أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعملت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت           
العودة   منتديات البوحسن > الشريعة الغراء > المواضيع الاسلامية

إضافة رد
قديم 12-15-2014
  #1
عبد القادر الأسود
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبد القادر الأسود
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 216
معدل تقييم المستوى: 15
عبد القادر الأسود is on a distinguished road
افتراضي فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 187

َسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
(187)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} اسْتِئْنافٌ ابتدائي مَسوقٌ لِبيانِ بَعْضِ أَنْواعِ ضَلالهم وطُغيانهم. ومحاولاتِ تَعْجيزِهِمُ النبيَّ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ بِتَعْيينِ وَقْت السَّاعَةِ. والضَميرُ في "يَسْأَلونَكَ" يَعودُ إلى {الذينَ كذَّبوا بآياتِنا}.
ومُناسَبَةُ هذا الاسْتِئْنافِ هي التَعَرُّضُ لِتَوَقُّعِ اقْتِرابِ أَجَلِهم في قولِه: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} الآية: 185السابقة، سواءً أَفُسِّرَ الأَجَلُ بأجلِ اسْتِئْصالِ أَهْلِ الشِرْكِ مِنَ العَرَبِ في الدنيا، أَمْ فُسِّرَ بأَجل الناسِ جميعاً وهوَ قيامُ السّاعَةِ، فإنَّ للكلام على الساعة مُناسَبَةٌ لِكِلا الأَجَلين.
والساعةُ في الأَصْلِ اسْمٌ لمَدارِ قليلٍ مِنَ الزَمانِ غيرِ مُعَيَّنٍ، وتُطْلَقُ في عُرفِ الشرعِ على يومِ القيامَةِ وهُوَ المُرادُ بالسؤالِ هُنا. وأُطْلِقَ على يومِ القيامةِ "ساعة" إمَّا لِوُقوعِهِ بَغْتَةً، أَوْ لِسُرْعَةِ ما فيهِ مِنَ الحِسابِ، أَوْ لأنَّهُ على طُولِهِ قَدْرٌ يَسيرٌ عِنْدَ اللهِ تَعالى.
والمسئول هو رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليْه وسَلَّمَ، والسائلُ إمَّا اليهودُ الذينَ سَأَلوهُ عَنِ السّاعَةِ، وعَنِ الرُّوحِ، وعَنْ ذِي القَرْنَينِ، فكانَ الجوابُ مِنْهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ مُطابِقاً لما عِنْدَهم في التوارة لأنَّهم ظَنّوا أَنَّ الكَلامَ الذي يَقولُهُ محمَّدٌ إنَّما يَأْتي مِنْهُ جُزافاً بِدونِ ضابِطٍ وليسَ مِنْ رَبٍّ يُنْزلُه. فلَمّا أَجابَ بما عِنْدَهم في التوراةِ، عَلِمُوا أَنَّهُ لا يَقُولُ الكلامَ مِنْ عِنْدِهِ، ولِذلكَ سَأَلوهُ أَيْضاً عَنْ أَهْلِ الكَهْفِ وما حَدَثَ لهم، فاتَّفَقوا مَعَهُ على كلِّ شيءٍ حَدَثَ لأَهْلِ الكَهْفِ إلاَّ على الزَمَنِ فنَزَلَ القُرآنُ يُحَدِّدُ هذا الزمنَ بقولِهِ سُبحانَهُ: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} سورة الكهف، الآية: 25. فقال اليهود: الثلاثمئة سَنَةٍ نَعْرِفُها، أَمَّا التَسْعَةُ فلا ، وما عَلِمُوا أَنَّ الحَقَّ ـ سبحانَهُ ـ يُؤَرِّخُ لِتاريخِ الكَوْنِ بأَدَّقِ حِساباتِ الكَوْنِ، وهو القائلُ: {إِنَّ عِدَّةَ الشهورِ عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ} الآية: 36.
يقول الشيخ الشعراوي في تفسيره: إذاً التوقيتاتُ كلُّها حَسَبَ التوقيتِ العَرَبيِّ، ونَعلَمُ أَنَّ الذينَ يُريدون أَنْ يُحْكِموا التاريخَ حُكْماً دَقيقاً فهم يُؤرِّخونَ لَهُ بالهِلالِ، والمِثالُ أَنَّ كُلَّ عَالَمِ البِحارِ تَكونُ الحِساباتُ المائيَّةُ فيها كُلُّها بالهِلالِ، لأَنَّهُ أَدَقُّ، وأيضاً فالهِلالُ آيةٌ تُعْلِمُنا مَتى يَبْدَأُ الشَهْرُ، ولا نَعْرِفُ مِنَ الشَمْسِ مَتى يَبْدَأُ الشَهْرُ؛ لأنَّ الشَمْسَ دَلالَةٌ يَوْمِيَّةٌ تَدُلُّ عَلى النَهارِ واللَّيْلِ، بَيْنَما القَمَرُ دَلالةٌ شَهْرِيَّةٌ، ومجْمُوعُ الاثنيْ عَشَرَ هُوَ الدَلالَةُ السَنَوِيَّةُ. لكنَّهم لم يَفْطَنُوا إلى هَذهِ، وأَخَذُوا على الثلاثمائةِ سَنَةٍ بالحِسابِ الشَمْسِيِّ. وأَضافَ الحَقُّ: {وازدادوا تِسْعاً} لأنَّكَ إنْ حَسَبْتَ الثَلاثمئةِ سَنَة الشَمْسِيَّةَ بِحِسابِ السَنَةِ القَمَرِيَّةِ تَزدادُ تِسْعَ سِنين.
والسُؤالُ للتعلُّم ظاهرةٌ صِحِّيَّةٌ لذلك نَجِدُ في القرآنِ الكريم أَسْئلةً كثيرةً مُوَجَّهَةً للرَسولِ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ من أُمَّتِهِ، وقد حكاها القُرآنُ بِصُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فقد وردَ السُؤالُ بِفِعْلٍ مُضارِعٍ كقولِه: {ويَسْأَلُونَكَ} خمسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، لأنَّ المُضارِعَ يَكُونُ للحَالِ وللاسْتِقْبالِ، بينَما للماضي زمن واحدٌ هُو الماضي، لذلك فقد ورد بصورةِ فعلٍ ماضٍ مرَّةً واحدةً وهي قولُهُ: {وإذا سأَلَكَ عبادي عني فإنّي قريبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} سورة البقرة، الآية: 186.
وإذا نظرتَ إلى الخَمْسَ عَشْرَةَ آية التي جاءت بصيغة المضارع تجدُ كلَّ آيةٍ مِنْها جاءتْ لِتُبين حُكْماً كما هو واضحٌ في قولِه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} سورة البقرة الآية: 189. وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأَقربين} سورة البقرة، الآية: 215.
ويقولُ في الآية: 217 من سُورَةِ البَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمسجدِ الحرامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل}. ويقولُ أيضاً في الآية 219 منها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمرِ والميسرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. ومرَّةً أُخرى يَقولُ في ذاتِ الآيةِ السابقة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفوَ}. وفي الآيةِ التي تليها يقولُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}. ويَقولُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بعد ذلك في الآية: 222: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعْتَزلوا النِساءَ فِي المحيض}.
ويقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ في الآية: 4 من سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}. و يقول بعدَ ذلك في هذه الآية من سورة الأَعرافِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} ثمَّ يقولُ في ذات الآية: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}.
وفي سورة الأنفال يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفالُ للهِ والرسولِ} الآية: 1. ويقول في سورة الإسراءِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي}الآية: 85. ويقولُ في سورة الكهف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} الآية: 83. ويقولُ في سورة طه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} الآية: 105.
ويختم هذه الأسئلةِ بِقولِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى ربِّ منتهاها} سورة النازعات، الآيات: 42 ـ 44.
وتجدُ في هذه الآياتِ الخمسَ كلَّ جوابٍ فيها مُصدرا بِ (قُلْ) وهوَ أَمْرٌ للرَسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم بالتبليغِ عن اللهِ: قلْ كذا، قلْ كذا، وإنّما هي في الحقيقةِ وظيفةُ الرسول، ولكن في الآية الواحدة التي جاء فيها الفعل الماضي {وَإِذَا سَأَلَكَ}، لم يَأمرِ الرسولَ بالإجابةِ، بَلْ قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع}، لأنَّ اللهَ يَعْلَمُ حُبَّ محمَّدٍ لأُمَّتِهِ، وحِرْصَهُ عَليهم، واهتمامه بأمْرِها فهو حريصٌ على أنْ يَشْمَلَها اللهُ بمغفرِتِهِ ورَحمتِهِ، وللك أَخْبرَهُ بأَنَّهُ سَوْفَ يُرضيهِ في أُمَّتِه. وروى عبدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهما ـ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسَلَّمَ تَلا قولَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم ـ عليه السلامُ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}, وقولَ عيسى ـ عليه السلامُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فرَفَعَ يَدَيْهِ فَقال: أُمَّتي أُمتي، وبَكى فقالَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ: يا جبريلُ اذْهَبْ إلى محمَّدٍ ـ ورَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ ما يُبْكِيهِ؟ فأَتاهُ جِبريلُ فأَخَبرَهُ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ بما قال: وهوَ أَعْلَمُ، فقالَ اللهُ تَعالى: يا جبريلُ اذهَبْ إلى محمَّدٍ إنَّا سَنُرْضيكَ في أُمَّتِكَ ولا نَسوؤكَ).رواهُ مسلم في صحيحه، برقم (202) ورواه أيضاً مِنْ طَريقِ يُونس بنِ عبدِ الأعْلى عَنْ ابْنِ وَهْبٍ بِنَحْوِهِ. وتأكيداً لِعِلْمِ الحقِّ ـ تَبارَكَ وتَعالى ـ مِنْ حِرْصِ رَسُولِهِ عَلى أُمَّتِهِ، أَكرَمَ هذِهِ الأُمَّةَ بمثلِ ما كَرَّمَ بِهِ الرَسُولَ، فجاءَ الخِطابُ في آيةِ الدعاءِ هذِه بِدونِ (قُلْ).
أَمّا هُنا في هذِهِ الآيةِ فَقَدْ أَمَرَ رسولَهُ بجوابهم جَوابَ جِدٍّ وإغْضاءٍ عنْ سُوءِ قَصْدِهم، وتَعْليماً للذينَ يَتَرَقَّبونَ أَنْ يحْصُلَ مِنْ جَوابِ الرَسُولِ عَنْ سُؤالِ المُشركين، عِلْمٌ للجميعِ بِتَعْيينِ وَقْتِ الساعَةِ، فإنَّ أمرَ الساعةِ ممّا تَتَوَجَّهُ النُفُوسُ إلى تَطَلُّبِهِ. فقد وَرَدَ في الصحيحِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ المُسلمينَ سَأَلَ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فقال: يا رسولَ اللهِ مَتى الساعَةُ؟ فقالَ رَسُولُ اللهِ: ((ماذا أَعْدَدْتَ لها؟)) فقالَ: ما أَعْدَدْتُ لها كَبيرَ عَمَلٍ إلاَّ أَنّي أُحِبُّ اللهَ ورَسولَه. فقالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)). رواهُ البُخاريُّ في صَحيحِهِ برَقم (6167) ومُسْلِمٌ في صَحيحِه برقم (2639) مِنْ حَديثِ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْه.
قولُهُ: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} يُجلّيها: أيْ يُظْهِرُها، والجَلْوَةُ عكسُ الخَلْوَةِ، فالجَلْوَةُ أَنْ يَظْهَرَ الإنْسانُ للناسِ، والخلوةُ أَنْ يختَلِيَ عَنهم ، و "لا يجليها" أيْ لا يُظِهِرُها، و "لوقتها" يُسمّونَ هذه اللامَ في العربيّةِ " لام التوقيت"، كالّتي في قولِهِ سبحانه: {أَقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشمسِ} سورةُ الإسراءِ، الآية: 78. وهيَ بمعنى "عند"، ومعنى دُلُوك الشَمْسِ، أَنها تَتجاوَزُ منتَصفَ السَماءِ، وتميل إلى الغُروبِ قَليلاً. وقوله: "لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ" أَيْ لا يُبَيّنُها عِنْدَ وقْتِها إلا هُوَ ـ سُبْحانَه وتعالى.
والحَصْرُ حَقيقيٌّ هنا، لأنَّهُ الأصلُ، ولما دَلَّ عَلَيْهِ تَوْكيدُهُ بعدَ ذلك في قولِه: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ}، والقَصْرُ الحَقيقِيُّ يَشْتَمِلُ على مَعْنى الإضافيّ وزِيادَةٍ لأنَّ عِلْمَ الساعةِ بالتَحْديدِ مَقْصُورٌ على اللهِ تَعالى.
قولُه: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} الثِقَلُ يَعني أَنْ تَكونَ كُتْلَةُ الشيْءِ أَكْبرَ مِنَ الطاقَةِ التي تحمِلُهُ؛ لأنَّ الكُتْلَةَ إنْ تَساوَتْ مَعَ الطاقَةِ فهي لا تَثْقُلُ على الحِمْلِ.
أوْ أَنَّ الطاقةَ التي تحمِلُ لم تَقْدِرْ على جاذِبِيَّةِ الأَرْضِ؛ فَيَكونُ الشيءُ ثَقيلاً، وقدْ يَكونُ هذا الثِقلُ أَمْراً مادِّيّاً، وقدْ يكونُ فِكْرِيّاً أو عَقْلِيّاً كالمسائلِ الرياضيَّةِ أو الفلسفيَّةِ العويصةِ، وقدْ يَكونُ الأَمْرُ ثَقيلاً على النَفْسِ، كالهُمومِ، وهوَ أَقْسى أَنْواعِ الثِقلِ، و ومنه قول الشاعر:
ليسَ بحِمْلٍ ما أَطاقَ الظَهْرُ .............. ما الحِمْلُ إلاَّ ما وَعاهُ الصَدْرُ
إذاً فالأثقالُ ثلاثةٌ: ماديٌّ، وفِكْرِيٌّ، ونَفْسيٌّ. و "ثَقُلَتْ فِيالسماوات"، لأنَّ السمواتِ فيها المَلائكةُ. والملائكةُ لا تَعْرِفُ مِيعادَ الساعةِ أيضاً، ولا تهتمُّ بمعرفةِ ذلكَ لأنها لا حسابَ عليها فهي لَيْسَتْ مَكَلَّفَةً ولا اخْتِيارَ لها، وبعضها يخدم البشر، وهُمُ الذينَ سَجَدوا لآدَمَ فهم مُوكَلونَ بَمَصالِحِهِ، وقد رَضَخُوا لأمْرِ الحَقِّ بِأَنَّ هُناكَ خليفةً سَيِّداً للأرضِ. وقد أُمِروا جميعاً أنْ يَكونوا مُسَخَّرين لخِدمَتِهِ، ومنهمُ الحَفَظَةُ الكرامُ الكاتبون، ولهم إِلْفٌ بالخَلْقِ، إلفٌ كارِهٌ للعاصي، محِبٌّ للطائعِ. الذي يَسيرُ على مِنْهَجِ اللهِ مِنَ البَشَرِ ويفْرَحونَ بِهِ. وإذا وَقَعَ مِنَ الطائعِ زَلَّةٌ، يَأْسَوْنَ لَهُ ويَتَمَنَّوْنَ أَلاَّ تَقَعَ مِنْهُ زَلَّةٌ أُخْرى. و يَغضَبونَ ممن يسير على غير المنهجِ الذي ارْتَضاهُ اللهُ، قال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فيما رواه عَنْهُ أَبو هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((ما مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العبادُ فيهِ إلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فيَقولُ أَحَدُهما: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، ويَقولُ الآخَرُ اللهُمَّ أَعْطِ ممْسِكاً تًلَفاً)). صحيحُ البُخاري برقم: (1442)، وصَحيحُ مُسْلِمٍ برقم: (1010). وهكذا فإنَّ الملائكةَ الكرام تدعوا لنا وتستغفر كما قال تعالى في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الآية: 7.
و "ثقلت" هُنا تَعني أَنَّ مِيعادَ الساعَةِ لا يَعْرِفُهُ إلاَّ رَبُّنا ـ سبحانَهُ وتعالى، فلا يعرف ذلك الميعاد من هم في السموات وكذلك من هم في الأرضِ، وكلُّ مَنْ عَلى الأَرْضِ خائفٌ مما سَوفَ يحدُثُ عندَ قيامِ الساعة، وخُصوصاً أن القرآنَ الكريمَ وأحاديثَ النَبيَّ المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُعطي لها صُورَةً تُوَضِّحُ قولَ الحقِّ سبحانه: "لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً" وثِقَلُ الساعةِ أيْ: شِدَّتُها لعِظَمِ ما يحدُثُ فيها في السماوات والأرض، مِنْ تَصادُمِ الكَواكِبِ، واضطراب سَيرِها، وزلزلةِ الأرضِ وثورانِ براكينها، واشتعالِ البِحارِ، وجَفافِ المياهِ، ونحوِ ذلكَ مما يَنْشَأُ عَنِ اخْتِلالِ النِظامِ الذي كانَ العالمُ يسيرُ عليه، وذَلِكَ كُلُّهُ يُحْدِثُ شِدَّةً عَظيمَةً على كلِّ ذِي إدْراكٍ مِنَ الموجوداتِ.
من ذلك قوله ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق والرجل يخفض ميزانه ويرفعه)). رواه الطبري وابنُ كثيرٍ والثَعلبيُّ في تفاسيرهم، وأخرج الشيخانِ بمعناه.
وقولُ الحقِّ: "ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً" أيْ أَنَّ الواقِعَ في هذا اليومِ يَكونُ فوقَ احْتِمالِ البَشَرِ وهُو يَأتي بَغْتَةً، أيْ: مِنْ غَيرِ موعدٍ مضروبٍ ولا اسْتِعدادٍ نَفْسِيٍّ لاسْتِقْبالِهِ. وفي سورة الحجِّ يُصوِّرُ لَنا اللهُ تَعالى أهوالَ هذا اليوم بما يَقطعُ النَفَسَ ويَخْلَعُ القُلوبَ مِنَ الصُدورِ فيَقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} الآيتان : 1 ، 2. والآياتُ والأحاديث التي تتحدَّث عن هذا اليومِ كثيرةٌ جدّاً.
قولُه: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} حفيٌّ: مِنَ الحَفاوَةِ، والحَفِيُّ هو المُلِحُّ في طَلَبِ الشيءِ، والحفيُّ بالسُؤالِ عَنْ أَمْرٍ يحاوِلُ أَنْ يَصِلَ إليْهِ، والحفيُّ أَيْضاً عالم بما يُسْأَلُ عَنْهُ، وسَبَبُ العِلْمِ الإلحاحُ في السؤالِ.
والأمورُ التي يُعالجُها الإنسانُ إمَّا أَنْ يُعالجَها وهو مُسَتَقِرٌّ في مَكانِهِ كالأُمورِ الفِكْرِيَّةِ أَوِ العَضَلِيَّةِ الموقوتَةِ بمكان، وقدْ يَكونُ أَمْراً بَعيداً عنْه، فيَقْطَعُ المَسافةَ إلى المَكانِ الثاني لِتَحقيقِ هذِهِ المُهِمَّةِ، وإنَّما يَمشي على رِجْلَيْهِ، فيذوبُ نَعْلُه منَ المَشْيِ فيُقالُ إنَّهُ: حَفِيَ لبلوغِهِ، فقولُه: "كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا" أيْ: أَنَّكَ مُعْنًى بها، ودائبُ السؤالِ عَنْها، وعارفٌ لها.
قولُه: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} مُتَعَلَّقُ الأُلوهيَّةُ العِبادةُ وتَطْبيقُ المِنْهَجِ، وسَبَقَ أَنْ قال في ذاتِ الآيةِ: "عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي" والربوبيَّةُ مُتَعَلَّقُها الخَلْقُ، والرِعايَةُ بالقَيُّومِيَّةِ لمَصالحِ البَشَرِ، وجاءَ في هذِهِ الآيةِ، مَرَّةً بالرُبوبِيَّةِ، ومَرَّةً بالأُلوهِيَّةِ. والأُولى هيَ عِلَّةُ الثانيَةِ، فأنْتَ أَخَذْتَ اللهَ مَعْبوداً، وأَطَعْتَهُ لأنَّهُ خَلَقَكَ ووَضَعَ لَكَ المِنْهَجَ، ولا يَدَّخِرُ وُسْعاً بِرُبوبِيَّتِهِ أَنْ يُقَدِّمَ للعَبْدِ الصالحَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ويَمْنَحُهُ البَرَكَةَ، وكذلك يُعْطي الكافِرَ إنْ أَخَذَ بالأَسْبابِ ولكنْ دُونَ بَرَكَةٍ، وبِغَيرِ ثَوابٍ في الدُنْيا أَوِ الآخِرَةِ، لِذلكَ هُو الإلهُ الحَقُّ الذي نَتَّبِعُ مِنْهَجَهُ.
قولُهُ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أَكْثَرُ النّاسِ الذينَ يَسْأَلونَ عَنْ مَوْعِدِ الساعَةِ لا يَعْلَمونَ أَنَّ رَبَّنا قَدْ أَخْفاها، و هو ـ سُبْحانَه ـ القائلُ في سورةِ طه: {إِنَّ الساعةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعى} الآية: 15. فهُم إذاً لا يَعْلَمون أَنَّ عِلْمَها عِنْدَ اللهِ.
وجاء في سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمة قولُ قَتَادَةُ: قالتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ: إنَّ بَيْنَنا وبَيْنَكَ قَرابَةٌ فَأَسِرَّ إليْنا مَتى الساعة؟ فأَنْزَلَ اللهُ تَعالى: "يسئلونك عن الساعة" وأَخرَجَ عبدٌ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ عَنْه أيضاً: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها" أيْ مَتى قِيامَتُها "قُلْ إنما علمها عند ربي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلاَّ هُوَ" قال: قالتْ قُريشٌ: يا مُحَمَّدُ أَسِرَّ إليْنا الساعةَ لِما بَيْنَنا وبَيْنَكَ مِنَ القَرابَةِ. قال: "يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ} قال: وَذُكِرَ لَنا أَنَّ نَبيَّ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ كان يَقُولُ: ((تَهُجُّ الساعَةُ بالنّاسِ: والرَجُلُ يَسْقي على ماشِيَتِهِ، والرَجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَجُلُ يَخْفِضُ مِيزانَهُ ويَرْفَعُهُ، والرَّجُلُ يُقيمُ سُلْعَتَهُ في السُوقِ، قَضاءُ اللهِ لا تَأْتيكمْ إلاَّ بَغْتَةً)).
وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: المُرادُ بالآيَةِ اليَهودُ، وذلك أَنَّ جَبَلَ بْنَ أَبي قُشَيرٍ وسمويلَ بْنَ زَيْدٍ قالا لَهُ إنْ كُنتَ نَبيًّاً فأَخْبرْنا بِوَقْتِ الساعةِ فإنّا نَعْرِفُها فإنْ صَدَقْتَ آمَنّا بِكَ، والساعةُ القيامةُ مَوْتُ كُلِّ شَيْءٍ كانَ حِينَئِذٍ حَيّاً وبَعْثُ الجَميعِ، هُوَ كُلُّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الساعَةِ واسْمُ القِيامَةِ.
وأَخرَجَ ابْنُ إسْحقَ، وابْنُ جَريرٍ وأَبو الشَيْخِ عَنهُ أَيْضاً قال: قالَ جبلُ بْنُ أَبي قُشَيْرٍ، وسمولُ بْنُ زَيْدٍ، لِرَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ أَخْبِرْنا مَتى الساعةُ إنْ كُنْتَ نَبِيّاً كَما تَقولُ، فإنّا نَعْلَمُ ما هِيَ. فأَنْزَلَ اللهُ "يَسْأَلونَكَ عَنِ الساعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبي" إلى قولِهِ: "ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
قولُهُ تَعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أَيّانَ: ظَرْفُ زَمانٍ مَبْنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعنى الاسْتِفْهامِ ولا يَتَصَرَّفُ، ويَليهِ المُبْتَدَأُ والفِعْلُ المُضارِعُ دونَ الماضي، بخلافِ "متى" فإنَّها يَليها النَوعانِ. وأَكْثَرُ ما تكونُ "أيَّان" استفهاماً كما هي في قولِ الراجز:
أيَّان تَقْضي حاجتي أيَّانا ......................... أَمَا تَرى لِفِعْلها إبَّانا
وقد تأتي شرطيةً جازمَةً لِفْعْلينِ. في مثل قولِ الشاعر:
أيَّان نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غيرَنا وإذا .......... لم تُدْرِكِ الأمنَ منَّا لم تزلْ حَذِرا
وقال آخر:
إذا النَّعْجَةُ العَجْفاءُ باتت بقَفْرةٍ ......... فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الريحُ تَنْزِلِ
والفصيحُ فتحُ همزتِها وهي قراءةُ العامة. وقرأ السُّلمي بِكَسْرِها وهي لغة سُلَيْم. واخْتَلَفَ النَحْويُّونَ في "أيَّان: هلْ هيَ بَسيطةٌ أَمْ مُرَكَّبَةٌ؟ فَذَهَبَ بعضُهم إلى أَنَّ أَصْلَها: (أَيّ أَوانٍ) فحُذِفَت الهمزةُ على غيرِ قياسٍ ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ، وقُلِبَتِ الواوُ ياءً على غيرِ قِياسٍ، فاجْتَمَعَ ثَلاثُ ياءاتٍ فاسْتُثْقِل ذلكَ فَحُذِفتْ إحداهُنَّ، وبُنِيَتِ الكَلِمَةُ على الفَتْحِ فَصارَتْ "أَيَّان". واخْتَلَفوا فيها أيضاً: هل هِيَ مُشْتَقَّةٌ أَمْ لا؟ فذَهَبَ أَبُو الفَتْحِ ابنُ جنّي إلى أَنها مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَوَيْتُ إليهِ، لأنَّ البعضَ آوٍ إلى الكُلِّ، والمعنى: أَيَّ وقْتٍ وأَيَّ فِعْلٍ، ووزنُه فَعْلان أَوْ فِعْلان بحسَبِ اللُّغَتين، ومَنَعَ أَنْ يَكونَ وزنُه فَعَّالاً مُشْتَقَّةً مِنْ "أين"، لأنََّ أَيْنَ ظَرْفُ مكانٍ وأَيّانَ ظَرْفُ زَمانٍ. و "مُرْساها" يَجوزُ أَنْ يَكونَ اسْمَ مَصْدَرٍ وأَنْ يَكونَ اسْمَ زَمانٍ، قالَ الزَمخْشَرِيُّ: "مُرْساها" إرْساؤُها أَوْ وَقْتُ إرْسائها، أَيْ: إثباتُها وإقرارُها. قال الشيخُ أبو حيّانَ وتَقديرُهُ: وقت إرسائها لَيْسَ بجيِّدٍ، لأنَّ "أيَّان" اسْتِفْهامٌ عَنِ الزَمانِ فَلا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ خبراً عَنِ الوَقْتِ إلاَّ بمجازٍ لأنَّهُ يَكونُ التَقديرُ: في أَيْ وَقْتٍ وَقْتُ إرْسائها. وهوَ كلامٌ حَسَنٌ، ويُقالُ: رَسا يَرْسُو: أي ثَبَتَ، ولا يُقالُ إلاَّ في الشيءِ الثَقيلِ نحو: رَسَتِ السَفينةُ تَرْسُو، وأَرْسَيْتُها.
قولُهُ: {عِلْمُهَا} مَصْدرٌ مُضافٌ للمَفْعولِ والظَرْفُ خَبرُهُ. وقولُه: "في السماوات" يجوزُ فيه وجهان، أَحَدُهما: أَنْ تَكونَ "في" بمعنى على، أيْ: على أَهْلِ السَماواتِ أوْ هيَ ثَقيلةٌ عَلى نَفْسِ السَماواتِ والأَرْضِ لانْشِقاقِ هذِهِ وزِلْزالِ ذِي. والثاني: أَنها على بابها مِنَ الظَرفيَّةِ، والمعنى: حَصَل ثِقَلُها وهو شِدَّتها أَوِ المُبالَغَةُ في إخْفائها في هذيْنِ الظَرْفَينِ.
قولُهُ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} هَذِهِ الجُمْلَةُ التَشْبيهيَّةُ في محَلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ مَفْعولِ "يسألونك". وفي "عنها" وجهانِ، أَحَدُهما: أَنها مُتَعَلِّقةٌ ب "يسألونك" و "كأنَّك حَفِيٌّ" مُعتَرِضٌ، وصِلَتُها محذوفةٌ والتقدير: حَفِيٌّ بها. وهذه كلَّها مُتَعَلَّقاتٌ للفعلِ فإنَّ قولَهُ: "كأنك حفيٌّ" حالٌ كما تَقَدَّمَ. والثاني: أنَّ "عن" بمعنى الباء، كما أَنَّ الباءَ بمعنى "عن" كما هي في قولِهِ تعالى في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماءُ بالغَمامِ} الآية: 25 وكما هي في قولِهِ في الآية59 من ذات السورة: {الرحمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} لأنَّ حَفِيٌّ لا يَتَعَدَّى ب "عن" بَلْ بالباءِ قال تعالى في سورة مريم: {كَانَ بِي حَفِيّاً} الآية: 47. ويُضَمَّن معنى شيءٍ يَتَعَدَّى ب "عن"، أي: كأنًّكَ كاشِفٌ عَنْها بِحَفاوَتِكَ.
و "حَفِيٌّ" بوزنِ فعيلٍ، فيَجوزُ أَنْ يَكونَ بمعنى فاعلٍ مُشْتَقًّا مِنْ حَفِيَ بِهِ مِثْلُ غَنيَ فهُو غَنِيٌّ، وهو حفيٌّ به إذا أَكْثَرَ السُؤالَ عَنْ حالِهِ تَلَطُفًّا، ويَكونُ المَعْنى كأَنَّكَ أكْثَرْتَ السُؤالَ عَنْ وَقْتِها حتى عَلِمْتَهُ، فَيَكونُ وَصْفُ حَفِيٍّ كِنايةً عَنِ العالمِ بالشيءِ لأنَّ كَثْرَةَ السُؤالِ تَقْتَضي حُصولَ العِلْمِ بالمَسْؤولِ عَنْهُ. ومنه قولُ السَمَوْأَلِ:
سَلي إنْ جَهِلْتِ الناسَ عنَّا وعنهمُ .......... فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ
وهو من قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
ونُسب هذا البيتُ لعبدِ المَلِكِ ابْنِ عَبدِ الرَحيمِ الحارِثيِّ ونسٍبَ لغيرِهما أيضاً
ومنه أيضاً قولُ عامرٍ بْنِ الطُفَيْلِ:
طُلّقتتِ إن لم تَسْألي أيُّ فارس ......... حَليلك إذ لاَقَى صُداءً وخَثعما
وقول أُنَيْفٍ بن زَبّانَ النبهان:
فلمَّا التقينا بَيَّنَ السيفُ بَيْنَنا ................. لسائلةٍ عنا حَفِيٍّ سؤالُها
وقال الأعشى:
فإنْ تَسْأَلي عني فيا رُبُّ سائلٍ ...... حَفِيٍّ عن الأعشى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدا
ويجوز أنْ يَكونَ مُشْتَقّاً مِنْ أَحْفاهُ إذا أَلحَّ عَليه في فِعْلٍ، فَيَكونُ فَعيلاً بمعنى مَفْعَلٍ. والإِحْفاءُ: الاسْتِقْصاءُ، ومنه: (إحْفاءُ الشَوارِبِ) والحافي، لأنَّهُ حَفِيَتْ قَدَمُهُ في اسْتِقْصاءِ السَّيرِ. والحَفاوةُ: البرُّ واللُّطفُ.
وقرأ عبدُ اللهِ ابنُ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: "حَفِيٌّ بها" وهي تَدُلُّ لمن ادَّعى أنَّ "عَنْ" بمعنى الباء. وحَفِيٌّ على وزنِ فعيلٍ بمعنى مَفْعولٍ أَيْ: محفُوٌّ. وقيل: بمعنى فاعل أيْ: كأنَّكَ مُبالِغٌ في السؤالِ عنها ومُتَطَلِّعٌ إلى عِلْمِ مَجيئها.
وقُدِّمَ المجرورُ وهو "لِوَقْتِهَا" على فاعِلِ "يُجَلِّيهَا" الواقِعِ اسْتِثْناءً مُفَرَّغاً للاهْتِمامِ بِهِ تَنْبيهاً على أَنَّ تَجْلِيَةَ أَمْرِها تَكونُ عندَ وَقْتِ حُلُولِها لأنَّها تَأْتي بَغْتَةً.
ومِنْ بَديعِ الإيجازِ تَعْدِيَةُ فِعْلِ "ثَقُلَتْ" بحرْفِ الظَرْفِيَّةِ الدّالِّ على مَكانِ حُلولِ الفِعْلِ، وحُذِفَ ما حَقُّه أَنْ يَتَعدَّى إليه وهو حرفُ "إلى" الذي يَدُلُّ على ما يَقَعُ عَلَيْهِ الفِعْلُ، لِيَعُمَّ كلَّ ما تَحويهِ السَماواتُ والأرضُ مما يَقَعُ عَليهِ الثِقلُ بمعنى الشِدَّةِ.
قولُهُ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} حالٌ مِنْ ضميرِ المُخاطَبِ في قولِهِ: {يَسْأَلونَكَ} مُعْتَرِضَةً بين {يَسْأَلونَكَ} ومُتَعَلَّقِهِ.
ويَتَعلَّق قولُهُ: {عَنْهَا} على الوَجْهَينِ بِكُلٍّ مِنْ {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} و {حَفِيٌّ} على نحوٍ مِنَ التَنازُعِ في التَعْليقِ.
وجملةُ {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} مؤكِّدةٌ لجُمْلَةِ {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} ومُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ سُؤالهم فلِذَيْنَكَ فُصِلَتْ.
وحُذِفَ مُتَعَلَّقُ السُؤالِ لِلعِلْمِ بهِ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى. وجملةُ {لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} مُسْتَأْنَفَةٌ جاءتْ تَكْمِلَةً للإخْبارِ عَنْ وَقْتِ حُلولِ الساعةِ.
__________________
أنا روحٌ تضمّ الكونَ حبّاً
وتُطلقه فيزدهر الوجودُ
عبد القادر الأسود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 174 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 12-05-2014 01:28 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 98 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-22-2014 03:38 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 94 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:46 AM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 94 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:41 AM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 96 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:33 AM


الساعة الآن 02:44 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir