالهدى ودين الحق ليُظْهرهُ على الدين كله..[ (الفتح:28)

] وهم مِن بعدِ غَلَبهم سَيغْلِبون^ في بـضع سنين للّه الامر[ (الروم: 3،4)

] فستبْصِر ويُبصرون^ بأيّكم المفتون[ (القلم: 5،6)

] ام يقولون شاعرٌ نتربّص به ريبَ المنون^ قل تربّصوا فاني معكم من المتربصين[ (الطور: 30 - 31)

] والله يعصِمُك من الناس[ (المائدة: 67)

] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا..[ (البقرة:24)

] ولن يتمنَوه ابداً[ (البقرة:95)

] سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهِم حتى يتبيّن لهم انه الحقّ[ (فصلت: 53)

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجنُ على ان ياتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتون بمثله ولو كان بعـضُهم لبعضٍٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)

] ياتى الله بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلةٍ على المؤمنين اعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[ (المائدة :54)

] وقل الحمد لله سيريكم اياته فتعرفونها[ (النمل: 93)

] قل هو الرحمنُ امنّا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين[ (الملك:29)

] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليَستَخلفنَّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم ديَنهم الذي ارتـضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا[ (النور: 55)

وامثال هذه الآيات كثيرة جداً تتضمن اخباراً عن الغيب وقد تحققت كما أخبرت.

فالإخبار عن الغيب دون تردد وبكمال الجد والاطمئنان وبما يُشعر بقوة الوثوق، على لسان مَن هو معرّض لاعتراضات المعترضين وانتقاداتهم، وربما يفقد دعواه لخطأ طفيف، يدل دلالة قاطعة: انه يتلقى الدرس من استاذه الازلي ثم يقوله للناس.

القبس الثالث:

إخباره الغيب عن الحقائق الإلهية والحقائق الكونية والامور الاخروية.

نعم! ان بيانات القرآن التي تخص الحقائق الإلهية، وبياناته الكونية التي فتحت طلسم الكون وكشفت عن معمّى خلق العالم لهي اعظم البيانات الغيبية، لأنه ليس من شأن العقل قط، ولا يمكنه أن يسلك سلوكاً مستقيماً بين مالايحد من طرق الضلالة، فيجد تلك الحقائق الغيبية. وكما هو معلوم فان اعظم دهاة حكمـاء البــشر لم يصلوا الى اصغر تلك الحقائق وابسطها بعقولهم. ثم ان عقول البشر ستقول بلا شك امام تلك الحقائق الإلهية والحقائق الكونية التي اظهرها القرآن الكريم: صدقتَ، وستقبل تلك الحقائق بعد استماعها الى بيان القرآن بصفاء القلب وتزكية النفس، وبعد رقي الروح واكتمال العقل، وستباركه.

وحيث ان ((الكلمة الحادية عشرة)) قد أوضحت وأثبتت نبذة من هذا القسم فلا داعي للتكرار.

أما اخبار القرآن الغيبي عن الآخرة والبرزخ، فان عقل البشر وإن لم يدرك احوال الآخرة والبرزخ بمفرده ولا يراها وحده، إلاّ ان القرآن يبينها ويثبتها اثباتاً يبلغ درجة الشهود.

فراجع ((الكلمة العاشرة)) لتلمس مدى صواب الاخبار الغيبي عن الآخرة الذي أخبر به القرآن الكريم. فقد اثبتته تلك الرسالة ووضحته ايّما ايضاح.

الجلوة الثانية:

شبابية القرآن وفتوته

ان القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نضراً فتياً.

نعم! ان القرآن الكريم لأنه خطاب ازلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم ان تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً وهو كذلك كما كان. حتى انه ينظر الى كل عصر من العصور المختلفة في الافكار والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر ووفق مقتضياته ملقناً دروسه ملفتاً اليها الانظار.

ان آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتُبدَّل. إلاّ ان احكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها اكثر كلما مرت العصور.

نعم، ان هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ اذنيه عن سماع القرآن اكثر من أي عصر مضى، واهل الكتاب منهم خاصة، أحوج ما يكونون الى ارشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ ((يا اهل الكتاب.. يا اهل الكتاب)) حتى كأن ذلك الخطاب موجّه الى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ ((اهل الكتاب)) يتضمن معنى: اهل الثقافة الحديثة ايضاً!

فالقرآن يطلق نداءه يدوّي في اجواء الآفاق ويملأ الارض والسبع الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول:

] يا أهل الكتاب تعالَوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم..[ (آل عمران 64)

فمثلاً: ان الافراد والجماعات مع انهم قد عجزوا عن معارضة القرآن إلاّ أن المدنية الحاضرة التي هي حصيلة افكار بني البشر وربما الجن ايضاً قد اتخذت طوراً مخالفاً له واخذت تعارض اعجازه باساليبها الساحرة. فلأجل اثبات اعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن..[ لهذا المعارض الجديد الرهيب نضع الاسس والدساتير التي اتت بها المدنية الحاضرة امام اسس القرآن الكريم.

ففي الدرجة الاولى: نضع الموازنات التي عقدت والموازين التي نصبت في الكلمات السابقة، ابتداءاً من الكلمة الاولى الى الخامسة والعشرين، وكذا الآيات الكريمة المتصدرة لتلك الكلمات والتي تبين حقيقتها، تثبت إعجاز القرآن وظهوره على المدنية الحاضرة بيقين لا يقبل الشك قطعاً.

وفي الدرجة الثانية: نورد اجمالاً قسماً من دساتير المدنية والقرآن التي وضحته واثبتته (الكلمة الثانية عشرة).

فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها: ان ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي (القوة) وهي تستهدف (المنفعة) في كل شئ. وتتخذ (الصراع) دستوراً للحياة. وتلتزم بالعنصرية والقومية السلبية رابطةً للجماعات. وغايتها هي (لهو عابث) لإشباع رغبات الاهواء وميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس واثارة الهوى. ومن المعلوم ان شأن (القوة) هو (التجاوز). وشأن (المنفعة) هو (التزاحم) اذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتهم. وشأن (الصراع) هو (التصادم) وشأن (العنصرية) هو (التجاوز) حيث تكبر بابتلاع غيرها.

فهذه الدساتير والاسس التي تستند اليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلتها عاجزة - مع محاسنها - عن ان تمنح سوى عشرين بالمائة من البشر سعادة ظاهرية بينما ألقت البقية الى شقاء وتعاسة وقلق.

أما حكمة القرآن فهي تقبل (الحق) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلاً من (القوة).. وتجعل (رضى الله ونيل الفضائل) هو الغاية والهدف، بدلاً من (المنفعة)..

وتتخذ دستور (التعاون) اساساً في الحياة، بدلاً من دستور (الصراع).. وتلتزم رابطة الدين والصنف والوطن لربط فئات الجماعات، بدلاً من (العنصرية والقومية السلبية).. وتجعل غاياتها (الحدّ من تجاوز النفس الامارة ودفع الروح الى معالي الامور وتطمين مشاعرها السامية لسوق الانسان نحو الكمال والمثل العليا لجعل الانسان انساناً حقاً).

ان شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن (التعاون) هو (اغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الاخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس وكبح جماحها واطلاق الروح وحثها نحو الكمال) هو (سعادة الدارين).

وهكذا غُلبت المدنية الحاضرة أمام القرآن الحكيم مع ما أخذت من محاسنَ من الاديان السابقة ولا سيما من القرآن الكريم.

وفي الدرجة الثالثة: سنبين - على سبيل المثال - اربعة مسائل فحسب من بين الاف المسائل:

U المسألة الاولى:

ان دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنها آتية من الازل فهي باقية وماضية الى الابد. لاتهرم ابداً ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان.

فمثلاً: ان المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وانظمتها الصارمة ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الاخلاقية لم تستطع ان تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل انهارت امامهما وهي في قوله تعالى :

] وآتوا الزكاة[ (البقرة: 43) و] ..واحلّ الله البيع وحرّم الربا[ (البقرة: 275)

سنبين هذا الظهور القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة:

ان اس اساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الانساني انما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الاخلاق الرذيلة كلمة واحدة ايضاً. كما اُثبت ذلك في (اشارات الاعجاز).

الكلمة الاولى: (ان شبعتُ، فلا عليّ ان يموت غيري من الجوع).

الكلمة الثانية: (اكتسبْ انتَ، لآكل انا، واتعبْ انت لأستريح أنا).

نعم، انه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلاّ بالمحافظة على التوزان القائم بين الخواص والعوام، اي بين الاغنياء والفقراء، واساس هذا التوزان هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، واطاعة العوام واحترامهم للخواص.

فالآن، ان الكلمة الاولى قد ساقت الخواص الى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام الى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والامان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث اوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين واصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد.

فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الاخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزت عن ان تصلح بين تينك الطبقتين من البشر كما عجزت عن ان تضمد جرحي الحياة البشرية الغائرَين.

أما القرآن الكريم فانه يقلع الكلمة الاولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمة الثانية من اساسها ويداويها بحرمة الربا.

نعم، ان الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا: الدخول ممنوع. وتأمر البشرية: اوصدوا ابواب الربا لتنسد امامكم ابواب الحروب. وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #36
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات


الاساس الثاني:

ان المدنية الحاضرة لا تقبل تعدد الزوجات، وتحسب ذلك الحكم القرآني مخالفاً للحكمة ومنافياً لمصلحة البشر.

نعم، لو كانت الحكمة من الزواج قاصرة على قضاء الشهوة للزم ان يكون الامر معكوساً، بينماهو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات وبتصديق النباتات المتزاوجة:

ان الحكمة من الزواج والغاية منه انما هي التكاثر وانجاب النسل. أما اللذة الحاصلة من قـضاء الشــهوة فهــي اجرة جزئية تمنــحها الـرحمــة الإلهــية لــتأدية تلــك المهمة. فما دام الزواج للتكاثر وانجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً وحقيقةً، فلا شك ان المرأة التي لا يمكن أن تلد إلاّ مرة واحدة في السنة ولا تكون خصبة الاّ نصف ايام الشهر وتدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها لا تكفي الرجل الذي له القدرة على الاخصاب في اغلب الاوقات حتى وهو ابن مائة سنة. لذا تضطر المدنية الى فتح اماكن العهر والفحش.

U الاساس الثالث:

ان المدنية التي لا تتحاكم الى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة ] للذَكَرِ مثلُ حظ الانثيين[ (النساء:11) التي تمنح النساء الثلث من الميراث (اي نصف ما يأخذه الذكر).

ومن البديهي ان اغلب الاحكام في الحياة الاجتماعية انما تسنّ حسب الاكثرية من الناس، فغالبية النساء يجدن ازواجاً يعيلونهن ويحمونهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون الى اعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن.

فاذا ما اخذت الانثى الثلث من ابيها (اي نصف ما اخذه الزوج من ابيه) فان زوجها سيسد حاجتها. بينما اذا اخذ الرجل حظين من ابيه فانه سينفق قسطاً منه على زوجته، وبذلك تحصل المساواة، ويكون الرجل مساوياً لأخته. وهكذا تقتضي العدالة القرآنية(1).



U الاساس الرابع:

ان القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادة الاصنام يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الاصنام. أما المدنية الحاضرة فانها تعدّ الصورمن مزاياها وفضائلها وتحاول ان تعارض القرآن. والحال ان الصور اياً كانت، ظلية أو غيرها، فهي: إما ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى متجسم، حيث تهيج الاهواء وتدفع الانسان الى الظلم والرياء والهوى.

ثم ان القرآن يأمر النساء ان يحتجبن بحجاب الحياء، رحمةً بهن وصيانة لحرمتهن وكرامتهن ولكيلا تهان تلك المعادن الثمينة معادن الشفقة والرأفة وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة تحت اقدام الذل والمهانة، ولكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها(1). أما المدنية فانها قد اخرجت النساء من اوكارهن وبيوتهن ومزقت حجابهن وأدت بالبشرية ان يجنَّ جنونها. علماً ان الحياة العائلية انما تدوم بالمحبة والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة والاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما الولع بالصور فانه يفسد الاخلاق ويهدمها كلياً، ويؤدي الى انحطاط الروح وتردّيها، ويمكن فهم هذا بالآتي:

كما ان النظر بدافع الهوى وبشهوة الى جنازة امرأة حسناء تنتظر الرحمة وترجوها يهدم الاخلاق ويحطها، كذلك النظر بشهوة الى صور نساء ميتات أو الى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن - يزعزع مشاعر الانسان ويعبث بها، ويهدمها.

وهكذا بمثل هذه المسائل الاربع فان كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادة البشر في الدنيا كما تحقق سعادته الابدية في الاخرة.

فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة تخسر وتُغلب امام دساتير القرآن المتعلقة بحياة الانسان الاجتماعية، فيظهر افلاسها - من زاوية الحقيقة - ازاء اعجاز القرآن المعنوي، كذلك فان فلسفة اوربا وحكمة البشر - وهي المدنية - عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس والعشرين السابقة، ظهرت عاجزة وحكمة القرآن معجزة، وان شئت فراجع ((الكلمة الثانية عشرة والثالثة عشرة)) لتلمس عجز حكمة الفلسفة وافلاسها واعجاز حكمة القرآن وغناها.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة غُلبت امام اعجاز حكمة القرآن العلمي والعملي، كذلك آداب المدنية وبلاغتها فهي مغلوبة امام الأدب القرآنـي وبلاغتــه. والنسبة بينهما اشبه ما يكـون بــبــكاء يتيم فَقَد أبــوَيه بكاءً ملــؤه الحزن الــقــاتـم واليأس المرير، الى انشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصير الأمد غناءً ملؤه الشوق والأمل.. أو نسبة صراخ سكير يتخبط في وضع سافل، الى قصائد حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الانفس والاموال وبلوغ النصر. لأن: الادب والبلاغة من حيث تأثير الاسلوب، إما يورثان الحزن وإما الفرح. والحزن نفسه قسمان:

إما انه حزن منبعث من فقد الأحبة، أي من عدم وجود الأحبة والاخلاء، وهو حزن مظلم كئيب تورثه المدنية الملوثة بالضلالة والمشوبة بالغفلة والمعتقدة بالطبيعة، وإما انه ناشىء من فراق الأحبة، بمعنى ان الأحبة موجودون، ولكن فراقهم يبعث على حزن ينم عن لوعة الاشتياق. فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.

أما الفرح والسرور فهو ايضاً قسمان:

الاول: يدفع النفس الى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية من ادب مسرحي وسينمائي وروائي.

أما الثاني: فهو فرح لطيف برئ نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها ويحث الروح والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الاصلي، على مقرهم الابدي، على احبتهم الاخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر ويشوّقه للجنّة والسعادة الابدية وعلى رؤية جمال الله تعالى.

ولقد توهم بعض قاصري الفهم وممن لايكلفون انفسهم دقة النظر: ان المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بـعـضهم لبعـض ظهيراً[ ظنوها صورة محالة ومبالغة بلاغية! حاشَ لله! بل انها بلاغة هي عين الحقيقة، وصورة ممكنة وواقعة وليست محالة قط. فأحد وجوه تلك الصورة هو أنه:

لو اجتمع اجمل ما يقوله الانس والجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه، فلا يماثل القرآن قط ولن يماثله. لذا لم يظهر مثيله.

والوجه الآخر: ان المدنية وحكمة الفلسفة والآداب الاجنبية التي هي نتائج افكار الجن والانس وحتى الشياطين وحصيلة اعمالهم، هي في دركات العجز امام احكام القرآن وحكمته وبلاغته. كما قد بيّنا امثلة منها.

الجلوة الثالثة:

خطابه كل طبقة من طبقات الناس

ان القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجهاً خاصاً الى تلك الطبقة بالذات. اذ لما كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة الى الايمان الذي هو اسمى العلوم وادقها، والى معرفة الله التي هي اوسع العلوم وأنورها، والى الاحكام الاسلامية التي هي اهم المعارف واكثرها تنوعاً، فمن الألزم اذاً ان يكون الدرس الذي يلقيه على تلك الطوائف من الناس، درساً يوائم فهم كلٍ منها. والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفاً، فلابد اذاً من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفة من الناس - حسب درجاتهاــ تأخذ حظها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن.

ولقد وافينا بأمثلة كثيرة لهذه الحقيقة، يمكن مراجعتها، اما هنا فنكتفي بالاشارة الى بضع اجزاءٍ منها، والى حظ طبقة أو طبقتين منها من الفهم فحسب.

فمثلاً:

قوله تعالى: ] لم يلد ولم يولد ^ ولم يكن له كفواً أحد[

فان حظ فهم طبقة العوام التي تشكل الاكثرية المطلقة هو:

((ان الله منزّه عن الوالد والولد وعن الزوجة والأقران))

وحظ طبقة اخرى متوسطة من الفهم هو:

((نفي الوهية عيسى عليه السلام والملائكة، وكل ما هو من شأنه التولد)) لأن نفي المحال لا فائدة منهفي الظاهر؛ لذا فلابد ان يكون المراد اذاً ما هو لازم الحكم كما هو مقرر في البلاغة. فالمراد من نفي الولد والوالدية اللذين لهما خصائص الجسمانية هو نفي الالوهية عن كل مَن له ولد ووالد وكفو، وبيان عدم لياقتهم للالوهية.

فمن هذا السر تبين: أن سورة الاخلاص يمكن أن تفيد كل انسان في كل وقت.

وحظ فهم طبقة اكثر تقدماً هو:

ان الله منزّه عن كل رابطة تتعلق بالموجودات تُشم منها رائحة التوليد والتولد، وهو مقدّس عن كل شريك ومعين ومجانس، وانما علاقتــه بالمــوجــودات هي الخــلاقيـة. فهو يخلق الموجودات بأمر ((كن فيكون)) بارادته الازلية وباختياره. وهو منزّه عن كل رابطة تنافي الكمال، كالايجاب والاضطرار والصدور بغير اختيار.

وحظ فهم طبقة أعلى من هذه هو:

ان الله ازلي، ابدي، اول وآخر، لانظير له ولا كفو، ولاشبيه، ولامثيل ولامثال في اية جهة كانت، لا في ذاته ولافي صفاته ولا في افعاله. وانما هناك (المَثَل) (ولله المثل الاعلى) الذي يفيد التشبيه في افعاله وشؤونه فحسب.

فلك أن تقيس على هذه الطبقات اصحاب الحظوظ المختلفة في الادراك من امثال طبقة العارفين وطبقة العاشقين وطبقة الصديقين وغيرهم...

المثال الثاني:

قوله تعالى ] ما كان محمد أبا احدٍ من رجالكم[ (الاحزاب:40)

فحظ فهم الطبقة الاولى من هذه الآية هو:

ان زيداً خادم الرسول e ومتبناه ومخاطبه بـ : يا بني، قد طلّق زوجته العزيزة بعدما احسّ انه ليس كفواً لها، فتزوجها الرسول e بأمر الله تعالى، فالآية (النازلة بهذه المناسبة) تقول: ان النبي e اذا خاطبكم مخاطبة الاب لإبنه، فانه يخاطبكم من حيث الرسالة، اذ هو ليس اباً لأحدٍ منكم باعتباره الشخصي حتى لا تليق به زوجاته.

وحظ فهم الطبقة الثانية هو:

ان الامير العظيم ينظر الى رعاياه نظر الأب الرحيم، فان كان سلطاناً روحانياً في الظاهر والباطن فان رحمته ستفوق رحمة الاب وشفقته اضعافاً مضاعفة، حتى تنظر اليه افراد الرعية نظرهم للاب وكأنهم اولاده الحقيقيون. وحيث إن النظرة الى الاب لا يمكن ان تنقلب الى النظر الى الزوج والنظر الى البنت لايتحول بسهولة الى النظر الى الزوجة، فلا يوافق في فكر العامة تزوج الرسول e ببنات المؤمنين استناداً الى هذا السر. لذا فالقرآن يخاطبهم قائلاً: ان الرسول e ينظر اليكم نظر الرحمة والشفقة من زاوية الرحمة الإلهية ويعاملكم معاملة الاب الحنون من حيث النبوة، ولكنه ليس اباً لكم من حيث الشخصية الانسانية حتى لا يلائم تزوجه من بناتكم ويحرم عليه.

القسم الثالث يفهم الآية هكذا:

ينبغي عليكم ألاّ ترتكبوا السيئات والذنوب اعتماداً على رأفة الرسول الكريم e عليكم وانتسابكم اليه. اذ إن هناك الكثيرين يعتمدون على ساداتهم ومرشديهم فيتكاسلون عن العبادة والعمل، بل يقولون احياناً:

((قد اُديِّتْ صلاتُنا)) (كما هو الحال لدى بعض الشيعة).

النكتة الرابعة:

ان قسماً آخر يفهم اشارة غيبية من الآية وهي:

ان أبناء الرسول e لا يبلغون مبلغ الرجال، وانما يتوفاهم الله - قبل ذلك - فلا يدوم نسله من حيث كونهم رجالاً لحكمة يراها سبحانه وتعالى. إلاّ أن لفظ " رجال " يشير الى أنه سيدوم نسله من النساء دون الرجال.

فللّه الحمد والمنة فان النسل الطيب المبارك من فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) كالحسن والحسين (رضي الله عنهما) وهما البدران المنوران لسلسلتين نورانيتين، يديمان ذلك النسل المبارك (المادي والمعنوي) لشمس النبوة.

اللّهم صلِّ عليه وعلى آله .

((تمت الشعلة الاولى بأشعتها الثلاثة)).









الشعلة الثانية

هذه الشعلة لها ثلاثة انوار

النور الاول

ان القرآن الكريم قد جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون القوي بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب الرفيع بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني وشهادة الوف من ائمة هذه العلوم كالزمخشري والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني، مع ان هناك ما يقارب تسعة اسباب مهمة تخل بذلك التجاوب والتعاون والتساند والسلاسة والسلامة، فلم تؤثر تلك الاسباب في الافساد والاخلال بل مدّت وعضّدت سلاسته وسلامته وتسانده إلاّ ما اجرته بشئ من حكمها في اخراج رؤوسها من وراء ستار النظام والسلاسة، وذلك لتدلّ على معان جليلة من سلاسة نظم القرآن، بمثل ما تخرج البراعم بعض البروزات والندب في جذع الشجرة المنسقة، فهذه البروزات ليست لإخلال تناسق الشجرة وتناسبها وانما لإعطاء ثمرات يتم بها جمال الشجرة وكمال زينتها.

اذ إن ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة نجماً نجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً، مع أنه يُظهر من التلاؤم الكامل كأنه نزل دفعة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة لاسباب نزول مختلفة متباينة، مع أنه يظهر من التساند التام كأنه نزل لسبب واحد.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء جواباً لأسئلة مكررة متفاوتة، مع انه يظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد.

وأيضاً ان ذلك القرآن جاء بياناً لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن نزل متضمناً لتنزلات كلامية إلهية في اساليب تناسب افهامَ مخاطبين لا يحصرون، ومن حالات من التلـقي متخــالــفة متــنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل، كأن الحالة واحدة والفهم واحد، حتى تجري السلاسة كالماء السلسبيل.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء مكلماً متوجهاً الى اصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كل صنف انه المخاطب وحده بالاصالة.

وأيضاً ان ذلك القرآن نزل هادياً وموصلاً الى غايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع انه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كأن المقصد واحد.

فهذه الاسباب مع انها اسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى إلاّ انها استخدمت في اظهار اعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه.

نعم! من كان ذا قلبٍ غير سقيم، وعقل مستقيم، ووجدان غير مريض، وذوق سليم، يرى في بيان القرآن سلاسة جميلة وتناسقاً لطيفاً ونغمة لذيذة وفصاحة فريدة. فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً بوضوح تام كأنها صحيفة واحدة، يقلّبها كيف يشاء، فيعرّف معانيها على ما يشاء من اسلوب.

فلو اردنا توضيح حقيقة هذا النور الاول بأمثلة، لاحتجنا الى بضعة مجلدات. لذا نكتفي بالايضاحات التي تخص هذه الحقيقة في كل من ((الرسائل العربية))(1) و ((اشارات الاعجاز)) والكلمات الخمس والعشرين السابقة. بل القرآن الكريم بكامله مثال لهذه الحقيقة. ابيّنه كله دفعة واحدة.



















النور الثاني

يبحث هذا النور عن مزية الاعجاز في الاسلوب البديع للقرآن في الخلاصات (الفذلكات) والاسماء الحسنى التي تنتهي بها الآيات الكريمة:

تنبيه

سترد آيات كثيرة في هذا النور الثاني، وهي ليست خاصة به وحده بل تكون امثلة ايضاً لما ذكر من المسائل والاشعة. ولو اردنا ان نوفي هذه الامثلة حقها من الايضاح لطال بنا البحث، بيد اني اراني مضطراً في الوقت الحاضر الى الاختصار والاجمال، لذا فقد أشرنا اشارة في غاية الاختصار والاجمال الى الآيات التي اوردناها مثالاً لبيان هذا السر العظيم سر الاعجاز مؤجلين تفصيلاتها الى وقت آخر.

فالقرآن الكريم يذكر في اكثر الاحيان قسماً من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات: إما انها تتضمن الاسماء الحسنى أو معناها، واما انها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها.

ففي تلك الفذلكات بعض اشارات من حكمة القرآن العالية، وبعض رشاشات من ماء الحياة للهداية الإلهية، وبعض شرارات من بوراق إعجاز القرآن.

ونحن الآن نذكر اجمالاً ((عشر اشارات)) فقط من تلك الاشارات الكثيرة جداً، كما نشير الى مثال واحد فقط من كثير من امثلتها، والى معنى اجمالي لحقيقة واحدة فقط من بين الحقائق الكثيرة لكل مثال.

هذا وان اكثر هذه الاشارات العشر تجتمع في اكثر الآيات معاً مكونة نقشاً اعجازياً حقيقياً. وان اكثر الآيات التي نأتي بها مثالاً هي امثلة لأكثر الاشارات. فنبين من كل آية اشارة واحدة مشيرين اشارة خفيفة الى معاني تلك الآيات التي ذكرناها في ((كلمات)) سابقة.



C مزية الجزالة الاولى:

ان القرآن الكريم - ببياناته المعجزة - يبسط افعال الصانع الجليل ويفرش آثاره أمام النظر، ثم يستخرج من تلك الافعال والآثار، الاسماء الإلهية، أو يثبت مقصداً من مقاصد القرآن الاساسية كالحشر والتوحيد.

فمن امثلة المعنى الاول:

قوله تعالى ] هو الذي خلقَ لكُم ما في الارض جميعاً ثم استوى الى السماء فسويهنّ سبعَ سمواتٍ وهو بكل شيء عليم[ (البقرة: 29)

ومن امثلة المعنى الثاني:

قوله تعالى] ألم نجعل الارض مهاداً^ والجبال اوتاداً^ وخلقناكم ازواجاً[ الى قوله تعالى ] إن يوم الفصل كان ميقاتاً[ (النبأ)

ففي الآية الاولى: يعرض القرآن الآثار الإلهية العظيمة التي تدل بغاياتها ونظمها على علم الله وقدرته،يذكرها مقدّمة لنتيجة مهمة وقصد جليل ثم يستخرج اسم الله ((العليم)).

وفي الآية الثانية: يذكر افعال الله الكبرى وآثاره العظمى، ويستنتج منها الحشر الذي هو يوم الفصل، كما وُضح في النقطة الثالثة من الشعاع الاول من الشعلة الاولى.

C النكتة البلاغية الثانية:

ان القرآن الكريم ينشر منسوجات الصنعة الإلهية ويعرضها على انظار البشر ثم يلفّها ويطويها في الخلاصة ضمن الأسماء الإلهية، أو يحيلها الى العقل.

فمن أمثلة الاول:

] قل من يرزقكم من السماء والارض، أمّن يملك السمعَ والابصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومَن يدّبر الأمر فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون ^ فذلكم الله ربكم الحق[ (يونس: 31- 32)

فيقول اولاً: (( مَن الذي هيأ السماء والارض وجعلهما مخازن ومستودعاتٍ لرزقكم، فأنزل من هناك المطر ويخرج من هنا الحبوب ؟ ومَن غيرُ الله يستطيع ان

يجعل السماء والارض العظيمتين في حكم خازنين مطيعين لحكمه؟ فالشكر والحمد اذاً له وحده)).

ويقول في الفقرة الثانية: ((أمّن هو مالك اسماعكم وابصاركم التي هي اثمن ما في اعضائكم؟ من أي مصنع أو محل ابتعتموها؟ فالذي منحكم هذه الحواس اللطيفة من عين وسمع انما هو ربّكم! وهو الذي خلقكم ورباكم، ومنحها لكم،فالرب اذاً انما هو وحده المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره)).

ويقول في الفقرة الثالثة: ((أمّن يحيى مئات الالاف من الطوائف الميتة كما يحيى الارض؟ فمن غير الحق سبحانه وخالقُ الكون يقدر ان يفعل هذا الأمر؟ فلا ريب انه هو الذي يفعل وهو الذي يحيى الارض الميتة. فما دام هو الحق فلن تضيع عنده الحقوق، وسيبعثكم الى محكمة كبرى وسيحييكم كما يحيى الارض)).

ويقول في الفقرة الرابعة: ((مَن غير الله يستطيع ان يدبّر شؤون هذا الكون العظيم ويدير أمره ادارةً منسقة منظمة بسهولة إدارة قصر أو مدينة؟ فما دام ليس هناك غير الله، فلا نقص اذاً في القدرة القادرة على ادارة هذا الكون العظيم – بكل أجرامهِ بيسر وسهولة – ولا حاجة لها الى شريك ولا الى معين فهي مطلقة لا يحدها حدود. ولايدع مَن يدبّر امور الكون العظيم ادارة مخلوقات صغيرة الى غيره. فانتم اذاً مضطرون لأن تقولوا: الله.)).

فترى ان الفقرة الاولى والرابعة تقول: الله، وتقول الثانية: رب. وتقول الثالثة: الحق. فافهم مدى الاعجاز في موقع جملة ] فذلكم الله ربكم الحق[ .

وهكذا يذكر القرآن عظيم تصرفات الله سبحانه وعظيم منسوجاته ثم يذكر اليد المدبرة لتلك الآثار الجليلة والمنسوجات العظيمة: ] فذلكم الله ربكم الحق[ ، أي: أنه يُري منبع تلك التصرفات العظيمة ومصدرها بذكر الاسماء الإلهية: الله، الرب، الحق.

ومن امثلة الثاني:

] ان في خلق السموات والارض واختلاف الّيل والنهار والفُلك التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس وما انزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الارضَ بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون[ (البقرة: 164)



يذكر القرآن في هذه الآيات ما في خلق السموات والارض من تجلي سلطنة الالوهية الذي يُظهر تجلي كمال قدرته سبحانه وعظمة ربوبيته، ويَشهد على وحدانيته.. ويذكر تجلي الربوبية في اختلاف الليل والنهار، وتجلي الرحمة بتسخير السفينة وجريانها في البحر التي هي من الوسائل العظمى للحياة الاجتماعية، وتجلي عظمة القدرة في انزال الماء الباعث على الحياة من السماء الى الارض الميتة واحيائها مع طوائفها التي تزيد على مئات الآلاف، وجعلها في صورة معرض للعجائب والغرائب.. كما يذكر تجلي الرحمة والقدرة في خلق ما لا يحد من الحيوانات المختلفة من تراب بسيط.. كما يذكر تجلي الرحمة والحكمة من توظيف الرياح بوظائف جليلة كتلقيح النباتات وتنفسها، وجعلها صالحة في ترديد انفاس الأحياء بتحريكها وادارتها.. كما يذكر تجلي الربوبية في تسخير السحب وجمعها وتفريقها وهي معلقة بين السماء والارض كأنها جنود منصاعون للاوامر يتفرقون للراحة ثم يجّمعون لتلقي الاوامر في عرض عظيم.

وهكذا بعد سرد منسوجات الصنعة الإلهية يسوق العقل الى اكتناه حقائقها تفصيلاً فيقول: ] لاياتٍ لقوم يعقلون[ آخذاً بزمام العقل الى التدبر موقظاً اياه الى التفكر.

C مزيّة الجزالة الثالثة:

ان القرآن الكريم قد يذكر افعال الله سبحانه بالتفصيل ثم بعد ذلك يوجزها ويجملها بخلاصة، فهو بتفصيلها يورث القناعة والاطمئنان وبايجازها واجمالها يسهّل حفظها وتقييدها. فمثلاً:

] وكذلك يَجتَبيك ربُّك ويعلّمك من تأويل الاحاديث ويُتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على أبَويك من قبلُ ابراهيم واسحق ان ربك عليمٌ حكيمٌ[ (يوسف:6)

يشير بهذه الآية الى النعم التي انعمها الله على سيدنا يوسف وعلى آبائه من قبل، فيقول: ان الله تعالى هو الذي اصطفاكم من بنى آدم لمقام النبوة وجعل سلسلة جميع الانبياء مرتبطة بسلسلتكم وسوّدها على سائر سلاسل بني البشر، كما جعل اسرتكم موضع تعليم وهداية، تلقّن العلوم الإلهية والحكمة الربانية، فجمع فيكم سلطنة الدنيا الســـعــيــدة وســعادة الآخـــرة الخــالـدة، وجعــلك بالعلــم والحــكمة عــزيــزاً لمصر ونبياً عظيماً ومرشداً حكيماً.. فبعد أن يذكر تلك النعم ويعدّدها وكيف ان الله قد جعله هو واباءه ممتازين بالعلم والحكمة، يقول: ] ان ربك عليم حكيم[ أي اقتضت ربوبيته وحكمته ان يجعلك واباءك تحظون بنور اسم ((العليم الحكيم)).

وهكذا أجمل تلك النعم المفصّلة بهذه الخلاصة.

ومثلاً: قوله تعالى ] قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) الى قوله تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب[ (آل عمران:27)

تعرض هذه الآية أفعال الله سبحانه في المجتمع الانساني وتفيد:

بأن العزة والذلة والفقر والغنى مربوطة مباشرة بمشيئة الله وارادته تعالى. أي: ((ان التصرف في اكثر طبقات الكثرة تشتتاً انما هو بمشيئة الله وتقديره فلا دخل للمصادفة قط)).

فبعد ان اعطت الآية هذا الحكم، تقول: ان اعظم شئ في الحياة الانسانية هو رزقه، فتثبت ببضع مقدمات ان الرزق انما يرسل مباشرة من خزينة الرزاق الحقيقي؛ إذ إن رزقكم منوط بحياة الارض، وحياة الارض منوطة بالربيع، والربيع انما هو بيد من يسخر الشمس والقمر ويكور الليل والنهار. اذاً فان منح تفاحة لإنسان رزقاً حقيقياً، انما هو من فعل من يملأ الارض بانواع الثمرات، وهو الرزاق الحقيقي.

وبعد ذلك يجمل القرآن ويثبت تلك الافعال المفصّلة بهذه الخلاصة: ] وترزق من تشاء بغير حساب[ .

C النكتة البلاغية الرابعة:

ان القرآن قد يذكر المخلوقات الإلهية مرتبة بترتيب معين ثم يبين به ان في المخلوقات نظاماً وميزاناً، يُريان ثمرة المخلوقات وكأنه يضفي نوعاً من الشفافية والسطوع على المخلوقات التي تظهر منها الاسماء الإلهية المتجلية فيها، فكأن تلك المخلوقات المذكورة ألفاظ، وهذه الاسماء معانيها، أو انها ثمرات وهذه الاسماء نواها أو لبابها.

فمثلاً: ] ولقد خلقنا الانسان من سلالةٍ من طين ^ ثم جعلناهُ نطفةً في قرارٍ مكين^ ثم خلقنا النطفةَ عَلَقةً فخلقنا العلقة مُـضغةً فخلقنا الـمُـضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتبارك الله احسن الخالقين[ (المؤمنون:12ـ14) يذكر القرآن خلق الانسان واطواره العجيبة الغريبة البديعة المنتظمة الموزونة ذكراً مرتباً يبيّن كالمرآة ] فتبارك الله احسنُ الخالقين[ ، حتى كأن كل طـور يبـين نفسه ويـوحي بنفسه هـذه الآيـة، بل حـتـى قـالـها قبل مجيئها احـد كتّاب الوحي حينما كان يـكـتب هـذه الآية، فذهب به الظن الى أن يقول: أأوحي اليّ ايضاً؟ والحال أن كمال نظام الكلام الأول وشفافيته الرائقة وانسجامه التام يظهر نفسه قبل مجئ هذه الكلمة.

وكذا قوله تعالى:

] ان ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايامٍ ثم استوى على العرش يُغشي الّيل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والامرُ تبارك الله ربُ العالمين[ (الاعراف: 54)

يبين القرآن في هذه الآية عظمة القدرة الإلهية وسلطنة الربوبية بوجه يدلّ على قدير ذي جلال استوى على عرش ربوبيته ويسطّر آيات ربوبيته على صحائف الكون ويحوّل الليل والنهار كأنهما شريطان يعقب احدهما الاخر. والشمس والقمر والنجوم متهيئة لتلقي الاوامر كجنود مطيعين. لذا فكل روح ما ان تسمع هذه الآية إلاّ وتقول: تبارك الله رب العالمين.. بارك الله.. ماشاء الله. أي أن جملة ] تبارك الله رب العالمين[ تجري مجرى الخلاصة لما سبق من الجمل وهي بحكم نواتها وثمرتها وماء حياتها.

C مزية الجزالة الخامسة:

ان القرآن قد يذكر الجزئيات المادية المعرّضة للتغير والتي تكون مناط مختلف الكيفيات والاحوال، ثم لأجل تحويلها الى حقائق ثابتة يقيدها ويُجْمِلها بالاسماء الإلهية التي هي نورانية وكلية وثابتة. أو يأتي بخلاصة تسوق العقل الى التفكر والاعتبار.

ومن امثلة المعنى الاول:

] وعلّم ادمَ الاسماءَ كلّها ثم عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين^ قالوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[ (البقرة:31 - 32)

هذه الآية تذكر اولاً حادثة جزئية هي: ان سبب تفضيل آدم في الخلافة على الملائكة هو ((العلم)) ومن بعد ذلك تذكر حادثة مغلوبية الملائكة امام سيدنا آدم في قضية العلم، ثم تعقب ذلك باجمال هاتين الحادثتين بذكر اسمين كليين من الاسماء الحسنى انت العليم الحكيم بمعنى ان الملائكة يقولون: انت العليم يارب فعلّمتَ آدم فغلبنا وانت الحكيم فتمنحنا كل ما هو ملائم لإستعدادنا، وتفضّله علينا باستعداداته.

ومن امثلة المعنى الثاني:

] وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكُم مما في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لَبَنًا خالصاً سائغاً للشاربين^ ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سَكرَاً ورزقاً حسناً ان في ذلك لاية لقومٍ يعقلون^ واوحى ربُّك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يَعرشُون^ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سُبُلَ ربّكِ ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلفٌ الوانهُ فيه شفاءٌ للناس ان في ذلك لاية لقومٍ يتفكرون[ (النحل:66ــ69)

تعرض هذه الآيات الكريمة ان الله تعالى جعل الشاة، والمعزى، والبقر، والابل وامثالها من المخلوقات ينابيع خالصة زكية لذيذة تدفق الحليب، وجعل سبحانه العنب والتمر وأمثالهما أطباقاً من النعمة وجفاناً لطيفة لذيذة.. كما جعل من امثال النحل - التي هي معجزة من معجزات القدرة - العسل الذي فيه شفاء للناس الى جانب لذته وحلاوته.. وفي خاتمة المطاف تحث الآيات على التفكر والاعتبار وقياس غيرها عليها بــ ] ان في ذلك لايةً لقوم يتفكرون[ .

C النكتة البلاغية السادسة:

ان القرآن الكريم قد يَنشر احكام الربوبية على الكثرة الواسعة المنتشرة ثم يضع عليها مظاهر الوحدة ويجمعها في نقطة توحدّها كجهة وحدة بينها، أو يمكّنها في قاعدة كلية. فمثلاً: قوله تعالى ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم[ (البقرة: 255) فهذه الآية (أي آيةُ الكرسي) تأتي بعشر جمل تمثل عشر طبقات من التوحيد في اشكال مختلفة، وتثبتها. وبعد ذلك تقطع قطعاً كلياً بقوة صـارمة عـرق الـشـرك ومداخـلة غيـر اللّـه بـ ] مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه[ .

فهذه الآية لأنها قد تجلّى فيها الاسم الاعظم فان معانيها من حيث الحقائق الإلهية هي في الدرجة العظمى والمقام الاسمى، اذ تبين تصرفات الربوبية في الدرجة العظمى، وبعد ذكر تدبير الالوهية الموّجه للسموات والارض كافة توجهاً في اعلى مقام واعظم درجة تذكر الحفيظية الشاملة المطلقة بكل معانيها ثم تلخص منابع تلك التجليات العظمى في رابطة وحدة اتحادٍ، وجهة وحدة بقوله تعالى: ] وهو العلي العظيم[ .

ومثلاً:

] الله الذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار^ وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الّيل والنهار ^ وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها[ (ابراهيم:32ـ34)

تبين هذه الآيات: كيف أن الله تعالى قد خلق هذا الكون للانسان في حكم قصر، وارسل ماء الحياة من السماء الى الارض، فجعل السماء والارض مسخرتين كأنهما خادمان عاملان على ايصال الرزق الى الناس كافة، كما سخر له السفينة ليمنح الفرصة لكل أحد، ليستفيد من ثمار الارض كافة، ليضمن له العيش فيتبادل الافراد فيما بينهم ثمار سعيهم واعمالهم. أي جعل لكل من البحر والشجر والريح أوضاعاً خاصة بحيث تكون الريح كالسوط والسفينة كالفرس والبحر كالصحراء الواسعة تحتها. كما انه سبحانه جعل الانسان يرتبط مع كل ما في انحاء المعمورة بالسفينة وبوسائط نقل فطرية في الانهار والروافد وسيّر له الشمس والقمر وجعلهما ملاحين مأمورين لإدارة دولاب الكائنات الكبير واحضار الفصول المختلفة واعداد ما فيها من نعم إلهية. كما سخر الليل والنهار جاعلاً الليل لباساً وغطاءً ليخلد الانسان الى الراحة والنهار معاشاً ليتجر فيه.

وبعد تعداد هذه النعم الإلهية تأتي الآية بخلاصة ] وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها[ لبيان مدى سعة دائرة انعام الله تعالى على الانسان وكيف انها مملوءة بانواع النعم أي: ان كل ما سأله الانسان بحاجته الفطرية وبلسان استعداده قد منحه الله تعالى اياه. فتلك النعم لا تدخل في الحصر ولا تنفد ولا تنقضي بالتعداد.

نعم، ان كانت السموات والارض مائدة من موائد نعمه العظيمة وكانت الشمس والقمر والليل والنهار بعضاً من تلك النعم التي احتوتها تلك المائدة، فلا شك أن النعم المتوجهة الى الانسان لا تعد ولاتحصى.

C سر البلاغة السابعة:

قد تبين الآية غايات المسَبَّب وثمراته لتعزل السبب الظاهري وتسلب منه قدرة الخلق والايجاد. وليُعلَم ان السبب ما هو الاّ ستار ظاهري؛ ذلك لأن ارادة الغايات الحكيمة والثمرات الجليلة يلزم ان يكون من شأن من هو عليم مطلق العلم وحكيم مطلق الحكمة، بينما سببها جامدٌ من غير شعور. فالآية تفيد بذكر الثمرات والغايات: ان الاسباب وإن بدتْ في الظاهر والوجود متصلة مع المسببَّات إلاّ ان بينهما في الحقيقة وواقع الأمر بوناً شاسعاً جداً.

نعم! ان المسافة بين السبب وايجاد المسبَّب مسافة شاسعة بحيث لا طاقة لأعظم الاسباب ان تنال ايجاد أدنى مسبَّب، ففي هذا البعد بين السبب والمسبَّب تشرق الاسماء الإلهية كالنجوم الساطعة. فمطالع تلك الاسماء هي في تلك المسافة المعنوية، اذ كما يُشاهد اتصال أذيال السماء بالجبال المحيطة بالافق وتبدو مقرونة بها، بينما هناك مسافة عظيمة جداً بين دائرة الافق والسماء، كذلك فان ما بين الاسباب والمسببات مسافة معنوية عظيمة جداً لا تُرى الاّ بمنظار الايمان ونور القرآن. فمثلاً:

] فلينظر الانسانُ الى طعامهِ^ أنّا صَببنا الماء صبّاً^ ثم شققنا الارض شقّاً^ فانبتنا فيها حبّاً^ وعنباً وقـضباً^ وزيتوناً ونخلاً^ وحدائقَ غُلباً^ وفاكهة وأبّاً^ متاعاً لكم ولأنعامكم[ (عبس:24 – 32).

هذه الآيات الكريمة تذكر معجزات القدرة الإلهية ذكراً مرتباً حكيماً تربط الاسباب بالمسببات، ثم في خاتمة المطاف تبيّن الغاية بلفظ (متاعاً لكم ولأنعامكم) فتثبت في تلك الغاية أن متصرفاً مستتراً وراء جميع تلك الاسباب والمسببات المتسلسلة يرى تلك الغايات ويراعيها. وتؤكد أن تلك الاسباب ما هي إلاّ حجاب دونه.

نعم ان عبارة ] متاعاً لكم ولأنعامكم[ تسلب جميع الاسباب من القدرة على الايجاد والخلق. اذ تقول معنىً:

ان الماء الذي ينزل من السماء لتهيئة الارزاق لكم ولأنعامكم لا ينزل بنفسه، لأنه ليس له قابلية الرحمة والحنان عليكم وعلى انعامكم كي يرأف بحالكم؛ فاذاً يُرسل إرسالاً.

وان التراب الذي لاشعُور له، لأنه بعيد كل البعد من أن يرأف بحالكم فيهئ لكم الرزق، فلا ينشق اذاً بنفسه، بل هناك مَن يشقّه ويفتح ابوابه، ويناولكم النِعَم منه.

وكذا الاشجار والنباتات، فهي بعيدة كل البعد عن تهيئة الثمرات والحبوب رأفة بكم وتفكراً برزقكم، فما هي إلاّ حبالٌ وشرائط ممتدة من وراء ستار الغيب يمدها حكيم رحيم علّق تلك النعم بها وارسلها الى ذوي الحياة.

وهكذا فمن هذه البيانات تظهر مطالع اسماء حسنى كثيرة كالرحيم والرزاق والمنعم والكريم.

ومثلاً:

] ألم ترَ أن الله يُزجى سحاباً ثم يؤلّف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودْقَ يخرج من خلاله ويُنزّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار^ يقلبُ الله الّيل والنهار ان في ذلك لعبرةً لاولي الابصار^ والله خلَق كلَّ دابة من ماءٍ فمنهم مَن يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم مَن يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء ان الله على كل شيء قدير[ (النور:43 ــ45).

فهذه الآية الكريمة حينما تبين التصرفات العجيبة في انزال المطر وتشكل السحاب التي تمثل ستار خزينة الرحمة الإلهية واهم معجزة من معجزات الربوبية، تبينها كأن اجزاء السحاب كانت منتشرة ومختفية في جو الســــماء - كالجـنــود المنـتـشـريـن لـلراحــة - فــتــجـتـمع بـــأمــر الله وتـتألف تلك الاجـــزاء الصغيــرة مشكلة السحاب كما تجتمع الجنود بصوت بوق عسكري، فيرسل الماء الباعث على الحياة الى ذوي الحياة كافة، من تلك القطع من السحاب التي هي في جسامة الجبال السيارة في القيامة وعلى صورتها. وهي في بياض الثلج والبَرَد وفي رطوبتها.. فيُشاهد في ذلك الارسال ارادة وقصداً لأنه يأتي حسب الحاجة، أي ترسل المطر ارسالاً، ولا يمكن ان تجتمع تلك الاجزاء الضخمة من السحاب وكأنها جبال بنفسها في الوقت الذي نرى الجو براقاً صحواً لا شئ يعكّره، بل يرسلها مَن يعرف ذوي الحياة ويعلم بحالهم.

ففي هذه المسافة المعنوية تظهر مطالع الاسماء الحسنى كالقدير والعليم والمتصرف والمدبّر والمربي والمغيث والمحيي.

C مزية الجزالة الثامنة:

ان القرآن الكريم قد يذكر من افعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الاذهان للتصديق ويحضر القلوب للايمان بافعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الافعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل يجعلنا نقنع ونطمئن اليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلاً:

] أوَ لم يَرَ الانسانُ أنّا خَلقناه مِن نطفةٍ فاذا هو خصيمٌ مبينٌ..[ الى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

انه يقدّم النشأة الاولى اولاً، ويعرضها للانظار قائلاً: انكم ترون نشأتكم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى خلق الانسان، فكيف تنكرون اذن النشأة الاخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟ ثم يشير بـ ] الذي جعل لكم من الشجَر الأخضر ناراً[ الى تلك الآلاء وذلك الاحسان والانعام الذي انعمه الحق سبحانه على الانسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدىً ولا عبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام. ثم انه يقول رمزاً: انكم ترون احياء واخضرار الاشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟ ثم هل يمكن ان يعجز مَن خلق السماوات والارض عن إحياء الانسان واماتـتــه وهو ثــمــرة الســـموات والأرض؟ وهل يمــكن من يــديــر أمر الشجرة ويرعاها ان يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع اجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟ وهكذا فان الذي سيحييكم في الحشر مَن بيده مقاليد السموات والارض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر ((كن فيكون)) تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسيـر وهـيّـن كخلق زهـرة واحـدة، وايجاد جميع الحيـوانات سهل على قدرته كايجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ] من يحيي العظام[ ؟

ثم انه بعبارة ] فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء [ يبين انه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فان نتيجة جميع الدلائل هي: ] واليه تُرجعون[ أي انه يحييكم من القبر، ويسوقكم الى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى ان هذه الآيات قد هيأت الاذهان، واحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت من نظائرها بافعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن ايضاً افعالاً اخروية بشكل يحسس ويشير الى نظائرها الدنيوية،ليمنع الانكار والاستبعاد. فمثلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا الشمسُ كُوِّرتْ ^ واذا النجومُ انكدَرتْ ^ واذا الجبالُ سُيرتْ^ واذا العشارُ عطلتْ^ واذا الوحوشُ حُـشِرتْ^ واذا البحار سُجّرتْ^ واذا النفوسُ زُوّجتُْ^ واذا الموؤدة سُئلتْ^ بأيّ ذنبٍ قُتلَتْ^ واذا الصُحُفُ نُشرت^ واذا السماء كُشطتْ^ واذا الجحيمُ سُعّرتْ^ واذا الجنةُ ازلفتْ^ علمتْ نفسٌ ما احــضرتْ...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انفطرتْ^ واذا الكواكبُ انتثرتْ^ واذا البحار فُجرتْ^ واذا القبورُ بُعثرتْ^ علمتْ نفسٌ ما قدّمتْ واخّرت...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انشقّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ ^ واذا الارضُ مُدّت^ والقتْ ما فيها وتخلّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ...[ الى آخر السورة.

فترى ان هذه السوَر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة باسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الانسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع إلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجاً، فمثلاً:

] واذا الصحف نشرت[ تفيد هذه الآية: ((ستنشر في الحشر جميع اعمال الفرد مكتوبة على صحيفة)). وحيث ان هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل اليها سبيلاً، إلاّ أن السورة كما تشير الى الحشر الربيعي وكما ان للنقاط الاخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال، وله وظائف. وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الاسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الاعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي انه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فانه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الاغصان وتفتح الاوراق والاثمار.

نعم إن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ] واذا الصحف نشرت[ .

وهكذا قس النقاط الاخرى على هذا المنوال. وان كانت لديك قوة استنباط فاستنبط. ولاجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ] اذا الشمس كوّرت[ ايضاً. فان لفظ (كوّرت) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّت وجمعت، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ الى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولا: ان الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والاثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته واظهرها الى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانياً: ان الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الاسحار ولفّها في الاماسي وهكذا يتناوب الليل والنهار هامة الارض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو يكون القمر - الى حدٍ ما - نقاباً لاخذها وعطائها ذلك، أي كما ان هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر اعمالها بهذه الاسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى ان لم يكن هناك سبب للاعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويداً رويداً. تسترجع الشمس - بهذا التوسع - وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الارض باذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: الى هنا انتهت مهمتك مع الارض، فهيّا الى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين إياها بالخيانة وعدم الوفاء. بهذا تقرأ الشمسُ الأمر الرباني ] اذا الشمس كوّرت[ على وجهها المبقع.

C نكتة البلاغة التاسعة:

ان القرآن الكريم قد يذكر بعضاً من المقاصد الجزئية،ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات الى قاعدة كلية ويجيلَ الاذهان فيها يثبّت ذلك المقصد الجزئي ويقرره ويؤكده بالاسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية.

فمثلاً:

] قد سمعَ الله قولَ التي تُجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمعُ تحاوركما ان الله سميعٌ بصير[ (المجادلة: 1)

يقول القرآن: ان الله سميع مطلق السمع يسمع كل شئ، حتى إنه ليسمع باسمه ((الحق)) حادثة جزئية، حادثة لمرأة - المرأة التي حظيت بألطف تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية وهي التي تمثل اعظم كنز لحقيقة الرأفة والحنان - هذه الدعوى المقدمة من امرأة وهي محقة في دعواها على زوجها وشكواها الى الله منه يسمعها باهتمام بالغ كأي أمرعظيم باسم ((الرحيم)) وينظر اليها بكل جد ويراها باسم ((الحق)).

فلأجل جعل هذا المقصد الجزئي كلياً تفيد الآية بأن الذي يسمع ادنى حادثة من المخلوقات ويراها، يلزم ان يكون ذلك الذي يسمع كل شئ ويراه، وهو المنزّه عن الممكنات. والذي يكون رباً للكون لابد أن يرى ما في الكون اجمع من مظالم ويسمع شكوى المظلومين، فالذي لا يرى مصائبهم ولا يسمع استغاثاتهم لايمكن ان يكون رباً لهم.

لذا فان جملة ] ان الله سميع بصير[ تبين حقيقتين عظيمتين. كما جعلت المقصد الجزئي أمراً كلياً.

ومثل ثان:

] سبحانَ الذي اسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرام الى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله لنُريهُ من آياتنا انه هو السميعُ البصير[ (الاسراء:1).

ان القرآن الكريم يختم هذه الآية بـ ] انه هو السميع البصير[ وذلك بعد ذكره إسراء الرسول الحبيب e من مبدأ المعراج - أي من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى - ومنتهاه الذي تشير إليه سورة النجم.

فالضمير في ((إنّه)) إما أن يرجع الى الله تعالى، أو الى الرسول الكريم e فاذا كان راجعاً الى الرسول e ، فان قوانين البلاغة ومناسبة سياق الكلام تفيدان: أنّ هذه السياحة الجزئية، فيها من السير العمومي والعروج الكلي ما قد سَمِع وشاهَدَ كلَّ ما لاقى بَصَره وسمعَه من الآيات الربانية، وبدائع الصنعة الإلهية اثناء ارتقائه في المراتب الكلية للاسماء الإلهية الحسنى البالغة الى سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى. مما يدل على أن هذه السياحة الجزئية هي في حُكم مفتاحٍ لسياحةٍ كليةٍ جامعة لعجائب الصنعة الإلهية(1).

واذا كان الضمير راجعاً الى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى يكون عندئذٍ هكذا:

إنه سبحانه وتعالى دعا عبدَه الى حضوره والمثول بين يديه لينيط به مهمةً ويكلّفه بوظيفة؛ فاسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي هو مجمع الانبياء. وبعد اجراء اللقاء معهم واظهاره بأنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سَيَّره في جولةٍ ضمن مُلكه وسياحةٍ ضمن ملكوته، حتى أبلغه سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.

وهكذا فان تلك السياحة أو السير، وإن كانت معراجاً جزئياً وأن الذي عُرج به عبدٌ، إلاّ ان هذا العبد يحمل امانة عظيمة تتعلق بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات ويبدل من ملامحها ويصبغها بصبغته. فضلاً عن أن لديه مفتاحاً يستطيع ان يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

فلأجل كل هذا يصف الله سبحانه وتعالى نفسَه بــ ] إنه هو السميعُ البصير[ كي يُظهِر ان في تلك الأمانة وفي ذلك النور وفي ذلك المفتاح، من الحِكم السامية ما يشمل عموم الكائنات، ويعم جميع المخلوقات، ويحيط بالكون اجمع.

ومثل آخر:

] الحمد للّه فاطرِ السموات والارض جاعلِ الملئكةِ رسلاً اولي اجنحةٍ مثنى وثلثَ ورباعَ يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ ان الله على كل شئٍ قدير[ (فاطر:1).

ففي هذه السورة يقول تعالى: ان فاطر السموات والارض ذا الجلال قد زيّن السموات والارض وبيّن آثار كماله على ما لا يعد من المشاهدين وجعلهم يرفعون اليه ما لا نهاية له من الحمد والثناء. وانه تعالى زيّن الارض والسماء بما لا يحد من النعم والآلاء فتحمد السموات والارض بلسان نعمها وبلسان المنعمين عليهم جميعاً وتثنى على فاطرها (الرحمن). وبعد ذلك يقول: ان الله سبحانه الذي منح الانسان والحيوانات والطيور من سكان الارض اجهزة واجنحة يتمكنون بها من الطيران والسياحة بين مدن الارض وممالكها، والذي منح سكان النجوم وقصور السموات - وهم الملائكة - كي تسيح وتطير بين ممالكها العلوية وابراجها السماوية لابد ان يكون قادراً على كل شئ. فالذي اعطى الذبابة الجناح لتطير من ثمرة الى اخرى، والعصفور ليطير من شجرة الى اخرى، هو الذي جعل الملائكة اولي اجنحة لتطير من الزُهَرة الى المشتري ومن المشتري الى زُحَل.

ثم ان عبارة ] مثنى وثلث ورباع[ تشير الى أن الملائكة ليسوا منحصرين بجزئية ولا يقيدهم مكان معين، كما هو الحال في سكان الارض بل يمكن ان يكونوا في آن واحد في اربع نجوم أو اكثر.

فهذه الحادثة الجزئية، أي تجهيز الملائكة بالاجنحة تشير الى عظمة القدرة الإلهية المطلقة العامة وتؤكدها بخلاصة ] ان الله على كل شيء قدير[

C نكتة البلاغة العاشرة:

قد تذكر الآية ما اقترفه الانسان من سيئات، فتزجره زجراً عنيفاً، ثم تختمها ببعض من الاسماء الحسنى التي تشير الى الرحمة الإلهية لئلا يلقيه الزجر العنيف في اليأس والقنوط.

فمثلاً:

] قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً^ سبحانه وتعالى عمّا يقولون علواً كبيراً ^ تسبح له السموات السبع والارض ومَن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليماً غفوراً[ (الاسراء:42 - 44)

تقول هذه الآية: ((قل لهم لو كان في ملك الله شريك كما تقولون لامتدّت ايديهم الى عرش ربوبيته ولظهرت علائم المداخلة باختلال النظام، ولكن جميع المخلوقات من السموات السبع الطباق الى الأحياء المجهرية، جزئيها وكليّها، صغيرها وكبيرها، تسبّح بلسان ما يظهر عليها من تجليات الاسماء الحسنى ونقوشها، وتقدس مسمّى تلك الاسماء ذا الجلال والاكرام، وتنزّهه عن الشريك والنظير)).

نعم، ان السماء تقدسه وتشهد على وحدته بكلماتهاالنيرة من شموس، ونجوم، وبحكمتها وانتظامها.. وان جو الهواء يسبّحه ويقدسه ويشهد على وحدانيته بصوت السحاب وكلمات الرعد والبرق والقطرات.. والارض تسبح خالقها الجليل وتوحدهّ بكلماتها الحية من حيوانات ونباتات وموجودات.. وكذا تسبحه وتشهد على وحدانيته كل شجرة من اشجارها بكلمات اوراقها وازاهيرها وثمراتها.. وكل مخلوق صغير ومـصــنوع جــزئــي مــع صــغره وجزئيــته يســبح باشــارات ما يحـمــله مــن نقوش وكيفيات وما يظهره من أسماء حسنى كثيرة وتقدس مسمى تلك الاسماء ذا الجلال وتشهد على وحدانيته تعالى. وهكذا فالكون برمته معاً وبلسان واحد، يسبح خالقه الجليل متفقاً ويشهد على وحدانيته، مؤدياً بكمال الطاعة ما انيط به من وظائف العبودية. الاّ الانسان الذي هو خلاصــة الكـون ونتيجته وخليفته المكرم وثمرته الــيانــعة، يقــوم بخلاف جميع ما في الكون وبضده، فيكفر بالله ويشرك به. فكــم هــو قبــيــح صنــيعه هـذا؟ وكــم ياترى يــســتـحق عقـاباً عـلى مـا قــدمت يــداه؟ ولكن لئلا يقع الانسان في هاوية اليأس والقنوط تبين له الآية حكمةَ عدم هدم القهار الجليل الكونَ على رأسه بما يجترحه من سيئات شنيعة كهذه الجناية العظمى، وتقول ] انه كان حليماً غفوراً[ مبينة حكمة الامهال وفتح باب الأمل بهذه الخاتمة.

فافهم من هذه الاشارات العشر الاعجازية، ان في الخلاصات والفذلكات التي في ختام الآيات لمعات اعجازية كثيرة فضلاً عما تترشح منها من رشحات الهداية الغزيرة، حتى بلغ بدهاة البلغاء أنهم لم يتمالكوا انفسهم من الحيرة والاعجاب امام هذه الاساليب البديعة فقالوا: ما هذا كلام البشر، وآمنوا بحق اليقين بقوله تعالى:

] ان هو الاّ وحي يوحى[ .

هذا وان بعض الآيات - الى جانب جميع الاشارات المذكورة - تتضمن مزايا اخرى عديدة لم نتطرق اليها في بحثنا، فيُشاهد من اجماع تلك المزايا نقش اعجازي بديع يراه حتى العميان.

النور الثالث

وهو أن القرآن الكريم لا يمكن ان يقاس بأي كلام آخر، اذ إن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة:

الأول: المتكلم. الثاني: المخاطب. الثالث: المقصد. الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الادباء. فلابد من ان تنظر في الكلام الى: مَن قال؟ ولمن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟ فلا تقف عند الكلام وحده وتنظر اليه.

ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الاربعة فبانعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها.

نعم ان الكلام يستمد القوة من المتكلم، فاذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن ارادة المتكلم وقدرته حسب درجته وعند ذاك يكون الكلام مؤثراً نافذاً يسري سريان الكهرباء من دون اعاقة أو مقاومة. وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة.

فمثلاً: ] ياارضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي[ (هود:44) و] فقال لها وللارض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين[ (فصلت:11)

فانظر الى قوة وعلو هذه الاوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والارادة. ثم انظر الى كلام انسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا ارض وانشقي ياسماء وقومي ايتُها القيامة!

فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم اين الاوامر الناشئة من فضول الانسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيه.. واين الاوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله.

نعم! اين امر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ : تقدّم، واين هذا الأمر اذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به؟ فهذان الأمران وان كانا صورة واحدة إلاّ أن بينهما معنىً بوناً شاسعاً،كما بين القائد العام والجندي.

ومثلاً: ] انما امره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون[ (يس:82) و] واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم[ (البقرة:34) انظر الى قوة وعلو الامرين في هاتين الآيتين. ثم انظر الى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟.

نعم! اين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام مُحسن في آن احسانه، كلٌ يصور أفاعيله، ويطابق فعله قوله، أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا لكذا، افعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا... وهكذا يبين فعلَه للعين والاذن معاً، فمثلاً :

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهم كيف بنيناها وزيّناها ومالَها من فروج^ والارضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كل زوج بهيج^ تَبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد^ رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق:6ــ11).

اين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة. - وقد ذكر كثيراً من الدلائل ضمن هذه الافعال مع انتظام البلاغة واثبت الحشر الذي هو نتيجتها بتعبير ] كذلك الخروج[ ليلزم بـه الــذين ينكرون الحــشر فــي مستــهل الــسورة - فــأيــن هذا وايــن كلام النــاس عــلى وجه الفــضول عن افعال لا تمسهم إلاّ قليلاً؟ فلا تكون نسبته اليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة الى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة.

ان بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى ] أفلم ينظروا[ الى ] كذلك الخروج[ على وجه أفضل يتطلب منا وقتاً طويلاً فنكتفي بالاشارة اليه ونمضي الى شأننا:

ان القرآن يبسط مقدّمات ليرغم الكفار على قبول الحشر، لإنكارهم اياه في مستهل السورة. فيقول: افلا تنظرون الى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيباً منتظماً.. أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص او فطور..؟ أوَلا ترون كيف بسطنا الارض وفرشناها لكم بالحكمة، وثبتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها؟ أوَلا ترون انا خلقنا فيها ازواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها ارجاء الارض كافة؟ أوَلا ترون كيف ارُسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي؟ أوَلا يرون انني احيي الارض الميتة، بذلك الماء. وآتي الوفاً من الحشر الدنيوي. فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الارض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر؛ اذ تموت الارض في القيامة وتبعثون انتم أحياء. فأين ما اظهرته الآية في اثبات الحشر من جزالة البيان ـ التي ما اشرنا إلا الى واحدة من الألف منها ـ واين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟.

* * *

لقد انتهجنا من اول هذه الرسالة الى هنا نهج المحايد الموضوعي في تحقيق قضية الاعجاز، وقد ابقينا كثيراً من حقوق القرآن مطوية مخفية مستورة، فكنا نعقد موازنة ننزل تلك الشمس منزلة الشموع، وذلك كله لكي نُخضع خصماً عاتياً لقبول اعجاز القرآن.

والآن وقد وفَّى التحقيق العلمي مهمته، واُثبت اعجاز القرآن اثباتاً ساطعاً. فنشير ببعض القول باسم الحقيقة لا باسم التحقيق العلمي، الى مقام القرآن، ذلك المقام العظيم الذي لا تسعه موازنة ولا ميزان.

نعم! ان نسبة سائر الكلام الى آيات القرآن، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا، الى النجوم نفسها.

نعم! اين كلمات القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبينها، واين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره؟

اين الكلمات الحية حياة الملائكة الاطهار.. كلمات القرآن الذي يفيض بانوار الهداية وهو كلام خالق الشمس والقمر.. واين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير اهواء النفس.

نعم! كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الاطهار والروحانيين المنوّرين؟ انها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم. وقد اثبتتْ هذه الحقيقة مع الكلمة الخامسة والعشرين جميع الكلمات الاربع والعشرين السابقة. فدعوانا هذه ليست ادعاء وانما هي نتيجة لبرهان سبقها.

نعم! اين الفاظ القرآن التي كل منها صدف درر الهداية ومنبـع حقائق الايمان، ومعدن أسس الاسلام، والتي تتنزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه الى الانسان، فاين هذا الخطاب الازلي المتضمن للعلم والقدرة والارادة، من الفاظ الانسان الواهية المليئة بالأهواء؟

نعم! ان القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت اغصانها في جميع ارجاء العالم الاسلامي، فاورقت جميع معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره واحكامه، وابرزت اولياءه واصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة، واثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستور عمل ومنهج حياة.. نعم اين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال واين منها كلام البشر المعهود. اين الثرى من الثريا؟

ان القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ اجمعين منذ اكثر من الف وثلاث مائة سنة وان كل فرد وكل امة وكل بلد قد اخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ.. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الألفة، ولا تلك الوفرة، ولا مرور الزمان، ولا التحولات الهائلة، بحقائقه القيمة ولا باسلوبه الجميل، ولم تشيّبه ولم تتمكن من ان تفقِدهُ طراوته أو تسقط من قيمته أو تطفئ سنا جماله وحسنه.

ان هذه الحالة وحدها اعجاز أي اعجاز.

والآن اذا ما قام أحدٌ ونظم قسماً من الحقائق التي اتى بها القرآن حسب اهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم اراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن بغية الاعتراض على بعض آياته وقال: لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن. فلا شك ان كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:

ان بنّاءً شيد قصراً فخماً، احجاره من جواهر مختلفة، ووضع تلك الاحجار في اوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته. وبدأ يبدّل نقوش الاحجار واوضاعها، ويجعلها في نظام حسب اهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً.ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه، ثم بدأ يقول: انظروا ان لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة اكثر من بنّاء القصر! فانظروا الى جواهري الثمينة! لا شك ان كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #37
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات


الاساس الثاني:

ان المدنية الحاضرة لا تقبل تعدد الزوجات، وتحسب ذلك الحكم القرآني مخالفاً للحكمة ومنافياً لمصلحة البشر.

نعم، لو كانت الحكمة من الزواج قاصرة على قضاء الشهوة للزم ان يكون الامر معكوساً، بينماهو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات وبتصديق النباتات المتزاوجة:

ان الحكمة من الزواج والغاية منه انما هي التكاثر وانجاب النسل. أما اللذة الحاصلة من قـضاء الشــهوة فهــي اجرة جزئية تمنــحها الـرحمــة الإلهــية لــتأدية تلــك المهمة. فما دام الزواج للتكاثر وانجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً وحقيقةً، فلا شك ان المرأة التي لا يمكن أن تلد إلاّ مرة واحدة في السنة ولا تكون خصبة الاّ نصف ايام الشهر وتدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها لا تكفي الرجل الذي له القدرة على الاخصاب في اغلب الاوقات حتى وهو ابن مائة سنة. لذا تضطر المدنية الى فتح اماكن العهر والفحش.

U الاساس الثالث:

ان المدنية التي لا تتحاكم الى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة ] للذَكَرِ مثلُ حظ الانثيين[ (النساء:11) التي تمنح النساء الثلث من الميراث (اي نصف ما يأخذه الذكر).

ومن البديهي ان اغلب الاحكام في الحياة الاجتماعية انما تسنّ حسب الاكثرية من الناس، فغالبية النساء يجدن ازواجاً يعيلونهن ويحمونهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون الى اعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن.

فاذا ما اخذت الانثى الثلث من ابيها (اي نصف ما اخذه الزوج من ابيه) فان زوجها سيسد حاجتها. بينما اذا اخذ الرجل حظين من ابيه فانه سينفق قسطاً منه على زوجته، وبذلك تحصل المساواة، ويكون الرجل مساوياً لأخته. وهكذا تقتضي العدالة القرآنية(1).



U الاساس الرابع:

ان القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادة الاصنام يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الاصنام. أما المدنية الحاضرة فانها تعدّ الصورمن مزاياها وفضائلها وتحاول ان تعارض القرآن. والحال ان الصور اياً كانت، ظلية أو غيرها، فهي: إما ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى متجسم، حيث تهيج الاهواء وتدفع الانسان الى الظلم والرياء والهوى.

ثم ان القرآن يأمر النساء ان يحتجبن بحجاب الحياء، رحمةً بهن وصيانة لحرمتهن وكرامتهن ولكيلا تهان تلك المعادن الثمينة معادن الشفقة والرأفة وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة تحت اقدام الذل والمهانة، ولكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها(1). أما المدنية فانها قد اخرجت النساء من اوكارهن وبيوتهن ومزقت حجابهن وأدت بالبشرية ان يجنَّ جنونها. علماً ان الحياة العائلية انما تدوم بالمحبة والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة والاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما الولع بالصور فانه يفسد الاخلاق ويهدمها كلياً، ويؤدي الى انحطاط الروح وتردّيها، ويمكن فهم هذا بالآتي:

كما ان النظر بدافع الهوى وبشهوة الى جنازة امرأة حسناء تنتظر الرحمة وترجوها يهدم الاخلاق ويحطها، كذلك النظر بشهوة الى صور نساء ميتات أو الى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن - يزعزع مشاعر الانسان ويعبث بها، ويهدمها.

وهكذا بمثل هذه المسائل الاربع فان كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادة البشر في الدنيا كما تحقق سعادته الابدية في الاخرة.

فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة تخسر وتُغلب امام دساتير القرآن المتعلقة بحياة الانسان الاجتماعية، فيظهر افلاسها - من زاوية الحقيقة - ازاء اعجاز القرآن المعنوي، كذلك فان فلسفة اوربا وحكمة البشر - وهي المدنية - عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس والعشرين السابقة، ظهرت عاجزة وحكمة القرآن معجزة، وان شئت فراجع ((الكلمة الثانية عشرة والثالثة عشرة)) لتلمس عجز حكمة الفلسفة وافلاسها واعجاز حكمة القرآن وغناها.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة غُلبت امام اعجاز حكمة القرآن العلمي والعملي، كذلك آداب المدنية وبلاغتها فهي مغلوبة امام الأدب القرآنـي وبلاغتــه. والنسبة بينهما اشبه ما يكـون بــبــكاء يتيم فَقَد أبــوَيه بكاءً ملــؤه الحزن الــقــاتـم واليأس المرير، الى انشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصير الأمد غناءً ملؤه الشوق والأمل.. أو نسبة صراخ سكير يتخبط في وضع سافل، الى قصائد حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الانفس والاموال وبلوغ النصر. لأن: الادب والبلاغة من حيث تأثير الاسلوب، إما يورثان الحزن وإما الفرح. والحزن نفسه قسمان:

إما انه حزن منبعث من فقد الأحبة، أي من عدم وجود الأحبة والاخلاء، وهو حزن مظلم كئيب تورثه المدنية الملوثة بالضلالة والمشوبة بالغفلة والمعتقدة بالطبيعة، وإما انه ناشىء من فراق الأحبة، بمعنى ان الأحبة موجودون، ولكن فراقهم يبعث على حزن ينم عن لوعة الاشتياق. فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.

أما الفرح والسرور فهو ايضاً قسمان:

الاول: يدفع النفس الى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية من ادب مسرحي وسينمائي وروائي.

أما الثاني: فهو فرح لطيف برئ نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها ويحث الروح والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الاصلي، على مقرهم الابدي، على احبتهم الاخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر ويشوّقه للجنّة والسعادة الابدية وعلى رؤية جمال الله تعالى.

ولقد توهم بعض قاصري الفهم وممن لايكلفون انفسهم دقة النظر: ان المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بـعـضهم لبعـض ظهيراً[ ظنوها صورة محالة ومبالغة بلاغية! حاشَ لله! بل انها بلاغة هي عين الحقيقة، وصورة ممكنة وواقعة وليست محالة قط. فأحد وجوه تلك الصورة هو أنه:

لو اجتمع اجمل ما يقوله الانس والجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه، فلا يماثل القرآن قط ولن يماثله. لذا لم يظهر مثيله.

والوجه الآخر: ان المدنية وحكمة الفلسفة والآداب الاجنبية التي هي نتائج افكار الجن والانس وحتى الشياطين وحصيلة اعمالهم، هي في دركات العجز امام احكام القرآن وحكمته وبلاغته. كما قد بيّنا امثلة منها.

الجلوة الثالثة:

خطابه كل طبقة من طبقات الناس

ان القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجهاً خاصاً الى تلك الطبقة بالذات. اذ لما كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة الى الايمان الذي هو اسمى العلوم وادقها، والى معرفة الله التي هي اوسع العلوم وأنورها، والى الاحكام الاسلامية التي هي اهم المعارف واكثرها تنوعاً، فمن الألزم اذاً ان يكون الدرس الذي يلقيه على تلك الطوائف من الناس، درساً يوائم فهم كلٍ منها. والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفاً، فلابد اذاً من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفة من الناس - حسب درجاتهاــ تأخذ حظها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن.

ولقد وافينا بأمثلة كثيرة لهذه الحقيقة، يمكن مراجعتها، اما هنا فنكتفي بالاشارة الى بضع اجزاءٍ منها، والى حظ طبقة أو طبقتين منها من الفهم فحسب.

فمثلاً:

قوله تعالى: ] لم يلد ولم يولد ^ ولم يكن له كفواً أحد[

فان حظ فهم طبقة العوام التي تشكل الاكثرية المطلقة هو:

((ان الله منزّه عن الوالد والولد وعن الزوجة والأقران))

وحظ طبقة اخرى متوسطة من الفهم هو:

((نفي الوهية عيسى عليه السلام والملائكة، وكل ما هو من شأنه التولد)) لأن نفي المحال لا فائدة منهفي الظاهر؛ لذا فلابد ان يكون المراد اذاً ما هو لازم الحكم كما هو مقرر في البلاغة. فالمراد من نفي الولد والوالدية اللذين لهما خصائص الجسمانية هو نفي الالوهية عن كل مَن له ولد ووالد وكفو، وبيان عدم لياقتهم للالوهية.

فمن هذا السر تبين: أن سورة الاخلاص يمكن أن تفيد كل انسان في كل وقت.

وحظ فهم طبقة اكثر تقدماً هو:

ان الله منزّه عن كل رابطة تتعلق بالموجودات تُشم منها رائحة التوليد والتولد، وهو مقدّس عن كل شريك ومعين ومجانس، وانما علاقتــه بالمــوجــودات هي الخــلاقيـة. فهو يخلق الموجودات بأمر ((كن فيكون)) بارادته الازلية وباختياره. وهو منزّه عن كل رابطة تنافي الكمال، كالايجاب والاضطرار والصدور بغير اختيار.

وحظ فهم طبقة أعلى من هذه هو:

ان الله ازلي، ابدي، اول وآخر، لانظير له ولا كفو، ولاشبيه، ولامثيل ولامثال في اية جهة كانت، لا في ذاته ولافي صفاته ولا في افعاله. وانما هناك (المَثَل) (ولله المثل الاعلى) الذي يفيد التشبيه في افعاله وشؤونه فحسب.

فلك أن تقيس على هذه الطبقات اصحاب الحظوظ المختلفة في الادراك من امثال طبقة العارفين وطبقة العاشقين وطبقة الصديقين وغيرهم...

المثال الثاني:

قوله تعالى ] ما كان محمد أبا احدٍ من رجالكم[ (الاحزاب:40)

فحظ فهم الطبقة الاولى من هذه الآية هو:

ان زيداً خادم الرسول e ومتبناه ومخاطبه بـ : يا بني، قد طلّق زوجته العزيزة بعدما احسّ انه ليس كفواً لها، فتزوجها الرسول e بأمر الله تعالى، فالآية (النازلة بهذه المناسبة) تقول: ان النبي e اذا خاطبكم مخاطبة الاب لإبنه، فانه يخاطبكم من حيث الرسالة، اذ هو ليس اباً لأحدٍ منكم باعتباره الشخصي حتى لا تليق به زوجاته.

وحظ فهم الطبقة الثانية هو:

ان الامير العظيم ينظر الى رعاياه نظر الأب الرحيم، فان كان سلطاناً روحانياً في الظاهر والباطن فان رحمته ستفوق رحمة الاب وشفقته اضعافاً مضاعفة، حتى تنظر اليه افراد الرعية نظرهم للاب وكأنهم اولاده الحقيقيون. وحيث إن النظرة الى الاب لا يمكن ان تنقلب الى النظر الى الزوج والنظر الى البنت لايتحول بسهولة الى النظر الى الزوجة، فلا يوافق في فكر العامة تزوج الرسول e ببنات المؤمنين استناداً الى هذا السر. لذا فالقرآن يخاطبهم قائلاً: ان الرسول e ينظر اليكم نظر الرحمة والشفقة من زاوية الرحمة الإلهية ويعاملكم معاملة الاب الحنون من حيث النبوة، ولكنه ليس اباً لكم من حيث الشخصية الانسانية حتى لا يلائم تزوجه من بناتكم ويحرم عليه.

القسم الثالث يفهم الآية هكذا:

ينبغي عليكم ألاّ ترتكبوا السيئات والذنوب اعتماداً على رأفة الرسول الكريم e عليكم وانتسابكم اليه. اذ إن هناك الكثيرين يعتمدون على ساداتهم ومرشديهم فيتكاسلون عن العبادة والعمل، بل يقولون احياناً:

((قد اُديِّتْ صلاتُنا)) (كما هو الحال لدى بعض الشيعة).

النكتة الرابعة:

ان قسماً آخر يفهم اشارة غيبية من الآية وهي:

ان أبناء الرسول e لا يبلغون مبلغ الرجال، وانما يتوفاهم الله - قبل ذلك - فلا يدوم نسله من حيث كونهم رجالاً لحكمة يراها سبحانه وتعالى. إلاّ أن لفظ " رجال " يشير الى أنه سيدوم نسله من النساء دون الرجال.

فللّه الحمد والمنة فان النسل الطيب المبارك من فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) كالحسن والحسين (رضي الله عنهما) وهما البدران المنوران لسلسلتين نورانيتين، يديمان ذلك النسل المبارك (المادي والمعنوي) لشمس النبوة.

اللّهم صلِّ عليه وعلى آله .

((تمت الشعلة الاولى بأشعتها الثلاثة)).









الشعلة الثانية

هذه الشعلة لها ثلاثة انوار

النور الاول

ان القرآن الكريم قد جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون القوي بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب الرفيع بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني وشهادة الوف من ائمة هذه العلوم كالزمخشري والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني، مع ان هناك ما يقارب تسعة اسباب مهمة تخل بذلك التجاوب والتعاون والتساند والسلاسة والسلامة، فلم تؤثر تلك الاسباب في الافساد والاخلال بل مدّت وعضّدت سلاسته وسلامته وتسانده إلاّ ما اجرته بشئ من حكمها في اخراج رؤوسها من وراء ستار النظام والسلاسة، وذلك لتدلّ على معان جليلة من سلاسة نظم القرآن، بمثل ما تخرج البراعم بعض البروزات والندب في جذع الشجرة المنسقة، فهذه البروزات ليست لإخلال تناسق الشجرة وتناسبها وانما لإعطاء ثمرات يتم بها جمال الشجرة وكمال زينتها.

اذ إن ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة نجماً نجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً، مع أنه يُظهر من التلاؤم الكامل كأنه نزل دفعة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة لاسباب نزول مختلفة متباينة، مع أنه يظهر من التساند التام كأنه نزل لسبب واحد.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء جواباً لأسئلة مكررة متفاوتة، مع انه يظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد.

وأيضاً ان ذلك القرآن جاء بياناً لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن نزل متضمناً لتنزلات كلامية إلهية في اساليب تناسب افهامَ مخاطبين لا يحصرون، ومن حالات من التلـقي متخــالــفة متــنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل، كأن الحالة واحدة والفهم واحد، حتى تجري السلاسة كالماء السلسبيل.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء مكلماً متوجهاً الى اصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كل صنف انه المخاطب وحده بالاصالة.

وأيضاً ان ذلك القرآن نزل هادياً وموصلاً الى غايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع انه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كأن المقصد واحد.

فهذه الاسباب مع انها اسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى إلاّ انها استخدمت في اظهار اعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه.

نعم! من كان ذا قلبٍ غير سقيم، وعقل مستقيم، ووجدان غير مريض، وذوق سليم، يرى في بيان القرآن سلاسة جميلة وتناسقاً لطيفاً ونغمة لذيذة وفصاحة فريدة. فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً بوضوح تام كأنها صحيفة واحدة، يقلّبها كيف يشاء، فيعرّف معانيها على ما يشاء من اسلوب.

فلو اردنا توضيح حقيقة هذا النور الاول بأمثلة، لاحتجنا الى بضعة مجلدات. لذا نكتفي بالايضاحات التي تخص هذه الحقيقة في كل من ((الرسائل العربية))(1) و ((اشارات الاعجاز)) والكلمات الخمس والعشرين السابقة. بل القرآن الكريم بكامله مثال لهذه الحقيقة. ابيّنه كله دفعة واحدة.



















النور الثاني

يبحث هذا النور عن مزية الاعجاز في الاسلوب البديع للقرآن في الخلاصات (الفذلكات) والاسماء الحسنى التي تنتهي بها الآيات الكريمة:

تنبيه

سترد آيات كثيرة في هذا النور الثاني، وهي ليست خاصة به وحده بل تكون امثلة ايضاً لما ذكر من المسائل والاشعة. ولو اردنا ان نوفي هذه الامثلة حقها من الايضاح لطال بنا البحث، بيد اني اراني مضطراً في الوقت الحاضر الى الاختصار والاجمال، لذا فقد أشرنا اشارة في غاية الاختصار والاجمال الى الآيات التي اوردناها مثالاً لبيان هذا السر العظيم سر الاعجاز مؤجلين تفصيلاتها الى وقت آخر.

فالقرآن الكريم يذكر في اكثر الاحيان قسماً من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات: إما انها تتضمن الاسماء الحسنى أو معناها، واما انها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها.

ففي تلك الفذلكات بعض اشارات من حكمة القرآن العالية، وبعض رشاشات من ماء الحياة للهداية الإلهية، وبعض شرارات من بوراق إعجاز القرآن.

ونحن الآن نذكر اجمالاً ((عشر اشارات)) فقط من تلك الاشارات الكثيرة جداً، كما نشير الى مثال واحد فقط من كثير من امثلتها، والى معنى اجمالي لحقيقة واحدة فقط من بين الحقائق الكثيرة لكل مثال.

هذا وان اكثر هذه الاشارات العشر تجتمع في اكثر الآيات معاً مكونة نقشاً اعجازياً حقيقياً. وان اكثر الآيات التي نأتي بها مثالاً هي امثلة لأكثر الاشارات. فنبين من كل آية اشارة واحدة مشيرين اشارة خفيفة الى معاني تلك الآيات التي ذكرناها في ((كلمات)) سابقة.



C مزية الجزالة الاولى:

ان القرآن الكريم - ببياناته المعجزة - يبسط افعال الصانع الجليل ويفرش آثاره أمام النظر، ثم يستخرج من تلك الافعال والآثار، الاسماء الإلهية، أو يثبت مقصداً من مقاصد القرآن الاساسية كالحشر والتوحيد.

فمن امثلة المعنى الاول:

قوله تعالى ] هو الذي خلقَ لكُم ما في الارض جميعاً ثم استوى الى السماء فسويهنّ سبعَ سمواتٍ وهو بكل شيء عليم[ (البقرة: 29)

ومن امثلة المعنى الثاني:

قوله تعالى] ألم نجعل الارض مهاداً^ والجبال اوتاداً^ وخلقناكم ازواجاً[ الى قوله تعالى ] إن يوم الفصل كان ميقاتاً[ (النبأ)

ففي الآية الاولى: يعرض القرآن الآثار الإلهية العظيمة التي تدل بغاياتها ونظمها على علم الله وقدرته،يذكرها مقدّمة لنتيجة مهمة وقصد جليل ثم يستخرج اسم الله ((العليم)).

وفي الآية الثانية: يذكر افعال الله الكبرى وآثاره العظمى، ويستنتج منها الحشر الذي هو يوم الفصل، كما وُضح في النقطة الثالثة من الشعاع الاول من الشعلة الاولى.

C النكتة البلاغية الثانية:

ان القرآن الكريم ينشر منسوجات الصنعة الإلهية ويعرضها على انظار البشر ثم يلفّها ويطويها في الخلاصة ضمن الأسماء الإلهية، أو يحيلها الى العقل.

فمن أمثلة الاول:

] قل من يرزقكم من السماء والارض، أمّن يملك السمعَ والابصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومَن يدّبر الأمر فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون ^ فذلكم الله ربكم الحق[ (يونس: 31- 32)

فيقول اولاً: (( مَن الذي هيأ السماء والارض وجعلهما مخازن ومستودعاتٍ لرزقكم، فأنزل من هناك المطر ويخرج من هنا الحبوب ؟ ومَن غيرُ الله يستطيع ان

يجعل السماء والارض العظيمتين في حكم خازنين مطيعين لحكمه؟ فالشكر والحمد اذاً له وحده)).

ويقول في الفقرة الثانية: ((أمّن هو مالك اسماعكم وابصاركم التي هي اثمن ما في اعضائكم؟ من أي مصنع أو محل ابتعتموها؟ فالذي منحكم هذه الحواس اللطيفة من عين وسمع انما هو ربّكم! وهو الذي خلقكم ورباكم، ومنحها لكم،فالرب اذاً انما هو وحده المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره)).

ويقول في الفقرة الثالثة: ((أمّن يحيى مئات الالاف من الطوائف الميتة كما يحيى الارض؟ فمن غير الحق سبحانه وخالقُ الكون يقدر ان يفعل هذا الأمر؟ فلا ريب انه هو الذي يفعل وهو الذي يحيى الارض الميتة. فما دام هو الحق فلن تضيع عنده الحقوق، وسيبعثكم الى محكمة كبرى وسيحييكم كما يحيى الارض)).

ويقول في الفقرة الرابعة: ((مَن غير الله يستطيع ان يدبّر شؤون هذا الكون العظيم ويدير أمره ادارةً منسقة منظمة بسهولة إدارة قصر أو مدينة؟ فما دام ليس هناك غير الله، فلا نقص اذاً في القدرة القادرة على ادارة هذا الكون العظيم – بكل أجرامهِ بيسر وسهولة – ولا حاجة لها الى شريك ولا الى معين فهي مطلقة لا يحدها حدود. ولايدع مَن يدبّر امور الكون العظيم ادارة مخلوقات صغيرة الى غيره. فانتم اذاً مضطرون لأن تقولوا: الله.)).

فترى ان الفقرة الاولى والرابعة تقول: الله، وتقول الثانية: رب. وتقول الثالثة: الحق. فافهم مدى الاعجاز في موقع جملة ] فذلكم الله ربكم الحق[ .

وهكذا يذكر القرآن عظيم تصرفات الله سبحانه وعظيم منسوجاته ثم يذكر اليد المدبرة لتلك الآثار الجليلة والمنسوجات العظيمة: ] فذلكم الله ربكم الحق[ ، أي: أنه يُري منبع تلك التصرفات العظيمة ومصدرها بذكر الاسماء الإلهية: الله، الرب، الحق.

ومن امثلة الثاني:

] ان في خلق السموات والارض واختلاف الّيل والنهار والفُلك التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس وما انزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الارضَ بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون[ (البقرة: 164)



يذكر القرآن في هذه الآيات ما في خلق السموات والارض من تجلي سلطنة الالوهية الذي يُظهر تجلي كمال قدرته سبحانه وعظمة ربوبيته، ويَشهد على وحدانيته.. ويذكر تجلي الربوبية في اختلاف الليل والنهار، وتجلي الرحمة بتسخير السفينة وجريانها في البحر التي هي من الوسائل العظمى للحياة الاجتماعية، وتجلي عظمة القدرة في انزال الماء الباعث على الحياة من السماء الى الارض الميتة واحيائها مع طوائفها التي تزيد على مئات الآلاف، وجعلها في صورة معرض للعجائب والغرائب.. كما يذكر تجلي الرحمة والقدرة في خلق ما لا يحد من الحيوانات المختلفة من تراب بسيط.. كما يذكر تجلي الرحمة والحكمة من توظيف الرياح بوظائف جليلة كتلقيح النباتات وتنفسها، وجعلها صالحة في ترديد انفاس الأحياء بتحريكها وادارتها.. كما يذكر تجلي الربوبية في تسخير السحب وجمعها وتفريقها وهي معلقة بين السماء والارض كأنها جنود منصاعون للاوامر يتفرقون للراحة ثم يجّمعون لتلقي الاوامر في عرض عظيم.

وهكذا بعد سرد منسوجات الصنعة الإلهية يسوق العقل الى اكتناه حقائقها تفصيلاً فيقول: ] لاياتٍ لقوم يعقلون[ آخذاً بزمام العقل الى التدبر موقظاً اياه الى التفكر.

C مزيّة الجزالة الثالثة:

ان القرآن الكريم قد يذكر افعال الله سبحانه بالتفصيل ثم بعد ذلك يوجزها ويجملها بخلاصة، فهو بتفصيلها يورث القناعة والاطمئنان وبايجازها واجمالها يسهّل حفظها وتقييدها. فمثلاً:

] وكذلك يَجتَبيك ربُّك ويعلّمك من تأويل الاحاديث ويُتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على أبَويك من قبلُ ابراهيم واسحق ان ربك عليمٌ حكيمٌ[ (يوسف:6)

يشير بهذه الآية الى النعم التي انعمها الله على سيدنا يوسف وعلى آبائه من قبل، فيقول: ان الله تعالى هو الذي اصطفاكم من بنى آدم لمقام النبوة وجعل سلسلة جميع الانبياء مرتبطة بسلسلتكم وسوّدها على سائر سلاسل بني البشر، كما جعل اسرتكم موضع تعليم وهداية، تلقّن العلوم الإلهية والحكمة الربانية، فجمع فيكم سلطنة الدنيا الســـعــيــدة وســعادة الآخـــرة الخــالـدة، وجعــلك بالعلــم والحــكمة عــزيــزاً لمصر ونبياً عظيماً ومرشداً حكيماً.. فبعد أن يذكر تلك النعم ويعدّدها وكيف ان الله قد جعله هو واباءه ممتازين بالعلم والحكمة، يقول: ] ان ربك عليم حكيم[ أي اقتضت ربوبيته وحكمته ان يجعلك واباءك تحظون بنور اسم ((العليم الحكيم)).

وهكذا أجمل تلك النعم المفصّلة بهذه الخلاصة.

ومثلاً: قوله تعالى ] قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) الى قوله تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب[ (آل عمران:27)

تعرض هذه الآية أفعال الله سبحانه في المجتمع الانساني وتفيد:

بأن العزة والذلة والفقر والغنى مربوطة مباشرة بمشيئة الله وارادته تعالى. أي: ((ان التصرف في اكثر طبقات الكثرة تشتتاً انما هو بمشيئة الله وتقديره فلا دخل للمصادفة قط)).

فبعد ان اعطت الآية هذا الحكم، تقول: ان اعظم شئ في الحياة الانسانية هو رزقه، فتثبت ببضع مقدمات ان الرزق انما يرسل مباشرة من خزينة الرزاق الحقيقي؛ إذ إن رزقكم منوط بحياة الارض، وحياة الارض منوطة بالربيع، والربيع انما هو بيد من يسخر الشمس والقمر ويكور الليل والنهار. اذاً فان منح تفاحة لإنسان رزقاً حقيقياً، انما هو من فعل من يملأ الارض بانواع الثمرات، وهو الرزاق الحقيقي.

وبعد ذلك يجمل القرآن ويثبت تلك الافعال المفصّلة بهذه الخلاصة: ] وترزق من تشاء بغير حساب[ .

C النكتة البلاغية الرابعة:

ان القرآن قد يذكر المخلوقات الإلهية مرتبة بترتيب معين ثم يبين به ان في المخلوقات نظاماً وميزاناً، يُريان ثمرة المخلوقات وكأنه يضفي نوعاً من الشفافية والسطوع على المخلوقات التي تظهر منها الاسماء الإلهية المتجلية فيها، فكأن تلك المخلوقات المذكورة ألفاظ، وهذه الاسماء معانيها، أو انها ثمرات وهذه الاسماء نواها أو لبابها.

فمثلاً: ] ولقد خلقنا الانسان من سلالةٍ من طين ^ ثم جعلناهُ نطفةً في قرارٍ مكين^ ثم خلقنا النطفةَ عَلَقةً فخلقنا العلقة مُـضغةً فخلقنا الـمُـضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتبارك الله احسن الخالقين[ (المؤمنون:12ـ14) يذكر القرآن خلق الانسان واطواره العجيبة الغريبة البديعة المنتظمة الموزونة ذكراً مرتباً يبيّن كالمرآة ] فتبارك الله احسنُ الخالقين[ ، حتى كأن كل طـور يبـين نفسه ويـوحي بنفسه هـذه الآيـة، بل حـتـى قـالـها قبل مجيئها احـد كتّاب الوحي حينما كان يـكـتب هـذه الآية، فذهب به الظن الى أن يقول: أأوحي اليّ ايضاً؟ والحال أن كمال نظام الكلام الأول وشفافيته الرائقة وانسجامه التام يظهر نفسه قبل مجئ هذه الكلمة.

وكذا قوله تعالى:

] ان ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايامٍ ثم استوى على العرش يُغشي الّيل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والامرُ تبارك الله ربُ العالمين[ (الاعراف: 54)

يبين القرآن في هذه الآية عظمة القدرة الإلهية وسلطنة الربوبية بوجه يدلّ على قدير ذي جلال استوى على عرش ربوبيته ويسطّر آيات ربوبيته على صحائف الكون ويحوّل الليل والنهار كأنهما شريطان يعقب احدهما الاخر. والشمس والقمر والنجوم متهيئة لتلقي الاوامر كجنود مطيعين. لذا فكل روح ما ان تسمع هذه الآية إلاّ وتقول: تبارك الله رب العالمين.. بارك الله.. ماشاء الله. أي أن جملة ] تبارك الله رب العالمين[ تجري مجرى الخلاصة لما سبق من الجمل وهي بحكم نواتها وثمرتها وماء حياتها.

C مزية الجزالة الخامسة:

ان القرآن قد يذكر الجزئيات المادية المعرّضة للتغير والتي تكون مناط مختلف الكيفيات والاحوال، ثم لأجل تحويلها الى حقائق ثابتة يقيدها ويُجْمِلها بالاسماء الإلهية التي هي نورانية وكلية وثابتة. أو يأتي بخلاصة تسوق العقل الى التفكر والاعتبار.

ومن امثلة المعنى الاول:

] وعلّم ادمَ الاسماءَ كلّها ثم عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين^ قالوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[ (البقرة:31 - 32)

هذه الآية تذكر اولاً حادثة جزئية هي: ان سبب تفضيل آدم في الخلافة على الملائكة هو ((العلم)) ومن بعد ذلك تذكر حادثة مغلوبية الملائكة امام سيدنا آدم في قضية العلم، ثم تعقب ذلك باجمال هاتين الحادثتين بذكر اسمين كليين من الاسماء الحسنى انت العليم الحكيم بمعنى ان الملائكة يقولون: انت العليم يارب فعلّمتَ آدم فغلبنا وانت الحكيم فتمنحنا كل ما هو ملائم لإستعدادنا، وتفضّله علينا باستعداداته.

ومن امثلة المعنى الثاني:

] وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكُم مما في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لَبَنًا خالصاً سائغاً للشاربين^ ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سَكرَاً ورزقاً حسناً ان في ذلك لاية لقومٍ يعقلون^ واوحى ربُّك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يَعرشُون^ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سُبُلَ ربّكِ ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلفٌ الوانهُ فيه شفاءٌ للناس ان في ذلك لاية لقومٍ يتفكرون[ (النحل:66ــ69)

تعرض هذه الآيات الكريمة ان الله تعالى جعل الشاة، والمعزى، والبقر، والابل وامثالها من المخلوقات ينابيع خالصة زكية لذيذة تدفق الحليب، وجعل سبحانه العنب والتمر وأمثالهما أطباقاً من النعمة وجفاناً لطيفة لذيذة.. كما جعل من امثال النحل - التي هي معجزة من معجزات القدرة - العسل الذي فيه شفاء للناس الى جانب لذته وحلاوته.. وفي خاتمة المطاف تحث الآيات على التفكر والاعتبار وقياس غيرها عليها بــ ] ان في ذلك لايةً لقوم يتفكرون[ .

C النكتة البلاغية السادسة:

ان القرآن الكريم قد يَنشر احكام الربوبية على الكثرة الواسعة المنتشرة ثم يضع عليها مظاهر الوحدة ويجمعها في نقطة توحدّها كجهة وحدة بينها، أو يمكّنها في قاعدة كلية. فمثلاً: قوله تعالى ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم[ (البقرة: 255) فهذه الآية (أي آيةُ الكرسي) تأتي بعشر جمل تمثل عشر طبقات من التوحيد في اشكال مختلفة، وتثبتها. وبعد ذلك تقطع قطعاً كلياً بقوة صـارمة عـرق الـشـرك ومداخـلة غيـر اللّـه بـ ] مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه[ .

فهذه الآية لأنها قد تجلّى فيها الاسم الاعظم فان معانيها من حيث الحقائق الإلهية هي في الدرجة العظمى والمقام الاسمى، اذ تبين تصرفات الربوبية في الدرجة العظمى، وبعد ذكر تدبير الالوهية الموّجه للسموات والارض كافة توجهاً في اعلى مقام واعظم درجة تذكر الحفيظية الشاملة المطلقة بكل معانيها ثم تلخص منابع تلك التجليات العظمى في رابطة وحدة اتحادٍ، وجهة وحدة بقوله تعالى: ] وهو العلي العظيم[ .

ومثلاً:

] الله الذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار^ وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الّيل والنهار ^ وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها[ (ابراهيم:32ـ34)

تبين هذه الآيات: كيف أن الله تعالى قد خلق هذا الكون للانسان في حكم قصر، وارسل ماء الحياة من السماء الى الارض، فجعل السماء والارض مسخرتين كأنهما خادمان عاملان على ايصال الرزق الى الناس كافة، كما سخر له السفينة ليمنح الفرصة لكل أحد، ليستفيد من ثمار الارض كافة، ليضمن له العيش فيتبادل الافراد فيما بينهم ثمار سعيهم واعمالهم. أي جعل لكل من البحر والشجر والريح أوضاعاً خاصة بحيث تكون الريح كالسوط والسفينة كالفرس والبحر كالصحراء الواسعة تحتها. كما انه سبحانه جعل الانسان يرتبط مع كل ما في انحاء المعمورة بالسفينة وبوسائط نقل فطرية في الانهار والروافد وسيّر له الشمس والقمر وجعلهما ملاحين مأمورين لإدارة دولاب الكائنات الكبير واحضار الفصول المختلفة واعداد ما فيها من نعم إلهية. كما سخر الليل والنهار جاعلاً الليل لباساً وغطاءً ليخلد الانسان الى الراحة والنهار معاشاً ليتجر فيه.

وبعد تعداد هذه النعم الإلهية تأتي الآية بخلاصة ] وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها[ لبيان مدى سعة دائرة انعام الله تعالى على الانسان وكيف انها مملوءة بانواع النعم أي: ان كل ما سأله الانسان بحاجته الفطرية وبلسان استعداده قد منحه الله تعالى اياه. فتلك النعم لا تدخل في الحصر ولا تنفد ولا تنقضي بالتعداد.

نعم، ان كانت السموات والارض مائدة من موائد نعمه العظيمة وكانت الشمس والقمر والليل والنهار بعضاً من تلك النعم التي احتوتها تلك المائدة، فلا شك أن النعم المتوجهة الى الانسان لا تعد ولاتحصى.

C سر البلاغة السابعة:

قد تبين الآية غايات المسَبَّب وثمراته لتعزل السبب الظاهري وتسلب منه قدرة الخلق والايجاد. وليُعلَم ان السبب ما هو الاّ ستار ظاهري؛ ذلك لأن ارادة الغايات الحكيمة والثمرات الجليلة يلزم ان يكون من شأن من هو عليم مطلق العلم وحكيم مطلق الحكمة، بينما سببها جامدٌ من غير شعور. فالآية تفيد بذكر الثمرات والغايات: ان الاسباب وإن بدتْ في الظاهر والوجود متصلة مع المسببَّات إلاّ ان بينهما في الحقيقة وواقع الأمر بوناً شاسعاً جداً.

نعم! ان المسافة بين السبب وايجاد المسبَّب مسافة شاسعة بحيث لا طاقة لأعظم الاسباب ان تنال ايجاد أدنى مسبَّب، ففي هذا البعد بين السبب والمسبَّب تشرق الاسماء الإلهية كالنجوم الساطعة. فمطالع تلك الاسماء هي في تلك المسافة المعنوية، اذ كما يُشاهد اتصال أذيال السماء بالجبال المحيطة بالافق وتبدو مقرونة بها، بينما هناك مسافة عظيمة جداً بين دائرة الافق والسماء، كذلك فان ما بين الاسباب والمسببات مسافة معنوية عظيمة جداً لا تُرى الاّ بمنظار الايمان ونور القرآن. فمثلاً:

] فلينظر الانسانُ الى طعامهِ^ أنّا صَببنا الماء صبّاً^ ثم شققنا الارض شقّاً^ فانبتنا فيها حبّاً^ وعنباً وقـضباً^ وزيتوناً ونخلاً^ وحدائقَ غُلباً^ وفاكهة وأبّاً^ متاعاً لكم ولأنعامكم[ (عبس:24 – 32).

هذه الآيات الكريمة تذكر معجزات القدرة الإلهية ذكراً مرتباً حكيماً تربط الاسباب بالمسببات، ثم في خاتمة المطاف تبيّن الغاية بلفظ (متاعاً لكم ولأنعامكم) فتثبت في تلك الغاية أن متصرفاً مستتراً وراء جميع تلك الاسباب والمسببات المتسلسلة يرى تلك الغايات ويراعيها. وتؤكد أن تلك الاسباب ما هي إلاّ حجاب دونه.

نعم ان عبارة ] متاعاً لكم ولأنعامكم[ تسلب جميع الاسباب من القدرة على الايجاد والخلق. اذ تقول معنىً:

ان الماء الذي ينزل من السماء لتهيئة الارزاق لكم ولأنعامكم لا ينزل بنفسه، لأنه ليس له قابلية الرحمة والحنان عليكم وعلى انعامكم كي يرأف بحالكم؛ فاذاً يُرسل إرسالاً.

وان التراب الذي لاشعُور له، لأنه بعيد كل البعد من أن يرأف بحالكم فيهئ لكم الرزق، فلا ينشق اذاً بنفسه، بل هناك مَن يشقّه ويفتح ابوابه، ويناولكم النِعَم منه.

وكذا الاشجار والنباتات، فهي بعيدة كل البعد عن تهيئة الثمرات والحبوب رأفة بكم وتفكراً برزقكم، فما هي إلاّ حبالٌ وشرائط ممتدة من وراء ستار الغيب يمدها حكيم رحيم علّق تلك النعم بها وارسلها الى ذوي الحياة.

وهكذا فمن هذه البيانات تظهر مطالع اسماء حسنى كثيرة كالرحيم والرزاق والمنعم والكريم.

ومثلاً:

] ألم ترَ أن الله يُزجى سحاباً ثم يؤلّف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودْقَ يخرج من خلاله ويُنزّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار^ يقلبُ الله الّيل والنهار ان في ذلك لعبرةً لاولي الابصار^ والله خلَق كلَّ دابة من ماءٍ فمنهم مَن يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم مَن يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء ان الله على كل شيء قدير[ (النور:43 ــ45).

فهذه الآية الكريمة حينما تبين التصرفات العجيبة في انزال المطر وتشكل السحاب التي تمثل ستار خزينة الرحمة الإلهية واهم معجزة من معجزات الربوبية، تبينها كأن اجزاء السحاب كانت منتشرة ومختفية في جو الســــماء - كالجـنــود المنـتـشـريـن لـلراحــة - فــتــجـتـمع بـــأمــر الله وتـتألف تلك الاجـــزاء الصغيــرة مشكلة السحاب كما تجتمع الجنود بصوت بوق عسكري، فيرسل الماء الباعث على الحياة الى ذوي الحياة كافة، من تلك القطع من السحاب التي هي في جسامة الجبال السيارة في القيامة وعلى صورتها. وهي في بياض الثلج والبَرَد وفي رطوبتها.. فيُشاهد في ذلك الارسال ارادة وقصداً لأنه يأتي حسب الحاجة، أي ترسل المطر ارسالاً، ولا يمكن ان تجتمع تلك الاجزاء الضخمة من السحاب وكأنها جبال بنفسها في الوقت الذي نرى الجو براقاً صحواً لا شئ يعكّره، بل يرسلها مَن يعرف ذوي الحياة ويعلم بحالهم.

ففي هذه المسافة المعنوية تظهر مطالع الاسماء الحسنى كالقدير والعليم والمتصرف والمدبّر والمربي والمغيث والمحيي.

C مزية الجزالة الثامنة:

ان القرآن الكريم قد يذكر من افعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الاذهان للتصديق ويحضر القلوب للايمان بافعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الافعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل يجعلنا نقنع ونطمئن اليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلاً:

] أوَ لم يَرَ الانسانُ أنّا خَلقناه مِن نطفةٍ فاذا هو خصيمٌ مبينٌ..[ الى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

انه يقدّم النشأة الاولى اولاً، ويعرضها للانظار قائلاً: انكم ترون نشأتكم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى خلق الانسان، فكيف تنكرون اذن النشأة الاخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟ ثم يشير بـ ] الذي جعل لكم من الشجَر الأخضر ناراً[ الى تلك الآلاء وذلك الاحسان والانعام الذي انعمه الحق سبحانه على الانسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدىً ولا عبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام. ثم انه يقول رمزاً: انكم ترون احياء واخضرار الاشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟ ثم هل يمكن ان يعجز مَن خلق السماوات والارض عن إحياء الانسان واماتـتــه وهو ثــمــرة الســـموات والأرض؟ وهل يمــكن من يــديــر أمر الشجرة ويرعاها ان يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع اجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟ وهكذا فان الذي سيحييكم في الحشر مَن بيده مقاليد السموات والارض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر ((كن فيكون)) تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسيـر وهـيّـن كخلق زهـرة واحـدة، وايجاد جميع الحيـوانات سهل على قدرته كايجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ] من يحيي العظام[ ؟

ثم انه بعبارة ] فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء [ يبين انه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فان نتيجة جميع الدلائل هي: ] واليه تُرجعون[ أي انه يحييكم من القبر، ويسوقكم الى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى ان هذه الآيات قد هيأت الاذهان، واحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت من نظائرها بافعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن ايضاً افعالاً اخروية بشكل يحسس ويشير الى نظائرها الدنيوية،ليمنع الانكار والاستبعاد. فمثلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا الشمسُ كُوِّرتْ ^ واذا النجومُ انكدَرتْ ^ واذا الجبالُ سُيرتْ^ واذا العشارُ عطلتْ^ واذا الوحوشُ حُـشِرتْ^ واذا البحار سُجّرتْ^ واذا النفوسُ زُوّجتُْ^ واذا الموؤدة سُئلتْ^ بأيّ ذنبٍ قُتلَتْ^ واذا الصُحُفُ نُشرت^ واذا السماء كُشطتْ^ واذا الجحيمُ سُعّرتْ^ واذا الجنةُ ازلفتْ^ علمتْ نفسٌ ما احــضرتْ...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انفطرتْ^ واذا الكواكبُ انتثرتْ^ واذا البحار فُجرتْ^ واذا القبورُ بُعثرتْ^ علمتْ نفسٌ ما قدّمتْ واخّرت...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انشقّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ ^ واذا الارضُ مُدّت^ والقتْ ما فيها وتخلّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ...[ الى آخر السورة.

فترى ان هذه السوَر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة باسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الانسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع إلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجاً، فمثلاً:

] واذا الصحف نشرت[ تفيد هذه الآية: ((ستنشر في الحشر جميع اعمال الفرد مكتوبة على صحيفة)). وحيث ان هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل اليها سبيلاً، إلاّ أن السورة كما تشير الى الحشر الربيعي وكما ان للنقاط الاخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال، وله وظائف. وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الاسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الاعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي انه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فانه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الاغصان وتفتح الاوراق والاثمار.

نعم إن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ] واذا الصحف نشرت[ .

وهكذا قس النقاط الاخرى على هذا المنوال. وان كانت لديك قوة استنباط فاستنبط. ولاجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ] اذا الشمس كوّرت[ ايضاً. فان لفظ (كوّرت) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّت وجمعت، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ الى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولا: ان الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والاثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته واظهرها الى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانياً: ان الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الاسحار ولفّها في الاماسي وهكذا يتناوب الليل والنهار هامة الارض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو يكون القمر - الى حدٍ ما - نقاباً لاخذها وعطائها ذلك، أي كما ان هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر اعمالها بهذه الاسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى ان لم يكن هناك سبب للاعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويداً رويداً. تسترجع الشمس - بهذا التوسع - وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الارض باذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: الى هنا انتهت مهمتك مع الارض، فهيّا الى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين إياها بالخيانة وعدم الوفاء. بهذا تقرأ الشمسُ الأمر الرباني ] اذا الشمس كوّرت[ على وجهها المبقع.

C نكتة البلاغة التاسعة:

ان القرآن الكريم قد يذكر بعضاً من المقاصد الجزئية،ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات الى قاعدة كلية ويجيلَ الاذهان فيها يثبّت ذلك المقصد الجزئي ويقرره ويؤكده بالاسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية.

فمثلاً:

] قد سمعَ الله قولَ التي تُجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمعُ تحاوركما ان الله سميعٌ بصير[ (المجادلة: 1)

يقول القرآن: ان الله سميع مطلق السمع يسمع كل شئ، حتى إنه ليسمع باسمه ((الحق)) حادثة جزئية، حادثة لمرأة - المرأة التي حظيت بألطف تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية وهي التي تمثل اعظم كنز لحقيقة الرأفة والحنان - هذه الدعوى المقدمة من امرأة وهي محقة في دعواها على زوجها وشكواها الى الله منه يسمعها باهتمام بالغ كأي أمرعظيم باسم ((الرحيم)) وينظر اليها بكل جد ويراها باسم ((الحق)).

فلأجل جعل هذا المقصد الجزئي كلياً تفيد الآية بأن الذي يسمع ادنى حادثة من المخلوقات ويراها، يلزم ان يكون ذلك الذي يسمع كل شئ ويراه، وهو المنزّه عن الممكنات. والذي يكون رباً للكون لابد أن يرى ما في الكون اجمع من مظالم ويسمع شكوى المظلومين، فالذي لا يرى مصائبهم ولا يسمع استغاثاتهم لايمكن ان يكون رباً لهم.

لذا فان جملة ] ان الله سميع بصير[ تبين حقيقتين عظيمتين. كما جعلت المقصد الجزئي أمراً كلياً.

ومثل ثان:

] سبحانَ الذي اسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرام الى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله لنُريهُ من آياتنا انه هو السميعُ البصير[ (الاسراء:1).

ان القرآن الكريم يختم هذه الآية بـ ] انه هو السميع البصير[ وذلك بعد ذكره إسراء الرسول الحبيب e من مبدأ المعراج - أي من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى - ومنتهاه الذي تشير إليه سورة النجم.

فالضمير في ((إنّه)) إما أن يرجع الى الله تعالى، أو الى الرسول الكريم e فاذا كان راجعاً الى الرسول e ، فان قوانين البلاغة ومناسبة سياق الكلام تفيدان: أنّ هذه السياحة الجزئية، فيها من السير العمومي والعروج الكلي ما قد سَمِع وشاهَدَ كلَّ ما لاقى بَصَره وسمعَه من الآيات الربانية، وبدائع الصنعة الإلهية اثناء ارتقائه في المراتب الكلية للاسماء الإلهية الحسنى البالغة الى سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى. مما يدل على أن هذه السياحة الجزئية هي في حُكم مفتاحٍ لسياحةٍ كليةٍ جامعة لعجائب الصنعة الإلهية(1).

واذا كان الضمير راجعاً الى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى يكون عندئذٍ هكذا:

إنه سبحانه وتعالى دعا عبدَه الى حضوره والمثول بين يديه لينيط به مهمةً ويكلّفه بوظيفة؛ فاسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي هو مجمع الانبياء. وبعد اجراء اللقاء معهم واظهاره بأنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سَيَّره في جولةٍ ضمن مُلكه وسياحةٍ ضمن ملكوته، حتى أبلغه سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.

وهكذا فان تلك السياحة أو السير، وإن كانت معراجاً جزئياً وأن الذي عُرج به عبدٌ، إلاّ ان هذا العبد يحمل امانة عظيمة تتعلق بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات ويبدل من ملامحها ويصبغها بصبغته. فضلاً عن أن لديه مفتاحاً يستطيع ان يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

فلأجل كل هذا يصف الله سبحانه وتعالى نفسَه بــ ] إنه هو السميعُ البصير[ كي يُظهِر ان في تلك الأمانة وفي ذلك النور وفي ذلك المفتاح، من الحِكم السامية ما يشمل عموم الكائنات، ويعم جميع المخلوقات، ويحيط بالكون اجمع.

ومثل آخر:

] الحمد للّه فاطرِ السموات والارض جاعلِ الملئكةِ رسلاً اولي اجنحةٍ مثنى وثلثَ ورباعَ يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ ان الله على كل شئٍ قدير[ (فاطر:1).

ففي هذه السورة يقول تعالى: ان فاطر السموات والارض ذا الجلال قد زيّن السموات والارض وبيّن آثار كماله على ما لا يعد من المشاهدين وجعلهم يرفعون اليه ما لا نهاية له من الحمد والثناء. وانه تعالى زيّن الارض والسماء بما لا يحد من النعم والآلاء فتحمد السموات والارض بلسان نعمها وبلسان المنعمين عليهم جميعاً وتثنى على فاطرها (الرحمن). وبعد ذلك يقول: ان الله سبحانه الذي منح الانسان والحيوانات والطيور من سكان الارض اجهزة واجنحة يتمكنون بها من الطيران والسياحة بين مدن الارض وممالكها، والذي منح سكان النجوم وقصور السموات - وهم الملائكة - كي تسيح وتطير بين ممالكها العلوية وابراجها السماوية لابد ان يكون قادراً على كل شئ. فالذي اعطى الذبابة الجناح لتطير من ثمرة الى اخرى، والعصفور ليطير من شجرة الى اخرى، هو الذي جعل الملائكة اولي اجنحة لتطير من الزُهَرة الى المشتري ومن المشتري الى زُحَل.

ثم ان عبارة ] مثنى وثلث ورباع[ تشير الى أن الملائكة ليسوا منحصرين بجزئية ولا يقيدهم مكان معين، كما هو الحال في سكان الارض بل يمكن ان يكونوا في آن واحد في اربع نجوم أو اكثر.

فهذه الحادثة الجزئية، أي تجهيز الملائكة بالاجنحة تشير الى عظمة القدرة الإلهية المطلقة العامة وتؤكدها بخلاصة ] ان الله على كل شيء قدير[

C نكتة البلاغة العاشرة:

قد تذكر الآية ما اقترفه الانسان من سيئات، فتزجره زجراً عنيفاً، ثم تختمها ببعض من الاسماء الحسنى التي تشير الى الرحمة الإلهية لئلا يلقيه الزجر العنيف في اليأس والقنوط.

فمثلاً:

] قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً^ سبحانه وتعالى عمّا يقولون علواً كبيراً ^ تسبح له السموات السبع والارض ومَن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليماً غفوراً[ (الاسراء:42 - 44)

تقول هذه الآية: ((قل لهم لو كان في ملك الله شريك كما تقولون لامتدّت ايديهم الى عرش ربوبيته ولظهرت علائم المداخلة باختلال النظام، ولكن جميع المخلوقات من السموات السبع الطباق الى الأحياء المجهرية، جزئيها وكليّها، صغيرها وكبيرها، تسبّح بلسان ما يظهر عليها من تجليات الاسماء الحسنى ونقوشها، وتقدس مسمّى تلك الاسماء ذا الجلال والاكرام، وتنزّهه عن الشريك والنظير)).

نعم، ان السماء تقدسه وتشهد على وحدته بكلماتهاالنيرة من شموس، ونجوم، وبحكمتها وانتظامها.. وان جو الهواء يسبّحه ويقدسه ويشهد على وحدانيته بصوت السحاب وكلمات الرعد والبرق والقطرات.. والارض تسبح خالقها الجليل وتوحدهّ بكلماتها الحية من حيوانات ونباتات وموجودات.. وكذا تسبحه وتشهد على وحدانيته كل شجرة من اشجارها بكلمات اوراقها وازاهيرها وثمراتها.. وكل مخلوق صغير ومـصــنوع جــزئــي مــع صــغره وجزئيــته يســبح باشــارات ما يحـمــله مــن نقوش وكيفيات وما يظهره من أسماء حسنى كثيرة وتقدس مسمى تلك الاسماء ذا الجلال وتشهد على وحدانيته تعالى. وهكذا فالكون برمته معاً وبلسان واحد، يسبح خالقه الجليل متفقاً ويشهد على وحدانيته، مؤدياً بكمال الطاعة ما انيط به من وظائف العبودية. الاّ الانسان الذي هو خلاصــة الكـون ونتيجته وخليفته المكرم وثمرته الــيانــعة، يقــوم بخلاف جميع ما في الكون وبضده، فيكفر بالله ويشرك به. فكــم هــو قبــيــح صنــيعه هـذا؟ وكــم ياترى يــســتـحق عقـاباً عـلى مـا قــدمت يــداه؟ ولكن لئلا يقع الانسان في هاوية اليأس والقنوط تبين له الآية حكمةَ عدم هدم القهار الجليل الكونَ على رأسه بما يجترحه من سيئات شنيعة كهذه الجناية العظمى، وتقول ] انه كان حليماً غفوراً[ مبينة حكمة الامهال وفتح باب الأمل بهذه الخاتمة.

فافهم من هذه الاشارات العشر الاعجازية، ان في الخلاصات والفذلكات التي في ختام الآيات لمعات اعجازية كثيرة فضلاً عما تترشح منها من رشحات الهداية الغزيرة، حتى بلغ بدهاة البلغاء أنهم لم يتمالكوا انفسهم من الحيرة والاعجاب امام هذه الاساليب البديعة فقالوا: ما هذا كلام البشر، وآمنوا بحق اليقين بقوله تعالى:

] ان هو الاّ وحي يوحى[ .

هذا وان بعض الآيات - الى جانب جميع الاشارات المذكورة - تتضمن مزايا اخرى عديدة لم نتطرق اليها في بحثنا، فيُشاهد من اجماع تلك المزايا نقش اعجازي بديع يراه حتى العميان.

النور الثالث

وهو أن القرآن الكريم لا يمكن ان يقاس بأي كلام آخر، اذ إن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة:

الأول: المتكلم. الثاني: المخاطب. الثالث: المقصد. الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الادباء. فلابد من ان تنظر في الكلام الى: مَن قال؟ ولمن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟ فلا تقف عند الكلام وحده وتنظر اليه.

ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الاربعة فبانعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها.

نعم ان الكلام يستمد القوة من المتكلم، فاذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن ارادة المتكلم وقدرته حسب درجته وعند ذاك يكون الكلام مؤثراً نافذاً يسري سريان الكهرباء من دون اعاقة أو مقاومة. وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة.

فمثلاً: ] ياارضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي[ (هود:44) و] فقال لها وللارض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين[ (فصلت:11)

فانظر الى قوة وعلو هذه الاوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والارادة. ثم انظر الى كلام انسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا ارض وانشقي ياسماء وقومي ايتُها القيامة!

فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم اين الاوامر الناشئة من فضول الانسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيه.. واين الاوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله.

نعم! اين امر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ : تقدّم، واين هذا الأمر اذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به؟ فهذان الأمران وان كانا صورة واحدة إلاّ أن بينهما معنىً بوناً شاسعاً،كما بين القائد العام والجندي.

ومثلاً: ] انما امره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون[ (يس:82) و] واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم[ (البقرة:34) انظر الى قوة وعلو الامرين في هاتين الآيتين. ثم انظر الى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟.

نعم! اين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام مُحسن في آن احسانه، كلٌ يصور أفاعيله، ويطابق فعله قوله، أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا لكذا، افعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا... وهكذا يبين فعلَه للعين والاذن معاً، فمثلاً :

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهم كيف بنيناها وزيّناها ومالَها من فروج^ والارضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كل زوج بهيج^ تَبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد^ رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق:6ــ11).

اين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة. - وقد ذكر كثيراً من الدلائل ضمن هذه الافعال مع انتظام البلاغة واثبت الحشر الذي هو نتيجتها بتعبير ] كذلك الخروج[ ليلزم بـه الــذين ينكرون الحــشر فــي مستــهل الــسورة - فــأيــن هذا وايــن كلام النــاس عــلى وجه الفــضول عن افعال لا تمسهم إلاّ قليلاً؟ فلا تكون نسبته اليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة الى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة.

ان بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى ] أفلم ينظروا[ الى ] كذلك الخروج[ على وجه أفضل يتطلب منا وقتاً طويلاً فنكتفي بالاشارة اليه ونمضي الى شأننا:

ان القرآن يبسط مقدّمات ليرغم الكفار على قبول الحشر، لإنكارهم اياه في مستهل السورة. فيقول: افلا تنظرون الى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيباً منتظماً.. أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص او فطور..؟ أوَلا ترون كيف بسطنا الارض وفرشناها لكم بالحكمة، وثبتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها؟ أوَلا ترون انا خلقنا فيها ازواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها ارجاء الارض كافة؟ أوَلا ترون كيف ارُسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي؟ أوَلا يرون انني احيي الارض الميتة، بذلك الماء. وآتي الوفاً من الحشر الدنيوي. فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الارض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر؛ اذ تموت الارض في القيامة وتبعثون انتم أحياء. فأين ما اظهرته الآية في اثبات الحشر من جزالة البيان ـ التي ما اشرنا إلا الى واحدة من الألف منها ـ واين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟.

* * *

لقد انتهجنا من اول هذه الرسالة الى هنا نهج المحايد الموضوعي في تحقيق قضية الاعجاز، وقد ابقينا كثيراً من حقوق القرآن مطوية مخفية مستورة، فكنا نعقد موازنة ننزل تلك الشمس منزلة الشموع، وذلك كله لكي نُخضع خصماً عاتياً لقبول اعجاز القرآن.

والآن وقد وفَّى التحقيق العلمي مهمته، واُثبت اعجاز القرآن اثباتاً ساطعاً. فنشير ببعض القول باسم الحقيقة لا باسم التحقيق العلمي، الى مقام القرآن، ذلك المقام العظيم الذي لا تسعه موازنة ولا ميزان.

نعم! ان نسبة سائر الكلام الى آيات القرآن، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا، الى النجوم نفسها.

نعم! اين كلمات القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبينها، واين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره؟

اين الكلمات الحية حياة الملائكة الاطهار.. كلمات القرآن الذي يفيض بانوار الهداية وهو كلام خالق الشمس والقمر.. واين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير اهواء النفس.

نعم! كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الاطهار والروحانيين المنوّرين؟ انها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم. وقد اثبتتْ هذه الحقيقة مع الكلمة الخامسة والعشرين جميع الكلمات الاربع والعشرين السابقة. فدعوانا هذه ليست ادعاء وانما هي نتيجة لبرهان سبقها.

نعم! اين الفاظ القرآن التي كل منها صدف درر الهداية ومنبـع حقائق الايمان، ومعدن أسس الاسلام، والتي تتنزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه الى الانسان، فاين هذا الخطاب الازلي المتضمن للعلم والقدرة والارادة، من الفاظ الانسان الواهية المليئة بالأهواء؟

نعم! ان القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت اغصانها في جميع ارجاء العالم الاسلامي، فاورقت جميع معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره واحكامه، وابرزت اولياءه واصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة، واثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستور عمل ومنهج حياة.. نعم اين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال واين منها كلام البشر المعهود. اين الثرى من الثريا؟

ان القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ اجمعين منذ اكثر من الف وثلاث مائة سنة وان كل فرد وكل امة وكل بلد قد اخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ.. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الألفة، ولا تلك الوفرة، ولا مرور الزمان، ولا التحولات الهائلة، بحقائقه القيمة ولا باسلوبه الجميل، ولم تشيّبه ولم تتمكن من ان تفقِدهُ طراوته أو تسقط من قيمته أو تطفئ سنا جماله وحسنه.

ان هذه الحالة وحدها اعجاز أي اعجاز.

والآن اذا ما قام أحدٌ ونظم قسماً من الحقائق التي اتى بها القرآن حسب اهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم اراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن بغية الاعتراض على بعض آياته وقال: لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن. فلا شك ان كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:

ان بنّاءً شيد قصراً فخماً، احجاره من جواهر مختلفة، ووضع تلك الاحجار في اوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته. وبدأ يبدّل نقوش الاحجار واوضاعها، ويجعلها في نظام حسب اهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً.ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه، ثم بدأ يقول: انظروا ان لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة اكثر من بنّاء القصر! فانظروا الى جواهري الثمينة! لا شك ان كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #38
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات


الشعلة الثالثة

هذه الشعلة لها ثلاثة اضواء

الضياء الاول

لقد وضّح في ((الكلمة الثالثة عشرة)) وجهٌ عظيم من وجوه اعجاز القرآن المعجز البيان، فاُخذ هنا وادرج مع سائر اخوته من وجوه الاعجاز.

اذا شئت ان تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ اعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد اسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، اذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في اذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ] يسبّح لله ما في السموات وما في الارض الملك القدوس العزيز الحكيم[ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم ان وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين، بصدى قوله تعالى ] تسبّح له السمواتُ السبعُ والارضُ[ الى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الارض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسـبــيــح والتــقديــس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحــة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري الى ذلك العصر تتذوق دقائق الاعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا متعارفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشـمـس الــقــرآن. أي اذا نـظـرت الى الآيـات من خــلال ســتــار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

واذا اردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه:

لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها - كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان - فكل جزء من اجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فاذا قام احدٌ - من قبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد - ورسم على شاشةٍ صورة لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها - البعيدين عن بعضهما بما لايحد - بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين - كهذا المثال - ايضاً، فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت - تلك البيانات الفرقانية - على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون - لدى اجراء تحقيقاتهم وابحاثهم - الى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق انما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!

فلنمثل - ولله المثل الاعلى - الاسماء الإلهية وصفاتها الجليلة والشؤون الربانية وافعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتــد دائــرة عظــمتـها من الازل الى الابد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى اجراءاتها من حدود ] فالق الحب والنوى[ (الانعام:95) ] ويحوُل بين المرء وقلبه[ (الانفال:24) ] وهو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (آل عمران:6) الى ] خلق السموات والارض في ستة أيام[ ( هود:7) والى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) والى ] وسخّر الشمس والقمر[ (الزمر:5)

فنرى ان القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها واغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم: سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه.

فلو اخذنا مثلاً اركانَ الايمان الستة التي تتوجه الى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الالهي والتي تعد غصناً من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها واغصانها وثمراتها وازاهيرها مراعياً في تصويره انسجاماً بديعاً بين ثمراتها وازاهيرها معّرفاً طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الانسان عاجزاً عن ادراك ابعاده ومبهوتاً أمام حسن جماله.

ثم ان الاسلام الذي هو فرع من غصن الايمان، أبدع القرآن الكريم واتى بالرائع المعجب في تصوير ادق فروع اركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على ابسط ادابها ومنتهى غاياتها واعمق حِكَمها واصغر فوائدها وثمراتها. وابهر دليل على ذلك هو:

كمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن اشاراته ورموزه.. فكمال انتظام هذه الشريعة الـغــراء وجمــال توازنها الدقيــق وحــسن تناسب احكامها ورصانتها، كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابداً على أحقية القرآن الكريم؛ بمعنى:

ان البيانات القرآنية لا يمكن ان تستند الى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان اميّ، بل لابد ان تستند الى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الاشياء معاً..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالازل والابد معاً والشاهد على جميع الحقائق في آن واحد.. آمنا.



الضياء الثاني

ان فلسفة البشر التي تحاول ان تتصدى لحكمة القرآن الكريم وتسعى لمعارضتها، قد سقطت وهوت امام حكمة القرآن السامية.. كما اوضحنا ذلك في ((الكلمة الثانية عشرة)) في اسلوب حكاية تمثيلية، واثبتناه اثباتاً قاطعاً في كلمات اخرى.

لذا نحيل الى تلك الرسائل، إلاّ اننا سنعقد هنا موازنة جزئية بسيطة بينهما من جانب آخر وهو جانب نظرتهما الى الدنيا؛ كالآتي:

ان فلسفة البشر وحكمته تنظر الى الدنيا على انها: ثابتة دائمة، فتذكر ماهية الموجودات وخواصها ذكراً مفصلاً مسهباً، بينما لو ذكرتْ وظائف تلك الموجودات الدالة على صانعها فانها تذكرها ذكراً مجملاً مقتضباً. أي انها تفصّل في ذكر نقوش كتاب الكون وحروفه، في حين لا تعير معناه ومغزاه اهتماماً كبـيراً.

أما القرآن الكريم فانه ينظر الى الدنيا، على أنها: عابرة سيّالة، خدّاعة سيّارة، متقلبة لا قرار لها ولا ثبات، لذا يذكر خواص الموجودات وماهياتها المادية الظاهرة ذكراً مجملاً مقتضباً، بينما يفصل تفصيلاً كاملاً لدى بيانه وظائفها التي تنمّ عن عبوديتها التي اناطها بها الصانع الجليل، ولدى بيانه مدى انقياد الموجودات للاوامر التكوينية الإلهية، وكيف وبأي وجه من وجوهها تدل على أسماء صانعها الحسنى.

ففي بحثنا هذا، سنلقي نظرة عجلى على الفرق بين نظرة الفلسفة ونظرة القرآن (الى الدنيا والموجودات) من حيث هذا الاجمال والتفصيل؛ لنرى اين يقف الحق الابلج والحقيقة الساطعة.

ان ساعتنا اليدوية التي يبدو عليها الاستقرار والثبات تنطوي على تغيرات وتبدلات واهتزازات عديدة، سواءً في حركات التروس الدائمة أو في اهتزازات الدواليب والآلات الدقيقة. فكما ان الساعة هكذا، فالدنيا كذلك، كأنها ساعة عظيمة أبدعتها القدرة الإلهية، فعلى الرغم من انها تبدو ثابتة مستقرة، فهي تتقلب وتتدحرج في تغيّر واضطراب دائمين، ضمن تيار الزوال والفناء؛ اذ لما حل ((الزمان)) في الدنيا، اصبح ((الليل والنهار)) كعقرب الثواني ذي الرأس المزدوج لتلك الساعة العظمى، تتبدل بسرعة.. وصارت (السنة) كأنها عقرب الدقائق لتلك الساعة.. وغدا (العصر) كأنه عقرب الساعات لها.. وهكذا ألقى (الزمانُ) الدنيا على ظهر امواج الزوال والفناء، مستبقياً الحاضر وحده للوجود مسلّماً الماضي والمستقبل الى العدم.

فالدنيا - علاوة على هذه الصورة التي يمنحها الزمان - فهي كالساعة ايضاً متغيرة وغير ثابتة، من حيث (المكان)؛ اذ إن (الجو) - كمكان - في تبدل سريع وفي تغيّر دائم، وفي تحول مستمر، حتى انه قد يحدث في اليوم الواحد مراتٍ عدة امتلاء الغيوم بالامطار ثم انقشاعها عن صحو باسم. أي كأن الجو بسرعة تغيّره وتحوله يمثل عقرب الثواني لتلك الساعة العظمى.

و (الارض) التي هي ركيزة دار الدنيا، فان (وجهها) كمكان في تبدل مستمر، من حيث الموت والحياة، ومن حيث ما عليه من نبات وحيوان، لذا فهو كعقرب الدقائق تبين لنا: ان هذه الجهة من الدنيا عابرة سائرة زائلة.

وكما ان الارض من حيث وجهها في تبدل وتغير، فان ما في (باطنها) من تغيرات وزلازل وانقلابات تنتهي الى بروز الجبال وخسف الارض، جعلها كعقرب الساعات التي تسير ببطء نوعاً ما إلاّ أنها تبين لنا: ان هذه الجهة من الدنيا ايضاً تمضي الى زوال.

أما (السماء) التي هي سقف دار الدنيا، فان التغيرات الحاصلة فيها - كمكان - سواءً بحركات الاجرام السماوية، أو بظهور المذنبات وحدوث الكسوف والخسوف، وسقوط النجوم والشهب وامثالها من التغيرات تبين: ان السماء ليست ثابتة ولا مستقرة، بل تسير نحو الهرم والدمار. فتغيراتها كعقرب الساعة العادَّة للاسابيع، الدالة على مضيها نحو الخراب والزوال رغم سيرها البطئ.

وهكذا، فالدنيا - من حيث انها دنيا (أي باعتبار نفسها) - قد شُيّدت على هذه الاركان السبعة، هذه الاركان تهدّها في كل وقت وتزلزلها كل حين، إلاّ ان هذه الدنيا المتزلزلة المتغيرة المتبدلة باستمرار عندما تتوجه الى صانعها الجليل، فان تلك التغيرات والحركات تغدو حركات قلم القدرة الإلهية لدى كتابتها رسائل صمدانية على صفحة الوجود وتصبح تبدلات الاحوال مرايا متجددة تعكس انوار تجليات الاسماء الإلهية الحسنى، وتبين شؤونها الحكيمة وتصفها بأوصاف متنوعة مختلفة لائقة بها.

وهكذا فالدنيا من حيث انها دنيا، متوجهة نحو الفناء والزوال، وساعية سعياً حثيثاً نحو الموت والخراب، ومتزلزلة متبدلة باستمرار. فهي عابرة راحلة كالماء الجاري في حقيقة امرها. إلاّ أن الغفلة عن الله اظهرت ذلكالماء جامداً ثابتاً، وبمفهوم (الطبيعة) الماديّ تعكّر صفوه وتلوث نقاؤه، حتى غدت الدنيا ستاراً كثيفاً يحجُب الآخرة.

فالفلسفة السقيمة؛ بتدقيقاتها الفلسفية وتحرياتها، وبمفهوم الطبيعة المادي، وبمغريات المدنية السفيهة الفاتنة، وهوساتها وعربدتها.. كثّفت تلك الدنيا وزادتها صلابة وتجمداً، وعمّقت الغفلة في الانسان، وضاعفت من لوثاتها وشوائبها حتى أنستْه الصانع الجليل والآخرة البهيجة.

أما القرآن الكريم، فانه يهزّ هذه الدنيا - وتلك حقيقتهاــ هزاً عنفياً - من حيث انها دنيا - حتى يجعلها كالعهن المنفوش، وذلك في قوله تعالى: ] القارعة ما القارعة..[ و ] اذا وقعت الواقعة..[ و] والطور^ وكتاب مسطور..[ وامثالها من الآيات الجليلة.

ثم انه يمنح الدنيا شفافية وصفاءً رائقاً مزيلاً عنها الشوائب والاكدار، وذلك ببياناتها الرائعة في قوله تعالى: ] أوَ لم ينظروا في ملكوت السموات والارض..[ (الاعراف:185) ] أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها..[ (ق:6) ] أوَلم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقاً...[ (الانبياء:30) وامثالها من الآيات الحكيمة.

ثم انه يذيب تلك الدنيا الجامدة بنظر الغفلة عن الله بعباراته النورانية اللامعة في قوله تعالى: ] الله نورُ السموات والارض... [ وما الحياة الدنيا إلاّ لعبٌ ولهو... وامثالها من الآيات العظيمة.

ثم انه يزيل توهم الابدية والخلود في الدنيا بعباراته التي تنم عن زوال الدنيا وموتها في قوله تعالى: ] اذا السماء انفطرت... [ ] اذا الشمس كوّرت.. [ ] اذا السماء انشقت... [ ] ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلاّ مَن شاء الله.. [ (الزمر:68) وأمثالها من الآيات الكريمة.

ثم انه يبدد الغفلة المولّدة لمفهوم (الطبيعة) المادي، ويشتتها بنداءاته المدوية كالصاعقة في قوله تعالى: ] يعلم ما يَلجُ في الارض وما يخرجُ منها وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها وهو معكم اينما كنتم والله بما تعملون بصير[ (الحديد:4)، ] وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربّك بِغافل عمّا تعملون[ (النمل:93).. وامثالها من الآيات النيرة.

وهكذا فان القرآن الكريم بجميع آياته المتوجهة للكون (اي الآيات الكونية)يمضي على هذا الاساس، فيكشف عن حقيقة الدنيا كما هي، ويبيّنها للانظار. ويصرف نظر الانسان ببيانه إلى مدى دمامة وجه الدنيا القبيح - بتلك الآيات - ليتوجه الى الوجه الصبوح الجميل للدنيا الجميلة، ذلك الوجه المتوجه الى الصانع الجليل. فيوجّه نظر الانسان الى هذا الوجه، ملقناً اياه الحكمة الصائبة والفلسفة الحقّة بما يعلّمه من معاني كتاب الكون الكبير مع التفاته الى حروفه ونقوشه، من دون ان يبدد جهوده فيما لا يعنيه من امور نقوش الحروف الزائلة كما تفعله الفلسفة الثملة العاشقة للقبح، حيث أنستْه النظر الى المعنى والمغزى.



الضياء الثالث

لقد اشرنا في الضياء الثاني الى انهزام حكمة البشر وسقوطها امام حكمة القرآن، كما اشرنا فيه الى اعجاز حكمة القرآن. وفي هذا الضياء سنبين درجة حكمة تلاميذ القرآن، وهم العلماء الاصفياء والاولياء الصالحون والمنوّرون من حكماء الاشراقيين(1) امام حكمة القرآن مشيرين من هذا الجانب الى اعجاز القرآن اشارة مختصرة.

ان اصدق دليل على سمو القرآن الحكيم وعلوه، واوضح برهان على كونه صدقاً وعدلاً واقوى علامة وحجة على اعجازه هو:

ان القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع اقسامه مع جميع مراتب تلك الاقسام وجميع لوزامه، ولم يخل باتزان أيٍ كان منها.. ثم انه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الاحكام التي تقتضيها الاسماء الإلهية الحسنى جميعها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الاحكام.. ثم انه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والالوهية.

فهذه ((المحافظة والموازنة والجمع)) خاصيةٌ لا توجد قطعاً في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج افكار اعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الاولياء الصالحين النافذين الى عالم الملكوت، ولا في كتب الاشراقيين الموغلين في بواطن الامور، ولا في معارف الروحانيين الماضين الى عالم الغيب؛ بل كل قسم من اولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من اغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كلياً مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت الى غيره من الاغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته اليه. وكأن هناك نوعاً من تقسيم الاعمال فيما بينهم.

نعم! ان الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. اذ تلزم نظراً كلياً كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم - ولو يتلقى الدرس منه - لا يرى تماماً بعقله الجزئي المحدود إلاّ طرفاً أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخلّ بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالافراط أو بالتفريط. ولقد بينا هذه الحقيقة بتمثيل عجيب في الغصن الثاني من الكلمة الرابعة والعشرين. أما هنا فسنورد مثالاً آخر يشير الى المسألة نفسها، هو:

لنفرض ان كنزاً عظيماً يضم ما لا يحــد من الجـواهر الثمينة في قعر بحر واسع. وقد غاص غواصون مهرة في اعماق ذلك البحر بحثاً عن جواهر ذلك الكنز الثمين. ولكن لأن عيونهم معصوبة فلا يتمكنون من معرفة انواع تلك الجواهر الثمينة إلاّ بايديهم.. ولقد لقيت يدُ بعضهم ألماساً طويلاً نسبياً، فيقضي ذلك الغواص ويحكم: ان الكنز عبارة عن قضبان من الماس. وعندما يسمع من اصدقائه اوصافاً لجواهر غيرها يحسب أن تلك الجواهر التي يذكرونها ما هي إلاّ توابع ما وجده من قضبان الالماس وما هي إلاّ فصـوصه ونــقــوشــه. ولنفرض أن آخــرين لقوا شيئاً كروياً من الياقوت، واخرين وجدوا كهرباً مربعاً.. وهكذا..فكل واحد من هؤلاء الذين رأوا تلك الجواهر والاحجار الكريمة بايديهم - دون عيونهم - يعتقد أن ما وجده من جوهر نفيس هو الأصل في ذلك الكنز ومعظمه. ويزعم ان ما يسمعه من اصدقائه زوائدُه وتفرعاتُه، وليس اصلاً للكنز.

وهكذا تختل موازنة الحقائق، ويضمحل التناسق ايضاً، ويتبدل لون كثير من الحقائق اذ يضطر مَن يريد أن يرى اللون الحقيقي للحقيقة الى تأويلات وتكلفات. حتى قد ينجر بعضهم الى الانكار والتعطيل. فمن يتأمل في كتب حكماء الاشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم دون ان يزنوها بموازين السنة المطهرة يصدّق حكمنا هذا دون تردد.

اذاً فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن، ويؤلفون في جنس حقائق القرآن إلاّ أن النقص يلازم آثارهم، لأنها ليست قرآناً.

فالقرآن الكريم الذي هو بحر الحقائق، آياته الجليلة غوّاصة كذلك في البحر تكشف عن الكنز، إلاّ أن عيونها مفتحة بصيرة تحيط بالكنز كله، وتبصر كل ما فيه، لذا يصف القرآن الكريم باياته الجليلة ذلك الكنز العظيم وصفاً متوازناً يلائمه وينسجم معه فيظهر حُسنه الحقيقي وجماله الاخاذ. فمثلاً:

ان القرآن الكريم يرى عظمة الربوبية الجليلة ويصفها بما تفيده الآيات الكريمة ] والارض جميعاً قبـضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67) ] يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب[ (الانبياء:104) وفي الوقت نفسه يرى شمول رحمته تعالى ويدل عليها بما تفصح عنه الآيات الكريمة ] ان الله لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء^ هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء[ (ال عمران: 5ـ6) ] ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها[ (هود:56) ] وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها واياكم[ (العنكبوت: 60).

ثم انه مثلما يرى سعة الخلاقية الإلهية ويدل عليها بما تعبّر عنها الآية الكريمة ] خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور[ (الانعام: 1) فانه يرى شمول تصرفه تعالى في الكون واحاطة ربوبيته بكل شئ وتدل عليها بما تبينه الآية الكريمة ] خلقكم وما تعملون[ (الصافات: 96)

ثم انه مثلما يرى الحقيقة العظمى التي تدل عليها الآية الكريمة ] يحيى الارض بعد موتها[ (الروم: 50) فانه يرى حقيقة الكرم الواسع التي تعبر عنها الآية الكريمة ] واوحى ربك الى النحل.. [ (النحل:68) ويدل عليها، ويرى في الوقت نفسه حقيقة الحاكمية المهيمنة ويدل عليها بــ] والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره[ (الاعراف: 54) ومثلما يرى الحقيقة الرحيمة المدبرة التي تفيدها الآية الكريمة ] أوَلم يروا الى الطير فوقهم صافات ويقـبـضن ما يمسكهن إلاّ الرحمن انه بكل شيء بصير[ (الملك:19) يرى الحقيقة العظمى التي تفيدها الآية الكريمة ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما.. [ (البقرة:255) في الوقت الذي يرى حقيقة الرقابة الإلهية في تعبير الآية ] وهو معكم اين ما كنتم[ (الحديد:4) كالحقيقة المحيطة التي تفصح عنها الآية ] هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم[ (الحديد:3) ويرى أقربيته سبحانه التي يعبر عنها قوله تعالى ] ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد[ (ق: 16) مع ما تشير اليه من حقيقة سامية الآية الكريمة ] تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة[ (المعارج:4) كالحقيقة الجامعة التي تدل عليها وتفيدها الآية الكريمة ] ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي[ (النحل: 90) وامثالها من الآيات الكريمة التي تضم الدساتير الدنيوية والاخروية والعلمية والعملية.

فالقرآن يرى جميع الدساتير التي تحقق سعادة الدارين ويبيّنها مع بيانه كل ركن من اركان الايمان الستة بالتفصيل، وكل ركن من اركان الاسلام الخمسة بقصدٍ وجدّ محافظاً على الموازنة فيما بينها جميعاً مديماً تناسبها، فينشأ من منبع الجمال والحسن البديع الحاصل من تناسب مجموع تلك الحقائق وتوازنها اعجازٌ معنوي رائع للقرآن.

فمن هذا السر يتبين: أن علماء الكلام، وإن تتلمذوا على القرآن الكريم وألّفوا الوف الكتب - بعضها عشرات المجلدات - إلاّ انهم لترجيحهم العقل على النقل كالمعتزلة، عجزوا عن ان يوضحوا ما تفيده عشرُ آيات من القرآن الكريم وتثبته اثباتاً قاطعاً بما يورث القناعة والاطمئنان، ذلك لأنهم يحفرون عيوناً في سفوح جبال بعيدة ليأتوا منها بالماء الى اقصى العالم بوساطة انابيب، أي بسلسلة الاسباب، ثم يقطعون تلك السلسلة هناك، فيثبتون وجود واجب الوجود والمعرفة الإلهية التي هي كالماء الباعث على الحياة!! أما الآيات الكريمة فكل واحدة منها كــعصا موســى تستــطيع ان تـفــجّر المـــاء ايــنما ضــربت، وتــفــتــح من كل شـــئ نافذةً تــدل على الصانع الجليل وتعرّفه. وقد أثبتت هذه الحقيقة بوضوح في سائر الكلمات وفي الرسالة العربية (قطرة) المترشحة من بحر القرآن.

ومن هذا السر ايضاً نجد ان جميع ائمة الفرق الضالة الذين توغلوا في بواطن الامور واعتمدوا على مشهوداتهم من دون اتباع السنة النبوية، فرجعوا من اثناء الطريق، وترأسوا جماعة وشكلوا لهم فرقةً ضالة.. هؤلاء قد زلّوا الى مثل هذه البدع والضلالة وساقوا البشرية الى مثل هذه السبل الضالة لانهم لم يستيطعوا ان يحافظوا على تناسق الحقائق وموازنتها.

إن عجز جميع هؤلاء يبين اعجازاً للآيات القرآنية.



الخاتمة

لقد مضت لمعتان اعجازيتان من لمعات اعجاز القرآن، في الرشحة الرابعة عشرة من الكلمة التاسعة عشرة وهما حكمة التكرار في القرآن، وحكمة اجماله في مضمار العلوم الكونية، وتبين بوضوح هناك ان كلاً منهما منبع من منابع الاعجاز بخلاف ما يظن بعض الناس انهما سبب نقص وقصور كما قد وضحت بجلاء لمعةٌ من اعجاز القرآن التي تتلألأ على وجه معجزات الانبياء عليهم السلام، وذلك في المقام الثاني من الكلمة العشرين، وذكرت كذلك امثال هذه اللمعات في سائر (الكلمات) وفي رسائلي العربية. فنكتفي بها، ولكن نقول: ان معجزة قرآنية اخرى هي:

كما ان معجزات الانبياء بمجموعها أظهرت نقشاً من نقوش اعجاز القرآن، فان القرآن كذلك بجميع معجزاته معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام، وان معجزاته e جميعها ايضاً هي معجزة قرآنية. اذ انها تشير الى نسبة القرآن الى الله سبحانه وتعالى، أي أنه كلام الله. وبظهور هذه النسبة تكون كل كلمة من كلمات القرآن معجزة، لأن الكلمة الواحدة آنذاك يمكن أن تتضمن بمعناها شجرة من الحقائق فهي بمثابة النواة.. ويمكن ان تكون ذات علاقة مع جميع اعضاء الحقيقة العظمى، بمثابة مركز القلب.. ويمكن أن تنظر وتتوجه بحروفها وهيئتها وكيفيتها وموقعها الى مالا يحد من الامور وذلك لاستنادها الى علم محيط وارادة غير متناهية.

ومن هنا يدّعى علماء علم الحروف: انهم استخرجوا من حرف من القرآن اسراراً كثيرة تسع صفحة كاملة، ويثبتون دعواهم لأهل ذلك الفن.

والآن تذكّر ما مضى في هذه الرسالة من أولها الى هنا وانظر بمنظار مجموع ما فيها من الشُعَل والاشعة واللمعات والانوار والاضواء الى نتيجة الدعوى المذكورة في اول الرسالة، تجدها تعلنها اعلاناً باعلى صوتها وتقرأها، تلك هي:

] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعـضهم لبعضٍ ظهيـراً[ .

] سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا انك انت العليم الحكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا[

] رب اشرح لي صدري^ ويسر لي امرى^ واحلل عقدة من لساني^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلّ وسلّم أفـضل واجمل وانبل، واظهر وأطهر، وأحسن وأبرّ، واكرم واعـزّ، واعظم واشرف، واعلى وأزكى، وابرك وألطف صلواتك، وأوفى واكثر وأزيد، وأرقى وارفع وأدوم سلامك، صلاةً وسلاماً، ورحمةً ورضواناً، وعفواً وغفراناً تمتد وتزيد بوابل سحائب مواهب جودك وكرمك، وتنمو وتزكو بنفائس شرائفِ لطائف جودك ومننك، أزلية بأزليتك لا تزول، ابدية بابديتك لا تحول، على عبدك وحبيبك ورسولك محمد خير خلقك، النور الباهر اللامع، والبرهان الظاهر القاطع، والبحر الزاخر، والنور الغامر، والجمال الزاهر، والجلال القاهر، والكمال الفاخر، صلاتك التي صلّيت بعظمة ذاتك عليه وعلى آله واصحابه كذلك، صلاةً تغفر بها ذنوبنا، وتشرح بهاصدورنا، وتطهّر بها قلوبنا وتروّح بها ارواحنا وتقدس بها اسرارنا، وتنزّه بها خواطرنا وافكارنا، وتصفّي بها كدورات ما في اسرارنا وتشفي بها امراضنا، وتفتح بها اقفال قلوبنا.

] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب[

] وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين[

آمين .. آمين ... آمين

الذيل الاول

المرتبة السابعة عشرة من الشعاع السابع ((رسالة الآية الكبرى)) اُلحقت ذيلاً بالكلمة الخامسة والعشرين ((المعجزات القرآنية))

ان السائح الذي لا يناله تعب ولا شبع والذي علم ان غاية الحياة في هذه الدنيا، بل حياة الحياة انما هو الايمان، حاور هذا السائح قلبه قائلاً:

ان الكلام الذي نبحث فيه هو أشهر كلام في هذا الوجود واصدقه وأحكمه، وقد تحدى في كل عصر مَن لا ينقاد اليه، ذلك القرآن الكريم ذو البيان المعجز.. فلنراجع اذاً هذا الكتاب الكريم، ولنفهم ماذا يقول... ولكن لنقف لحظة قبل دخولنا هذا العالم الجميل لنبحث فيما يجعلنا نستيقن أنه كتاب خالقنا نحن.. وهكذا باشر بالتدقيق والبحث.

وحيث ان هذا السائح من المعاصرين فقد نظر أولاً الى ((رسائل النور)) التي هي لمعات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، فرأى:

ان هذه الرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة هي بذاتها تفسير قيّم للآيات الفرقانية، اذ إنها تكشف عن نكاتها الدقيقة وأنوارها الزاهية.

ورغم ان رسائل النور نشرت الحقائق القرآنية بجهاد متواصل الى الآفاق كافة، في هذا العصر العنيد الملحد، لم يستطع أحد أن يعارضها أو ينقدها، مما يثبت ان القرآن الكريم الذي هو رائدها ومنبعها، ومرجعها، وشمسها، انما هو سماوي من كلام الله رب العالمين، وليس بكلام بشر، حتى ان ((الكلمة الخامسة والعشرين)) وختام ((المكتوب التاسع عشر)) وهما حجة واحدة من بين مئات الحجج، تقيمها ((رسائل النور)) لبيان إعجاز القرآن، فتثبته بأربعين وجهاً إثباتاً حيّر كل من نظر اليها، فقدّرها واعجب بها - ناهيك عن انهم لم ينقدوها ولم يعترضوا عليها قط - بل اثنوا عليها كثيراً. هذا وقد احال السائح اثبات وجه الاعجاز للقرآن الكريم، وانه كلام الله سبحانه حقاً الى ((رسائل النور))، إلاّ انه انعم النظر في بضع نقاط تبين باشارة مختصرة:



عظمة القرآن الكريم:

النقطة الاولى: مثلما ان القرآن الكريم بكل معجزاته وحقائقه الدالة على أحقيته هو معجزة لمحمد عليه الصلاة والسلام، فان محمداً عليه الصلاة والسلام بكل معجزاته ودلائل نبوته وكمالاته العلمية معجزة أيضاً للقرآن الكريم وحجة قاطعة على ان القرآن الكريم كلام الله رب العالمين.

النقطة الثانية: ان القرآن الكريم قد بدّل الحياة الاجتماعية تبديلاً هائلاً نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلاباً عظيماً سواء في نفوس البشر وفي قلوبهم، أو في أرواحهم وفي عقولهم، أو في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، وأدام هذا الانقلاب وأداره، بحيث إن آياته البالغة ستة آلاف وستمائة وستاً وستين آية تتُلى منذ أربعة عشر قرناً في كل آن بألسنة أكثر من مائة مليون شخص في الأقل بكل إجلال واحترام، فيربي الناس ويزكي نفوسهم، ويصفي قلوبهم، ويمنح الأرواح إنكشافاً ورقياً، والعقول إستقامة ونوراً، والحياة حياةً وسعادةً. فلا شك أنه لا نظير لمثل هذا الكتاب ولا شبيه له ولا مثيل. فهو خارق، وهو معجز.

النقطة الثالثة: ان القرآن الكريم قد أظهر بلاغة - أيّما بلاغة - منذ ذلك العصر الى زماننا هذا، حتى انه حطّ من قيمة (المعلقات السبع) المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء، كتبت بالذهب وعُلقت على جدران الكعبة، حتى ان ابنة (لبيد) أنزلت قصيدة أبيها من على جدار الكعبة قائلة : (أما وقد جاءت الآيات فليس لمثلك هنا مقام).

وكذا عندما سمع أعرابيٌ الآية الكريمة: ] فاصْدَع بما تُؤمَر[ (الحجر: 94) خر ساجداً. فقيل له:

أأسلمـت؟ قال:

لا، بل سجدت لبلاغة هذه الآية.

وكذا، فان آلافاً من أئمة البلاغة وفحول الأدب، أمثال عبد القاهر الجرجاني، والسكاكي، والزمخشري، قد أقرّوا بالاجماع والاتفاق:

((ان بلاغة القرآن فوق طاقة البشر ولا يمكن أن يُدرك)).

وكذا، فان القرآن الكريم منذ نزوله - كان وما زال كذلك - يتحدى كل مغرور ومتعنت من الأدباء والبلغاء، وينال من عتوّهم وتعاليهم، تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله.. أو ان يرضوا بالهلاك والذل في الدنيا والآخرة..

وبينما يعلن القرآن تحديه هذا، اذا ببلغاء ذلك العصر العنيدين قد تركوا السبيل القصيرة وهي المضاهاة والمعارضة والاتيان بسورة من مثله،سالكين السبيل الطويلة، سبيل الحرب التي تأتي بالويل والدمار على الأرواح والاموال، مما يثبت اختيارهم هذا: انه لا يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة.

وكذا، ففي متناول الأيدي ملايين الكتب العربية التي كتبها أولياء القرآن بشغف اقتباس اسلوبه وتقليده أو كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كتب، ويكتب، مع التقدم والرقي في الاسلوب الناشئ من تلاحق الأفكار - ومنذ ذلك الوقت الى الآن - لا يمكن ان يضاهي أو يدانى أيٌّ منها أسلوب القرآن، حتى لو استمع رجل عامي لما يتلى من القرآن الكريم لاضطر الى القول: ان هذا القرآن لا يشبه أيّاً من هذه الكتب، ولا في مرتبتها. فاما أن بلاغته تحت الجميع، أو أنها فوق الجميع. ولن يستطيع انسان كائناً من كان، ولا كافر، ولا أحمق ان يقول: انها أسفل الجميع، فلابد اذاً ان مرتبة بلاغته فوق الجميع. حتى قد تلا أحدهم الآية الكريمة:

] سَبّح لله ما في السموات والارض[ ( الحديد:1) ثم قال:

- ((اني لا أرى الوجه المعجز الذي ترونه في بلاغة هذه الآية الكريمة)).

فقيل له:

((عد بخيالك - كهذا السائح - الى ذلك العصر واستمع اليها هناك)).

وبينما هو يتخيل نفسه هناك فيما قبل نزول القرآن الكريم، اذا به يرى:

ان موجودات العالم ملقاة في فضاء خالٍ شاسع دون حدود، في دنيا فانية زائلة، وهي في حالة يائسة مضطربة تتخبط في ظلمة قاتمة، وهي جامدة دون حياة وشعور، وعاطلة دون وظيفة ومهام، ولكن حالما أنصت الى هذه الآية الكريمة وتدبرها اذا به يرى:

ان هذه الآية قد كشفت حجاباً مسدلاً عن وجه الكون وعن وجه العالم كله حتى بان ذلك الوجه مشرقاً ساطعاً، فألقى هذا الكلام الأزلي والأمر السرمدي درساً على جميع أرباب المشاعر المصطفين حسب العصور كلها مظهراً لهم:

ان هذا الكون هو بحكم مسجد كبير، وان جميع المخلوقات - ولا سيما السموات والارض - منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكل وظائفهم بكل شوق ونشوة وهـم ينجزونها بكل سعادة وإمتـنان.

هكذا شاهد السائح سريان مفعول هذه الآية الكريمة في الكون، فتذوق مدى سمو بلاغتها، وقاس عليها سائر الآيات الكريمة، فأدرك السر في هيمنة بلاغة القرآن الفريدة لنصف الارض وخمس البشرية، وعلم حكمة واحدة من آلاف الحكم لديـمومة جلال سلطان القرآن الكريم بكل توقير وتعظيم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان دون إنقطاع.

النقطة الرابعة: ان القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات اصالة وحقيقة بحيث ان التكرار الكثير - المسبب للسآمة حتى من أطيب الأشياء - لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته، وهذا أمر مسلّم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال.

وكذا فقد اظهر القرآن الكريم من الطراوة، والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرناً من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شاباً نضراً وكأنه يخاطبه. وكل طائفة علمية مع انهم يجدونه في متناول ايديهم وينهلون منه كل حين، ويقتفون أثر اسلوب بيانه، يرونه محافظاً دائماً على الجدة نفسها في اسلوبه والفتوة عينها في طُرز بيانه.

النقطة الخامسة: ان القرآن الكريم قد بسط أحد جناحيه نحو الماضي والآخر نحو المستقبل، فالحقيقة التي اتفق عليها الأنبياء السابقون هي جذر القرآن وأحد جناحيه، فهو يصدقهم ويؤيدهم، وهم بدورهم يؤيدونه ويصدقونه بلسان حال التوافق.

وكذلك فان الأولياء الصالحين، والعلماء الاصفياء هم ثمار استمدت الحياة من شجرة القرآن الكريم، فتكاملهم الحيوي يدل على ان شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء، وذات فيض دائم وذات حقيقة واصالة، فالذين انضووا تحت حماية جناحه الثاني، وعـاشــوا فــي ظــلالــه من أصحاب جميــع طـرق الـولاية الحـقة، واربــاب جميع العلوم الاسلامية الحقة يشهدون ان القرآن هو عين الحق، ومجمع الحقائق، ولا مثيل له في جامعيته وشموليته، فهو معجزة باهرة.

النقطة السادسة: ان الجهات الست للقرآن الكريم منورة مضيئة، مما يُبين صدقه وعدله.

نعم، فمن تحته أعمدة الحجج والبراهين، وعليه تتألق سكة الاعجاز وبين يديه - وهدفه - هدايا سعادة الدارين، ومن خلفه - أي نقطة استناده - حقائق الوحي السماوي، وعن يمينه تصديق ما لايحد من أدلة العقول المستقيمة، وعن يساره الاطمئنان الجاد والانجذاب الخالص والاستسلام التام للقلوب السليمة والضمائر الطاهرة.

واذ تثبت - تلك الجهات الست - ان القرآن الكريم حصن سماوي حصين في الأرض لا يقوى على خرقه خارق ولا ينفذ من جداره نافذ، فهناك أيضاً ستة " مقامات " تؤكد انه الصدق بذاته والحق بعينه، وانه ليس بكلام بشر قط، وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأول تلك المقامات: تأييد مصرّف هذا الكون ومدبّره له، الذي اتخذ إظهار الجميل وحماية البر والصدق ومحق الخداعين وازالة المفترين، سنة جارية لفعاليته سبحانه، فأيَّد سبحانه وصدّق هذا القرآن بما منحه من مقام إحترام وتعظيم وأولاه من مرتبة توفيق وفلاح هو أكثر قبولاً وأعلى مرتبة وأعظم هيمنة في العالم.

ومن ثم فان الاعتقاد الراسخ والتوقير اللائق من الذات المباركة للرسول الكريم e نحو القرآن الكريم يفوق الجميع وهو منبع الاسلام وترجمان القرآن، وكونه بين اليقظة والنوم حينما يتنزل عليه الوحي فيتنزل عليه دون ارادته، وعدم بلوغ سائر كلامه شأوه، بل عدم مشابهته له الى حدّ رغم أنه أفصح الناس، وبيانه - بهذا القرآن - بياناً غيبياً لما مضى من الحوادث الكونية الواقعة ولما سيأتي منها مع أميّته، من دون تردد وبكل إطمئنان. وعدم ظهور أية حيلة أو خطأ أو ما شابهها من الأوضاع منه مهما صغرت رغم انه بين أنظار أشد الناس إنعاماً للنظر في تصرفاته.. فايمان هذا الترجمان الكريم والمبلغ العظيم e وتصديقه بكل قوته لكل حكم من أحكام القرآن الكريم، وعدم زعزعة أي شئ له مهما عظم يؤيد ويؤكد أن القرآن سماوي وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم.

وكذا فان ارتباط خمس البشرية، بل الشطر الأعظم منهم بذلك القرآن الكريم المشاهد أمامهم، إرتباط انجذاب وتديّن، واستماعهم اليه بجد وشوق ولهفة، وتوافد الجن والملائكة والروحانيين اليه والتفافهم حوله عند تلاوته التفاف الفراشة العاشقة للنور بشهادة امارات ووقائع وكشفيات صادقة كثيرة، كل ذلك تصديق بان هذا القرآن هو محل رضى الكون واعجابه، وان له فيه اسمى مقام وأعلاه.

وكذا فان أخذ كل طبقة من طبقات البشر ابتداءً من الغبي الشديد الغباء والعامي، الى الذكي الحاد الذكاء والعالم نصيبها كاملة من الدروس التي يلقيها القرآن الكريم، وفهمهم منه أعمق الحقائق، واستنباط جميع الطوائف من علماء مئات العلوم والفنون الاسلامية، وبخاصة مجتهدي الشريعة السمحة ومحققي اصول الدين وعباقرة علم الكلام وامثالهم، واستخراجهم الاجوبة الشافية لما يحتاجونه من المسائل التي تخص علومهم من القرآن الكريم، انما هو تصديق بأن القرآن الكريم هو منبع الحق ومعدن الحقيقة.

وكذا فان عدم معارضة أدباء العرب الذين هم في المقدمة في الأدب ولا سيما الذين لم يدخلوا في الاسلام مع رغبتهم الملحة في المعارضة، وعجزهم عجزاً تاماً أمام وجه واحد، - وهو الوجه البلاغي - من بين وجوه الاعجاز السبعة الكبرى للقرآن، وعجزهم عن الاتيان بسورة واحدة فقط من سور القرآن الكريم، وصدودهم عن ذلك، وعدم معارضته ممن أتى من مشاهير البلغاء وعباقرة العلماء لحد الآن لاي وجه من وجوه الاعجاز - مع رغبتهم في ذيوع صيتهم بالمعارضة - وسكوتهم بعجز واحجامهم عن ذلك، لهو حجة قاطعة على ان القرآن الكريم معجزة فوق طاقة البشر.

نعم ان قيمة الكلام وعلوه وبلاغته تتوضح في بيان: ((من قاله؟ ولمن قاله؟ ولِمَ قاله؟)).

وبناء على هذا فان القرآن الكريم لم يأت ولن يأتي مثله ولن يدانيه شئ قط؛ ذلك لأن القرآن الكريم انما هو خطاب من رب العوالم جميعاً وكلام من خالقها، وهو مكالمة لا يمكن تقليدها - باي جانب كان من الجوانب - وليس فيه امارة تومئ بالتصنع.

ثم ان المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعاً، وهو أكرم من أصبــح مخــاطــباً وأرفعهــم ذكراً، وهــو الــذي ترشـــح الاسلام العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى عرج به الى قاب قوسين أو أدنى فنزل مكللاً بالمخاطبة الصمدانية.

ثم ان القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضّح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الايمان السامي الواسع الذي يضم الحقائق الاسلامية كلها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلباً إياه كمن يقلب خارطة أو ساعة أمامه، معلِّماً الانسانَ صانعَه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته. فلا ريب ولابد انه لا يمكن الاتيان بمثل هذا القرآن أبداً، ولا يمكن مطلقاً ان تُنال درجة إعجازه.

وكذا فان الآلاف من العلماء الأفذاذ الذين قام كل منهم بكتابة تفسير للقرآن الكريم في مجلدات بلغ قسم منها ثلاثين أو أربعين مجلداً بل سبعين مجلداً، وبيانهم بأسانيدهم ودلائلهم لما في القرآن الكريم مما لايحد من المزايا السامية والنكات البليغة والخواص الدقيقة والاسرار اللطيفة والمعاني الرفيعة والاخبارات الغيبية الكثيرة بأنواعها المختلفة، وإظهار كل هؤلاء لتلك المزايا واثباتهم لها دليل قاطع أن القرآن الكريم معجزة إلهية خارقة وبخاصة اثبات كل كتاب من كتب رسائل النور البالغة مائة وثلاثين كتاباً لمزية من مزايا القرآن الكريم ولنكتة من نكاته البديعة إثباتاً قاطعاً بالبراهين الدامغة، ولاسيما رسالة (المعجزات القرآنية)، و(المقام الثاني من الكلمة العشرين) الذي يستخرج كثيراً من خوارق الحضارة من القرآن الكريم أمثال القطار والطائرة. و(الشعاع الاول) المسمى (بالاشارات القرآنية) الذي يبين اشارات آيات الى رسائل النور والى الكهرباء، والرسائل الصغيرة الثمانية المسماة (بالرموزات الثمانية) التي تبين مدى الانتظام الدقيق في حروف القرآن الكريم، وكم هي ذات أسرار ومعان غزيرة، والرسالة الصغيرة التي تبين خواتيم سورة الفتح وتثبت إعجازها بخمسة وجوه من حيث الاخبار الغيبي، وأمثالها من الرسائل.. فان إظهار كل جزء من أجزاء رسائل النور لحقيقة من حقائق القرآن الكريم، ولنور من أنواره كل ذلك تصديق وتأكيد بان القرآن الكريم ليس له مثيل، وانه معجزة وخارقة، وانه لسان الغيب في عالم الشهادة هذا، وانه كلام علاّم الغيوب.

وهكذا، لأجل مزايا وخواص القرآن الكريم هذه التي أشير اليها في ست نقاط، وفي ست جهات، وفي ستة مقامات، دامت حاكميته النورانية الجليلة وسلطانه المقدس المعظم، بكمال الوقار والاحترام مضيئة وجوه العصور ومنورة وجه الأرض أيضاً، طوال ألف وثلاثمائة سنة. ولأجل تلك الخواص أيضاً نال القرآن الكريم ميزات قدسية حيث ان لكل حرف من حروفه عشرة أثوبة وعشر حسنات في الأقل، وعشر ثمار خالدة، بل ان كل حرف من حروف قسم من الآيات والسور يثمر مائة أو ألفاً أو أكثر، من ثمار الآخرة، ويتصاعد نور كل حرف وثوابه وقيمته في الأوقات المباركة من عشرة الى المئات.. وامثالها من المزايا القدسية قد فهمها سائح العالم، فخاطب قلبه قائلاً:

- حقاً إن هذا القرآن الكريم المعجز في كل ناحية من نواحيه قد شهد باجماع سوره وباتفاق آياته، وبتوافق أسراره وأنواره، وبتطابق ثماره وآثاره، شهادةً ثابتة بالدلائل على وجود واجب الوجود، وعلى وحدانيته سبحانه، وعلى صفاته الجليلة، وعلى أسمائه الحسنى، حتى ترشحت الشهادات غير المحدودة لجميع أهل الايمان من تلك الشهادة.

وهكذا، فقد ذكرت في المرتبة السابعة عشرة من المقام الأول اشارة قصيرة لما تلقاه السائح هذا، من درس التوحيد والايمان من القرآن الكريم:

لا إله إلا الله الواجب الوجود الواحد الاحد الذي دَلَّ على وجوب وجوده في وحدتهِ: القرآن المعجز البيان، المقبولُ المرغوبُ لأجناس المَلَكِ والإنس والجانِ، المقروء كل آياته في كل دقيقة بكمال الاحترام، بألسنة مئات الملايين من نوع الانسان، الدّائم سَلطنتهُ القدسيةُ على أقطار الأرض والاكوان، وعلى وجوهِ الاعصار والزمان، والجاري حاكميته المعنوية النورانية على نصف الأرض وخُمس البشر في أربعة عشر عصراً بكمال الاحتشام.. وكذا شَهِدَ وبرهن باجماع سورِهِ القدسية السماوية، وباتفاق آياته النورانية الإلهية وبتوافق أسراره وأنواره وبتطابق حقائقه وثمراته وآثاره بالمشاهدة والعيان.

الذيل الثاني

المسألة العاشرة من الشعاع الحادي عشر ((رسالة الثمرة))

زهرة اميرداغ

[ رد شاف ومقنع على اعتراضات ترد حول التكرار في القرآن الكريم ]

اخواني الاعزاء الأوفياء!

كنت اعاني من حالة مضطربة بائسة حينما تناولت هذه المسألة بالكتابة، لذا اكتنفها شئ من الغموض لكونها بقيت كما جاءت عفو الخاطر. ولكني ادركت ان تلك العبارات المشوشة تنطوي على اعجاز رائع. فيا اسفى اذ لم استطع ان اوفي حق هذا الاعجاز من الأداء والتعبير. فعبارات الرسالة مهما كانت خافتة الانوار إلاّ انها تعد - من حيث تعلقها بالقرآن الكريم – (عبادة فكرية) و (صَدَفَة) تضم لآلئ نفيسة سامية، فالرجاء ان تصرفوا النظر عن قشرتها وتنعمـوا النظر بما فيها من لآلئ ساطعة. فان وجدتموها جديرة حقاً فاجعلوها (المسألة العاشرة) لرسالة الثمرة، وإلاّ فاقبلوها رسالة جوابية عن تهانيكم.

ولقد اضطررت الى كتابتها في غاية الاجمال والاقتضاب، لما كنت اكابد من سوء التغذية وأوجاع الامراض، حتى انني ادرجت في جملة واحدة منها حقائق وحججاً غزيرة، واتممتها - بفضل الله - في يومين من إيام شهر رمضان المبارك فارجو المعذرة عما بدر مني من تقصير(1).

اخوتي الاوفياء الصادقين!

حينما كنت اتلو القرآن - المعجز البيان - في الشهر المبارك رمضان، تدبّرت في معاني الآيات الثلاث والثلاثين - التي وردت اشاراتُها الى رسائل النور في (الشعاع الأول) - فرأيت أن كل آية منها - بل آيات تلك الصفحة في المصحف وموضوعها - كأنها تطل على رسائل النور وطلابها من جهة نيلهم غيضا من فيضها وحظاً من معانيها - لا سيما آية النور في سورة النور ، فهي تشير بالاصابع العشر الى رسائل النور، كما أن الآيات التي تعقبها - وهي آية الظلمات - تطل على معارضي الرسائل واعدائها بل تعطيهم حصة كبرى، اذ لا يخفى ان مقام تلك الآيات وأبعادها ومراميها غير قاصرة على زمان ومكان معينين بل تشمل الأزمنة والامكنة جميعها، أي تخرج من جزئية الامكنة والازمنة الى كلّيتهما الشاملة، لذا شعرت ان رسائل النور وطلابها انما يمثلون في عصرنا هذا - حق التمثيل - فرداً واحداً من افراد تلك الكلية الشاملة.

ان خطاب القرآن الكريم قد اكتسب الصفة الكلية والسعة المطلقة والرفعة السامية والاحاطة الشاملة؛ لصدوره مباشرة من المقام الواسع المطلق للربوبية العامة الشاملة للمتكلم الازلي سبحانه.. ويكتسبها من المقام الواسع العظيم لمن اُنزل عليه هذا الكتاب، ذلكم النبي الكريم e الممثل للنوع البشري والمخاطب باسم الأنسانية قاطبة، بل باسـم الكائنات جميعاً.. ويكتسبها ايضاً من توجه الخطاب الى المقام الواسع الفسيح لطبقات البشرية كافة وللعصور كافة.. ويكتسبها أيضاً من المقام الرفيع المحيط النابع من البيان الشافي لقوانين الله سبحانه المتعلقة بالدنيا والآخرة،بالارض والسماء، بالازل والابد، تلك القوانين التي تخص ربوبيته وتشمل امور المخلوقات كافة.

فهذا الخطاب الجليل الذي اكتسب من السعة والسمو والاحاطة والشمول ما اكتسب، يبرز اعجازاً رائعاً وإحاطة شاملة، بحيث:

ان مراتبه الفطرية والظاهرية التي تلاطف أفهام العوام البسيطة - وهم معظم المخاطبين - تمنح في الوقت نفسه حصة وافرة لأعلى المستويات الفكرية ولأرقى الطبقات العقلية، فلا يهب لمخاطبيه شيئاً من ارشاداته وحدها، ولا يخصهم بعبرة من حكاية تأريخية فقط، بل يخاطب مع ذلك كل طبقة في كل عصر - لكونها فرداً من افراد دستور كلي - خطاباً ندياً طرياً جديداً كأنه الآن ينزل عليهم.

ولا سيما كثرة تكراره: ((الظالمين... الظالمين..)) وزجره العنيف لهم وانذاره الرهيب من نزول مصائب سماوية وأرضية بذنوبهم ومظالمهم، فيلفت الأنظار - بهذا التكرار - الى مظالم لا نظير لها في هذا العصر، بعرضه أنواعاً من العذاب والمصائب النازلة على قوم عاد وثمود وفرعون. وفي الوقت نفسه يبعث السلوان والطمأنينة الى قلوب المؤمنين المظلومين، بذكره نجاة رسل كرام امثال ابراهيم وموسى عليهما السلام.

ثم ان هذا القرآن العظيم يرشد كل طبقة من كل عصر ارشاداً واضحاً باعجاز رائع مبيناً:

ان (الازمنة الغابرة) والعصور المندثرة التي هي في نظر الغافلين الضالين واد من عدم سحيق موحش رهيب، ومقبرة مندرسة أليمة كئيبة، يعرضها صحيفة حية تطفح عبراً ودروساً، وعالماً عجيباً ينبض بالحياة ويتدفق بالحيوية من أقصاه الى أقصاه، ومملكِة ربانية ترتبط معنا بوشائج وأواصر فيبينها - باعجازه البديع - واضحة جليلة كأنها مشهودة تعرض أمامنا على شاشة، فتارة يأتي بتلك العصور ماثلة شاخصة أمامنا، وتارة يأخذنا الى تلك العصور.

ويبين بالاعجاز نفسه (الكون) الذي يراه الغافلون فضاء موحشاً بلا نهاية، وجمادات مضطربة بلا روح تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يبينه القرآن: كتاباً بليغاً، كتبه الأحد الصمد، ومدينة منسقة عمرها الرحمن الرحيم، ومعرضاً بديعاً أقامه الرب الكريم لإشهار مصنوعاته. فيبعث بهذا البيان حياة في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لإمداد الآخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه، كأنه يحاوره محاورة ودية صميمة، فكل شئ مسخر وكل شئ انيط به وظيفة وواجب.. وهكذا يلقي القرآن دروس الحكمة الحقيقية والعلم المنور الى الانس والجن والملائكة كافة. فلا ريب ان هذا القرآن العظيم - الذي له هذا الاعجاز في البيان - قمين بأن يحوز خواص راقية عالية، وميزات مقدسة سامية، امثال:

في كل حرف منه عشر حسنات، بل ألف حسنة أحياناً، بل ألوف الحسنات في احيان أخرى.. وعجز الجن والأنس عن الأتيان بمثله ولو اجتمعوا له.. ومخاطبته بني آدم جميعهم بل الكائنات برمتها مخاطبة بليغة حكيمة.. وحرص الملايين من الناس في كل عصر على حفظه عن ظهر قلب بشوق ومتعة.. وعدم الســأم من تــلاوته الكثيــرة رغم تــكراراتــه.. واســتــقراره الـتــام في اذهــان الصغــار اللطيــفة البسيطــة مع كثرة ما فيه من جمل ومواضع تلتبس عليهم.. وتلذذ المرضى والمحتضرين - الذين يتألمون حتى من أدنى كلام - بسماعه، وجريانه في اسماعهم عذباً طيباً.. وغيرها من الخواص السامية والمزايا المقدسة التي يحوزها القرآن الكريم، فيمنح قرّاءه وتلاميذه انواعاً من سعادة الدارين.

ويظهر اعجازه الجميل ايضاً في (اسلوب ارشاده البليغ) حيث راعى أحسن الرعاية أمية مبلغه الكريم e باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من ان يدنو منه تكلف او تصنع او رياء - مهما كان نوعه - فجاء اسلوبه مستساغاً لدى العوام الذين هم اكثرية المخاطبين ملاطفاً بساطة اذهانهم بتنزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم.. باسطاً امامهم صحائف ظاهرة ظهوراً بديهياً كالسموات والارض.. موجهاً الانظار الى معجزات القدرة الإلهية وسطور حكمته البالغة المضمرتين تحت العاديات من الامور والاشياء.

ثم ان القرآن الكريم يظهر نوعاً من اعجازه البديع ايضاً في (تكراره البليغ) لجملة واحدة، او لقصة واحدة، وذلك عند ارشاده طبقات متباينة من المخاطبين الى معان عدة، وعبر كثيرة في تلك الآية أو القصة، فاقتضى التكرار حيث أنه: كتاب دعاء ودعوة كما انه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار، فكل ما كرر في القرآن الكريم اذاً من آية أو قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة.

ويظهر إعجازه ايضاً عند تناوله (حوادث جزئية) وقعت في حياة الصحابة الكرام اثناء نزوله وارسائه بناء الاسلام وقواعد الشريعة فتراه يأخذ تلك الحوادث بنظر الاهتمام البالغ، مبيناً بها: أن أدق الامور لأصغر الحوداث جزئية انما هي تحت نظر رحمته سبحانه، وضمن دائرة تدبيره وإرادته، فضلا عن انه يظهر بها سنناً إلهية جارية في الكون ودساتير كلية شاملة. زد على ذلك ان تلك الحوادث - التي هي بمثابة النويات عند تأسيس الإسلام والشريعة ستثمر فيما يأتي من الازمان ثماراً يانعة من الأحكام والفوائد.

ان تكرر الحاجة يستلزم التكرار، هذه قاعدة ثابتة، لذا فقد أجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة فارشد باجاباته المكررة طبقات كثيرة متباينة من المخاطبين. فهو يكرر جملاً تملك ألوف النـتــائـج، ويكرر ارشادات هي نتيجة لأدلة لاحد لها، وذلك عند ترسيخه في الأذهان وتقريره في القلوب ما سيحدث من انقلاب عظيم وتبدل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الاجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة الرائعة بدلا من هذا العالم الفاني.

ثم انه يكرر تلك الجمل والآيات ايضاً عند اثباته: ان جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات الى النجوم انما هي في قبضة واحد أحد سبحانه وضمن تصرفه جل شأنه.

ويكررها ايضاً عند بيانه الغضب الإلهي والسخط الرباني على الانسان المرتكب للمظالم عند خرقه الغاية من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والأرض والسماء والعناصر وتؤجج غضبها على مقترفيها.

لذا فان تكرار تلك الجمل والآيات عند بيان امثال هذه الأمور العظيمة الهائلة لايعد نقصاً في البلاغة قط، بل هو اعجاز في غاية الروعة والإبداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة، وجزالة - بل فصاحة - مطابقة تطابقاً تاماً لمقتضى الحال، فعلى سبيل المثال:

C ان جملة ] بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ[ هي آية واحدة تتكرر مائة واربع عشرة مرة في القرآن الكريم ذلك لأنها حقيقة كبرى تملأ الكون نوراً وضياء وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق - كما بيناها في اللمعة الرابعة عشرة - فما من أحد إلاّ وهو بحاجة مسيسة الى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات، فالحاجة ما زالت قائمة باقية لا ترتوي. اذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي ايضاً كالهواء والضياء الذي يُضطر اليه ويشتاق كل دقيقة.

C وان الآية الكريمة ] وان ربك لهو العزيز الرحيم[ تتكرر ثماني مرات في سورة (الشعراء). فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على الوف الحقائق في سورة تذكُر نجاة الأنبياء عليهم السلام وعذاب اقوامهم، انما هو لبيان:

ان مظالم اقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض الى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزة الربانية عذابَ تلك الأقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الأنبياء عليهم السلام. فلو تكررت هذه الآية الوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق اليها، فالتكرار هنا بلاغة راقية ذات اعجاز وايجاز.

C وكذلك الآية الكريمة ] فبأي آلاء ربكما تكذبان[ المكررة في سورة (الرحمن) والآية الكريمة ] ويل يومئذ للمكذبين[ المكررة في سورة (المرسلات) تصرخ كل منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن اعلاناً صريحاً في اقطار السموات والأرض أن كفر الجن والأنس وجحودهم بالنعم الإلهية، ومظالمهم الشنيعة، يثير غضب الكائنات ويجعل الأرض والسموات في حنق وغيظ عليهم... ويخل بحكمة خلق العالم والقصد منه.. ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها.. ويستخف بعظمة الالوهية وينكرها، لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من امثال هذه الحقائق، ولهما من الأهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا الوف المرات في خطاب عام موجه الى الجن والانس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة اليها ما زالت موجودة باقية. فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة ومعجزة جميلة.

C (ومثال آخر نسوقه حول حكمة التكرار في الحديث النبوي e ) فالمناجاة النبوية المسماة بالجوشن الكبير مناجاة رائعة مطابقة لحقيقة القرآن الكريم ونموذج مستخلص منه. نرى فيها جملة: سبحانك يا لا إله إلاّ انت الأمان الأمان خلصنا من النار.. اجرنا من النار.. نجّنا من النار، هذه الجمل تتكرر مائة مرة، فلو تكررت الوف المرات لما ولدت السأم، إذ أنها تنطوي على أجل حقيقة في الكون وهي التوحيد. وأجل وظيفة للمخلوقات تجاه ربهم الجليل وهي التسبيح والتحميد والتقديس، واعظم قضية مصيرية للبشرية وهي النجاة من النار والخلاص من الشقاء الخالد. وألزم غاية للعبودية وللعجز البشري وهي الدعاء.

وهكذا نرى امثال هذه الأسس فيما تشتمل عليه انواع التكرار في القرآن الكريم. حتى نرى أنه يعبر اكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد - صراحة أو ضمناً - في صحيفة واحدة من المصحف وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة الى الافهام، وبلاغة البيان، فيهيج بالتكرار الشوق الى تكرار التلاوة، ويمد به البلاغة قوة وسمواً من دون أن يورث سأماً أو مللاً.

ولقد أوضحت اجزاء رسائل النور حكمة التكرار في القرآن الكريم وبينت حججها واثبتت مدى ملاءمة التكرار وانسجامه مع البلاغة، ومدى حسنه وجماله الرائع.

C أما حكمة إختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، ومن جهة الاعجاز ومن حيث التفصيل والاجمال فهي كما يأتي:

ان الصف الاول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش وهم اميون لاكتاب لهم، فاقتضت البلاغة اسلوباً عالياً قوياً واجمالاً معجزاً مقنعاً، وتكراراً يستلزمه التثبيت في الافهام؛ لذا بحثت اغلب السور المكية اركان الايمان ومراتب التوحيد باسلوب في غاية القوة والعلو، وبايجاز في غاية الاعجاز، وكررت الايمان بالله والمبدأ والمعاد والاخرة كثيراً، بل قد عبرت عن تلك الاركان الايمانية في كل صحيفة أو اية، او في جملة واحدة، او كلمة واحدة، بل ربما عبرت عنها في حرف واحد، في تقديم وتأخير، في تعريف وتنكير، في حذف وذكر. فاثبتت اركان الايمان في أمثال تلك الحالات والهيئات البلاغية إثباتاً جعل علماء البلاغة وائمتها يقفون حيارى مبهوتين أمام هذا الأسلوب المعجز. ولقد وضّحت رسائل النور ولاسيما ((الكلمة الخامسة والعشرون (المعجزات القرآنية) مع ذيولها)) اعجاز القرآن في أربعين وجهاً من وجوهها، وكذلك تفسير ((إشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) باللغة العربية الذي يبين بياناً رائعاً اعجاز القرآن من حيث وجه النظم بين الآيات الكريمة. فاثبتت كلتا الرسالتين فعلاً علو الأسلوب البلاغي الفذ وسمو الايجاز المعجِز.

أما الآيات المدنية وسورها فالصف الاول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم أهل كتاب مؤمنون بالله. فاقتضت قواعد البلاغة واساليب الإرشاد واسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقاً لواقع حالهم، فجاء باسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات - دون الأصول والاركان (الايمانية) - لأن تلك الجزئيات هي منشأ الاحكام الفرعية والقوانين الكلية، ومدار الأختلافات في الشرائع والاحكام. لذا فغالباً ما نجد الآيات المدنية واضحة سلسة باسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم. ولكن ذكر القرآن فذلكة قوية أو نتيجة ملخصة أو خاتمة رصينة أو حجة دامغة تعقيباً على حادثة جزئية فرعية، يجعل تلك الحادثة الجزئية قاعدة كلية عامة، ومن بعد ذلك يضمن الامتثال بها بترسيخ الايمان بالله الذي يحققه ذكر تلك الفواصل الختامية الملخصة للتوحيد والايمان والاخرة. فترى أن ذلك المقام الواضح السلس يتنور ويسمو بتلك الفواصل الختامية. (ولقد بينت ((رسائل النور)) واثبتت حتى للمعاندين مدى البلاغة العالية والميزات الراقية وانواع الجزالة السامية الدقيقة الرفيعة في تلك الفذلكات والفواصل وذلك في عشر مميزات ونكت في النور الثاني من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن). فان شئت فانظر الى ] ان الله على كل شيء قدير[ ، ] ان الله بكل شيء عليم[ ] وهوالعزيز الحكيم[ ] وهو العزيز الرحيم[ وامثالها من الآيات التي تفيد التوحيد وتذكر بالاخرة، والتي تنتهي بها اغلب الآيات الكريمة، ترَ أن القرآن الكريم عند بيانه الاحكام الشرعية الفرعية والقوانين الاجتماعية يرفع نظر المخاطب الى آفاق كلية سامية، فيبدل ـ بهذه الفواصل الختامية - ذلك الأسلوب السهل الواضح السلس اسلوباً عالياً رفيعاً، كأنه ينقل القارئ من درس الشريعة الى درس التوحيد. فيثبت أن القرآن: كتاب شريعة واحكام وحكمة، كما هو كتاب عقيدة وايمان، وهو كتاب ذكر وفكر، كما هو كتاب دعاء ودعوة.

وهكذا ترى أن هناك نمطاً من جزالة معجزة ساطعة في الآيات المدنية هو غير بلاغة الآيات المكية، حسب اختلاف المقام وتنوع مقاصد الأرشاد والتبليغ.

فقد ترى هذا النمط في كلمتين فقط: ] ربك[ و ] رب العالمين[ إذ يعلّم الأحدية بتعبير ] ربك[ ويعلّم الواحدية بـ ] رب العالمين[ ، علما ان الواحدية تـتضمن الأحدية.

بل قد ترى ذلك النمط من البلاغة في جملة واحدة فيريك في آية واحدة مثلا نفوذ علمه الى موضع الذرة في بؤبؤ العين وموقع الشمس في كبد السماء، واحاطة قدرته التي تضع بالآلة الواحدة كلاً في مكانه، جاعلة من الشمس كأنها عين السماء فيعقب ] وهو عليم بذات الصدور[ بعد آية ] يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل[ (الحديد:6) أي يعقب نفوذ علمه سبحانه الى خفايا الصدور بعد ذكره عظمة الخلق في السموات والأرض وبسطها أمام الأنظار. فيقر في الأذهان أنه يعلم خواطر القلوب وخوافي شؤونها ضمن جلال خلاقيته للسموات والأرض وتدبيره لشؤونها. فهذا التعقيب: ] وهو عليم بذات الصدور[ لون من البيان يحول ذلك الأسلوب السهل الواضح الفطري - القريب الى افهام العوام - الى ارشاد سامٍ وتبليغ عام جذاب.

سؤال: ان النظرة السطحية العابرة لا تستطيع ان ترى ما يورده القرآن الكريم من حقائق ذات اهمية، فلا تعرف نوع المناسبة والعلاقة بين فذلكة تعبر عن توحيد سام أو تفيد دستوراً كلياً، وبين حادثة جزئية معتادة؛ لذا يتوهم البعض ان هناك شيئاً من قصور في البلاغة، فمــثــلاً لا تظهــر المناســبة البلاغية في ذكر دســـتور عظـيم:

] وفوق كل ذي علم عليم[ تعقيباً على حادثة جزئية وهي ايواء يوسف عليه السلام أخاه اليه بتدبير ذكي. فيرجى بيان السر في ذلك وكشف الحجاب عن حكمته؟

الجواب: ان اغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة - لا تكتفي بمقصدين او ثلاثة من مقاصد القرآن الاربعة (وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية) بل كل منها يتضمن ماهية القرآن كلها، والمقاصد الأربعة معاً، أي كل منها: كتاب ذكر وايمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية. فكل سورة من تلك السُوَر تتضمن كُتباً عدة، وترشد الى دروس مختلفة متنوعة. فتجد ان كل مقام - بل حتى الصحيفة الواحدة - يفتح أمام الإنسان ابواباً للايمان يحقق بها اقرار مقاصد أخرى حيث أن القرآن يذكر ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسخ في اعماق المؤمن احاطة ربوبيته سبحانه بكل شئ، ويريه تجلياتها المهيبة في الآفاق والأنفس. لذا فان ما يبدو من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية فتتلاحق مناسبات وثيقة وعلاقات قوية بتلك المناسبة الضعيفة ظاهراً، فيكون الاسلوب مطابقاً تماماً لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.

سؤال آخر: ما حكمة سَوق القرآن الوف الدلائل لاثبات امور الآخرة وتلقين التوحيد واثابة البشر؟ وما السر في لفته الانظار الى تلك الامور صراحة وضمناً واشارة في كل سورة بل في كل صحيفة من المصحف وفي كل مقام؟

الجواب: لأن القرآن الكريم ينبه الانسان الى اعظم انقلاب يحدث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تأريخ العالم.. وهو الآخرة. ويرشده الى اعظم مسألة تخصه وهو الحامل للامانة الكبرى وخلافة الأرض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي تدور عليه سعادته وشقاوته الأبديتان. وفي الوقت نفسه يزيل القرآن سيل الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم أشد انواع الجحود والانكار المقيت.

لذا لو قام القرآن بتوجيه الانظار الى الأيمان بتلك الأنقلابات المدهشة وحمل الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم لو قام به آلاف المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات لايعد ذلك منه إسرافاً في البلاغة قط، كما أنه لايولد سأماً ولا مللاً ألبتة، بل لا تنقطع الحاجة الى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.

فمثلاً: ان حقيقة الآية الكريمة: ] ان الذين امنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير[ (البروج:11) هي بشرى السعادة الخالدة تزفها هذه الآية الكريمة الى الانسان المسكين الذي يلاقي حقيقة الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصور الموت اعداماً أبدياً، وتنجيه - وعالمه وجميع أحبته - من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة ابدية، وتكسبه سعادة دائمة.. فلو تكررت هذه الآية الكريمة ملياراً من المرات لايعد تكرارها من الاسراف قط، ولا يمس بلاغتها شئ.

وهكذا ترى أن القرآن الكريم الذي يعالج امثال هذه المسائل القيمة ويسعى لاقناع المخاطبين بها باقامة الحجج الدامغة، يعمق في الأذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها أمامهم سهلة واضحة كتبدل المنزل وتغير شكله. فلابد أن لفت الأنظار الى أمثال هذه المسائل - صراحة وضمناً واشارة - بالوف المرات ضروري جداً بل هو كضرورة الإنسان الى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته اليها دائماً.

C ومثلاً: ان حكمة تكرار القرآن الكريم: ] والذين كفروا لهم نار جهنم[ (فاطر:36) ] ان الظالمين لهم عذاب أليم) (ابراهيم:22) وأمثالها من آيات الانذار والتهديد. وسوقها باسلوب في غاية الشدة والعنف، هي ] مثلما اثبتناها في رسائل النور اثباتاً قاطعاً[ :

ان كفر الانسان انما هو تجاوز - أيّ تجاوز - على حقوق الكائنات واغلب المخلوقات، مما يثير غضب السماوات والارض، ويملأ صدور العناصر حنقاً وغيظاً على الكافرين، حتى تقوم تلك العناصر بصفع اولئك الظالمين بالطوفان وغيره. بل حتى الجحيم تغضب عليهم غضباً تكاد تتفجر من شدته كما هو صريح الآية الكريمة: ] اذا القوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور^ تكاد تميز من الغيظ..[ (الملك: 7-8). فلو يكرر سلطان الكون في اوامره تلك الجناية العظمى (الكفر) وعقوبتها باسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عد ذلك اسـرافاً مــطلقاً ولا نقصاً في البلاغــة، نظراً لضخامة تلك الجناية العامة وتجاوز الحقوق غير المحدودة، وبناء على حكمة اظهار اهمية حقوق رعيته سبحانه وابراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع. اذ لا يكرر ذلك لضآلة الأنسان وحقارته بل لهول تجاوز الكافر وعظم ظلمه.

ثم اننا نرى ان مئات الملايين من الناس منذ الف ومئات من السنين يتلون القرآن الكريم بلهفة وشوق وبحاجة ماسة اليه دون ملل ولاسأم.

نعم، ان كل وقت وكل يوم إنما هو عالمٌ يمضي وباب ينفتح لعالم جديد لذا فان تكرار (لا إله إلا الله) بشوق الحاجة اليها ألوف المرات لأجل اضاءة تلك العوالم السيارة كلها وانارتها بنور الايمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في سماء تلك العوالم والايام. فكما أن الأمر هكذا في (لا إله إلاّ الله) كذلك تلاوة القرآن الكريم فهي تبدد الظلام المخيم على تلك الكثرة الكاثرة من المشاهد السارية، وعلى تلك العوالم السيارة المتجددة، وتزيل التشوه والقبح عن صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الاوضاع المقبلة شهوداً له يوم القيامة لا شهوداً عليه. وترقّيه الى مرتبة معرفة عِظَم جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النذر المخفية لسلطان الازل والابد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوّقه الى الخلاص من طغيان النفس الأمارة بالسوء.. فلأجل هذه الحكم كلها يكرر القرآن الكريم ما يكرر في غاية الحكمة، مظهراً ان النذر القرآنية الكثيرة الى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطان من توهمها باطلا، ويهرب من تخيلها عبثاً. نعم ان عذاب جهنم لهو عين العدالة لأولئك الكفار الذين لا يعيرون للنذر سمعاً.

C ومن المكررات القرآنية ((قصص الانبياء)) عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام. - مثلاً - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الأنبياء انما هي لاثبات الرسالة الأحمدية وذلك بأظهار نبوة الانبياء جميعهم حجةً على احقية الرسالة الاحمدية وصدقها؛ حيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ من ينكر نبوتهم جميعاً. فذكرها اذن دليل على الرسالة.

ثم إن كثيراً من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفقون الى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتـوسـطة بمـثــابة قرآن مصغر، ومن ثم تــكرار الـقــصص فيهــا بمثـل تكرار أركان الايمان الضرورية. أي أن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه اسراف قط. زد على ذلك فان فيه تعليماً بأن حادثة ظهور محمد e أعظم حادثة للبشرية واجلّ مسألة من مسائل الكون.

C نعم! ان منح ذات الرسول الكريم e اعظم مقام واسماه في القرآن الكريم، وجعل (محمد رسول الله) - الذي يتضمن اربعة من اركان الايمان - مقروناً بـ (لا إله إلاّ الله) دليل وأي دليل على أن الرسالة المحمدية هي اكبر حقيقة في الكون، وان محمداً e لهو اشرف المخلوقات طراً. وان الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية لمحمد e هي السراج المنير للعالمين كليهما، وانه e أهل لهذا المقام الخارق، كما قد اثبت ذلك في أجزاء رسائل النور بحجج وبراهين عديدة اثباتاً قاطعاً. نورد هنا واحداً من الف منها. كما يأتي:

ان كل ما قام به جميع أمة محمد e من حسنات في الازمنة قاطبة يكتب مثلها في صحيفة حسناته e ، وذلك حسب قاعدة ((السبب كالفاعل)).

وان تنويره لجميع حقائق الكائنات بالنور الذي اتى به لا يجعل الجن والأنس والملائكة وذوي الحياة في امتنان ورضى وحدهم بل يجعل الكون برمته والسماوات والأرض جميعاً راضية عنه محدثة بفضائله.

وان ما يبعثه صالحو الامة - الذين يبلغون الملايين - يومياً من أدعية فطرية مستجابة لا ترد - بدلالة القبول الفعلي المشاهد لأدعية النباتات بلسان الاستعداد، وادعية الحيوانات بلسان حاجة الفطرة - ومن ادعية الرحمة بالصلاة والسلام عليه ، وما يرسلونه بما ظفروا من مكاسب معنوية وحسنات هداياً، انما تقدم اليه اولاً.

فضلاً عما يدخل في دفتر حسناته e من أنوار لا حدود لها بما تتلوه أمته - بمجرد التلاوة - من القرآن الكريم الذي في كل حرف من حروفه - التي تزيد على ثلاثمائة الف حرف - عشر حسنات وعشر ثمار اخروية، بل مائة بل الف من الحسنات..

نعم! ان علام الغيوب سبحانه قد سبق علمه وشاهد أن الحقيقة المحمدية التي هي الشخصية المعنوية لتلك الذات المباركة e ستكون كمثال شجرة طوبى الجنة، لذا أولاه في قرآنه تلك الأهمية العظمى حيث هو المستحق لذلك المقام الرفيع. وبيّن في اوامره بأن نيل شفاعته انما هو باتباعه والاقتداء بسنته الشريفة وهو أعظم مسألة من مسائل الأنسان. بل أخذ بنظر الاعتبار - بين حين وآخر - اوضاعه الانسانية البشرية التي هي بمثابة بذرة شجرة طوبى الجنة.

وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية وفيها من الحكم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن في تكراره معجزة معنوية قوية وواسعة، الاّ مَن مرض قلبه وسقم وجدانه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:

قد ينكر المرء ضوء الشمس من رمد وينكــر الفم طعم الـماء مـن سـقم





خاتمة هذه المسألة العاشرة في حاشيتين:

الحاشية الاولى:

طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، ان زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده باقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهر قيمته؟ أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! الى آخره من الافكار السامة. الا أن رسائل النور بفضل الله قد شلت تلك الفكرة واجهضت تلك الخطة بحججها الدامغة وبأنتشارها الواسع في كل مكان، فاثبتت اثباتاً قاطعاً أنه:

لا يمكن قطعاً ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وان أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وان الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل - بأي حال - محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة الى الألف، لذا لا يمكن مطلقاً تلاوة الترجمة بدلاً منه.

بيد ان المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نور القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لما كنت لا التقي احداً، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من أوضاع، الاّ ان اغلب ظني ان ما أوردته آنفاً هو السبب الذي دعا الى إملاء هذه (المسألة العاشرة) علي، رغم ما يحيط بي من ضيق.

الحاشية الثانية:

كنت جالساً ذات يوم في الطابق العلوي من فندق (شهر) عقب اطلاق سراحنا من سجن (دنيزلي) أتأمل فيما حوالي من اشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، رأيتها جذلانة بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها وأغصانها، وتهتز اوراقها بادنى لمسة من نسيم. فبدت أمامي بابهى صورة واحلاها، وكأنها تسبح لله في حلقات ذكر وتهليل.

مسّت هذه الحركات اللطيفة أوتار قلبي المحزون من فراق إخواني، وانا مغموم لانفرادي وبقائي وحيداً.. فخطر على البـال – فجأة – موســما الخريف والشتاء وانتابتني غفلة، اذ ستتناثر الاوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأت أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، واتحسر على سائر الأحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألما شديداً حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزان تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات!.

وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة اذا بالنور الذي اتت به الحقيقة المحمدية e يغيثني - مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه - فبدّل تلك الأحزان والغموم التي لا حدود لها مسرات وأفراحاً لاحد لها، فبتّ في امتنان أبدي ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي انقذني فيض واحد من فيوضات انوارها غير المحدودة فنشر ذلك الفيض السلوان في ارجاء نفسي واعماق وجداني، وكان ذلك كالآتي:

ان تلك النظرة الغافلة أظهرت تلك الاوراق الرقيقة والاشجار الفارعة الهيفاء من دون وظيفة ولا مهمة، لا نفع لها ولا جدوى، وانها لا تهتز اهتزازها اللطيف من شدة الشوق والنشوة بل ترتعد من هول العدم والفراق.. فتبّاً لها من نظرة غافلة اصابت صميم ما هو مغروز فيّ - كما هو عند غيري - من عشق للبقاء، وحب الحياة، والافتتان بالمحاسن، والشفقة على بني الجنس.. فحولت الدنيا الى جهنم معنوية، والعقل الى عضو للشقاء والتعذيب. فبينما كنت اقاسي هذا الوضع المؤلم، اذا بالنور الذي أنار به محمد e البشرية جمعاء يرفع الغطاء ويزيل الغشاوة ويبرز حِكَماً ومعاني ووظائف ومهمات غزيرة جداً تبلغ عدد اوراق الحَوَر. وقد اثبتت رسائل النور ان تلك الوظائف والحكم تنقسم الى ثلاثة أقسام:

القسم الاول: وهو المتوجه الى الاسماء الحسنى للصانع الجليل. فكما ان صانعاً ماهراً اذا ما قام بصنع ماكنة بديعة، يثني عليه الجميع ويقدرون صنعته ويباركون ابداعه، فان تلك الماكنة هي بدورها كذلك تبارك صانعها وتثني عليه بلسان حالها، وذلك باراءتها النتائج المقصودة منها اراءة تامة.

اما القسم الثاني: فهو المـتوجه الى انظــار ذوي الحياة وذوي الشعـور من المخلوقات أي يكون موضــع مطالعة حلــوة وتأمل لذيذ، فيــكون كل شــئ كأنه كتاب معرفة وعـلـم، ولا يغادر هذا العالَم - عالم الشهادة - الاّ بعد وضع معانيه في اذهان ذوي الشعور، وطبع صوره في حافظتهم، وانطباع صورته في الالواح المثالية لسجلات علم الغيب، أي لا ينسحب من عالم الشهادة الى عالم الغيب إلا بعد دخوله ضمن دوائر وجود كثيرة ويكسـب انواعا من الوجود المعنـوي والغيـبي والعلمي.

نعم ما دام الله موجوداً، وعلمه يحيط بكل شئ، فلابد ان لا يكون هناك في عالم المؤمن عدم، واعدام، وانعدام، وعبث، ومحو، وفناء، من زاوية الحقيقة.. بينما دنيا الكفار زاخرة بالعدم والفراق والانعدام ومليئة بالعبث والفناء ومما يوضح هذه الحقيقة ما يدور على الالسنة من قول مشهور هو: ((من كان له الله كان له كل شئ، ومن لم يكن له الله لم يكن له شئ)).

الخلاصة: ان الايمان مثلما ينقذ الانسان من الاعدام الأبدي اثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص ايضاً من ظلمات العدم والانعدام والعبث. بينما الكفر - ولا سيما الكفر المطلق - فانه يعدم ذلك الانسان، ويعدم دنياه الخاصة به بالموت. ويلقيه في ظلمات جهنم معنوية محولاً لذائذ حياته آلاماً وغصصاً.

فلْترنّ آذان الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة، وليأتوا بعلاج لهذا الامر ان كانوا صادقين، أو ليدخلوا حظيرة الايمان ويخلصوا انفسهم من هذه الخسارة الفادحة.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[



أخوكم الراجي دعواتكم والمشتاق اليكم

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #39
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السادسة والعشرون

رسالة القدر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واِنْ مِنْ شيءٍ الاّ عندنا خزائنُهُ وما نُنَزّله اِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلومٍ[ (الحجر:21)

] وكلّ شيءٍ اَْحْصَيناه في إمامٍ مُبينٍ[ (يس:12)

[ القدر الإلهي والجزء الاختياري مسألتان مهمتان. نحاول حلّ بعض اسرارهما في اربعة مباحث تخص القدر]



المبحث الاول

ان القدر والجزء الاختياري جزءان من ايمان حالي ووجداني، يبيّن نهاية حدود الايمان والاسلام، وليسا مباحث علمية ونظرية.

اي: ان المؤمن يعطي للهكل شئ، ويحيل اليه كل أمر، وما يزال هكذا حتى يحيل فعله ونفسه اليه.ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف والمسؤولية يبرز امامه الجزء الاختياري قائلاً له: ((انت مسؤول، أنت مكلّف))!

ثم انه لكي لا يغتر بما صدر عنه من حسنات وفضائل، يواجهه القدر، قائلاً له: ((اعرف حدّك، فلست انت الفاعل)).

اجل! ان القدر والجزء الاختياري هما في اعلى مراتب الايمان والاسلام قد دخلا ضمن المسائل الايمانية، لانهما ينقذان النفس الانسانية.. فالقدر ينقذها من الغرور، والجزء الاختياري ينجيها من الشعور بعدم المسؤولية. وليسا من المسائل العلمية والنظرية التي تفضي الى ما يناقض سر القدر وحكمة الجزء الاختياري كلياً بالتشبث بالقدر للتبرئة من مسؤولية السيئات التي اقترفتها النفوس الامارة بالسوء والافتخار بالفضائل التي اُنعمت عليها والاغترار بها واسنادها الى الجزء الاختياري.

اجل! ان العوام الذين لم يبلغوا مرتبة ادراك سر القدر لهم مواضع لاستعماله، ولكن هذه المواضع تنحصر في الماضيات من الامور وبخصوص المصائب والبلايا والذي هو علاج اليأس والحزن، وليس في امور المعاصي أو في المقبلات من الايام، والذي ينتفي كونه مساعداً على اقتراف الذنوب والتهاون في التكاليف.

بمعنى ان مسألة القدر ليست للفرار من التكليف والمسؤولية، بل هو لإنقاذ الانسان من الفخر والغرور، ولهذا دخلت ضمن مسائل الايمان.

أما الجزء الاختياري، فقد دخل ضمن مباحث العقيدة ليكون مرجعاً للسيئات، لا ليكون مصدراً للمحاسن والفضائل التي تسوق الى الطغيان والتفرعن.

نعم! ان القرآن الكريم يبين ان الانسان مسؤول عن سيئاته مسؤولية كاملة. لأن الانسان هو الذي اراد السيئات. ولما كانت السيئات من قبيل التخريبات، لذا يستطيع الانسان ان يوقع دماراً هائلاً بسيئة واحدة، كإحراق بيت كامل بعود ثقاب، وبذلك يستحق انزال عقاب عظيم به.

أما في الحسنات، فليس له الحق في الفخر والمباهاة، لأن حصته فيها ضئيلة جداً، لأن الرحمة الإلهية هي التي ارادت الحسنات، واقتضتها. والقدرة الربانية هي التي اوجدتها، فالسؤال والجواب والسبب والداعي كلاهما من الحق سبحانه وتعالى. ولا يكون الانسان مالكاً لهذه الحسنات وصاحباً لها الاّ بالدعاء والتضرع، وبالايمان، وبالشعور بالرضى عنها. بينما الذي اراد السيئات هو النفس الانسانية، إما بالاستعداد او بالاختيار، مثلما تكتسب بعض المواد التعفن والاسوداد من ضياء الشمس الجميل اللامع، فذلك الاسوداد انما يعود الى استعداد تلك المادة، ولكن الذي يوجد تلك السيئات بقانون إلهي متضمن لمصالح كثيرة انما هو الله سبحانه ايضاً. اي أن التسبب والسؤال هما من النفس الانسانية بحيث تتحمل المسؤولية عنها. أما الخلق والايجاد الخاص به سبحانه وتعالى فهو جميل، لأن له ثمرات اخرى جميلة، ونتائج شتى جميلة، فهو خير.

ومن هذا السر يكون خلق الشر ليس شراً، وانما كسب الشر شر، اذ لا يحق لكسلان قد تأذى من المطر - المتضمن لمصالح غزيرة - ان يقول:المطر ليس رحمة.

نعم! ان في الخلق والايجاد خيراً كثيراً مع تضمنه لشر جزئي، وان ترك خير كثير لأجل شر جزئي، يحدث شراً كثيراً، لذا فان ذلك الشــر الجزئي يعدّ خيــراً وفي حكمه. فليس في الخلق الإلهي شرٌ ولا قبح، بل يعود الشر الى كسب العبد والى استعداده.

وكما ان القدر الإلهي منزّه عن القبح والظلم، من حيث النتيجة والثمرات، كذلك فهو مقدّس عن القبح والظلم من حيث العلة والسبب، لأن القدر الإلهي ينظر الى العلل الحقيقية، فيعدل. بينما الناس يبنون احكامهم على ما يشاهدونه من علل ظاهرة فيرتكبون ظلماً ضمن عدالة القدر نفسه.

فمثلاً: هب ان حاكماً قد حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة، وانت برئ منها، ولكن لك قضية قتل مستورة لا يعرفها الاّ الله.

فالقدر الإلهي قد حكم عليك بذلك السجن، وقد عدل من أجل ذلك القتل المستور عن الناس. أما الحاكم فقد ظلمك، حيث حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة وانت منها برئ.

وهكذا ففي الشئ الواحد تظهر جهتان، جهة عدالة القدر والايجاد الإلهي، وجهة ظلم البشر وكسبه. قس بقية الامور على هذا.

اي ان القدر والايجاد الإلهي منزّهان عن الشر والقبح والظلم، باعتبار المبدأ والمنتهى والاصول والفروع والعلل والنتائج.

واذا قيل:

ما دام الجزء الاختياري لا قابلية له في الايجاد، ولا يوجد في يد الانسان غير الكسب الذي هو في حكم امر اعتباري، فكيف يكون اذن شكوى القرآن المعجز البيان من هذا الانسان شكاوى عظيمة تجاه عصيانه خالق السموات والارض؛ حتى كأنه اُعطي له وضع العدو العاصي، بل يرسل سبحانه جنوده الملائكة لإمداد العبد المؤمن تجاه ذلك العاصى، بل يُمدّه خالق السموات والارض بنفسه.. فِلمَ هذه الأهمية البالغة؟

الجواب: لأن الكفر والعصيان والسيئة كلها تخريب وعدم، ويمكن ان تترتب تخريبات هائلة وعدمات غير محدودة على امرٍ اعتباري وعدمي واحد. اذ كما ان عدم ايفاء ملاح سفينة ضخمة بوظيفته يغرق السفينة، ويفسد نتائج اعمال جميع العاملين فيها، لترتب جميع تلك التخريبات الجسيمة على عمل عدمٍ واحد، كذلك الكفر والمعصية، لكونهما نوعاً من العدم والتخريب، فيمكن ان يحركهما الجزء الاختياري بأمر اعتباري، فيسببان نتائج مريعة. لأن الكفر وان كان سيئة واحدة؛ الاّ انه تحقير لجميع الكائنات بوصمها بالتفاهة والعبثية، وتكذيب لجميع الموجودات الدالة على الوحدانية، وتزييف لجميع تجليات الاسماء الحسنى. فان تهديده سبحانه وتعالى وشكواه باسم الكائنات قاطبة، والموجودات كافة والاسماء الإلهية الحسنى؛ كلها من الكافر شكاوى عنيفة وتهديدات مريعة هو عين الحكمة وان تعذيبه بعذاب خالد هو عين العدالة.

وحيث ان الانسان لدى انحيازه الى جانب التخريب بالكفر والعصيان، يسبب دماراً رهيباً بعمل جزئي، فان اهل الايمان محتاجون اذن، تجاه هؤلاء المخربين، الى عناية إلهية عظيمة، لأنه اذا تعهّد عشرة من الرجال الأقوياء بالحفاظ على بيت وتعميره، فان طفلاً شريراً في محاولته احراق البيت، يُلجئ اولئك الرجال الى الذهاب الى وليّه بل التوسل الى السلطان.

لذا فالمؤمنون محتاجون اشد الحاجة الى عنايته سبحانه وتعالى للصمود تجاه هؤلاء العصاة الفاجرين.

نحصل مما سبق: ان الذي يتحدث عن القدر والجزء الاختياري ان كان ذا ايمان كامل، مطمئن القلب، فانه يفوّض امر الكائنات كلها، ونفسه كذلك، الى الله سبحانه وتعالى، ويعتقد بان الامور تجري تحت تصرفه سبحانه وتدبيره. فهذا الشخص يحق له الكلام في القدر والجزء الاختياري لأنه يعرف أن نفسه وكل شئ، منه سبحانه وتعالى. فيتحمل المسؤولية، مستنداً الى الجزء الاختياري الذي يعتبره مرجعاً للسيئات، فيقدّس ربه وينزّهه، ويظل في دائرة العبودية ويرضخ للتكليف الإلهي ويأخذه على عاتقه. وينظر الى القدر في الحسنات والفضائل الصادرة عنه، لئلا يأخذه الغرور، فيشكر ربه بدل الفخر، ويرى القدر في المصائب التي تنزل به فيصبر.

ولكن ان كان الذي يتحدث في القدر الإلهي والجزء الاختياري من أهل الغفلة، فلا يحق له الخوض فيهما، لأن نفسه الامارة بالسوء - بدافع من الغفلة أو الضلالة - تحيل الكائنات الى الاسباب، فتجعل ما لله اليها، وترى نفسها مالكة لنفسها، وترجع افعالها الى نفسها ويسنـدها الى الاســباب، بينما تحمّـل القــدر المســؤولية والتقصيرات. وحينئذٍ يكون الخوض في القدر والجزء الاختياري باطلاً لا اساس له - بهذا المفهوم - ولا يعنى سوى دسيسة نفسية تحاول التملص من المسؤولية، مما ينافي حكمة القدر وسر الجزء الاختياري.



المبحث الثاني

هذا المبحث بحث علمي دقيق خاص للعلماء(1).

C اذا قلت: كيف يمكن التوفيق بين القدر والجزء الاختياري؟

الجواب: بسبعة وجوه:

الاول: ان العادل الحكيم الذي تشهد لحكمته وعدالته الكائنات كلها، بلسان الانتظام والميزان، قد اعطى للانسان جزءاً اختيارياً مجهول الماهية، ليكون مدار ثواب وعقاب. فكما ان للحكيم العادل حكَماً كثيرة خفية عنا، كذلك كيفية التوفيق بين القدر والجزء الاختياري خافية علينا. ولكن عدم علمنا بكيفية التوفيق لا يدل على عدم وجوده.

الثاني: ان كل انسان يشعر بالضرورة ان له ارادة واختياراً في نفسه، فيعرف وجود ذلك الاختيار وجداناً. وان العلم بماهية الموجودات شئ والعلم بوجودها شئ آخر. فكثير من الاشياء وجودها بديهي لدينا الاّ أن ماهيتها مجهولة بالنسبة الينا. فهذا الجزء الاختياري يمكن ان يدخل ضمن تلك السلسلة، فلا ينحصر كل شئ في نطاق معلوماتنا، وان عدم علمنا لا يدل على عدمه.

الثالث: ان الجزء الاختياري لا ينافي القدر، بل القدر يؤيد الجزء الاختياري؛ لأن القدر نوع من العلم الإلهي، وقد تعلق العلم الإلهي باختيارنا، ولهذا يؤيد الاختيار ولا يبطله.

الرابع: القدر نوع من العلم، والعلم تابع للمعلوم، اي على اية كيفية يكون المعلوم يحيط به العلم ويتعلق به، فلا يكون المعلوم تابعاً للعلم، اي ان دساتير العلم ليست اساساً لإدارة المعلوم من حيث الوجود الخارجي، لأن ذاتَ المعلوم ووجوده الخارجي ينظر الى الارادة ويستند الى القدرة.

ثم ان الازل ليس طرفاً لسلسلة الماضي كي يُتخذ اساساً في وجود الاشياء ويُتصور اضطراراً بحسبه، بل الازل يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل - كاحاطة السماء بالارض - كالمرآة الناظرة من الاعلى.

لذا ليس من الحقيقة في شئ تخيل طرفٍ ومبدأٍ في جهة الماضي للزمان الممتد في دائرة الممكنات واطلاق اسم الازل عليه، ودخول الاشياء بالترتيب في ذلك العلم الازلي، وتوهم المرء نفسه في خارجه، ومن ثم القيام بمحاكمة عقلية في ضوء ذلك.

فانظر الى هذا المثال لكشف هذا السر:

اذا وجدت في يدك مرآة، وفرضتَ المسافة التي في يمينها الماضي. والمسافة التي في يسارها المستقبل، فتلك المرآة لا تعكس الاّ ما يقابلها، وتضم الطرفين بترتيب معين، حيث لا تستوعب اغلبهما، لأن المرآة كلما كانت واطئة عكست القليل، بينما اذا رفعت الى الاعلى فان الدائرة التي تقابلها تتوسع، وهكذا بالصعود تدريجياً تستوعب المرآة المسافة في الطرفين معاً في نفسها في آن واحد.

وهكذا يرتسم في المرآة في وضعها هذا كل ما يجري من حالات في كلتا المسافتين. فلا يقال ان الحالات الجارية في احداها مقدمة على الاخرى، أو مؤخرة عنها، او توافقها، أو تخالفها.

وهكذا فالقدر الإلهي لكونه من العلم الازلي، والعلم الازلي ((في مقام رفيع يضم كل ما كان وما يكون، ويحيط به)) كما يُعبّر عنه في الحديث الشريف، لذا لا نكون نحن ولا محاكماتنا العقلية خارجَين عن هذا العلم قطعاً، حتى نتصوره مرآة تقع في مسافة الماضي.

الخامس: ان القدر يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معاً - فالارادة لا تتعلق مرة بالمسبب ثم بالسبب مرة اخرى - اي ان هذا المسبَّب سيقع بهذا السبب. لذا يجب الاّ يقال: ما دام موت الشخص الفلاني مقدّراً في الوقت الفلاني، فما ذنب من يرميه ببندقية بارادته الجزئية؛ اذ لو لم يرمه لمات ايضا؟

سؤال: لِمَ يجب الاّ يقال؟

الجواب: لأن القدر قد عّين موته ببندقية ذاك، فاذا فرضت عدم رميه، عندئذٍ تفرض عدم تعلق القدر. فبِمَ تحكم اذن على موته. الاّ اذا تركت مسلك اهل السنة والجماعة ودخلت ضمن الفرق الضالة التي تتصور قدراً للسبب وقدراً للمسبب، كما هو عند الجبرية. أو تنكر القدر كالمعتزلة. أما نحن اهل الحق فنقول: لو لم يرمه فان موته مجهول عندنا. أما الجبرية فيقولون: لو لم يرمه لمات ايضاً. بينما المعتزلة يقولون: لو لم يرمه لا يموت.

السادس (1): ان الميلان الذي هو اس اساس الجزء الاختياري، أمر اعتباري عند الماتريدية، فيمكن أن يكون بيد العبد، ولكن الميلان أمر موجود لدى الاشعريين، فليس هو بيد العبد، الاّ ان التصرف عندهم أمر اعتباري بيد العبد. ولهذا فذلك الميلان وذلك التصرف فيه، امران نسبيان، ليس لهما وجود خارجي محقق. أما الامر الاعتباري فلا يحتاج ثبوته ووجوده الى علة تامة والتي تستلزم الضرورة الموجبة لرفع الاختيار، بل اذا اتخذت علة ذلك الامر الاعتباري وضعاً بدرجة من الرجحان، فانه يمكن ان يثبت،ويمكن ان يتركه في تلك اللحظة، فيقول له القرآن آنئذٍ: هذا شر! لا تفعل.

نعم! لو كان العبد خالقاً لأفعاله وقادراً على الايجاد، لَرُفع الاختيار؛ لأن القاعدة المقررة في علم الاصول والحكمة أنه ((ما لم يجب لم يوجد)) اي لا ياتي الى الوجود شئ مالم يكن وجوده واجباً، اي لابد من وجود علة تامة ثم يوجد. أما العلة التامة فيقتضي المعلول بالضرورة وبالوجوب. وعندها لا اختيار.

C اذا قلت:

الترجيح بلا مرجّحٍ محال، بينما كسب الانسان الذي تسمونه امراً اعتبارياً، بالعمل احياناً وبعدمه اخرى، يلزم الترجيح بلا مرجّح ان لم يوجد مرجّح موجِب، وهذا يهدم اعظم اصل من اصول الكلام!

الجواب: ان الترجّح بلا مرجّح محال - اي الرجحان بلا سبب ولا مرجّح - دون الترجيح بلا مرجّح الذي يجوز وهو واقع، فالارادة الإلهية صفة من صفاته تعالى وشأنها القيام بمثل هذا العمل (اي اختياره تعالى هو المرجّح).

C اذا قلت:

ما دام الذي خلق القتل هو الله سبحانه وتعالى، فلماذا يقال لي: القاتل؟

الجواب: ان اسم الفاعل مشتق من المصدر الذي هو أمر نسبي، حسب قواعد علم الصرف ولا يشتق من الحاصل بالمصدر الذي هو أمر ثابت. فالمصدر هو كسبنا، ونتحمل عنوان القاتل نحن، والحاصل بالمصدر مخلوق الله سبحانه، وما يشم منه المسؤولية لا يشتق من الحاصل بالمصدر.

السابع: ان ارادة الانسان الجزئية وجزأه الاختياري، ضعيف وأمر اعتباري. الاّ ان الله سبحانه وهو الحكيم المطلق قد جعل تلك الارادة الجزئية الضعيفة شرطاً عادياً لارادته الكلية. اي كأنه يقول معنىً: يا عبدي ايّ طريق تختاره للسلوك، فانا اسوقك اليه. ولهذا فالمسؤولية تقع عليك، فمثلاً (ولا مشاحة في الامثال) اذا أخذت طفلاً عاجزاً ضعيفاً على عاتقك وخيّرته قائلاً: الى اين تريد الذهاب، فسآخذك اليه. وطلب الطفل الصعود على جبلٍ عالٍ، وانت اخذته الى هناك، ولكن الطفل تمرض او سقط. فلا شك ستقول له: انت الذي طلبت! وتعاتبه. وتزيده لطمة تأديب. وهكذا.. ولله المثل الاعلى. فهو سبحانه أحكم الحاكمين جعل ارادة عبده الذي هو في منتهى الضعف شرطاً عادياً لارادته الكلية.

حاصل الكلام:

ايها الانسان! ان لك ارادة في منتهى الضعف، الاّ ان يدها طويلة في السيئات والتخريبات وقاصرة في الحسنات، هذه الارادة هي التي تسمى بالجزء الاختياري. فسلّم لإحدى يدى تلك الارادة الدعاء، كي تمتد وتطال الى الجنة التي هي ثمرة من ثمار سلسلة الحسنات وتبلغ السعادة الابدية التي هي زهرة من ازاهيرها.. وسلّم لليد الاخرى الاستغفار كي تقصر يدها عن السيئات، ولا تبلغ ثمرة الشجرة الملعونة زقوم جهنم. اي أن الدعاء والتوكل يمدّان ميلان الخير بقوة عظيمة، كما ان الاستغفار والتوبة يكسران ميلان الشر ويحدّان من تجاوزه.



المبحث الثالث

ان الايمان بالقدر من اركان الايمان، اي ان كل شئ بتقدير الله، والدلائل القاطعة على القدر كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى. ونحن سنبين هنا مدى قوة هذا الركن الايماني وسعته باسلوب بسيط وظاهر في مقدمة.

المقدمة

ان كل شئ قبل كونه وبعد كونه مكتوب في كتاب، يصرّح بهذا القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة امثال ] ولا رطب ولا يابس الاّ في كتاب مبين[ وتصدّق هذا الحكم القرآني الكائنات قاطبة، التي هي قرآن القدرة الإلهية الكبير، بآيات النظام والميزان والانتظام والامتياز والتصوير والتزيين وامثالها من الايات التكوينية.

نعم! ان كتابات كتاب الكائنات المنظومة وموزونات اياتها تشهد على أن كل شئ مكتوب. أما الدليل على أن كل شئ مكتوب ومقدّر قبل وجوده وكونه، فهو جميع المبادىء والبذور وجميع المقادير والصور شواهد صدق. اذ ما البذور الاّ صنيديقات لطيفة ابدعها معمل (ك.ن) أودع فيها القدر فهيرس رسمه، وتبني القدرة - حسب هندسة القدر ـ معجزاتها العظيمة على تلك البذيرات، مستخدمة الذرات. بمعنى ان كل ما سيجري على الشجرة من امور مع جميع وقائعها، في حكم المكتوب في بذرتها. لأن البذور بسيطة ومتشابهة مادةً، فلا اختلاف بينها.

ثم ان المقدار المنظم لكل شئ يبين القدر بوضوح فلو دقق النظر الى كائن حي لتبين أن له شكلاً ومقداراً، كأنه قد خرج من قالب في غاية الحكمة والاتقان، بحيث أن اتخاذ ذلك المقدار والشكل والصورة، اما انه يتأتى من وجود قالب مادي خارق في منتهى الانثناءات والانحناءات.. أو أن القدرة الإلهية تفصّل تلك الصورة وذلك الشكل وتُلبسها الشجرة بقالب معنوي علمي موزون أتى من القدر.

تأمل الآن في هذه الشجرة، وهذا الحيوان، فالذرات الصم العمي الجامدة التي لا شعور لها والمتشابهة بعضها ببعض، تتحرك في نمو الاشياء، ثم تتوقف عند حدود معينة توقف عارف عالم بمظان الفوائد والثمرات. ثم تبدل مواضعها وكأنها تستهدف غاية كبرى.

اي أن الذرات تتحرك على وفق المقدار المعنوي الآتي من القدر، وحسب الامر المعنوي لذلك المقدار.

فما دامت تجليات القدر موجودة في الاشياء المادية المشهودة الى هذه الدرجة، فلابد أن أوضاع الاشياء الحاصلة والصور التي تلبسها والحركات التي تؤديها بمرور الزمان تابعة ايضاً لإنتظام القدر.

نعم! ان في البذرة تجليين للقدر.

الاول: (بديهي) يخبر ويشير الى الكتاب المبين الذي هو عنوان الارادة والاوامر التكوينية.

والآخر: تجلٍ نظري (معقول) يخبر ويرمز الى الامام المبين الذي هو عنوان الامر والعلم الإلهي.

(فالقدر البديهي) هو ما تتضمن تلك البذرة من اوضاع وكيفيات وهيئات مادية للشجرة، والتي ستشاهد فيما بعد.

و(القدر النظري) هو ما سيخلق من تلك البذرة من اوضاع واشكال وحركات وتسبيحات طوال حياة الشجرة وهي التي يُعبّر عنها بتاريخ حياة الشجرة. فتلك الاوضاع والاشكال والافعال تتبدل حيناً بعد حين الاّ ان لها مقداراً قدرياً منتظماً، كما هو الظاهر في اغصان الشجرة واوراقها.

فلئن كان للقدر تجلٍ كهذا في الاشياء الاعتيادية والبسيطة، فلابد أن هذا يفيد؛ ان الاشياء كلها قبل كونها ووجودها مكتوبة في كتاب، ويمكن ان يفهم ذلك بشئ من التدبر.

أما الدليل على أن تأريخ حياة كل شئ، بعد وجوده وكونه، مكتوب؛ فهو جميع الثمرات التي تخبر عن الكتاب المبين والامام المبين. والقوة الحافظة للانسان التي تشير الى اللوح المحفوظ وتخبر عنه، كل منها شاهد صادق، وأمارة وعلامة على ذلك.

نعم! ان كل ثمرة تُكتب في نواتها - التي هي في حكم قلبها - مقدّرات حياة الشجرة ومستقبلها ايضاً.

والقوة الحافظة للانسان - التي هي كحبة خردل في الصغر - تَكتب فيها يدُ القدرة بقلم القدر تاريخ حياة الانسان وقسماً من حوادث العالم الماضية كتابةً دقيقة، كأنها وثيقة وعهد صغير من صحيفة الاعمال اعطته تلك القدرة للانسان ووضعها في زاوية من دماغه ليتذكر بها وقت المحاسبة، وليطمئن انّ خلق هذا الهرج والمرج والفناء والزوال مرايا للبقاء، رسَمَ فيها القدير هوّيات الزائلات، والواحاً يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات.

نحصل مما سبق: ان حياة النباتات، ان كانت منقادة الى هذا الحد لنظام القدر مع انها ادنى حياة وابسطها، فان حياة الانسان التي هي في اعلى مرتبة من مراتب الحياة، لابد انها رسمت بجميع تفرعاتها بمقياس القدر وكتبت بقلمه.

نعم! كما ان القطرات تُخبر عن السحاب، والرشحات تدل على نبع الماء والمستندات والوثائق تشير الى وجود السجل الكبير، كذلك الثمرات والنطف والبذور والنوى والصور والاشكال الماثلة امامنا وهي في حكم رشحات القدر البديهي - اي الانتظام المادي في الاحياء - وقطرات القدر النظري - اي الانتظام المعنوي والحياتي - وبمثابة مستنداتهما ووثائقهما.. تدل بالبداهة على الكتاب المبين، وهو سجل الارادة والاوامر التكوينية، وعلى اللوح المحفوظ، الذي هو ديوان العلم الإلهي، الامام المبين.

النتيجة: ما دمنا نرى أن ذرات كل كائن حي، اثناء نموه ونشوئه ترحل الى حدود ونهايات ملتوية منثنية وتقف عندها. وتغير طريقها لتثمر في تلك النهايات حكمةً وفائدة ومصلحة. فبالبداهة ان المقدار الظاهري لذلك الشئ قد رُسم بقلم القدر.

وهكذا فان القدر البديهي المشهود يدل على ما في الحالات المعنوية ايضاً لذلك الكائن الحي من حدود منتظمة ومثمرة ونهايات مفيدة قد رسمت بقلم القدر ايضاً. فالقدرة مصدر، والقدر مِسطَر، تُسطّر القدرةُ على مسطر القدر، ذلك الكتاب للمعاني.

فما دمنا ندرك ادراكاً جازماً أن ما رُسم من حدود وثمرات ونهايات حكيمة، انما هو بقلم القدر المادي والمعنوي، فلابد أن ما يجريه الكائن الحي طوال حياته من احوال واطوار قد رسم ايضاً بقلم ذلك القدر. اذ إن تاريخ حياته يجري على وفق نظام وانتظام، مع تغييره الصور واتخاذه الاشكال. فما دام قلم القدر مهيمناً على جميع ذوي الحياة، فلاشك ان تاريخ حياة الانسان - الذي هو اكمل ثمرة من ثمرات العالم وخليفة الارض الحامل للامانة الكبرى - اكثر انقياداً لقانون القدر من اي شئ آخر.

C فان قال:

ان القدر قد كبّلنا وسلب حريتنا، الا ترى ان الايمان بالقدر يورث ثقلاً على القلب ويولد ضيقاً في الروح، وهما المشتاقان الى الانبساط والجولان؟

والجواب: كلا. حاشَ للّه! فكما ان القدر لا يورث ضيقاً، فانه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسروراً ونوراً يحقق الأمن والامان والروح والريحان؛ لأن الانسان إن لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان الاّ ان قدرته وارادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم الايمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.

بينما الايمان بالقدر يحمل الانسان على أن يضع جميع تلك الاثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة تامة، اذ ينفتح امام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما بحرية تامة. بيد أن هذا الايمان يسلب من النفس الامارة بالسوء حريتها الجزئية ويكسر فرعونيتها ويحطم ربوبيتها ويحدّ من حركاتها السائبة.

ألا ان الايمان بالقدر لذيذ ما بعده لذة، وسعادة ما بعدها سعادة. وحيث لا نستطيع تعريف تلك اللذة والسعادة، نشير اليهما بالمثال الآتي:

رجلان يسافران معاً الى عاصمة سلطان عظيم، ويدخلان الى قصر السلطان العامر بالعجائب والغرائب. احدهما لا يعرف السلطان ويريد ان يسكن في القصر خلسة ويمضي حياته بغصب الاموال، فيعمل في حديقة القصر. ولكن ادارة تلك الحديقة وتدبيرها وتنظيم وارداتها وتشغيل مكائنها واعطاء ارزاق حيواناتها الغريبة وامثالها من امورها المرهقة دفعته الى الاضطراب الدائم والقلق المستمر، حتى اصبحت تلك الحديقة الزاهية الشبيهة بالجنة جحيماً لا يطاق. اذ يتألم لكل شئ يعجز عن ادارته، فيقضي وقته بالآهات والحسرات. واخيراً يُلقى به في السجن عقاباً وتأديباً له لسوء تصرفه وادبه.

اما الشخص الثاني فانه يعرف السلطان، ويعدّ نفسه ضيفاً عليه، ويعتقد ان جميع الاعمال في القصر والحديقة تدار بسهولة تامة .. بنظام وقانون وعلى وفق برنامج ومخطط، فيلقى الصعوبات والتــكاليـف الى قانون السلــطان، مســتفيداً بانــشــراح تام وصفاء كامـل من متــع تلــك الحديــقة الـزاهــرة كــالجـنــة، ويــرى كــل شـــئ جميلاً حقاً، استناداً الى عطف السلطان ورحمته، واعتماداً على جمال قوانينه الادارية.. فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة.

فافهم من هذا سر (من آمن بالقدر أمن من الكدر)







المبحث الرابع

اذا قلت: لقد اُثبت في المبحث الاول ان كل ما للقدر جميل وخير، بل حتى الشر الآتي منه خير. والقبح الوارد منه جميل . بينما المصائب والبلايا التي تنزل في دار الدنيا هذه تجرح هذا الحكم وتقدح بهذا الاثبات.

الجواب: يا نفسي ويا صاحبي!

يا من تتألمان كثيراً لشدة ما تحملان من شفقة ورأفة. اعلما ان الوجود خير محض والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل الى الوجود، وكون العدم اساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص.

ولما كان العدم شراً محضاً، فالحالات التي تنجر الى العدم او يُشم منها العدم تتضمن الشر ايضاً، لذا فالحياة التي هي اسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن احوال مختلفة، وتتصفى بدخولها اوضاعاً متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة، وتبين نقوش اسماء واهب الحياة بياناً لطيفاً وجميلاً بتحولها في اطوار متنوعة.

وبناءً على هذه الحقيقة تعرض حالات على الاحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات انوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، واذا بحياتهم تتطهر وتتصفى، ذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والاحوال. حتى ان اعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة.

حاصل الكلام : لما كانت الحياة تبين نقوش الاسماء الحسنى، فكل ما ينزل بالحياة اذن جميل وحسن.

فمثلاً: أن صانعاً ثرياً ماهراً يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له في ظرف ساعة بدور النموذج (موديل) لأجل اظهار آثار صنعته الجميلة وابراز مدى ثرواته القيّمة فيُلبسه ما نسجه من حلة قشيبة في غاية الجمال والابداع،و يجرى عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لإظهار خوارق صنائعه وبدائع مهاراته، فيقصّ ويبدّل ويطوّل ويقصر، وهكذا...

تُرى أيحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: ((انك تتعبني وترهقني بطلبك منّي الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه بقصّك وتقصيرك هذا القميص الذي يجمّلني ويزينني؟ ترى أيقدر ان يقول له: لقد ظلمت وما انصفت؟!)).

وكذلك الأمر في الصانع الجليل الفاطر الجميل (ولله المثل الاعلى) اذ يبدّل قميص الوجود الذي ألبسه ذوي الحياة، ويقلبه في حالات كثيرة، ذلك القيمص المرصع باللطائف والحواس كالعين والاذن والعقل والقلب وامثالها، يبدّله ويقلّبه اظهاراً لنقوش اسمائه الحسنى.

ففي الاوضاع التي تتسم بالآلام والمصائب انوار جمال لطيف تشف عن اشعة رحمة ضمن لمعات الحكمة الإلهية، اظهاراً لأحكام بعض الاسماء الحسنى.



الخاتمة

[ هذه فقرات خمس اسكتت النفس الامارة بالسوء لسعيد القديم، تلك النفس الجاهلة المتفاخرة المغرورة المرائية المعجبة بنفسها]

C الفقرة الاولى:

ما دامت الاشياء موجودة ومتقنة الصنع، فلابد ان صانعاً ماهراً قد صنعها. فلقد اثبتنا في الكلمة الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً انه:

ان لم تُسند كل الاشياء الى الواحد الأحد، يتعسر كل شئ كتعسر الاشياء كلها. وإن اُسند كل شئ الى الواحد الأحد، تسهل الاشياء كلها كسهولة شئ واحد.

ولما كان الذي خلق الارض والسموات هو الواحد الأحد، فلابد ان ذلك البديع الحكيم لا يعطى ثمرات الارض والسموات ونتائجهما وغاياتهما - وهم ذوو الحياة - الى غيره فيفسد الامور. ولا يمكن ان يسلّمها الى ايدي الآخرين فيعبث بجميع اعماله الحكيمة. ولا يمكن ان يبيدها.. ولا يسلّم ايضاً شكرها وعباداتها الى غيره.

C الفقرة الثانية:

يا نفسي المغرورة! انكِ تشبهين ساق العنب، لا تغتري ولا تفتخري، فتلك الساق لم تعلق العناقيد على نفسها، بل علّقها عليها غيرها.

C الفقرة الثالثة:

يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلة: انني خدمت الدين. فان الحديث الشريف صريح بـ ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر(1) فعليك ان تعدّى نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لانك غير مزكاة.

واعلمي ان خدمتك للدين وعباداتك ما هي الا شكر ما انعم الله عليك، وهي اداء لوظيفة الفطرة وفريضة الخلق ونتيجة الصنعة الإلهية.. اعلمي هذا وانقذي نفسك من العجب والرياء.

C الفقرة الرابعة:

ان كنت ترومين الحصول على علم الحقيقة، والحكمة الحقة، فاظفري بمعرفة الله، اذ حقائق الموجودات كلها، انما هي اشعة اسم الله الحق، ومظاهر اسمائه الحسنى، وتجليات صفاته الجليلة. واعلمي ان حقيقة كل شئ مادياً كان أو معنوياً وجوهرياً أو عرضياً، وحقيقة الانسان نفسه انما تستند الى نور من انوار اسمائه تعالى وترتكز على حقيقته. والاّ فهي صورة تافهة لا حقيقة لها. ولقد ذكرنا في ختام الكلمة العشرين شيئاً من هذا البحث.

يا نفسي!

ان كنت مشتاقة الى هذه الدنيا، وتفرين من الموت، فاعلمي يقيناً ان ما تظنينه حياة، ما هو الاّ الدقيقة التي انت فيها، فما قبل تلك الدقيقة من زمان وما فيه من اشياء دنيوية كله ميت. وما بعد تلك الدقيقة من زمان وما فيه كله عدم، لا شئ.

بمعنى ان ما تفتخرين به وتغترين به من حياة فانية ليس الاّ دقيقة واحدة، حتى ان قسماً من اهل التدقيق قالوا: ان الحياة عاشرة عشر من الدقيقة، بل آنٌّ سيّال.. من هنا حَكَم قسم من اهل الولاية والصلاح بعدمية الدنيا من حيث انها دنيا.

فما دام الامر هكذا فدعي الحياة المادية النفسية واصعدي الى درجات حياة القلب والروح والسر. وانظري ما اوسع دائرة حياتها، فالماضي والمستقبل - الميتان بالنسبة لك - حيّان بالنسبة لها وموجودان.

فيا نفسي:

ما دام الامر هكذا، ابكي كما يبكي قلبي واستغيثي وقولي:

أنا فانٍ، من كان فانياً لا اريد

انا عاجز، من كان عاجزاً لا اريد..

سلمت روحي للرحمن، سواه لا اريد..

بل اريد، ولكن حبيباً باقياً اريد..

انا ذرة..

ولكن شمساً سرمداً اريد.

انا لا شئ ومن غير شئ، ولكن الموجودات كلّها اريد.

C الفقرة الخامسة:

هذه الفقرة خطرت باللغة العربية وكتبت كما وردت. وهي اشارة الى مرتبة من المراتب الثلاث والثلاثين في ذكر ((الله اكبر)).

الله اكبر؛ اذ هو القدير العليم الحكيم الكريم الرحيم الجميل النقاش الازلي الذي ما حقيقة هذه الكائنات كلاً وجزءاً وصحائف وطبقاتٍ وما حقائق هذه الموجودات كلياً وجزئياً ووجوداً وبقاءً إلا:

خطوط قلم قـضائه وقدره وتنظيمه وتقديره بعلمٍ وحكمة.ٍ

ونقوش بركار علمه وحكمته وتصويره وتدبيره بصنع وعناية.

وتزيينات يد بـيـضاء صنعه وعنايته وتزيينه وتنويره بلطف وكرمٍِ.

وأزاهير لطائف لطفه وكرمه وتودده وتعرّفه برحمة ونعمة.

وثمرات فياض رحمته ونعمته وترحمه وتحننه بجمال وكمال.

ولمعات وتجليات جماله وكماله بشهادات تفانية المرايا وسيالية المظاهر مع بقاء الجمال المجرد السرمدي، الدائم التجلي والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور، ودائم الانعام على مر الانام والايام والاعوام.

نعم فالاثر المكمّل يدل ذا عقل على الفعل المكمّل ثم الفعل المكّمل يدل ذا فهم على الاسم المكمل ثم الاسم المكمّل يدل بالبداهة على الوصف المكمّل ثم الوصف المكمل يدل بالضرورة على الشأن المكمّل ثم الشأن المكمل يدل باليقين على كمال الذات بما يليق بالذات وهو الحق اليقين.

نعم تفاني المرآة، زوال الموجودات، مع التجلي الدائم مع الفيض الملازم.. من اظهر الظواهر ان الجمال الظاهر، ليس ملك المظاهر.. من افصح تبيان.. من اوضح برهان للجمال المجرد للاحسان المجدد للواجب الوجود.. للباقي الودود..

اللّهم صل على سيّدنا محمّد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله

وعلى آله وصحبه وسلم.

ذيل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم - بالرغم من فهمي القاصر - طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله (الرحمن).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله (الرحيم).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله (الحكيم).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولا سيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

] فلا تُزكّوا انفُسَكم[ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم[ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

] ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِك[ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

] كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه[ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة ] فلا تزكوا انفسكم[ وهي: عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما اودعه الله فيه من اجهزة لحمده سبحانه وتقديسه الى نفسه، فيصيبه وصف الآية الكريمة: ] من اتّخذ الهَه هَواه[ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: ] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم[ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.



والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: ] ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك[ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماً منه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هذه المرتبة هي في سر هذه الآية الكريمة: ] قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها[ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: ] كُلُّ شَيٍء هالكٌ الا وجْهَه[ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة: ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في (الكلمات الست والعشرين) السابقة من كتاب (الكلمات) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى (القدير) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل (وحدة الوجود) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: (لا موجود الا هو) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل (وحدة الشهود) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: (لا مشهود الا هو) للوصول الى الاطمئنان القلبي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمى من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #40
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السادسة والعشرون

رسالة القدر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واِنْ مِنْ شيءٍ الاّ عندنا خزائنُهُ وما نُنَزّله اِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلومٍ[ (الحجر:21)

] وكلّ شيءٍ اَْحْصَيناه في إمامٍ مُبينٍ[ (يس:12)

[ القدر الإلهي والجزء الاختياري مسألتان مهمتان. نحاول حلّ بعض اسرارهما في اربعة مباحث تخص القدر]



المبحث الاول

ان القدر والجزء الاختياري جزءان من ايمان حالي ووجداني، يبيّن نهاية حدود الايمان والاسلام، وليسا مباحث علمية ونظرية.

اي: ان المؤمن يعطي للهكل شئ، ويحيل اليه كل أمر، وما يزال هكذا حتى يحيل فعله ونفسه اليه.ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف والمسؤولية يبرز امامه الجزء الاختياري قائلاً له: ((انت مسؤول، أنت مكلّف))!

ثم انه لكي لا يغتر بما صدر عنه من حسنات وفضائل، يواجهه القدر، قائلاً له: ((اعرف حدّك، فلست انت الفاعل)).

اجل! ان القدر والجزء الاختياري هما في اعلى مراتب الايمان والاسلام قد دخلا ضمن المسائل الايمانية، لانهما ينقذان النفس الانسانية.. فالقدر ينقذها من الغرور، والجزء الاختياري ينجيها من الشعور بعدم المسؤولية. وليسا من المسائل العلمية والنظرية التي تفضي الى ما يناقض سر القدر وحكمة الجزء الاختياري كلياً بالتشبث بالقدر للتبرئة من مسؤولية السيئات التي اقترفتها النفوس الامارة بالسوء والافتخار بالفضائل التي اُنعمت عليها والاغترار بها واسنادها الى الجزء الاختياري.

اجل! ان العوام الذين لم يبلغوا مرتبة ادراك سر القدر لهم مواضع لاستعماله، ولكن هذه المواضع تنحصر في الماضيات من الامور وبخصوص المصائب والبلايا والذي هو علاج اليأس والحزن، وليس في امور المعاصي أو في المقبلات من الايام، والذي ينتفي كونه مساعداً على اقتراف الذنوب والتهاون في التكاليف.

بمعنى ان مسألة القدر ليست للفرار من التكليف والمسؤولية، بل هو لإنقاذ الانسان من الفخر والغرور، ولهذا دخلت ضمن مسائل الايمان.

أما الجزء الاختياري، فقد دخل ضمن مباحث العقيدة ليكون مرجعاً للسيئات، لا ليكون مصدراً للمحاسن والفضائل التي تسوق الى الطغيان والتفرعن.

نعم! ان القرآن الكريم يبين ان الانسان مسؤول عن سيئاته مسؤولية كاملة. لأن الانسان هو الذي اراد السيئات. ولما كانت السيئات من قبيل التخريبات، لذا يستطيع الانسان ان يوقع دماراً هائلاً بسيئة واحدة، كإحراق بيت كامل بعود ثقاب، وبذلك يستحق انزال عقاب عظيم به.

أما في الحسنات، فليس له الحق في الفخر والمباهاة، لأن حصته فيها ضئيلة جداً، لأن الرحمة الإلهية هي التي ارادت الحسنات، واقتضتها. والقدرة الربانية هي التي اوجدتها، فالسؤال والجواب والسبب والداعي كلاهما من الحق سبحانه وتعالى. ولا يكون الانسان مالكاً لهذه الحسنات وصاحباً لها الاّ بالدعاء والتضرع، وبالايمان، وبالشعور بالرضى عنها. بينما الذي اراد السيئات هو النفس الانسانية، إما بالاستعداد او بالاختيار، مثلما تكتسب بعض المواد التعفن والاسوداد من ضياء الشمس الجميل اللامع، فذلك الاسوداد انما يعود الى استعداد تلك المادة، ولكن الذي يوجد تلك السيئات بقانون إلهي متضمن لمصالح كثيرة انما هو الله سبحانه ايضاً. اي أن التسبب والسؤال هما من النفس الانسانية بحيث تتحمل المسؤولية عنها. أما الخلق والايجاد الخاص به سبحانه وتعالى فهو جميل، لأن له ثمرات اخرى جميلة، ونتائج شتى جميلة، فهو خير.

ومن هذا السر يكون خلق الشر ليس شراً، وانما كسب الشر شر، اذ لا يحق لكسلان قد تأذى من المطر - المتضمن لمصالح غزيرة - ان يقول:المطر ليس رحمة.

نعم! ان في الخلق والايجاد خيراً كثيراً مع تضمنه لشر جزئي، وان ترك خير كثير لأجل شر جزئي، يحدث شراً كثيراً، لذا فان ذلك الشــر الجزئي يعدّ خيــراً وفي حكمه. فليس في الخلق الإلهي شرٌ ولا قبح، بل يعود الشر الى كسب العبد والى استعداده.

وكما ان القدر الإلهي منزّه عن القبح والظلم، من حيث النتيجة والثمرات، كذلك فهو مقدّس عن القبح والظلم من حيث العلة والسبب، لأن القدر الإلهي ينظر الى العلل الحقيقية، فيعدل. بينما الناس يبنون احكامهم على ما يشاهدونه من علل ظاهرة فيرتكبون ظلماً ضمن عدالة القدر نفسه.

فمثلاً: هب ان حاكماً قد حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة، وانت برئ منها، ولكن لك قضية قتل مستورة لا يعرفها الاّ الله.

فالقدر الإلهي قد حكم عليك بذلك السجن، وقد عدل من أجل ذلك القتل المستور عن الناس. أما الحاكم فقد ظلمك، حيث حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة وانت منها برئ.

وهكذا ففي الشئ الواحد تظهر جهتان، جهة عدالة القدر والايجاد الإلهي، وجهة ظلم البشر وكسبه. قس بقية الامور على هذا.

اي ان القدر والايجاد الإلهي منزّهان عن الشر والقبح والظلم، باعتبار المبدأ والمنتهى والاصول والفروع والعلل والنتائج.

واذا قيل:

ما دام الجزء الاختياري لا قابلية له في الايجاد، ولا يوجد في يد الانسان غير الكسب الذي هو في حكم امر اعتباري، فكيف يكون اذن شكوى القرآن المعجز البيان من هذا الانسان شكاوى عظيمة تجاه عصيانه خالق السموات والارض؛ حتى كأنه اُعطي له وضع العدو العاصي، بل يرسل سبحانه جنوده الملائكة لإمداد العبد المؤمن تجاه ذلك العاصى، بل يُمدّه خالق السموات والارض بنفسه.. فِلمَ هذه الأهمية البالغة؟

الجواب: لأن الكفر والعصيان والسيئة كلها تخريب وعدم، ويمكن ان تترتب تخريبات هائلة وعدمات غير محدودة على امرٍ اعتباري وعدمي واحد. اذ كما ان عدم ايفاء ملاح سفينة ضخمة بوظيفته يغرق السفينة، ويفسد نتائج اعمال جميع العاملين فيها، لترتب جميع تلك التخريبات الجسيمة على عمل عدمٍ واحد، كذلك الكفر والمعصية، لكونهما نوعاً من العدم والتخريب، فيمكن ان يحركهما الجزء الاختياري بأمر اعتباري، فيسببان نتائج مريعة. لأن الكفر وان كان سيئة واحدة؛ الاّ انه تحقير لجميع الكائنات بوصمها بالتفاهة والعبثية، وتكذيب لجميع الموجودات الدالة على الوحدانية، وتزييف لجميع تجليات الاسماء الحسنى. فان تهديده سبحانه وتعالى وشكواه باسم الكائنات قاطبة، والموجودات كافة والاسماء الإلهية الحسنى؛ كلها من الكافر شكاوى عنيفة وتهديدات مريعة هو عين الحكمة وان تعذيبه بعذاب خالد هو عين العدالة.

وحيث ان الانسان لدى انحيازه الى جانب التخريب بالكفر والعصيان، يسبب دماراً رهيباً بعمل جزئي، فان اهل الايمان محتاجون اذن، تجاه هؤلاء المخربين، الى عناية إلهية عظيمة، لأنه اذا تعهّد عشرة من الرجال الأقوياء بالحفاظ على بيت وتعميره، فان طفلاً شريراً في محاولته احراق البيت، يُلجئ اولئك الرجال الى الذهاب الى وليّه بل التوسل الى السلطان.

لذا فالمؤمنون محتاجون اشد الحاجة الى عنايته سبحانه وتعالى للصمود تجاه هؤلاء العصاة الفاجرين.

نحصل مما سبق: ان الذي يتحدث عن القدر والجزء الاختياري ان كان ذا ايمان كامل، مطمئن القلب، فانه يفوّض امر الكائنات كلها، ونفسه كذلك، الى الله سبحانه وتعالى، ويعتقد بان الامور تجري تحت تصرفه سبحانه وتدبيره. فهذا الشخص يحق له الكلام في القدر والجزء الاختياري لأنه يعرف أن نفسه وكل شئ، منه سبحانه وتعالى. فيتحمل المسؤولية، مستنداً الى الجزء الاختياري الذي يعتبره مرجعاً للسيئات، فيقدّس ربه وينزّهه، ويظل في دائرة العبودية ويرضخ للتكليف الإلهي ويأخذه على عاتقه. وينظر الى القدر في الحسنات والفضائل الصادرة عنه، لئلا يأخذه الغرور، فيشكر ربه بدل الفخر، ويرى القدر في المصائب التي تنزل به فيصبر.

ولكن ان كان الذي يتحدث في القدر الإلهي والجزء الاختياري من أهل الغفلة، فلا يحق له الخوض فيهما، لأن نفسه الامارة بالسوء - بدافع من الغفلة أو الضلالة - تحيل الكائنات الى الاسباب، فتجعل ما لله اليها، وترى نفسها مالكة لنفسها، وترجع افعالها الى نفسها ويسنـدها الى الاســباب، بينما تحمّـل القــدر المســؤولية والتقصيرات. وحينئذٍ يكون الخوض في القدر والجزء الاختياري باطلاً لا اساس له - بهذا المفهوم - ولا يعنى سوى دسيسة نفسية تحاول التملص من المسؤولية، مما ينافي حكمة القدر وسر الجزء الاختياري.



المبحث الثاني

هذا المبحث بحث علمي دقيق خاص للعلماء(1).

C اذا قلت: كيف يمكن التوفيق بين القدر والجزء الاختياري؟

الجواب: بسبعة وجوه:

الاول: ان العادل الحكيم الذي تشهد لحكمته وعدالته الكائنات كلها، بلسان الانتظام والميزان، قد اعطى للانسان جزءاً اختيارياً مجهول الماهية، ليكون مدار ثواب وعقاب. فكما ان للحكيم العادل حكَماً كثيرة خفية عنا، كذلك كيفية التوفيق بين القدر والجزء الاختياري خافية علينا. ولكن عدم علمنا بكيفية التوفيق لا يدل على عدم وجوده.

الثاني: ان كل انسان يشعر بالضرورة ان له ارادة واختياراً في نفسه، فيعرف وجود ذلك الاختيار وجداناً. وان العلم بماهية الموجودات شئ والعلم بوجودها شئ آخر. فكثير من الاشياء وجودها بديهي لدينا الاّ أن ماهيتها مجهولة بالنسبة الينا. فهذا الجزء الاختياري يمكن ان يدخل ضمن تلك السلسلة، فلا ينحصر كل شئ في نطاق معلوماتنا، وان عدم علمنا لا يدل على عدمه.

الثالث: ان الجزء الاختياري لا ينافي القدر، بل القدر يؤيد الجزء الاختياري؛ لأن القدر نوع من العلم الإلهي، وقد تعلق العلم الإلهي باختيارنا، ولهذا يؤيد الاختيار ولا يبطله.

الرابع: القدر نوع من العلم، والعلم تابع للمعلوم، اي على اية كيفية يكون المعلوم يحيط به العلم ويتعلق به، فلا يكون المعلوم تابعاً للعلم، اي ان دساتير العلم ليست اساساً لإدارة المعلوم من حيث الوجود الخارجي، لأن ذاتَ المعلوم ووجوده الخارجي ينظر الى الارادة ويستند الى القدرة.

ثم ان الازل ليس طرفاً لسلسلة الماضي كي يُتخذ اساساً في وجود الاشياء ويُتصور اضطراراً بحسبه، بل الازل يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل - كاحاطة السماء بالارض - كالمرآة الناظرة من الاعلى.

لذا ليس من الحقيقة في شئ تخيل طرفٍ ومبدأٍ في جهة الماضي للزمان الممتد في دائرة الممكنات واطلاق اسم الازل عليه، ودخول الاشياء بالترتيب في ذلك العلم الازلي، وتوهم المرء نفسه في خارجه، ومن ثم القيام بمحاكمة عقلية في ضوء ذلك.

فانظر الى هذا المثال لكشف هذا السر:

اذا وجدت في يدك مرآة، وفرضتَ المسافة التي في يمينها الماضي. والمسافة التي في يسارها المستقبل، فتلك المرآة لا تعكس الاّ ما يقابلها، وتضم الطرفين بترتيب معين، حيث لا تستوعب اغلبهما، لأن المرآة كلما كانت واطئة عكست القليل، بينما اذا رفعت الى الاعلى فان الدائرة التي تقابلها تتوسع، وهكذا بالصعود تدريجياً تستوعب المرآة المسافة في الطرفين معاً في نفسها في آن واحد.

وهكذا يرتسم في المرآة في وضعها هذا كل ما يجري من حالات في كلتا المسافتين. فلا يقال ان الحالات الجارية في احداها مقدمة على الاخرى، أو مؤخرة عنها، او توافقها، أو تخالفها.

وهكذا فالقدر الإلهي لكونه من العلم الازلي، والعلم الازلي ((في مقام رفيع يضم كل ما كان وما يكون، ويحيط به)) كما يُعبّر عنه في الحديث الشريف، لذا لا نكون نحن ولا محاكماتنا العقلية خارجَين عن هذا العلم قطعاً، حتى نتصوره مرآة تقع في مسافة الماضي.

الخامس: ان القدر يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معاً - فالارادة لا تتعلق مرة بالمسبب ثم بالسبب مرة اخرى - اي ان هذا المسبَّب سيقع بهذا السبب. لذا يجب الاّ يقال: ما دام موت الشخص الفلاني مقدّراً في الوقت الفلاني، فما ذنب من يرميه ببندقية بارادته الجزئية؛ اذ لو لم يرمه لمات ايضا؟

سؤال: لِمَ يجب الاّ يقال؟

الجواب: لأن القدر قد عّين موته ببندقية ذاك، فاذا فرضت عدم رميه، عندئذٍ تفرض عدم تعلق القدر. فبِمَ تحكم اذن على موته. الاّ اذا تركت مسلك اهل السنة والجماعة ودخلت ضمن الفرق الضالة التي تتصور قدراً للسبب وقدراً للمسبب، كما هو عند الجبرية. أو تنكر القدر كالمعتزلة. أما نحن اهل الحق فنقول: لو لم يرمه فان موته مجهول عندنا. أما الجبرية فيقولون: لو لم يرمه لمات ايضاً. بينما المعتزلة يقولون: لو لم يرمه لا يموت.

السادس (1): ان الميلان الذي هو اس اساس الجزء الاختياري، أمر اعتباري عند الماتريدية، فيمكن أن يكون بيد العبد، ولكن الميلان أمر موجود لدى الاشعريين، فليس هو بيد العبد، الاّ ان التصرف عندهم أمر اعتباري بيد العبد. ولهذا فذلك الميلان وذلك التصرف فيه، امران نسبيان، ليس لهما وجود خارجي محقق. أما الامر الاعتباري فلا يحتاج ثبوته ووجوده الى علة تامة والتي تستلزم الضرورة الموجبة لرفع الاختيار، بل اذا اتخذت علة ذلك الامر الاعتباري وضعاً بدرجة من الرجحان، فانه يمكن ان يثبت،ويمكن ان يتركه في تلك اللحظة، فيقول له القرآن آنئذٍ: هذا شر! لا تفعل.

نعم! لو كان العبد خالقاً لأفعاله وقادراً على الايجاد، لَرُفع الاختيار؛ لأن القاعدة المقررة في علم الاصول والحكمة أنه ((ما لم يجب لم يوجد)) اي لا ياتي الى الوجود شئ مالم يكن وجوده واجباً، اي لابد من وجود علة تامة ثم يوجد. أما العلة التامة فيقتضي المعلول بالضرورة وبالوجوب. وعندها لا اختيار.

C اذا قلت:

الترجيح بلا مرجّحٍ محال، بينما كسب الانسان الذي تسمونه امراً اعتبارياً، بالعمل احياناً وبعدمه اخرى، يلزم الترجيح بلا مرجّح ان لم يوجد مرجّح موجِب، وهذا يهدم اعظم اصل من اصول الكلام!

الجواب: ان الترجّح بلا مرجّح محال - اي الرجحان بلا سبب ولا مرجّح - دون الترجيح بلا مرجّح الذي يجوز وهو واقع، فالارادة الإلهية صفة من صفاته تعالى وشأنها القيام بمثل هذا العمل (اي اختياره تعالى هو المرجّح).

C اذا قلت:

ما دام الذي خلق القتل هو الله سبحانه وتعالى، فلماذا يقال لي: القاتل؟

الجواب: ان اسم الفاعل مشتق من المصدر الذي هو أمر نسبي، حسب قواعد علم الصرف ولا يشتق من الحاصل بالمصدر الذي هو أمر ثابت. فالمصدر هو كسبنا، ونتحمل عنوان القاتل نحن، والحاصل بالمصدر مخلوق الله سبحانه، وما يشم منه المسؤولية لا يشتق من الحاصل بالمصدر.

السابع: ان ارادة الانسان الجزئية وجزأه الاختياري، ضعيف وأمر اعتباري. الاّ ان الله سبحانه وهو الحكيم المطلق قد جعل تلك الارادة الجزئية الضعيفة شرطاً عادياً لارادته الكلية. اي كأنه يقول معنىً: يا عبدي ايّ طريق تختاره للسلوك، فانا اسوقك اليه. ولهذا فالمسؤولية تقع عليك، فمثلاً (ولا مشاحة في الامثال) اذا أخذت طفلاً عاجزاً ضعيفاً على عاتقك وخيّرته قائلاً: الى اين تريد الذهاب، فسآخذك اليه. وطلب الطفل الصعود على جبلٍ عالٍ، وانت اخذته الى هناك، ولكن الطفل تمرض او سقط. فلا شك ستقول له: انت الذي طلبت! وتعاتبه. وتزيده لطمة تأديب. وهكذا.. ولله المثل الاعلى. فهو سبحانه أحكم الحاكمين جعل ارادة عبده الذي هو في منتهى الضعف شرطاً عادياً لارادته الكلية.

حاصل الكلام:

ايها الانسان! ان لك ارادة في منتهى الضعف، الاّ ان يدها طويلة في السيئات والتخريبات وقاصرة في الحسنات، هذه الارادة هي التي تسمى بالجزء الاختياري. فسلّم لإحدى يدى تلك الارادة الدعاء، كي تمتد وتطال الى الجنة التي هي ثمرة من ثمار سلسلة الحسنات وتبلغ السعادة الابدية التي هي زهرة من ازاهيرها.. وسلّم لليد الاخرى الاستغفار كي تقصر يدها عن السيئات، ولا تبلغ ثمرة الشجرة الملعونة زقوم جهنم. اي أن الدعاء والتوكل يمدّان ميلان الخير بقوة عظيمة، كما ان الاستغفار والتوبة يكسران ميلان الشر ويحدّان من تجاوزه.



المبحث الثالث

ان الايمان بالقدر من اركان الايمان، اي ان كل شئ بتقدير الله، والدلائل القاطعة على القدر كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى. ونحن سنبين هنا مدى قوة هذا الركن الايماني وسعته باسلوب بسيط وظاهر في مقدمة.

المقدمة

ان كل شئ قبل كونه وبعد كونه مكتوب في كتاب، يصرّح بهذا القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة امثال ] ولا رطب ولا يابس الاّ في كتاب مبين[ وتصدّق هذا الحكم القرآني الكائنات قاطبة، التي هي قرآن القدرة الإلهية الكبير، بآيات النظام والميزان والانتظام والامتياز والتصوير والتزيين وامثالها من الايات التكوينية.

نعم! ان كتابات كتاب الكائنات المنظومة وموزونات اياتها تشهد على أن كل شئ مكتوب. أما الدليل على أن كل شئ مكتوب ومقدّر قبل وجوده وكونه، فهو جميع المبادىء والبذور وجميع المقادير والصور شواهد صدق. اذ ما البذور الاّ صنيديقات لطيفة ابدعها معمل (ك.ن) أودع فيها القدر فهيرس رسمه، وتبني القدرة - حسب هندسة القدر ـ معجزاتها العظيمة على تلك البذيرات، مستخدمة الذرات. بمعنى ان كل ما سيجري على الشجرة من امور مع جميع وقائعها، في حكم المكتوب في بذرتها. لأن البذور بسيطة ومتشابهة مادةً، فلا اختلاف بينها.

ثم ان المقدار المنظم لكل شئ يبين القدر بوضوح فلو دقق النظر الى كائن حي لتبين أن له شكلاً ومقداراً، كأنه قد خرج من قالب في غاية الحكمة والاتقان، بحيث أن اتخاذ ذلك المقدار والشكل والصورة، اما انه يتأتى من وجود قالب مادي خارق في منتهى الانثناءات والانحناءات.. أو أن القدرة الإلهية تفصّل تلك الصورة وذلك الشكل وتُلبسها الشجرة بقالب معنوي علمي موزون أتى من القدر.

تأمل الآن في هذه الشجرة، وهذا الحيوان، فالذرات الصم العمي الجامدة التي لا شعور لها والمتشابهة بعضها ببعض، تتحرك في نمو الاشياء، ثم تتوقف عند حدود معينة توقف عارف عالم بمظان الفوائد والثمرات. ثم تبدل مواضعها وكأنها تستهدف غاية كبرى.

اي أن الذرات تتحرك على وفق المقدار المعنوي الآتي من القدر، وحسب الامر المعنوي لذلك المقدار.

فما دامت تجليات القدر موجودة في الاشياء المادية المشهودة الى هذه الدرجة، فلابد أن أوضاع الاشياء الحاصلة والصور التي تلبسها والحركات التي تؤديها بمرور الزمان تابعة ايضاً لإنتظام القدر.

نعم! ان في البذرة تجليين للقدر.

الاول: (بديهي) يخبر ويشير الى الكتاب المبين الذي هو عنوان الارادة والاوامر التكوينية.

والآخر: تجلٍ نظري (معقول) يخبر ويرمز الى الامام المبين الذي هو عنوان الامر والعلم الإلهي.

(فالقدر البديهي) هو ما تتضمن تلك البذرة من اوضاع وكيفيات وهيئات مادية للشجرة، والتي ستشاهد فيما بعد.

و(القدر النظري) هو ما سيخلق من تلك البذرة من اوضاع واشكال وحركات وتسبيحات طوال حياة الشجرة وهي التي يُعبّر عنها بتاريخ حياة الشجرة. فتلك الاوضاع والاشكال والافعال تتبدل حيناً بعد حين الاّ ان لها مقداراً قدرياً منتظماً، كما هو الظاهر في اغصان الشجرة واوراقها.

فلئن كان للقدر تجلٍ كهذا في الاشياء الاعتيادية والبسيطة، فلابد أن هذا يفيد؛ ان الاشياء كلها قبل كونها ووجودها مكتوبة في كتاب، ويمكن ان يفهم ذلك بشئ من التدبر.

أما الدليل على أن تأريخ حياة كل شئ، بعد وجوده وكونه، مكتوب؛ فهو جميع الثمرات التي تخبر عن الكتاب المبين والامام المبين. والقوة الحافظة للانسان التي تشير الى اللوح المحفوظ وتخبر عنه، كل منها شاهد صادق، وأمارة وعلامة على ذلك.

نعم! ان كل ثمرة تُكتب في نواتها - التي هي في حكم قلبها - مقدّرات حياة الشجرة ومستقبلها ايضاً.

والقوة الحافظة للانسان - التي هي كحبة خردل في الصغر - تَكتب فيها يدُ القدرة بقلم القدر تاريخ حياة الانسان وقسماً من حوادث العالم الماضية كتابةً دقيقة، كأنها وثيقة وعهد صغير من صحيفة الاعمال اعطته تلك القدرة للانسان ووضعها في زاوية من دماغه ليتذكر بها وقت المحاسبة، وليطمئن انّ خلق هذا الهرج والمرج والفناء والزوال مرايا للبقاء، رسَمَ فيها القدير هوّيات الزائلات، والواحاً يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات.

نحصل مما سبق: ان حياة النباتات، ان كانت منقادة الى هذا الحد لنظام القدر مع انها ادنى حياة وابسطها، فان حياة الانسان التي هي في اعلى مرتبة من مراتب الحياة، لابد انها رسمت بجميع تفرعاتها بمقياس القدر وكتبت بقلمه.

نعم! كما ان القطرات تُخبر عن السحاب، والرشحات تدل على نبع الماء والمستندات والوثائق تشير الى وجود السجل الكبير، كذلك الثمرات والنطف والبذور والنوى والصور والاشكال الماثلة امامنا وهي في حكم رشحات القدر البديهي - اي الانتظام المادي في الاحياء - وقطرات القدر النظري - اي الانتظام المعنوي والحياتي - وبمثابة مستنداتهما ووثائقهما.. تدل بالبداهة على الكتاب المبين، وهو سجل الارادة والاوامر التكوينية، وعلى اللوح المحفوظ، الذي هو ديوان العلم الإلهي، الامام المبين.

النتيجة: ما دمنا نرى أن ذرات كل كائن حي، اثناء نموه ونشوئه ترحل الى حدود ونهايات ملتوية منثنية وتقف عندها. وتغير طريقها لتثمر في تلك النهايات حكمةً وفائدة ومصلحة. فبالبداهة ان المقدار الظاهري لذلك الشئ قد رُسم بقلم القدر.

وهكذا فان القدر البديهي المشهود يدل على ما في الحالات المعنوية ايضاً لذلك الكائن الحي من حدود منتظمة ومثمرة ونهايات مفيدة قد رسمت بقلم القدر ايضاً. فالقدرة مصدر، والقدر مِسطَر، تُسطّر القدرةُ على مسطر القدر، ذلك الكتاب للمعاني.

فما دمنا ندرك ادراكاً جازماً أن ما رُسم من حدود وثمرات ونهايات حكيمة، انما هو بقلم القدر المادي والمعنوي، فلابد أن ما يجريه الكائن الحي طوال حياته من احوال واطوار قد رسم ايضاً بقلم ذلك القدر. اذ إن تاريخ حياته يجري على وفق نظام وانتظام، مع تغييره الصور واتخاذه الاشكال. فما دام قلم القدر مهيمناً على جميع ذوي الحياة، فلاشك ان تاريخ حياة الانسان - الذي هو اكمل ثمرة من ثمرات العالم وخليفة الارض الحامل للامانة الكبرى - اكثر انقياداً لقانون القدر من اي شئ آخر.

C فان قال:

ان القدر قد كبّلنا وسلب حريتنا، الا ترى ان الايمان بالقدر يورث ثقلاً على القلب ويولد ضيقاً في الروح، وهما المشتاقان الى الانبساط والجولان؟

والجواب: كلا. حاشَ للّه! فكما ان القدر لا يورث ضيقاً، فانه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسروراً ونوراً يحقق الأمن والامان والروح والريحان؛ لأن الانسان إن لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان الاّ ان قدرته وارادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم الايمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.

بينما الايمان بالقدر يحمل الانسان على أن يضع جميع تلك الاثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة تامة، اذ ينفتح امام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما بحرية تامة. بيد أن هذا الايمان يسلب من النفس الامارة بالسوء حريتها الجزئية ويكسر فرعونيتها ويحطم ربوبيتها ويحدّ من حركاتها السائبة.

ألا ان الايمان بالقدر لذيذ ما بعده لذة، وسعادة ما بعدها سعادة. وحيث لا نستطيع تعريف تلك اللذة والسعادة، نشير اليهما بالمثال الآتي:

رجلان يسافران معاً الى عاصمة سلطان عظيم، ويدخلان الى قصر السلطان العامر بالعجائب والغرائب. احدهما لا يعرف السلطان ويريد ان يسكن في القصر خلسة ويمضي حياته بغصب الاموال، فيعمل في حديقة القصر. ولكن ادارة تلك الحديقة وتدبيرها وتنظيم وارداتها وتشغيل مكائنها واعطاء ارزاق حيواناتها الغريبة وامثالها من امورها المرهقة دفعته الى الاضطراب الدائم والقلق المستمر، حتى اصبحت تلك الحديقة الزاهية الشبيهة بالجنة جحيماً لا يطاق. اذ يتألم لكل شئ يعجز عن ادارته، فيقضي وقته بالآهات والحسرات. واخيراً يُلقى به في السجن عقاباً وتأديباً له لسوء تصرفه وادبه.

اما الشخص الثاني فانه يعرف السلطان، ويعدّ نفسه ضيفاً عليه، ويعتقد ان جميع الاعمال في القصر والحديقة تدار بسهولة تامة .. بنظام وقانون وعلى وفق برنامج ومخطط، فيلقى الصعوبات والتــكاليـف الى قانون السلــطان، مســتفيداً بانــشــراح تام وصفاء كامـل من متــع تلــك الحديــقة الـزاهــرة كــالجـنــة، ويــرى كــل شـــئ جميلاً حقاً، استناداً الى عطف السلطان ورحمته، واعتماداً على جمال قوانينه الادارية.. فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة.

فافهم من هذا سر (من آمن بالقدر أمن من الكدر)







المبحث الرابع

اذا قلت: لقد اُثبت في المبحث الاول ان كل ما للقدر جميل وخير، بل حتى الشر الآتي منه خير. والقبح الوارد منه جميل . بينما المصائب والبلايا التي تنزل في دار الدنيا هذه تجرح هذا الحكم وتقدح بهذا الاثبات.

الجواب: يا نفسي ويا صاحبي!

يا من تتألمان كثيراً لشدة ما تحملان من شفقة ورأفة. اعلما ان الوجود خير محض والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل الى الوجود، وكون العدم اساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص.

ولما كان العدم شراً محضاً، فالحالات التي تنجر الى العدم او يُشم منها العدم تتضمن الشر ايضاً، لذا فالحياة التي هي اسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن احوال مختلفة، وتتصفى بدخولها اوضاعاً متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة، وتبين نقوش اسماء واهب الحياة بياناً لطيفاً وجميلاً بتحولها في اطوار متنوعة.

وبناءً على هذه الحقيقة تعرض حالات على الاحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات انوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، واذا بحياتهم تتطهر وتتصفى، ذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والاحوال. حتى ان اعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة.

حاصل الكلام : لما كانت الحياة تبين نقوش الاسماء الحسنى، فكل ما ينزل بالحياة اذن جميل وحسن.

فمثلاً: أن صانعاً ثرياً ماهراً يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له في ظرف ساعة بدور النموذج (موديل) لأجل اظهار آثار صنعته الجميلة وابراز مدى ثرواته القيّمة فيُلبسه ما نسجه من حلة قشيبة في غاية الجمال والابداع،و يجرى عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لإظهار خوارق صنائعه وبدائع مهاراته، فيقصّ ويبدّل ويطوّل ويقصر، وهكذا...

تُرى أيحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: ((انك تتعبني وترهقني بطلبك منّي الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه بقصّك وتقصيرك هذا القميص الذي يجمّلني ويزينني؟ ترى أيقدر ان يقول له: لقد ظلمت وما انصفت؟!)).

وكذلك الأمر في الصانع الجليل الفاطر الجميل (ولله المثل الاعلى) اذ يبدّل قميص الوجود الذي ألبسه ذوي الحياة، ويقلبه في حالات كثيرة، ذلك القيمص المرصع باللطائف والحواس كالعين والاذن والعقل والقلب وامثالها، يبدّله ويقلّبه اظهاراً لنقوش اسمائه الحسنى.

ففي الاوضاع التي تتسم بالآلام والمصائب انوار جمال لطيف تشف عن اشعة رحمة ضمن لمعات الحكمة الإلهية، اظهاراً لأحكام بعض الاسماء الحسنى.



الخاتمة

[ هذه فقرات خمس اسكتت النفس الامارة بالسوء لسعيد القديم، تلك النفس الجاهلة المتفاخرة المغرورة المرائية المعجبة بنفسها]

C الفقرة الاولى:

ما دامت الاشياء موجودة ومتقنة الصنع، فلابد ان صانعاً ماهراً قد صنعها. فلقد اثبتنا في الكلمة الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً انه:

ان لم تُسند كل الاشياء الى الواحد الأحد، يتعسر كل شئ كتعسر الاشياء كلها. وإن اُسند كل شئ الى الواحد الأحد، تسهل الاشياء كلها كسهولة شئ واحد.

ولما كان الذي خلق الارض والسموات هو الواحد الأحد، فلابد ان ذلك البديع الحكيم لا يعطى ثمرات الارض والسموات ونتائجهما وغاياتهما - وهم ذوو الحياة - الى غيره فيفسد الامور. ولا يمكن ان يسلّمها الى ايدي الآخرين فيعبث بجميع اعماله الحكيمة. ولا يمكن ان يبيدها.. ولا يسلّم ايضاً شكرها وعباداتها الى غيره.

C الفقرة الثانية:

يا نفسي المغرورة! انكِ تشبهين ساق العنب، لا تغتري ولا تفتخري، فتلك الساق لم تعلق العناقيد على نفسها، بل علّقها عليها غيرها.

C الفقرة الثالثة:

يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلة: انني خدمت الدين. فان الحديث الشريف صريح بـ ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر(1) فعليك ان تعدّى نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لانك غير مزكاة.

واعلمي ان خدمتك للدين وعباداتك ما هي الا شكر ما انعم الله عليك، وهي اداء لوظيفة الفطرة وفريضة الخلق ونتيجة الصنعة الإلهية.. اعلمي هذا وانقذي نفسك من العجب والرياء.

C الفقرة الرابعة:

ان كنت ترومين الحصول على علم الحقيقة، والحكمة الحقة، فاظفري بمعرفة الله، اذ حقائق الموجودات كلها، انما هي اشعة اسم الله الحق، ومظاهر اسمائه الحسنى، وتجليات صفاته الجليلة. واعلمي ان حقيقة كل شئ مادياً كان أو معنوياً وجوهرياً أو عرضياً، وحقيقة الانسان نفسه انما تستند الى نور من انوار اسمائه تعالى وترتكز على حقيقته. والاّ فهي صورة تافهة لا حقيقة لها. ولقد ذكرنا في ختام الكلمة العشرين شيئاً من هذا البحث.

يا نفسي!

ان كنت مشتاقة الى هذه الدنيا، وتفرين من الموت، فاعلمي يقيناً ان ما تظنينه حياة، ما هو الاّ الدقيقة التي انت فيها، فما قبل تلك الدقيقة من زمان وما فيه من اشياء دنيوية كله ميت. وما بعد تلك الدقيقة من زمان وما فيه كله عدم، لا شئ.

بمعنى ان ما تفتخرين به وتغترين به من حياة فانية ليس الاّ دقيقة واحدة، حتى ان قسماً من اهل التدقيق قالوا: ان الحياة عاشرة عشر من الدقيقة، بل آنٌّ سيّال.. من هنا حَكَم قسم من اهل الولاية والصلاح بعدمية الدنيا من حيث انها دنيا.

فما دام الامر هكذا فدعي الحياة المادية النفسية واصعدي الى درجات حياة القلب والروح والسر. وانظري ما اوسع دائرة حياتها، فالماضي والمستقبل - الميتان بالنسبة لك - حيّان بالنسبة لها وموجودان.

فيا نفسي:

ما دام الامر هكذا، ابكي كما يبكي قلبي واستغيثي وقولي:

أنا فانٍ، من كان فانياً لا اريد

انا عاجز، من كان عاجزاً لا اريد..

سلمت روحي للرحمن، سواه لا اريد..

بل اريد، ولكن حبيباً باقياً اريد..

انا ذرة..

ولكن شمساً سرمداً اريد.

انا لا شئ ومن غير شئ، ولكن الموجودات كلّها اريد.

C الفقرة الخامسة:

هذه الفقرة خطرت باللغة العربية وكتبت كما وردت. وهي اشارة الى مرتبة من المراتب الثلاث والثلاثين في ذكر ((الله اكبر)).

الله اكبر؛ اذ هو القدير العليم الحكيم الكريم الرحيم الجميل النقاش الازلي الذي ما حقيقة هذه الكائنات كلاً وجزءاً وصحائف وطبقاتٍ وما حقائق هذه الموجودات كلياً وجزئياً ووجوداً وبقاءً إلا:

خطوط قلم قـضائه وقدره وتنظيمه وتقديره بعلمٍ وحكمة.ٍ

ونقوش بركار علمه وحكمته وتصويره وتدبيره بصنع وعناية.

وتزيينات يد بـيـضاء صنعه وعنايته وتزيينه وتنويره بلطف وكرمٍِ.

وأزاهير لطائف لطفه وكرمه وتودده وتعرّفه برحمة ونعمة.

وثمرات فياض رحمته ونعمته وترحمه وتحننه بجمال وكمال.

ولمعات وتجليات جماله وكماله بشهادات تفانية المرايا وسيالية المظاهر مع بقاء الجمال المجرد السرمدي، الدائم التجلي والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور، ودائم الانعام على مر الانام والايام والاعوام.

نعم فالاثر المكمّل يدل ذا عقل على الفعل المكمّل ثم الفعل المكّمل يدل ذا فهم على الاسم المكمل ثم الاسم المكمّل يدل بالبداهة على الوصف المكمّل ثم الوصف المكمل يدل بالضرورة على الشأن المكمّل ثم الشأن المكمل يدل باليقين على كمال الذات بما يليق بالذات وهو الحق اليقين.

نعم تفاني المرآة، زوال الموجودات، مع التجلي الدائم مع الفيض الملازم.. من اظهر الظواهر ان الجمال الظاهر، ليس ملك المظاهر.. من افصح تبيان.. من اوضح برهان للجمال المجرد للاحسان المجدد للواجب الوجود.. للباقي الودود..

اللّهم صل على سيّدنا محمّد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله

وعلى آله وصحبه وسلم.

ذيل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم - بالرغم من فهمي القاصر - طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله (الرحمن).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله (الرحيم).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله (الحكيم).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولا سيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

] فلا تُزكّوا انفُسَكم[ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم[ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

] ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِك[ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

] كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه[ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة ] فلا تزكوا انفسكم[ وهي: عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما اودعه الله فيه من اجهزة لحمده سبحانه وتقديسه الى نفسه، فيصيبه وصف الآية الكريمة: ] من اتّخذ الهَه هَواه[ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: ] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم[ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.



والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: ] ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك[ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماً منه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هذه المرتبة هي في سر هذه الآية الكريمة: ] قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها[ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: ] كُلُّ شَيٍء هالكٌ الا وجْهَه[ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة: ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في (الكلمات الست والعشرين) السابقة من كتاب (الكلمات) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى (القدير) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل (وحدة الوجود) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: (لا موجود الا هو) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل (وحدة الشهود) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: (لا مشهود الا هو) للوصول الى الاطمئنان القلبي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمى من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عاتب نفسك بهذه الكلمات هبة الله المواضيع الاسلامية 5 09-01-2010 11:05 PM
عاتب نفسك بهذه الكلمات عبدالرحمن الحسيني السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 1 06-21-2010 01:11 PM
كلمات فوق الكلمات عبدالقادر حمود القسم العام 8 01-09-2009 01:58 PM
كلمات ليست كا الكلمات بنت الاسلام القسم العام 11 10-27-2008 10:48 AM


الساعة الآن 07:32 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir