أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ِ وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-01-2011
  #11
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الرابعة عشرة

عبارة عن مقامين

الـمقام الاول

جواب عن سؤالين

باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته،

اخي العزيز الصادق الوفي السيد رأفت!

ان ما سألتـموه من سؤال حول ((الثور والـحوت)) قد ورد جوابه في بعض الرسائل. وقد بينت في ((الغضن الثالث من الكلـمة الرابعة والعشرين)) اثنتا عشرة قاعدة مهمة ضمن اثني عشر أصلا حول هذا النوع من الاسئلة، تلك القواعد تـمثل اسساً مهمة لدفع الشبهات والاوهام الواردة على الاحاديث الشريفة، فكل قاعدة منها مـحكَ جيد لبيان التأويلات الـمـختلفة حول الاحاديث النبوية.

اخي! انني لا انشغل الا بالسوانـح القلبية، فهناك حالات طارئة في الوقت الـحاضر تـحول – مع الاسف – دون اشتغالي بالـمسائل العلـمية؛ لذلك لا استطيع الاجابة عن سؤالكم بـجواب شاف، وإن وفق الله وفتـح علينا سوانـح قلبية اضطر الى الانشغال بها. وربـما يـجاب عن أسئلة لتوافقها مع السوانـح، فلا تتضايقوا، اذ لا استطيع الاجابة عن كلّ من اسئلتكم اجابة وافية. فلأجب هذه الـمرة عن سؤالكم.

تذكرون يا اخي في سؤالكم:

ان علـماء الدين يقولون: الارض تقوم على الـحوت والثور، علـماً ان الـجغرافية تراها كوكباً معلقاً يدور في السـماء كأي كوكب آخر، فلا ثور ولا حوت!.

الـجواب: هناك رواية صحيـحة تُسند الى ابن عباس رضي الله عنهما، تقول: سُئل الرسول e : على أي شيء تقوم الارض؟. أجاب: على الثور والـحوت. وفي رواية اخرى، قال مرة: على الثور ومرة: على الـحوت. ولكن عدداً من الـمـحدثين طبقوا هذه الرواية على حكايات خرافية وقديـمة وردت عن الاسرائيليات، ولا سيـما من علـماء بني اسرائيل الذين اسلـموا فهؤلاء غيروا معنى الـحديث وحولوه الى معنى عجيب غريب جدا، حيث طبقوا الـحديث على ما شاهدوه من حكايات حول الثور والـحوت في الكتب السابقة.

ونـحن هنا نشير باختصار شديد الى ((ثلاثة اسس)) و ((ثلاثة وجوه)) لدى الاجابة عن سؤالكم:

الاساس الاول:

لقد حـمل قسـم من علـماء بني اسرائيل بعد إسلامهم معلوماتهم السابقة معهم الى الاسلام، فاصبـحت ملك الإسلام أي ضمن الـمعارف الإسلامية. علـماً أن معلوماتهم السابقة تـحوي اخطاء. فتلك الاخطاء بلاشك تعود اليهم لا الى الإسلام.

الاساس الثاني:

ان التشبيهات والتـمثيلات كلـما انتقلت من الـخواص الى العوام، أي كلـما سرت من يد العلـم الى يد الـجهل عُدّت حقائق ملـموسة بـمرور الزمن، أي كأنها حقائق واقعة وليست تشبيهات.

فمثلا: حينـما كنت صبياً خسف القمر، فسألت والدتي: ما هذا الذي حدث للقمر؟. قالت: ابتلعه الـحية!. قلت: ولكنه يتبين! قالت: ان الـحيات في السـماء شفافة كالزجاج تشف عما في بطنها. كنت اتذكر هذه الـحادثة كثيراً واسائل نفسي: كيف تدور خرافة بعيدة عن الـحقيقة الى هذه الدرجة على لسان والدتي الـحصيفة الـجادة في كلامها؟.

ولكن حينـما طالعت علـم الفلك رأيت ان الذين يقولون كما تقول والدتي، قد تلقوا التشبيه حقيقة واقعية؛ لان الفلكيين شبهوا القوسين الناشئين من تداخل دائرة الشمس، وهي منطقة البروج ومدار درجاتها، مع دائرة القمر وهي ميل القمر ومدار منازلـه، شبهوهما تشبيهاً لطيفاً بـحيتين ضخـمتين، وسـموهما تنينين، واطلقوا على احدى نقطتي تقاطع تلك الدائرتين ((الرأس)) والاخرى ((الذنب)). فحينـما يبلغ القمر الرأس والشمس الذنب تـحصل حيلولة الارض – كما يصطلـح عليها الفلكيون – أي: تقع الارض بينهما تـماماً، وعندها يـخسف القمر. أي كأن القمر يدخل في فم التنين، حسب التشبيه السابق.

وهكذا عندما سرى هذا التشبيه العلـمي الراقي بـمرور الزمن الى كلام العوام غدا التشبيه تنيناً عظيـماً مـجسـماً يبتلع القمر!.

وكذلك الـملَكان العظيـمان الـمسـميان بالثور والـحوت، قد اطلق عليهما هذان الاسـمان في تشبيه لطيف سام، وفي اشارة ذات مغزى. ولكن لـما انتقل التشبيه اللطيف، من لسان النبوة البليغ السامي الى لسان العوام، بـمرور الزمن، انقلب التشبيه الى حقيقة واقعة، فاتـخذ الـملكان صورة ثور ضخـم وحوت هائل.

الاساس الثالث:

كما ان القرآن الكريـم متشابهات، يرشد الـمسائل الدقيقة العميقة للعوام بالتشبيه والتـمثيل، كذلك للـحديث الشريف متشابهات يعبـّر عن الـحقائق الواسعة بتشبيهات مأنوسة لدى العوام. مثال ذلك ما ذكرناه في رسائل اخرى.

أنه عندما سـمع دوي في مـجلس الرسول e قال: هذا حجر يتدحرج منذ سبعين سنة في جهنـم فالآن حين وصل الى قعرها.

وبعد مضي دقائق جاء أحدهم وقال: ان الـمنافق الفلاني الـمعلوم الذي يبلغ سبعون سنة من العمر قد مات.

فأعلن عن الـحقيقة الواقعة للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

أما عن سؤالك يا أخي فسنذكر لـه ثلاثة وجوه:

الوجه الاول:

ان الله سبـحانه قد عين اربعاً من الـملائكة العظام في العرش والسـموات للاشراف على سلطنة ربوبيته. اسـم واحد منهم ((النسر)) واسـم آخر ((الثور))(1).

أما الارض التي هي شقيقة صغيرة للسـموات ورفيقة أمينة للسيارات فقد عُين لـها ملكان مشرفان يـحـملانها، يطلق على احدهما: ((الثور)) وعلى الآخر ((الـحوت)). والـحكمة في تسـميتهما بهذين الاسـمين هي ان الارض قسـمان: البر والبـحر أي اليابسة والـماء، فالذي يعمر البـحر او الـماء هو الـحوت او السـمك، أما الذي يعمر البر والتراب فهو الثور، حيث أن مدار حياة الانسان هو الزراعة الـمـحـمولة على كاهل الثور.

فالـملكان الـموكلان بالارض اذن هما قائدان لـها ومشرفان عليها، لذا لـهما تعلق وارتباط ومناسبة – من جهة – مع طائفة الـحوت ونوع الثور. ولربـما – والعلـم عند الله – يتـمثلان في عالـم الـملكوت وفي عالـم الـمثال على صورة الـحوت والثور(2).

فاشارة الى هذه الـمناسبة والعلاقة، وايـماءاً الى ذينك النوعين من مـخلوقات الارض، قال الذي اوتي جوامع الكلـم e : ((الارض على ثور والـحوت)) فأفاد بـجـملة واحدة وجيزة بليغة عن حقيقة عظيـمة عميقة قد لا يعبر عنها في صحيفة كاملة.

الوجه الثاني:

لو قيل: بـم تقوم هذه الدولة؟ فالـجواب: على السيف والقلـم: أي تستند الى قوة سيف الـجيش وشجاعته واقدامه وعلى دراية قلـم الـموظفين وعدالتهم.

وحيث أن الارض مسكن الأحياء، وسيد الاحياء الانسان، والقسـم الاعظم من الناس يقطنون السواحل ومعيشتهم على السـمك، والباقون تدور معيشتهم على الزراعة التي هي على عاتق الثور ومـحور تـجارتهم على السـمك. فمثلـما يـمكن القول:

أن الدولة تقوم على السيف والقلـم يـمكن كذلك القول: ان الارض تقوم على الثور والـحوت؛ لأنه متى ما احجـم الثور عن العمل ولـم يلق السـمك ملايين البيوض دفعة واحدة، فلا عيش للانسان وتنهار الـحياة، ويدمر الـخالق الـحكيـم سبـحانه الارض.

وهكذا اجاب الرسول الكريـم e عن السؤال بـحكمة سامية وببلاغة معجزة وبكلـمتين اثنتين مبيناً حقيقة واسعة تتعلق بـمدى ارتباط حياة الانسان بالـحيوان فقال:

((الارض على الثور والـحوت)).

الوجه الثالث:

ان الشمس في نظر علـماء الفلك القديـم تدور والارض ثابتة، وعبروا عن كل ثلاثين درجة من درجات الشمس بـ ((البرج)) فلو مدت خطوط افتراضية بين نـجوم تلك البروج لـحصل ما يشبه صورة الاسد احياناً، او صورة الـميزان، او صورة الثور، او صورة الـحوت، لذا بينوا تلك البروج بتلك الاسـماء.

أما علـم الفلك الـحاضر فيرى أن الشمس لا تدور حول الارض، بل الارض تدور حولـها. أي يعطل العمل في تلك البروج، فلابد ان لتلك البروج العاطلة عن العمل والدوائر الـهائلة دوائر بـمقياس أصغر في مدار الارض السنوي، أي اصبـحت البروج السـماوية تتـمثل في مدار الارض السنوي، وعندئذ تدخل الارض كل شهر في ظل احد البروج وتكون ضمن انعكاسة، فكأن مدار الارض السنوى مرآة تتـمثل فيها صورة البروج السـماوية.

وهكذا بناء على هذا الوجه – من الـمسألة – فقد قال الرسول الاعظم e كما ذكرنا سابقاً ((على الثور)) مرة و ((على الـحوت)) مرة اخرى.

نعم انه حري بلسان ذلك النبي الكريـم الـمعجز ان يقول مرة: ((على الثور)) مشيراً به الى حقيقة عميقة لا تدرك الا بعد قرون عديدة. حيث أن الارض في تلك الفترة – أي فترة السؤال – كانت في الصورة الـمثالية لبرج الثور، بينـما عندما سئلe السؤال نفسه بعد شهر قال: ((على الـحوت)) لأن الارض كانت في ظل برج الـحوت.

وهكذا اشار e بقولـه: ((على الثور والـحوت)) الى هذه الـحقيقة العظيـمة التي ستظهر في الـمستقبل وتتوضح.. وأشار به الى حركة الارض وسياحتها.. ورمز به الى أن البروج السـماوية الـحقيقية والعاملة هي التي في مدار الارض السنوي، والارض هي القائمة بالوظيفة والسياحة في تلك البروج، بينـما التي بالنسبة للشمس عاطلة دون اجرام سيارة فيها. والله اعلـم بالصواب.

واما ما جاء من حكايات خارجة عن طور العقل في بعض الكتب الإسلامية حول الثور والـحوت. فاما انها من الاسرائيليات، أو هي تشبيهات وتـمثيلات، أو أنها تأويلات بعض الرواة، حسبها الذين لا يتـحرون الدقة أنها من الـحديث نفسه واسندوها الى كلام الرسول e .

} رَبـَّناَ لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نـَّسِينَا أَوْ أَخطَأنَا { (البقرة:286)

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

السؤال الثاني: يـخص اهل العباء(1)

أخي!

سنذكر حكمة واحدة فقط من الـحكم الكثيرة التي ينطوي عليها سؤالكم حول ((أهل العباء)) الذي ظل بلا جواب، وهي: ان اسراراً وحكماً كثيرة في إلقاء الرسول e عباءه (ملاءته) الـمبارك الذي كان يلبسه على علي وفاطمة والـحسن والـحسين رضي الله عنهم اجـمعين، ثم دعاؤه لـهم(2) في هذا الوضع وبهذه الآية الكريـمة: } ليُذهِبَ عَنكُم الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطَهـِّركُم تطهيراً{ (الاحزاب:33). ولكننا لانخوض في اسراره، ولانذكر الاّ حكمة من حكمه التي تتعلق بـمهمة الرسالة وهي:

ان الرسول الكريـم e قد رأى بنظر النبوة الانيس بالغيب، النافذ الى الـمستقبل، أنه بعد نـحو ثلاثين أو أربعين سنة ستقع فتن عظيـمة في صفوف الصحابة والتابعين، وستراق الدماء الزكية. فشاهد ان ابرز من فيها هم الاشخاص الثلاثة الذين سترهم تـحتعباءته. فلأجل الاعلان عن تبرئة علي في نظر الأمة.. وتسلية الـحسين وعزائه.. وتهنئة الـحسن واظهار شرفه ومكانته وعظيـم نفعه للأمة برفعه فتنة كبيرة بالصلـح.. وطهارة نسل فاطمة وشرافتهم واهليتهم بلقب أهل البيت، ذلك العنوان الشريف الرفيع.. لأجل كل ذلك ستر e اولئك الاربعة مع نفسه تـحت ذلك العباء واهباً لـهم ذلك العنوان الـمشرف: آل العباء الـخـمسة.

نعم! ان سيدنا علياً رضي الله عنه كان خليفة للـمسلـمين بـحقٍ، ولكن لأن الدماء الزكية التي اريقت جليلة فان براءته منها وتبرئته في نظر الامة لـها اهميتها من حيث وظيفة الرسالة. لذا يبريء الرسول الكريـم e ساحته بتلك الصورة، فيدعو الى السكوت بـحقه كلَّ من ينتقده ويـخطئه ويضلله من الـخوارج والـموالين للامويين الـمتـجاوزين عليه.

نعم ان الـخوارج واتباع الامويين الـمغالين يتفريطهم في حق سيدنا علي رضي الله عنه وتضليلـهم لـه وإفراط الشيعة وغلوهم وبدعهم وتبرّيهم من الشيـخين مع وقوع الفاجعة الاليـمة على الـحسين رضي الله عنه، قد اضرّ اهل الإسلام ايـمـّا ضرر. فالرسول الكريـم e ينـجي بهذا الدعاء والعباء علياً والـحسين من الـمسؤولية والتهم، وينقذ امته من سوء الظن في حقهما كما يهنيء – من حيث مهمة الرسالة – الـحسن الذي أحسن الى الامة بالصلـح الذي قام به، ويعلن ان النسل الـمبارك الذي يتسلسل من فاطمة سينالون شرفاً رفيعاً، وان فاطمة ستكون كريـمة من حيث ذريتها كما قالت ام مريـم في قولـه تعالى:

} واني اعيذها بكَ وذُريتها من الشيطان الرجيـم { (آل عمران:36)

اللهم صلّ على سيدنا مـحـمد وعلى آلـه الطيبين الطاهرين الابرار وعلى اصحابه الـمـجاهدين الـمكرمين الاخيار. آمين….

الـمقام الثاني

يضم هذا الـمقام ستةً من اُلوف اسرار

((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم))

تنبيه:

لقد ظهر عن بُعد لعقلي الـخامد نورٌ ساطع أشرق من أُفق رحـمة الله في البسـملة. فاردتُ تسجيلـه في صورة ملاحظات ومذكـّرِات خاصة بيّ، وقمت بـمـحاولة اقتناص ذلك النور الباهر باحاطته بسور من أسراره البالغة نـحو ثلاثين سراً، كي يسهل حصره ويتيسر تدوينه، إلاّ أنني مع الاسف لـم اوفـَّق تـماماً الآن في مسعاي، فانـحسرت الأسرار الى ستة فقط.

والـخطاب في هذا الـمقام موجّه الى نفسي بالذات. فحينـما اقول: ((أيها الانسان!)) أعني به نفسي.

فهذا الدرس مع كونه خاصاً بي الاّ انني اعرضه للانظار الصائبة لأخوتي الـمدققين ليكون ((الـمقام الثاني من اللـمعة الرابعة عشرة)) وعلـه يكون موضع فائدة لـمن ارتبط بي برباط روحي، والذي نفسُه اكثر يقظة مني وانتباهاً.

هذا الدرس متوجّه الى القلب اكثر منه الى العقل ومتطلـّع الى الذوق الروحي اكثر منه الى الدليل الـمنطقي.

بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

} قَالتْ: يا ايُّها الـمـَلؤا اِني اُلقِيَ اِليَّ كِتابٌ كَريـم ` اِنـّه مِنْ سُلـَيـمنَ واِنه بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم { (النـمل:29-30)

سنذكر في هذا الـمقام بضعةً من الأسرار:

السر الأول:

اثناء تأملي في البسـملة رأيت نوراً من أنوار ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم))

على الصورة الآتية:

ان هناك ثلاث علامات نيـّرة ساطعة للربوبية على سيـماء الكائنات، وعلى قسـمات وجه الأرض، وعلى ملامـح وجه الانسان. هذه العلامات الزاهرة والأيات الساطعة متداخل بعضُها في البعض الآخر، حتى ان كلاً منها يبين نـموذجَ الآخر ومثالـه.

فالعلامة الاولى:

هي علامة الاُلوهية، تلك الآية الكبرى، الساطعة من التعاون والتساند والتعانق والتـجاوب الـجاري في اجزاء الكون كلـه؛ بـحيث يتوجه (بِسـم الله)) اليها ويدل عليها.

العلامة الثانية:

هي علامة الرحـمانية، تلك الآية العظمى، الزاهرة من التشابه والتناسب والانتظام والانسجام واللطف والرحـمة الساري في تربية النباتات والـحيوانات؛ بـحيث يتوجّه (بِسـم الله الرَّحـمنِ) اليها ويدل عليها.

ثم العلامة الثالثة:

وهي علامة الرحيـمية، تلك العلامة السامية، الظاهرة من لطائف الرأفة الإلـهية ودقائق شفقتها وأشعة رحـمتها الـمنطبعة على سيـماء الـماهية الـجامعة للانسان، بـحيث يتوجـّه اسـم ((الرحيـم)) الذي في ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) اليها ويدل عليها.

أي أن ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) عنوان قدسي لثلاث آيات من آيات الأحدية، حتى أنه يشكـّل سطراً نورانياً في كتاب الوجود، ويـخط خطاً ساطعاً في صحيفة العالـم، ويـمثل حبلاً متيناً بين الـخالق والـمـخلوق. أي أن ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) نزولاً من العرش الأعظم يرتبط طرفه ونهايته بالانسان الذي هو ثمرة الكائنات ونسخة العالـم الـمصغرة، فيربط الفرش بالعرش الأعظم، ويكون سبيلاً مـمهداً لعروج الانسان الى عرش كمالاته.

السر الثاني:

ان القرآن الكريـم يبين دوماً تـجلي ((الأحدية)) ضمن تـجلي ((الواحدية)) ليـحول دون غرق العقول وتشتتها في تلك ((الواحدية)) الظاهرة في مـخلوقات كثيرة لا يـحصرها العـّد.

ولنوضح ذلك بـمثال.

الشمس تـحيط بضيائها بـما لا يـحدّ من الاشياء. فلأجل ملاحظة ذات الشمس في مـجـموع ضيائها يلزم ان يكون هناك تصورٌ واسع جداً ونظر شامل. لذا تُظهرُ الشمس ذاتها بوساطة انعكاس ضوئها في كل شيء شفاف، أي يُظهِر كلُ لـماعٍ حسبَ قابليته جلوةَ الشمس الذاتية مع خواصِها كالضياء والـحرارة، وذلك لَئلا تُنسى ذاتُ الشمس. ومثلـما يُظهِر كلُ لـماع الشمسَ بـجـميع صفاتها حسب قابليته، تـحيط ايضاً كل صفةٍ من صفات الشمس كالـحرارة والضياء والوانه السبعة بكل ما يقابلـها من اشياء.

ولا مشاحة في الامثال (ولله الـمثل الأعلى) فكما ان لله سبـحانه الأحد الصمد تـجلٍ في كل شيء بـجـميع اسـمائه الـحسنى، ولا سيـما في الأحياء، وبـخاصة في مرآة ماهية الانسان. كذلك كل اسـم من اسـمائه الـحسنى الـمتعلقة بالـموجودات يـحيط بالـموجودات جـميعاً من حيث الوحدة والواحدية.

فيضع سبـحانه وتعالى طابعَ الأحدية في الواحدية نصبَ عين الانسان وامام نظره كيلا تغرق العقولُ وتغيب في سعة الواحدية ولئلا تنسى القلوبُ وتذهل عن الذات الإلـهية الـمقدسة.

فـ ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) يدل على ثلاثٍ من العقد الـمهمة لذلك الطابع الـمـميز ويبينها.

السر الثالث:

انه بديهي، بل مشاهَد ان الرحـمة الإلـهية هي التي أبهجت الكائنات التي لا يـحدها حدود..

وان الرحـمة نفسها هي التي أنارت هذه الـموجودات الـمغشية بالظلـمات..

وأن الرحـمة أيضاً هي التي ربـَّت في أحضانها هذه الـمـخلوقات الـمتقلبة في حاجات لا حد لـها..

وان الرحـمة أيضاً هي التي وجـّهت الكائنات من كل صَوب وحَدب وساقتها نـحو الانسان وسخـَّرتْها لـه، بل جعلتها تتطلع الى معاونته وتسعى لإمداده، كما تتوجه أجزاء الشجرة الى ثمرتها..

وان الرحـمة ايضاً هي التي عمـَّرت هذا الفضاء الواسع وزيـَّنت هذا العالـم الـخالي..

وان الرحـمة نفسها هي التي جعلت هذا الانسان الفاني مرشحاً للـخلود والبقاء، وأهـَّلته لتلقـّي خطاب رب العالـمين ومَنـحتْه فضل ولايته سبـحانه.

فيا أيها الانسان!

ما دامت الرحـمة مـحبوبة، ولـها من القوة والـجاذبية والإمداد الى هذا الـحد، فاستعصم بتلك الـحقيقة بقولك ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) وانقذ نفسك من هول الوحشة الـمطلقة، وخلـّصها من آلام حاجات لا نهاية لـها، وتقـّرب الى ذي العرش الـمـجيد، وكن مـخاطباً أميناً وخليلاً صادقاً لـه، بأنوار تلك الرحـمة ورأفتها.

نعم! ان حشدَ الكائنات وجـمعَها حول الانسان ضمن حكمةٍ مقدّرة، وجعلَ كلٍ منها يـمد يد العون اليه لدفع حاجاته الـمتزايدة، نابع بلاشك من احدى حالتين اثنتين: فإما أن كل نوع من أنواع الكائنات يعرف الانسان ويعلـم به فيطيعه ويسعى لـخدمته، أي أن هذا الانسان الغارق في عجز مطلق يـملك سلطان مطلق!! (وهذا بعيد كل البعد عن منطق العقل فضلاً عما فيه من مـحالات لا تـحد).. أو أن هذا التعاون والامداد انـما يتـم بعلـم مـحيط لقادر مطلق مـحتـجب وراء الكائنات.. أي أن أنواع والامداد انـما يتـم بعلـم مـحيط لقادر مطلق مـحتـجب وراء الكائنات.. أي أن أنواع الكائنات لا تعرف هذا الانسان لتـمد لـه يدَ العون، وانـما هي دلائل على مَن يعرف هذا الانسان ويرحـمه، ويعلـم بـحالـه.. وهو الـخالق الرحيـم.

فيا أيها الانسان!

عُدْ الى رشدك! أوَ يـمكن ألاّ يعلـم بك وألاّ يراك هذا الرب الرحيـم، وهو الذي دفع الـمـخلوقات لـمعاونتك ملبية جـميع حاجاتك؟

فما دام سبـحانه يَعلـم بك ويُعلـمك بعلـمه هذا باسباغ رحـمته عليك، فما عليك الا بذل الـجهد لـمعرفته، والسعي لاظهار معرفتك لـه بتوقير أوامره.

واعلـم يقيناً انه ليست الا حقيقة الرحـمة الإلـهية – التي تسع الـحكمة والعناية والعلـم والقدرة – قد سخـَّرتْ لك هذه الكائنات، وجَعَلَتها طوع ارادتك، وأنت الـمـخلوق الضعيف الصغير العاجز الفقير الفاني.

فرحـمةٌ عظيـمة الى هذا الـحد، واسعةٌ الى هذا القدر.. لاشك أنها تطلب منك شكراً كلياً خالصاً، وتعظيـماً لا يشوبه شيء.

فاعلـم انه لا يترجـم لك ذلك الشكر الكلي والتعظيـم الـخالص الاّ ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)). فقلـه واتـخذه وسيلة لبلوغك تلك الرحـمة الواسعة، واجعلـه شفيعاً لَك لدى الرحـمن الرّحيـم.

حقاً! ان وجود الرحـمة وظهورها أظهر من الشمس في كبد السـماء؛ اذ كما يـحصل نسجُ نقشٍ جـميل في الـمركز من تناسق لـحـمته وسُداه ومن انتظام اوضاع خيوطٍ تـمتد من كل جهة نـحو الـمركز.. فان خيوط شعاع النور النابع من تـجلي ألف اسـم واسـم من الاسـماء الـحسنى، والـمـمتدة الى هذا الكون الشاسع تنسج على سيـمائه نسيـجاً في غاية الروعة والـجـمال ضمن اطار الرحـمة السابغة، حتى يظهِر للعقول – أوضح من الشمس للعيون – ختـماً واضحاً للرحيـمية، ونقشاً رائعاً للشفقة والرأفة، وشعاراً بديعاً للعناية.

نعم، ان الذي ينظـّم الشمس والقمر والعناصر والـمعادن والنباتات والـحيوانات، وينسقها جـميعاً بأشعة ألف اسـم واسـم، كأنها لـحـمةُ نقشٍ وسُداه، وخيوطه النورانية، ويسخـّرها جـميعاً في خدمة الـحياة.. والذي يُظهر رأفته وشفقته على الـخلق اجـمعين بـما اودع في الوالدات – من نبات وحيوان – تلك الشفقة الـحلوة اللذيذة تـجاه صغارها.. والذي أظهر أسطع تـجليات رحـمته، وأجـمل نقوش ربوبيته سبـحانه، يتسخيره الأحياء لـحياة الانسان، مبيناً به منزلة الانسان لديه وأهميته عنده.. هو الرحـمن ذو الـجـمال الذي جعل رحـمته الواسعة هذه شفيعة مقبولة مأنوسة لدى غناه الـمطلق، يتشفـّع بها ذوو الـحياة والانسان الـمفتقر فقراً مطلقاً الى تلك الرحـمة.

فيا أيها الانسان!

ان كنت انساناً حقاً، فقل: ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)) لتظفر بذلك الشفيع.

انه بديهي، بل مشاهَد ان الرحـمة هي التي تربي طوائف النباتات والـحيوانات التي تربو على أربعمائة ألف طائفة، رغم تباينها وتنوعها.. وهي التي تدير أمورها جـميعاً بلا التباس ولا نسيان ولا اختلاط، وفي أنسب وقت وأكمل نظام وأتـم حكمة وأوفق عناية، حتى وضَعَتْ بهذه الادارة والتربية طابعَ الاحدية وختـمها على سيـماء الارض.

نعم، ان وجود تلك الرحـمة ثابت وقطعي كوجود الـموجودات الـمبثوثة على الارض، كما أن دلائل تـحققها بعدد تلك الـموجودات.

ومثلـما نشاهد على وجه الارض آية الاحدية وسـمتها وختـم الرحـمة وطابعها، فان على سيـماء الـماهية الـمعنوية الانسانية أيضاً طابع الرحـمة.. هذا الطابع والـختـم ليس بأقل وضوحاً من ذلك الذي على وجه الارض، ولا من ذلك الذي على وجه الكائنات.. بل ان سـمة هذه الرحـمة لـها من الـجامعية والشمول حتى كأنها بؤرة لامـّة لأنوار تـجليات الاسـماء الـحسنى.

فيا أيها الانسان!

ان الذي وهب لك هذه السيـماء الـمعنوية، ووضع عليها الرحـمة وخَـتـمها بـختـم الاحدية، أمن الـمـمكن أن يتركك سدىً، ولا يكترث بك ولا يهتـم ولا يراقب أعمالك وحركاتك؟ أوَ من الـمـمكن أن يـجعل حركة جـميع الكائنات الـمتوجهة اليك عبثاً لا طائل من ورائها؟ أو يـجعل شجرة الـخلقة العظيـمة شجرة تافهة، وثمرتها ثمرة فاسدة؟ أم هل يـمكن أن يضع رحـمته الظاهرة ظهور الشمس - والتي لا تـحتـمل شكاً ولا ريباً – ويضع حكمته الواضحة وضوح النور، موضعَ الانكار والـجحود؟ كلا.. ثم كلا.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فيا أيها الانسان!

اعلـم ان لبلوغ عرش تلك الرحـمة معراجاً.. ذلك الـمعراج هو: ((بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم)).

فان شئت أن تعرف مدى أهمية هذا الـمعراج ومدى عظمته ومكانته فانظر الى مستهل سور القرآن الكريـم البالغة مائة واربع عشرة سورة، وانظر بدايات كل كتاب قيـم، ولاحظ بدء كل أمر ذي بال. حتى يُعدّ حجة قاطعة على عظمة البسـملة وعلو قدرها ما قالـه الامام الشافعي رضي الله عنه وأمثالـه من الـمـجتهدين العظام: ان البسـملة رغم أنها آية واحدة فانها نزلت في القرآن مائة وأربع عشرة مرة.

السر الرابع:

ان تـجلي الواحدية في مـخلوقاتٍ لا حدّ لـها، لا يـحيط به كلُ مَن يقول: } اياك نعبد{ . حيث يتشتت الفكر ويتيه في تلك الكثرة، اذ يلزم لـملاحظة ذات الله الأحد من خلال مـجـموعِ الـمـخلوقات لدى خطاب } اياك نعبدُ واياك نستعين{ وجود قلبٍ واسعٍ يسع الارض كلـها.

فبناءً على هذا السر الدقيق فإن الله سبـحانه يبيـّن بـجلاء طابعَ الأحدية في كل جزءٍ

مثلـما يُظهره في كل نوعٍ، وذلك لتُشَد الانظارُ الى ذات الله الأحد، وليتـمكن كلُ شخص – مهما بلغتْ مرتبته – من التوجـّه الـمباشر في خطابه } اياك نعبد واياك نستعين{ الى ذات الله الأقدس سبـحانه من دون تكلـّف أو صعوبة.

فتبياناً لـهذا السر العظيـم فان القرآن الكريـم عندما يبـحث في آيات الله في اجواء الآفاق وفي اوسع الدوائر اذ به يذكُر أصغَر دائرةٍ من دوائر الـمـخلوقات وأدق جزئيةٍ من جزئياتها، اظهاراً لطابع الأحدية بوضوح في كل شيء.

مثال ذلك:

عندما يبين القرآن الكريـم آيات خلق السـماوات والأرض يعقبها بآيات خلق الانسان وبيان دقائق النعمة في صوته وبدائع الـحكمة في ملامـحه، كي لا يتشتت الفكرُ في آفاق شاسعة، ولا يغرق القلبُ في كثرة غير متناهية، ولتبلغ الروحُ معبودها الـحق دون وساطة.

فالآية الكريـمة الآتية تبين الـحقيقة السابقة بياناً معجزاً:

} ومِنْ آياتِه خَلْقُ السـمواتِ والأرضِ واختلافُ ألـْسِنَتِكُم وألوانِكُم { (الروم:22).

وكذا فان آيات الوحدانية واختامَها مع انها قد وُضعت في الـمـخلوقات بكثرة غير متناهية، ابتداءً من أوسع الاختام واكثرها كلية الى اصغرها جزئية، في دوائر متداخلة وفي مراتب متنوعة وانواع شتى، الاّ أن وضوح هذه الاختام للوحدانية – مهما بلغ من الظهور – فهو وضوحٌ ضمن كثرةٍ من الـمـخلوقات لا يُوفي حقَّ الوفاء حقيقة الـخطاب في } اياك نعبد{ . لذا يلزم وجود طابع الأحدية في ثنايا ختـم الوحدانية، كي يفتـح الطريق امام القلب للوصول الى ذات الله الأقدس من دون ان يذكـّره بالكثرة.

ثم، لأجل لفت الانظار الى طابع الأحدية، وجلب القلوب نـحوها، فقد وضُع فوق تلك السـمة للأحدية نقشٌ بديعٌ في منتهى الـجاذبية، ونورٌ باهر في منتهى السطوع، وحلاوةٌ لذيذة في منتهى الذوق، وجـمالٌ مـحبوب في منتهى الـحسن، وحقيقة رصينة في منتهى القوة، تلك هي سـمة الرحـمة وختـم الرحيـمية.

نعم! ان قوة تلك الرحـمة هي التي تـجلب انظار ذوي الشعور نـحوها فُتوصلـها الى طابع الأحدية وتـجعلـها تلاحظ ذات الاحد الأقدس حتى تـجعل الانسان يـحظى بالـخطاب الـحقيقي في } اياك نعبد واياك نستعين{ .

وهكذا فـ ((بسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) من حيث انه فهرس لفاتـحة الكتاب الـمبين وخلاصة مـجـملة لـه، قد اصبـح عنواناً لـهذا السر العظيـم الـمذكور، وترجـماناً لـه، فالذي يتـمكن من أن ينال هذا العنوان يستطيع ان يـجول في طبقات الرحـمة، والذي يستنطق هذا الترجـمان يتعرف على اسرار الرحـمة ويتعلـمها ويشاهد أنوار الرحيـمية والرأفة.

السر الـخامس:

لقد ورد في حديث شريف ((ان الله خلق آدمَ على صورة الرحـمن))(1) أو كما قال e .

فسـَّرَ قسـم من اهل الطرق الصوفية هذا الـحديث الشريف تفسيراً عجيباً لا يليق بالعقائد الإيـمانية، ولا ينسجـم معها. بل بلغ ببعض من أهل العشق ان نظروا الى السيـماء الـمعنوي للانسان نظرتهم الى صورة الرحـمن! ولـما كان في اغلب اهل العشق حالة استغراقية ذاهلة والتباس في الامور، فلربـما يُعذَرون في تلقـّياتهم الـمـخالفة للـحقيقة. الاّ أن اهل الصحو، واهل الوعي والرشاد يرفضون رفضاً باتاً تلك الـمعاني الـمنافية لاسس عقائد الإيـمان، ولا يقبلونها قطعاً. ولو رضي بها أحدٌ فقد سقط في خطأ وجانَبَ الصواب.

نعم، ان الذي يدبر امور الكون ويهيـمن على شؤونه بسهولة ويسر كادارة قصر أو بيت.. والذي يـحرك النـجوم واجرام السـماء كالذرات بـمنتهى الـحكمة والسهولة.. والذي تنقاد اليه الذرات وتأتـمر بأمره وتـخضع لـحكمة..

نعم، ان الذي يفعل هذا كلـه هو الله القدوس سبـحانه.. فكما انه منزّه ومقدّس عن الشرك؛ فلا شريكَ لـه، ولا نظيرَ، ولا ضدّ ولا ندّ، فليس لـه قطعاً مثيلٌ ولا مثالٌ ولا شبيهٌ ولا صورةٌ ايضاً، وذلك بنص الآية الكريـمة: } ليس كَمِثْلـه شيءٌ وهو السـميعُ البَصيرُ { (الشورى:11) الاّ أن شؤونه الـحكيـمة وصفاته الـجليلة واسـماءه الـحسنى ينظر اليها بـمنظار التـمثيل والـمثَل حسب مضمون الآية الكريـمة: } ولـه الـمثَلُ الأعلى في السـموات والأرض وهو العزيزُ الـحكيـم{ (الروم:27), أي ان الـمثَل والتـمثيل واردٌ في النظر الى شؤونه الـحكيـمة سبـحانه.

ولـهذا الـحديث الشريف مقاصد جليلة كثيرة، منها: ان الانسان مـخلوق على صورة تُظهر تـجلي اسـم الله ((الرحـمن)) اظهاراً تاماً.

نعم، لقد بينا في الأسرار السابقة انه مثلـما يتـجلى اسـم ((الرحـمن)) من شعاعات مظاهر ألف اسـم واسـم من الأسـماء الـحسنى على وجه الكون، ومثلـما يُعْرَض اسـم ((الرحـمن)) بتـجليات لاتـحد للربوبية الـمطلقة على سيـماء الأرض، كذلك يُظهِر سبـحانه التـجلي الأتـم لذلك الأسـم ((الرحـمن)) في الصورة الـجامعة للأنسان، يُظهِر بـمقياس مصغر بـمثلِ ما يُظهره في سيـماء الأرض وسيـماء الكون بـمقياس اوسع واكبر.

وفي الـحديث الشريف اشارة كذلك الى ان في الانسان والاحياء من الـمظاهر الدالة على ((الرحـمن الرحيـم)) ما هو بـمثابة مرايا عاكسة لتـجلياته سبـحانه، فدلالة الانسان عليه سبـحانه ظاهرة قاطعة جلية، تشبه في قطعيتها وجلائها دلالة الـمرآة الساطعة بصورة الشمس وانعكاسها على الشمس نفسها. فكما يـمكن ان يقال لتلك الـمرآة: انها الشمس، اشارةً الى مدى سطوعها ووضوح دلالتها عليها، كذلك يصح أن يقال – وقد قيل في الـحديث – ان في الانسان صورة ((الرحـمن))، اشارة الى وضوح دلالته على اسـم ((الرحـمن)) وكمال مناسبته معه ووثوق علاقته به. هذا وان الـمعتدلين من اهل وحدة الوجود قد قالوا: ((لا موجود الاّ هو)) بناء على هذا السر من وضوح الدلالة، وعنواناً على كمال الـمناسبة.

اللهمَ يارحـمن يارَحِيـم بـحق ((بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) إرحـمنا كما يليق برحيـميتك، وفهـّمنا أسرار ((بِسـم الله الرَّحـمن الرَّحيـم)) كما يليق برحـمانيتك آمين.

السر السادس:

أيها الانسان الـمتقلب في خضم عجز لانهاية لـه وفقر لاحد لـه، اذا أردت أن تفهم كيف أن الرحـمة أعظم وسيلة وأرجى شفيع، فاعلـم:

أن الرحـمة أقوى وسيلة للوصول الى سلطان عظيـم ذي جلال، تنقاد لـه النـجوم والذرات معاً جنوداً مطيعين طاعة تامة في انتظام تام.. ذلك السلطان ذو الـجلال والاكرم رب العالـمين الـمستغني عن الـخلق أجـمعين، الكبير الـمتعالي عن الـموجودات، فلا حاجة لـه أصلاً الى الـموجودات، بل كل شيء قد تواضع لعظمته واستسلـم لقدرته وذل لعزته وخضع لـهيبة جلالـه.. فالرحـمة أيها الانسان ترفعك الى ديوان حضور ذلك الغني الـمطلق، وتـجعلك خليلاً لذلك السلطان السرمدي الاعظم، بل تعرج بك الى مقام خطابة الـجليل، وتـجعلك عبداً مكرماً مـحبوباً عنده.

ولكن، كما انك لا تصل الى الشمس لبُعدك عنها، بل لا يـمكنك التقرب اليها بـحال، فان ضوءها يُسِلـم اليك تـجليها وصورتها بواسطة مرآة.. (ولله الـمثلُ الأعلى) فنـحن على الرغم من بُعدّنا الـمطلق عن الله سبـحانه وتعالى، فان نور رحـمته يقربه الينا.

فيا ايها الانسان! ان من يظفر بهذه الرحـمة فقد ظفر بكنز عظيـم لا يفنى، كنزٍ ملؤه النور..

أما طريق الوصول الى ذلك الكنز العظيـم فاعلـم: ان اسطع مثالٍ للرحـمة، وأفضل مَن يـمثلـها، وأبلغَ لسانٍ ناطقٍ بها، وأكرم داعٍ اليها، هو الذي سـمي في القرآن الكريـم } رحـمة للعالـمين{ وهو رسولنا الـحبيب e . فالطريق الامثل لبلوغ تلك الـخزينة الابدية هو اتباع سنته الـمطهرة.

ولكن كيف الوصول الى الرسول الـحبيب e ، وما الوسيلة اليه؟

فاعلـم ان الوسيلة هي الصلاة عليه.

نعم! الصلاة عليه تعني الرحـمة، فالصلاة عليه دعاء بالرحـمة لتلك الرحـمة الـمـجسـمة الـحية، وهي وسيلة الوصول الى مَن هو رحـمة للعالـمين.

فيا أيها الانسان! اجعل الصلاة عليه وسيلة الوصول اليه، ثم استـمسك به ليبلغك رحـمة الرحـمن الرحيـم. فان الامة جـميعها بدعائها وصلواتها على الرسول الكريـم e انـما تثبت بوضوح مدى قيـمة هذه الرحـمة ومدى أهمية هذه الـهدية الإلـهية، ومدى سعتها وعظمتها.

الـخلاصة:

ان حاجب خزينة الرحـمة الإلـهية وأكرم داع اليها هو الرسول الكريـم e كما أن أسـمى مفتاح لتلك الـخزينة هو ((بسـم الله الرحـمن الرحيـم)) واسلس ما يفتـحها هو الصلوات على الرسول الـحبيب e .

اللهم بـحق اسرار بسـم الله الرحـمن الرحيـم صلِّ على مَن أرسلته رحـمة للعالـمين كما يليق برحـمتك وبـحرمته وعلى آلـه وأصحابه أجـمعين، وارحـمنا رحـمة تغنينا عن رحـمة من سواك من خلقك.. آمين.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #12
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة الـخامسة عشرة

وهي فهارس كليات رسائل النور: الكلـمات، الـمكتوبات، واللـمعات – الى اللـمعة الرابعة عشرة – وحيث أن كل مـجـموعة خصـّت بفهرستها لذا لـم تدرج هنا.

اللـمعة السادسة عشرة

باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته!

اخوتي الأعزاء الصدّيقين: العالـم صبري، الـحافظ علي، مسعود، الـمصطفون، خسرو، رأفت، بكر بك، رشدي، لطفيون، الـحافظ احـمد، الشيـخ مصطفى وآخرون.

لقد احسست احساساً قلبياً أن أبيـّن لكم باختصار أربع مسائل صغيرة ولكنها مهمة، تلك التي اصبـحت موضع تساؤل.. ابيـّنها لكم للعلـم والاطلاع.

السؤال الاول الـمثير:

أخبر احد اخواننا وهو السيد عبدالله جابرازادة كما اخبر أناس آخرون ايضاً عن أن اهل الكشف قد قالوا بـحدوث بشارات وفتوح لاهل السنة والـجـماعة وتكشف عنهم الغمة في رمضان الـماضي، ولكن لـم يظهر شيء من هذا القبيل!

فسألوني: كيف يـخبر امثال هؤلاء من اهل الولاية والكشف عما هو خلاف الواقع؟

وخلاصة ما اجبتهم مباشرةً، وهو من سوانـح القلب، هي:

لقد ورد في الـحديث الشريف ما معناه: ان البلاء ينزل وتقابلـه الصدقة فتردّه(1).

يتبين من هذا الـحديث الشريف: ان الـمقدرات عندما تأتي من الغيب للوقوع، تأتي مرتبطة ببعض الشروط. فتتأخر عن الوقوع بتأخر الشروط. فتتأخر ايضاً الـمقدّرات التي اطلع عليها الاولياء من اصحاب الكشف اذ ليست مقدرات مطلقة، بل مقيدة ببعض الشروط، فلعدم حدوث تلك الشروط لا تقع تلك الـحادثة. إذ تلك الـحادثة كالأجل الـمعلق، قد كتبت في لوح الـمـحو والاثبات، الذي هو نوع من انواع سجل اللوح الازلي. فالكشف قلـما يرقي الى اللوح الازلي، بل لا يستطيع معظم الكشوف الرقي الى هناك. فبناءً على هذا:

ان الاخبار التي اُخبرت عنها في شهر رمضان الفائت وعيد الاضحى وفي اوقات اخرى، وبناء على الاستنباط أو بنوع من الكشفيات، لـم تـجد شروطها الـمعلقة بها، لذا لـم تأت الى ميدان الواقع. فالـمـخبرون عنها لا يُكذّبون، لأن تلك الـحوادث كانت مقدّرة، الاّ انها لا تقع الاّ بـمـجيء شروطها، واذ لـم تأت الشروط فلا تقع الـحادثة.

نعم! ان الدعاء الـخالص الذي يرفعه معظم اهل السنة والـجـماعة في رمضان الـمبارك دفعاً للبدع، كان شرطاً وسبباً مهماً لـه، ولكن دخول البدع في الـجوامع في الشهر الـمبارك مع الاسف حجبت الاستـجابة والقبول، فلـم تفرج الكربة ولـم تكشف الغمة؛ اذ كما تدفع الصدقةُ البلاءَ – بدلالة الـحديث الشريف – فالدعاء الـخالص من الاكثرين يـجذب الفرج العام الشامل. ولكن لأن القوة الـجاذبة لـم تأتِ الى الوجود، فلـم توهب الفرج والفتـح.

السؤال الثاني الـمثير:

بينـما كان ينبغي القيام بـمـحاولة، والشروع بتدبير، ازاء وضع سياسي مهيـج، في غضون هذين الشهرين، إذ كانت تؤدي تلك الـمـحاولة – باحتـمال قوي – الى ما يفرحني ويدخل البهجة في قلوب الكثيرين من اخوتي الـمقربين؛ لـم أعبأ بذلك الوضع، بل قمت خلافاً لـه احـمل فكراً في صالـح اهل الدنيا الذين يضايقونني! فظلّ البعض في حيرة مضاعفة من امري، اذ قالوا: ان السياسة التي يتبعها ضدك هذا الـمبتدع وثلة من الـمنافقين الرؤساء، كيف تـجدها حتى لا تهاجـمها؟

وخلاصة جوابي:

ان اعظم خطر على الـمسلـمين في هذا الزمان هو فساد القلوب وتزعزع الإيـمان بضلال قادم من الفلسفة والعلوم. وان العلاج الوحيد لإصلاح القلب وانقاذ الإيـمان انـما هو النور واراءة النور. فلو عُمل بهراوة السياسة وصولـجانها واُحرز النصر، تدنى اولئك الكفار الى درك الـمنافقين. والـمنافق – كما هو معلوم – أشد خطراً من الكافر وأفسد منه. فصولـجان السياسة اذاً لا يصلـح القلب في مثل هذا الوقت، حيث يُنزل الكفر الى اعماق القلب ويتستر هناك وينقلب نفاقاً.

ثم ان شخصاً عاجزاً مثلي، لا يـمكنه ان يستعمل النور والـهراوة معاً في هذا الوقت، لذا فانا مضطر الى الاعتصام بالنور بـما املك من قوة، فيلزم عدم الالتفات الى هراوة السياسة اياً كان نوعها. أما ما يقتضيه الـجهاد الـمادي، فتلك الوظيفة ليست مناطة بنا حالياً. نعم! ان الـهراوة هي لوقف تـجاوز الكافر أو الـمرتد عند حدّه، ولكن لا نـملك سوى يدين، بل لو كانت لنا مائة من الايدي ما كانت تكفي الاّ للنور فلا يد لنا تـمسك بهراوة السياسة.

السؤال الثالث الـمثير:

ان هجوم الاجانب كانكلترا وايطاليا على هذه الـحكومة في الآونة الأخيرة يؤدي الى إثارة الـحـمية الإسلامية وهي ركيزة حقيقية ومنبع قوة معنوية لـحكومات خلت في هذا الوطن منذ أمد بعيد وستصبـح وسيلة لإحياء الشعائر الإسلامية – الى حدٍ ما – ولدفع شيء من البدع.. فلـم عارضتَ هذه الـحرب بشدة وسألت الله أن تـحل القضية بسلام وأمان. فقد اصبـحت منـحازاً لـحكومة الـمبتدعين، وهذا بذاته وبنتائجه موالاة للبدع!؟

الـجواب: نـحن نسأل الله الفرج والبشارة والسرور والفتـح، ولكن ليس بسيف الكفار.. فسحقاً لسيوفهم ولتكن وبالاً عليهم. نـحن لسنا بـحاجة ولا نرجو الفائدة من سيوفهم، لأن اولئك الاجانب الـمتـمردين هم الذين سلطوا الـمنافقين على أهل الأيـمان، وهم الذين ربّوا الزنادقة في احضانهم.

أما مصيبة الـحرب وبلاؤها، فهي ضرر بالغ لـخدمتنا القرآنية، لأن معظم اخواننا العاملين الـمضحين الفضلاء لا يتـجاوز اعمارهم الـخـمس والاربعين سنة، فيضطرون الى الذهاب للـحرب تاركين الـخدمة القرآنية الـمقدسة. ولو أن لي مبلغاً من الـمال، لكنت ادفعه – بكل رضاي – لأجل انقاذ هؤلاء الاخوة الاكارم، حتى لو كان البدل النقدي ألف ليرة! ان انـخراط مئات من اخواننا العاملين في الـجندية، ومزاولتهم الـجهاد الـمادي خسارة فادحة لـخدمتنا، أشعر أنها تعدل اكثر من مائة ألف ليرة. بل ان ذهاب ((ذكائي)) الى الـجندية خلال السنتين الـماضيتين، أفقدنا اكثر من ألف ليرة من الفوائد الـمعنوية.

وعلى كل حال فان القدير ذا الـجلال الذي يطهـّر وجه السـماء الـملبـّد بالغيوم ويبرز الشمس الساطعة في وجه السـماء اللامع خلال دقيقة واحدة، هو القادر ايضاً على ان يزيل هذه الغيوم السوداء الـمظلـمة الفاقدة للرحـمة، ويُظهر حقائق الشريعة كالشمس الـمنيرة بكل يسر وسهولة وبغير خسارة.

اننا نرجو هذا من رحـمته الواسعة، ونسألـه سبـحانه الاّ يكـّلفنا ذلك ثمناً غالياً. وان يـمنـح رؤوس الرؤساء العقل ويهب لقلوبهم الإيـمان. وهذا حسبنا، وحينها تتعدل الامور بنفسها وتستقيـم.

السؤال الرابع الـمثير:

يقولون: ما دام الذي في ايديكم نور، وليس هراوة وصولـجاناً، فالنور لايُعارض ولايُهرب منه، ولا ينـجـم من إظهاره ضرر، فلـم اذاً توصون اصدقاءكم بأخذ الـحذر وتـمنعونهم من ابراز رسائل نيّرة كثيرة للناس كافة؟.

مضمون جواب هذا السؤال باختصار هو:

ان رؤوس كثير من الرؤساء مـخـمورة، لا يقرأون، واذا قرأوا لا يفهمون، فيؤولونه الى معنى خطأ، ويعترضون ويهاجـمون. لذا، وللـحيلولة دون الـهجوم ينبغي عدم اظهار النور لـهم لـحين افاقتهم واسترجاع رشدهم.

ثم ان هناك غير منصفين كثيرين، ينكرون النور، أو يغمضون اعينهم دونه، لاغراض شخصية خاصة، أو خوفاً أو طعماً..

ولأجل هذا اوصى اخوتي ايضاً ليأخذوا حذرهم ويـحتاطوا للأمر، وعليهم الاّ يعطوا الـحقائق احداً من غير اهلـها، والاّ يقوموا بعمل يثير اوهام اهل الدنيا وشبهاتهم عليهم(1).

























خاتـمة

تسلـمت اليوم رسالة من السيد رأفت، ولـمناسبة سؤالـه عن اللـحية النبوية الشريفة اقول: انه ثابت في الـحديث الشريف: ان عدد الشعرات التي سقطت من لـحيته الشريفة e مـحدود، وهو عدد قليل، يتراوح بين ثلاثين الى اربعين، أو لا يتـجاوز الـخـمسين والستين من الشعرات، ولكن وجود الشعرات في الوف الاماكن، استوقفني ودفعني الى التأمل والتفكر في حينه، فورد الى خاطري في ذلك الوقت:

ان شعرات اللـحية الشريفة الـموجودة الآن – في كل مكان – ليست هي شعرات اللـحية الشريفة وحدها، بل ربـما شعرات من رأسه الـمبارك e ، اذ الصحابة الكرام الذين ما كانوا ليضيعوا شيئاً منه e قد حافظوا على تلك الشعرات الـمنورة الـمباركة – كلـما حلق – والتي تبقى دائماً، فتلك الشعرات تربو على الألوف وهذا يـمكن ان يكون مكافئاً للـموجود الـحاضر.

وورد ايضاً الى خاطري: تُرى هل الشعر الـموجود في كل جامع بسند صحيـح هو ثابت ايضاً انه من شعره e حتى تكون زيارتنا لـه معقولة؟

فسنـح ببالي فجأة: ان زيادة تلك الشعرات انـما هي وسيلة، وهي سبب لقراءة الصلوات على الرسول الكريـم e ، وهي مدار مـحبته وتوقيره. فلا تُنظر الى ذات الوسيلة، وانـما الى جهة كونها وسيلة، لذا فإن لـم تكن هي شعرة حقيقية من شعراته e فهي تؤدي وظيفة تلك الوسيلة ما دامت تـحسب – في الظاهر – هكذا، وتلقاها الناس شعره من شعراته e . فتكون تلك الشعره وسيلة لتوقيره e ومـحبته واداء الصلوات عليه، فلا يلزم السند القطعي لتشخيص ذات الشعر وتعينيه بل يكفي الاّ يكون هناك دليل قاطع بـخلافه، لأن ما يتلقاه الناس وما قبلته الامة ورضيت به يكون في حكم نوع من الـحجة. وحتى لو اعترض بعض اهل التقوى على مثل هذه الامور سواءً من جهة التقوى أو الأخذ بالاحوط أو العمل بالعزيـمة فانـما يعترضون على شعرات خاصة، ولو قيل انها بدعة، فانها داخلة ضمن البدعة الـحسنة، لأنها الوسيلة للصلوات على الرسول الكريـم e .

ويقول السيد رأفت في رسالته: ((ان هذه الـمسألة قد اصبـحت مثار الـمناقشة بين الاخوان)). فاوصي اخواني: الاّ يناقشوا فيـما يـمكن ان ينـجـم عنه الانشقاق والافتراق، وانـما عليهم أن يتعلـموا تباحث الامور من دون نزاع، وعلى نـمط التداول في الافكار.

باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخوتي الاعزاء من ((سنركنت))(1) السادة: ابراهيـم، شكري، الـحافظ بكر، الـحافظ حسين، الـحافظ رجب.

ان الـمسائل الثلاث التي ارسلتـموها بيد الـحافظ توفيق، يعترض عليها الـملـحدون منذ أمد بعيد:

اولاها: ان الـمعنى الظاهري لقولـه تعالى:

} حتى اذا بَلَغَ مَغْربَ الشَمْس وَجَدَها تَغْرُبُ في عَينٍ حـمئةٍ {

(الكهف:86)

هو: انه رأى غروب الشمس في ماء عينٍ ذي طين وحرارة.

ثانيتها: اين يقع سد ذي القرنين؟

ثالثتها: نزول سيدنا عيسى عليه السلام وقتلـه الدجال في آخر الزمان.

ان اجوبة هذه الاسئلة طويلة، الاّ اننا نشير اليها باختصار فنقول:

ان آيات القرآن الكريـم مبينة على اساليب اللغة العربية، وبوجه يفهمه عموم الناس بظاهر النظر، لذا كثيراً ما بينت الـمسائل بالتشبيه والتـمثيل.

فقولـه تعالى: } تَغْرُبُ في عَينٍ حـمئةٍ {

يعني: ان ذا القرنين قد شاهد الشمس تغرب في ما يشبه عيناً موحلة وحامية، عند ساحل البـحر الـمـحيط الغربي، أو شاهد غروبها في عين جبل بركاني ذي لـهيب ودخان.

أي انه شاهد في ظاهر النظر غروبها في سواحل البـحر الـمـحيط الغربي، وفي جزء منه الذي تراءى لـه من بعيد كأنه بُركة او حوض عينٍ واسعة، فشاهد غروبها الظاهري خلف الابـخرة الكثيفة الـمتصاعدة من مياه الـمستنقعات الواقعة عند سواحل البـحر الـمـحيط الغربي، لشدة حرارة شمس الصيف.. او شاهد اختفاء الشمس – التي هي عين السـماء (1)– في عين ملتهبة انفلقت حديثاً على قمة جبل بركاني تقذف بـحـمـمها مازجة التراب والصخور والـمعادن السائلة.

نعم ان تعابير القرآن الكريـم البليغة الـمعجزة ترشد بهذه الـجـملة الى مسائل كثيرة:

فاولاً ان سياحة ذي القرنين كانت الى جهة الغرب.. وفي وقت عزّ الـحر.. ونـحو الـمستنقعات.. وموافقتها أوان غروب الشمس.. وحين انفلاق جبل بركاني.. كل هذا تشير به الآية الكريـمة الى مسائل مليئة بالعبر منها استيلاء ذي القرنين على افريقيا استيلاءً تاماً.

ومن الـمعلوم ان الـحركة الـمشهورة للشمس انـما هي حركة ظاهرية، وهي دليل على حركة الارض الـخفية – غير الـمـحسوس بها – وهي تـخبر عن تلك الـحركة. وليس الـمراد حقيقة الغروب(2).

ثم ان كلـمة ((عين)) انـما هي للتشبيه، اذ البـحر العظيـم يُرى من بعيد كحوض صغير، فتشبيه البـحر الـمشاهد من خلف الضباب والابـخرة الـمتولدة من الستنقعات والبرك بلفح الـحرارة بـ((عين حـمئة)) أي عين تنبع من طين، وكذا استعمال كلـمة ((عين)) التي تعني في اللغة العربية: الينبوع والشمس والبصر، ينطوي على سرّ بلاغي دقيق وعلاقة وثيقة(3).

فكما بدا الغروب لنظر ذي القرنين من بُعد هكذا. فان الـخطاب القرآني النازل من العرش الاعظم الـمهيـمن على الاجرام السـماوية، حرىّ بهذا الـخطاب السـماوي ومنسجـم مع عظمته ورفعته قولـه بأن الشمس الـمسخرة سراجاً في مضيف رحـماني، تـختفي في ((عين)) ربانية وهي البـحر الـمـحيط الغربي، معبراً باسلوبه الـمعجز ان البـحر ((عين)) حامية. نعم هكذا يبدو البـحر للعيون السـماوية.

حاصل الكلام:

ان التعبير بـ((عين حـمئة)) للبـحر الـمـحيط الغربي انـما هي بالنسبة لذي القرنين الذي رأى من بُعد ذلك البـحر العظيـم كأنه عين ماء. أما النظر القرآني الذي هو قريب الى كل شيء، فلا ينظر نظر ذي القرنين من بعيد الذي يداخلـه خداع البصر، بل لانه نزل من السـماء مطلعاً عليها، ولانه يرى الارض ميداناً او قصراً واحياناً مهداً او صحيفة، فان تعبيره بـ((عين)) للبـحر العظيـم وهو الـمـحيط الاطلسي الغربي الـمغطى بالضباب والابـخرة انـما يبين علوه ورفعته وسـموه وعظمته.

سؤالكم الثاني:

اين يقع سد ذي القرنين؟ ومَن يأجوج ومأجوج؟

الـجواب: لقد كتبت سابقاً رسالة حول هذه الـمسألة، فألزمت الـحجة ملاحدة ذلك الوقت. إلاّ انني لا املك تلك الرسالة، فضلاً عن ان حافظتي لاتـمدني بشيء فقد عطلت اشغالـها. علاوة على أن هذه الـمسألة قد تطرق اليها ((الغصن الثالث من الكلـمة الرابعة والعشرين)) لـهذا نشير اشارة في غاية الاختصار الى نكتتين او ثلاث فحسب تعود الى هذه الـمسألة وهي:

انه بناءً على ما بيـّنه اهل العلـم الـمـحققون، وابتداء اسـماء عدد من ملوك اليـمن بكلـمة ((ذي)) – كذي يزن – وما يشير اليه عنوان ((ذي القرنين)) فان ذا القرنين هذا ليس هو الاسكندر الرومي (الـمقدوني) وانـما هو احد ملوك اليـمن الذي عاصر سيدنا ابراهيـم عليه السلام وتلقى الدرس من سيدنا الـخضر عليه السلام. بينـما جاء الاسكندر الرومي قبل الـميلاد بـحوالي ثلاثمائة سنة ودرس على يد ارسطو.

ان التاريـخ الذي دوّنه الانسان يضبط الـحوادث الى حد ما قبل ثلاثة آلاف عام. لذا فان نظر هذا التاريـخ الناقص القاصر لا يستطيع ان يـحكم بصواب على حوادث ما قبل زمن سيدنا ابراهيـم عليه السلام، فإما يذكرها مشوبة بالـخرافات، أو ينكرها او يوردها باختصار شديد.

أما سبب اشتهار ((ذي القرنين)) اليـماني هذا في التفاسير بالاسكندر، فيعود الى:

أن احد اسـماء ذي القرنين هو الاسكندر، فهو الاسكندر الكبير، والاسكندر القديـم. او نظراً لأن القرآن الكريـم لدى ذكره لـحادثة جزئية يذكرها لكونها طرفاً لـحوادث كلية، فان الاسكندر الكبير الذي هو ذو القرنين؛ مثلـما اسس سدّ الصين الشهير بارشاداته النبوية بين الاقوام الظالـمة والـمظلومة وليصدّ عنهم غاراتهم فان قواداً عظاماً عديدين كالاسكندر الرومي وملوكاً اقوياء اقتدوا بذي القرنين – في الـجهة الـمادية – وان قسـماً من الانبياء والاقطاب الاولياء – وهم ملوك معنويون للانسانية، ساروا على اثره في الـجهة الـمعنوية والارشاد.. فهؤلاء اسسوا السدود بين الـجبال(1) التي هي من الوسائل الـمهمة لإنقاذ الـمظلومين من شر الظالـمين. ثم بنوا القلاع في قمـم الـجبال، فشيـّدوا تلك الـموانع إما بقوتهم الـمادية الذاتية أو بارشاداتهم وتوجيهاتهم وتدابيرهم. حتى بنوا الاسوار حول الـمدن والـحصون في اواسطها، الى ان بلغ الامر الى استعمال وسيلة أخيرة هي الـمدافع الثقيلة والـمدرعات الشبيهة بالقلاع السيارة.

فذلك السد الذي بناه ذو القرنين وهو اشهر سد في العالـم ويبلغ طولـه مسيرة ايام انـما بناه ليصد به هجـمات اقوام شريرة اطلق عليهم القرآن الكريـم اسـم يأجوج ومأجوج ويعبر عنهم التاريـخ بقبائل الـمانـجور والـمغول الذين دمـّروا الـحضارة البشرية مرات ومرات. وظهروا من وراء جبال هملايا فأهلكوا العباد وخرّبوا البلاد شرقاً وغرباً. فصار ذلك السد الـمبني بين جبلين قريبين من سلسلة هملايا مانعاً امام هجـمات هؤلاء الاقوام الـهمـجية، وحائلاً دون غاراتهم العديدة على الـمظلومين في الصين والـهند.. ومثلـما اسس ذو القرنين هذا السد فقد بنيت سدود كثيرة اخرى بهمة ملوك ايران القدماء في جبال القفقاس في منطقة الـمضيق صداً للنهب والسلب والغارات التي امتهنتها اقوام التتر. وهناك سدود كثيرة من هذا النوع.

فالقرآن الكريـم لأنه يـخاطب البشرية كافةً، فانه يذكر ظاهراً حادثة جزئية ويذكـّر بها احداثاً مشابهة لـها.

فمن زاوية النظر هذه تـختلف الروايات واقوال الـمفسرين حول السد ويأجوج ومأجوج.

ثم ان القرآن الـحكيـم قد ينتقل من حادثة الى اخرى بعيدة عنها وذلك من حيث الـمناسبات الكلامية وعلاقاتها. فالذي لا يعرف هذه العلاقات يظن ان زمانَي الـحادثتين قريبان. وهكذا فإخبار القرآن عن قيام الساعة عقب خراب السد، ليس هو لقرب الزمان، وانـما لأجل نكتتين من حيث الـمناسبات الكلامية، أي: كما ان هذا السد سيُدمر فستدمـّر الدنيا كذلك.

ثم ان الـجبال التي هي سدود فطرية إلـهية راسخة وقوية لا تُنسف الاّ بقيام الساعة، فهذا السد ايضاً قوي كالـجبال لا يدكّ الاّ بقيام الساعة، وسيبقى الكثير منه ويدوم حتى لو عملت فيه عوامل التغيير على مدى الزمان من خراب وهدم.

نعم! ان سد الصين الذي هو فرد من كلية سد ذي القرنين ما زال باقياً مشاهداً على الرغم من مرور الوف السنين، وانه يُقرأ كسطر طويل كـُتب بيد الانسان على صحيفة الارض، يـُقرأ سطراً مـجسـماً متـحجراً ذا مغزى من التاريـخ القديـم.

سؤالكم الثالث:

وهو حول قتل عيسى عليه السلام للدجال. ففي ((الـمكتوب الاول والـخامس عشر)) جواب شافٍ لكم وهما في غاية الاختصار.















باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخويّ الوفيين الصدّيقين الـمضحيين العزيزين: العالـم صبري، والـحافظ علي.

ان سؤالكما الـمهم حول الـمغيبات الـخـمسة الـموجودة في ختام سورة لقمان، يـحتاج الى جواب في غاية الاهمية، الاّ أنني – مع الاسف – اعاني من حالة روحية واحوال مادية.. تـحول بيني وبين الـجواب الشافي. ومع هذا سأشير اشارة فحسب، في غاية الاجـمال الى بضع نقاط يتعلق بها سؤالكما:

ان فحوى سؤالكما هذا هو ان الـملـحدين يعترضون على كون وقت نزول الغيث ونوعية الـجنين في الرحـم من الـمغيبات الـخـمسة فينتقدون قائلين: ان وقت نزولـه يُكشف عنه في الـمراصد الـجوية، فاذن يعلـمه كذلك غيرُ الله، وان جنس الـجنين في رحـم الام يـمكن معرفته، ذكراً كان أم انثى باشعة رونتكن. بـمعنى انه يـمكن الاطلاع على الـمغيبات الـخـمسة!

الـجواب: لـما كان وقت نزول الغيث غير مرتبط بقاعدة مطردة، فانه يرتبط مباشرة بالـمشيئة الإلـهية الـخاصة، ويتبع الارادة الإلـهية الـخاصة، فينزل من خزينة رحـمته تعالى دون وساطة. وإن سرّ حكمته هو الآتي:

ان اهم حقيقة في الكون واثمن ماهية فيه هي الوجود، الـحياة، النور، الرحـمة وان هذه الاربعة متوجهة مباشرة ودون وسائط وحجب الى القدرة الإلـهية ومشيئتها الـخاصة، بينـما تـحجب الاسباب الظاهرة في الـمصنوعات الإلـهية الاخرى تصرّف القدرة الإلـهية، وتستر القوانين الـمطردة والقواعد الثابتة – الى حدٍ ما – الارادة الإلـهية ومشيئتها، الاّ ان تلك الـحجب والاستار لـم توضح امام الـحياة والنور والرحـمة؛ لعدم جريان حكمة وجودها في تلك الامور.

وحيث ان الرحـمة والـحياة اهم حقيقتين في الوجود، وان الغيث منشأ الـحياة ومدار الرحـمة بل هو عين الرحـمة، فلابد الاّ تكون الوسائط حجباً أمامها، ولابد الاّ تستر القاعدة الـمطردة الـمشيئة الإلـهية الـخاصة بها، وذلك ليضطر كل فرد في كل وقت، وفي كل امر الى الشكر واظهار العبودية والى السؤال والتضرع والدعاء؛ اذ لو كانت تلك الامور على وفق قاعدة معينة لانسدّ باب الشكر والرجاء منه تعالى استناداً الى القاعدة الـمطردة. فطلوع الشمس مع ما فيه من منافع معلومة، لانه مرتبط بقاعدة معينة، فلا يُسأل الله سبـحانه عن طلوعها ولا يشكر عليه شكراً خاصاً ولا يعدّ ذلك من امور الغيب، لأن البشر يعرفون بالعلـم الذي توصلوا اليه وبوساطة تلك القاعدة موعد شروق الشمس غداً.

ولكن جزئيات الغيث ليست مرتبطة بقاعدة معينة، لذا يضطر الناس في كل وقت الى التضرع والتوسل الى رحـمته تعالى. ولـما كان علـم البشر، لا يستطيع ان يـحدد وقت نزول الغيث، فقد تلقاه الناس نعمة خاصة لا تصدر الاّ من خزينة الرحـمة الإلـهية، فيشكرون ربهم شكراً حقيقياً عليها. وهكذا فهذه الآية الكريـمة تُدخل وقت نزول الغيث بين الـمغيبات الـخـمسة من هذه الزاوية التي ذكرناها. أما الاحساس بالاجهزة في الـمراصد عن مقدمات وقت نزولـه، ومن ثم تعيين وقته فهذا ليس علـماً بالغيب، بل هو علـم بالاطلاع على بعض مقدمات نزولـه حينـما يقترب الى عالـم الشهادة بعد صدوره من الغيب، مثلـما يُعلـم بنوع من احساس مسبق أخفى الامور الغيبية حينـما تـحصل، أو بعد قربه من الـحصول ولا يعدّ ذلك معرفة بالغيب، وانـما هو معرفة بذلك الـموجود، او بالـمقرّب الى الوجود.

حتى انني اشعر احياناً بشعور مرهف في اعصابي، بـما سيأتي من الغيث قبل مـجيئه باربع وعشرين ساعة. بـمعنى ان الغيث مقدمات ومبادىء، فتلك الـمبادىء تبدي نفسها على صورة رطوبة تُشعر ما وراءها من الغيث، فيكون هذا الـحال وسيلة لوصول علـم البشر كالقاعدة الـمطردة، الى امور قد صدرت عن الغيب وخرجت منه ولـمـّا دخلت الى عالـم الشهادة.

اما معرفة نزول الغيث الذي لـم يطأ قدمه عالـم الشهادة، ولـم يـخرج بعدُ من الرحـمة الإلـهية الـخاصة بـمشيئتها الـخاصة، فانـما هو خاص بعلـم علام الغيوب.

بقيت الـمسألة الثانية التي هي:

معرفة جنس الـجنين في رحـم الام باشعة رونتكن، هذه الـمعرفة لا تنافي قطعاً ما تفيده الآية الكريـمة: } ويَعْلـم مَا في الأرحَام { (لقمان:34) من معنى الغيب. لأن الـمراد من العلـم الـمذكور فيها لا ينـحصر في ذكورة الـجنين وانوثته وانـما الـمراد منه معرفة الاستعدادات البديعة الـخاصة بذلك الطفل والتي هي مبادىء الـمقدرات الـحياتية، وهي مدار ما سيكسبه في الـمستقبل من اوضاع. وحتى معرفة ختـم الصمدية وسكتها الرائعة البادية على سيـماه.. كلـها مرادة في ذلك الـمعنى بـحيث ان العلـم بالطفل وبهذه الوجوه من الامور خاص بعلـم علام الغيوب وحده، فلو اتـحدت مئات الالوف من افكار البشر النافذة كأشعة رونتكن لـما كشفت ايضاً عن ملامـح الطفل الـحقيقية في وجهه وحده تلك الـملامـح التي تـحـمل من العلامات التي تفرقها وتـميزها عن كل فرد من افراد البشرية قاطبة، فكيف اذن يـمكن كشف السيـماء الـمعنوية في استعداداته وقابلياته التي هي خارقة بـمئات الالوف من الـمرات عن ملامـح الوجه!

ولقد قلنا في الـمقدمة: ان الوجود والـحياة والرحـمة من اهم حقائق الكون ولـها اعلى مقام ومرتبة فيه. لذا تتوجه تلك الـحقيقة الـحياتية الـجامعة بـجـميع دقائقها ولطائفها الى ارادة الله الـخاصة ورحـمته الـخاصة ومشيئته الـخاصة.

واحد اسرار ذلك هو ان الـحياة بـجـميع اجهزتها منشأ للشكر، ومدار للعبادة والتسبيـح، ولذلك لـم توضع دونها القاعدة الـمطردة التي تـحجب رؤية الارادة الإلـهية الـخاصة ولا الوسائط الظاهرية التي تستر رحـمته الـخاصة سبـحانه.

ان الله سبـحانه وتعالى تـجليين اثنين في سيـماء الـجنين الـمادي والـمعنوي.

الاول:

يدل على وحدته سبـحانه وأحديته وصمديته، اذ الـجين يشهد على وحدانية خالقه وصانعه بتطابق اعضائه الاساس وتوافق اجهزته الانسانية مع سائر البشر. فذلك الـجنين ينادي بصراحة هذا اللسان قائلاً: من الذي وهب لي هذه السيـماء في الاعضاء هو ذلك الصانع الذي وهب لـجـميع البشر الذين يشبهونني في أساسات الاعضاء. وهو سبـحانه صانع جـميع ذوي الـحياة.

فهذا اللسان الذي يدل به الـجنين على الصانع الـجليل ليس لساناً غيبياً، بل هو معلوم يـمكن معرفته والوصول اليه، حيث انه يتبع قاعدة مطردة ويسير على وفق نظام معين ويستند الى نوعية الـجنين، فهذا العلـم لسان ناطق وغصن قد تدلى من عالـم الغيب الى عالـم الشهادة.

الـجهة الثانية:

وهي ان الـجنين ينادي بلسان سيـماء استعداداته الـخاصة وسيـماء وجهه الشخصية فيدل على اختيار صانعه ومشيئته الـمطلقة وارادته الـخاصة ورحـمته الـخاصة. فهذا اللسان لسان غيبي آت من هناك، فلا يستطيع ان يراه احد قبل وجوده غير العلـم الازلي، ولا يـمكن ان يـحيط به سواه. فبـمشاهدة جهاز من الف جهاز من سيـماء الـجنين في الرحـم، لا يُعلـم هذا الانسان.

الـحاصل:

ان سيـماء الاستعدادات في الـجنين، وسيـماء وجهه دليل الوحدانية وحجة الاختيار والارادة الإلـهية.

وستكتب إن وفق الله تعالى بضع نكات حول الـمغيبات الـخـمسة. اذ لا يسـمـح الوقت الـحاضر ولا حالتي باكثر من هذا. واختـم كلامي.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي



















باسـمه سبـحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ{ (الاسراء:44)

السلام عليكم ورحـمة الله وبركاته

اخي العزيز الصدّيق الـمتلـهف رأفت بك!

أنك تسأل في رسالتك عن اللطائف العشر، وحيث أنني لست في حالة تدريس الطريقة الصوفية، ولعلـماء الطريقة النقشبندية مؤلفات تـخص اللطائف العشر، وان وظيفتنا في الوقت الـحاضر هي استـخراج الاسرار القرآنية واستنباطها، لا نقل الـمسائل الـموجودة في بطون الكتب! فلا تـمتعض من عدم استطاعتي تقديـم التفاصيل. إِلاّ انني اقول:

ان الامام الرباني قد عبـّر عن اللطائف العشر بالقلب والروح والسر والـخفي والأخفى. وذكر ان لكل عنصر من العناصر الاربعة في الانسان لطيفة انسانية ملائمة ومنسجـمة معه. وذكر اجـمالاً عن رقي كل لطيفة من تلك اللطائف واحوالـها في كل مرتبة اثناء السير والسلوك. وبالنسبة لي ارى أن لطائف كثيرة مندرجة في ماهية الانسان الـجامعة وفي استعداده للـحياة الاّ ان عشراً منها قد اشتهرت حتى أن الـحكماء والعلـماء الظاهريين ايضاً قد جعلوا تلك اللطائف العشر اساساً لـحكمتهم في صورة اخرى حيث قالوا: أن الـحواس الـخمس الظاهرة نوافذ أو نـماذج لـحواس خـمس باطنة. حتى ان ما اشتهر لدى العوام والـخواص من لطائف الانسان العشر منسجـمة مع اللطائف العشر لدى ارباب الطرق الصوفية. فمثلاً: الوجدان والاعصاب والـحس والعقل والـهوى والقوى الشهوية والقوة الغضبية، اذا الـحقت هذه اللطائف بالقلب والروح والسر، تُظهر اللطائف العشر في صورة اخرى. وهناك لطائف اخرى كثيرة غير هذه اللطائف، امثال: السائقة، الشائقة، الـحس قبل الوقوع.

فلو كتبت حقيقة هذه الـمسألة لطالت كثيراً، لذا اضطر الى قطع التفاصيل نظراً لضيق وقتي.

اما سؤالك الثاني الذي يتعلق ببـحث الـمعنى الاسـمي والـمعنى الـحرفي، فمثلـما اشارت كتب النـحو عامة اليه في بداياتها، فقد وضحته توضيـحاً كافياً بالامثلة كتب علـم الـحقيقة كالكلـمات والـمكتوبات ويعدّ من الاسراف الاسهاب في الايضاح لـمن يـملك ذكاءً ودقة ملاحظة مثلك.

فانك اذا نظرت الى الـمرآة من حيث انها زجاجة، ترى مادتها الزجاجية، وتكون الصورة الـمتـمثلة فيها شيء ثانوي، بينـما ان كان القصد من النظر الى الـمرآة رؤية الصورة الـمتـمثلة فيها، فالصورة تتوضح امامك حتى تدفعك الى القول: } فتبارك الله احسن الـخالقين { (الـمؤمنون:14) بينـما تبقى زجاجة الـمرآة أمر ثانوي.

النظرة الأولى تـمثل ((الـمعنى الاسـمي)) أي: زجاجة الـمرآة معنى مقصود، وصورة الشخص الـمتـمثلة فيها ((معنى حرفي)) غير مقصود.

أما النظرة الثانية فصورة الشخص هي الـمقصود، فهي اذن معنى ((إسـمى)) أما الزجاج فمعنى ((حرفي)).

وهكذا ورد في كتب النـحو تعريف الاسـم أنه: دلّ على معنى في نفسه. أما الـحرف فهو: ما دلّ على معنى في غيره.

فالنظر القرآنية الى الـموجودات تـجعل الـموجودات جـميعها حروفاً، أي انها تعبـّر عن معنى في غيرها، بـمعنى انها تعبتّر عن تـجليات الاسـماء الـحسنى والصفات الـجليلة للـخالق العظيـم الـمتـجلية على الـموجودات.

اما نظرة الفلسفة الـميتة فهي تنظر على الاغلب بالنظر الاسـمي الى الـموجودات، فتزل قدمها الى مستنقع الطبيعة.

وعلى كل حال فلا متسع لي من الوقت كي اتكلـم كثيراً، حتى أنني لا استطيع ان اكتب القسـم الأخير الـمهم من الفهرس الذي هو سهل يسير. بلـّغ سلامي الى رفقائك في الدرس وبـخاصة خسرو، بكر، رشدي، لطفي، الشيـخ مصطفى، الـحافظ احـمد، سزائي، الـمـحـمدون والعلـماء واني لادعو للاطفال الابرياء الـمباركين في بيتكم الـمبارك.

الباقي هو الباقي

اخوكم

سعيد النورسي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #13
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة السابعة عشرة

(عبارة عن سبع عشرة مذكـِّرة تألقت من الزُّهرة)

بِسـم الله الرَّحـمنِ الرَّحيـم

الـمقدمة

قبل اثنتي عشرة سنة(1) من تأليف هذه اللـمعة وفقني الـمولى الكريـم وشـملني بعنايته ولطفه، فكتبتُ بعض ما تألق من مسائل التوحيد وبعض ما تظاهر منها اثناء تأملٍ فكري، وتـجوالٍ قلبي، وانكشافٍ روحي عبر العروج في مراتب الـمعرفة الإلـهية، كتبتُها باللغة العربية على صورة مذكـّرات في رسائل موسومة بـ((زُهرة)) و ((شعلة)) و ((حبـّة)) و ((شـمـّة)) و ((ذرة)) و ((قطرة)) وامثالـها.

وحيث ان تلك الـمذكـِّرات قد كتبتْ لاجل اراءة بداية حقيقة عظيـمة واسعة، وابراز مقدمتها فحسب، ولأجل اظهار شعاع من اشعة نور ساطع باهر، فقد جاءت على شكل خواطر وملـحوظات وتنبيهات. سجلتها لنفسي وحدها، مـما حددّتْ الاستفادة منها، وبـخاصة أن القسـم الاعظم من اخلص اخواني وخلاصتهم لـم يدرسوا اللغة العربية، فاضطررتْ أزاء إصرارهم والـحاحهم الى كتابة ايضاحات باللغة التركية لقسـم من تلك الـمذكرات واللـمعات. واكتفي بترجـمة القسـم الاخر منها(1).

ولقد جاءت الترجـمة الى التركية نصاً دون تغيير حيث تراءت ((لسعيد الـجديد)) هذه الـخواطر الواردة في الرسائل العربية رؤية أشبه ما يكون بالشهود، وذلك حينـما شرع بالاغتراف من منهل علـم ((الـحقيقة)).. ولأجل هذا فقد ذُكر بعض الـجـمل بالرغم من أنه مذكور في رسائل اخرى بينـما ذُكر البعض الآخر في غاية الاجـمال ولـم يوضـّح التوضيـح الـمطلوب وذلك لئلا يفقد لطافته الاصلية.

سعيد النورسي

الـمذكرة الاولى

كنت قد خاطبتُ نفسي قائلاً: اعلـم ايها السعيد الغافل! انه لا يليق بك ان تربط قلبك وتعلـّقه بـما لا يرافقك بعد فناء هذا العالـم، بل يُفارقُك بـخراب الدنيا! فليس من العقل في شيء ربطُ القلب بأشياء فَانية!

فكبف بـما يتركك بانقراض عصرك ويدير ظهره لك؟

بل فكيف بـما لا يصاحبك في سَفر البرزخ؟

بل فكيف بـما لا يشيـّعك الى باب القبر؟

بل فكيف بـما يفارقك خلال سنة او سنتين فراقاً ابدياً، مُورّثِاً اِثـمَه ذمـَّتَك، مـحـملاً خطاياه على ظهرك؟

بل فكيف بـما يتركك على رغمك في آنِ سرورك بـحصولـه؟

فان كنت فطناً فلا تهتـم ولا تغتـم، واترك ما لا يقتدر ان يرافقك في سفر الابد والـخلود، بل يضمـحل ويفنى تـحت مصادمات الدنيا وانقلاباتها، وتـحت تطورات البرزخ، وتـحت انفلاقات الآخرة.

ألا ترى ان فيك لطيفةً لا ترضى الاّ بالأبد والأبدي، ولاتتوجه الاّ الى ذلك الـخالد، ولاتتنزل لـما سواه؟ حتى اذا ما اُعطيت لـها الدنيا كُلـها، فلا تُطَمأن تلك الـحاجة الفطرية.. تلك هي سلطان لطائفك ومشاعرك.. فأطع سلطان لطائفك الـمطيع لأمر فاطره الـحكيـم جلّ جلالـه، وانجُ بنفسك..

الـمذكـِّرة الثانية

لقد رأيت في رؤيا صادقةٍ ذات حقيقة، أنني أخاطب الناس:

ايها الانسان! ان من دساتير القرآن الكريـم واحكامه الثابتة: أن لاتـحسبنَّ ما سوى الله تعالى اعظَم منك فترفعَه الى مرتبة العبادة، ولاتـحسَبنَّ انك اعظم من شيء من الاشياء بـحيث تتكـّبر عليه. اذ يتساوى ما سواه تعالى في العبد عن ((الـمعبودية)) وفي نسبة الـمـخلوقية.

الـمذكـِّرة الثالثة

اعلـم ايها السعيد الغافل! انك ترى الدنيا الزائلة سريعاً، كأنها دائمة لا تـموت، فعندما تنظر ما حولك من الآفاق وتراها ثابتةً مستـمرةً – الى حد ما – نوعاً وجـملةً، ومن ثم ترجع بالـمنظار نفسه فتنظر الى نفسك الفانية، تظنـّها ثابتةً ايضاً. وعندها لا تندهش الاّ من هَول القيامة، وكأنك تدوم الى أن تقوم الساعة!.

عُدْ الى رشدك، فانت ودنياك الـخاصة بك معـّرضان في كلّ آن الى ضربات الزوال والفناء.. ان مَثَلَكَ في خطأ شعورك وغَلَط حسـِّك هذا، يشبه مَن في يده مرآة تواجه قصراً او بلداً او حديقةً، وترتسـم الصورة الـمثاليةُ للقصر او البلد او الـحديقة فيها، فاذا ما تـحركت الـمرآة أدنى حركة، وتغيرت اقلّ تغـّير، فسيـحدث الـهرج والـمرج في تلك الصورة الـمثالية، فلا يفيدك بعدُ البقاءُ والدوام الـخارجيان في نفس القصر او البلد او الـحديقة، اذ ليس لك منها الاّ ما تعطيك مرآتُك بـمقياسها وميزانها.

فاعلـم ان حياتك وعمرك مرآة! وانها عماد دنياك وسندها ومرآتها ومركزها. فتأمل في مرآتك، وإمكان موتها، وخرابِ ما فيها في كل دقيقة، فهي في وضع كأن قيامتك ستقوم في كل دقيقة.

فما دام الامر هكذا فلا تـحـمـّل حياتك ودنياك ما لا طاقة لـهما به.

الـمذكـِّرة الرابعة

اعلـم ان من سنّة الفاطر الـحكيـم – في الاكثر – ومن عاداته الـجارية اعادة ما لـه اهمية وقيـمة غالية بعينه لا بـمثلـه . فعندما يـجدد اكثر الاشياء بـمثلـها عند تبدل الفصول وتعيـّر العصور، يُعيد تلك الاشياء الثمينة بعينها. فانظر الى الـحشر اليومي – أي الذي يتـم في كل يوم – والى الـحشر السنوي، والى الـحشر العصري، تَر هذه القاعدة الـمطـّردة واضحة جلية في الكل. وبناء على هذه القاعدة الثابتة نقول:

قد اتفقت الفنون وشهدت العلوم على أن الانسان هو أكمل ثمرةٍ في شجرة الـخليقة، وانه أهم مـخلوق بين الـمـخلوقات، وأغلى موجود بين الـموجودات، وأن فرداً منه بـمثابة نوع من سائر الاحياء، لذا يـحكم بالـحدس القطعي على أن كلّ فردٍ من أفراد البشر سيعاد في الـحشر الاعظم والنشر الاكبر بعينهِ وجسـمهِ واسـمهِ ورسـمهِ.

الـمذكـِّرة الـخامسة

حينـما سار ((سعيد الـجديد)) في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الاوروبية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة الى حدٍّ ما في افكار ((سعيد القديـم)) الى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلاتٌ كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من ((سعيد الـجديد)) الاّ القيام بتـمـخيض فكره والعمل على نفضه من أدران الفلسفة الـمزخرفة ولوثات الـحضارة السفيهة. فرأى نفسه مضطراً الى اجراء الـمحاورة الآتية مع الشخصية الـمعنوية لأوروبا لكبح جـماح ما في روحه من احاسيس نفسانية منـحازة لصالـح اوروبا، فهي مـحاورة مقتضبة من ناحية ومُسهبةٌ من ناحية اخرى.

ولئلا يُساء الفهمُ لابد أن ننبه: ان اوروبا اثنتان.

احداها: هي اوروبا النافعة للبشرية، بـما استفاضت من النصرانية الـحقة، وأدّت خدماتٍ لـحياة الانسان الاجتـماعية، بـما توصلت اليه من صناعاتٍ وعلومٍ تـخدم العدل والانصاف، فلا أخاطب – في هذه الـمـحاورة – هذا القسـم من اوروبا. وانـما أخاطب اوروبا الثانية تلك التي تعفـّنت بظلـمات الفلسفة الطبيعية وفسدت بالـمادية الـجاسية، وحَسبِتْ سيئات الـحضارة حسناتٍ لـها، وتوهـّمت مساوءها فضائل. فساقت البشرية الى السفاهة وأردتها الضلالة والتعاسة.

ولقد خاطبتُ في تلك السياحة الروحية الشخصية الـمعنوية الاوروبية بعد أن لستثنيت مـحاسن الـحضارة وفوائد العلوم النافعة، فوجـّهت خطابى الى تلك الشخصية التي اخذت بيدها الفلسفة الـمضرّة التافهة والـحضارة الفاسدة السفيهة.. وخاطبتها قائلاً:

يا اوروبا الثانية! اعلـمي جيداً أنكِ قد اخذتِ بيـمينكِ الفلسفة الـمضلـّة السقيـمة، وبشـمالك الـمدنية الـمضرّة السفيهة، ثم تدّعين ان سعادة الانسان بهما. ألا شُلـّت يداكِ، وبئست الـهدية هديتكِ، ولتكن وبالاً عليكِ، وستكون.

ايتها الروح الـخبيثة التي تنشر الكفر وتبث الـجحود! تُرى هل يـمكن ان يسعد انسانٌ بـمـجرد تـملـّكه ثروة طائلة، وترفـّلـه في زينة ظاهرة خادعة، وهو الـمصاب في روحه وفي وجدانه وفي عقلـه وفي قلبه بـمصائب هائلة؟ وهل يـمكن ان نطلق عليه أنه سعيد؟! ألا ترين أنّ من يِئس من امرٍ جزئي، وانقطع رجاؤه من أملٍ وهمي، وخاب ظنـّه من عملٍ تافه، كيف يتـحول خيالـه العذبُ مُراً علقماً، وكيف يتعذّب مـما حولـه من اوضاع لطيفة، فتضيق عليه الدنيا كالسجن بـما رحُبت!. فكيف بـمن أُصيب بشؤمك بضربات الضلالة في اعمق اعماق قلبه، وفي أغوار روحه، حتى انقطعت – بتلك الضلالة – جـميعُ آمالـه، فانشقت عنها جـميعُ آلامه، فايُّ سعادةٍ يـمكنك ان تضمَني لـمثل هذا الـمسكين الشَقي؟ وهل يـمكن ان يُطلَق لـمن روحه وقلبُه يُعذبان في جهنـم، وجسـمه فقط في جنةٍ كاذبة زائلة.. أنه سعيد؟..

لقد أفسدتِ – ايتها الروح الـخبيثة – البشريةَ حتى طاشت بتعاليـمك، فتقاسي منك العذاب الـمريَر، باذاقتك اِياها عذابَ الـجحيـم في نعيـم جنة كاذبة.

ايتها النفس الامارة للبشرية! تأملي في هذا الـمثال وافهمي منه الى اين تسوقين البشرية:

هب أن امامنا طريقين، فسلكنا احدهما، واذا بنا نرى في كل خطوة نـخطوها في الطريق الاول، مساكين عَجَزة يهجـم عليهم الظالـمون، يغصبون اموالـهم ومتاعهم، يـخرّبون بيوتهم واكواخهم، بل قد يـجرحونهم جرحاً بليغاً تكاد السـماء تبكي على حالتهم الـمفجعة، فاينـما يـمد النظر تُرى الـحالة نفسها فلا يُسـمع في هذا الطريق الاّ ضوضاء الظالـمين وصَخبَهم، وأنينُ الـمظلومين ونُواحهم، فكأن مأتـماً عاماً قد خيـم على الطريق.

ولـما كان الانسان – بـمقتضى انسانيته – يتألـم بألـم الآخرين، فلا يستطيع ان يتـحـمل ما يراه في هذا الطريق من ألـم غير مـحدود، اذ الوجدان لا يطيق ألـماً الى هذا الـحد، لذا يضطر سالك هذا الطريق الى أحد أمرين: اِما ان يتـجرد من انسانيته، ويـحـمل قلباً قاسياً غارقاً في منتهى الوحشة لا يتألـم بهلاك الـجـميع طالـما هو سالـم معافىً، او يُبطل ما يقتضيه القلبُ والعقلُ!.

فيا اوروبا التي نأتْ عن النصرانية وابتعدت عنها، وانغمست في السفاهة والضلالة! لقد اهديتِ بدهائك الاعور كالدجال لروح البشر حالة جهنـمية، ثم ادركتِ ان هذه الـحالة داءٌ عضال لا دواءَ لـه. إذ يهوي بالانسان من ذروة أعلى عليين الى درك اسفل سافلين، والى أدنى درجات الـحيوان وحضيضها، ولا علاج لك امام هذا الداء الوبيل الاّ ملاهيكِ الـجذابة التي تدفع الى اِبطال الـحسّ وتـخدير الشعور مؤقتاً، وكمالياتك الـمزخرفة واهواؤك الـمنوِّمة… فتعساً لكِ ولدوائكِ الذي يكون هو القاضي عليك.. نعم، ان ما فتـحتيه امام البشرية من طريق، يشبه هذا الـمثال الـمذكور.

اما الطريق الثاني فهو ما أهداه القرآن الكريـم من هديةٍ الى البشرية، فهداهم الى الصراط السوي، فنـحن نرى:

في كل منزل من منازل هذا الطريق، وفي كل موضع من مواضعه، وفي كل مدينة تقع عليه، جنود مطيعون أُمناء لسلطانٍ عادل، يتـجولون في كل جهة ينتشرون في كل ناحية، وبين فينة واخرى يأتي قسـم من مأموري ذلك الـملك العادل وموظفيه فيعفي بعض اولئك الـجنود من وظائفهم بأمر السلطان نفسه ويتسلـم منهم اسلـحتهم ودوابـّهم ومعدّاتهم الـخاصة بالدولة ويسلـم اليهم بطاقة الاعفاء. وهؤلاء الـمعفون يبتهجون ويفرحون – من زاوية الـحقيقة – على اعفائهم فرحاً عظيـماً لرجوعهم الى السلطان وعودتهم الى دار قرار سلطنته، والـمثول بزيارته الكريـمة، مع انهم يـحزنون في ظاهر الامر على ما أُخذ منهم من دابة ومعدات ألِفوها.. ونرى ايضاً أنه قد يلتقي اولئك الـمأمورون مَن لا يعرفهم من الـجنود، فعندما يـخاطبونه: أن سلـم سلاحك! يردّ عليهم الـجندي: انا جندي لدى السلطان العظيـم وتـحت امره وفي خدمته، واليه مصيري ومرجعي، فمن انتـم حتى تسلبوا مني ما وهبني السلطان العظيـم؟ فان كنتـم قد جئتـم باذنه ورضاه فعلي العين والرأس فأروني أمره الكريـم، والاّ تنـحـَّوا عني فلأقاتلنـّكم ولو كنت وحدي وانتـم أُلوف، اذ لا اقاتل لنفسي لانها ليست لي، بل اقاتل حفاظاً لأمانة مالكي ومولاي وصيانةً لعزته وعظمته. فانا لا ارضخ لكم!!.

فدونك مثالاً واحداً من ألوف الامثلة على ما في هذا الطريق الثاني من مصدر فرح ومدار سعادة. فانسج على منوالـه.

وعلى طول الطريق الثاني، وطوال مدة السفرة كلـها نرى سَوقاً الى الـجندية، يتـم في فرح وابتهاج وسرور.. تلك هي التي تسـمى بـ ((الـمواليد)). وهناك اعفاءات ورُخَص من الـجندية، تتـم في فرح وحبور ايضاً، وسط تهليل وتكبير.. تلك هي التي تسـمى بـ ((الوفيات)).

هذا هو الذي اهداه القرآن الكريـم للبشرية، فمن اهتدى به فقد سعد في الدارين ويـمضي في طريقه – الثاني – على هذه الصورة اللطيفة بلا حزن وكدّرٍ على ما فات منه، وبلا خوف ووجل مـما سيأتي عليه، حتى تنطبق عليه الآية الكريـمة: } لاخَوفٌ عَليهِم ولا هُمْ يـحزَنون { (البقرة:262).

يا اوروبا الثانية الفاسدة! انك تستندين الى اسس واهية نـخرة، فتزعمين:

أن كلّ كائن حي مالكٌ لنفسه، ابتداءً من اعظم ملَكَ وانتهاء الى اصغر سـمك. كلٌ يعمل لذاته فقط، ولأجل نفسه فحسب، ولا يسعى أحدٌ الاّ للذته الـخاصة، ولأجل هذا لـه حق الـحياة. فغاية همته وهدف قصده هو ضمان بقائه واستـمرار حياته. ثم انك ترين ((قانون التعاون)) جارياً فيـما بين الـمـخلوقات امتثالاً لأمر الـخالق الكريـم الذي هو واضح جلي في أرجاء الكون كلـه كامداد النباتات للـحيوانات والـحيوانات للانسان، ثم تـحسبين هذا القانون والسنـّة الإلـهية وتلك التـجليات الكريـمة الرحيـمة الـمنبعثة من ذلك التعاون العام جدالاً وخصاماً وصراعاً، حتى حكمتِ ببلاهة ان الـحياة جدال وصراع!

فيا سبـحان الله!! كيف يكون امدادُ ذرات الطعام امداداً بكمال الشوق لتغذية خلايا الـجسـم جدالاً وخصاماً؟ بل مَا هو الاّ سنـّة التعاون، ولا يتـم الاّ بأمر ربّ حكيـم كريـم!

وان ما تستندين اليه من ((أن كل شيء مالك لنفسه)) واضح البطلان. وأوضح دليل عليه هو ان اشرف الاسباب واوسعها ارادة واختياراً هو الانسان. والـحال ليس في يد اختياره ولا في دائرة اقتداره من أظهر افعالـه الاختيارية كالاكل والكلام والتفكر، الاّ جزءٌ واحد مُبهَمٌ من بين الـمائة. فالذي لا يـملك واحداً من الـمائة من مثل هذا الفعل الظاهر، كيف يكون مالكاً لنفسه؟! واذا كان الاشرف والاوسع اختياراً مغلولَ الايدي عن التـملك الـحقيقي والتصرف التام فكيف بسائر الـحيوانات والـجـمادات؟ أليس الذي يطلق هذا الـحكم ((بأن الـحيوان مالك لزمام نفسه)) أضلُّ من الانعام وأفقدُ للشعور من الـجـمادات؟

فيا اوروبا! ما ورطكِ في هذا الـخطأ الـمشين الاّ دهاءك الأعور، أي ذكاؤك الـمنـحوس الـخارق، فلقد نسيت بذكائك هذا ربَّ كل شيء وخالقه، اذ أسندتِ آثاره البديعة الى الاسباب والطبيعة الـموهومة! وقسـمتِ مُلك ذلك الـخالق الكريـم على الطواغيت التي تُعبَد من دون الله .. فانطلاقاً من هذه الزاوية التي ينظر منها دهاؤك الاعور يضطر كلُّ ذي حياة وكل انسان يصارع وحده ما لا يعد من الاعداء، ويـحصل بنفسه على ما لا يـحد من الـحاجات، بـما يـملك من اقتدارٍ كذرة، واختيارٍ كشعرة، وشعورٍ كلـمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفي، وعمرٍ كدقيقة تنقضي، مع أنه لا يكفي كلُ ما في يده لواحدٍ من مطالبه. فعندما يصاب – مثلاٍ – بـمصيبة لا يرجو الدواء لدائه الاّ من اسباب صم، حتى يكون مصداق الآية الكريـمة: } وما دُعاءُ الكافرين إلاّ في ضلالٍ { (الرعد:14). ان دهاءك الـمظلـم قد قَلب نهارَ البشرية ليلاً، ذلك الليل البهيـم بالـجور والـمظالـم، ثم تريدين ان تنوري ذلك الظلام الـمـخيف بـمصابيـح كاذبة مؤقتة!.. هذه الـمصابيـح لا تبتسـم لوجه الانسان، بل تستهزى به، وتستـخف من ضحكاته التي يطلقها ببلاهة وهو متـمرغ في اوحال اوضاع مؤلـمة مُبكية! فكل ذي حياة في نظر تلاميذك، مسكينٌ مبتلىً بـمصائب ناجـمة من هجوم الظلـمة. والدنيا مأتـم عمومي، والاصوات التي تنطلق منها نعيـّات الـموت، وأناتُ الآلام، ونياحات اليتامى.

ان الذي يتلقى الدرس منك ويسترشد بهدْيك يصبـح ((فرعوناً)) طاغية.. ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس الاشياء، ويتـخذ كل شيء ينتفع منه رباً لـه.

وتلـميذك هذا ((متـمردٌ)) ايضاً.. ولكنه متـمرد مسكين، إذ لأجل لذةٍ تافهة يقبـّل قدَمَ الشيطان، ولأجل منفعة خسيسة يرضى بـمنتهى الذل والـهوان.

وهو ((جبـّار)) ولكنه جبار عاجز في ذاته لأنه لا يـجد مرتكزاً في قلبه يأوي اليه.

ان غاية ما يصبو اليه تلـميذك وذروة همـّته: تطمينُ رغبات النفس واشباعُ هواها، حتى انه دسّاس يبـحث تـحت ستار الـحـمية والتضحية والفداء عن منافعه الذاتية، فيطمئن بدسيسته وخبثه حرصَه ويُشبع نَهمَ غروره، إذ لا يـحب حقاً الاّ نفسه، بل يضحي بكل شيء في سبيلـها.

اما التلـميذ الـمـخلص الـخالص للقرآن الكريـم فهو ((عبدٌ)) ولكنه لا يتنزل لعبادةِ اعظم مـخلوق، فهو ((عبدٌ عزيزٌ)) لا يرضى حتى بالـجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

وهو ((لـّين هيـّن)) ولكنه لا يتذلل لغير فاطره الـجليل، ولغير أمره وإذنه، فهو صاحب همة عليا وعزيـمة صادقة.

وهو ((فقير)) ولكنه مستغن عن كل شيء بـما ادّخر لـه مالكُه الكريـم من الثواب الـجزيل.

وهو ((ضعيف)) ولكنه يستند الى قوة سيـّده الـمطلقة. فلا يرضى تلـميذ القرآن الكريـم الـخالص حتى بالـجنة الـخالدة مقصداً وغاية لـه، فكيف به بهذه الدنيا الزائلة؟ فافهم من هذا مدى التفاوت الكبير والبونَ الشاسع بين همـّة هذين التلـميذين!.

وكذلك يـمكنكم ان تقيسوا مدى الفرق الـهائل بين تلاميذ الفلسفة السقيـمة وتلاميذ القرآن الـحكيـم من حيث مدى التضحية والفداء في كل منهما بـما يأتي:

إن تلـميذ الفلسفة يفـّر من أخيه أثـّرَة لنفسه، ويقيـم عليه الدعوى. اما تلـميذ القرآن فانه يرى جـميع عباد الله الصالـحين في الارض والسـموات اخواناً لـه، ويشعر من اعماق روحه باواصر شوق تشدّه نـحوهم، فيدعو لـهم دعاءً خالصاً نابعاً من صميـم قلبه (اللهم اغفر للـمؤمنين والـمؤمنات) فهو يسعد بسعادتهم. حتى انه يرى ما هو اعظم الاشياء كالعرش الاعظم والشـمس الضخـمة مأموراً مسخـَّراً مثلـه.

ثم يـمكنك قياس سـموّ الروح وانبساطها لدى التلـميذين بـما يأتي:

ان القرآن الكريـم يـمنـح تلاميذه نـماءاً سامياً للروح وانبساطاً واسعاً لـها، اذ يسلـم الى ايديهم بدلاً من تسع وتسعين حبةٍ من حبـّات الـمسبـحة، سلسلة مركبة من ذراتٍ تسع وتسعين عالـماً من عوالـم الكون التي يتـجلى فيها تسعٌ وتسعون اسـماً من الاسـماء الـحسنى، ويـخاطبهم: هاؤم اقرأوا أورادكم بهذه السلسلة، وهم بدورهم يقرأون اورادهم بتلك الـمسبـحة العجيبة، ويذكرون ربـّهم الكريـم باعدادها غير الـمـحدودة.

فان شئت فانظر الى تلاميذ القرآن من الاولياء الصالـحين امثال الشيـخ الكيلاني والشيـخ الرفاعي والشيـخ الشاذلي (رضي الله عنهم)(1)، وانصت اليهم حينـما يقرأون اورادهم، وانظر كيف أخذوا في اياديهم سلاسل الذرات، وعدد القطرات، وانفاس الـمـخلوقات فيذكرون الله بها ويسبـحونه ويقدّسونه.. تأمل كيف يتعالى ذلك الانسان الـهزيل الصغير الذي يصارعه اصغر ميكروب ويصرعه أدنى كَرْب! وكيف يتسامي في التربية القرآنية الـخارقة فتنبسط لطائفُه وتسطع بفيض إرشادات القرآن حتى انه يستصغر اضخـم موجودات الدنيا من ان يكون مسبـحةً لأوراده، بل يستقل الـجنة العظمى ان تكون غاية ذكره لله سبـحانه، مع انه لا يرى لنفسه فضلاً على أدنى شيء من خلق الله.. انه يـجـمع منتهى التواضع في منتهى العزة.. ومن هنا يـمكنك ان تقدّر مدى انـحطاط تلاميذ الفلسفة ومدى دناءتهم.

وهكذا فالـحقائق التي تراها الفلسفة السقيـمة الاوروبية بدهائها الاعور مشوهةً زائفةً يراها الـهديُ القرآني واضحةً جلية، ذلك النور الذي ينظر الى كلا العالـمين بعينين براقتين نافذتين الى الغيب، ويشير بكلتا يديه الى السعادتين، ويـخاطب البشرية:

ايها الانسان! إن ما تـملكه من نفسٍ ومال ليس ملكاً لك، بل هو أمانةٌ لديك، فمالكُ تلك الامانة قديرٌ على كل شيء، عليـم بكل شيء، رحيـم كريـم، يشتري منك ملكه الذي عندك لسحفَظَه لك، لئلا يضيع في يدك، وسيكافؤك به ثمناً عظيـماً، فانت لست الاّ جندياً مكلفاً بوظيفة، فاعمل لاجلـه واسعَ باسـمه، فهو الذي يرسل اليك رزقَك الذي تـحتاجه، ويـحفظك مـما لا تقدر عليه.

ان غاية حياتك هذه ونتيـجتها هي أن تكون مظهراً لتـجليات اسـماء ذلك الـمالك، ومعكساً لشؤونه الـحكيـمة.. واذا ما اصابتك مصيبةٌ فقل: } إنـّا لله وإنـّا اليهِ رَاجعُون { (البقرة:156). أي أنا طوعُ أمر مولاي، فان كنت قادمةً ايتها الـمصيبة باذنه وباسـمه، فأهلاً ومرحباً بكِ، فنـحن لا مـحالة راجعونَ اليه لا مناص من ذلك. وسنـحظى بالـمثول بين يديه، فنـحن حقاً مشتاقون اليه.. فما دام سيُعتقنا يوماً من تكاليف الـحياة فليكن ذلك على يديك ايتها الـمصيبة.. انا مستسلـم راضٍ. ولكن إن كان الامر والارادة قد صدر اليك منه سبـحانه لأجل الابتلاء والاختبار لـمدى مـحافظتي على الامانة ولـمدى قيامي بواجباتي، فلا أسلـم ما استطعت امانة مالكي لأيدٍ غير أمينة. ولا استسلـم لغير أمره ورضاه سبـحانه.

فدونك مثالاً واحداً من بين الالوف منه على معرفة قيـمة ما تلقـّنه دهاءُ الفلسفة، ومرتبة ما يرشده هدي القرآن من دروس.

نعم ان الوضع الـحقيقي لكلا الطرفين هو على هذا الـمنوال، بيد أن درجات الناس متفاوتةٌ في الـهداية والضلالة ومراتب الغفلة مـختلفة متباينة، فلا يشعر كلُّ واحد بهذه الـحقيقة في كل مرتبة، إذ الغفلة تُبطل الـحس والشعور وتـخدّرهما، وقد أبطلتْ في هذا الزمان الـحسَ والشعورَ الى حدٍ لـم يَعُد يَشعر بألـم ومرارة هذا العذاب الاليـم اولئك السائرون في ركاب الـمدنية الـحاضرة. ولكن ستار الغفلة يتـمزق بتزايد الاحساس العلـمي، علاوةً على نذير الـموت يعرض جنازة ثلاثين ألف شخص يومياً.

فيا اسفى! وياويل من ضلّ بطواغيت الاجانب وعلومهم الـمادية الطبيعية، ويا خسارةَ اولئك الذين يقلـّدونهم تقليداً اعمى، ويتبعونهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

فيا ابناء هذا الوطن! لا تـحاولوا تقليد الافرنـج! وهل بعد كل ما رأيتـم من ظلـم اوروبا الشنيع وعداوتهم اللدودة، تتبعونهم في سفاهتهم، وتسيرون في ركاب أفكارهم الباطلة؟ وتلتـحقون بصفوفهم، وتنضمـّون تـحت لوائهم بلا شعور؟ فانتـم بهذا تـحكمون على انفسكم، وعلى اخوانكم بالاعدام الابدي.. كونوا راشدين فطنين! انكم كلـما اتبعتـموهم في سفاهتهم وضلالـهم ازددتـم كذباً وافتراءً في دعوى الـحـمية والتضحية، لأن هذا الاتباع استـخفافٌ بأمتكم واستهزاء بـملـّتكم.

هدانا الله واياكم الى الصراط الـمستقيـم.

الـمذكـِّرة السادسة

يامَن يضطرب ويقلق من كثرة عدد الكفار، ويامَن يتزلزل باتفاقهم على إنكار بعض حقائق الإيـمان، اعلـم ايها الـمسكين!

اولاً:

ان القيـمة والاهمية ليستا في وفرة الكمية وكثرة العدد، اذ الانسان إن لـم يكن انساناً حقاً انقلب حيواناً شيطاناً، لأن الانسان يكسب حيوانية هي أشدُّ من الـحيوان نفسه كلـما توغل في النوازع الـحيوانية، كبعض الاجانب او السائرين في ركابهم. فبينـما ترى قلة عدد الانسان قياساً الى كثرة عدد الـحيوانات إذا بك تراه قد أصبـح سلطاناً وسيداً على جـميع انواعها، وصار خليفةً في الارض.

فالكفار الـمنكرون والذين يتـّبعون خطواتهم في السفاهة، هم نوعٌ خبيث من انواع الـحيوانات التي خَلَقَها الفاطر الـحكيـم سبـحانه لعمارة الدنيا. وجعلـهم ((واحداً قياسياً)) لـمعرفة درجات النعمة التي اسبغها على عباده الـمؤمنين، وسوف يسلـّمهم الى جهنـم وبئس الـمصير التي يستـحقونها، حينـما يرثُ الارضَ ومَن عليها.

ثانياً:

ليس في إنكار الكفار والضالين لـحقيقة من الـحقائق الإيـمانية قوة، ولا في نفيهم لـها سندٌ، ولا في اتفاقهم اهميةٌ، لانه نفيٌ. فالفٌ من النافين هم في حكم نافٍ واحد فقط. مثال ذلك:

اذا نَفى اهل استانبول جـميعهم رؤيتهم للهلال في بداية رمضان الـمبارك، فان إثبات اثنين من الشهود، يُسقط قيـمة إتفاق كل ذلك الـجـمع الغفير. فلا قيـمة اذن في اتفاق الكفار الكثيرين ما دامت ماهيةُ الكفر والضلالة نفياً، وانكاراً، وجهلاً، وعدماً. ومن هنا يُرجـّح حُكمُ مؤمنين اثنين يستندان الى الشهود في الـمسائل الإيـمانية الثابتة اثباتاً قاطعاً على إتفاق ما لا يـحد من اهل الضلالة والانكار ويتغلب عليهم.

وسرّ هذه الـحقيقة هو ما يأتي:

ان دعاوى النافين متعددة، برغم انها تبدو واحدة في الظاهر، إذ لا يتـحد بعضها مع بعض الآخر كي يعززه ويشدّ من عضده. بينـما دعاوى الـمثبتين تتـحد وتتساند ويـمدّ بعضها البعض الآخر ويقـّويه ويدعمه، فالذي لا يرى هلال رمضان في السـماء يقول: ان الـهلال في نظري غير موجود، وعندي غير موجود.. والآخر يقول مثلـه، فكلٌ منهم ينفي من زاوية نظره، وليس من واقع الـحال، ومن الامر بذاته، لذا فاختلافُ نظرهم وتنوعُ الاسباب الداعية الى حَجب الرؤية، وتعدد موانع النظر لدى الاشخاص، يـجعل دعاواهم متباينة ومـختلفة لا تسند احداهما الاخرى.

اما الـمثبتون فلا يقول احدهم: الـهلال موجود في نظري، او عندي، بل يقول: ان الـهلال موجود فعلاً، وهو في السـماء بذاته.. والـمشاهدون جـميعاً يصدّقونه في دعواه هذه، ويؤيدونه في الامر نفسه قائلين: الـهلال موجود في واقع الـحال.. أي ان جـميع الدعاوى واحدة.

ولـما كان نظر النافين مـختلفاً، فقد اصبـحت دعاواهم كذلك مـختلفة، فلا يسري حُكمهم على الامر بذاته، لأنه لا يـمكن اثبات النفي في الـحقيقة، إذ يلزم الاحاطةُ. ومن هنا صارت من القواعد الاصولية أن ((العَدَم الـمطلق لا يُثبَتُ إلاّ بـمشكلات عظيـمة)).

نعم! اذ قلت: إن شيئاً ما موجود في الدنيا، فيكفي لاثباته إراءته فقط. ولكن ان قلتَ: انه معدومٌ، غير موجود في الدنيا. أي اذا نفيت وجوده، فينبغي لإثبات هذا النفي او العدم ان تبـحث عنه في اطراف الدنيا كافة وإراءتها واشهادها.

وبناء على هذا السر: يتساوى في انكار الكفار لـحقيقة واحدة الواحد مع الالف، لعدم وجود التساند فيه. يشبه ذلك، حل مسألة ذهنية، أو الـمرور من ثقب، او القفز من فوق الـخندق، التي لا تساند فيها.

اما الـمثبتون فلأنهم ينظرون الى الامر نفسه، أي الى واقع الـحال، فان دعاواهم تتـحد وتتعاون ويـمدُّ بعضها البعض الآخر قوةً، بـمثل التعاون الـحاصل في رفع صخرةٍ عظيـمة، فكلـما تكاثرت الايدي عليها، سهُل رفعُها اكثر، حيث يستـمد كلٌ منهم القوة من الآخر.

الـمذكـِّرة السابعة

يامن يـحثّ الـمسلـمين ويشوّقهم على حُطام الدنيا ويسوقهم قسراً الى صنائع الاجانب والتـمسك بأذيال رقيـّهم. ويا مدّعي الـحـمية، ايها الشقي!. تـمهـّل، وتأمـّل! واحذر من إنقطاع عُرى الدين لبعض أفراد هذه الامة وانفصام روابطهم معه، لانه اذا انقطعت تلك الروابط لدى البعض تـحت سطوة مطارق التقليد الاعمى والسلوك الارعن، فسيكونون مُلـحدين مضرّين بالـمـجتـمع، مُفسرين للـحياة الاجتـماعية كالسـم القاتل، اذ الـمرتد سـم زعاف للـمـجتـمع، حيث قد فسد وجدانه وتعفنت طويته كلياً، ومن هنا ورد في علـم الاصول: ((الـمرتد لا حقَّ لـه في الـحياة، خلافاً للكافر الذميّ او الـمعاهِد فان لـه حقاً في الـحياة)) وأن شهادة الكافر من اهل الذمة مقبولةٌ عند الاحناف بينـما الفاسقُ مردود الشهادة لانه خائن.

ايها الفاسق الشقي! لا تغتر بكثرة الفسـّاق، ولا تقل ان افكار اكثرية الناس تساندني وتؤيدني، ذلك لانه لـم يدخل الفسقَ فاسقٌ برغبةٍ فيه وطلباً بذات الفسق، بل وقع فيه ولا يستطيع الـخروج منه، إذ ما من فاسقٍ الاّ ويتـمنى ان يكون تقياً صالـحاً، وان يكون رئيسه وآمرهُ ذا دينٍ وصلاح، اللهـّم من اُشربَ قلبُه بالردة – والعياذ بالله – ففسد وجدانه بها، واصبـح يلتذ بلدغ الآخرين وإيذائهم كالـحيـّة.

ايها العقل الابلـه والقلب الفاسد! أتظنُّ ان الـمسلـمين لا يرغبون في الدنيا، ولا يفكرون فيها، حتى اصبـحوا فقراءَ مُعْدَمين، فتراهم بـحاجة الى مَن يوُقظهم من رقدتهم كيلا ينسوا نصيبهم من الدنيا.؟

كلا.. ان ظنك خطأ.. بل لقد اشتدّ الـحرص، فهم يقعون في قبضة الفقر وشباك الـحرمان نتيـجة الـحرص، اذ الـحرص للـمؤمن سببُ الـخيبة وقائد الـحرمان والسفالة. وقدْ ذهب مثلاً: الـحريص خائب خاسر.

نعم، ان الاسباب الداعية الى الدنيا كثيرة، والوسائل السائقة اليها وفيرة، وفي مقدمتها ما يـحـملـه كلُّ انسان من نفس أمـّارة بالسوء، وما يكمن فيه من هوىً وحاجةٌ وحواس ومشاعر وشيطانٍ عدو، فضلاً عن اقران السوء – من امثالك – وحلاوة العاجلة ولذّتها … وغيرها من الدعاة اليها كثير، بينـما الدعاة الى الآخرة وهي الـخالدة والـمرشدون الى الـحياة الابدية قليلون.

فان كان لديك ذرةٌ من الـحـميـّة والشـّهامة تـجاه هذه الامة، وان كنت صادقاً في دعواك الى التضحية والفداء والايثار، فعليك بـمدّ يد الـمساعدة الى اولئك القلـّة من الداعين الى الـحياة الباقية. والاّ فان عاونت الكثرة، وكمـمت أفواه اولئك الدعاة القلة، فقد اصبـحت للشيطان قريناً. فساء قريناً.

أوَ تظن أن فقرنا ناجـمٌ من زُهد الدين او من كسلٍ ناشيء من ترك الدنيا؟ انك مـخطيء في ظنك أشدَّ الـخطأ.. ألا ترى ان الـمـجوس والبراهمة في الصين والـهند والزنوج في افريقيا وامثالـهم من الشعوب الـمغلوبة على أمرها والواقعة تـحت سطوة اوروبا، هم أفقر منـّا حالاً.

أوَ لا ترى انه لا يبقى بأيدي الـمسلـمين سوى ما يسدّ رَمَقَهم ويقيـم أوَدَهم حيث يغصبه كفار اوروبا الظالـمون منهم او يسرقه منافقو آسيا بـما يـحيكون من دسائس خبيثة.

ان كانت غايتكم من سَوق الـمؤمنين قسراً الى الـمدينة التي هي الدنيـّة (أي بلا ميـم) تسهيلاً لارادة دفة النظام وبسط الامن في ربوع الـمـملكة، فاعلـموا جيداً انكم على خطأ جسيـم، اذ تسوقون الامة الى هاوية طريق فاسد. لان ادارة مائة من الفاسقين الفاسدين اخلاقياً والـمرتابين في إعتقادهم وإيـمانهم، وجعل الامن والنظام يسود فيـما بينهم لـهو أصعبُ بكثير من ادارة اُلوف من الصالـحين الـمتقين ونشر الامن فيـما بينهم.

وبناء على ما تقدم من الاسس فليس الـمسلـمون بـحاجة الى ترغيبهم وحثـّهم على حب الدنيا والـحرص عليها، فلا يـحصل الرقي والتقدم ولاينشر الامن والنظام في ربوع البلاد بهذا الاسلوب، بل هم بـحاجة الى تنظيـم مساعيهم، وبث الثقة فيـما بينهم، وتسهيل وسائط التعاون فيـما بينهم، ولاتتـم هذه الامور الاّ باتباع الاوامر الـمقدسة في الدين، والثبات عليها، مع التزام التقوى من الله سبـحانه وابتغاء مرضاته.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #14
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

الـمذكـِّرة الثامنة

يامَن لا يدرك مدى اللذة والسعادة في السعي والعمل.. ايها الكسلان! اعلـم، ان الـحق تبارك وتعالى قد ادرج لكمال كرمه جزاءَ الـخدمة في الـخدمة نفسها، وادمـج ثوابَ العمل في العمل نفسه.

ولأجل هذا كانت الـموجودات قاطبة بـما فيها الـجـمادات – من زاوية نظر معينة – تـمتثل الأوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة، عند ادائها لوظائفها الـخاصة بها والتي تطلق عليها((الاوامر التكوينية)). فكل شيء ابتداءً من النـحل والنـمل والطير.. وإنتهاء الى الشـمس والقمر، كلٌّ منها يسعى بلذة تامة في اداء مهماتها. أي: اللذة كامنة في ثنايا وظائف الـموجودات، حيث انها تقوم بها على وجه من الاتقان التام، برغم أنها لا تعقل ما تفعل ولا تدرك نتائج ما تعمل.

T فان قلت: ان وجود اللذة في الاحياء مـمكنٌ، ولكن كيف يكون الشوقُ واللذةُ موجودين في الـجـمادات؟

فالـجواب: ان الـجـمادات تطلب شَرَفاَ ومقاماً وكمالاً وجـمالاً وانتظاماً، بل تبـحث عن كل ذلك وتفتش عنه لأجل إظهار الاسـماء الإلـهية الـمتـجلية فيها، لا لذاتها، لذا فهي تتنور وتترقى وتعلو اثناء إمتثالـها تلك الوظيفة الفطرية، حيث أنها تكون بـمثابة مرايا ومعاكس لتـجليات اسـماء ((نور الانوار)).

فمثلاً: قطرةٌ من الـماء – وقطعة من الزجاج – رغم أنها تافهةٌ وقاتـمة في ذاتها، فإذا ما توجهت بقلبها الصافي الى الشـمس، تتـحول الى نوع من عرشٍ لتلك الشـمس، فتلقاك بوجه مضيء!

وكذلك الذرات والـموجودات – على غرار هذا الـمثال – من حيث قيامها بوظيفة مرايا عاكسة لتـجليات الاسـماء الـحسنى لذي الـجلال والـجـمال والكمال الـمطلق، فانها تسـمو وتعلو الى مرتبة من الظهور والـجلاء والتنوّر هي غاية في العلو والسـمو، إذ ترتفع تلك القطرة وتلك القطعة من حضيض الـخـمود والظلـمة الى ذروة الظهور والتنور. لذا يـمكن القول: بأن الـموجودات تقوم باداء وظائفها في غاية اللذة والـمتعة ما دامت تكتسب بها مرتبة نورانية سامية، واللذة مـمكنة ان كانت للـموجود حصة من الـحياة العامة. وأظهر دليل على ان اللذة كامنة في ثنايا الوظيفة نفسها هو ما يأتي:

تأمل في وظائف اعضائك وحواسـّك، ترَ أن كلاً منها يـجد لذائذ متنوعة اثناء قيامه بـمهامه – في سبيل بقاء الشخص او النوع – فالـخدمة نفسها، والوظيفةُ عينها تكون بـمثابة ضربٍ من التلذذ والـمتعة بالنسبة لـها، بل يكون ترك الوظيفة والعمل عذاباً مؤلـماً لذلك العضو.

وهناك دليل ظاهر آخر هو: ان الديك – مثلاً – يؤثر الدجاجات على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه إليهن دون ان يأكل منها. ويُشاهد انه يقوم بهذه الـمهمة وهو في غاية الشوق وعزّ الافتـخار وذروة اللذة.. فهناك إذن لذةٌ في تلك الـخدمة اعظم من لذة الاكل نفسه. وكذا الـحال مع الدجاجة – الراعية لأفراخها – فهي تُؤثْرها على نفسها، إذ تدع نفسَها جائعةً في سبيل اشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الافراخ، قتهاجـم الكلب الـمغير عليها لأجل الـحفاظ على الصغار.

ففي الـخدمة اذن لذة تفوق كل شيء، حتى انها تفوق مرارة الـجوع وترجـّح على ألـم الـموت. فالوالدات من الـحيوانات تـجد منتهى اللذة في حـمايتها لصغارها طالـما هي صغيرة. ولكن ما إن يكبر الصغير حتى تنتهي مهمة الأم فتذهب اللذة ايضاً. وتبدأ الأم بضرب الذي كانت ترعاه، بل تأخذ الـحب منه.. هذه السنـّة اللإلـهية جاريةٌ في الـحيوانات الاّ في الانسان إذ تستـمر مهمة الام نوعاً ما، لأن شيئاً من الطفولة يظل في الانسان حيث الضعف والعجز يلازمانه طوال حياته، فهو بـحاجة الى الشفقة والرأفة كل حين.

وهكذا، تأمل في جـميع الذكور من الـحيوانات كالديك، وجـميع الوالدات منها كالدجاج، وافهم كيف انها لا تقوم بتلك الوظيفة ولا تنـجز أي شيء لأجل نفسها ولالكمالـها بالذات حيث تفدي نفسها اذا احتاج الامر. بل انها تقوم بتلك الـمهمة في سبيل الـمنعم الكريـم الذي انعم عليها، وفي سبيل الفاطر الـجليل الذي وظـّفها في تلك الوظيفة فأدرج برحـمته الواسعة لذةً ضمن وظيفتها، ومتعةً ضمن خدمتها.

وهناك دليل آخر ان الاجرة داخلةٌ في العمل نفسه وهو ان النباتات والاشجار تـمتثل اوامر فاطرها الـجليل بـما يُشعر ان فيه شوقاً ولذة، لأن ما تنشره من روائح طيبة، وما تتزين به من زينة فاخرة تستهوي الانظار، وما تقدمه من تضحيات وفداء حتى الرَمَق الاخير لأجل سنابلـها وثمارها.. كل ذلك يعلن لأهل الفطنة:

ان النباتات تـجد لذةً فائقة في إمتثالـها الاوامر بـما يفوق اية لذة اخرى، حتى انها تـمـحو نفسها وتهلكها لأجل تلك اللذة.. ألا ترى شجرة جوز الـهند، وشجرة التين كيف تُطعم ثمرتها لبناً خالصاً تطلبه من خزينة الرحـمة الإلـهية بلسان حالـها وتتسلـمه منها وتظل هي لا تُطعم نفسها غير الطين. وشجرة الرمان تسقي ثمرتها شراباً صافياً، وَهبَها لـها ربـُّها، وهي ترضى قانعةً بشراب ماءٍ عكر. حتى انك ترى ذلك في الـحبوب كذلك، فهي تُظهر شوقاً هائلاً للتسنبل، بـمثل اشتياق السجين الى رحب الـحياة.

ومن هذا السرّ الـجاري في الكائنات الـمسـمى بـ ((سُنـّة الله)) ومن هذا الدستور العظيـم، يكون العاطل الكسلان الطريـح على فراش الراحة أشقى حالاً وأضيق صدراً من الساعي الـمـجدّ، ذلك لأن العاطل يكون شاكياً من عمره، يريد ان يـمضي بِسرعة في اللهو والـمرح. بينـما الساعي الـمـجدّ شاكرٌ لله وحامدٌ لـه، لا يريد ان يـمضي عمره سدىً. لذا اصبـح دستوراً عاماً في الـحياة: ((الـمستريـح العاطل شاك من عمره والساعي الـمـجدّ شاكرٌ)). وذهب مثلاً: ((الراحةُ مندمـجة في الزحـمة والزحـمة مندمـجة في الراحة)). نعم اذا ما أُمعن النظر في الـجـمادات فان السنة الإلـهية الـمذكورة تظهر بوضوح؛ فالـجـمادات التي لـم تتكشف استعداداتُها وباتت ناقصةً من هذه الناحية، تراها تسعى بشدة، وتبذل جهداً عظيـماً لكي تنبسط وتنتقل من طور ((القوة)) الكامنة الى طور ((الفعل)). وعندها يشاهد عليها ما يشير الى أن في تلك الوظيفة الفطرية شوقاً، وفي ذلك التـحول لذةً، جرياً بدستور سنـّة الله، فان كانت لذلك الـجامد حصة في الـحياة العامة، فالشوق يعود اليه، والاّ فهو يعود الى الذي يـمثل ذلك الـجامد ويشرف عليه، بل يـمكن أن يقال بناء على هذا السر: ان الـماء اللطيف الرقراق ما ان يتسلـم امراً بالانـجـماد، حتى يـمتثل ذلك الامر بشدة وشوق الى حدّ انه يكسر الـحديد ويـحطـّمه. فاذن عندما تبلـّغ البرودةُ ودرجاتُ الانـجـماد أمراً ربانياً بالتوسع، الى الـماء الـموجود داخل كرة حديدٍ مقفلة، فان الـماء يـمتثل الامر بشدة وشوق بـحيث يـحطـّم كرة الـحديد تلك، وينـجـمد.

وعلى هذا فقس جـميع ما في الكون من سعي وحركة، ابتداءً من دوران الشـموس في افلاكها وانتهاءً الى دوران الذرات – كالـمولوي العاشق – ودوراتها واهتزازاتها.. فلا تـجد أحداً الاّ ويـجري على قانون القَدَر الإلـهي، ويظهر الى الوجود بالامر التكويني الصادر من يد القدرة الإلـهية والـمتضمن العلـم الإلـهي وأمره وارادته.. حتى ان كل ذرة، وكل موجود، وكل ذي حياة، انـما هو كالـجندي في الـجيش، لـه علاقات متباينة ووظائف مـختلفة، وارتباطات متنوعة مع كل دائرة من دوائره. فالذرة الـموجودة في عينيك – مثلاً – لـها علاقة مع خلايا العين، ومع اعصاب العين في الوجه، ومع الشرايين والاوردة في الـجسـم، وعلى اساس هذه العلاقات والروابط تُعَيـَّنُ لـها وظيفة، وعلى ضوئها تنتـج فوائد ومصالـح وهكذا..

فقس على هذا الـمنوال كل شيء في الوجود.

وعلى هذا الاساس فان كل شيء في الوجود يشهد على وجوب وجود القدير الـمطلق من جهتين:

الاولى: قيامه بوظائف تفوق طاقته الـمـحدودة بالآف الـمرات، مع أنه عاجزٌ عن ذلك، فيشهد بلسان عجزه إذن على وجود ذلك القدير الـمطلق.

الثانية: توافق حركته مع الدساتير التي تكوّن نظام العالـم، وانسجام عملـه مع القوانين التي تديـم توازن الـموجودات، فيشهد – بهذا الانسجام والتوافق – على وجود ذلك العليـم القدير.

ذلك لان جـماداً كالذرة – او حشرة كالنـحل – لا تستطيع ان تعرف النظام والـموازنة اللذين هما من الـمسائل الدقيقة الـمهمة الـمسطورة في الكتاب الـمبين.. إذ اين الذرة والنـحلة من قراءة ذلك الكتاب الذي هو في يدِ من يقول: } يوم نطوي السـماء كطيّ السِجل للكتب { (الانبياء:104) فلا يـجرؤ أحد أن يردّ هذه الشهادة للذرة الاّ مَن يتوهم بـحـماقة متناهية انها تـملك عيناً بصيرة تتـمكن بها قراءة الـحروف الدقيقة لذلك الكتاب الـمبين؟.

نعم، ان الفاطر الـحكيـم يدرج دساتيرَ الكتاب الـمبين واحكامه دَرجاً في غاية الـجـمال، ويـجـملـها في غاية الاختصار، ضمن لذةٍ خاصةٍ لذلك الشيء، وفي ثنايا حاجةٍ مـخصوصة لـه. فاذا ما عمل الشيء وفق تلك اللذة الـخاصة والـحاجة الـمـخصوصة، فانه يـمتثل – من حيث لا يشعر – احكام ذلك الكتاب الـمبين.

فمثلاً: ان البعوضة في حين مولدها ومـجيئها الى الدنيا تنطلق من بيتها وتهاجـم وجه الانسان وتضربه بعصاها الطويلة وخرطومها الدقيق وتفجـّر به السائل الـحيوي، وتـمصـّه مصاً، وهي في هذا الـهجوم تُظهر براعة عسكرية فائقة..

تُرى مَن علـم هذا الـمـخلوق الصغير الذي اتى حديثاً الى الدنيا وليس لـه من تـجربة سابقة، هذه الـمهارة البارعة، وهذه الفنون الـحربية الدقيقة، وهذا الاتقان في التفجير، فمن اين اكتسب هذه الـمعرفة؟.. فانا هذا السعيد الـمسكين اعترف بأني لو كنت بدلاً منه، لـما كنت أتعلـم تلك الـمهارة، وتلك الفنون العسكرية من كرّ وفرّ، وتلك الامور الدقيقة في استـخراج السائل الـحيوي الاّ بعد تـجارب طويلة، ودروس عديدة، ومدة مديدة.

فقس على البعوضة النـحل الـملـهمة والعنكبوت والبلبل الناسج لعشه نسجاً بديعاً، بل يـمكنك قياس النباتات على الـحيوانات ايضاً.

نعم ان الـجواد الـمطلق جل جلالـه قد سلـم بيد كل فردٍ من الاحياء ((بطاقة تذكرة)) مكتوبةً بـمداد اللذة وحبر الاحتياج، فاودع سبـحانه فيها منهاج اوامره التكوينينة، وفهرس ما يقوم به الفردُ من وظائف.. فسبـحانه من حكيـم ذي جلال، كيف أدرج ما يـخص النـحل من دساتير الكتاب الـمبين في تلك ((التذكرة)) الصغيرة وسطرَها في رأس النـحلة، وجعل مفتاحها لذةً خاصة بالنـحلة الدائبة، لتفتـح به تلك ((التذكرة)) الـمودعة في دماغها وتقرأ منهاج عملـها فيها وتدرك وظيفتها، وتسعى وتـجدّ وفقها، وتبرز حكمةً من الـحكم الـمكنونة في الآية الكريـمة:

} وأوحى ربـُّك الى النـحل { (النـحل:68).

فيا مَن يقرأ او يسـمع هذه الـمذكـِّرة الثامنة! ان كنت قد فهمتها حقَّ الفهم فقد فهمت إذن سراً من اسرار:

} ورحـمتي وسعت كلَ شيء { (الاعراف:156).

وأدركت حقيقةً من حقائق:

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يُسَبـح بـحـمدِهِ { (الاسراء:44).

وتوصلت الى دستور من دساتير:

} انـما أمره اذا ارادَ شيئاً ان يقول لـه كُن فيكون { (يس:82).

وتعلـمت مسألة لطيفة من مسائل:

} فسبـحان الذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ وإليه تُرجعون {

(يس:83).

الـمذكـِّرة التاسعة

اعلـم ان النبوة في البشرية فذلكة الـخير وخلاصة الكمال واساسه. وأن الدين الـحق فهرس السعادة. وأن الايـمان حُسنٌ منزَّه وجـمال مـجرّد. وحيث ان حسناً ساطعاً، وفيضاً واسعاً سامياً، وحقاً ظاهراً، وكمالاً فائقاً مشاهَدٌ في هذا العالـم، فبالبداهة يكون الـحقُ والـحقيقة في جانب النبوة، وفي يد الانبياء عليهم السلام، وتكون الضلالة والشر والـخسارة في مـخالفيهم.

فان شئت فانظر الى مثال واحد من بين الوف الامثلة على مـحاسن العبودية التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام وهو:

ان النبي e يوحـِّد بالعبادة قلوبَ الـموحدين في صلاة العيد والـجـمعة والـجـماعة، ويـجـمع ألسنتهم جـميعاً على كلـمة واحدة. حتى يقابل هذا الانسانُ عظمة الـخطاب الصادر من الـمعبود الـحق سبـحانه بأصوات قلوبٍ وألسنةٍ لا تـحد وبدعواتها، متعاوناً متسانداً، بـحيث يـُظهر الـجـميع عبوديةً واسعةً جداً ازاء عظمة أُلوهية الـمعبود الـحق فكأن كرة الارض برمـَّتها هي التي تنطق ذلك الذكر، وتدعو ذلك الدعاء، وتصلـّي لله باقطارها وتـمتثل بارجائها الامر النازل بالعزة والعظمة من فوق السـموات السبع: } وأقيـموا الصلاة{ (البقرة:43).

وبهذا الاتـحاد صار الانسان وهو الـمـخلوق الضعيف الصغير الذي هو كالذرة في هذه العوالـم، عبداً مـحبوباً لدى السـموات والارض من جهة وعظمة عبوديته لـه، واصبـح خليفة الارض وسلطانها، وسيد الـحيوانات ورئيسها، وغاية خلق الكائنات ونتيـجتها. أرأيت لو اجتـمعت في عالـم الشهادة ايضاً – كما هو في عالـم الغيب – اصوات الـمكبرين البالغين مئات الـملايين من الـمؤمنين بـ ((الله اكبر)) عقب الصلوات ولا سيـما صلاة العيد، واتـحدت جـميعها في آن واحد أما كانت متساوية لصوت تكبيرة ((الله اكبر)) تطلقها كرةُ الارض ومتناسبةً مع ضخامتها والتي اصبـحت كأنها إنسان ضخـم، إذ باتـحاد تكبيرات اولئك الـموحـّدين في آن واحد يكون هناك تكبيرةٌ عظيـمة جداً كأن الارض تطلقها، بل كأن الارض تتزلزل زلزالـها في صلاة العيد. اذ تكبـّر الله بتكبير العالـم الاسلامي باقطارها واوتادها وتسبـحه بتسبيـحهم واذكارهم فتنوي من صميـم قلب كعبتها الـمشرّفة التي هي قِبلتها، وتكبـّر بـ ((الله اكبر)) بلسان عَرَفة من فم مكة الـمكرمة. فتتـموّج صدى ((الله اكبر)) متـمثلةً في هواء كهوف أفواه جـميع الـمؤمنين الـمنتشرين في العالـم بـمثل تـموج ما لا يـحد من الصدى في كلـمة واحدة من ((الله اكبر)). بل تتـموج تلك التكبيرات والاذكار في اقطار السـموات وعوالـم البرزخ. فالـحـمد لله الذي جعل هذه الارض ساجدةً عابدةً لـه وهيأها لتكون مسجداً لعباده ومهداً لـمـخلوقاته. فنـحـمده سبـحانه ونسبـحه ونكبـّره بعدد ذرات الارض ونرفع اليه حـمداً بعدد موجوداته أن جعلنا من أمة مـحـمد e الذي علـمنا هذا النوع من العبادة.

الـمذكـِّرة العاشرة

ايها السعيد الغافل الـمتـخبط بسوء حالـه! اعلـم، ان الوصول الى نور معرفة الـحق سبـحانه، والى مشاهدة تـجلياته في مرايا الآيات والشواهد والنظر اليه من مسامات البراهين والدلائل يقتضي الاّ تتـجسّس بأصابع التنقيد على كل نورٍ جرى عليك، وورَد الى قلبك، وتظاهر الى عقلك، والاّ تنقده بيد التردد. فلا تـمدّن يدك لأخذ نورٍ اضاء لك. بل تـجرّد من اسباب الغفلة، وتعرّض لذلك النور، وتوجّه اليه، فاني قد شاهدت أن شواهد معرفة الله وبراهينها ثلاثة اقسام:

قسـم منه: كالـماء يُرى ويـحسّ، ولكن لا يـمسك بالاصابع. ففي هذا القسـم عليك بالتـجرّد عن الـخيالات، والانغماس فيه بكليتك، فلا تتـجسس باصبع التنقيد، فانه يسيل ويذهب، اذ لا يرضى ماءُ الـحياة ذلك بالاصبع مـحلاً.

القسـم الثاني: كالـهواء، يـحسّ ولكن لا يُرى، ولا يُتـخذ ولا يُستـمسك، فتوجه لنفحات تلك الرحـمة، وتعرّض لـها، وقابلـها بوجهك وفمك وروحك، فان نظرت الى هذا القسـم بيد التردد والريب ومددت اليه يد التنقيد، بدلاً من الانتعاش روحياً، فانه ينطلق، إذ لا يتـخذ يدك مسكناً لـه ولا يرضى بها منزلاً.

القسـم الثالث: فهو كالنور، يُرى ولكن لا يـحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فتعرّض لـه وقابلـه ببصيرة قلبك ونظر روحك، وتوجـّه اليه ببصرك، ثم انتظر، فلربـما يأتي بذاته ومن نفسه. لان النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالاصابع، بل بنور البصيرة يُصاد. فاذا مددت اليه يداً مادية حريصةً، ووزنته بـموازين مادية، فانه يـختفي وإن لـم ينطفىء، لان نوراً كهذا مثلـما انه لا يرضى بالـماديّ حبساً، ولا يدخل بالقيد ابداً، فانه لا يرضى بالكثيف مالكاً وسيداً عليه.

الـمذكـِّرة الـحادية عشرة

انظر الى درجة رحـمة القرآن الواسعة وشفقته العظيـمة على جـمهور العوام ومراعاته لبساطة افكارهم ونظرهم غير الثاقب الى امور دقيقة، انظر كيف يكرر ويُكثر الآيات الواضحة الـمسطورة في جباه السـموات والارض، فيقرئهم الـحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة، كخلق السـموات والارض وانزل الـماء من السـماء، واحياء الارض.. وامثالـها من الآيات. ولا يوجـّه الانظار الى الـحروف الدقيقة الـمكتوبة في الـحروف الكبيرة الاّ نادراً، كيلا يصعب عليهم الامر.

ثم انظر الى جزالة بيان القرآن وسلاسة اسلوبه وفطريته، كيف يتلو على الانسان ما كتبتْهُ القدرة الإلـهية في صحائف الكائنات من آيات حتى كأن القرآن قراءةٌ لـما في كتاب الكائنات وانظمتها، وتلاوةٌ لشؤون بارئها الـمصـّور وافعالـه الـحكيـمة. فان شئت استـمع بقلبٍ شهيد لقولـه تعالى:

} عَمّ يِتَساءَلون{ (النباء:1) } قل اللهم مالك الـملك { (آل عمران:26) وأمثالـهما من الآيات الكريـمة.

الـمذكـِّرة الثانية عشرة

يا احبائي الـمستـمعين لـهذه الـمذكـِّرات، اعلـموا!

اني قد اكتب تضرّع قلبي الى ربـّي مع ان من شأنه ان يُستَر ولا يُسطَر، رجاءً من رحـمته تعالى ان يقبل نُطق كتابي، بدلاً عني إذ أسكت الـموت لساني.. نعم، لا تسع توبة لساني في عمري القصير كفارة لذنوبي الكثيرة. فنطقُ الكتاب الثابت الدائم أوفى لـها. فقبل ثلاث عشرة سنة واثناء اضطراب روحي عارم وفي غمرة تـحول ضحكات ((سعيد القديـم)) الى بكاء ((سعيد الـجديد)) أفقت من ليل الشباب على صبـح الـمشيب فسطرت هذه الـمناجاة باللغة العربية، اوردها هي:

ياربي الرحيـم وياإلـهي الكريـم!

قد ضاع بسوء اختياري عمري وشبابي، وما بقي من ثمراتها في يدي الاّ آثام مؤلـمة مُذلـّة، وآلام مضرّة مُضلـّة، ووساوسٌ مزعجة معجزة، وانا بهذا الـحـمل الثقيل، والقلب العليل، والوجه الـخجيل متقربٌ – بالـمشاهدة – بكمال السرعة، بلا انـحراف وبلا اختيار كآبائي واحبابي واقاربي واقراني الى باب القبر، بيت الوحدة والانفراد في طريق ابد الآباد، للفراق الابدي من هذه الدار الفانية الـهالكة باليقين، والآفلة الراحلة بالـمشاهدة، ولا سيـما الغدارة الـمكارة لـمثلي ذي النفس الامارة.

فيا ربي الرحيـم ويا ربي الكريـم!

أراني عن قريب لبستُ كفني وركبت تابوتي، وودعت أحبابي، وتوجهت الى باب قبري، فأنادي في باب رحـمتك: الأمان الأمان ياحنان يامنـّان، نـجني من خجالة العصيان.

آهٍ.. كفني على عنقي، وانا قائم عند رأس قبري، أرفع رأسي الى باب رحـمتك اُنادي: الأمان الأمان يارحـمن ياحنـّان، خلصني من ثقل حـمل العصيان.

آهٍ.. انا ملتف بكفني وساكن في قبري وتركني الـمشيعون، وانا منتظر لعفوك ورحـمتك.. ومشاهدٌ بأن لا ملـجأ ولا منـجأ الاّ اليك، وأُنادي: الأمان الأمانَ من ضيق الـمكان، ومن وحشة العصيان، ومن قبـح وجه الآثام. يارحـمن ياحنان.. يا منـّان.. ويا ديان نـجني من رفاقة الذنوب والعصيان..

الـهي! رحـمتك ملـجئي ووسيلتي، واليك ارفع بثي وحزني وشكايتي.

يا خالقي الكريـم، وياربي الرحيـم، وياسيدي، ويامولاي.. مـخلوقك، ومصنوعك وعبدك العاصي العاجز، الغافل، الـجاهل العليل الذليل الـمسيء الـمسن الشقي الآبق، قد عاد بعد اربعين سنة الى بابك ملتـجأً الى رحـمتك، معترفاً بالذنوب والـخطيئات مبتلى بالاوهام والاسقام، متضرعاً اليك.. فان تقبل وتغفر وترحـم فانت لذاك اهلٌ وانت ارحـم الراحـمين والاّ فايّ بابٍ يُقصد غير بابك.. وانت الرّبُ الـمقصود والـحق الـمعبود. ولا الـه الاّ انت وحدك لا شريك لك.. آخر الكلام في الدنيا واول الكلام في الآخرة وفي القبر: اشهد ان لا إلـه الاّ الله وأشهد أن مـحـمداً رسول الله e .

الـمذكـِّرة الثالثة عشرة

عبارة عن خـمسِ مسائل قد صارت مدار الالتباس.

T اولاها:

ان الذين يعملون في طريق الـحق ويـجاهدون في سبيلـه، في الوقت الذي ينبغي لـهم أن يفكروا في واجبهم وعملـهم فانهم يفكرون فيـما يـخص شؤون الله سبـحانه وتدبيره، ويبنون اعمالـهم عليه فيـخطئون.

ورد في كتاب ((ادب الدنيا والدين)) أن إبليس – لعنة الله عليه – حين ظهر لعيسى بن مريـم عليه السلام قال: ألستَ تقول: إنه لن يُيبك الاّ ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم. قال: فارمِ نفسك من ذروةِ هذا الـجبل فانه إن يقدِّر لك السلامة تسلـم، فقال لـه: يا ملعون! إن لله أن يـختبر عبده وليس للعبد أن يـختبر ربـّه.

أي: ان الله سبـحانه هو الذي يـختبر عبده ويقول لـه: إذا عملت هكذا سأوافيك بكذا، أرأيتك تستطيع القيام به؟. يـختبره.. ولكن العبد ليس لـه الـحق ولا في طوقه اصلاً أن يـختبر ربـّه ويقول: اذا قمتُ بالعمل هكذا فهل تعمل لي كذا؟. فهذا الاسلوب من الكلام الذي يوميء بالاختبار سوءُ ادبٍ تـجاه الربوبية، وهو منافٍ للعبودية. فما دام الامر هكذا، فعلى الـمرء أن يؤدي واجبه ولا يتدخل بتدبير الله سبـحانه وقَدَره.

كان جلال الدين خوارزم شاه(1) وهو احد ابطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة. كان يتقدم جيشه الى الـحرب، فخاطبه وزراؤه ومقـّربوه: سيُظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم!

فاجابهم: ((عليَّ الـجهاد في سبيل الله إتباعاً لأمره سبـحانه ولا حق لي فيـما لـم أُكلف به من شؤونه، فالنصر والـهزيـمة من تقديره سبـحانه)) ولبلوغ هذا البطل العظيـم ادراك هذا السر الدقيق في الاستسلام الى امر الله والانقياد اليه، كان النصرُ حليفه في اغلب الاحيان نصراً خارقاً.

نعم انه ينبغي الاّ يفكر الانسان – بـما لديه من الـجزء الاختياري – بالنتائج التي يتولاّها الله سبـحانه.

فمثلاً: يزداد حـماس بعض الاخوة وشوقهم الى رسائل النور باستـجابة الناس لـها، فينشطون اكثر.. ولكن عندما لا يستـجيب لـها الناس، تفتُر قوة الضعفاء الـمعنوية وتنطفىء جذوة شوقهم. والـحال ان سيدنا الرسول الاعظم e وهو الاستاذ الاعظم ومقتدي الكل والرائد الاعلى قد اتـخذ الامر الإلـهي: } وما على الرسول الاّ البلاغُ الـمبينُ{ (النور:54) دليلاً ومرشداً لـه، فكلـما أعرض الناس عن الاصغاء وتولـّوا عنه ازداد جهاداً وسعياً في سبيل التبليغ. لانه عَلـم يقيناً ان جعل الناس يصغون ويهتدون انـما هو من شؤون الله سبـحانه، وفق الآية الكريـمة: } إنك لا تهدي مَن أحببتَ ولكنَ الله يَهدي مَن يشاءُ{ (القصص:56). فما كان يتدخل e في شؤونه سبـحانه.

لذا فيا اخوتي! لا تتدخلوا في اعمال وشؤون لا تعود اليكم ولا تبنوا عليها اعمالكم ولا تتـخذوا طور الاختبار تـجاه خالقكم.

T الـمسألة الثانية:

ان غاية امتثالُ امر الله ونيلُ رضاه، فالداعي الى العبادة هو الامر الإلـهي، ونتيـجتها نيلُ رضاه سبـحانه. اما ثمرتها وفوائدها فأخروية. الاّ انه لا تنافي العبادة اذا مُنـحت ثمراتٌ تعود فائدتها الى الدنيا، بشرط الاّ تكون علـّتها الغائية، وألاّ يُقصد في طلبها. فالفوائد التي تعود الى الدنيا والثمرات التي تترتب عليها من نفسها وتـمنـح من دون طلب لاتنافي العبادة، بل تكون بـمثابة حث ((وترجيـح)) للضعفاء. ولكن اذا صارت الفوائد الدنيوية او منافعها علـةً، او جزءاً من العلة لتلك العبادة او لذلك الورد او الذكر فانها تُبطل قسـماً من تلك العبادة. بل تـجعل ذلك الورد الذي لـه خصائص عدة عقيـماً دون نتيـجة.

فالذين لا يفهمون هذا السر، ويقرأون ((الاوراد القدسية للشاه النقشبند)) مثلاً التي لـها مئات من الـمزايا والـخواص، او يقرأون ((الـجوشن الكبير)( الذي لـه ألفٌ من الـمزايا والفضائل وهم يقصدون بعض تلك الفوائد بالذات، لا يـجدون تلك الفوائد، بل لن يـجدوها ولن يشاهدوها، وليس لـهم الـحق لـمشاهدتها البتة؛ لأنه لا يـمكن ان تكون تلك الفوائد علـّة لتلك الاوراد، فلا تُطلب منها تلك الفوائد قصداً، لان تلك الفوائد تترتب بصورة فضل إلـهي على ذلك الوِرد الذي يُقرأ قراءة خالصةً دون طلب شيءٍ. فأما اذا نواها القاريء فان نيـّتها تُفسد اخلاصه جزئياً، بل تـخرجها من كونها عبادةً، فتسقط قيـمتها.

بيد ان هناك امراً آخر، هو أن اشخاصاً ضعفاء بـحاجة دائمة الى مشوّق ومرجـّح فاذا ما قرأ الاوراد قراءة خالصة لله متذكراً تلك الفوائد فلا بأس في ذلك، بل هو مقبول.

ولعدم ادراك هذه الـحكمة، يقع الكثيرون فريسة الريب والشك عند عدم وجدانهم تلك الفوائد التي رُويت عن الاقطاب والسلف الصالـحين، بل قد ينكرونها.

T الـمسألة الثالثة:

((طُوبى لـمنْ عَرَف حدّه ولـم يتـجاوز طَوره)).

ان هناك تـجليات للشـمس على كل شيء. ابتداءً من اصغر ذرة وبلورة زجاج وقطرة ماء ومن الـحوض الكبير والبـحر العظيـم، وانتهاءً بالقمر والكواكب السيارة. كل منها يعرف حدّه ويطبع على نفسه انعكاس الشـمس وصورتها حسب قابليته. فتستطيع قطرة ماءٍ أن تقول: عندي انعكاسٌ للشـمس، وذلك حسب قابليتها. ولكن لا تـجرؤ على القول: انا مرآة للشـمس كالبـحر.

كذلك الامر في مقامات الاولياء، ففيها مراتبٌ عدّة، حسب تنوّع تـجليات الاسـماء الإلـهية الـحسنى، فكلُ اسـم من الاسـماء الـحسنى لـه تـجلياتٌ – كالشـمس في الـمثال – ابتداءً من القلب وانتهاءً بالعرش. فالقلب عرشٌ، ولكن لا يستطيع ان يقول: ((أنا كالعرش الاعظم)). ومن هنا كان السالك في سبيل الفخر والغرور يلتبس عليه الامر فيـجعل قلبه الصغير جداً كالذرة مساوياً للعرش الاعظم، ويعتبر مقامه الذي هو كالقطرة كفواً مع مقام الاولياء العظام الذي هو كالبـحر.فبدلاً من أن يصرف همـّه لـمعرفة اساس العبادة الذي هو العجز والفقر وادراك تقصيره ونقصه امام بارئه القدير والتضرع امام عتبة ألوهيته سبـحانه والسجود عندها بكل ذل وخضوع، وتراه يبدر منه التصنـّع والتكلف لأجل أن يلائم نفسه ويـحافظ عليها مع مستوى تلك الـمقامات السامية، فيقع فيـما لا طائل وراءه من الغرور والانانية والـمشاكل العويصة.

الـخلاصة:

لقد ورد في الـحديث الشريف: ((هَلَك الناس الاّ العالـمون وهلك العالـمون الاّ العاملون وهلك العاملون الاّ الـمـخلصون والـمـخلصون على خطرٍ عظيـم))(1).

أي ان مـحور النـجاة ومدارها الاخلاص، فالفوز به اذن امر في غاية الاهمية لأن ذرة من عمل خالص أفضل عند الله من أطنانٍ من الاعمال الـمشوبة. فالذي يـجعل الانسان يـحرز الاخلاص هو تفكـّره في ان الدافع الى العمل هو الامر الإلـهي لا غير، ونتيـجته كسب رضاه وحده، ثم عدم تدخلـه في الشؤون الإلـهية.

ان هناك اخلاصاً في كل شيء. حتى أن ذرةً من حُبٍ خالص تفضل على اطنان من الـحب الصوري الشكلي. وقد عبـّر احدهم شعراً عن هذا النوع من الـحب:

وما انا بالباغي على الـحب رشوةً ضعيفٌ هوىً يُبغى عليه ثوابُ

أي لا أطلب على الـحب رشوة ولا أجرة ولا عوضاً ولا مكافأة، لأن الـحب الذي يطلب ثواباً ومكافأة حبٌ ضعيف لا يدوم. فهذا الـحب الـخالص قد أودعه الله سبـحانه في فطرة الانسان ولاسيـما الوالدات عامة، فشفقة الوالدة مثال بارز لـهذا الـحب الـخالص.

والدليل على ان الوالدات لا يطلبن تـجاه مـحبتهن لأولادهن مكافأة ولا رشوة قط هو جُودُهن بانفسهن لأجل اولادهن، بل فداؤهن حتى باخراهن لأجلـهم. حتى ترى الدجاج تهاجـم الكلب انقاذاً لأفراخها من فمها – كما شاهدها خسرو – علـماً أن حياتها هي كل مالديها من رأسـمال.

T الـمسألة الرابعة:

ينبغي ألاّ تؤخذ النِعم التي تَرِدُ بأسباب ووسائل ظاهرية على حساب تلك الاسباب والوسائل، لأن ذلك السبب وتلك الوسيلة، إما لـه اختيار او لا اختيار لـه. فان لـم يكن لـه اختيار – كالـحيوان والنبات – فلا ريب انه يعطيك بـحساب الله وباسـمه. وحيث أنه يذكر الله بلسان حالـه، أي يقول: بسـم الله، ويسلـمك النعمة، فخذها باسـم الله وكُلـها.

ولكن إن كان ذلك السبب لـه اختيار، فعليه أن يذكر الله ويقول: بسـم الله، فلا تأخذ منه الاّ بعد ذكره اسـم الله، لأن الـمعنى الاشاري – فضلاً عن الـمعنى الصريـح – للآية الكريـمة: } ولا تأكلوا مـما لـم يُذكر اسـم الله عليه{ (الانعام:121) يرمز الى: لا تأكلوا من نعمةٍ لـم يُذكر اسـم مالكها الـحقيقي عليها وهو الله، ولـم يسلـّم اليك باسـمه.

وعلى هذا فعلى الـمعطي ان يذكر اسـم الله، وعلى الآخذ ان يذكر اسـم الله. فان كان الـمعطي لا يذكر اسـم الله، وانت في حاجة الى الأخذ، فاذكر انت اسـم الله، ولكن ارفع بصرك عالياً فوق رأس الـمعطي وانظر الى يد الرحـمة الإلـهية التي انعمت عليه وعليك معاً، وقبـّلـها بالشكر، وتسلـم منها النعمة. أي انظر الى الإنعام من خلال النعمة، وتذكـّر الـمنعم الـحقيقي من خلال الإنعام، فهذا النظر والتذكر شكرٌ. ومن ثم ارجع بصرك – ان شئت – وانظر الى السبب او الوسيلة، وادع لـه بالـخير واثنِ عليه، لورود النعمة على يديه.

ان الذي يوهم عَبَدة الاسباب ويـخدعهم هو: اعتبارُ احد الشيئين علةً للآخر عند مـجيئهما معاً، او عند وجودهما معاً. وهذا هو الذي يسـمى بـ ((الاقتران)).

وحيث ان عدم وجود شيء ما، يصبـح علةً لعدم وجود نعمة، لذا يتوهم الـمرء ان وجود ذلك الشيء هو علة لوجود تلك النعمة، فيبدأ بتقديـم شكره وامتنانه الى ذلك الشيء فيـخطيء؛ لأن وجودَ نعمة ما يترتبُ على مقدمات كثيرة وشرائط عديدة، بينـما إنعدامُ تلك النعمة يـحدث بـمـجرد انعدام شرط واحد فقط.

مثلاً: ان الذي لا يفتـح مـجرى الساقية الـمؤدية الى الـحديقة يصبـح سبباً وعلةً لـجفاف الـحديقة ووسيلةً لـموتها، وبالتالي الى انعدام النعم التي فيها. ولكن وجود النعم في تلك الـحديقة لا يتوقف على عمل ذلك الشخص وحده، بل يتوقف ايضاً على مئاتٍ من الشرائط الاخرى، بل لا تـحصل تلك النعم كلـها الاّ بالعلـّة الـحقيقية التي هي القدرةُ الربانية والارادة الإلـهية.

فافهم من هذا مدى الـخطأ في هذه الـمغالطة،واعلـم فداحة خطأ عبدةِ الاسباب. نعم! ان الاقتران شيءٌ والعلة شيء آخر. فالنعمة التي تأتيك وقد اقترنت بنيـّة احسان من أحدهم اليك، علـّتها الرحـمة الإلـهية. وليس لذاك الشخص الاّ الاقتران دون العلة.

نعم، لو لـم ينو ذلك الشخص تلك النيـّة في الاحسان اليك لـما كانت تأتيك تلك النعمة، أي ان عدم نيته كان علةً لعدم مـجيء النعمة، ولكن ذلك الـميل للاحسان لا يكون علةً لوجود النعمة ابداً، بل ربـما يكون مـجرد شرطٍ واحد من بين مئات الشروط الاخرى. ولقد التبس الامر على بعض طلاب رسائل النور، مـمن افاض الله عليهم من نعَمه (امثال خسرو ورأفت..) فالتبس عليهم الاقتران بالعلـّة، فكانوا يبدون الرضى باستاذهم ويثنون عليه ثناءً مفرطاً. والـحال ان الله سبـحانه قد قَرنَ نعمةَ استفادتهم من الدروس القرآنية مع احسانه الى استاذهم من نعمة الافادة، فالامر اقترانٌ ليس الاّ.

فهم يقولون: لو لـم يقدم استاذنا الى هنا، ما كنا لنأخذ هذا الدرس الإيـماني، فافادته اذن هي علـّةٌ لاستفادتنا نـحن. وانا اقول: يا اخواني الاحبة، ان الـحق سبـحانه وتعالى قد قَرَن النعمة التي انعمها عليّ بالتي انعمها عليكم، فالعلـّة في كلتا النعمتين هي الرحـمة الإلـهية.

وقد كنت يوماً اشعر بامتنان بالغ نـحو طلاب يـملكون قلـماً سيالاً مثلكم ويسعون الى خدمة النور. فالتبس عليّ الاقتران بالعلـّة، فكنت اقول: تُرى كيف كان ينهض في أداء خدمة القرآن الكريـم من كان مثلي في رداءة الـخط، لولا هؤلاء الطلبة؟. ولكن فَهمتُ بعدئذ ان الـحق سبـحانه وتعالى بعد ما أنعم عليكم النعمة الـمقدسة بـجودة الكتابة، مَنّ عليّ بالتوفيق في السير في هذه الـخدمة القرآنية، فاقترن الامران معاً، فلا يكون احدهما علـّة للآخر قط، لذا فلا أقدم شكري وامتناني لكم، بل ابشـّركم واهنئكم. وعليكم انتـم كذلك ان تدعوا لي بالتوفيق والبركة بدلاً من الرضى والثناء.

ففي هذه الـمسألة ميزانٌ دقيقٌ تُعرف به درجات الغفلة والشرك الـخفي.

T الـمسألة الـخامسة:

كما انه ظلـم عظيـم اذا ما أعطي الى شخص واحد ما تـملكه الـجـماعة، ويكون الشخص مرتكباً ظلـماً قبيـحاً اذا ما غصبَ ما هو وقفٌ للـجـماعة، كذلك الامر في النتائج التي تتـحصل بـمساعي الـجـماعة وعملـهم، والشرف والـمنزلة الـمترتبة على مـحاسن الـجـماعة وفضائلـها، اذ ما أُسند الى رئيسها او استاذها او مرشدها يكون ظلـماً واضحاً بـحق الـجـماعة، كما هو ظلـم بيـّن بـحق الاستاذ او الرئيس نفسه، لأن ذلك يداعب أنانيته الـمستترة فيه ويسوقه الى الغرور. فبينـما هو حارسٌ بوابٌ للـجـماعة، إذ به يتزيا يزيّ السلطان ويُوهم الاخرين بزيـّه، فيظلـم نفسه. بل ربـما يفتـح لـه هذا طريقاً الى نوع من شرك خفي. نعم، انه لا يـحق ان يأخذ آمرُ طابورٍ الغنائم التي حصل عليها الـجنود من فتـحهم قلعةً حصينة، ولا يـمكنه أن يُسند إنتصارهم الى نفسه.

لأجل هذا يـجب الاّ يُنظر الى الاستاذ او الـمرشد على انه الـمنبع او الـمصدر بل ينبغي اعتباره والنظر اليه على انه مَعكَس ومظهرٌ فحسب. كالـمرآة التي تعكس اليك حرارة الشـمس وضوءها، فمن البلاهة ان تتلقى الـمرآة كأنها مصدرٌ لـهما فتنسى الشـمس نفسها، ومن ثم تُولى اهتـمامك ورضاك الى الـمرآة بدلاً عن الشـمس!.

نعم، انه لابد من الـحفاظ على الـمرآة لانها مَظهرٌ يظهر تلك الصفات. فروح الـمرشد وقلبه مرآةٌ، تصبـح مَعكَساً للفيوضات الربانية التي يفيضها الـحق سبـحانه عليها، فيصبـح الـمرشد وسيلة لانعكاس تلك الفيوضات الى مريده.

لذا يـجب الاّ يُسند اليه مقام اكثر من مقام الوسيلة – منِ حيث الفيوضات – بل يـُحتـمل الاّ يكون ذلك الاستاذ الذي ينظر اليه كأنه مصدر مظهراً ولا مصدراً. وانـما يرى مريده ما أخذه من فيوضات – في طريق آخر – يراها في مرآة روح شيـخه، وذلك لـما يـحـمل من صفاء الاخلاص نـحوه وشدة العلاقة به ودنو صلته به وحصر نظره فيه. مَثَلـه في هذا كمثل الـمنوّم مغناطيسياً إذ ينفتـح في خيالـه نافذةً الى عالـم الـمثال بعد إمعانه النظر في الـمرآة، فيشاهد فيها مناظر غريبة عجيبة، علـماً ان تلك الـمناظر ليست في الـمرآة وانـما فيـما وراء الـمرآة مـما يتراءى لـه من نافذة خيالية التي انفتـحت نتيـجة إمعان النظر في الـمرآة.

لـهذا يـمكن ان يكون مريدٌ مـخلصٌ لشيـخ غير كامل أكمل من شيـخه، فينبرى الى ارشاد شيـخه، ويصبـح شيـخاً لشيـخه.

الـمذكـِّرة الرابعة عشرة.

تتضمن اربعة رموز صغيرة تـخصّ التوحيد:

الرمز الاول:

يا من يستـمدّ من الاسباب، إنك ((تنفخ من غيرِ ضَرم وتستسـمن ذا ورم))(1) اذا رأيت قصراً عجيباً يُبنى من جواهر غريبة، لا يوجد وقت البناء بعضُ تلك الـجواهر الاّ في الصين، وبعضها الاّ في الاندلس، وبعضها الاّ في اليـمن، وبعضها الاّ في سيبريا. واذا شاهدت ان البناء يتـم على أحسن ما يكون، وتـجلب لـه تلك الاحجار الكريـمة من الشرق والغرب والشـمال والـجنوب باسرع وقت وبسهولة تامة وفي اليوم نفسه.. فهل يبقى لديك ريب في ان بنـّاء ذلك القصر باسط هيـمنته على الكرة الارضية؟.

وهكذا كلُ كائنٍ، بناءٌ، وقصر إلـهي، ولاسيـما الانسان. فهو من اجـمل تلك القصور ومن اعجبها، لأن قسـماً من الاحجار الكريـمة لـهذا القصر البديع من عالـم الارواح، وقسـم منها من عالـم الـمثال واللوح الـمـحفوظ، وقسـم آخر من عالـم الـهواء، ومن عالـم النور، ومن عالـم العناصر. كما امتدت حاجاته الى الابد، وانتشرت آمالـه في اقطار السـموات والارض، وشرّعت روابطه وعلاقاته في طبقات الدنيا والآخرة.

فيا هذا الانسان الذي يـحسب نفسهُ انساناً، انت قصر عجيب جداً، وعمارة غريبة جداً. فما دامت ماهيتُك هكذا، فلا يكون خالقك اذاً الاّ ذلك الذي يتصرف في الدنيا والآخرة بيسر التصرف في منزلين اثنين، ويتصرف في الارض والسـماء كتصرفه في صحيفتين، ويتصرف في الازل والابد كأنهما الامس والغدُ، فلا معبود يليق بك، ولا ملـجأ لك، ولا منقذ الاّ ذلك الذي يـحكم على الارض والسـماء ويـملك أزمة الدنيا والعقبى.

الرمز الثاني:

هناك بعضُ الـحـمقى يتوجهُ بـحبه الى الـمرآة اذا ما رأى الشـمس فيها. وذلك لعدم معرفته الشـمس نفسها، فيـحافظ على الـمرآة بـحرصٍ شديد لاستبقاء الشـمس، ولكيلا تضيع! ولكن اذا تفطـّن أن الشـمس لا تـموت بـموت الـمرآة، ولا تفنى بإنكسارها توجـّه بـمـحبته كلـها الى الشـمس التي في السـماء. وعندئذٍ يُدرك أن الشـمس التي تشاهَد في الـمرآة ليست تابعة للـمرآة، ولا يتوقف بقاؤها ببقاء الـمرآة، بل ان بقاء حيوية الـمرآة وتلألأها إنـما هو ببقاء تـجليات الشـمس ومقابلتها. فبقاء الـمرآة تابعٌ لبقاء الشـمس.

فيا ايها الانسان! ان قلبك وهويتك وماهيتَك مرآةٌ، وما في فطرتك من حبّ البقاء ليس لأجلـها، بل لأجل ما فيها من تـجلٍ لأسـم الباقي ذي الـجلال، الذي يتـجلـّى فيها حسب استعداد كل انسان. ولكن صُرفَ وجهُ تلك الـمـحبة الى جهة اخرى نتيـجة البلاهة. فما دام الأمر هكذا فقل: ياباقي انت الباقي. فاذ انت موجود وباقٍ، فليفعل الفناء بنا ما شاء فلا نبالي بـما نلاقي.

الرمز الثالث:

ايها الانسان! إن من غرائب ما أودع الفاطر الـحكيـم في ماهيتك انه: بينـما لا تسعك الدنيا احياناً فتقول: أفّ! أفّ! ضجراً كالـمسجون الـمـخنوق، وتبـحث عن مكان اوسعَ منه، اذ بك تسعك خردلة من عمل، من خاطرة، من دقيقة، حتى تفنى فيها. فقلبك وفكرُك اللذان لا تسَعهما الدنيا الضخـمة، تسَعهما الذرة الصغيرة، فتـجول بأشد احاسيسك ومشاعرك في تلك الـخاطرة الدقيقة الصغيرة.

وقد اودع الباريء سبـحانه في ماهيتك أجهزةً ولطائف معنوية دقيقة، اذا ابتلع بعضها الدنيا فلا يشبع، ويضيق بعضها ذرعاً عن ذرة ولا يتـحـمل شُعيرة – كالعين التي لا تتـحـمل شعرة والرأس الذي يتـحـمل اثقالاً هائلة. فتلك اللطيفة لا تتـحـمل ثقلاً كالشعرة الدقيقة، أي لا تتـحـمل حالة هينة جداً نشأت من الضلالة ونـجـمت من الغفلة. بل قد تنظفىء جذوتها وتـموت.

فاحذر! وخفف الوطء، وخِفْ من الغَرق، فيغرق معك ألطف لطائفك التي تبتلع الدنيا في أكلة، او كلـمة، او لـمعةَ، او شارة، او بقلة، او قبلة. فهناك اشياء صغيرة جداً تتـمكن – في جهة – ان تستوعب ما هو ضخـم جداً. فانظر ان شئت كيف تغرق السـماء بنـجومها في مرآة صغيرة، وكيف كتب الـحق سبـحانه في خردلة حافظتك اكثر ما في صحيفة اعمالك واغلب ما في صحائف اعمارك. فسبـحانه من قادر قيوم!.

الرمز الرابع:

يا عابد الدنيا! ان دنياك التي تتصورها واسعةً فسيـحةً ما هي الاّ كالقبر الضيـّق، ولكن جدرانه من مرآةٍ تتعاكس فيها الصور، فتراه فسيـحاً رحباً واسعاً مدّ البصر، فينـما منزلك هذا هو كالقبر تراه كالـمدينة الشاسعة، ذلك لأن الـجدار الأيـمن والايسر لتلك الدنيا واللذين يـمثلان الـماضي والـمستقبل – رغم انهما معدومان وغير موجودين – فانهما كالـمرآة تعكسان الصور في بعضهما البعض الآخر فتوسّعان وتبسطان اجنـحة زمان الـحال الـحاضرة الذي هو قصيرة جداً وضيق جداً. فتـختلط الـحقيقة بالـخيال، فترى الدنيا الـمعدومة موجودةً. فكما ان خطاً مستقيـماً وهو في حقيقته رفيعٌ جداً، إذا ما تـحرك بسرعة يظهر واسعاً كأنه سطح كبير، كذلك دنياك انت، هي في حقيقتها ضيقـّة جداً، جدرانها قد توسعت ومـُدّت بغفلتك وتوهم خيالك، حتى اذا ما تـحرك رأسك من جراء مصيبة اصابتك، تراه يصدم ذلك الـجدار الذي كنت تتصوره بعيداً جداً. فيطـّير ما تـحـملـه من خيال، ويطرد نومك. وعندئذ تـجد دنياك الواسعة أضيقَ من القبر، وترى زمانك وعمرك يـمضي اسرع من البرق، وتنظر الى حياتك تراها تسيل اسرع من النهر.

فما دامت الـحياة الدنيا والعيش الـمادي والـحياة الـحيوانية هكذا، فانسلْ اذن من الـحيوانية، ودع الـمادية، وادخل مدارج حياة القلب.. تـجد ميدان حياةٍ أرحب، وعالـم نورٍ اوسع مـما كنت تتوهمه من تلك الدنيا الواسعة.

وما مفتاح ذلك العالـم الأرحب الاّ معرفةُ الله، وانطاقُ اللسان وتـحريك القلب، وتشغيل الروح بـما تفيده الكلـمة الـمقدسة (لا إلـه الاّ الله) من معانٍ واسرار.

الـمذكـِّرة الـخامسة عشرة

وهي ثلاث مسائل:

الـمسألة الاولى(1):

يامَن يريد ان يرى دليلاً على حقيقة الآيتين الكريـمتين: } فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَره ` ومَن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يَره { (الزلزال:7-8) اللتين تشيران الى التـجلي الأتـم لاسـم الله ((الـحفيظ)).

ان التـجلي الاعظم لاسـم الله الـحفيظ ونظير الـحقيقة الكبرى لـهاتين الآيتين مبثوثٌ في الارجاء كافة، يـمكنك أن تـجده بالنظر والتأمل في صحائف كتاب الكائنات، وذلك الكتاب الـمكتوب على مسطر الكتاب الـمبين وعلى موازينه ومقاييسه.

خذ – مثلاً – غُرفةً بقبضتك من اشتات بذور الازهار والاشجار، تلك البذيرات الـمـختلطة والـحبتّات الـمـختلفة الاجناس والانواع وهي الـمتشابهة في الاشكال والاجرام، أدفن هذه البُذيرات في ظلـمات تراب بسيط جامد، ثم اسقها بالـماء الذي لاميزان لـه ولايـميز بين الاشياء فاينـما توجهه يسيل ويذهب. ثم عُدْ اليه عند الربيع الذي هو ميدان الـحشر السنوى، وانظر وتأمل كيف ان مَلَك الرعـّد ينفخُ في صُوره في الربيع كنفخ اسرافيل، مُنادياً الـمطر ومُبشراً البذيرات الـمدفونة تـحت الارض بالبعث بعد الـموت. فانت ترى ان تلك البذيرات التي هي في منتهى الاختلاط والامتزاج مع غاية التشابه تـمتثل تـحت انوار تـجلـّي اسـم ((الـحفيظ))، إمتثالاً تاماً بلا خطأ الأوامر التكوينية الآتية اليها من بارئها الـحكيـم. فتلائم اعمالـها وتوافق حركاتها مع تلك الاوامر بـحيث تستشف منها لـمعان كمال الـحكمة والعلـم والارادة والقصد والشعور.

الا ترى كيف تتـمايز تلك البذيرات الـمتـماثلة، ويفترق بعضها عن البعض الآخر. فهذه البُذيرة قد صارت شجرةَ تينٍ تنشر نِعم الفاطر الـحكيـم فوق رؤوسها وتنثرها عليها وتـمدّها الينا بايدي اغصانها. وهاتان البُذيرتان الـمتشابهتان بها قد صارتا زهرة الشـمس وزهرة البنفسج.. وامثالـها كثير من الازهار الـجـميلة التي تتزين لأجلنا وتواجهنا بوجه طليق مبتسـم متوددةً الينا.. وهناك بذيراتٌ اخرى قد صارت فواكه طيبة نشتهيها، وسنابل ملأى، واشجاراً يافعة، تثير شهيتنا بطعومها الطيبة، وروائحها الزكية، واشكالـها البديعة فتدعونا الى انفسها، وتُفديها الينا، كي تصعد من مرتبة الـحياة النباتية الى مرتبة الـحياة الـحيوانية. حتى نـمت تلك البذيرات نـمواً واسعاً الى حد صارت تلك الغرفة منها – باذن خالقها – حديقة غنـّاء وجنةً فيحاء مزدهرة بالازهار الـمتنوعة والاشجار الـمـختلفة، فانظر هل ترى خطأ او فطوراً } فارجع البصر هل ترى من فطور { (الـملك:3).

لقد اظهرت كلُ بذرة بتـجلي اسـم الله الـحفيظ واحسانه ما ورثَته من ميراث ابيها واصلـها بلا نقصان وبلا التباس.

فالـحفيظ الذي يفعل هذا الـحفظ الـمعجز يشير به الى إظهار التـجلي الاكبر للـحفيظية يوم الـحشر الاكبر والقيامة العظمى.

نعم، ان اظهار كمال الـحفظ والعناية في مثل هذه الامور الزائلة التافهة بلا قصور، لـهو حجةٌ بالغة على مـحافظة ومـحاسبة ما لـه اهمية عظيـمة وتأثير ابدي كأفعال خلفاء الارض وآثارهم، واعمال حـملة الامانة واقوالـهم، وحسنات عبدة الواحد الاحد وسيئاتهم..

} أيـحسَبُ الانسانُ أنْ يُترَكَ سُدىً.. { (القيامة:36) بلى إنه لـمبعوثٌ الى الابد، ومرشـّحٌ للسعادة الابدية او الشقاء الدائم، فيـحاسَبُ على السَبَد واللـَّبَد(1) فاما الثواب واما العقاب.

وهكذا فهناك ما لا يـحد ولا يُعد من دلائل التـجلي لإسـم الله الـحفيظ، وشواهد حقيقة الآية الـمذكورة.

فهذا الـمثال الذي تنسج على منوالـه ليس الاّ قبضة من صُبرة(2)، او غرفة من بـحر، او حبة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء(3)، وقطرة من زلال السـماء، فسبـحانه من حفيظ رقيب وشهيد حسيب.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )

اللـمعة الثامنة عشرة

ستدرج باذن الله ضمن مـجـموعة اخرى.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #15
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللـمعة التاسعة عشرة

((رسالة الاقتصاد))

(هذه الرسالة تـحضّ على الاقتصاد والقناعة وتـحذّر من مغبة الاسراف والتبذير)

بِسْمِ اِللهِ الرَّحـْمنِ الرَّحيمْ

} وكلوا واشربُوا وَلا تُسرِفُوا{ (الاعراف:31)

(هذه الآية الكريـمة تلقـّن درساً في غاية الاهمية وترشد إرشاداً حكيـماً بليغاً بصيغة الأمر الى الاقتصاد، ونهي صريـح عن الاسراف. تتضمن هذه الـمسألة سبع نكات).

النكتة الاولى:

ان الـخالق الرحيـم سبـحانه يطلب من البشرية شكراً وحـمداً إزاء ما اغدق عليها من النعم والآلاء، الاّ ان الاسراف منافٍ للشكر واستـخفاف خاسر وخيـم تـجاه النعمة، بينـما الاقتصاد توقيرٌ مربـح ازاء النعمة.

اجل! إن الاقتصاد كما هو شكر معنوي، فهو توقير للرحـمة الإلـهية الكامنة في النعم والاحسان.. وهو سبب حاسـم للبركة والاستكثار.. وهو مدار صحة الـجسد كالـحـمية.. وهو سبيل الى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستـجداء الـمعنوي وهو وسيلة قويةَ لإحساس ما في النعم ولآلاء من لذة.. وهو سبب متين لتذوق اللذائذ الـمـخبأة في ثنايا نعمٍ تبدو غير لذيذة.. ولكون الاسراف يـخالف الـحِكَم الـمذكورة آنفاً باتت عواقبه وخيـمة.

النكتة الثانية:

لقد خلق الفاطر الـحكيـم جسـم الانسان بـما يشبه قصراً كامل التقويـم وبـما يـماثل مدينة منتظمة الاجزاء، وجعل حاسة الذوق الـمغروزة في فمه كالبـّواب الـحارس، والاعصاب والاوعية بـمثابة اسلاك هاتف وتلغراف (تتـم خلالـها دورة الـمـخابرة الـحساسة بين القوة الذائقة والـمعدة التي هي في مركز كيان الانسان) بـحيث تقوم حاسة الذوق تلك إبلاغ ما حلّ في الفم من الـمواد، وتـحجز عن البدن والـمعدة الاشياء الضارة التي لا حاجة للـجسـم لـها قائلة: ((مـمنوع الدخول)) نابذةً اياها، بل لاتلبث أن تدفع وتبصق باستهجان في وجه كل ما هو غير نافع للبدن فضلاً عن ضرره ومرارته.

ولـما كانت القوة الذائقة في الفم تؤدي دور الـحارس. وان الـمعدة هي سيدة الـجسد وحاكمته من حيث الادارة، فلو بلغت قيـمة هديةٍ تُقدَّم الى حاكم القصر مائة درجة فان خـمساً منها فقط يـجوز أن يعطى هبةً للـحارس لا اكثر، كيلا يـختال الـحارس وينسى وظيفته ويقحـم في القصر كل مـخلّ عابث يرشوه قرشاُ اكثر.

وهكذا، بناءً على هذا السرّ، نفترض الآن امامنا لقمتان، لقمة منها من مادة مغذّية – كالـجبن والبيض مثلاً – يُقدّر ثـمنها بقرش واحد، واللقمة الاخرى حلوى من نوع فاخر يُقدّر ثـمنها بعشرة قروش، فهاتان اللقمتان متساويتان قبل دخولـهما الفم ولا فرق بينهما، وهما متساويتان كذلك من حيث إنـماء الـجسـم وتغذيته بعد دخولـهما الفم ونزولـهما عبر البلعوم. بل قد يغذّي الـجبن – الذي هو بقرش واحد – تغذية افضل وتنـمية أقوى من اللقمة الاخرى اذن ليس هناك من فرق الاّ ملاطفة القوة الذائقة في الفم التي لا تستغرق سوى نصف دقيقة. فليقدر إذن مدى ضرر الاسراف ويوازن مدى التفاهة في صرف عشرة قروش بدلاً عن قرش واحد في سبيل الـحصول على لذة تستغرق نصف دقيقة!

وهكذا فان اثابة الـحارس تسعة اضعاف ما يُقدّم الى حاكم القصر من هدايا تُفضي به لا مـحالة الى الغرور والـجشع وتدفعه بالتالي الى القول: انـما انا الـحاكم. فمن كافأه بهبة اكثر ولذة أزيد دفعه الى الداخل، مسبـّبـاً إخلال النظام القائم هناك، مضرماً فيه ناراً مستعرة وملزماً صاحبه الاستغاثة صارخاً: هيـّا اسرعوا اليّ بالطبيب حالاً ليـخفف شدة حرارتي ويطفيء لظى نارها.

فالاقتصاد والقناعة منسجـمان انسجاماً تاماً مع الـحكمة الإلـهية، اذ يتعاملان مع القوة الذائقة معاملة الـحارس، ويقفانها عند حدّها، ويكافئانها حسب تلك الوظيفة. اما الاسراف فلأنه يسلك سلوكاً مـخالفاً لتلك الـحكمة، فسرعان ما يتلقـّى الـمسرف صفعات موجِعة، اذ تـحدث الاختلاطات الـمؤلـمة في الـمعدة التي تؤدي الى فقدان الشهية الـحقيقية نـحو الاكل، فيأكل بشهية كاذبة مصطنعة بتنويع الاطعمة مـما يسبب عسراً في الـهضم.

النكتة الثالثة:

قلنا في النكتة الثانية آنفاً: ان القوة الذائقة تؤدي دور الـحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لـم يَسـموا بعدُ روحياً والذين لـم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه، نعم إنه لا ينبغي اللـجوء الى الاسراف – كصرف عشرة أضعاف الثمن، لأجل تلذذ تلك الـحاسة الـحارسة. ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى اهل الـحقيقة واهل القلوب واولى الابصار بـمثابة راصدة وناظرة مفتشة لـمطابـخ الرحـمة الإلـهية (كما وضح ذلك في الـمقارنة الـمعقودة في الكلـمة السادسة). وان ما يتـم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيـمة النعم الاَلـهية ومن التعـّرف عليها بأنواعها الـمـختلفة بـما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الاطعمة، انـما هو لإبلاغ الـجسد والـمعدة، بـما ينـم عن شكر معنوي.

فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الـجسد رعاية مادية وحدها، بل هي ايضاً أرقى حكماً من وظيفة الـمعدة وأرفع منزلة منها، لـما لـها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها، علـماً أنها تستطيع ان تـمضي في سبيل الـحصول على لذتها – بشرط عدم الاسراف – انـجازاً لـمهمة الشكر الـخالص الـمقدرة لـها، وبنيـّة التعرف والاطلاع على انواع النعم الإلـهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستـجداء، أي اننا نستطيع ان نستعمل ذلك اللسان الـحامل للقوة الذائقة في الشكر لاجل التفضيل بين الاطعمة اللذيذة.

واليكم هذه الـحادثة اشارة الى هذه الـحقيقة، وهي كرامة من كرامات الشيـخ الكيلاني ((قُدس سره)): كان لعجوز رقيقة لطيفة ابنٌ وحيد يتربـّى على يد الشيـخ، دخلت تلك العجوز الـموقرة ذات يوم على ابنها ورأت انه يأكل من كسرة خبز يابس أسـمر مزاولاً رياضة روحية حتى ضعف ونـحل جسـمه. أثارت هذه الـحالة شفقة والدته الرؤوم ورقـّت لـحالة فذهبت لتشتكيه الى الشيـخ الكيلاني واذا بها ترى الشيـخ يأكل دجاجاً مشوياً. ولشدة رقتها ولطافتها قالت: ايها الشيـخ ان ابني يكاد يـموت جوعاً وها انت ذا تأكل الدجاج؟! فخاطب الشيـخ الدجاج قائلاً: ((قم باذن الله)) فوثب ذلك الدجاج الـمطبوخ الى خارج الوعاء بعد ان اكتـمل دجاجاً حياً بالتئام عظامه. لقد نقل هذا الـخبر بالتواتر الـمـعنوي ثقاتٍ كثيرون(1) اظهاراً لكرامة واحدة من صاحب الكرامات الـمشهورة في العالـم، الشيـخ الكيلاني قُدس سرّه. ومـما قالـه الشيـخ لتلك العجوز: متى ما بلغ إبنك هذه الدرجة.. فليأكل الدجاج هو الآخر.

فمغزى هذا الامر الصادر من الشيـخ الكيلاني هو: متى حَكمت روحُ ابنك جَسَدَهُ وهيـمن قلبُه على نفسه، وسادَ عقلـه معدته، والتـمس اللذةَ لاجل الشكر.. عندئذ يـمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الاطعمة.

النكتة الرابعة:

ان الـمقتصد لا يعاني فاقة العائلة وعوزها كما هو مفهوم الـحديث الشريف: ((لا يعول من اقتصد))(1). اجل هناك من الدلائل القاطعة التي لا يـحصرها العدّ بأن الاقتصاد سبب جازم لإنزال البركة، واساس متين للعيش الافضل. أذكر منها ما رأيته في نفسي وبشهادة الذين عاونوني في خدمتي وصادقوني باخلاص فأقول:

لقد حصلتُ احياناً وحصل اصدقائي على عشرة اضعاف من البركة بسبب الاقتصاد. حتى انه قبل تسع سنوات(2) عندما أصرّ عليّ قسـم من رؤساء العشائر الـمنفيين معي الى ((بوردور)) على قبول زكاتهم كي يـحولوا بيني وبين وقوعي في الذلة والـحاجة لقلة ما كانت عندي من النقود، فقلت لاولئك الرؤساء الاثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً الاّ انني املك الاقتصاد، وقد تعودت على القناعة، فانا أغنى منكم بكثير فرفضتُ تكليفهم الـمتكرر الـملـح.. ومن الـجدير بالـملاحظة ان قسـماً من اولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الذَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، الاّ أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني – ولله الـحـمد – ببركة الاقتصاد الى ما بعد سبع سنوات، فلـم تُرق مني ماء الوجه، ولـم تدفعني لعرض حاجتي الى الناس، ولـم تفسد عليّ ما اتـخذته دستوراً لـحياتي وهو ((الاستغناء عن الناس)).

نعم ان من لايقتصد، مدعوّ للسقوط في مهاوي الذلّة، ومعرض للانزلاق الى الاستـجداء والـهوان معنىً.

ان الـمال الذي يستعمل في الاسراف في زماننا هذا لـهو مال غالٍ وباهظ جداً، حيث تدفع احياناً الكرامة والشرف ثـمناً ورشوة لـه، بل قد تُسلب الـمقدسات الدينية، ثم يُعطى نقوداً منـحوسة مشؤومة، أي يقبش بضعة قروش من نقود مادية، على حساب مئات الليرات من النقود الـمعنوية.

بينـما لو اقتصر الانسان على الـحاجات الضرورية واختصرها وحصر همـّه فيها، فسيـجد رزقاً يكفل عيشه من حيث لا يـحتسب وذلك بـمضمون الآية الكريـمة:

} ان الله هو الرزاق ذو القوة الـمـتين { (الذاريات:58) وأن صراحة الآية الكريـمة:

} وما من دابة في الارض الاّ على الله رزقها { (هود:6) تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً.

نعم، ان الرزق قسـمان:

القسـم الاول: وهو الرزق الـحقيقي الذي تتوقف عليه حياة الـمرء، وهو تـحت التعهد الرباني بـحكم هذه الآية الكريـمة، يستطيع الـمرء الـحصول على ذلك الرزق الضروري مهما كانت الاحوال، ان لـم يتدخل سوء اختياره، دون ان يضطر الى فداء دينه ولا التضحية بشرفه وعزته.

القسـم الثاني: هو الرزق الـمـجازي، فالذي يسيء استعمالـه لا يستطيع ان يتـخلـّى عن الـحاجات غير الضرورية، التي غدت ضرورية عنده نتيـجة الابتلاء التقليد. وثـمن الـحصول على هذا الرزق باهظ جداً ولاسيـماء في هذا الزمان، حيث لا يدخل ضمن التعهد الرباني، اذ قد يتقاضى ذلك الـمال لقاء تضحيته بعزته سلفاً راضياً بالذل، بل قد يصل به حد السقوط في هاوية الاستـجداء الـمعنوي، والتنازل الى تقبيل اقدام أناس منـحطين وضيعين، لا بل قد يـحصل على ذلك الـمال الـمنـحوس الـمـمـحوق بالتضحية بـمقدساته الدينية التي هي نور حياته الـخالدة. ثم ان الألـم الذي ينتاب ذوي الوجدان من حيث العاطفة الانسانية – بـما برونه من آلام يقاسيها الـمـحتاجون البائسون في هذا الزمان الذي خيـم عليه الفقر والـحاجة – يشوّب لذاتَهم التي يـحصلونها بأموال غير مشروعة، وتزداد مرارتها ان كانت لـهمضمائر. انه ينبغي في هذا الزمان العجيب الاكتفاء بـحدّ الضرورة في الاموال الـمريبة، لانه حسب قاعدة ((الضرورة تقدر بقدرها)) يـمكن ان يؤخذ باضطرارٍ من الـمال الـحرام حدَّ الضرورة وليس اكثر من ذلك. وليس للـمضطر ان يأكل من الـميتة الى حدّ الشبع، بل لـه ان يأكل بـمقدار ما يـحول بينه وبين الـموت. وكذا لا يؤكل الطعام بشراهة امام مائة من الـجائعين.

نورد هنا حادثة واقعية للدلالة على كون الاقتصاد سبب العزة والكمال:

اقام ((حاتـم الطائي)) الـمشهور بكرمه وسخائه ضيافة عظيـمة ذات يوم واغدق هدايا ثـمينة على ضيوفه ثـم خرج للتـجول في الصحراء، فرأى شيـخاً فقيراً يـحـمل على ظهره حـملاً ثقيلاً من الـحطب والكلأ والشوك والدم يسيل من بعض جسـمه.. فـخاطبه قائلاً:

- ايها الشيـخ، ان حاتـماً الطائي يقيـم اليوم ضيافة كريـمة ويوزع هدايا ثـمينة، بادرْ اليه لعلك تنال منه اموالاً اضعاف أضعاف ما تنالـه من هذا الـحـمل!!.

قال لـه ذلك الشيـخ الـمقتصد: سأحـمل حـملي هذا بعزة نفسي وعرق جبيني، ولا أرضى ان أقع تـحت طائل منّة حاتـم الطائي.

ولـما سُئل حاتـم الطائي يوماً:

- مَن من الناس وجدتهم اعزَّ منك واكرم؟

قال: ذلك الشيـخ الـمقتصد الذي لقيته في الـمفازة ذات يوم، لقد رأيته حقاً اعزّ مني واكرم.

النكتة الـخامسة:

ان من كمال كرم الله سبـحانه وتعالى، أنه يُذيقُ لذّة نِعمه لأفقر الناس، كما يذيقها أغناهم، فالفقير يستشعر اللذة ويتذوقها كالسلطان.

نعم ان اللذة التي ينالـها فقير من كسرة خيز اسود يابس بسبب الـجوع والاقتصاد تفوق ما ينالـه السلطان او الثري من اكلـه الـحلوى الفاخرة بالـملل وعدم الشهية النابعين من الاسراف.

ومن العجيب حقاً ان يـجرؤ بعض الـمسرفين والـمبذّرون على اتهام الـمقتصدين بالـخسـّة.. حاشَ لله، بل الاقتصاد هو العزة والكرم بعينه، بينـما الـخسة والذلة هما حقيقة ما يقوم به الـمسرفون والـمبذرين من سخاء ظاهري.

وهناك حادثة جرت في غرفتي في ((اسبارطة)) في السنة التي تـم فيها تأليف هذه الرسالة، تؤيد هذه الـحقيقة وهي:

اصرّ احد طلابي اصراراً شديداً على ان أقبل هديته التي تزن اوقيتين ونصف الاوقية(1) من العسل، خرقاً لدستور حياتي(2)، ومهما حاولت في بيان ضرورة التـمسك على قاعدتي لـم يقنع، فاضطررت الى قبولـها مرغما على نية ان يشترك ثلاثة اخوةٍ معي في الغرفة فيها ويأكلوا منه باقتصاد طوال اربعين يوماً من شهري شعبان ورمضان الـمبارك، ليكسب صاحبه الـمهدي ثواباً، ولا يبقوا دون حلاوة. لذا أوصيتهم بقبول الـهدية لـهم علـماً انـّي كانت عندي أوقية من العسل.

وبرغم ان اصدقائي الثلاثة كانوا على استقامة حقاً ومـمن يقدّرون الاقتصاد حق قدره، لاّ انهم – على كل حال – نَسوه نتيـجة قيامهم باكرام بعضهم بعضاً ومراعاتهم شعور الآخرين والايثار فيـما بينهم، وامثالـها من الـخصال الـحـميدة، فانفدوا ما عندهم من العسل في ثلاث ليالٍ فقط، فقلت مبتسـماً:

- لقد كانت نبتي ان اجعلكم تتذوقون طعم العسل ثلاثين يوماً او اكثر، ولكنكم انفذتـموه في ثلاثة ايام فقط.. فهنيئاً لكم!. في حين انني بت اصرف ما كنتُ املكه من العسل بالاقتصاد، فتناولته طوال شهري شعبان ورمضان، فضلاً عن انه اصبـح ولله الـحـمد سبباً لثواب عظيـم، حيث اعطيتُ كل واحد من اولئك الاخوة ملعقة واحدة منه(1) وقت الافطار.

ولربـما حَسِب الذين شاهدوا حالي تلك انها خسّة، واعتبروا اوضاع اولئك الاخوة في الليالي الثَلاث حالة عزيزة من الكرم! ولكن شاهَدنا تـحت تلك الـخسة الظاهرية عزةً عاليةً وبركة واسعة وثواباً عظيـماً من زاوية الـحقيقة. وتـحت ذلك الكرم والاسراف – ان لـم يكن قد تُرك – استـجداءً وترقباً لـما في ايدي الآخرين بطمع وامثالـها من الـحالات التي هي أدني بكثير من الـخسة.

النكتة السادسة:

هناك بون شاسع وفوق هائل بين الاقتصاد والـخسة، اذ كما أن التواضع الذي هو من الاخلاق الـمـحـمودة يـخالف معنىً التذللَ الذي هو من الاخلاق الـمذمومة مع أنه يشابهه صورة. وكما ان الوقار الذي هو من الـخصال الـحـميدة يـخالف معنىً التكبـّر الذي هو من الاخلاق السيئة مع أنه يشابهه صورة.

فكذا الـحال في الاقتصاد الذي هو من الاخلاق النبوية السامية بل هو من الـمـحاور التي يدور عليها نظام الـحكمة الإلـهية الـمهيـمن على الكون، لا علاقة لـه أبداً بالـخسة التي هي مزيـج من السفاهة والبـخل والـجشع والـحرص. بل ليست هناك من رابطة بينهما قطعاً، الاّ ذلك التشابه الظاهري. واليكم هذا الـحدث الـمؤيد لـهذه الـحقيقة:

دخل عبدالله بن عمر بن الـخطاب رضي الله عنهما وهو اكبر ابناء الفاروق الاعظم خليفة رسول الله e وأحد العبادلة السبعة الـمشهورين ومن البارزين بين علـماء الصحابة الأجلاء، دخل هذا الصحابي الـجليل يوماً في مناقشة حادة لدى تعاملـه في السوق على شيء لا يساوي قرشاً واحداً، حفاظاً على الاقتصاد وصوناً للأمانة والاستقامة اللتين تدور عليهما التـجارة. في هذه الاثناء رآه صحابي آخر، فظنّ فيه شيئاً من خسّة فاستعظمها منه، اذ كيف يصدر هذا الامر من ابن أمير الـمؤمنين وخليفة الارض. فتبعه الى بيته ليفهم شيئاً من احوالـه، فوجد أنه قضى بعض الوقت مع فقير عند الباب وتبادلا حديثاً في لطف ومودة، ثم خرج من الباب الثاني وتـجاذب اطراف الـحديث مع فقير آخر هناك. اثار هذا الامر لـهفة ذلك الصحابي فأسرع الى الفقيرين للاستفسار منهما:

- هلاّ تفهماني ماذا فعل ابن عمر حينـما وقف معكما؟.

- لقد اعطى كلاً منا قطعة ذهب.

فراعه الامر وقال شدهاً: يا سبـحان الله.. ما أعجب هذا الامر، انه يـخوض في السوق في نِقاش شديد لأجل قرش واحد، ثم ها هو ذا يغدق في بيته بـمئات أضعافه على مـحتاجين اثنين عن رضىً دون ان يشعر به أحد، فسار نـحو ابن عمر رضي الله عنهما ليسألـه:

- ايها الإمام: ألا تـحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟! فردّ عليه قائلاً:

- ان ما حدث في السوق هو نتيـجة الاقتصاد والـحصافة، فعلتُه صوناً للامانة وحفظاً للصدق اللذين هما اساس الـمبايعة وروحها وهو ليس بـخسّةٍ ولا ببـخل، وان ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقـّته ومن سـمو الروح واكتـمالـها.. فلا ذاك خسّة ولا هذا اسراف.

واشارةً الى هذا السرّ قال الامام الاعظم ((ابو حنيفة النعمان)) رضي الله عنه: ((لا اسراف في الـخير كما لا خير في الاسراف)) أي كما لا اسراف في الـخير والاحسان لـمن يستـحقه كذلك لا خير في الاسراف قط.

النكتة السابعة:

ان الاسراف ينتـج الـحرص، والـحرص يوَلد ثلاث نتائج:

اولاها: عدم القناعة.

وعدم القناعة هذا يُثنى الشوقَ عن السعي وعن العمل، بـما يبثّ في نفس الـحريص من الشكوى بدلاً من الشكر، قاذفاً به الى احضان الكسل، فيترك الـمال الزهيد النابع من الكسب الـحلال(1) ويبادر بالبـحث عما لا مشقة ولا تكليف فيه من مال غير مشروع، فيهدر في هذه السبيل عزتَه بل كرامته.

النتيـجة الثانية للـحرص: الـخيبة والـخسران.

اذ يفوت مقصود الـحريص ويتعرض للاستثقال ويـحرم من التيسير والـمعاونة حتى يكون مصداق القول الـمشهور: ((الـحريصُ خائب خاسر)).

ان تأثير الـحرص والقناعة يـجري في عالـم الاحياء على وفق دستور شامل وسنـّة مطردة فمثلاً:

ان وصول ارزاق النباتات الـمضطرة الى الرزق اليها هو لقناعتها الفطرية، وسعي الـحيوانات بنفسها بالـحرص وراء الـحصول على رزقها في عناء ونقص، يبديان مدى الضرر الـجسيـم الكامن في الـحرص، ومدى النفع العظيـم الكامن في القناعة.

وان سيلان الـحليب – ذلك الغذاء اللطيف – الى أفواه الصغار الضعفاء عامة ومن حيث لا يـحتسبون بـما يبدونه من قناعة ينطق بها لسان حالـهم، وانقضاض الوحوش بـحرص وجشع على ارزاقها الناقصة الـملوّثة، يثبت ما ندّعيه اثباتاً ساطعاً.

وان اوضاع الاسـماك البدينة البليدة التي تنـم عن القناعة الباعثة لوصول ارزاقها اليها كاملة وعجز الـحيوانات الذكية كالثعالب والقردة عن تـحصيل غذائها كاملاً مع حرصها سعياً وراءها وبقاءها هزيلة نـحيفة، ليبيـّن كذلك مدى ما يسببه الـحرص من الـمشقة والعناء ومدى ما تسببه القناعة من الراحة والـهناء.

كما ان حصول اليهود على ارزاقهم كفافاً بطرق غير مشروعة مـمزوجاً بالذل والـمسكنة بسبب حرصهم وتعاملـهم بالربا واتباعهم اساليب الـمكر والـخدع، وحصول البدويين الـمتـحلين بالقناعة على رزقهم الكافي وعيشهم العيش الكريـم العزيز يؤيد دعوانا ايضاً تأييداً كاملاً.

كما أن تردّي كثير من العلـماء(1) والادباء(2) بـما يـمنـحهم ذكاؤهم ودهاؤهم من الـحرص في فقر مدقع وعيش كفاف، وغناء اكثر الاغبياء العاجزين واثرائهم لـما لـهم من حالة فطرية قنوعة ليثبت اثباتاً قاطعاً: ان الرزق الـحلال يأتي حسب العجز والافتقار لا بالاقتدار والاختيار. بل هو يتناسب تناسباً عكسياً مع الاقتدار والاختيار. ذلك ان ارزاق الاطفال تتضائل وتبتعد ويصعب الوصول اليها كلـما ازدادوا اختياراً وارادةً واقتداراً.

نعم، ان القناعة كنز للعيش الـهنيء الرغيد ومبعث الراحة في الـحياة، بينـما الـحرص معدن الـخسران والسفالة كما يتبين ذلك من الـحديث الشريف: ((القناعة كنز لا يفنى))(3).

النتيـجة الثالثة: ان الـحرص يتلف الاخلاص ويفسد العمل الاخروي؛ لانه لو وُجد حرص في مؤمن تقي لرغب في توجه الناس واقبالـهم اليه، ومن يرقب توجه الناس وينتظره لا يبلغ الاخلاص التام قطعاً ولا يـمكنه الـحصول عليه، فهذه النتيـجة ذات اهمية عظمى جديرة بالدقة والـملاحظة.

مـحصل الكلام: ان الاسراف ينتـج عدم القناعة أي الطمع، اما الطمع فيـخبت وهج الشوق والتطلع الى العمل ويقذف بالانسان الى التقاعس والكسل، ويفتـح امامه ابواب الشكوى والـحسرة في حياته حتى ليـجعلـه يئن دوماً تـحت مضض الشكوى والسأم(1). كما انه يفسد اخلاصه ويفتـح دونه باباً للرياء والتصنع فيكسر عزته ويريه طريق الاستـجداء والاستـخذاء.

اما الاقتصاد فانه يثمر القناعة، والقناعة تنتـج العزة، استناداً الى الـحديث الشريف: ((عزّ مَن قنع وذلّ مَن طمع)). كما انه يشحذ الشوق بالسعي والعمل ويـحث عليهما ويسوق سوقاً الى الكدّ وبذل الـجهد فيهما؛ لانه اذا ما سعى الـمرء في يوم ما وتقاضى اجره مساءً فسيسعى في اليوم التالي لـه بسر القناعة التي توافرت لديه. اما الـمسرف فانه لا يسعى في يومه الثاني لعدم قناعته وحتى اذا سعى فانه يسعى دون شوق.

وهكذا فان القناعة الـمستفيضة من الاقتصاد تفتـح باب الشكر وتوصد باب الشكوى، فيظل الانسان في شكر وحـمد مدى حياته. وبالقناعة لايتلفت الى توجه الناس اليه لإستغنائه عنهم، فينفتـح امامه باب الاخلاص وينغلق باب الرياء.

ولقد شاهدت الاضرار الـجسيـمة والـخسائر الفادحة التي تسفر عن الاسراف وعدم الاقتصاد شاهدتها متـجسدة في نطاق واسع مـمتد وهي كما يأتي:

جئت الى مدينة مباركة – قبل تسع سنوات – كان الـموسـم شتاءً فلـم اتـمكن من رؤية منابع الثروة وجوانب الانتاج في تلك الـمدينة، قال لي مُفتيها رحـمه الله: ان أهالينا فقراء مساكين. أعاد قولـه هذا مراراً. أثـّر فيّ هذا القول تأثيراً بالغاً مـما أجاش عطفي، فبت استرحـم وأتألـم لأهالي تلك الـمدينة فيـما يقرب من ست سنوات. وبعد ثماني سنوات عدتُ اليها وهي في اجواء الصيف، وأجلت نظري في بساتينها فتذكرت قول الـمفتي رحـمه الله فقلت متعجباً:

سبـحان الله! ان مـحاصيل هذه البساتين وغلاتها تفوق حاجة الـمدينة بأسرها كثيراً، وكان حرياً بأهاليها ان يكونوا أثرياء جداً! بقيت في حيرة من هذا الامر.. ولكن ادركت بـحقيقة لـم تـخدعني عنها الـمظاهر، فهي حقيقة استرشد بها في ادراك الـحقائق، وهي: ان البركة قد رفعت من هذه الـمدينة بسبب الاسراف وعدم الاقتصاد. مـما حدا بالـمفتي رحـمه الله الى القول: ان اهالينا فقراء ومساكين، برغم هذا القدر الواسع من منابع الثروة وكنوز الـموارد.

نعم، انه ثابت بالتـجربة وبالرجوع الى وقائع لاتـحد بأن دفعَ الزكاة، والأخذ بالاقتصاد سببان للبركة والاستزادة. بينـما الاسراف ومنع الزكاة يرفعان البركة.

ولقد فسّر ((ابن سينا)) وهو افلاطون فلاسفة الـمسلـمين وشيـخ الاطباء واستاذ الفلاسفة فسّر هذه الآية الكريـمة: } وكلوا واشربُوا وَلا تُسرِفُوا{ (الاعراف:31). من زاوية نظر الطب فقط بالابيات الآتية:

جـمعتُ الطبَّ في بيتين جـمعاً وحُسن القولِ في قِصَر الكلام

فقلـّل إن اكلتَ وبعد أكل تـجنـّب، والشفاءُ في الإنهضام

وليس على النفوس أشدُّ حالاً من إدخال الطعامِ على الطعام(1)

واليكم هذا التوافق الغريب الباعث على الـحيرة والـجالب للعبرة:

انه مع قيام خـمسة وستة من الـمستنسخين الـمـختلفين – ثلاثة منهم لا يتقنون الكتابة – باستنساخ ((رسالة الاقتصاد)) فقد توافق كل (واحد وخـمسين) ألفاً من ألفات كل نسخة – خالية من الدعاء – وكل (ثلاثة وخـمسين) ألفاً – مع الدعاء – رغم اختلاف امكنة اولئك الـمستنسخين واختلاف النسخ التي كانوا ينقلون منها واختلاف خطهم في الكتابة ومع عدم التفكر في تلكم الألفات إطلاقا!.

فان توافق عدد الألفات مع تاريـخ تأليف ((رسالة الاقتصاد)) واستنساخها وهو بالتاريـخ الرومي واحدة وخـمسون (1351) وبالتاريـخ الـهجري ثلاث وخـمسون (1353) لا يـمكن ان يـحال ذلك الى الصدفة دون ريب، بل هو اشارة الى صعود البركة الكامنة في (الاقتصاد) الى درجة الكرامة. وانه لـحرّي حقاً ان يطلق على هذا العام ((عام الاقتصاد)).

نعم لقد اثبت الزمان فعلاً هذه الكرامة الاقتصادية وذلك عندما شهدت البشرية بعد عامين الـحرب العالـمية الثانية.. تلك الـحرب التي بثت الـجوع والتـخريب وضروب الاسراف الـمقيت في كل انـحاء العالـم مـما أرغم البشرية على التشبث بالاقتصاد والالتفاف حولـه عنوةً.

} سُبـحانَكَ لاعِلـم لنا إلاّ ما عَلـمتَنا إنك أنتَ العَليـم الـحكيـم{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #16
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة العشرون

((تـخص الإخلاص))

((احرز هذا البحث اهمية خاصة اهـّلته ليكون ((اللمعة العشرين)) بعد ان كان النقطة الاولى من خـمس نقاط من الـمسألة الثانية من الـمسائل السبع للـمذكـّرة السابعة عشرة من اللمعة السابعة عشرة)).

بِسْمِ اِللهِ الرَّحـْمنِ الرَّحيمْ

} انـّا أنزَلنا اليكَ الكتاب بالـحقّ فاعبد الله مـخلِصاً لـه الدِّين` اَلا لله الدِّينُ الـخالصُ { (الزمر:2-3)

وقال الرسول الاعظم e : ((هَلَكَ النـَّاسُ إلاَّ الْعَالِـمُونَ وَهَلَكَ الْعَالِـمونَ إلاَّ العَامِلُونَ وهَلَكَ الْعَامِلوُنَ إلاَّ الْـمـخلِصُونَ وَالْـمـخلِصُونَ عَلى خَطَرٍ عَظيمٍ)) او كما قال: *

تدلنا هذه الآية الكريـمة والـحديث النبوي الشريف معاً على مدى اهمية الاخلاص في الاسلام، ومدى عظمته اساساً تستند اليه امور الدين. فـمن بين النكت التي لا حصر لـها لـمبحث ((الاخلاص)) نبين باختصار خـمس نقاط فقط.

النقطة الاولى:

سؤال مهم ومثير للدهشة:

لـماذا يختلف اصحاب الدين والعلماء وارباب الطرق الصوفية وهم اهل حق ووفاق ووئام بالتنافس والتزاحم في حين يتفق اهل الدنيا والغفلة بل اهل الضلالة والنفاق من دون مزاحـمة ولا حسد فيما بينهم. مع ان الاتفاق هو من شأن اهل الوفاق والوئام، والـخلاف ملازم لاهل النفاق والشقاق. فكيف استبدل الـحق والباطل مكانهما، فأصبح الـحق بـجانب هؤلاء والباطل بـجانب اولئك؟

الـجواب: سنبين سبعة من الاسباب العديدة لـهذه الـحالة الـمؤلـمة التي تقض مضجع الغيارى الشهمين.

السبب الاول:

ان اختلاف اهل الـحق غير نابع من فقدان الـحقيقة، كما ان اتفاق اهل الغفلة ليس نابعاً من ركونهم الى الـحقيقة، بل ان وظائف اهل الدنيا والسياسة والـمثقفين وامثالـهم من طبقات الـمجتمع قد تعيـّنت وتـميزت. فلكل طائفة وجـماعة وجـمعية مهمة خاصة تنشغل بها، وما ينالونه من اجرة مادية – لقاء خدماتهم ولإدامة معيشتهم – هي كذلك متميزة ومتعينة، كما ان ما يكسبونه من اجرة معنوية كحب الـجاه وذيوع الصيت والشهرة، هي الاخرى متعينة ومـخصصة ومتميزة(1). فليس هناك اذن ما يولد منافسة او مزاحـمة او حسداً فيما بينهم. وليس هناك ما يوجب المناقشة والـجدل، لذا تراهم يتمكنون من الاتفاق مهما سلكوا من طرف الفساد.

أما اهل الدين واصحاب العلم وارباب الطرق الصوفية فان وظيفة كل منهم متوجهة الى الجميع، وأن اجرتهم العاجلة غير متعينة وغير متـخصصة، كما ان حظهم من المقام الاجتماعي وتوجه الناس اليهم والرضى عنهم لم يتـخصص ايضاً.

فهناك مرشحون كثيرون لـمقام واحد، وقد تـمتد أيد كثيرة جداً الى اية اجرة – مادية كانت او معنوية – ومن هنا تنشأ الـمزاحـمة والـمنافسة والـحسد والغيرة. فيتبدل الوفاق نفاقاً والانفاق اختلافاً وتفرقاً.

فلا يشفى هذا الـمرض العضال الا مرهم الاخلاص الناجع، أي:

ان ينال الـمرء شرف امتثال الآية الكريـمة: } إنْ اَجرِيَ إلاَّ عَلَى الله{ (يونس:72) بايثار الـحق والـهدى على اتباع النفس والـهوى، وبترجيح الـحق على أثرة النفس.. وان يـحصل لـه امتثال بالآية الكريـمة: } وَمَا عَلى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبينُ { (النور:54): باستغنائه عن الاجر الـمادي والـمعنوي – الـمقبلين من الناس –(1) مدركاً ان استحسان الناس كلامه وحسن تأثيره فيهم ونيل توجههم اليه هو مـما يتولاه الله سبحانه وتعالى ومن احسانه وفضلـه وحده، وليس داخلاً ضمن وظيفته التي هي منحصرة في التبليغ فـحسب. بل لا يلزمه ذلك ولا هو مكلف به اصلا.

فمن وفـّقه الله الى ما ذُكر آنفاً يـجد لذة الاخلاص، وإلاّ يفوته الـخير الكثير.

السبب الثاني:

ان اتفاق اهل الضلالة نابع من ذلتهم، بينما اختلاف اهل الـهداية نابع من عزتهم، اذ لـما كان اهل الدنيا والضلالة الغافلون لا يستندون الىالـحق والـحقيقة فهم ضعفاء واذلاء، يشعرون بـحاجة ماسة الى اكتساب القوة ويتشبثون بشدة الى معاونة الآخرين والاتفاق معهم، ويـحرصون على هذا الاتفاق ولو كان مسلكهم ضلالة، فكأنهم يعملون حقاً في تساندهم على الباطل، ويـخلصون في ضلالـهم، ويبدون ثباتاً واصراراً على إلـحادهم، ويتفقون في نفاقهم، فلاجل هذا يوفـّقون في عملـهم، لان الاخلاص التام ولو كان في الشر لا يذهب سدى، ولا يكون دون نتيجة. فما من سائل يسأل باخلاص امراً الا قضاه الله لـه(1).

اما اهل الـهداية والدين واصحاب العلم والطريقة فلانهم يستندون الى الـحق والـحقيقة، ولان كلاً منهم اثناء سيره في طريق الـحق لا يرجو الا رضى ربه الكريـم ويطمئن اليه كل الاطمئنان، وينال عزة معنوية في مسلكه نفسه، اذ حالـما يشعر بضعف ينيب الى ربه دون الناس، ويستمد منه وحدة القوة، زد على ذلك يرى امامه اختلاف الـمشارب مع ما هو عليه، لذا تراه لا يستشعر بدواعي التعاون مع الآخرين بل لا يتمكن من رؤية جدوى الاتفاق مع مـخالفيه ظاهراً ولايـجد في نفسه الـحاجة اليه.

واذا ما كان ثـمة غرور وانانية في النفس يتوهم الـمرء نفسه مـحقاً ومـخالفيه على باطل فيقع الاختلاف والـمنافسة بدل الاتفاق والـمـحبة، وعندها يفوته الاخلاص ويـحبط عملـه ويكون اثراً بعد عين.

والعلاج الوحيد لـهذه الـحالة والـحيلولة دون رؤية نتيجتها الوخيمة هو في تسعة امور آتية:

العمل الايـجابي البنـّاء، وعو عمل الـمرء بـمقتضى مـحبته لـمسلكه فـحسب، من دون ان يرد الى تفكيره، او يتدخل في علمه عداء الآخرين او التهوين من شأنهم، أي لا ينشغل بهم اصلاً.
بل عليه ان يتـحرى روابط الوحدة الكثيرة التي تربط الـمشارب الـمعروضة في ساحة الإسلام – مهما كان نوعها – والتي ستكون منابع مـحبة ووسائل اخوة واتفاق فيما بينها فيتفق معها.
واتـخاذ دستور الانصاف دليلاً ومرشداً، وهو ان صاحب كل مسلك حق يستطيع القول: ((ان مسلكي حق وهو افضل واجـمل)) من دون ان يتدخل في امر مسالك الآخرين، ولكن لا يـجوز لـه ان يقول: ((الـحق هو مسلكي فـحسب)) او ((ان الـحسن والـجمال في مسلكي وحده)) الذي يقضي على بطلان الـمسالك الاخرى وفسادها.
العلم بان الاتفاق مع اهل الـحق هو احد وسائل التوفيق الإلـهي وأحد منابع العزة الإسلامية.
الـحفاظ على الـحق والعدل بايـجاد شخص معنوي، وذلك بالاتفاق مع اهل الـحق للوقوف تـجاه اهل الضلالة والباطل الذين اخذوا يغيرون بدهاء شخص معنوي قوي في صورة جـماعة على اهل الـحق – بـما يتمتعون به من تساند واتفاق – ثم الادراك بان اية مقاومة فردية – مهما كانت قوية – مغلوبة على امرها تـجاه ذلك الشخص الـمعنوي للضلالة.
ولاجل انقاذ الـحق من صولـه الباطل.
ترك غرور النفس وحظوظها.
وترك ما يُتصور خطأً انه من العزة والكرامة.
وترك دواعي الـحسد والـمنافسة والاحاسيس النفسانية التافهة.
بهذه النقاط التسع يُظفر بالاخلاص ويوفي الانسان وظيفته حق الوفاء ويؤديها على الوجه الـمطلوب(1).

السبب الثالث:

ان اختلاف اهل الـحق ليس ناشئاً عن الوضاعة وفقدان الـهمة، كما ان اتفاق اهل الضلالة ليس ناشئاً عن علو الـهمة، بل ان اختلاف اهل الـهداية نابع من سوء استعمال علو الـهمة والافراط فيه، واتفاق اهل الضلالة مردّه الضعف والعجز الـحاصلان من انعدام الـهمة.

والذي يسوق اهل الـهداية الى سوء استعمال علو الـهمة وبالتالي الى الاختلاف والغيرة والـحسد، انـما هو الـمبالغة في الـحرص على الثواب الاخروي – الذي هو في حد ذاته خصلة مـمدوحة – وطلب الاستزادة منها دون قناعة وحصرها على النفس. وهذا يستدرج الـحريص شيئاً فشيئاً حتى يصل به الامر ان يتـخذ وضعاً منافساً ازاء اخيه الـحقيقي الذي هو بأمس الـحاجة الى مـحبته ومعاونته واخوته والاخذ بيده، كأن يقول – مثلاً – لأغنم انا بـهذا الثواب، ولأرشد أنا هؤلاء الناس وليسـمعوا مني وحدي الكلام، وامثالـها من طلب الـمزيد من الثواب لنفسه. او يقول: لـماذا يذهب تلاميذي الى فلان وعلان؟ ولـماذا لا يبلغ تلاميذي عدد تلاميذه وزيادة؟ فتـجد روح الانانية لديه – بهذا الـحوار الداخلي - الفرصة سانـحة لترفع رأسها وتبرز، فتسوقه تدريـجاً الى التلوث بصفة مذمومة، تلك هي التطلع الى حب الـجاه، فيفوته الاخلاص وينسد دونه بابه، بينما ينفتح باب الرياء لـه على مـصراعيه.

ان علاج هذا الـخطأ الـجسيم والـجرح البليغ والـمرض الروحي العضال هو:

العلم بان رضى الله لا ينال الا بالاخلاص، فرضاه سبحانه ليس بكثرة التابعين ولا باطراد النجاح والتوفيق في الاعمال، ذلك لان تكثير التابعين والتوفيق في الاعمال هو مـما يتولاه الله سبحانه بفضلـه وكرمه، فلا يُسأل ولا يطلب بل يؤتيه الله سبحانه من يشاء.

نعم، رُبّ كلمة واحدة تكون سبباً للنجاة من النار وتصبح موضع رضى الله سبحانه، ورُبّ ارشاد شخص واحد يكون موضع رضى الله سبحانه بقدر ارشاد الف من الناس. فلا ينبغي أن يُؤخذ الكمية كثيراً بنظر الاعتبار.

ثم ان الاخلاص في العمل ونشدان الـحق فيه انـما يُعرف بصدق الرغبة في افادة الـمسلمين عامةً اياً كان مصدر الاستفادة ومن أي شخص صدر. وإلا فحصر النظر بان يؤخذ الدرس والارشاد مني فقط لأفوز بالثواب الاخروي هو حيلة النفس وخديعة الانانية.

فيامن يـحرص على الـمزيد من الثواب ولا يقنع بـما قام به من اعمال للآخرة! اعلم ان الله سبحانه قد بعث انبياء كراماً، وما آمن معهم إلاّ قليل. ومع ذلك نالوا ثواب النبوة العظيم كاملاً غير منقوص. فليس السبق والفضل اذن في كثرة التابعين الـمؤمنين، وانـما في نيل شرف رضى الله سبحانه. فمن انت ايها الـحريص حتى ترغب ان يسـمعك الناس كلـهم، وتتغافل عن واجبك وتـحاول ان تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم واجبك، ولا تـحاول ان تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم ان تصديق الناس كلامك وقبولـهم دعوتك وتـجمعهم حولك انـما هو من فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا تُشغل نفسك فيما يخصه سبحانه من تقدير وتدبير، بل اجمع همك في القيام بـما انيط بك من واجب.

ثم ان الاصغاء الى الـحق والـحقيقة، ونوال الـمتكلم بهما الثواب ليس منحصراً على الـجنس البشري وحده، بل لله عباد من ذوي الشعور ومن الروحانيين والـملائكة قد ملأوا اركان الكون وعمروها. فان كنت تريد مزيداً من الثواب الاخروي فاستمسك بالاخلاص واتـخذه اساساً لعملك واجعل مرضاة الله وحدها الـهدف والغاية في عملك، كي تـحيا افراد تلك الكلمات الطيبة الـمنطوقة من شفتيك منتشرة في جو السـماء بالاخلاص وبالنية الـخالصة لتصل الى اسـماع مـخلوقات من ذوي الـمشاعر الذين لا يحصرهم العد، فتنوّرهم، وتنال بها الثواب العظيم اضعافاً مضاعفة. ذلك لانك اذا قلت: ((الـْحَمْدُ لله)) مثلا فستُكتب بأمر الله على اثر نطقك بهذه الكلمة ملايين الـملايين من ((الـْحَمْدُ لله)) صغيرة وكبيرة في الفضاء. فلقد خلق سبحانه مالا يعد من الآذان والاسـماع تصغي الى تلك الكلمات الكثيرة الطيبة، حيث لا عبث ولا اسراف في عمل الباريء الـحكيم. فاذا ما بعث الاخلاصُ والنية الصادقة الـحياةَ في تلك الكلمات الـمنتشرة في ذرات الـهواء فستدخل اسـماع اولئك الروحانيين لذيذة طيبة كلذة الفاكهة الطيبة، ولكن اذا لم يبعث رضى الله والاخلاص الـحياة في تلك الكلمات، فلا تستساغ، بل تنبو عنها الاسـماع، ويبقى ثوابه منحصراً فيما تفوّه به الفم.

فليصغ الى هذا قراء القرآن الكريـم الذين يتضايقون من افتقار اصواتهم الى الـجودة والاحسان فيشكون من قلة السامعين لـهم!.

السبب الرابع:

ان اختلاف اهل الـهداية وتـحاسدهم ليس كائناً من عدم التفكر في مصيرهم ولا من قصر نظرهم، كما ان الاتفاق الـجاد بين اهل الضلالة ليس كائناً من القلق على الـمصير ولا من سـمو نظرهم وعـمق رؤيتهم. بل ان عجز اهل الـهداية عن الثبات على الاستقامة في السير، وتقصيرهم عن الاخلاص في العمل يـحرمهم من التمتع بـمزايا ذلك الـمستوى الرفيع، فيسقطون في هوة الاختلاف رغم كونهم يسترشدون بالعقل والقلب البصيرين للعاقبة ويستفيضون من الـحق والـحقيقة ولا يـميلون مع شهوات النفس بـمقتضى أحاسيسهم الكليلة عن رؤية العقبى.

اما اهل الضلالة فباغراء النفس والـهوى وبـمقتضى الـمشاعر الشهوية والاحاسيس النفسانية الكليلة عن رؤية العقبى والتي تفضل درهـما من لذة عاجلة على ارطال من الآجلة، تراهم يتفقون فيما بينهم اتفاقاً جاداً ويـجتمعون حول الـحصول على منفعة عاجلة ولذة حاضرة.

نعم، ان عبيد النفس السفلة من ذوي القلوب الـميتة والـهائمين على الشهوات الدنيئة يتـحدون ويتفقون فيما بينهم على منافع دنيوية عاجلة.. بينما ينبغي لأهل الـهداية الاتفاق الـجاد والاتـحاد الكامل والتضحية الـمثمرة والاستقامة الرصينة فيما بينهم، حيث انهم يتوجهون بنور العقل وضياء القلب الى جني كمالات ثـمرات اخروية خالدة آجلة، ولكن لعدم تـجرّدهم من الغرور والكبر والافراط والتفريط يضيـّعون منبعاً عظيماً ثراً يـُمدهم بالقوة، ألا هو الاتفاق. فيضيع بدوره الاخلاص ويتـحطم، وتتضعضع الاعمال الاخروية وتذهب سدى، ويصعب الوصول الى نيل رضى الله سبحانه.

وعلاج هذا الـمرض الوبيل ودواؤه هو:

الافتـخار بصحبة السالكين في منهج الـحق، وربط عرى الـمحبة معهم تطبيقاً للـحديث الشريف: ((الـحب في الله))(1) ثـم السير من خلفهم وترك شرف الامانة لـهم وترك الاعجاب بالنفس والغرور، بناء على احتمال كون سالك الـحق اياً كان هو خيراً

T منه وافضل، وذلك ليسهل نيل الاخلاص. ثـم العلم بأن درهماً من عمل خالص لوجه الله اولى وارجح من ارطال من اعمال مشوبة لا اخلاص فيها. ثـم ايثار البقاء في مستوى التابع دون التطلع الى تسلم الـمسؤولية التي قلـما تسلم من الاخطار.

بهذه الامور يعالج هذا الـمرض الوبيل ويعافى منه، ويظهر بالاخلاص، ويكون الـمؤمن مـمن ادى اعمالـه الاخروية حق الأداء.

السبب الـخامس:

ان اختلاف اهل الـهداية وعدم اتفاقهم ليس نابعاً من ضعفهم، كما أن الاتفاق الصارم بين اهل الضلالة ليس نابعاً من قوتهم. بل ان عدم اتفاق اهل الـهداية ناجم عن عدم شعورهم بالـحاجة الى القوة، لـما يـمدهم به أيـمانهم الكامل من مرتكز قوي. وان اتفاق اهل الغفلة والضلالة ناجم عن الضعف والعجز، حيث لا يـجدون في وجدانهم مرتكزاً يستندون الى قوته. فلفرط احتياج الضعفاء الى الاتفاق تـجدهم يتفقون اتفاقاً قوياً، ولضعف شعور الاقوياء بالـحاجة الى الاتفاق يكون اتفاقهم ضعيفاً. مثلـهم في هذا كمثل الاسُود والثعالب التي لا تشعر بالـحاجة الى الاتفاق فتراها تعيش فرادى. بينما الوعل والـماعز الوحشي تعيش قطعاناً خوفاً من الذئاب. أي ان جـمعية الضعفاء والشخص الـمعنوي الـممثل لـهم قوي كما ان جـمعية الاقوياء والشخص الـمعنوي الـممثل لـهم ضعيف(1). وهناك اشارة لطيفة الى هذا السر في نكتة قرآنية ظريفة وهي: انه اسند الفعل ((قَالَ)) بصيغة الـمذكر الى جـماعة الإناث مع كونها مؤنثة مضاعفة، وذلك في قولـه تعالى: } وَقَالَ نِسْوَةٌ في الْـمَدينَةِ { (يوسف:30)، بينما جاء الفعل ((قالت)) بصيقة الـمؤنث في قولـه تعالى: } قَالَتِ الاَعْرَابُ{ (الحجرات:14)، وهم جماعة من الذكور، مـما تشير اشارة لطيفة الى ان جـماعة النساء الضعيفات اللطيفات تتـخاشن وتتقوى وتكسب نوعاًُ من الرجولة، فاقتضت الـحال صيغة الـمذكر، فجاء فعل ((قال)) مناسباً وفي غاية الـجمال. أما الرجال الاقوياء فلانهم يعتمدون على قوتهم ولا سيما الاعراب البدويون فتكون جـماعتهم ضعيفة كأنها تكسب نوعاً من خاصية الانوثة من توجس وحذر ولطف ولين فـجاءت صيغة التأنيث للفعل ملائمة جداً في قولـه تعالى: } قَالَتِ الاَعْرَابُ { (الحجرات:14).

نعم ان الذين ينشدون الـحق لايرون وجه الـحاجة الى معاونة الآخرين لـما يـحملون في قلوبهم من إيـمان قوي يـمدهم بسند عظيم ويبعث فيهم التوكل والتسليم، حتى لو احتاجوا الى الآخرين فلا يتشبثون بهم بقوة. اما الذين جعلوا الدنيا همـّهم، فلغفلتهم عن قوة استنادهم ومرتكزهم الـحقيقي يـجدون في انفسهم الضعف والعجز في انـجاز امور الدنيا، فيشعرون بـحاجة ملحة الى من يـمد لـهم يد التعاون فيتفقون معهم اتفاقاً جاداً لا يـخلو من تضحية وفداء.

وهكذا فلأن طلاب الـحق لا يقدرون قوة الـحق الكامنة في الاتفاق ولا يبالون بها ينساقون الى نتيجة باطلة وخيمة تلك هي الاختلاف، بينما اهل الباطل والضلالة فلأنهم يشعرون – بسبب عجزهم وضعفهم – بـما في الاتفاق من قوة عظيمة فقد نالوا امضى وسيلة توصلـهم الى اهدافهم تلك هي الاتفاق.

وطريق النـجاة من هذا الواقع الباطل الاليم، والتـخلص من هذا الـمرض الفتاك، مرض الاختلاف الذي الـمّ بأهل الـحق هو اتـخاذ النهي الإلـهي في الآية الكريـمة: } وَلاَ تَنَازَعـُوا فَتْفشَلواُ وَتَذْهَبَ ريحـُكُم { (الانفال:46) واتـخاذ الامر الرباني في الآية الكريـمة: } وَتَعَاوَنـُوا عَلَى البِرِّ وَالتـَّقْوى { (الـمائدة:2) دستورين للعمل في الـحياة الاجتماعية.. ثـم العلم بـمدى ما يسببه الاختلاف من ضرر بليغ في الإسلام والـمسلمين وبـمدى ما ييسر السبيل امام اهل الضلالة ليبسطوا ايديهم على اهل الـحق.. ثـم الالتحاق بقافلة الإيـمان التي تنشد الـحق والانـخراط في صفوفها بتضحية وفداء وبشعور نابع من عجز كامل وضعف تام، وذلك مع نكران الذات والنجاة من الرياء ابتغاء الوصول الى نيل شرف الاخلاص.

السبب السادس:

ان اختلاف اهل الـحق ليس ناشئاً من فقدان الشهامة والرجولة ولا من انـحطاط الـهمة وانعدام الـحمية، كما ان الاتفاق الـجاد بين الغافلين الضالين الذين يبغون الدنيا في امورهم ليس ناشئاً من الشهامة والرجولة ولا من الـحمية وعلو الـهمة. بل ان اهل الـحق وجـّهوا نظرهم الى ثواب الآخرة – على الاكثر – فتوزع مالديهم من حـمية وهـمة وشهامة الى تلك الـمسائل الـمهمة والكثيرة، ونظراً لكونهم لايصرفون اكثر وقتهم – الذي هو رأس مالـهم الـحقيقي – الى مسألة معينة واحدة، فلا ينعقد اتفاقهم عقداً مـحكماً مع السالكين في نهج الـحق، حيث ان الـمسائل كثيرة والـميدان واسع جداً.

اما الدنيويون الغافلون، فلكونهم يـحصرون نظرهم حصراً في الـحياة الدنيا – فهي اكبر هـمهم ومبلغ علمهم – تراهم يرتبطون معها بأوثق رباط وبكل مالديهم من مشاعر وروح وقلب. فأيـما شخص يـمد لـهم يد الـمساعدة يستمسكون بـها بقوة، فهم يـحصرون وقتهم الثـمين جداً في قضايا دنيوية لا تساوي شيئاً في الـحقيقة لدى اهل الـحق. مثلـهم في هذا كمثل ذلك الصائغ اليهودي الـمجنون الذي اشترى قطعاً زجاجية تافهة بأثـمان الاحجار الكريـمة الباهظة. فابتياع الشيء بأثـمان باهظة، وصرف الـمشاعر كلـها نـحوه يؤدي حـتماً الى النـجاح والتوفيق ولو كان في طريق باطل، لان فيه اخلاصاً جاداً. ومن هنا يتغلب اهل الباطل على اهل الـحق، فيفقد اهل الـحق الاخلاص ويسقطون في مهاوي الذل والتصنع والرياء، ويضطرون الى التـملق والتزلف الى ارباب الدنيا الـمحرومين من كل معاني الشهامة والـهمة والغيرة.

فيا اهل الـحق! ويا اهل الشريعة والـحقيقة والطريقة! ويا من تنشدون الـحق لاجل الـحق! أسعوا في دفع هذا الـمرض الرهيب، مرض الاختلاف بتأدبكم بالادب الفرقاني العظيم، الا وهو: } وَاِذَا مَرُّوا بِاللـَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً{ (الفرقان:72)، فاعفوا عن هفوات اخوانكم واصفحوا عن تقصيراتهم، وغضوا ابصاركم عن عيوب بعضكم البعض الآخر، ودعوا الـمناقشات الداخلية جانباً. فالاعداء الـخارجيون يغيرون عليكم من كل صوب، واجعلوا انقاذ اهل الـحق من السقوط والذلة من اهم واجباتكم الاخروية واولاها بالاهتمام، وامتثلوا بـما تأمركم به مئات الآيات الكريـمة والاحاديث الشريفة من التآخي والتـحابب والتعاون، واستمسكوا بكل مشاعركم بعرى الاتفاق والوفاق مع اخوانكم في الدين ونهج الـحق الـمبين باشد مـما يستمسك به الدنيويون الغافلون، واحذروا دائماً من الوقوع في شباك الاختلاف. ولا يقولن احدكم: ((سأصرف وقتي الثمين في قراءة الاوراد والاذكار والتأمل، بدلاً من ان أصرفه في مثل هذه الامور الجزئية)) فينسحب من الـميدان ويصبح وسيلة في توهين الاتفاق والاتـحاد وسبباً في اضعاف الـجماعة الـمسلمة، ذلك لان الـمسائل التي تظنونها جزئية وبسيطة ربـما هي على جانب عظيم من الاهمية في هذا الـجهاد الـمعنوي. فكما ان مرابطة جندي في ثغر من الثغور الإسلامية – ضمن شرائط خاصة مهمة – لساعة من الوقت قد تكون بـمثابة سنة من العبادة، فان يومك الثـمين هذا الذي تصرفه في مسألة جزئية من مسائل الجهاد الـمعنوي ولا سيما في هذا الوقت العصيب الذي غلب اهل الـحق فيه على أمرهم، اقول ان يومك هذا ربـما يأخذ حكم ساعة من مرابطة ذلك الـجندي، أي يكون ثوابه عظيماً، بل ربـما يكون يومك هذا كألف يوم. اذ ما دام العمل لوجه الله وفي سبيلـه فلا يُنظر الى صغره وكبره ولا الى سـموه وتفاهته، فالذرة في سبيل رضاه سبحانه مع الاخلاص تصبح نـجمة متلألئة، فلا تؤخذ ماهية الوسيلة بنظر الاعتبار وانـما العبرة في النتيجة والغاية، وحيث انـها رضى الله سبحانه، وأن اساس العمل هو الاخلاص، فلن تكون تلك الـمسألة اذن مسألة صغيرة، بل هي كبيرة وعظيمة.

السبب السابع:

ان اختلاف اهل الـحق والـحقيقة ومنافستهم ليس ناشئاً من الغيرة فيما بينهم ولا من الـحرص على حطام الدنيا، كما ان اتفاق الدنيويين الغافلين ليس من كرامتهم وشهامتهم. بل ان اهل الـحقيقة لـم يتمكنوا من الـحفاظ على الفضائل والـمكارم التي يـحصلون عليها من تـمسكهم بالـحقيقة ولـم يستطيعون البقاء والثبات ضمن منافسة شريفة نزيهة في سبيل الـحق بتسلل القاصرين منهم في هذا الـميدان؛ لذا فقد اساءوا – بعض الاساءة – الى تلك الصفات الـمحمودة، وسقطوا في الاختلاف والـخلاف نتيجة التـحاسد فأضروا انفسهم وجـماعة الـمسلمين أيـما ضرر.

اما الصالون والغافلون فنظراً لفقدانهم الـمروءة والـحمية لعجزهم ولذلتهم فقد مدوا ايديهم واتـحدوا اتـحاداً صادقاً مع اناس اياً كانوا، بل مع الدنيئين الوضيعين من الناس كيلا تفوتهم منافع يلـهثون وراءها، ولا يُسخطوا اصدقاءهم ورؤساءهم الذين يأتـمرون بأوامرهم الى حد العبادة لاجلـها، لذا اتفقوا مع من يشاركهم في الامر اتفاقاً جاداً واجتـمعوا مع من يـجتمع حول تلك الـمنافع بأي شكل من اشكال الاجـتماع، فبلغوا الى ما يصبون اليه من جراء هذا الـجد والـحزم في الامر.

فيا اهل الـحق واصحاب الـحقيقة ويا من ابتليتهم ببلوى الاختلاف! لقد ضيعتم الاخلاص في هذا الظرف العصيب ولـم تـجعلوا رضى الله غاية مسعاكم فمهدتـم السبل لاسقاط اهل الـحق مغلوبين على امرهم، وجرعتموهم مرارة الذل والـهوان.

اعلموا انه ما ينبغي ان يكون حسد ولا منافسة ولاغيرة في امور الدين والآخرة، فليس فيها في نظر الـحقيقة امثال هذه الامور. ذلك لان منشأ الـحسد والـمنافسة انـما هو من تطاول الايدي الكثيرة على شيء واحد وحصر الانظار الى مقام واحد وشهية الـمعدات الكثيرة الى طعام واحد، فتؤول الـمناقشة والـمسابقة والـمزاحمة الى الغبطة والـحسد.. ولـما كانت الدنيا ضيقة ومؤقتة ولا تشبع رغبات الانسان ومطاليبه الكثيرة، وحيث ان هناك الكثيرون يتهالكون على شيء واحد، فالنتيجة اذن السقوط في هاوية الـحسد والـمنافسة. اما في الآخرة الفسيحة فلكل مؤمن جنة عرضها السـموات والارض تـمتد الى مسافة خـمسـمائة سنة(1)، ولكل منهم سبعون الفاً من الـحور والقصور، فلا موجب هناك اذن الى الـحسد والـمنافسة قط، فيدلنا هذا على انه لاحسد ولا مشاحنة في اعمال صالـحة تفضي الى الآخرة، أي لامـجال للمنافسة والتـحاسد فيها، فمن تـحاسد فهو لاشك مراء أي انه يتحرى مغانـم دنيوية تـحت ستار الدين ويبحث عن منافع باسـم العمل الصالـح. او انه جاهل صادق لا يعلم اين وجهة الاعمال الصالـحة ولـم يدرك بعد ان الاخلاص روح الاعمال الصالـحة واساسها، فيتهم سعة الرحـمة الإلـهية كأنها لا تسعه، ويبدأ بالـحسد والـمنافسة والـمزاحـمة منطوياً في قرارة نفسه على نوع من العداء مع اولياء الله الصالـحين الصادقين.

وسأذكر هنا حادثة تؤيد هذه الـحقيقة: كان احد اصدقائنا السابقين يـحمل في قلبه ضغينة وعداء نـحو شـخص معين. وعندما أُثني على هذا الشخص امامه في مـجلس وقيل في حقه: ((انه رجل صالـح، انه ولي من اولياء الله)) رأينا ان هذا الكلام لـم يثر فيه شيئاً فلـم يبد ضيقاً من الثناء على عدوه. ولكن عندما قال احدهم: ((انه قوي وشجاع)) رأيناه قد انتفض عرق الـحسد والغيرة لديه. فقلنا لـه: ((يا هذا ان مرتبة الولاية والتقوى من اعظم الـمراتب في الآخرة فلا يقاس عليها شيء آخر، فأين الثرى من الثريا؟!. لقد شاهدنا ان ذكر هذه الـمرتبة لـم يـحرك فيك ساكنا بينما ذكر القوة العضلية التي تـملكها حتى الثيران والشجاعة التي تـملكها السباع قد اثارتا فيك نوازع الـحسد)). اجاب: ((لقد استهدفنا كلانا هدفاً ومقاماً معيناً في هذه الدنيا، فالقوة والشجاعة وامثالـهما هي من وسائل الوصول الى ما استهدفناه من مرتبة دنيوية، فلاجل هذا شعرت بدواعي الـمنافسة والـحسد. اما منازل الآخرة ومراتبها فلا تـحد بـحدود، وربـما يصبح هناك من كان عدواً لي احب صديق واعزه.

فيا اهل الـحقيقة والطريقة! ان خدمة الـحق ليس شيئاً هيناً، بل هو اشبه ما يكون بـحمل كنز عظيم ثقيل والقيام بالـمحافظة عليه، فالذين يـحملون ذلك الكنز على اكتافهم يستبشرون بأيدي الاقوياء الـممتدة اليهم بالعون والمساعدة ويفرحون بها اكثر. فالواجب يـحتـّم ان يُستقبل اولئك الـمقبلون بـمحبة خالصة، وان يُنظر الى قوتهم وتأثيرهم ومعاونتهم اكثر من ذواتهم وان يتلقوا بالافتـخار اللائق بهم، فهم اخوة حقيقيون ومؤازرون مضحون. ولئن كان الواجب يـحتم هذا، فلِـمَ اذن ينظر اليهم نظر الـحسد ناهيك عن الـمنافسة والغيرة، حتى يفسد الاخلاص نتيجة هذه الـحالة، وتكون اعمالكم ومهمتكم موضع تهم الضالـين. فيضعونكم في مستوى اقل منكم واوطأ من مسلككم بكثير، بل يقرنونكم مع اولئك الذين يأكلون الدنيا بالدين ويضمنون عيشهم تـحت ستار علـم الـحقيقة ويـجعلونكم من الـمتنافسين الـحريصين على حطام الدنيا، وامثالـها من الاتهامات الظالـمة؟!

ان العلاج الوحيد لـهذا المرض هو: اتهْام الـمرء نفسه، والانـحياز الى جـهة رفيقه في نهج الـحق الذي ازاءه وعدم الانـحراف عن دستور الانصاف وابتغاء الـحق، الذي ارتضاه علماء فن الآداب والـمناظرة والذي يتضمن: ((اذا اراد الـمرء ان يظهر الـحق على لسانه دون غيره – في مناظرة معينة – وانسرّ لذلك واطمأن ان يكون خصمه على باطل وخطأ فهو ظالـم غير منصف)) فضلاً عن انه يتضرر نتيجة ذلك لانه لـم يتعلـم شيئاً جديداً – من تلك الـمناظرة – بظهور الـحق على لسانه، بل قد يسوقه ذلك الى الغرور فيتضرر، بينما اذا ظهر الـحق على لسان خصمه فلا يضره شيء ولا يبعث فيه الغرور بل ينتفع بتعلمه شيئاً جديداً. أي ان طالب الـحق الـمنصف يسخط نفسه لاجل الـحق، واذا ما رأى الـحق لدى خصمه رضى به وارتاح اليه.

فلو اتـخذ اهل الدين والـحقيقة والطريقة والعلـم هذا الدستور دليلاً في حياتهم وعملـهم فانهم يظفرون بالاخلاص بأذن الله ويفلحون في اعمالـهم الاخروية، وينجون برحـمة منه سبحانه وفضلـه من هذه الـمصيبة الكبرى التي الـّمت بهم واحاطتهم من كل جانب.

} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #17
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الـحادية والعشرون

((تـخص الإخلاص))

((كانت هذه اللمعة الـمسألة الرابعة للـمسائل السبع للـمذكرة السابعة عشرة من اللمعة السابعة عشرة الا انها اصبحت النقطة الثانية من اللمعة العشرين. لـمناسبة موضوعها – الاخلاص – وبناء على نورانيتها صارت اللمعة الـحادية والعشرين، فدخلت في كتاب (اللمعات) )).

[ تُقرأ هذه اللمعة كل خـمسة عشر يوماً في الاقل ]

بسم الله الرحمن الرحيم

} وَلاَ تَنَازَعـُوا فَتْفشَلواُ وَتَذْهَبَ ريحـُكُم { (الانفال:46)

} وَقوُمُوا للهِ قَانتِينَ { (البقرة:238)

} قَدْ اَفـْلَحَ مَنْ زَكـّاها ` وَقَد خَابَ مَنْ دَسـّاها {

(الشمس:9-10)

} وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً { (البقرة:41)

يا اخوة الآخرة! ويا اصحابي في خدمة القرآن! اعلموا – وانتم تعلمون – ان الاخلاص في الاعمال ولا سيما الاخروية منها، هو اهم اساس، واعظم قوة، وارجى شفيع، واثبت مرتكز، واقصر طريق للـحقيقة، وأبرّ دعاء معنوي، واكرم وسيلة للمقاصد، واسـمى خصلة، واصفى عبودية.

فما دام في الاخلاص انوار مشعة، وقوى رصينة كثيرة امثال هذه الـخواص.. ومادام الاحسان الإلـهي قد القى على كاهلنا مهمة مقدسة ثقيلة، وخدمة عامة جليلة، تلك هي وظيفة الإيـمان وخدمة القرآن.. ونـحن في غاية القلة والضعف والفقر، ونواجه اعداء ألدّاء ومضايقات شديدة، وتـحيط بنا البدع والضلالات التي تصول وتـجول في هذا العصر العصيب.. فلا مناص لنا إلاّ بذل كل مافي وسعنا من جهد وطاقة كي نظفر بالاخلاص.. فنـحن مضطرون اليه، بل مكلفون به تكليفاً، واحوج ما نكون الى ترسيخ سر الاخلاص في ذواتنا، اذ لو لـم نفز به لضاع منا بعض ما كسبناه من الـخدمة الـمقدسة – لـحد الآن – ولـَما دامت ولا استمرت خدمتنا، ثـم نـحاسب عليها حساباً عسيراً، حيث نكون مـمن يشملهم النهي الإلـهي وتهديده الشديد في قوله تعالى: } وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً { (البقرة:41) بـما اخللنا بالاخلاص فأفسدنا السعادة الابدية، لاجل مطامع دنيوية دنيئة، مقيتة، مضرة، مكدرة، لاطائل من ورائها ولافائدة، ارضاء لـمنافع شخصية جزئية تافهة، امثال الاعجاب بالنفس والرياء، ونكون ايضاً من الـمتجاوزين حقوق اخواننا في هذه الـخدمة ومن الـمتعدين على نهج الـخدمة القرآنية، ومن الذين اساءوا الادب فلـم يقدروا قدسية الـحقائق الإيـمانية وسـموها حق قدرها.

فيا اخوتي! ان الامور الـمهمة للخير والدروب العظيمة للصلاح، تعترضها موانع وعقبات مضرة كثيرة. فالشياطين يكدون انفسهم ويـجهدونها مع خدام تلك الدعوة الـمقدسة، لذا ينبغي الاستناد الى الاخلاص والاطمئنان اليه، لدفع تلك الـموانع وصد تلك الشياطين. فاجتنبوا – يااخوتي – من الاسباب التي تقدح الاخلاص وتثلمه كما تـجتنبون العقارب والـحيات. فلا وثوق بالنفس الامارة ولا اعتماد عليها قط، كما جاء في القرآن الكريـم على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: } وَمَآ اُبـَرِىّءُ نَفْسي اِنَّ النـّفْسَ لاَمـَّارَةٌ بِالسـُّوءِ اِلاّ مَارَحِمَ رَبـّي { (يوسف:53) فلا تـخدعنكم الانانية والغرور ولا النفس الامارة بالسوء ابداً. ولاجل الوصول الى الظفر بالاخلاص وللحفاظ عليه، ولدفع الـموانع وازالتها اجعلوا الدساتير الآتية رائدكم:

دستوركم الاول:

ابتغاء مرضاة الله في عملكم. فاذا رضى هو سبحانه فلا قيمة لإعراض العالـم اجمع ولا اهمية له. واذا ما قبل هو سبحانه فلا تأثير لردّ الناس اجـمعين. واذا اراد هو سبحانه واقتضته حكمته بعد ما رضى وقبل العمل، وجعل الناس يقبلونه ويرضون به، وان لم تطلبوه انتم، لذا ينبغي جعل رضى الله وحده دون سواه القصد الاساس في هذه الـخدمة.. خدمة الإيـمان والقرآن.

دستوركم الثاني:

هو عدم انتقاد اخوانكم العاملين في هذه الـخدمة القرآنية، وعدم اثارة نوازع الغبطة بالتفاخر والاستعلاء. لانه كما لا تـحاسد في جسم الانسان بين اليدين، ولا انتقاد بين العينين، ولا يتعرض اللسان على الاذن، ولا يرى القلب عيب الروح، بل يكمـّل كلّ منه نقصَ الآخر ويستر تقصيره ويسعى لـحاجته، ويعاونه في خدمته.. والا انطفأت حياة ذلك الجسد، ولغادرته الروح وتـمزق الجسم.

وكما لاحسد بين تروس الـمعمل ودوليبه، ولا يتقدم بعضها على بعض ولايتحكم، ولايدفع احدها الآخر الى التعطل بالنقد والتجريح وتتبع العورات والنقائص، ولا يثبط شوقه الى السعي، بل يعاون كل منها الآخر بكل مالديه من طاقة موجهاً حركات التروس والدواليب الى غايتها المرجوة، فيسير الـجميع الى ما وجدوا لاجله، بالتساند التام والاتفاق الكامل. فلو تدخل شيء غريب او تـحكم في الامر – ولو بـمقدار ذرة – لا ختل الـمعمل واصابه العطب ويقوم صاحبه بدوره بتشتيت اجزائه وتقويضه من الاساس.

فيا طلاب رسائل النور ويا خدام القرآن! نـحن جـميعاً اجزاء واعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يطلق عليها: الانسان الكامل.. ونـحن جـميعاً بـمثابة تروس ودواليب معمل ينسج السعادة الابدية في حياة خالدة. فـنحن خدام عاملون في سفينة ربانية تسير بالامة الـمحمدية الى شاطيء السلامة وهي دار السلام.

نـحن اذن بـحاجة ماسة بل مضطرون الى الاتـحاد والتساند التام والى الفوز بسر ((الاخلاص)) الذي يهيء قوة معنوية بـمقدار الف ومائة واحد عشر ((1111)) ناتـجة من اربعة افراد. نعم.. ان لـم تتـحد ثلاث ((الفات)) فستبقى قيمتها ثلاثاً فقط، اما اذا اتـحدت وتساندت بسر العددية، فانها تكسب قيمة مائة واحد عشر ((111))، وكذا الـحال في اربع ((اربعات)) عندما تكتب كل ((4)) منفردة عن البقية فان مـجموعها ((16)) اما اذا اتـحدت هذه الارقام واتفقت بسر الاخوة ووحدة الـهدف والـمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة اربعة آلاف واربعمائة واربع واربعين ((4444)) وقوتها. هناك شواهد ووقائع تاريـخية كثيرة جداً اثبتت ان ستة عشر شخصاً من الـمتآخين الـمتحدين الـمضحين بسر الاخلاص التام تزيد قوتهم الـمعنوية وقيمتهم على اربعة آلاف شخص.

اماحكمة هذا السر فهي: ان كل فرد من عشرة اشخاص متفقين حقيقة يـمكنه ان يرى بعيون سائر اخوانه ويسمع بأذانهم أي ان كلاً منهم يكون له من القوة والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عيناً ويفكر بعشرة عقول ويسمع بعشرين اذناً ويعمل بعشرين يداً(1).

دستوركم الثالث:

اعلموا ان قوتكم جميعاً في الاخلاص والـحق.

نعم! ان القوة في الـحق والاخلاص، حتى ان اهل الباطل يـحرزون القوة لـما يبدون من ثبات واخلاص في باطلهم.

نعم! ان خدمتنا هذه في سبيل الإيـمان والقرآن هي دليل بذاتها على ان القوة في الـحق والاخلاص. فشيء يسير من الاخلاص في سبيل هذه الـخدمة يثبت دعوانا هذه ويكون دليلاً عليه. ذلك: لان ما قمنا به في ازيد من عشرين سنة في مدينتي(2) وفي استانبول من خدمة في سبيل الدين والعلوم الشرعية، قد قمنا معكم باضعافه مائة مرة هنا(3) في غضون ثـماني سنوات. علماً بأن الذين كانوا يعاونونني هناك هم اكثر مائة مرة بل الف مرة مـمن يعاونونني هنا. ان خدماتنا هنا في ثـماني سنوات مع انني وحيد غريب شبه امي(4) وتـحت رقابة موظفين لا انصاف لـهم وتـحت مضايقاتهم قد اكسبتنا بفضل الله قوة معنوية اظهرت التوفيق والفلاح بـمائة ضعف مـما كان عليه سابقاً، لذا حصلت لدى قناعة تامة من ان هذا التوفيق الإلـهي ليس الا من صميم اخلاصكم.

وانني اعترف بانكم انقذتـموني باخلاصكم التام – الى حد ما – من الرياء، ذلك الداء الوبيل الذي يداعب النفس تـحت ستار الشهرة والصيت.

نسأل الله ان يوفقكم جـميعاً الى الاخلاص الكامل وتقحموني فيه معكم.

تعلمون ان الامام علياً رضى الله عنه والشيخ الكيلاني قدس الله سره، قد توجها اليكم ونظرا بعين اللطف والاهتمام والتسلية في كراماتهما الـخارقة، ويباركان خدماتكم معنىً. فلا يسارونـّكم الشك في ان ذلك التوجه والالتفات والتسلية ليس الا بـما تتمتعون به من اخلاص. فان افسدتـم هذا الاخلاص متعمدين، تستحقون اذن لطماتهم. تذكروا دائماً ((لطمات الرأفة والرحـمة)) التي هي في ((اللمعة العاشرة)). ولو أردتـم ان يظل هذان الفاضلان استاذين وظهيرين معنويين لكم فاظفروا بالاخلاص الاتـم بامتثالكم الآية الكريـمة: } وَيُؤِثْروُنَ عَلى اَنْفُسِهِمْ { (الحشر:9).

أي عليكم ان تفضلوا اخوانكم على انفسكم في الـمراتب والـمناصب والتكريـم والتوجه، حتى في الـمنافع الـمادية التي تهش لـها النفس وترتاح اليها. بل في تلك الـمنافع التي هي خالصة زكية كتعليم حقائق الإيـمان الى الآخرين، فلا تتطلعوا ما استطعتم ان يتم ذلك بأيديكم، بل ارضوا واطمئنوا ان يتم ذلك بيد غيركم لئلا يتسرب الاعجاب الى انفسكم.

وربـما يكون لدى احدكم التطلع للفوز بالثواب وحده، فيحاول ان يبين امراً مهماً في الإيـمان بنفسه، فرغم ان هذا الا اثـم فيه ولاضرر فقد يعكر صفو الاخلاص فيما بينكم.

دستوركم الرابع:

هو الافتخار شاكرين بـمزايا اخوانكم، وتصورها في انفسكم، وعد فضائلهم في ذواتكم.

فهناك اصطلاحات تدور بين الـمتصوفة أمثال: الفناء في الشيخ، الفناء في الرسول. وانا لست صوفياً، ولكن ((الفناء في الاخوان)) دستور جميلٌ يناسب مسلكنا ومنهجنا تـماماً. أي ان يفنى كل في الاخر، أي ان ينسى كل اخ حسياته النفسانية، ويعيش فكراً مع مزايا اخوانه وفضائلهم. حيث ان اساس مسلكنا ومنهجنا هو ((الاخوة)) في الله، وان العلاقات التي تربطنا هي الاخوة الـحقيقية، وليست علاقة الاب مع الابن ولا علاقة الشيخ مع الـمريد. وان كان لابد فمـجرد العلاقة بالاستاذ. وما دام مسلكنا هو ((الـخليلية)) فمشربنا اذاً ((الـخلة)). والـخلة تقتضي صديقاً صدوقاً ورفيقاً مضحياً، وأخاً شهماً غيوراً.. وأس الاساس لـهذه الـخلة هو ((الاخلاص التام)). فـمن يقصّر منكم فيه فقد هوى من على برج الـخلة العالي، ولربـما يتردى في واد سحيق، اذ لا موضع في الـمنتصف.

نعم! ان الطريق طريقان، فمن يفارقنا الآن في مسلك الاخلاص التام – وهو الـجادة الكبرى للقرآن الكريـم – فربـما يكون من الذين يـخدمون الالـحاد اعداء القرآن دون ان يشعر.

فالذين دخلوا ميدان خدمة القرآن الكريـم الـمقدسة بوساطة رسائل النور لا يهوون بإذن الله في مثل تلك الـهاوية، بل سيمدون النور والاخلاص والإيـمان قوة.

فيا اخوتي في خدمة القرآن!

ان اهم سبب لكسب ((الاخلاص)) واعظم وسيلة مؤثرة للمحافظة عليه هو:

((رابطة الـموت)).

فكما ان طول الامل يثلم الاخلاص ويفسده ويسوق الناس الى حب الدنيا والى الرياء، فان ((رابطة الـموت)) تنفـّر من الرياء، وتـجعل الـمرابط معه يحرز الاخلاص. اذ تـخلصه من دسائس النفس الأمارة، وذلك بتذكر موته وبـملاحظة فناء الدنيا وزوالـها. هذا ولقد اتـخذ المتصوفة واهل الـحقيقة العلمية ((رابطة الـموت)) اساساً في منهج سلوكهم، وذلك بـما تعلموه من الآية الكريـمة:

} كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الـْمَوْت { (آل عمران:185) } اِنـَّكَ مَيِّتٌ وَاِنـَّهُمْ مَيـّتُون { (الزمر:30) فازالوا بتلك الرابطة توهم البقاء وحلم الابدية الذي يولد طول الامل، حيث افترضوا خيالاً وتصوروا انفسهم امواتاً.. فالان يُغسلون.. والآن يوضعون في القبر.. وحينما يتفكرون بهذه الصورة تتأثر النفس الامارة بهذا التخيل اكثر فتتخلى شيئاً فشيئاً عن آمالـها العريضة. فلهذه الرابطة اذن فوائد جـمة ومنافع شتى. ويكفي ان الـحديث الشريف يرشدنا اليـها بقولهe ((اَكْثِروُا ذِكْرَ هَاذِمِ الـَّلذَّاتِ))(1). وحيث ان مسلكنا حقيقة علمية وليست طريقة صوفية، فلا نرى انفسنا مضطرين مثلهم الى مباشرة تلك الرابطة بالافتراض والـخيال. فضلاً عن ان هذا الاسلوب لايلائم منهج الـحقيقة. اذ التفكر بالعقبى ليس هو بـجلب الـمستقبل الى الـحاضر خيالاً، بل الذهاب فكراً من الـحاضر الى الـمستقبل، ومشاهدة الـمستقبل من خلال الـحاضر الواقع كما هو الـحقيقة، فلا حاجة الى الـخيال، ولا يلزم الافتراض، اذ الانسان يـمكنه مشاهدة جنازته وهي ثـمرة مـحمولة على شجرة عمره القصير، واذا ما حول نظره قليلاً لا يرى موته وحده، بل يرى ايضاً موت عصره، حتى اذا جال بنظره اكثر يرى موت الدنيا ودمارها، وعندها ينفتح امامه الطريق الى ((الاخلاص التام)).

والسبب الثاني في احراز الاخلاص هو: ان يكسب الـمرء حضوراً وسكينة بالإيـمان التحقيقي وباللمعات الواردة عن التفكر الإيـماني في الـمخلوقات.

وهذا التأمل يسوق صاحبه الى معرفة الـخالق سبحانه، فتنسكب الطمأنينة والسكينة في القلب. حقاً ان تلمع هذا النوع من التأمل في فكر الانسان يـجعله يفكر دائماً في حضور الـخالق الرحيم سبحانه ورؤيته له، أي انه حاضر وناظر اليه دائماً. فلا يلتفت عندئذٍ الى غيره، ولا يستمد من سواه. حيث ان النظر والالتفات الى ما سواه يـخل بأدب الـحضور وسكينة القلب. وبهذا ينجو الانسان من الرياء ويتخلص منه، فيظفر بالاخلاص باذن الله.

وعلى كل حال فان في هذا ((التأمل)) درجات كثيرة ومراتب عدة. فحظ كل شخص ما يكسبه، وربـحه ما يستفيد منه حسب قابلياته وقدراته.

نكتفي بهذا القدر ونـحيل الى رسائل النور حيث ذكرت كثيراً من الـحقائق حول النـجاة من الرياء واحراز الاخلاص.

سنبين باختصار بعضاً من الاسباب العديدة التي يـخل بالاخلاص وتـمنعه، وتسوق الى الرياء وتدفع اليه:

((الـمانع الاول للاخلاص))

الـحسد الناشيء من الـمنافع الـمادية. هذا الـحسد يفسد الاخلاص تدريـجياً، بل يشوه نتائج العمل، بل يفوّت حتى تلك الـمنافع الـمادية ايضاً.

نعم، لقد حملت هذه الامة دائماً التوقير والقدر للعاملين بـجد للـحقيقة والآخرة، ومدت لـهم يد العون فعلاً، وذلك بنية مشاركتهم في تلك الاعمال والـخدمات الصادقة الـخالصة لوجه الله. فقدمت لـهم هدايا وصدقات لدفع حاجاتهم الـمادية ولئلا ينشغلوا بها عن خدماتهم الـجليلة، فأظهروا بذلك ما يكنونه من احترام للعاملين في سبيل الله. الا ان هذه الـمساعدات والـمنافع يـجب ألا تُطلب قط، بل تُوهب. فلا يُسأل حتى بلسان الـحال كـمن ينتظرها قلباً. وانـما تـُعطى من حيث لا يـحتسب وإلاّ اختلّ اخلاص الـمرء وانتقض، وكاد ان يدخل ضمن النهي الإلـهي في قوله تعالى: } وَلا تَشْتَروُا بِآياتي ثَمَنَـاً قَليلاً{ (البقرة:41) فيحبط قسم من اعماله.

فالرغبة في هذه الـمنافع الـمادية وترقبها بدافع من اثره النفس الامارة وحرصها على كسب الـمنافع لذاتها، تثير عرق الـحسد وتـحرك نوازعه تـجاه اخيه الـحقيقي وصاحبه الـمخلص في الـخدمة الإيـمانية، فيفسد اخلاصه ويفقد قدسية دعوته لله، ويتخذ طوراً منفراً لدى اهل الـحقيقة، بل يفقد الـمنافع الـمادية ايضاً.. وعلى كل حال فالـمسألة طويلة.

وسأذكر ما يزيد سرّ الاخلاص ويديم الوفاق الصادق بين اخوتي الصادقين. اذكره ضمن مثالين:

الـمثال الاول ((لإدامة الاخلاص)):

لقد اتـخذ ارباب الدنيا ((الاشتراك في الاموال)) قاعدة يسترشدون بها لاجل الـحصول على ثروة طائلة او قوة شديدة، بل اتـخذ من لـهم التأثير في الـحياة الاجتماعية – من اشخاص او جماعات وبعض الساسة – هذه القاعدة رائداً لـهم. ولقد كسبوا نتيجة اتباعهم هذه القاعدة قوة هائلة وانتفعوا منها نفعاً عظيماً، رغم ما فيها من اضرار واستعمالات سيئة، ذلك لان ماهية الاشتراك لا تتغير بالـمساوىء والاضرار التي فيها، لأن كل شخص – وفق هذه القاعدة – يـحسب نفسه بـمثابة الـمالك لـجميع الاموال، وذلك من زاوية مشاركته في الـمال ومن جـهة مراقبته واشرافه عليه، برغم انه لا يـمكنه ان ينتفع من جـميع الاموال.. وعلى كل حال فان هذه القاعدة اذا دخلت في الاعمال الاخروية فستكون مـحوراً لـمنافع جليلة بلا مساوىء ولا ضرر. لان جـميع تلك الاموال الاخروية تـحمل سر الدخول بتمامها في حوزة كل فرد من اولئك الافراد الـمشتركين فيها، دون نقصان او تـجزئة.

ولنفهم هذا بـمثال:

اشترك خـمسة اشخاص في اشعال مصباح زيتى. فوقع على احدهم احضار النفط، وعلى الآخر الفتيلة، وعلى الثالث زجاجة الـمصباح، وعلى الرابع الـمصباح نفسه وعلى الاخير علبة الكبريت.. فعندما اشعلوا الـمصباح اصبح كل منهم مالكاً لـمصباح كامل. فلو كان لكل من اولئك الـمشتركين مرآة كبيرة معلقة بـحائط، اذن لاصبح منعكساً في مرآته مصباح كامل – مع ما في الغرفة – من دون تـجزؤ او نقص..

وهكذا الامر في الاشتراك في الامور الاخروية بسر الاخلاص، والتساند بسر الاخوة، وضم الـمساعي بسر الاتـحاد، اذ سيدخل مـجموع اعمال الـمشتركين، وجـميع النور النابع منها، سيدخل بتمامه في دفتر اعمال كل منهم.. وهذا امر مشهود وواقع بين اهل الـحقيقة، وهو من مقتضيات سعة رحـمة الله سبحانه وكرمه الـمطلق.

فيا اخوتي..! آمل اَلاّ تسوقكم الـمنافع الـمادية الى الـحسد فيما بينكم ان شاء الله تعالى. الا انكم قد تنخدعون كما انـخدع قسم من اهل الطرق الصوفية، من باب الـمنافع الاخروية. ولكن تذكروا.. اين الثواب الشخصي والـجزئي من ذلك الثواب العظيم الناشىء في افق الاشتراك في الاعمال الـمذكورة في الـمثال، واين النور الـجزئي من ذلك النور الباهر.

الـمثال الثاني ((لإدامة الاخلاص)):

يـحصل الصناعيون واهل الـحرف على الانتاج الوفير وعلى ثروة هائلة نتيجة اتباعهم قاعدة ((الـمشاركة في الصنعة والـمهارة)). واليك الـمثال:

قام عشرة من صناعي ابر الـخياطة بعملهم، كل على انفراد، فكانت النتيجة ثلاث ابر فقط لكل منهم في اليوم الواحد.. ثم اتفق هؤلاء الاشخاص حسب قاعدة ((توحيد الـمساعي وتوزيع الاعمال)) فأتى احدهم بالـحديد والاخر بالنار، وقام الثالث بثقب الابرة والاخر ادخلها النار والاخر بدأ يـحدها.. وهكذا. فلم يذهب وقت احد سدى، حيث انصرف كل منهم الى عمل معين وانـجزه بسرعة، لانه عمل جزئي بسيط اولاً ولاكتسابه الخـبرة والمـهارة فيه ثانياً. وحينما وزعوا حصيلة جهودهم رأوا ان نصيب كل منهم في يوم واحد ثلاثـمائة ابرة بدلاً من ثلاث ابر.. فذهبت هذه الـحادثة انشودة يترنـم بها اهل الصناعة والـحرف، الذين يدعون الى توحيد الـمساعي وتوزيع الاعمال.

فيا اخوتي! ما دامت تـحصل مثل هذه الفوائد العظيمة نتيجة الاتـحاد والاتفاق في امور دنيوية وفي مواد كثيفة، فكم يكون يا ترى ثواب اعمال اخروية ونورانية! وكم يكون الثواب الـمنعكس من اعمال الـجماعة كلها بالفضل الإلـهي في مرآة كل فرد منها! تلك الاعمال التي لا تـحتاج الى تـجزئة ولا انقسام. فلكم ان تقدروا ذلك الربح العظيم.. فإن مثل هذا الربح العظيم لا يُفـوّات بالـحسد وعدم الاخلاص..!

((الـمانع الثاني للاخلاص)):

هو اعطاء ما يداعب انانية النفس الامارة بالسوء وما تستشرفه من منزلة ومكانة، تتوجه اليها الانظار، وحب اقبال الناس وطلب توجههم بدافع من حب الشهرة وذياع الصيت الناشىء من التطلع الى الـجاه وحبه.. فكما ان هذا داء روحي وبيل، فهو باب الى ((الشرك الـخفي)) الذي هو الرياء والاعـجاب بالنفس الـماحق للاخلاص.

يا اخواني! لـما كان مسلكنا في خدمة القرآن الكريـم مبنياً على الـحقيقة وعلى الاخوة، وان سر الاخوة هو في افناء الفرد شخصيته في شخصية اخوانه(1) وايثارهم على نفسه، فما ينبغي ان يؤثر فينا مثل هذا الـحسد الناجم من حب الـجاه، حيث هو مناف كلياً لـمسلكنا، اذ مادامت كرامة جـميع الاخوان وشرفهم تعود الى كل اخ في الـجماعة، فلا يـمكن ان تُضحي بتلك الـمنزلة الرفيعة والكرامة الفائقة والشرف الـمعنوي السامي للـجماعة، لاجل شهرة جزئية وعزة شخصية ناجـمة من الانانية والـحسد.. فأنا على ثقة وامل ان ذلك بعيد كل البعد عن طلاب النور.

نعم، ان قلوب طلاب النور وعقولـهم وارواحهم لا تنحدر الى مثل هذه الامور السافلة، الا انه ما من احد لا يـحمل نفساً امارة بالسوء، فقد تسري امورٌ ونوازع نفسانية في العروق وتتعلق بالاعصاب وتـجري احكاماً برغم العقل والقلب والروح. فاعتماداً على ما تتركه رسائل النور فيكم من آثار، فلا اتهم قلوبكم وعقولكم وارواحكم. الا ان النفس والـهوى والـحس والوهم قد يُخدع؛ لذا يأتيكم التـحذير والتنبيه احياناً بشدة وعنف. فتلك الشدة موجهة الى النفس والـهوى والـحس والوهم، فكونوا على حذر دائماً.

نعم لو كان مسلكنا طريقة خاصة ومشيخة، لكان هناك اذاً مقام واحد، او عدد مـحدود منه، ولكان هناك مرشحون كثيرون لذلك الـمقام. وعندها كان يـمكن ان تـحدث الغبطة والانانية في النفوس. ولكن مسلكنا هو الاخوة، لا غير. فلا يدعي الاخ على اخيه الابوة، ولا يتزيا بزي الـمرشد له. فالـمقام هنا في الاخوة فسيح واسع، لا مـجال فيه للـمزاحـمة بالغبطة، وان كان لابد فالاخ معاون لاخيه مكمـّل لعمله، وظهير له.

ومـما يدل على ان في الـمسالك التي فيها مقام الابوة والارشاد والاستاذية نتائج خطرة مهلكة تنجم من الـمنافسة والـحسد حرصاً على الثواب وتطلعاً الى علو الـهمة، اقول ان الدليل على ذلك هو تلك الاختلافات والـمشاحنات الدائرة في ثنايا الـمزايا الـجليلة والـمنافع العظيمة التي يتمتع بها اهل الطرق الصوفية، والتي ادّت بهم الى نتائج وخيمة جعلت قواهم السامية الـهائلة لا تثبت امام اعاصير البدع.

(الـمانع الثالث للاخلاص)):

هو الـخوف والطمع. نـحيل الى رسالة ((الـهجمات الست))(1) حيث شرحت هذا الـمانع مع موانع اخرى بوضوع تام.

نسأل الله الرحـمن الرحـيم سبحانه مشفـّعين جـميع اسمائه الـحسنى أن يوفقنا الى الاخلاص التام. آمين.

اَللـّهُمَّ بِحَقِّ سُوَرَةِ الاِخلاصِ اِجعَلـْنَا مِنْ عِبـَادِكَ الـْمُخْلِصينَ الـْمُخلَصينَ.

آمينْ.. آمين.

} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )





رسالة خاصة الى قسم من اخواني

سأذكر نكتة لطيفة لـحديثين شريفين لاولئك الاخوة الذين يـملـّون من كتابة رسائل النور، والذين يفضـّلون قراءة الاوراد في الشهور الثلاثة وهي شهور العبادات على كتابة رسائل النور التي تعدّ عبادة بـخمس جهات(1).

الـحديث الاول: ((يُوزن مداد العلماء بدماء الشهداء))(2) – او كما قال. أي ان ما يصرفه علماء الـحقيقة من حبر يوزن يوم القيامة مع دماء الشهداء ويعادلـها.

الـحديث الثاني: ((مَن تـمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد)) او كما قال، أي ان من يتمسك بالسنة الشريفة والـحقائق القرآنية وعمل لأجلها عند استيلاء البدع وتغلب الضلالة، فله أجر مائة شهيد.

فيا مَن يـملّ تكاسلاً عن الكتابة ويا ايها الاخوة الذين ينحون منحى التصوف! ان حصيلة مفهومي الـحديثين الشريفين هي ان درهماً مـما يقطر من نور اسود وماء باعث للـحياة من الاقلام الـمباركة الزكية لاولئك الذين يـخدمون حقائق الإيـمان واسرار الشريعة والسنة النبوية الشريفة في مثل الظروف يـمكن ان يفيد كمائة درهم من دم الشهداء يوم الـحشر الاكبر.

فاسعوا يا اخوتي لتظفروا بهذا الثواب العظيم.

فان قلتم: ان ما ورد في الـحديث هو العالـم بينما قسم منا كتـّاب فـحسب؟

الـجواب: ان الذي يقرأ هذه الرسائل، وهذه الدروس في غضون سنة واحدة ويفهمها ويقبل بها، يـمكن ان يكون عالـماً مهماً ذا حقيقة في هذا الزمان. واذا ما قرأها ولم يفهمها، فان طلاب النور الذين لـهم شخصية معنوية، لاشك انها احد علماء هذا الزمان. أما اقلامكم فهي اصابع تلك الشخصية الـحقيقية، وهب انكم قد ارتبطتم بهذا الفقير ومنحتموه بـحُسن ظنكم مكانة عالـم واستاذ في نظركم وان كنت ارى انني لا استحقها ولكن لـما كنت امياً لا اجيد الكتابة، فان اقلامكم تعدّ اقلامي انا. فتثابون بالاجر الـمبـّين في الـحديث الشريف.



سعيد النورسي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #18
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الثانية والعشرون

باسـمه سبحانه

هذه الرسالة الصغيرة التي كتبتها قبل اثنتين وعشرين سنة، وانا نزيل ناحية ((بارلا)) التابعة لولاية اسبارطة، هي رسالة خاصة لأخلص اخوتي واخصـّهم. وقد كتبتها في غاية السرية ومنتهى الكتمان. ولكن لـما كانت ذات علاقة بأهالي ((اسبارطة)) والـمسؤولين فيها، فاني اقدّمها الى واليـّها العادل والى مسؤولي دوائر العدل والامن والانضباط فيها. واذا ما ارتؤي انها تستحق الطبع، فلتُطبع منها نسخ معدودة بالـحروف القديـمة او الـحديثة بآلة الطابعة كي يعرف اولئك الـمترصدون الباحثون عن اسراري منذ اكثر من خـمس وعشرين سنة، أنه لا سرّ لنا في الـخفاء، وان اخفى اسرارنا هو هذه الرسالة.

سعيد النورسي

الاشارات الثلاث

كانت هذه الرسالة الـمسألة الثالثة من الـمذكرة السابعة عشرة للمعة السابعة عشرة، الاّ ان قوة اسئلتها وشمولها وسطوع اجوبتها وسدادها جعلتها اللمعة الثانية والعشرين من المكتوب الـحادي والثلاثين، فدخلت ضمن ((اللمعات)) وامتزجت بها. وعلى ((اللمعات)) ان تفسح لها موضعاً بينها، فهي رسالة سرية خاصة لأخص اخواننا واخلصهم واصدقهم.

بِسم الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} وَمَن يَتوكـّل على الله فهو حَسْبُه إن الله بالغُ أمْره قَدْ جَعَل اللهُ لكلّ شيء قدْراً{

(الطلاق:3)

هذه الـمسألة ثلاث اشارات

الاشارة الاولى:

سؤال مهم يـخصـّني بالذات ويـخص رسائل النور. يقول كثيرون:

لِم يتدخل اهل الدنيا بامور آخرتك كلما وجدوا لـهم فرصة، مع أنك لاتتدخل في شؤون دنياهم؟ علماً انه لا يـمسّ قانون اية حكومة كانت شؤون تاركي الدنيا الـمعتزلين الناس!

الـجواب: ان جواب ((سعيد الـجديد)) عن هذا السؤال هو: السكوت؛ اذ يقول: ليُجب عني القدر الإلـهي. ومع هذا يقول بعقل ((سعيد القديـم)) الذي اضطر الى استعارته: ان الذي يـجيب عن هذا السؤال هو حكومة مـحافظة اسبارطة واهالي هذه الـمحافظة؛ لان هؤلاء – الـمسؤولين والناس كافة – اكثر علاقة مني بالـمعنى الذي ينطوي عليه السؤال.

وما دامت حكومة افرادها يربون على الالوف، واهلون يزيدون على مئات الالوف مضطرين الى التفكير والدفاع عوضاً عني، فلِمَ اذاً احاور – دون جدوى – المدّعين دفاعاً عن نفسي؟.

فها أنذا منذ تسع سنوات في هذه الـمحافظة، وكلما مرّ الزمان ادرت ظهري الى دنياهم. ولم تبق لي حال من احوالي مخفية عنهم مستورة عليهم، بل حتى اخص رسائلي واكثرها سرية يتداولها الـمسؤولون في الدولة وهي في متناول عدد من النواب. فلو كان لي شيء من تدخلٍ او مـحاولة ما لتعكير صفو دنياهم والاخلال بها، او حتى التفكير في هذا الامر، لـما آثر الـمسؤولون في هذه الـمحافظة والاقضية السكوت تـجاهي وعدم الاعتراض عليّ على الرغم من مراقبتهم اياي وترصدهم لي وتـجسسهم عليّ طوال تسع سنوات، وعلى الرغم من انني ابوح دون تردد بأسراري الى من يزورني.

فان كان لي عمل مـخل بسعادة الامة وسلامة الوطن ويلـحق الضرر بـمستقبلها، فالـمسؤول عنه جـميع افراد الـحكومة طوال تسع سنوات ابتداءً من الـمحافظ الى اصغر موظف في مـخفر القرية.

فعلى هؤلاء جـميعاً يقع الدفاع عني، وعليهم ان يستصغروا ما استهوله واستعظمه الآخرون، وذلك لينجوا من تبعات الـمسؤولية. ولاجل هذا احيل جواب هذا السؤال اليهم.

أما ما يدفع مواطني هذه الـمحافظة عامة للدفاع عني اكثر من نفسي فهو:

ان هذه تسع سنوات، ومئات الرسائل التي نسعى لنشرها، قد اثبتت تأثيرها في هذا الشعب الاخ الصديق الـمبارك الطيب، واظهرت مفعولـها الفعلي والـمادي في حياته الابدية وفي دعم قوة أيـمانه وسعادة حياته، ومن غير ان تـمسّ احد بسوء او تولد أي اضطراب او قلق كان، اذ لـم يشاهد منها ما يؤمىء الى غرض سياسي ونفع دنيوي مهما كان، حتى ان هذه الـمحافظة، اسبارطة، قد اكتسبت ولله الـحمد بوساطة رسائل النور مقام البركة من حيث قوة الإيـمان والصلابة في الدين، من نوع البركة التي نالتها الشام الطيبة في السابق ومن نوع بركة الـجامع الازهر الذي هو مدرسة العالـم الإسلامي عامة.

فهذه الـمحافظة لـها فضل ومزيـّة على الـمحافظات الاخرى، حيث قد كسبت من رسائل النور التـمسك باذيال الدين، فتهيمن فيها قوة الإيـمان ازاء الاهمال، وتسيطر فيها الرغبة في العبادة تـجاه السفه والغي؛ ولاجل هذا كله فالناس كلهم في هذه الـمحافظة، حتى لوكان فيهم ملحد (فرضاً) مضطرون الى الدفاع عني وعن رسائل النور.

وهكذا لا يسوقني حقي الـجزئي الذي لا اهمية له ضمن حقوق دفاع ذات أهمية الى هذا الـحد، ان ادافع عن نفسي ولا سيما انني قد انهيت خدماتي ولله الـحمد ويسعى لـها الوف من الطلاب عوضاً عن هذا العاجز. فمن كان له وكلاء دعوى ومـحامون يربون على الالوف، لا يدافع عن دعواه بنفسه.

الاشارة الثانية:

جواب عن سؤال يتسم بالنقد.

يقال من جانب اهل الدنيا:

لِمَ استأت منـّا وسكتّ فلا تراجعنا ولو لـمرة واحدة. ثـم تشكو منا شكاية شديدة قائلاً: ((انتم تظلمونني)). فنـحن اصحاب مبدأ، لنا دساتيرنا الـخاصة نسير في ضوئها على وفق ما يتطلبه هذا العصر بينما انت لا تنفذ هذه الدساتير على نفسك وترفضها علماً أن من ينفذ القانون لا يكون ظالـماً، بينما الرافض له يكون عاصياً. ففي عصرنا هذا، عصر الـحرية – مثلاً – وفي عهد الـجمهوريات التي بدأنا به حديثاً يـجري دستور رفع الاكراه والتسلط على الاخرين. اذ الـمساواة قانون اساس لدينا، بينما انت تكسب اقبال الناس نـحوك وتلفت انظارهم اليك تارة بزيّ العلم واخرى بالتزهد، فتحاول تكوين قوةٍ وكسب مقامٍ خارج نطاق نفوذ الدولة.

هكذا يُفهم من ظاهر حالك وهكذا يدلنا مـجرى حياتك السابقة، فهذه الـحالة ربـما تُستصوب في نطاق تـحكـّم البرجوازيين – بالتعبير الـحديث – الاّ ان صحوة طبقة العوام وتغلبها جعلت جميع دساتير الاشتراكية والبلشفية تسيطر وتهيمن، وهي التي تلائم امورنا اكثر من غيرها. فنـحن في الوقت الذي رضينا بدساتير الاشتراكية نشمئز من اوضاعك، اذ هي تـخالف مبادئنا. لذا لا حق لك في الاستياء منا ولا الشكوى من مضايقاتنا لك.

الـجواب: ان من يشق طريقاً في الـحياة الاجتماعية ويؤسس حركة، لايستثمر مساعيه ولن يكون الـنجاح حليفه في امور الـخير والرقي ما لـم تكن الـحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تـحكم الكون، بل تكون جـميع اعماله في سبيل التـخريب والشر.

فـما دام الانسجام مع قانون الفطرة ضرورياً، فان تنفيذ قانون الـمساواة الـمطلقة لا يـمكن الاّ بتغيير فطرة البشر ورفع الـحكمة الاساسية في خلق النوع البشري.

نعم! انني من حيث النسب ونـمط معيشة الـحياة من طبقة العوام، ومن الراضين بالـمساواة في الـحقوق فكراً ومشرباً، ومن العاملين على رفض سيطرة طبقة الـخواص. الـمسلمين بالبرجوازيين واستبدادهم منذ السابق وذلك بـمقتضى الرحـمة وبـموجب العدالة الناشئة من الاسلام.

لذا فانا بكل ما اوتيت من قوة بـجانب مع العدالة التامة، وضد الظلم والسيطرة والتحكم والاستبداد.

بيد ان فطرة النوع البشري وحكمة خلقه تـخالفان قانون الـمساواة الـمطلقة، اذ الفاطر الـحكيم سبحانه كما يستحصل من شيء قليل مـحاصيل كثيرة، ويكتب في صحيفة واحدة كتباً كثيرة، ويُجرى بشيء واحد وظائف جـمة، كذلك يُنجز بنوع البشر وظائف الوف الانواع، وذلك اظهاراً لقدرته الكاملة وخكمته التامة.

فلاجل تلك الـحكمة العظيمة، خلق سبحانه الانسان على فطرة جامعة، لها من القدرة ما يثمر الوف سنابل الانواع، وما يعطى طبقات كثيرة بعدد انواع سائر الـحيوانات؛ اذ لـم يحدِّد سبحانه قوى الانسان ولطائفه ومشاعره كما هو الـحال في الـحيوانات، بل اطلقها واهباً له استعداداً يتمكن به من السياحة والـجولان ضمن مقامات لاتـحد، فهو في حكم الوف الانواع، وان كان نوعاً واحداً.

ومن هنا اصبح الانسان في حكم خليفة الارض.. ونتيجة الكون.. وسلطان الاحياء.. وهكذا فان اجلّ خـميرة لتنوع النوع البشري واهم نابض مـحرك له هو التسابق لإحراز الفضيلة الـمتسمة بالإيـمان الـحقيقي . فلا يـمكن رفع الفضيلة الاّ بتبديل الـماهية البشرية واخماد العقل وقتل القلب وافناء الروح.

((لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الـحرية

ارفع الادراك ان كنت مقتدراً من الانسانية!))

هذا الكلام الرصين اُثير خطأً في وجه رجل ذي شأن ما كان يليق به مثل هذه الصفعة، بل جدير بهذا الكلام أن يصفع به الوجه الغدار لهذا العصر الـحامل لاستبداد رهيب يتستر بهذه الـحرية.

فانا اقول بدلاً من هذا الكلام:

لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الـحقيقة

إرفع القلب ان كنت مقتدراً من الانسانية!

او اقول:

لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الفضيلة

إرفع الوجدان ان كنت مقتدراً من الانسانية!

نعم! ان الفضيلة الـمتسمة بالإيـمان، كما لا تكون وسيلة للاكراه، لا تكون سبباً للاستبداد قطعاً. اذ الاكراه والقسر والتسلط على الآخرين، رذيلة ليس الاّ، بل ان اهم مشرب لدى اهل الفضيلة هو الاندماج في الـمجتمع بالعجز والفقر والتواضع. ولقد مضت حياتنا ولله الـحمد وما زالت كذلك تـمضي على وفق هذا الـمشرب. فانا لا أدعي متفاخراً انني صاحب فضيلة، ولكن اقول تـحدثاً بنعمة الله عليّ وبنية الشكر له سبحانه: قد احسن اليّ جلّ وعلا بفضله وكرمه فوفقني الى العمل للعلوم الإيـمانية والقرآنية وادراكها وفهمها. فتصرفت طوال حياتي – لله الـحمد – هذا الاحسان الإلـهي بتوفيق منه تعالى، في مصالح هذه الامة الـمسلمة وبذلته في سبيل سعادتها، ولـم يك في أي وقت كان وسيلة للاكراه والتسلط على الآخرين. كما انني – بناء على سرّ مهم – أنفر من اقبال الناس وجلب استحسانهم الـمرغوبتين لدى اهل الغفلة؛ اذ قد ضيـّعا عليّ عشرين سنة من عمري السابق، فلهذا اعدّهما مضَّرين لي. الاّ انني اراهمـا أمارة على اقبال الناس على رسائل النور فلا أُسخطهم.

فيا اهل الدنيا!

في الوقت الذي لا اتدخل في دنياكم قط؛ ولا علاقة لي بأية جهة كانت بـمبادئكم. ولست عازماً على التدخل مـجدداً بالدنيا، بل ولا لي رغبة فيها اصلاً كما تشهد بذلك حياتي، هذه التي قضيتها اسير الـمنفى طوال تسع سنوات. فلماذا تنظرون اليّ وكأنني متجبـّر سابق، يضمر التسلط على الآخرين ويتحين الفرص لذلك. بأي قانون يُجرى وعلى اية مصلحة يُبنى هذا الـمدى من الترصد والـمراقبة والعنت؟

فلا توجد في العالم كله، حكومة تعمل فوق القانون، وتسمح بهذه الـمعاملة القاسية التي اعامل بها والتي لا يرضى بها فرد مهما كان.

فهذه الـمعاملات السيئة التي تعاملونني بها لا تولد سخطي وحده، بل سخط نوع الانسان – إن ادرك – بل سخط الكائنات.





الاشارة الثالثة:

سؤال يرد على وجه البلاهة والـجنون وينطوي على مغالطة.

يقول قسم من افراد الدولة واهل الـحكم:

مادمت قائماً في هذه البلاد، فعليك الانقياد لقوانين الـجمهورية الصادرة فيها، فلماذا تنجي نفسك من تلك القوانين تـحت ستار العزلة عن الناس.؟

فمثلاً: ان من يـجري نفوذه على الآخرين خارج وظيفة الدولة متقلداً فضيلة ومزية لنفسه ينافي قانون الـحكومة الـحاضرة ودستور الـجمهورية الـمبني على اساس الـمساواة. فلماذا تتقلد صفة من يريد جلب الاعجاب بنفسه وكأن على الناس الانقياد له وطاعته. وتـجعلهم يقبـّلون يدك مع أنك لا وظيفة لك في الدولة؟

الـجواب: ان على منفـّذي القانون تنفيذه على انفسهم اولاً ثـم يـمكنهم اجراؤه على الاخرين. فاجراء دستور على الآخرين دون انفسكم يعني مناقضتكم لدستوركم وقانونكم قبل كل احد لانكم تطلبون اجراء قانون الـمساواة الـمطلقة هذا عليّ بينما لم تطبقوه انتم على انفسكم.

وانا أقول: متى ما صعد جندي اعتيادي الى مقام الـمشير الاجتماعي، وشارك الـمشير فيما يوليه الناس من احترام واجلال، ونال مثله ذلك الاقبال والاحترام.. او متى ما صار الـمشير جندياً اعتيادياً وتقلد احواله الـخامدة، وفقد اهميته كلها خارج وظيفته.. وايضاً متى ما تساوى رئيس ذكي لاركان الـجيش قادهم الى النصر مع جندي بليد في اقبال الناس عامة والاحترام والـمحبة له، فلكم ان تقولوا حينذاك، حسب قانونكم، قانون الـمساواة: لا تسم نفسك عالـماً. ارفض احترام الناس لك، انكر فضيلتك، إخدم خادمك ، رافق الـمتسولين.

فان قلتم: ان هذا الاحترام والـمقام والاقبال الذي يوليه الناس، انـما هو خاص بالـموظفين واثناء مزاولتهم مهنتهم، بينما انت انسان لا وظيفة لك، فليس لك ان تقبل احترام الامة كالـموظفين.

فالـجواب: لو اصبح الانسان مـجرد جسد فقط.. وظل في الدنيا خالداً مـخلداً.. واُغلق باب القبر.. وقُتل الـموت.. فانـحصرت الوظائف في العسكرية والـموظفين الاداريين.. فكلامكم اذاً يعني شيئاً. ولكن لـما كان الانسان ليس مـجرد جسد، ولا يُجرد من القلب واللسان والعقل ليعطى غذاءً للجسد، فلا يـمكن افناء تلك الـجوارح. فكل منها يطلب التغذية والعناية. ولـما كان باب القبر لا يغلق، بل ان اجلّ مسألة لدى كل فرد هو قلقه على ما وراء القبر. لذا لا تنحصر الوظائف التي تستند الى احترام الناس وطاعتهم في وظائف اجتماعية وسياسية وعسكرية تـخص حياة الامة الدنيوية. اذ كما ان تزويد الـمسافرين بتذاكر سفر وجواز مرور وظيفة، فان منح وثيقة سفر للـمسافرين الى ديار الابد ومناولتهم نوراً لتبديد ظلمات الطريق وظيفة جليلة، بـحيث لا ترقى اية وظيفة اخرى الى اهميتها. فانكار وظيفة جليلة كهذه لا يـمكن الاّ بانكار الـموت، وبتكذيب شهادة ثلاثين الف جنازة يومياً تُصدق دعوى: أن الـموت حق.

فـما دامت هناك وظائف معنوية تستند الى حاجات ضرورية معنوية، وان اهم تلك الوظائف هي الإيـمان وتقويته والارشاد اليه، اذ هو جواز سفر في طريق الابدية ومصباح القلب في ظلمات البرزخ ومفتاح دار السعادة الابدية. فلاشك ان الذي يؤدي تلك الوظيفة، وظيفة الإيـمان، من اهل الـمعرفة لا يبخس قيمة النعمة التي انعم الله عليه كفراناً بها، ولا يهوّن من فضيلة الإيـمان التي منحها الله اياه، ولا يتردى الى درك السفهاء والفسقة، ولا يلوث نفسه بسفاهة السافلين وبدعهم. فالانزواء واعتزال الناس الذي لا يروق لكم وحسبتموه مـخالفاً للـمساواة انـما هو لاجل هذا.

ومع هذه الـحقيقة، فلا اخاطب – بكلامي هذا – اولئك الذين يذيقونني العنت بتعذيبهم اياي، من امثالكم الـمتكبرين الـمغترين بنفوسهم كثيراً حتى بلغوا الفرعونية في نقض هذا القانون، قانون الـمساواة. اذ ينبغي عدم التواضع امام الـمتكبرين لـما يُظن تذللاً لـهم.. وانـما اخاطب الـمنصفين الـمتواضعين العادلين من اهل الـحكم فاقول:

انني ولله الـحمد على معرفة بقصوري وعجزي، فلا ادّعى مستعلياً على احد من الناس مقاماً للاحترام فضلاً عن ان ادّعيه على الـمسلمين! بل ابصر بفضل الله تقصيراتي التي لاتـحد، واعلم يقيناً اني لست على شيء يُذكر، فأجد السلوان والعزاء في الاستغفار ورجاء الدعاء من الناس، لا التماس الاحترام منهم. واعتقد ان سلوكي هذا معروف لدى اصدقائي كلهم. الا ان هناك امراً وهو انني، اتقلد مؤقتاً وضعاً عزيزاً يتطلبه مقام عزة العلم ووقاره، وذلك اثناء القيام بـخدمة القرآن ودرس حقائق الإيـمان، اتقلده موقتاً في سبيل تلك الـحقائق وشرف القرآن ولأجل الاّ أحني رأسي لأهل الضلالة. اعتقد أنه ليس في طوق قوانين أهل الدنيا معارضة هذه النقاط.

معاملة تـجلب الـحيرة:

ان اهل العلم والـمعرفة في كل مكان – كما هو معلوم – يزنون الامور بـميزان العلم والـمعرفة. فاينما وجدوا معرفة وفي أي شخص تلمسوا علماً يولون له الاحترام ويعقدون معه الصداقة باعتبار مسلك العلم. بل حتى لو قدم عالم – بروفسور – لدولة عدوة لنا، الى هذه البلاد، لزاره اهل الـمعرفة واصحاب العلوم، وقدروه واحترموه لعلمه ومعرفته.

والـحال أنه عندما طلب اعلى مـجلس علمي كَنَسي انكليزي من الـمشيخة الإسلامية الاجابة عن ستة اسئلة عهدت الى الـمشيخة، بستمائة كلمة، قام احد اهل العلم – الذي تلقى عدم الاحترام من اهل هذه البلاد – بالاجابة عن تلك الاسئلة بست كلمات حتى نالت اجابته التقدير والاعجاب.

وهو الذي قاوم بالعلم الـحقيقي والـمعرفة الصائبة اهم دساتير الاجانب واسس حكمائهم وتغلب عليهم.

وهو الذي تـحدى فلاسفة اوروبا استناداً الى ما استلهمه من القرآن الكريـم من قوة الـمعرفة والعلم.

وهو الذي دعا العلماء واهل الـمدارس الـحديثة في استانبول – قبل اعلان الـحرية بستة شهور – الى الـمناظرة والـمناقشة، والاجابة عن اسئلتهم دون ان يسأل احداً شيئاً. فاجاب عن جـميع استفساراتهم اجابة شافية صائبة(1).

وهو الذي وقف حياته لإسعاد هذه الامة. فنشر مئات الرسائل بلغتها، اللغة التركية، ونورّهم بها.

هذا الذي قام بهذه الاعمال، وهو ابن هذا الوطن، والصديق لأهله، والاخ في الدين، قابله قسم من الـمنسوبين الى العلم والـمعرفة مع عدد من علماء الدين الرسـميين بالاضطهاد واضمار العداء نـحوه، بل اهين.

فتعال، وتأمل هذه الـحالة! ماذا تسميها؟

أهي مدنية وحضارة؟ أم هي مـحبة للعلم والـمعرفة؟ أم هي وطنية؟ أم هي قومية؟ أم هي دعوة الى التمسك باهداف الـجمهورية؟..

حاش لله وكلا لاشيء من هذا قط!

بل هي قدر إلـهي عادل أظهر من اهل العلم العداء لذلك الشخص فيما كان يتوقع الصداقة منهم لكيلا يدخل في علمه الرياء بسبب توقع الاحترام، وليفوز بالاخلاص.



الـخاتـمة

اعتداء محيـّر لي يوجب الشكران!

ان اهل الدنيا الـمتكبرين الـمغرورين غروراً فوق الـمعتاد، لهم حساسية شديدة في معرفة الانانية والغرور، بـحيث لو كانت تلك الـمعاملة بشعور منهم لكانت تعدّ كرامة او دهاء عظيماً. وهي كالآتي:

ان ما لا تشعر به نفسي وعقلي من حالة غرور جزئية متلبسة بالرياء، كأنهم يشعرون بها بـميزان غرورهم وتكبرهم الـحساس فيجابهون غروري الذي لا اشعر به.

ففي غضون هذه السنين التسع تقريباً لي ما يقارب التسع من الـتجارب، حتى انني عقب معاملتهم الـجائرة نـحوي، كنت افكر في القدر الإلـهي واقول: لـماذا سلـّط القدر الإلـهي هؤلاء عليّ؟ فاتـحرى بهذا السؤال عن دسائس نفسي.

ففي كل مرة، كنت افهم، إما انها مالت فطرياً الى الغرور والتكبر من غير شعور مني. او انها غرّتني على علم.

فكنت اقول حينذاك: ان القدر الإلـهي قد عدل في حقي من خلال ظلم اولئك الظالـمين. فمنها:

في هذا الصيف، اركبني اصدقائي حصاناً جميلاً، فذهبت به الى متنزه، وما ان تنبهت رغبة في نفسي نـحو اذواق دنيوية مشوبة بالغرور من غير شعور مني حتى تعـّرض اهل الدنيا لتلك الرغبة بشدة بـحيث قطعوا دابرها بل دابر كثير من رغبات اخرى في النفس.

وفي هذه الـمرة، بعد شهر رمضان الـمبارك وفي جو من اخلاص الاخوة الكرام وتقواهم واحترام الزائرين وحسن ظنهم، عقب الالتفات الذي اولاه إمام عظيم سامٍ من السابقين نـحونا بكرامة غيبية، رغبت نفسي في ان تتقلد – دون شعور مني – حالة غرور مـمزوج بالرياء، فأبدت رغبَتها مفتخرة تـحت ستار الشكر، وفي هذه الاثناء تعّرض ليَ فجأة اهل الدنيا بـحساسية شديدة، حتى كأنها تتحسس ذرات الرياء.

فالى الـمولى القدير ابتهل شاكراً لأنعمه، إذ اصبح ظلم هؤلاء وسيلة للاخلاص.

} وقُل ربِ أعوذُ بكَ من هَمزاتِ الشياطين ` وأعوذُ بك ربِ أن يحضُرون { (المؤمنون:97-98).

اللهم يا حافظ يا حفيظ يا خير الـحافظين، احفظني واحفظ رفقائي من شر النفس والشيطان ومن شر الـجن والانسان ومن شر اهل الضلالة واهل الطغيان. آمين.. آمين.. آمين.







} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #19
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الثالثة والعشرون

((رسالة الطبيعة))

كانت هذه الرسالة هي الـمذكـّرة السادسة عشرة من اللمعة السابعة عشرة الاّ أن اهميتها الفائقة جعلتها ((اللمعة الثالثة والعشرين)) فهي تُبيد تيار الكفر النابع من مفهوم ((الطبيعة)) إبادة تامة وتُفتـّت حجر زاوية الكفر وتـحطـّم ركيزته الاساس.

تنبيـه

لقد بيـَّنت هذه الـمذكرة ماهية الـمذهب الذي يسلكه الـجاحدون من الطبيعيين، واوضحت مدى بُعد مسلكهم عن موازين العقل، ومدى سماجته وخرافيته، وذلك من خلال تسعة محالات مستخلصة من تسعين محالاً في الاقل، ولـما كان قسم من تلك الـمحالات قد وضـّح في رسائل اخرى فقد جاء هنا مدرجاً ضمن محالات اخرى، او جاء مـختصراً بعضَ الشيء.

والسؤال الذي يرد للخاطر هو:

كيف ارتضى فلاسفة مشهورون وعلماء معروفون بهذه الـخرافة الفاضحة وسلـّموا لـها زمام عقولهم؟!

والـجواب: ان اولئك لـم يتبينوا حقيقة مسلكهم(1)، ولا باطن مذهبهم، ولـم يدركوا مايقتضيه مسلكهم من ((مـحالات)) وما يستلزمه مذهبهم من امور فاسدة ومـمتنعة عقلاً، والتي ذكرت في بداية كل مـحال يرد في هذه الرسالة.

وانا على استعداد كامل لإقامة البراهين الدامغة ونصب الـحجج البديهية الواضحة لإثبات ذلك لكل مَن يساوره الشك، وابينها لـهم باسهاب وتفصيل.

بِسمِ الله الـرَّحـمنِ الـرَّحـيمِ

} قَالتْ رُسُلـُهم أفيِ اللهِ شكٌ فاطِرِ السَمواتِ والارض{ (ابراهيم:10)

هذه الآية الكريـمة بـما فيها من استفهام إنكارى تدل دلالة قاطعة على وجود الله ووحدانيته بوضوح وجلاء بدرجة البداهة.

وقبل ان نوضح هذا السرّ نودّ ان ننبه الى ما يأتي:

دعيتُ لزيارة ((انقرة)) سنة 1338 (1922م) وشاهدت فرح الـمؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان امام الـجيش الإسلامي، الاّ أنني ابصرتُ – خلال الفرح هذه – زندقة رهيبة تدب بـخبث ومكر، وتتسلل بـمفاهيمها الفاسدة الى عقائد اهل الإيـمان الراسخة بغية افسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من اعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسور هذه الآية الكريـمة، من هذا الغول الرهيب الذي يريد ان يتعرض لأركان الإيـمان، فكتبت برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وافكارها من نور هذه الآية الكريـمة لاثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة ((يني كون)) في انقرة.. الاّ انني لـم ألـمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها الى أذهان الناس. وسبب ذذلك كونه مـختصراً ومـجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة الـمهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت اوهام ذلك الالـحاد واستشرت في صفوف الناس مع الاسف الشديد، مـما اضطرني الى اعادة كتابة تلك الرسالة ببراهينها بالتركية، مع شيء من البيان والتوضيح فكانت هذه الرسالة.

ولـما كان بعض اقسام تلك البراهين قد وضحت توضيحاً كافياً في بعض ((رسائل النور)) فسنذكرها هنا مـجملة، كما ان البعض من البراهين الاخرى الـمبثوثة في ثنايا رسائل اخرى تبدو مندرجة في هذه الرسالة، وكأن كل برهان منها جزء من هذه الرسالة.







الـمقدمة

أيها الانسان!

اعلم ان هناك كلمات رهيبة تفوح منها رائحة الكفر النتنة، تـخرج من افواه الناس، وترددها ألسنة اهل الإيـمان دون علمهم بـخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الـخطورة:

اولاها: قولـهم عن الشيء: ((أوجدته الاسباب)) أي أن الاسباب هي التي توجد الشيء الـمعين.

ثانيها: قولـهم عن الشيء: ((تشكـّل بنفسه)) أي أن الشيء يتشكل من تلقاء نفسه، ويوجِد نفسَهُ بنفسه، وينتهي الى صورته التي انتهى اليها كما هي:

ثالثتها: قولـهم عن الشيء: ((اقتضته الطبيعة)) أي أن الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي اوجدته واقتضته.

نعم! مادامت الـموجودات موجودة وقائمة امامنا بـما لا يـمكن إنكارها مطلقاً، وان كل موجود يأتي الى الوجود في غاية الاتقان والـحكمة، وهو ليس بقديـم أزلي، بل هو مـحدث جديد.

فيا ايها الـملحد! إما انك تقول ان هذا الـموجود – وليكن هذا الـحيوان مثلاً – توجده أسبابُ العالـم، أي أنه يكتسب الوجود نتيجة اجتماع الاسباب الـمادية، او أنه تشكل بنفسه، او أنه يرد الى الوجود بـمقتضى الطبيعة ويظهر بتأثيرها! او عليك ان تقول: ان قدرة الـخالق القدير ذي الـجلال هي التي توجده.

لأنه لاسبيل الى حدوثه غير هذه الطرق الاربعة، حسب موازين العقل، فاذا ما أثبت – اثباتاً قاطعاً – ان الطرق الثلاثة الاولى مـحالة، باطلة مـمتنعة، غير مـمكنة، فبالضرورة والبداهة يثبت الطريق الرابع، وهو طريق وحدانية الـخالق بيقين جازم لاريب فيه.

n اما الطريق الاول:

وهو القول بأن: ((اجتماع اسباب العالـم يـخلق الـموجودات ويوجدها، ويؤدي الى تشكيل الاشياء)) نذكر منه ثلاثة مـحالات فقط، من بين مـحالاته الكثيرة جداً.

T الـمحال الاول:

ولنوضحة بهذا الـمثال: تـحوي الصيدلية مئات الدوارق والقناني الـمملوءة بـموادَّ كيمياوية متنوعة، وقد احتجنا – لسبب ما – الى معجون حيوي من تلك الادوية والـمواد لتركيب مادة حيوية خارقة مضادة للسموم.. فلما دخلنا الصيدلية وجدنا فيها اعداداً هائلة من انواع ذلك الـمعجون الـحيوي، ومن تلك الـمادة الـحيوية الـمضادة للسموم وعندما بدأنا بتحليل كل معجون رأيناه مركباً مستحضراً بدقة متناهية من موادَّ مـختلفة طبق موازين مـحسوبة، فقد اخذ من تلك القناني: درهم (غرام واحد) من هذه.. وثلاثة غرامات من تلك.. وعشرة غرامات من الاخرى.. وهكذا فقد أخذَ من كل منها مقادير مـختلفة، بـحيث لو كان ما أخذَ من هذه الـمقادير اقل منها بـجزء من الغرام، او ازيد، لفقد الـمعجون خواصه الـحيوية…

والآن جئنا الى ((الـمادة الـحيوية الـمضادة للسموم)) ودققنا فيها نظراً كيمياوياً، فرأيناها قد ركبت بـمقادير معينة اُخذت من تلك القناني على وفـْق موازين حساسة بـحيث أنها تفقد خاصيتها لو غلطنا في الـحساب فزادت الـمواد الـمركبة منها او نقصت بـمقدار ذرة واحدة. نـخلص من هذا:

ان الـمواد الـمتنوعة قد استحضرت بـمقادير مـختلفة على وفق موازين دقيقة. فهل يـمكن او يُعقل ان يتكون ذلك الـمعجون الـمحسوب كل جزء من اجزائه حساباً دقيقاً من جرّاء مصادفة غريبة، او من نتيجة تصادم القناني بـحدوث زلزالٍ عاصف في الصيدلية يؤدي الى سيلان تلك الـمقادير بـموازينها الـمعينة، واتـحادها بعضها بالبعض الآخر مكوناً مـعجوناً حيوياً؟!. فهل هناك مـحال أغرب من هذا واكثر بعداً عن العقل والـمنطق؟! وهل هناك خرافة اخرف منها؟! وهل هناك باطل اوضح بطلاناً من هذا؟! والـحمار نفسه لو تضاعفت حـماقته ونطق لقال: يالـحماقة من يقول بهذا القول!.

وفي ضوء هذا الـمثال نقول:

ان كل كائن حي هو مركب حيوي، ومـعجون ذو حياة. وان كل نبات شبيه بترياق حيوي مضاد للسموم إذ ركـّب من اجزاء مـختلفة ومن مواد متباينة، على وفق موازين دقيقة في منتهى الـحساسية.. فلا ريب ان اسناد خلق هذا الكائن البديع الى الاسباب الـمادية والعناصر، والقول بان ((الاسباب اوجدته)) باطل ومـحال وبعيد عن موازين العقل بـمثل بُعدِ وبطلان ومـحالية تكون الـمعجون الـحيوي بنفسه من سيلان تلك الـمواد من القناني.

وحصيلة الذي قلناه آنفاً:

ان الـمواد الـحيوية الـمستحضرة بـميزان القضاء والقدر للـحكيم العليم في هذا العالـم الكبير الذي هو صيدلية ضخمة رائعة لا يـمكن ان توجد الاّ بـحكمة لا حدّ لـها، وبعلم لانهاية له، وبارادة تشمل كل شيء وتـحيط بكل شيء، والاّ فما أشقاه من يتوهم ((ان هذه الـموجودات هي نتاج عناصر الكون الكلية)) وهي العمياء الصماء في جريانها وتدفقها، او هي ((من شؤون طبائع الـمواد)) او ((من عمل الاسباب الـمادية))!.

لاشك ان صاحب هذا الوهم هو اشقى اشقياء العالـم، واعظمهم حـماقة، واشدّ هذياناً من هذيان مـخمور فاقد للوعي عندما يـخطر بباله ان ذلك الترياق العجيب قد وجد نفسه بنفسه من جراء تصادم القناني وسيلان ما فيها!

نعم، ان ذلك الكفر هذيان احـمق وجنون سكران.

T الـمحال الثاني:

إن لـم يُسند خلق كل شيء الى الواحد الاحد القدير ذي الـجلال، وأسند الى الاسباب الـمادية، يلزم عندئذ ان يكون لاغلب عناصر العالـم واسبابه دخلٌ وتأثير في وجود كل ذي حياة.

والـحال ان اجتماع الاسباب الـمتضادّة والـمتباينة فيما بينها، بانتظام تام، وبـميزان دقيق وباتفاق كامل في جسم مـخلوق صغير – كالذباب مثلاً – هو مـحال ظاهر الى حد يرفضه مَن له عقل بـمقدار جناح ذبابة، ويُردّه قائلاً: هذا مـحال .. هذا باطل.. هذا غير مـمكن..!

ذلك لان جسم الذباب الصغير ذو علاقة مع اغلب عناصر الكائنات، ومع مظاهرها واسبابها الـمادية، بل هو خلاصة مستخلصة منها، فان لـم يُسند أيـجادُه الى القدرة الإلـهية الـمطلقة، يلزم ان تكون تلك الاسباب الـمادية حاضرة ومـحتشدة جَنبَ ذلك الـجسم مباشرة عند أيـجاده، بل يلزم ان تدخل في جسمه الضئيل، بل يـجب دخولها في حجيرة العين تـمثل نـموذج الـجسم، ذلك لان الاسباب ان كانت مادية يلزم ان تكون قرب الـمسبَّب ودخلة فيه، وعندئذٍ يقتضي قبول دخول جـميع العناصر في جـميع اركان العالـم مع طبائعها الـمتباينة في ذلك الـمسبّب دخولاً مادياً، وعملها في تلك الـحجيرة الـمتناهية في الصغر بـمهارة واتقان! أفلا يـخجل ويستحي من هذا القول حتى اشد السوفسطائيين بلاهةً؟

T الـمحال الثالث:

ان الـموجود إن كانت له وحدة واحدة، فلابدّ ان يكون صادراً من مؤثر واحد، ومن يد واحدة، حسب مضمون القاعدة البديهية الـمقررة: (الواحد لا يصدر الاّ عن الواحد). فإن كان ذلك الـموجود في غاية الانتظام والـميزان، وفي منتهى الدقة والاتقان، وكان مالكاً لـحياة جامعة، فمن البداهة انه لـم يصدر من أيد متعددة قط – التي هي مدعاة الاختلاف والـمنازعة – بل لابد أنه صادر من يد واحدة لواحد أحد قدير حكيم؛ لذا فان اسناد الـموجود، الـمنتظم، الـمتناسق، الـموزون، الواحد، الى ايدي الاسباب الطبيعية العمياء الصمـّاء الـجامدة غير الـمنضبطة، والتي لا شعور لـها ولا عقل، وهي في اختلاط شديد يزيد من عماها وصممها، ثم الادعاء بإن تلك الاسباب هي التي تقوم بـخلق ذلك الـموجود البديع واختياره من بين امكانات واحتمالات لاحدّ لـها، اقول ان قبول هذا الاسناد والادعاء هو – في الـحقيقة - قبول لـمائة مـحال ومـحال، اذ هو بعيد كل البعد عن جـميع مقاييس العقل وموازينه..

دعنا نترك هذا الـمحال ونتجاوزه مؤقتاً، لننظر الى تأثير ((الاسباب الـمادية)) الذي يتم بالتـماس والـمباشرة. فبينما نرى ان تـماس تلك الاسباب الطبيعية هو تـماس بظاهر الكائن الـحي فحسب، ونرى ان باطن ذلك الكائن الذي لا تصل اليه ايدي تلك الاسباب الـمادية ولا يـمكنها ان تـمسّه بشيء، هو ادق نظاماً، واكثر انسجاماً، من الظاهر بل ألطف منه خلقاً واكمل اتقاناً. بل الاحياء الصغيرة والـمخلوقات الدقيقة التي لا يـمكن ان تستوعب تلك الاسباب الـمادية قطعاً ولاتصل اليها ايديها ولا وسائلها هي اعجب إتقاناً من اضخم الـمخلوقات وابدع خلقاً منها.

فلا يكون إذن اسناد خلقها الى تلك الاسباب العمياء الصماء الـجامدة الـجاهلة الغليظة الـمتباعدة الـمتضادّة الاّ عمى ما بعدها عمى، وصمم ليس وراءه صمم.

n اما المسألة الثانية:

وهي قولهم عن الشيء: ((تشكـّل بنفسه)). فهي تنطوي على مـحالات كثيرة، ويتضح بطلانها ومـحاليتها من نواح كثيرة جداً الاّ اننا نتناول هنا ثلاثة مـحالات منها كنماذج ليس الاّ:

l الـمحال الاول:

ايها الـجامد العنيد! ان طغيان غرورك، جعلك تتردى في احضان حـماقة متناهية، فتقدم على قبول مائة مـحال ومـحال!

انك ايها الـجاحد العنيد موجود بلا شك، وانك لست من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغير، بل انت معمل عظيم متقن الصنع، اجهزته دائمة التـجدد، وانت كالقصر الـمنيف، انـحاؤه دائمة التحول.. فذرات وجودك انت تعمل دوماً وتسعى دون توقف، وترتبط بوشائج واواصر مع مظاهر الوجود في الكون من حولك، فهي في اخذ وعطاء مع الكائنات، وبـخاصة من حيث الرزق، ومن حيث بقاء النوع.

ان الذرات العاملة في جسدك تـحتاط من ان تـخل بتلك الروابط، وتتحاشى ان تنفصم تلك العلاقات، فهي حذرة في تصرفها هذا، وتتخذ موقفاً ملائماً لـها على وفق تلك العلاقات كأنها تنظر الى جـميع الكائنات وتشاهدها، ثـم تراقب موقعك انت منها، وانت بدورك تستفيد حسب ذلك الوضع الـخارق لتلك الذرات وتنتفع وتتمتع بـمشاعرك وحواسك الظاهرة والباطنة.

فان لـم تعتقد ان تلك الذرات موظفات صغيرات لدى القدير الازلي، ومأمورات مسخرات منقادات لقوانينه سبحانه، او هي جنود مـجندة في جيشه الـمنظم، او هي نهايات قلم القدر الإلـهي، او هي نقاط ينقطها قلم القدرة الإلـهية.. لزمك ان تقول ان لكل ذرة عاملة – في عينك مثلاً – عيناً واسعة بصيرة، ترى جـميع اجزاء جسدك ونواحيه، وتشاهد جـميع الكائنات التي ترتبط بها، وتعلم جـميع ماضيك ومستقبلك، وتعرف اصلك وآباءك واجدادك مع نسلك واحفادك وتدرك منابع عناصرك، وكنوز رزقك.. فهي اذن ذات عقل جبار!!

فيا معطل عقله في مثل هذه الـمسائل! أليس في اسناد هذا العلم والشعور والعقل الذي يسع ألفاً من مثل ((افلاطون)) الى ذرة في عقل مَن لا يـملكه مثلك، خرافة خرقاء، وبلاهة بلهاء؟!.

l الـمحال الثاني:

ان جسمك ايها الانسان يشبه قصراً فخماً عامراً، له من القباب الف قبة وقبة، وكل قبة من قبابه معلقة فيها الاحجار، ومرصوصة بعضها الى البعض الآخر في بناء مـحكم دون عمد. بل ان وجودك لو فكرت – هو اعجب من هذا القصر بالوف الـمرات، لان قصر جسمك انت في تـجدد مستمر يبلغ الكمال في الانتظام والروعة.

فلو صرفنا النظر عما تـحمله من روح ومن قلب ومن لطائف معنوية وهي معجزة بذاتها، واخذنا بنظر الاعتبار والتفكر عضواً واحداً فقط من أي عضو كان من بين اعضاء جسدك نراه شبيهاً بـمنزلٍ ذي قباب. فالذرات التي فيه قد تعاونت وتعانقت بعضها مع البعض الاخر، في انتظام تام، وموازنة كاملة – كالاحجار في تلك القباب – وكونت بناءً خارقاً، وصنعة رائعة بديعة، فاظهرت للعيان مـعجزة عجيبة من معجزات القدرة الإلـهية ((كالعين واللسان)) مثلاً.

فلو لـم تكن هذه الذرات مأمورة منقادة لامر الصانع القدير، فان كل ذرة منها اذن لابد ان تكون حاكمة حكماً مطلقاً على بقية ذرات الـجسد ومحكومة لـها حكماً مطلقاً كذلك، وان تكون مثل كلٍ منها، وضدّ كل منها – من حيث الـحاكمية – في الوقت نفسه! وان تكون مناط اغلب الصفات الـجليلة التي لا يتصف بها الاّ الله سبحانه وتعالى، وان تكون مقيدة كلياً، وطليقة كلياً في الوقت نفسه..!

فالـمصنوع الواحد الـمنتظم والـمنسق الذي لا يـمكن ان يكون – بسر الوحدانية – الاّ أثراً من آثار الواحد الاحد مـحال ان يسند الى تلك الذرات غير الـمحدودة بل هو مائة مـحال في مـحال..! يدرك ذلك كل من له مسكة من عقل!

l الـمحال الثالث:

ان لم يكن وجودك هذا قد كتب بقلم الواحد الاحد القدير الأزلي، وكان مطبوعاً بـمطابع الطبيعة والاسباب، فيلزم عندئذٍ وجود قوالب طبيعية بعدد الوف الالوف من الـمركبات الـمنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يـحصرها العد، ابتداءً من اصغر الـخلايا العاملة بدقة متناهية وانتهاءً بأوسع الاجهزة العاملة فيه.

ولفهم هذا الـمحال نأخذ الكتاب الذي بين ايدينا مثالاً، فنقول:

إن اعتقدت ان هذا الكتاب مستنسخ باليد، فيكفي اذن لاستنساخه قلم واحد، يـحركه علمُ كتابه ليدوّن به ما يشاء، ولكن إن لـم يُعتقد انه مستنسخ باليد ولـم يُسند الى قلـم الكاتب، واُفُترض انه قد تشكـّل بنفسه، او اسندت كتابته الى الطبيعة، فيلزم عندئذٍ ان يكون لكل حرف من حروفه قلـم معدني خاص به، ويكون عدد الاقلام بعدد تلك الـحروف – بـمثل وجود الـحروف الـمعدنية في الـمطبعة والتي هي بعدد الـحروف وانـماطها – أي يلزم وجود اقلام بعدد الـحروف بدلاً من قلم واحد للاستنساخ، وقد يكون هناك في تلك الـحروف، حروفٌ كبيرة مكتوب فيها بـخط دقيق ما في صحيفة كاملة، فيلزم اذن لكتابة مثل هذه الـحروف الكبيرة الوف الاقلام الدقيقة!

والان ماذا تقول لو كانت تلك الـحروف متداخلة بعضها بالبعض الآخر بانتظام كامل متخذةً هيأة جسدك وشكله؟! فيلزم عندئذٍ ان يكون لكل جزء من اجزاء كل دائرة من دوائر الـمذكورة قوالب عديدة بعدد تلك الـمركبات التي لا يـحصرها العدّ!

هَبْ انك تقول لـهذه الـحالة الـمتضمنة لـمائة مـحال في مـحال، انها مـمكنة الـحدوث! فحتى في هذه الـحالة – على فرض إمكانها – افلا يلزم لصنع تلك الاقلام وعمل تلك القوالب والـحروف الـمعدنية اقلاماً وقوالب وحروفاً بعددها لتصبّ وتسكب فيها إنْ لـم يُسند صنعها جـميعاً الى قلـم واحد؟ ذلك لان جـميعها مصنوعة ومـحدثة منتظمة، ومفتقرة الى صانع ليصنعها، ومـُحدثٍ ليحدثها، وهكذا الامر يتسلسل كلما اوغلت فيه. فافهم من هذا مدى سقم هذا الفكر الذي يتضمن مـحالات وخرافات بعدد ذرات جسمك!

فيا ايها الـجاحد… عُد الى عقلك وانبذ هذه الضلالة الـمشينة!

n الكلمة الثالثة:

والتي هي قولهم عن الشيء: ((اقتضته الطبيعة)). فهذا الـحكم له مـحالات كثيرة جداً، نذكر ثلاثة منها على سبيل الـمثال:

m الـمحال الاول:

ان الاتقان والايـجاد الـمتـَّسمَين بالبصيرة والـحكمة الظاهرين في الـموجودات ظهوراً جلياً، ولا سيما في الاحياء، إن لـم يُسند الى قلـم ((القدرة الإلـهي)) والى قدرته الـمطلقة، واسندا الى ((الطبيعة)) العمياء الصماء الجاهلة والى (القوة)) يلزم ان توجد الطبيعة – من اجل الـخلق – مطابع ومكائن معنوية لاحد لـها في كل شيء او تدرج في كل شيء قدرة قادرة على خلق الكون كله، وحكمة مدبرة لادارة شؤونه كلها.

مثال ذلك:

ان تـجليات الشمس وانعكاساتها الضوئية، وبريق لـمعانها الـمشاهد على قطرات الـماء الرقراقة الـمتلألئة، او على القطع الزجاجية الـمتناثرة هنا وهناك على سطح الارض، مـما يخيل للناظر السطحي النظر انها صورٌ لشميسات مثالية. فان لـم تنسب هذه الانعكاسات واللمعات الى الشمس الـحقيقية التي تطالعنا بشعاعها الغامر يلزم الاعتقاد بشمس طبيعية فطرية صغيرة ظاهرية تـملك صفات الشمس نفسها وتتصف بـخصائصها، موجودة وجوداً فعلياً في تلك القطعة الزجاجية الصغيرة – التي لا تسع لأدنى شيء – أي يلزم الاعتقاد بوجود شـموس بعدد ذرات القطع الزجاجية.

وفي ضوء هذا الـمثال نقول:

ان لـم يُسند خلق الـموجودات والاحياء اسناداً مباشراً الى تـجليات اسـماء الله الـحسنى الذي هو نور السموات والارض يلزم الاعتقاد اذن بوجود طبيعة وقوة تـملكان قدرة مطلقة وارادة مطلقة مع علم مطلق وحكمة مطلقة في كل موجود من الـموجودات، ولا سيما الاحياء، أي يلزم قبول ألوهية وربوبية في كل موجود!

فهذا النـمط من التفكير الـمعوج لـهو اشد بطلاناً من أي مـحال آخر، واكثر خرافة منه، فالذي يُسند ما ابدعه الـخالق العظيم من صنعة رائعة دقيقة، ظاهرة جلية حتى في اصغر مـخلوق الى يد الطبيعة الـموهومة، التافهة التي لا تـملك شعوراً لاشك انه يتردى بفكره الى درك أضل عن الـحيوان.



m الـمحال الثاني:

ان هذه الـموجودات التي هي في غاية الانتظام، وفي منتهى الروعة والـميزان، وفي تـمام الاتقان، وكـمال الـحكمة والاتـّزان؛ ان لـم تسند الى من هو قدير مطلق القدرة وحيكم مطلق الـحكمة، واسندت الى الطبيعة، يلزم الطبيعة ان تـحضر في كل حفنة تراب، معامل ومطابع بعدد معامل اوروبا ومطابعها، كي تتمكن تلك الـحفنة من ان تكون منشأ الازهار والاثـمار الـجميلة اللطيفة؛ لان تلك الـحفنة من التراب التي تقوم بـمهمة مشتل صغير للازهار تظهر قابلية فعلية لاستنبات وتصوير ما يلقى فيها بالتناوب من بذور جـميع ازهار العالـم وثـماره، وبأشكالـها وهيئاتها الـمتنوعة، والوانها الزاهية.

فإن لـم تسند هذه القابلية الى قدرة الفاطر الـجليل القادر على كل شيء.. فلابد اذن ان توجد في تلك الـحفنة ماكنة معنوية طبيعية خاصة لكل زهرة من ازهار العالـم والاّ لا يـمكن ان يظهر ما نشاهده من انواع الازهار والثـمار الى الوجود! اذ البذور – كالنطف والبيوض ايضاً – موادها متشابهة اختلط وعجن بعضها ببعض بلا شكل معين وهي مولد الـماء ومولد الـحموضة والكربون والآزوت. علماً ان كلاً من الـهواء والـماء والـحرارة والضوء اشياء بسيطة لا تـملك عقلاً او شعوراً، وهي تتدفق كالسيل في كل شيء دونـما ضابط. فتشكيل تلك الازهار التي لاتـحد من تلك الـحفنة من التراب بصورها الـمتنوعة البديعة واشكالـها الـمختلفة الزاهية وبهيئاتها الـمتباينة الرائعة وهي في منتهى الانتظام والاتقان تقتضي بالبداهة وبالضرورة ان توجد في تلك الـحفنة من التراب مصائع ومطابع معنوية بـمقايس صغيرة جداً اكثر مـما في اوروبا من مصانع ومطابع، كي تتمكن ان تنسج تلك الـمنسوجات الـحية التي لاتعد، وتطرز تلك النقوش الزاهية الـمتنوعة التي لاتـحصى!

فيا لبعد ما يـحمله الطبيعيون من فكر إلـحادي عن جادة العقل السليم! اعلم هذا، وقس مدى بُعد اولئك الذين يدّعون انهم عقلاء وعلميون عن موازين العقل والعلم بتوهمهم ان الطبيعة موجدةٌ للاشياء.. اولئك الذين اتخذوا خرافة مـمتنعة وغير مـمكنة اطلاقاً، مسلكاً لـهم، فاسخر منهم، واحتقرهم.

ولسائل ان يسأل:

صحيح ان مـحالات كثيرة، ومعضلات عظيمة تنجم عندما يُسند خلق الـموجودات الى الطبيعة، ولكن كيف تزول هذه الـمشكلات، وتنحل هذه الـمعضلات عندما نسند عملية الـخلق برمتها الى الواحد الاحد الفرد الصمد؟ وكيف ينقلب ذلك الامتناع الصعب الى الوجوب السهل؟

الـجواب: ان تـجليات الشمس وانعكاساتها – كما ذُكرَ في الـمحال الاول – أظهرت نفسها بكل سهولة، ومن دون تكلف او صعوبة في جـميع الـمواد ابتداءً من الـجامد الصغير الـمتناهي في الصغر – كقطع الزجاج – الى اوسع السطوح للبحار والـمحيطات، فأظهرت على الكل فيضها وأثرها في منتهى السهولة، وكأن كلاً منها شـميسات مثالية. فلو قُطعت نسبة تلك الانعكاسات الى الشمس الـحقيقية، فلابد من الاعتقاد بوجود شـمس طبيعية في كل ذرة من الذرات وجوداً ذاتياً خارجياً. وهذا ما لايقبله عقل، بل هو مـمتنع ومـحال.

فكما ان الامر في الـمثال هو هكذا، كذلك اسناد خلق كل موجود اسناداً مباشراً الى الواحد الاحد الفرد الصمد فيد من السهولة الـمتناهية بدرجة الوجوب، اذ يـمكن ايصال مايلزم ايّ موجود اليه، بكل سهولة ويسر، وذلك بالانتساب وبالتـجلي. بينما اذا ما قطع ذلك الانتساب، وانقلب الاستخدام والتوظيف والطاعة الى الانفلات من الاوامر والعصيان، وترك كل موجود طليقاً يسرح كيفما يشاء، او اسند الامر الى الطبيعة، فستظهر مئات الالوف من الـمشكلات والـمعضلات بدرجة الامتناع، حتى نرى ان خلق ذبابة صغيرة يقتضي ان تكون الطبيعة العمياء التي فيها مالكة لقدرة مطلقة تتمكن بها من خلق الكون كله، وان تكون – مع ذلك – ذات حكمة بالغة تتمكن بها من ادارته، حيث ان الذبابة – رغم صغرها – بديعة الصنع، تنطوي على أغلب مكونات الكائنات وكأنها فهرس مـختصر لـها..

وهذا ليس بـمحال واحد فـحسب بل الف مـحال ومـحال..!

الـخلاصة:

كما انه مـحالٌ ومـمتنعٌ وجود نظير او شريك لله سبحانه وتعالى في ألوهيته، كذلك مـمتنع ومـحال مثله ان يكون هناك مداخلة من غيره في ربوبيته، او مشاركة له من احد في أيـجاده الاشياء وخلقها..

أما الـمشكلات التي في ((الـمحال الثاني)) التي اثبتناها في عديد من الرسائل؛ فهي: انه اذا ما نُسِبَ خلق جـميع الاشياء الى الواحد الاحد، يسهل ذلك الـخلق كما يسهل خلق شيء واحد. بينما اذا ما نُسِبَ الـخلق الى الاسباب والى الطبيعة يصبح خلق الشيء الواحد وايـجاده مشكلاً وصعباً، كـخلق الـجميع. وحيث اننا سبق ان اثبتنا هذا ببراهين دامغة، نورد هنا ملـخص برهان واحد فقط:

اذا انتسب احدٌ الى السلطان بالـجندية او بالوظيفة الـحكومية، فانه يتمكن ان ينجز من الامور والاعمال اضعاف اضعاف ما يـمكنه انـجازه بقدرته الشخصية، وذلك بقوة ذلك الانتساب السلطاني. فمثلاً يستطيع ان يأسر قائداً كبيراً باسم سلطانه، مع انه جندي. حيث تـحمل خزائن السلطان وقطعات الـجيش الاجهزة والاعتدة لـما يقوم به من اعمال، فلا يـحملها هو وحده، كما انه ليس مضطراً الى حـملها. كل ذلك بفضل إنتسابه الى السلطان، لذا تظهر منه اعمالٌ خارقة كأنها اعمال سلطان عظيم، وتبدو له آثار – فوق ما تبدو منه عادةً – وكأنها آثار جيش كبير رغم انه فرد. فالنملة – من حيث تلك الوظيفة – تتمكن من تدمير قصر فرعون طاغٍ، والبعوضة تستطيع ان تهلك نـمروداً جبارا بقوة ذلك الانتساب.. والبذرة الصغيرة للصنوبر الشبيهة بـحبة الـحنطة تنشىء بذلك الانتساب جـميع اجهزة شـجرة الصنوبر الضخـمة(1). فلو انقطع ذلك الانتساب، واعفي الـموجود من تلك الوظيفة، فعلية ان يـحمل على كتفه قوة ما ينجزه من اعمال وينوء كاهله بلوازمها ومعداتها. وبذلك لا يـمكنه القيام بأعمال سوى اعمال تتناسب مع تلك القوة الضئيلة الـمحدودة الـمحمولة على ذراعه، بـما يناسب كمية الـمعدات واللوازم البسيطة التي يـحملها على ظهره، فلو طلب منه ان يقوم بأعمال كان يقوم بها بسهولة ويسر في الـحالة الاولى لأظهر عجزه، الاّ اذا استطاع ان يُحمّل ذراعه قوة جيش كامل، ويردف على ظهره معامل اعتدة الدولة الـحربية!!

إن صاحب هذا الـخيال السابح في فضاء الوهم والـخرافة يتوارى خجلاً مـما يقول.

نـخلص من كل ما تقدم الى ان تسليم أمر كل موجود وتنسيبه الى واجب الوجود سبحانه فيه السهولة التامة بدرجة الوجوب.

اما اسناد ايـجاده الى الطبيعة فهو معضل الى حد الامتناع وخارج عن دائرة العقل.

m الـمحال الثالث:

نوضح هذا الـمحال بـمثالين قد بيـّناهما في بعض الرسائل؛ هـما:

الـمثال الاول:

يدخل انسان بدائي ساذج التفكير، لـم يكن يـملك ايّ تصور حضاري مسبقٍ؛ يدخل هذا الشخص قصراً فخماً بديعاً، يزهو بزينته، ويـختال بأرقى ما وصلت اليه الـحضارة من وسائل الابـهـَّة والراحة، ويتلألأ بأضوائه في عتمة فلاةٍ خاليةٍ موحشة، فيدلف اليه، ويدور في ارجائه، فتشدُّهُ براعة بنائه، ونقوش جدرانه، وروعة إتقانه.. وبكل سذاجة تصوره وبلاهته يـمنح القصر حياةً، ويعطيه قدرة تشييد نفسه بغرفه وابهائه وصوره الـجميلة، ونقوشه الاخـّاذة، لا لشيء الاّ لكونه قاصراً عن تصور وجود احد – خارج هذا القصر – وفي هذه الفلاة يـمكنه ان ينسب اليه بناء هذا القصر، لذا فقد طفق يتحرى عن ((الباني)) داخل القصر لعله يعثر عليه بين اشياء القصر، فما من شيء وقع عليه بصره الاّ وتردد فيه وشكّ في كونه قادراً على ايـجاد مثل هذا القصر الذي يـملأ اقطار النفس والعقل بروعة صنعه، وجـمال بنائه. وتقوده قدماه الى زاوية من زوايا القصر ويعثر فيها فجأةً على دفتر ملاحظات كان قد دونت فيه خطة مفصلة لعملية بناء القصر، وخُطّ فيه ايضاً فهرس موجوداته وقوانين ادارة مـمتلكاته. ورغم ان ذلك الدفتر كمـحتوياته، ليس من شأنه تشييد القصر وتزيينه، اذ لا يـملك يداً يعمل بها، ولا بصيرةً يبصر بها، الاّ انه تعلق به اذ وجده متطابقاً بـمحتوياته، مع مـجاميع اشياء القصر، ومنسجماً مع سير العمل فيه – اذ هو عنوان قوانين الله العلمية – لذا قال مضطراً: ((إن هذا الدفتر هو الذي شيـّد هذا القصر ونظـّمه وزينه، وهو الذي اوجد الاشياء فيه ورتبها هذا الترتيب ونسقها هذا التنسيق))… فكشف بهذا الكلام عن مدى عمق جهله، وتأصل حماقته.

وعلى غرار هذا الـمثال تـماماً، يدلف الى قصر العالم العظيم – الذي هو ادق نظاماً واكمل إتقاناً، واجـمل صنعاً، وازهى جـمالاً، من ذلك القصر الصغير الـمحدود الـمذكور آنفاً في الـمثال، حيث لا يقبل الـمقايسة والـموازنه معه، فكل ناحية من نواحيه تشع مـعجزاتٍ بديعةً وحكماً ساميةٌ – يدلف واحد مـّمن يدينون بفكرة الطبيعة وبنكرون عظمة الالوهية الى هذا القصر، واضعاً في ذهنه – مسبقاً – الإعراض عما هو مبثوث امامه من آثار صنعه الله سبحانه الـمنزه عن الـمخلوقات، الـمتعالي عن الـمكنات.. ويبدأ بالبحث والتحري عن السبب ((الـموجد)) ضمن الـممكنات والـمخلوقات! فيرى قوانين السنن الإلـهية، وفهارس الصنعة الربانية. والتي يطلق عليها خطأ – وخطأ جسيماً – اسم الطبيعة التي يـمكن ان تكون شبيهة بصفحة من كراسة ((التغيير والتبديل)) لقوانين اجراءات القدرة الإلـهية، وبـمثابة لوحة ((الـمحو والاثبات)) للقدر الإلـهي، ولكنه ينبري الى القول:

مادامت هذه الاشياء مفتقرة الى علـّةٍ موجدةٍ، ولا شيء اعظمُ ارتباطاً بها، من هذه ((الكراسة)) فاني أخلصُ من ذلك الى ان هذه ((الكراسة)) – بـما تتضمنه من قوانين الـمحو والاثبات – هي التي اوجدت الاشياء، مادامت، لا يطيبُ لي الاعتقاد والإيـمان بالصانع الـجليل سبحانه. برغم ان العقل الـمنزه عن الهوي يرفض كلياً – ضمن منطقة – ان ينسب شؤون الربوبية الـمطلقة – والتي تقتضي قدرةً مطلقةً – الى هذه ((الكراسة)) العمياء الصماء العاجزة.

ونـحن نقول:

يا أحـمق من ((هَبَنـَّقة))!(1).

أطلَّ برأسك من تـحت مستنقع الطبيعة.. لترى الصانع الـجليل الذي تشهد له جـميع الـموجودات، من الذرات الى الـمجرات، بألسنة متنوعة، وتشير اليه اشارات مـختلفة.. وشاهد تـجليات ذلك الـمصور الـجليل الذي شيـّد قصر العالـم الباذخ، ودوّن خطته وبرنامـجه وقوانينه في تلك الكراسة.. وانقذ نفسك من ذلك الـهذيان الآثـم الرخيص!

الـمثال الثاني:

يدخل انسانٌ معزولٌ عن عالـم الـمدنية والـحضارة، وسط معسكر مهيب، فيبهره ما يشاهد من تدريبات متنوعة يؤديها – بغاية الانتظام والاتقان ومنتهى الطاعة والانقياد – جنود هذا الـمعسكر، فيلاحظ حركاتهم الـمنسقة وكأنها حركة واحدة يتحرك الـجميع – فوجاً ولواءً وفرقةً – بـحركة فرد واحد منهم، ويسكن الـجميع بسكونه، يطلق الـجميع النار اطلاقاً واحداً إثر امر يصدره ذلك الفرد.. فـحارَ في أمره، ولـم يكن عقله الساذج ليدرك ان قيادة قائد عظيم هو الذي ينفذ اوامره بأنظمة الدولة واوامر السلطان، فتخيل حبلاً يربط اولئك الـجنود بعضهم بالبعض الآخر.. ثـم بدأ يتأمل خيالاً، مدى اعجوبة هذا الـحبل الـموهوم. فزادت حيرته واشتدّ ارتباكه. ثـم يـمضي الى شأنه.

ويدخل جامع ((أياصوفيا)) العظيم، يوم الـجمعة ويشاهد جـموع الـمصلـّين خلف رجل واحد يـمتثلون لندائه في قيامهم وقعودهم وسجودهم وركوعهم، ولـمّا لـم يكن يعرف شيئاً عن الشريعة الإلـهية، والدساتير الـمعنوية لأوامر صاحب الشريعة، فانه يتصور، بأن هذه الـجماعة مرتبطة ببعضها البعض بـحبال مادية، وان هذه الـحبال قد قيدت حركة الـجماعة واسرتهم، وهي التي تـحركهم وتوقفهم عن الـحركة.

وهكذا يـمضي الى سبيله وقد امتلأ ذهنه بأخطاء تصوراته، التي تكاد تثير الهزء والسخرية حتى لدى أشد الناس وحشية وهمجية.

ففي ضوء هذا الـمثال:

يأتي ملـحدٌ الى هذا العالـم الذي هو معسكر مهيب رائع لـجنود السلطان الـجليل، وهو مسجد عظيم بارع يعظـّم فيه ذلك الـمعبود الازلي ويقدّس؛ يأتيه وهو يـحمل فكرة ((الطبيعة)) الـجاحدة ذلك الـجهل الـمطبق..

فيتصور ((القوانين الـمعنوية)) التي يشاهد آثارها في ربط انظمة الكون البديع، والنابعة من ((الـحكمة)) البالغة للبارىء الـمصور سبحانه، يتصورها كأنها قوانين مادية، فيتعامل معها في ابـحاثه كما يتعامل مع الـمواد، والاشياء الـجامدة..

ويتخيل احكام قوانين الربوبية التي هي قوانين اعتبارية ودساتير الشريعة الفطرية الكونية للـمعبود الازلي، والتي هي بـمجموعها معنوية بـحتة، وليس لـها وجود سوى وجود علمي، يتخيلها وكأنها موجودات خارجية ومواد مادية..

ويقيم تلك القوانين الصادرة من العلم الإلـهي والكلام الرباني التي لـها وجود علمي فقط مقام القدرة الإلـهية، ويـملـّكها الـخلق والايـجاد، ويطلق عليها اسم ((الطبيعة))، متصوراً القوة التي هي تـجلٍ من تـجليات القدرة الربانية، انها صاحب قدرة فاعلة، وقديراً مستقلاً بذاته:

أفبعد هذا جهالة وغباء؟ اَوَ ليس هذا جهلاً باضعاف اضعاف ما في الـمثال؟!

الـخلاصة:

ان الطبيعة التي يتعلق بها الطبيعيون ذلك الأمر الـموهوم الذي ليس له حقيقة، إن كان ولابد أنها مالكة لوجود حقيقي خارجي فان هذا ((الوجود)) انـما هو:

صنعة صانع ولن يكون صانعاً، وهو نقشٌ ولن يكون نقاشاً، ومـجموعة احكام ولن يكون حاكماً، وشريعة فطرية ولن يكون شارعاً، وستار مـخلوق للعزة، ولن يكون خالقاً، وفطرة منفعلة ولن يكون فاطراً فاعلاً، ومـجموعة قوانين ولن يكون قادراً، ومِسطَر ولن يكون مصدراً.

وحاصل الكلام:

مادامت الـموجودات موجودةً فعلاً، والعقل يعجز عن تصور اكثر من اربعة طرق للوصول الى حدوث الـموجود – كما ذكرنا ذلك في الـمقدمة – وقد اثبتَ إثباتاً قاطعاً بطلان ثلاثة من تلك الطرق الاربعة، وذلك ببيان ثلاثة مـحالات ظاهرة جلية في كل منها، فلابد وبالضرورة والبداهة ان يثبت بيقين لاسبيل مطلقاً الى الشك فيه الطريق الرابع، وهو طريق الوحدانية ذلك الطريق الذي تنيره الآية الكريـمة: } أفيِ اللهِ شَكٌ فاطرِ السمواتِ والارضِ.. { (ابراهيم:10).

والتي تدل بداهةً ويقيناً على وجود واجب الوجود، وعلى ألوهيته الـمهيمنة، وعلى صدور كل شيء من يد قدرته، وعلى ان مقاليد السموات والارض بيده سبحانه وتعالى.

فيا عابد الاسباب!

ايها الـمسكين الـمفتون بالطبيعة!

مادامت طبيعة كل شيء مـخلوقة كالشيء نفسه، لأن تكونها مـحدثٌ – غير قديـم – وعليها علامة الصنعة والاتقان، وان سبب وجود هذا الشيء الظاهري هو ايضاً مصنوع حادثٌ. ولـما كان وجود أي شيء مفتقراً الى وسائل وآلات واجهزة كثيرة جداً..

فلابُدّ من قدير مطلق القدرة ليتخلق تلك الطبيعة في الشيء، ويُوجِد ذلك السبب له، ولابد ان يكون – هذا القدير الـمطلق القدرة – مستغنياً غناءً مطلقاً، فلا يشرك الوسائط العاجزة في أيـجاده للشيء وفي هيمنة ربوبيته عليه.

فـحاش لله ان يكون سواه القدير الـمستغني الـمتعال، بل هو سبحانه وتعالى يـخلق الـمسبـّب والسبب معاً من علوه خلقاً مباشراً، ويوجد بينهما سببية ظاهرية وصورية، ويقرن بينهما من خلال ترتيب وتنظيم، جاعلاً من الاسباب والطبيعة ستاراً ليد قدرته الـجليلة، وحجاباً لعظمته وكبريائه، ولتبقى عزتهُ منزهةً مقدسة في عليائها، ويجعل تلك الاسباب موضع الشكوى لـما يتراءى من نقائص، ولـما يتصور من ظلم ظاهري في الاشياء.

ايهما اسهل على الفهم، واقرب معقوليةً الى الذهن: تصور ((ساعاتي)) يصنع تروس الساعة ومعداتها، ثـم ينظمها على وفق ترتيب تروسها، ويوازن بين حركات عقاربها بدقة متناهية، ام ان نتصور الساعاتي يصنع في تروس الساعة وعقاربها ودقيق آلاتها ماكنة خارقة الفعال يُسلـّمُ صنع الساعة الى جمادية ايديها؟! قل معي: أليس هذا كلاماً فارغاً ومـحالاً وخارجاً عن حدود الامكان؟ فهيا خاطب انت عقلك الـمجحف وكن انت القاضي والـحكم.

وايهما يكون مستساغاً ومقبولاً في منطق العقل: تصور كاتب يخط كتاباً بنفسه بعد ان يحضر لوازم الكتابة؛ من مداد وقلم وورق، ام تصور ايـجاد ذلك الكاتب مطبعة خاصة بذلك الكتاب وهي اعقد وادق من الكتاب نفسه يترك لـها امر كتابة هذا الكتاب فيخاطبها قائلاً:

هيا اشرعي انت بكتابة الكتاب.. من دون تدخل من قبله؟

أليس مثل هذا التصور السقيم معضلاً عقلاً؟ ومشكلاً باضعاف امر الكتابة نفسها؟!

واذا قلت: ان أيـجاد مطبعة لطبع الكتاب اعقد واصعب من الكتاب نفسه، إلاّ أنّ ماكنة الـمطبعة، قادرة على اصدار الآف النسخ من الكتاب في مدة قصيرة.وهذا وسيلة التيسير.

الـجواب: ان البارىء الـمصور سبحانه قد خلق بقدرته الـمطلقة، بتجديد تـجليات اسـمائه الـحسنى واظهارها على اشكال مـختلفة، تشخصات الاشياء وملامـحها، الـخاصة بها، بـحث لا يشبه مـخلوق مـخلوقاً آخر تشابهاً تاماً ومتطابقاً قط، وهو كتابٌ صمداني، ومكتوبٌ رباني.

نعم، انه لاجل ان يفي كل مـخلوق بـمعاني وجوده، لابدّ ان يـملك سيماءً يعرف بها ويـخالف بها الآخرين، وملامح تباين ملامح غيره، فانظر ودقق النظر في وجه الانسان تَر ان علامات فارقة قد احتشدت في هذا الوجه الصغير، بـحيث تـميز هذه العلامات صاحبها عن جـميع الوجوه الاخرى الـمتتابعة منذ زمن آدم عليه السلام حتى اليوم، والى الابد، رغم التشابه والاتفاق في الـماهية الانسانية، والكينونة البشرية، وهذا واضح جلي وثابت قطعاً.

فملامح كلّ وجه كتابٌ خاص بالوجه نفسه، وهو كتابٌ مستقلٌ بذاته عن غيره.. فلاجل إخراج هذا الكتاب الـخاص، واتقان صنعه وتنظيمه، يستوجب الامر وجود مـجموعة ابـجدية كاملة من الـحروف، والـمناسبة حـجماً له، ويتطلب تنضيد هذه الـحروف في مواضعها من لوحة التنضيد، ليتم بعد ذلك مؤلف خاص بهذا الوجه يـخالف تأليف الاخرين.

ويلزم هذا الامر جلب مواد صنعه الـخاصة به، ثم وضعها في اماكنها الـمخصصة لـها، ثمّ إدراج كل مايلزم وجود هذا الوجه – في الوجه نفسه – من عناصر البناء. وهذا كله لاشك يـحتاج الى مصنع مستقل خاص به أي الى مطبعة خاصة في كل اشيائها لكل وجه من الوجوه!!

ثم الا تـحتاج هذه الـمطبعة الـخاصة – على فرض وجودها – الى تنظيم معين، وتنسيق مـخصوص، فأمر الطبع نفسه – دع عنك تنسيق الـحروف وترتيبها وتنظيمها – هو ايضاً بـحاجة الى تنظيم؟..

فالـمواد الـموجودة في جسم كل كائن حي هي اكثر تعقيداً وادق تنظيماً من مواد الـمطبعة وتنظيمها بـمئات الاضعاف، فـجلب هذه الـمواد من اقطار العالـم، ضمن حسابات معينة، وموازين دقيقة، ثم تنضيدها حسب مقتضيات الـحاجة اليـها، واخيراً وضعها تـحت يد تلك الـمطبعة… هذه السلسلة الطويلة من الاجراءات تـحتاج – اولاً وقبل كل شيء – الى موجد يوجد تلك الـمطبعة الـمفترضة، وليس هو الاّ القدرة الفاطرة للخالق القدير وارادته النافذة.

اذن فاحتمال كون الطبيعة كأنها مطبعة، خرافة فاضحة لا معنى لـها على الاطلاق..!!

وهكذا على غرار ما شاهدناه في مثال ((الساعة والكتاب)): ان الصانع ذا الـجلال وهو القادر على كل شيء، هو نفسه خالق الاسباب، وخالق الـمسبـّبات، وهو الذي يربط الـمسبـّبات بالاسباب بـحكمته سبحانه، وقد عين بإرادته طبيعة الاشياء، وجعلها مرآة عاكسة لتجليات الشريعة الفطرية الكبرى التي فطر عليها الكون، والتي هي قوانين الله وسننه الـجارية التي تـخص تنظيم شؤون الكون، وقد اوجد بقدرته وجه ((الطبيعة)) التي يقوم عليها عالـم الشهادة الـخارجي الوجود، ثم خلق الاشياء وانشأها على تلك الطبيعة ومازج بينهما بتمام الـحكمة.

والآن نـحيل الامر الى انصاف عقلك الـمجحف ليرى: ايهما يستسيغه عقلك ويسهل عليه الاعتقاد به؟ أهذه الـحقيقة الـمعقولة النابعة من براهين دامغة غير مـحدودة – وهي مُلزمة الى حدّ الوجوب – أم اعطاء ما يلزم للاشياء من اجهزة واعضاء لا تـحد، واسناد اعمالٍ تتسم بالـحكمة والبصيرة الى الشيء نفسه؟! او تنسيبها الى ما تسمونه بـ ((الطبيعة)) والاسباب التي هي مواد جامدة خالية من الشعور وهي مـخلوقة مصنوعة؟ أليست هذه خرافة مـمتنعة وخارجة عن نطاق الامكان؟

يـجيب عابد الطبيعة – ذلك الـجاحد – قائلاً: مادمت تدعوني الى الانصاف فانا اعترف: ان ما سلكناه من طريق مضلّ الى الآن مثلما انه مـحال بـمائة مـحال فهو مضر أيـما ضرر، وهو في منتهى القبح والفساد. إنَّ مَن كان له مسكة من عقل يدرك من مـحاكماتكم العقلية، وتـحقيقاتكم العلمية الـمسندة بالبراهين والـمذكورة آنفاً، ان اسناد الايـجاد والـخلق الى الاسباب والى الطبيعة مـمتنع عقلاً ومـحال قطعاً، بل الواجب والضروري الـملزم للعقل هو اسناد كل شيء مباشرة الى واجب الوجود سبحانه، فاحمد الله الذي هداني الى هذا الإيـمان.

ولكن بقيتْ لدىّ شبهة واحدة فقط وهي: انني أؤمن بالله ربـّاً وانه خالق كل شيء، ولكني أتساءل:

ماذا يضر عظمته سبحانه، وماذا يضر سلطانه جلّ وعلا، ان نتوجه ببعض الـمدح والثناء الى بعض الاسباب الـجزئية في ايـجادها الاشياء الصغيرة التافهة، فهل ينقص ذلك شيئاً من سلكانه سبحانه وتعالى؟!

والـجواب: كما اثبتنا في قسم من الرسائل إثباتاً قاطعاً:

ان شأن الـحاكمية ((ردّ الـمداخلة)) ورفضها كلياً، بل إن أدنى حاكم، او أي موظف بسيط لايقبل تدخلاً حتى من ابنه ضمن حدود حاكميته، بل ان توهم التدخل في الـحاكمية قد دفع بعض السلاطين الي قتل اولادهم الابرياء رغم انهم كانوا على شيء من التقوى والصلاح، مـمّا يظهر مدى اصالة هذا القانون – قانون ردّ الـمداخلة – في الـحاكمية، فهو سارٍ في كل شيء ابتداءً من متخاصمين في تسنم إدارة ناحية صغيرة الى سلطانين يتنازعان للتفرد بالسلطة في البلاد، وكذلك فقد اظهر – بـما لا يقبل الشك – ما يقتضيه استقلال الـحاكمية من قانون ((منع الاشتراك))، واوشح نفوذه وقوته خلال تاريخ البشرية الطويل، وما ادى اليه من اضطراب وقتل وتشريد وانهار من الدماء الـمهراقة.

تأمل في الانسان الذي هو عاجز عن ادارة نفسه ومفتقر الى التعاون مع الآخرين، ولايـملك من الـحاكمية والآمرية إلاّ ظِلاً باهتاً، فهو يردُّ الـمداخلة الى هذه الدرجة، ويـمنع تدخل الآخرين الى هذا الـحد، ويرفض مشاركة الآخرين في حاكميته، ويسعى بـما لديه من قوة للتشبث باستقلالية مقامه، تأمل في هذا، ثم انظر الى الـحاكم الـمطلق وهو مستوٍ على عرش الربوبية، والآمر الـمطلق وهو الـمهيمن بالالوهية، والـمستقل الـمطلق بالفردية والاحدية، وهو الـمستغني الـمطلق بقادرية مطلقة، ذلكم الله ربنا ذو الـجلال..

فكم يكون لازماً وضرورياً ((ردّ الـمداخلة)) هذه بالنسبة اليه، ومنع الاشتراك وطرد الشريك في حاكميته الـمطلقة، وكم هو من لوازم هذه الـحاكمية ومن اوجب وجائبها؟

فقايسْ الآن ووازن بين حاكمية الانسان الـمحدودة الضيقة الـمفتقرة الى الآخرين وحاكمية الله الـمطلقة الغنية الـهيمنة الشاملة.

أما الشق الثاني من شبهتك والذي هو:

اذا قُصِدَ ((بعض الاسباب)) ببعض العبادة من بعض الامور الـجزئية، فهل بنقص ذلك شيئاً من عبادة الـمخلوقات الـمتوجهة جـميعاً الى الله القدير، ابتداءً من الذرات وانتهاءً بالسيارات والـمجرّات؟!

الـجواب: ان الـخالق الـحكيم العليم سبحانه، قد خلق هذا الكون بـمثابة شـجرة، وجعل ارباب الشعور ثـمارها الكاملة، وكـّرم الانسان باعتباره اجـمع ثـمرة لأرباب الـمشاعر، وجعل الشكر والعبادة افضل ما تثمره حياة الانسان، بل هما – الشكر والعبادة - نتيجة خلقه وغاية فطرته وثـمرة حياته.

فهل يـمكن عقلاً لـهذا الـحاكم الـمطلق والآمر الفرد، وهو الواحد الاحد، أن يسلـّم امر الانسان الذي هو ثـمرة الكون كله الى غيره من ((الاسباب)) ويسلم ثـمرة حياته – وهي الشكر والعبادة – الى الآخرين، بعدما خلق الكون كله لـمعرفة ألوهيته، ولـمحبة ربوبيته، فهل يـمكن ان يـجعل نتيجة الـخلق، وثـمرة الكون تسقط بين اشداق عفونه العبث؟! حاش لله وكلا، سبحان الله عمـّا يشركون.

ثـم هل يـمكن ان يرضى سبحانه بـما يـخالف حكمته وربوبيته بـجعل بعض الاسباب مقصوداً لعبادة الـمخلوقات؟ علماً بأنه سبحانه وتعالى قد اشهر نفسه وعرّفها وحببها بافعاله وألطافه في هذا العالـم.

فكيف يرضى سبحانه – بعد هذا كله – ان يدع تـحبـّب افضل مـخلوقاته واكملهم عبودية وشكراً وحـمداً الى غيره من الـمخلوقات، وكيف يسمح لـمخلوقاته ان تنساه بعد أن اظهر بافعاله مقاصده السامية في الكون: وهي معرفته، ثـم عبادته؟ حاش وكلا، فسبحان الله عما يقولون علواً كبيراً.

ماذا تقول ايها الصديق بالذي سمعته آنفاً؟

وإذا به يـجيب فيقول:

الـحمد لله الذي سهل لي حل هاتين الشبهتين، فقد اظهرت لي في وحدانية الله، الـمعبود الـحق والـمستحق للعبادة وحده، ودليلين قويين ساطعين لا يـمكن انكارهما، وهل بنكر ضوء الشمس والنهار إلاّ مكابر معاند؟!









الـخاتـمة

يقول ((رجل الطبيعة)) وقد ترك وراءه فكره وتصوراته، ودخل ((حظيرة الإيـمان)) بفكر أيـماني جديد:

الـحمد لله.. اشهد أنّ شبهاتي قد زالت كلها، ولكن مازال في النفس ما يـحيرني ويثير الـمزيد من هواجسي، مـما يرد على خاطري من اسئلة لا اعرف جواباً عنها.

السؤال الاول:

نسمع من كثير من الكسالى الـمتقاعسين عن العبادات، ومن تاركي الصلاة بـخاصة، انهم يقولون:

ما حاجة الرب سبحانه وتعالى – الغني بذاته – الى عبادتنا حتى يزجرنا في محكم كتابه الكريـم، ويتوعدنا بأشد العذاب في نار جهنم، فكيف يتساوق هذا الاسلوب – التهديدي الصاعق في مثل هذا الـخطأ الـجزئي التافه – مع اسلوبه الاعجازي اللين الـهاديء الرقيق في الـمواضع الاخرى؟

الـجواب: حقاً ان الله سبحانه وتعالى – الغني بذاته – لا حاجة له قط الى عبادتك انت – ايها الانسان – بل هو سبحانه لا حاجة له لشيء قط، ولكنك انت الـمحتاج الى العبادة، وانت الـمفتقر اليها.

فأنت مريض معنى، والعبادة هي البلسم الشافي لـجراحات روحك، واوجاع ذاتك، وقد اثبتنا هذا الكلام في عديد من الرسائل.

ترى لو خاطب مريضٌ طبيباً رحـيماً يشفق عليه ويصر عليه ليتناول دواءً شافياً يـخص مرضه، لو خاطبه تـجاه اصراره عليه قائلاً: ما حاجتك انت الى هذا الدواء حتى تلح عليّ هذا الالـحاح الشديد بتناول الدواء؟ الا يفهم من كلامه مدى تفاهته وسخفه وغباء منطقه؟

اما نذير القرآن الكريـم فيما يـخص ترك العبادة وتهديده الـمخيف بعقاب اليم، فاليك تفسيره:

فكما ان سلطاناً يعاقب شخصاً سافلاً يرتكب جريـمةً تـمس حقوق الآخرين بعقاب صارم لاجل الـحفاظ على حقوق رعاياه، كذلك سلطان الازل والابد يعاقب تارك العبادة والصلاة عقاباً صارماً، لانه يتجاوز تـجاوزاً صارخاً على حقوق الـموجودات ويظلمها ظلماً معنوياً بشعاً ويهضم حقوقها هضماً مـجحفاً، تلك الـموجودات التي هي رعاياه وخلقه. وذلك لان كمالاتها تتظاهر على صورة تسبيح وعبادة في وجهها الـمتوجه الى البارىء الـحكيم سبحانه. فتارك العبادة لا يرى عبادة الـموجودات ولن يراها، بل ينكرها وفي هذا بـخس عظيم لقيمة الـموجودات التي كلّ منها مكتوب سامٍ صمداني، قد خطّ بأيات العبادة والتسبيح وهو متوجه باياته وتسبيحه نـحو الـموجد الـخالق جلّ وعلا.. وكل منها – ايضاً – مرآة لتجلي الاسـماء الربانية الـمشعة بالانوار.. فينزل هذه الـموجودات - بهذا الانكار - من مقامها الرفيع السامي، ولايرى في وجودها سوى العبث الخالي من المعنى، ويـجردها من وظائفها الـخلقية، ويظنها شيئاً هادماً ضائعاً لا اهمية له، فيكون بذلك قد استهان بالـموجودات واستخف بها، واهان كرامتها وانكر كمالاتها، وتعدى على مصداقية وجودها.

نعم، ان كل انسان انـما ينظر الى الكون بـمنظاره الـخاص وعلى وفق ما تصوره له مرآته الـخاصة، فلقد خلقه البارىء الـمصور سبحانه على صورة يستطيع قياس الكون عليها، ويزنه بـميزانها. فمنحه عالـماً خاصاً به من هذا العالـم العظيم فيصطبغ عالـمه الـخاص بـحسب ما يتعقده الانسان من عقيدة في قلبه.

فالانسان الـحزين اليائس الباكي يرى الـموجودات باكية بائسة، بينما السعيد الـجذلان يراها مبتسمة ضاحكة ومسرورة.

كذلك الذي يؤدي العبادة والاذكار بصورة جادّة ويشعور تام وبتفكر وتأمل، فانه يكشف شيئاً من عبادة الـموجودات وتسابيحها بل قد يراها وهي حقيقة موجودة ثابتة اما الذي يترك العبادة غافلاً او منكراً لـها فأنه يتوهم الـموجودات توهماً خاطئاً جداً ومنافياً كلياً ومـخالفاً تامة لـحقيقة كمالاتها، فيكون متعدياً على حقوقها معنىً.

زد على ذلك، فان تارك الصلاة يظلم نفسه كذلك بتركه الصلاة، حيث انه غير مالك لذات نفسه، فهي – أي النفس – عبد مـملوك لدى مالكها ومولاها وخالقها وفاطرها، لذا ينذره مولاه الـحق انذاراً شديداً ويهدده بعنف ليأخذ حقّ عبده ذاك من نفسه الامارة بالسوء، فضلاً عن انه عندما ترك العبادة التي هي نتيجة خلقته وغاية فطرته يكون متجاوزاً حدّه تـجاه الـحكمة الإلـهية والـمشيئة الربانية، لذا يعاقب على هذا عقاباً شديداً.

نـحصل مـما تقدم:

ان تارك العبادة مثلما انه يظلم نفسه، والنفس مـملوك الـحق سبحانه وعبده فهو يتعدى على حقوق كمالات الكائنات ويظلمها ايضاً. نعم، فكما ان الكفر استهانة بالـموجودات واستخفاف بها، فترك العبادة انكار لكمالات الكائنات، وتجاوزٌ على الـحكمة الإلـهية، لذا يستحق تاركها تهديداً عنيفاً، وعقاباً صارماً.

ومن هنا يـختار القرآن الكريـم اسلوب التهديد والانذار ليعبر عن هذا الاستحقاق وعن هذه الـحقيقة الـمذكورة آنفاً، فيكون الاسلوب حقاً ومطابقاً تـماماً لـمقتضى الـحال الذي هو البلاغة بعينها.

السؤال الثاني:

يقول صاحبنا الذي نبذ فكرة ((الطبيعة)) وتبرأ منها، وشَرُفَ بالإيـمان بالله:

إن انقياد كل موجود، في كل شأن من شؤونه، وفي كل جزء من جزئياته، وفي كل ما يقوم به وينجزه، انقياداً مطلقاً للمشيئة الإلـهية، والقدرة الربانية، هو حقيقة عظيمة جليلة، فهي لعظمتها وسعتها لاتستوعبها اذهاننا الكليلة القاصرة، علماً اننا نطالع عياناً وفرةً متناهيةً من الـموجودات، وسهولة مطلقة في خلق الاشياء، وقد تـحققت ((السهولة في الايـجاد)) التي هي من مستلزمات ((الوحدانية)) بـما اقمتموه من براهين وحـجج قاطعة، فضلاً عن أن، القرآن الكريـم قد قرر السهولة الـمطلقة صراحة في آيات كريـمة كثيرة امثال:

} مَا خَلقُكمْ ولا بَعثُكمْ الاّ كنفَسٍ واحدةٍ { (لقمان:28)

} ومَا اَمرُ الساعَةِ إلاّ كلـمحِ البَصرِ او هوَ اقرَبُ { (الـنحل:77).

كل ذلك يـجعل تلك الـحقيقة العظيمة ((سهولة الايـجاد)) مسألة مقبولة جداً ومستساغة عقلاً، فأين يكمن سرُّ هذه السهولة ياترى وما الـحكمة من ورائها؟

الـجواب: لقد وضح ذلك السرّ وضوحاً تامـّاً ومقنعاً في ((المكتوب العشرين)) عند شرحه الآية الكريـمة: } وَهُوَ على كُلِ شَيءٍ قَديرٌ { بـما يفي بالغرض، وبـخاصة في ذيله، حيث جاء التوضيح وافياً وشافياً جداً، ومقنعاً بالدليل والبرهان والاثبات القاطع، وخلاصته.

عندما يسند ايـجاد الـموجودات جميعها الى الصانع الواحد، يسهل الامر كسهولة أيـجاد مـخلوق واحد، بينما اذا اسند للكثرة يصعبُ - على هذه الكثرة – امر أيـجاد مـخلوق واحد بقدر صعوبة ايـجاد جـميع الـموجودات .. فيكون خلق بذرة واحدة صعباً ومشكلاً كـخلق شـجرة.. ولكن اذا اسند ((الايـجاد)) الى صانعه الـحق سبحانه، يسهل الامر حتى يصبح أيـجاد الكائنات كلـها كايـجاد شـجرة واحدة، والشـجرة كالبذرة، والـجنة كالربيع، والربيع كالزهرة، فالامر يسهل ويكون هيناً.

وسنشير هنا اشارة مـختصرة الى دليل او دليلين من بين مئات الادلة التي اوضحناها بالتفصيل في رسائل اخرى، تلك الادلة التي تبين ما يدور من الاسرار والـحكم الكامنة فيما نشاهده من وفرة الـموجودات التي لاحصر لـها ورخصها، وكثرة افراد كل نوع منها، وورودها الى الوجود منتظمةً، متقنةً، وبكل سهولة ويسر.

مثال هذا: إن ادارة مائة جندي تـحت إمرة ضابط واحد، اسهل بـمائة ضعف من ادارة جندي واحد تـحت إمرةمائة ضابط.

وعندما يُودَعُ أمرُ تـجهيز جيش كامل باللوازم العسكرية، من مركز واحد، وبقانون واحد، ومن مصنع واحد، الى امرٍ يصدره قائد واحد، فان ذلك يكون سهلاً وهيناً من حيث الكمية والوفرة، بسهولة تـجهيز جندي واحد.

بينما يكون ايداع أمر تـجهيز جندي واحد باللوازم العسكرية الكاملة من مراكز متعددة ومصانع متعددة، الى قواد عديدين مشكلاً وصعباً من حيث الكمية والوفرة ايضاً بصعوبة تـجهيز جيش كامل. اذ ينبغي عندئذ وجود مصانع كثيرة للتـجهيزات بعدد ما يلزم جيشاً كاملاً، لاجل تـجهيز الـجندي الواحد.

ويشاهد ايضاً ان الشـجرة الواحدة، التي تتزود بالـمواد الضرورية لـها من جذر واحد، ومن مركز واحد، وعلى وفق قانون واحد، تثـمر الوف الثـمرات، ويتم ذلك بسهولة ويسر كأن للشجرة ثـمرة واحدة. بينما اذا استبدلت الكثرة بالوحدة، وسلك طريق الكثرة عوضاً عن طريق الوحدة، فزوّدت كل ثـمرة بالـمواد الضرورية للـحياة من مراكز مـختلفة، وجذور متباينة، يكون أيـجاد ثـمرة واحدة مشكلا وصعباً كايـجاد الشجرة نفسها، بل قد يكون ايـجاد البذرة التي هي أنـموذج الشـجرة وفهرستها – صعباً ومعضلاً كايـجاد الشجرة نفسها. لان ما يلزم حياة الشـجرة من مواد ضرورية يلزم البذرة ايضاً.

فهناك الـمئات من امثال هذه الامثلة، وكلها تبين: ان ورود الوف الـموجودات بسهولة مطلقة الى الوجود – في الوحدة – اسهل من ورود موجود واحد الى الوجود بالتعدد والكثرة.

ولـما كنا قد اثبتنا هذه الـحقيقة في رسائل اخرى بيقين قاطع نـحيل اليها، ولكننا نبين هنا فقط سراً عظيماً يتعلق بهذه السهولة واليسر من زاوية نظر العلم الإلـهي، والقدر الإلـهي، والقدرة الربانية، وهذا السر هو:

انت موجود من الـموجودات فاذا سلـّمتَ نفسك الى يد القدير الـمطلق القدرة، فانه يـخلقك بأمر واحد وبقدرته الـمطلقة بلمح البصر من العدم، من غير شيء. ولكن ان لـم تسلم نفسك اليه، بل اسندتها الى ((الطبيعة)) واسلمتها الى الاسباب الـمادية، فيلزم عندئذ لايـجادك انت، عملية بـحث دقيق – لـجمع جـميع الـمواد التي في وجودك – في اقطار العالـم كله، والتفتيش عنها في زوايا الكون كله، وامرارها في مصاف واختبارات دقيقة جداً، ووزنها بـموازين حساسة، ذلك لانك خلاصة منتظمة للكون، وثـمرته اليانعة، وفهرسته الـمصغرة، ومـحفظته الـمنطوية على مواد الكون كله.

لأن الاسباب الـمادية ليس لـها الاّ التركيب والـجمع، اذ هو ثابت لدى ارباب العقول انه لا يـمكن للأسباب الـمادية أيـجاد ما لا يوجد فيها، من العدم ومن غير شيء، لذا فهي مضطرة الى جـمع الـمواد اللازمة لـجسم كائن حي صغير من اقطار العالـم كله.

فافهم من هذا مدى السهولة الـمطلقة في الوحدة والتوحيد. ومدى الصعوبات والـمشكلات في الشرك والضلالة.

ثانيها:

ان هناك سهولة مطلقة في الـخلق والايـجاد تنبع من زاوية نظر ((العلم الإلـهي)) وتفصيلها كالآتي:

ان القدر الإلـهي هو نوع من العلم الإلـهي، يعيـّن مقدار كل شيء كأنه قالب معنوي له وخاص به، فيكون ذلك الـمقدار القَدَري بـمثابة خطّة لذلك الشيء، وبـحكم ((موديل)) انـموذج له، فعندما توجده ((القدرة الإلـهية)) توجده على ذلك الـمقدار القدري بكل سهولة ويسر.

فان لـم يُنسب ايـجاد ذلك الشيء الى مَن له علم مـحيط مطلق ازلي وهو الله القدير ذو الـجلال لاتـحصل الوف الـمشكلات فـحسب، بل تقع مئات الـمحالات ايضاً – كما ذكر آنفاً – لانه إن لـم يكن هناك ذلك الـمقدار القدري، والـمقدار العلمي، يلزم استعمال ألوف القوالب الـمادية والـخارجية للـجسم الصغير للـحيوان!

فافهم من هذا سراً من اسرار السهولة الـمطلقة في الوحدة والتوحيد وكثرة الـمشكلات غير الـمتناهية في التعدد والكثرة والشرك.

واعلم مدى الـحقيقة السامية الصائبة التي تعبر عنها الآية الكريـمة: } ومَا اَمرُ الساعَةِ إلاّ كلـمحِ البَصرِ او هوَ اقرَبُ { (الـنحل:77).

السؤال الثالث:

يقول الذي كان يعادي سابقاً ووُفـّق الى الإيـمان الآن واهتدى:

مابال بعض الفلاسفة الـمغالين في عصرنا هذا يطلقون مقولة: ((لا يُستحدث شيء من العدم ولايفنى شيء من الوجود)) وان مايدير هذا الكون، انـما هو تركيب الـمادة وتـحليلها ليس الاّ!

الـجواب:

ان هؤلاء الفلاسفة الذين لـم يتسنّ لـهم النظر الى الـموجودات بنور القرآن الـمبين، عندما نظروا اليها بـمنظار ((الطبيعة)) و ((الاسباب)) توصلوا الى ان وجود هذه الـموجودات، وافتراض تشكلها بعوامل ((الطبيعة)) و ((الاسباب) مسألة تطرح مشكلات عويصة بدرجة الامتناع – على غرار ما ذكرناه في بيان الاحتمالات ومـحالاتها – فانقسم هؤلاء الفلاسفة إزاء هذه العقبة الكأداء الى قسمين:

قسم منهم صاروا سوفسطائيين وعافوا العقل الذي هو خاصة الانسان وسقطوا الى درك أدنى من الـحيوانات، اذ وصل بهم امر فكرهم الى انكار الوجود عموماً، بل حتى انكار وجودهم، وذلك عندما رأوا ان هذا الانكار اجدى على العقل وايسر عليه واسلم من تصور ((الطبيعة) و((الاسباب)) مالكة لزمام الايـجاد، فانكروا وجود انفسهم ووجود الـموجودات جـميعاً، فسقطوا في هاوية الـجهل الـمطلق.

اما القسم الثاني: فقد نظروا الى الـموجودات انها لو سلـّم ايـجادها الى ((الاسباب)) و((الطبيعة)) كما هو شأن اهل الضلالة فان ايـجاد شيء صغير جداً كالبعوضة او البذرة فيه من الـمشكلات مالا يـحد، ويقتضي قدرة عظيمة لا يبلغ مداها العقل، فوجدوا انفسهم مضطرين الى انكار ((الايـجاد)) نفسه، فقالوا: ((لايستحدث شيء من العدم)) ورأوا ان اعدام الشيء مـحال ايضاً فقرروا انه ((لايفنى الـموجود)). وتـخيلوا جـملة من الاوضاع الاعتبارية ساريةً ما بين تـحليل وتركيب وتفريق وتـجميع، ناتـجة عن حركات الذرات، وسيل الـمصادفات!

فتأمل في هؤلاء الذين يظنون انفسهم في ذروة العقل، قد سقطوا في حضيض من الـحماقة والـجهل، واعلم من هذا كيف تضع الضلالة هذا الانسان الـمكـرّم – حين يلغي ايـمانه – موضع سخرية وازدراء من كل احد..

وبدورنا نسأل هؤلاء:

ترى كيف يـمكن استبعاد ايـجاد شيء ما من القدرة الـمطلقة التي توجدُ على سطح الارض في كل سنة اربـعمائة الف نوع من الاحياء؟ والتي خلقت السموات والارض في ستة ايام؟ والتي تنشىء في كل ربيع تـحت بصر الانسان وسـمعه، على سطح الارض كوناً حياً من النبات والـحيوان هو اظهر اتقاناً واجلى حكمةً من الكون كله، في ستة اسابيع؟ كيف يستبعد منها ان تـخلق الـموجودات العلمية – التي تعينت خططها ومقاديرها ضمن دائرة العلم الازلي – فتخلقها بسهولة مطلقة سهولة اظهار الكتابة غير الـمنظورة بإمرار مادة كيمياوية عليها. فاستبعاد إضفاء الوجود الـخارجي على الـموجودات العلمية – والتي هي معدومات خارجياً – من تلك القدرة الازلية، ثـم انكار الايـجاد نفسه لـهو حـمافة وجـهالة اشد من حـماقة السوفسطائيين الـمعروفين وجـهالتهم!

وحيث ان نفوس هؤلاء التعساء الـمتفرعنة العاجزة عجزاً مطلقاً والتي لا تـملك إلاّ جزءاً يسيراً من الاختيار غير قادرة على إفناء أي شيء كان واعدامه، وايـجاد اية ذرة كانت او مادة من غير شيء ومن العدم.. ولـما كانت الطبيعة والاسباب التي يـفخرون بعبوديتهم لـها عاجزة هي الاخرى وليس في طوقها امر ((الايـجاد)) من غير شيء.. نراهم يصدرون حـكماً عاماً: ((ان الـمادة لاتفنى ولا تستحدث)) ويـحالون ان يعمموا حكم هذه القاعدة الباطلة الـخاطئة حتى على قدرة القدير الـمطلق القدرة سبحانه.

نعم، ان القدير الـطلق ذا الـجلال له طرازان من الايـجاد:

الاول:

هو بالاختراع والابداع، أي انه سبحانه يبْدع الوجود من العدم إبداعاً من غير شيء، ويوجِدُ كل ما يلزم – هذا الوجود – من اشياء من العدم ويسلـّمها اياه.

الاخر:

هو بالانشاء والصنعة والاتقان. أي ينشىء قسماً من الـموجودات من عناصر الكون نفسه، إظهاراً لكمال حكمته، وتبياناً لـجليات اسـمائه الـحسنى.. وامثالـها من الـحكم الدقيقة، فيرسل الى تلك الـموجودات الذرات والـمواد الـمنقادة الى اوامره ضمن سنن الرزاقية الكونية، ويسخرها لـها ليكمل انشاء هذا الوجود، وهكذا فالقدير الـمطلق القدرة له اسلوبان من الايـجاد وصورهما:

الابداع.. والانشاء..

فإفناء الـموجود، وايـجاد الـمعدوم، امر سهل جداً لديه، وهيـّنٌ جداً بل هو قانونه الدائم العام.

فالذي يستبعد من القدرة الفاطرة التي تـخلق من العدم ثلاث مائة الف نوع من الـمخلوقات والاحياء، وتـمنحها اشكالـها وصفاتها وكيفياتها واحوالـها مـما سوى ذراتها. ويقول: ((انها لن تقدر على ايـجاد الـمعدوم)) لابد ان يهوي في ظلمة العدم.

بقول الذي نَبَذَ ((الطبيعة)) ونفذ الى طريق الـحقيقة:

الـحمد لله حـمداً كثيراً بعدد الذرات، الذي وفقني للفوز بكمال الإيـمان، وانقذني من الاوهام والضلالات، فزالت بفضله جـميع ما لديّ من شبهات وريب.

الـحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيـمان

} سُبـحانَكَ لاَ عِلـم لَنَا إِلاّ ما عَلـمتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليـم الـحكيـم{ (البقرة:32)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-01-2011
  #20
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الرابعة والعشرون

رسالة الـحجاب

كانت هذه هي الـمسألة الثانية والثالثة من ((الـمذكرة الـخامسة عشرة)) الا ان اهميتها جعلتها ((اللمعة الرابعة والعشرين)).

بِسمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيم

} يا أيُها النَبيُّ قُل لأزواجِكَ وبَنَاتكَ ونسَاء الـمؤمنينَ يُدنينَ عَليهِنَ من جَلابيبهن{ (الاحزاب:59)

هذه الآية الكريـمة تأمر بالـحجاب، بينما تذهب الـمدنية الزائفة الى خلاف هذا الحكم الرباني، فلا ترى الـحجاب أمر فطرياً للنساء، بل تعده اسراً وقيداً لـهن(1).

وسنبين جواباً اربعاً من الـحكم فقط من بين حكم غزيرة دالة على كون هذا الـحكم القرآني تقتضيه فطرة النساء وخلافه غير فطري.

الـحكمة الاولى:

ان الـحجاب امر فطرى للنساء، تقتضيه فطرتهن، لان النساء جُبلـْن على الرقة والضعف، فيجدن في انفسهن حاجة الى رجل يقوم بـحمايتهن وحـماية اولادهن الذين يؤثرنهم على انفسهن، فهن مسوقات فطريا نـحو تـحبيب انفسهن للاخرين وعدم جلب نفرتهم وتـجنب جفائهم واستثقالـهم.

ثم، ان ما يقرب من سبعة اعشار النساء: اما متقدمات في العـمر، او دميمات لا يرغبن في اظهار شيبهن او دمامتهن، او أنهن يـحملن غيرة شديدة في ذواتهن يـخشن ان تفضل عليهن ذوات الـحسن والـجمال، او أنهن يتوجسن خيفة من التجاوز عليهن وتعرضهن للتهم.. فهؤلاء النساء يرغبن فطرة في الـحجاب حذراً من التعرض والتجاوز عليهن وتـجنباً من ان يكن موضع تهمة في نظر أزواجهن، بل نـجد ان الـمسنات احرص على الـحجاب من غيرهن.

وربـما لا يتجاوز الاثنتين او الثلاث من كل عشر من النساء هن: شابات وحسناوات لايتضايقن من ابداء مفاتنهن اذ من الـمعلوم ان الانسان يتضايق من نظرات من لايـحبه. وحتى لو فرضنا ان حسناء جميلة ترغب في ان يراها اثنان او ثلاثة من غير الـمحارم فهي حتما تستثقل وتنزعج من نظرات سبعة او ثـمانية منهم، بل تنفر منها.

فالـمرأة لكونها رقيقة الطبع سريعة التأثر تنفر حتماً – ما لـم تفسد اخلاقها وتتبذّل – من نظرات خبيثة تصوب اليها والتي لـها تأثير مادي كالسم – كما هو مـجرب – حتى اننا نسمع: أن كثيرا من نساء اوروبا وهي موطن التكشف والتبرج، يشكين الى الشرطة من ملاحقة النظرات اليهن قائلات: ان هؤلاء السفلة يزجوننا في سجن نظراتهم!

نـخلص مـما تقدم:

ان رفع الـمدنية السفيهة الـحجاب وافساحها الـمجال للتبرج يناقض الفطرة الانسانية. وان امر القرآن الكريـم بالـحجاب – فضلاً عن كونه فطرياً – يصون النساء من الـمهانة والسقوط، ومن الذلة والاسر الـمعنوي ومن الرذيلة والسفالة، وهن معدن الرأفة والشفقة والرفيقات العزيزات لازواجهن في الأبد.

والنساء – فضلاً عما ذكرناه – يـحملن في فطرتهن تـخوفاً من الرجال الاجانب وهذا التـخوف يقتضي فطرة التحجب وعدم التكشف، حيث تتتنغص لذة غير مشروعة لتسع دقائق بتحمل اذى حـمل جنين لتسعة اشهر، ومن بعده القيام بتربية ولد لا حامي له زهاء تسع سنين! ولوقوع مثل هذه الاحتمالات بكثرة تتخوف النساء فطرة خوفاً حقيقياً من غير الـمحارم. وتتجنبهم جبلة، فتنبهها خلقتها الضعيفة تنبيها جادا، الى التحفظ وتدفعها الى التستر، ليحول دون اثارة شهوة غير الـمحارم، وليمنع التجاوز عليها، وتدلـها فطرتها على ان حـجابها هو قلعتها الـحصينة وخندقها الامين.

ولقد طرق سمعنا: ان سباغ أخذية قد تعرض لزوجة رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة الـمفاتن، وراودها نهاراً جهاراً في قلب العاصمة ((انقرة)) ! أليس هذا الفعل الشنيع صفعة قوية على وجوه اولئك الذين لا يعرفون معنى الـحياء من اعداء العفة والـحجاب؟

الـحكمة الثانية:

إن العلاقة الوثيقة والـحب العميق بين الرجل والـمرأة ليسا ناشئين عما تتطلبه الـحياة الدنيا من الـحاجات فـحسب، فالمرأة ليست صاحبة زوجها في حياة دنيوية وحدها، بل هي رفيقته ايضاً في حياة ابدية خالدة.

فما دامت هي صاحبته في حياة باقية فينبغي لـها ألاّ تلفت نظر غير رفيقها الابدي وصديقها الـخالد الى مفاتنها، وألا تزعجه، ولا تـحمله على الغضب والغيرة.

وحيث ان زوجها الـمؤمن، بـحكم ايـمانه لا يـحصر مـحبته لـها في حياة دنيوية فقط ولا يوليها مـحبة حيوانية قاصرة على وقت جـمالـها وزمن حسنها، وانـما يكنّ لـها حباً واحتراماً خالصين دائمين لا يقتصران على وقت شبابها وجـمالـها بل يدومان الى وقت شيخوختها وزوال حسنها، لأنها رفيقتها في حياة ابدية خالدة.. فإزاء هذا لابد للمرأة ايضاً أن تـخص زوجها وحده بـجمالـها ومفاتنها وتقصر مـحبتها به، كما هو مقتضى الانسانية، وإلاّ ستفقد الكثير ولا تكسب الا القليل.

ثم ان ما هو مطلوب شرعاً: ان يكون الزوج كفوءا للمرأة، وهذا يعني ملاءمة الواحد للآخر ومـماثلتهما، واهم ما في الكفاءة هذه هي كفاءة الدين كما هو معلوم.

فما اسعد ذلك الزوج الذي يلاحظ تدين زوجته ويقوم بتقليدها، ويصبح ذا دين، لئلا يفقد صاحبته الوفية في حياة ابدية خالدة!

وكم هي مـحظوظة تلك الـمرأة التي تلاحظ تدين زوجها وتـخشى ان تفرط برفيق حياتها الامين في حياة خالدة، فتتمسك بالإيـمان والتقوى.

والويل ثم الويل لذلك الرجل الذي ينغمس في سفاهة تفقده زوجته الطبية الصالـحة.

ويا لتعاسة تلك الـمرأة التي لا تقلد زوجها التقي الورع، فتخسر رفيقها الكريـم الابدي السعيد.

والويل والثبور لذينك الزوجين الشقيين اللذين يقلدان بعضهما البعض الآخر في الفسوق والفحشاء، فيتسابقان في دفع احدهما الآخر في النار.

الـحكمة الثالثة:

ان سعادة العائلة في الـحياة واستمرارها انـما هي بالثقة الـمتبادلة بين الزوجين، والاحترام اللائق والود الصادق بينهما، الا أن التبرج والتكشف يـخل بتلك الثقة ويفسد ذلك الاحترام والـمحبة الـمتبادلة. حيث تلاقي تسعة من عشرة متبرجات امامهن رجالاً يفوقون ازواجهن جـمالاً، بينما لاترى غير واحدة منهن مَن هو اقل جـمالاً من زوجها ولا تـحبب نفسها اليه. والامر كذلك في الرجال فلا يرى الاّ واحدٌ من كل عشرين منهم مَن هي اقل جـمالاً من زوجته، بينما الباقون يرون امامهم من يفقن زوجاتهن حسنا وجـمالا. فهذه الـحالة قد تؤدي الى انبعاث احساس دنىء وشعور سافل قبيح في النفس فضلاً عما تسببه من زوال ذلك الـحب الـخالص وفقدان ذلك الاحترام، وذلك:

ان الانسان لايـمكنه ان يـحمل فطرة شعوراً دنيئاً حيوانياً تـجاه الـمحارم – كالاخت – لان سيماء الـمحارم تشعر بالرأفة والـمحبة الـمشروعة النابعين من صلة القربى. فهذا الشعور النبيل يـحدّ من ميول النفس الشهوية، الا أن كشف ما لايـجوز كشفه كالساق، قد يثير لدى النفوس الدنيئة حساً سافلاً خبيثاً لزوال الشعور بالـحرمة، حيث ان ملامح الـمحارم تشعر بصلة القرابة، وكونها مـحرماً وتتميز عن غيرهم، لذا فكشفُ تلك الـمواضع من الـجسد يتساوى فيه الـمحرم وغيره، لعدم وجود تلك العلامات الفارقة التي تستوجب الامتناع عن النظر الـمحرّم، ولربـما يهيج لدى بعض الـمحارم السافلين هوى النظرة الـحيوانية! فمثل هذه النظرة سقوط مريع للانسانية تقشعر من بشاعتها الـجلود.

الـحكمة الرابعة:

من الـمعلوم أن كثرة النسل مرغوبة فيها لدى الـجميع، فليس هناك امة ولا دولة لاتدعو الى كثرة النسل، وقد قال الرسول الكريـم e : ((تناكحوا تكثروا فاني أباهي بكم الامـم يوم القيامة))(1). بيد ان رفع الـحجاب وافساح الـمجال امام التبرج والتكشف يـحد من الزواج، بل يقلل من التكاثر كثيراً، لان الشاب مهما بلغ فسوقه وتـحلله، فانه يرغب في ان تكون صاحبته في الـحياة مصونة عفيفة، ولا يريدها ان تكون مبتذلة متكشفة مثله، لذا تـجده يفضل العزوبة على الزواج. وربـما ينساق الى الفساد. اما الـمرأة فهي ليست كالرجل حيث لاتتمكن من ان تـحدد اختيار زوجها.

والـمرأة من حيث كونها مدبرة لشؤون البيت الداخلية، ومأمورة بالـحفاظ على اولاد زوجها وامواله وكل ما يـخصه، فان اعظم خصالـها هي: الوفاء والثقة. الا ان تبرجها وتكشفها يفسد هذا الوفاء ويزعزع ثقة الزوج بها، فتجرع الزوج آلاماً معنوية وعذاباً وجدانياً.

حتى ان الشجاعة والسخاء وهما خصلتان مـحمودتان لدى الرجال اذ ما وجدتا في النساء عدتا من الاخلاق الـمذمومة، لاخلالـهما بتلك الثقة والوفاء، اذ تفضيان الى الوقاحة والاسراف. وحيث ان وظيفة الزوج غير قاصرة على الائتمان على اموالـها، وعلى الارتباط بها بل تشمل حـمايتها والرحـمة بها والاحترام لـها فلا يلزمه ما يلزم الزوجة، أي لا يقيد اختياره بزوجة واحدة، ويـمكنه ان ينكج غيرها من النساء.

ان بلادنا لاتقاس ببلدان اوروبا، فهناك وسائل صارمة للـحفاظ – الى حد ما – على الشرف والعفاف في وسط متبرج متكشف، منها الـمبارزة وامثالـها، فالذي ينظر بـخبث الى زوجة احد الشرفاء عليه ان يعلق كفنه في عنقه مقدماً. هذا فضلاً عن ان طبائع الاوروبيين باردة جامدة كمناخهم. اما هنا في بلاد العالـم الإسلامي خاصة فهي من البلدان الـحارة قياسا الى اوروبا، ومعلوم مدى تأثير البيئة في اخلاق الانسان. ففي تلك الاصقاع الباردة، ولدى أناس باردين قد لايؤدي التبرج الذي يثير الهوى الـحيوانى ويهيج الرغبات الشهوانية الى تجاوز الـحدود مثلما يؤدي الى الافراط والاسراف في اناس حساسين يثارون بسرعة في الـمناطق الـحارة.

التبرج وعدم الـحجاب الذي يثير هوى النفس، ويطلق الشهوات من عقالـها يؤدي حتما الى الافراط وتـجاوز الـحدود والى ضعف النسل وانهيار القوى. حيث ان الرجل الذي يـمكنه ان يقضي وطره الفطري في شهر او في عشرين يوما يظن نفسه مضطرا الى دفعه كل بضعة ايام. وحيث ان هناك عوارض فطرية – كالـحيض – تـجنبه عن اهله وقد تطول خـمسة عشر يوما، تراه ينساق الى الفحش ان كان مغلوبا لنفسه.

ثم ان اهل الـمدن لا ينبغي لهم انّ يقلدوا اهل القرى والارياف في حياتهم الاجتماعية ويرفعوا الـحجاب فيما بينهم، لان اهل القرى يشغلهم شاغل العيش وهم مضطرون الى صرف جهود بدنية قوية لكسب معيشتهم، وكثيرا ما تشترك النساء في اشغال متعبة، لذا لا يهيج ما قد ينكشف من اجزاء اجسامهن الـخشنة شهوات حيوانية لدى الآخرين، فضلاً عن انه لا يوجد في القرى سفهاء عاطلون بقدر ما هو موجود في الـمدن. فلا تبلغ مفاسدها الى عشر ما في الـمدينة، لـهذا لا تقاس الـمدن على القرى والارياف.









[ مسألة مهمة اخطرت على القلب فجأة ]

تنبيـه:

ان دأب رسائل النور في الـخطاب هو الرحـمة والشفقة والرأفة، لذا يرتبط معها النساء اللاتي يتميزن بالشفقة والـحنان اكثر من الرجال. اما هذا الـبحث فانه موجه الى اللاتي يقلدن الاجنبيات تقليداً اعمى، لذا تبدو فيه الشدة في الكلام، وليس ذلك الا لتنبيه الغافلات وايقاظهن. أما اخواتنا رائدات الشفقة والـحنان فنرجو الا تشغلهن شدته في الكلام.

يُفهم من رويات الاحاديث النبوية ان النساء وفتنتهن ستؤدى أخطر دور وأرهبه في فتنة آخر الزمان.

نعم، كما تنقل لنا كتب التاريخ: انه كانت في القرون الاولى طائفة من النساء اشتهرن بالشجاعة وحـمل السلاح يعرفن بـ (نساء الامازون) حتى تشكلت منهن فرقة عسكرية اقتحمت حروباً ضارية، كذلك في عصرنا هذا، لدى تصدى ضلالة الزندقة للإسلام وحربها معه فان أرهب فرقة من الفرق الـمغيرة على الإسلام والتي تسير وفق مخطط النفس الامارة بالسوء، وسلمت قيادها وامرتها الى الشيطان، هي طائفة من النساء الكاسيات العاريات اللائي يكشفن عن سيقانهن ويـجعلنها سلاحاً قاسياً جارحاً ينزل بطعناته على أهل الإيـمان! فيغلقن بذلك باب النكاح ويفتحن أبواب السفاح، اذ يأسرن بغتة نفوسَ الكثيرين ويـجرحنهم جروحاً غائرة في قلوبهم وأرواحهم بارتكابهم الكبائر، بل ربـما يصرعن قسماً من تلك القلوب ويقضين عليها.

وانه لعقاب عادل لهن، أن تصبح تلك السيقانُ الـمدججة بسلاح الفتنة الـجارح حطب جهنم وتـحرق في نارها أول ما يـحرق، لـما كن يكشفنها لبضع سنوات أمام من يـحرم عليهن.

فضلاً عن ذلك فانهن يفقدن الزوج الـمناسب لهن، بل لايستطعن الـحصول عليه وهن في أمس الـحاجة اليه بـحكم الفطرة والـخلقة، لـما كن قد ضيـّعن الثقة والوفاء في الدنيا، بل يصبحن في حالة من الابتذال وفقدان الرعاية والاهمية – نتيجة عدم الرغبة في النكاح وعدم الرعاية لـحقوقه 0 أن يكون رجل واحد قيـّماً على أربعين من النساء، كما ورد ذلك في الـحديث الشريف(1).

فما دامت الـحقيقة هكذا.. وما دام كلُّ جميل يـحب جـماله، ويـحاول جهده الـمحافظة عليه، ولا يريد أن يُمَسّ بسوء.. وما دام الـجمال نعمة مهداة، والنعمة إن حُمدت عليها زادت وان قوبلت بالنكران تغيـّرت.. فلاشك ان الـمرأة الـمالكة لرشدها ستهرب بشدة وبكل مالديها من قوة من ان تـجعل جمالـها وسيلة لكسب الـخطايا والذنوب وسوق الآخرين عليها.. وستفر حتماً من ان تـجعل جمالـها يتحول الى قبح دميم وجـمال منحوس مسموم.. وستنهزم بلاشك من ان تـجعل بالنكران تلك النعمة الـمهداة مدار عذاب وعقاب.

لذا ينبغي للمرأة الـحسناء استعمال جمالـها على الوجه الـمشروع ليظل ذلك الـجمال الفاني خالداً دائماً بدلاً من جمال لا يدوم سوى بضع سنين، فتكون عندئذ قد أدت شكر تلك النعمة. والاّ ستتجرع الآلام والعذاب في وقت شيخوختها، وستبكي وتندب على نفسها يائسة نادمة لشدة ما ترى من استثقال الآخرين لـها واعراضهم عنها.

أما اذا زُين ذلك الـجمال بزينة آداب القرآن الكريـم وروعي الرعاية اللائقة ضمن نطاق التربية الإسلامية، فسيظل ذلك الـجمال الفاني باقياً – معنى – وستمنح الـمرأة جـمالاً هو أجـمل وأبهى وأحلى من جـمال الـحور العين في الـجنة الـخالدة كما هو ثابت في الـحديث الشريف(2). فلئن كانت لتلك الـمرأة مسكة من عقل، فلن تدع هذه النتيجة الباهرة الـخالدة قطعاً ان تضيع منها.







حوار مع الـمؤمنات، اخواتي في الآخرة



باسـمه سبحانه

حينما كنت اشاهد في عدد من الولايات اهتمام النساء برسائل النور اهتماماً حاراً خالصاً وعلمت اعتمادهن على دروسي التي تـخص النور بـما يفوق حدي بكثير، جئت مرة ثالثة الى مدرسة الزهراء الـمعنوية، هذه الـمدينة الـمباركة ((اسبارطة))، فسمعت ان اولئك النساء الطيبات الـمباركات، اخواتي في الآخرة، ينتظرون مني ان القي عليهن درسا، على غرار ما يلقى في الـمساجد من دروس الوعظ والارشاد. بيد أني اعاني امراضاً عدة، مع ضعف وانهاك شديدين حتى لا استطيع الكلام ولا التفكر. ومع ذلك فقد سنحت بقلبي هذه الليلة خاطرة قوية، هي:

انك قد كتبت قبل خـمس عشرة سنة رسالة (مرشد الشباب) بطلب من الشباب انفسهم، وقد استفاد منها الكثيرون، بينما النساء هن احوج الى مثل هذا ((الـمرشد)) في هذا الزمان.

فازاء هذه الـخاطرة وعلى الرغم مـما اعانيه من اضطراب ومن عجز وضعف كتبت في غاية الاختصار لأخواتي الـمباركات ولبناتي الـمعنويات الشابات بعض ما يلزمهن من مسائل، ضمن نكات ثلاث.

النكتة الاولى:

لـما كان اهم اساس من اسس رسائل النور هو ((الشفقة)) وان النساء هن رائدات الشفقة وبطلات الـحنان، فقد اصبحن اكثر ارتباطاً برسائل النور فطرة. فهذه العلاقة الفطرية تُحس بها في كثير من الاماكن ولله الـحمد والـمنة.

ولقد غدت التضحية التي تنطوي عليها الشفقة والـحنان ذات اهمية عظمى في زماننا هذا، اذ انها تعبر عن اخلاص حقيقي وفداء دون عوض ومقابل.

نعم! ان فداء الام بروحها انقاذاً لولدها من الـهلاك من دون انتظار لأجر، وتضحيتها بنفسها باخلاص حقيقي لاولادها باعتبار وظيفتها الفطرية، تدلان على وجود بطولة سامية رفيعة في النساء، بـحيث يستطعن ان ينقذن حياتهن الدنيوية والاخروية بانكشاف هذه البطولة وانـجلائها في انفسهن، إلا ان تيارات فاسدة تـحول دون ظهور تلك السجية القيمة القويـمة وتـمنع انكشافها، او تصرف تلك التيارات هذه السجية الطبية الى غير مـحالـها فتسىء استعمالـها.

نورد هنا مثالا واحدا من مئات امثلتها:

ان الوالدة الـحنونة تضع نصب عينها كل فداء وتضحية لتمنع عن ولدها الـمصائب والـهلاك، لتـجعله يستفيد في الدنيا. فتربي ولدها على هذا الاساس، فتنفق جـميع اموالـها ليكون ابنها عظيماً وسيداً آمراً. فتراها تأخذ ولدها من الـمدارس العلمية الدينية وترسله الى اوروبا، من دون ان تفكر في حياة ولدها الابدية التي تصبح مهددة بالـخطر.

فهي اذ تسعى لتنقذه من سجن دنيوي، لا تهتم بوقوعه في سجن جهنم الابدي، فتتصرف تصرفا مـخالفة لفطرتها مـخالفة كلية، اذ بدلا من ان تـجعل ولدها البرىء شفيعا لـها يوم القيامة تـجعله مدعياً عليها، اذ سيشكو ذلك الولد هناك قائلا لـها: ((لِمَ لـم تقوى ايـماني حتى سببت في هلاكي هذا؟!)).

وحيث انه لـم يأخذ قسطاً وافراً من التربية الإسلامية، فلا يبالي بشفقة والدته الـخارقة، بل قد يقصر في حقها كثيراً.

ولكن اذا ما سعت تلك الوالدة الى انقاذ ولدها الضعيف من السجن الابدي الذي هو جهنم، ومن الاعدام الابدي الذي هو الـموت في الضلالة، بشفقتها الـحقيقية الـموهوبة دون الاساءة في استعمالـها، فان ولدها سيوصل الانوار دوما الى روحها بعد وفاتها، اذ يسجل في صحيفة اعمالـها مثل جـميع الـحسنات التي يعملها الولد. كما سيكون لـها ولداً طيبا مباركا ينعمان معا حياة خالدة، شفيعا لـها عند الله ما وسعها، لا شاكيا منها ولامدعيا عليها.

نعم! ان اول استاذ الانسان واكثر من يؤثر فيه تعليماً، انـما هو والدته.

سأبين بهذه الـمناسبة هذا الـمعنى الذي اتـحسسه دائماً احساساً قاطعاً في شخصي، وهو:

اقسم بالله ان ارسخ درس اخذته، وكأنه يتجد عليّ، انـما هو تلقينات والدتي رحـمها الله ودروسها الـمعنوية، حتى استقرت في اعماق فطرتي واصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم اني قد اخذت دروساً من ثمانين الف شخص، بل ارى يقينا ان سائر الدروس انـما تبنى على تلك البذور.

بـمعنى اني اشاهد درس والدتي – رحـمها الله – وتلقيناتها لفطرتي وروحي وانا في السنة الاولى من عمري، بذور اساس ضمن الـحقائق العظيمة التي اراها الآن وانا في الثمانين من عمري.

مثال ذلك:

ان ((الشفقة)) التي هي اهم اساس من الاسس الاربعة في مسلكي ومشربي في الـحياة.. وان ((الرأفة والرحـمة)) التي هي حقيقة عظمى ايضاً من حقائق رسائل النور، اشاهدهما يقينا بانهما نابعتان من افعال تلك الوالدة الرؤوف ومن احوالـها الشفيقة ومن دروسها الـمعنوية.

نعم! ان الشفقة والـحنان الكامنين في الامونة والتي تـحملها باخلاص حقيقي وتضحية وفداء قد أسىء استعمالـها في الوقت الـحاضر، اذ لا تفكر الام بـما سينال ولدها في الآخرة من كنوز هي اثمن من الالـماس، بل تصرف وجهه الى هذه الدنيا التي لاتعدل قطعاً زجاجية فانية، ثـم تشفق على ولدها وتـحنو عليه في هذا الـجانب من الـحياة. وما هذا الااساءة في استعمال تلك الشفقة.

ان مـما تثبت بطولة النساء في تضحيتهن العظيمة دون انتظار لأجر ولاعوض، من دون فائدة يجنينها لانفسهن ومن دون رياء واظهار لأنفسهن، هي استعدادهن للفداء بأرواحهن لأجل الولد، اقول ان مـما يثبت ذلك هو ما نراه في الدجاجة التي تـحمل مثالا مصغراً من تلك الشفقة، شفقة الامومة وحنانها، فهي تهاجم الاسد، وتفدي بروحها، حفاظا على فراخها الصغار.

وفي الوقت الـحاضر، ان ألزم شيء واهم اساس في التربية الإسلامية واعمال الآخرة، انـما هو ((الاخلاص)) فمثل هذه البطولة الفائقة في الشفقة تضم بين جوانـحها الاخلاص الـحقيقي.

فاذا ما بدت هاتان النقطتان في تلك الطائفة الـمباركة، طائفة النساء، فانهما سيكونان مدار سعادة عظمى في الـمحيط الإسلامي.

اما تضحية الآباء فلا تكون دون عوض قطعاً، وانـما تطلب الاجر والـمقابل من جهات كثيرة تبلغ الـمائة، وفي الاقل تطلب الفخر والسمعة. ولكن مع الاسف فان النساء الـمباركات يدخلن الرياء والتملق بطراز آخر وبنوع آخر نتيجة ضعفهن وعجزهن، وذلك خلاصا من شر ازواجهن الظلمة وتسلطهم عليهن.

النكتة الثانية:

لـما كنت في هذه السنة معتزلا الناس مبتعداً عن الـحياة الاجتماعية، نظرت الى الدنيا نزولا لرغبة اخوة واخوات من النوريين، فسمعت من اغلب من قابلني من الاصدقاء، شكاوى عن حياتهم الاسرية. فتأسفت من الاعماق وقلت: ((اوَ دَبّ الفسادُ في هذه الـحياة ايضاً؟ ان الـحياة الاسرية هي قلعة الانسان الـحصينة، ولاسيما الـمسلم، فهي كجنته الـمصغرة ودنياه الصغيرة)).

فتشت عن السبب الذي ادى الى فسادها. علمت ان هناك منظمات سرية تسعى لاضلال الشباب وافسادهم بتذليل سبل الشهوات امامهم وسوقهم الى السفاهة والغواية لافساد الـمجتمع الإسلامي والاضرار بالدين الإسلامي، كما احسست ان منظمات ايضاً تعمل في الـخفاء وتسعى سعياً جاداً مؤثراً لدفع الغافلات من النساء اللطيفات الى طرق خاطئة آثمة. وادركت ان ضربة قاصمة على هذه الامة الإسلامية تأتي من تلك الـجهة.

فانا ابين بيانا قاطعا، يا اخواتي ويا بناتي الـمعنويات الشابات!

ان العلاج الناجح لانقاذ سعادة النساء من الافساد في دنياهن واخراهن معا، وان الوسيلة الوحيدة لصون سجاياهن الراقية اللاتي في فطرتهن من الفساد، ليس الا في تربيتهن تربية دينينة ضمن نطاق الإسلام الشامل.

انكن تسمعن ما آلت اليه حال تلك الطائفة الـمباركة في روسيا!

وقد قيل في جزء من رسائل النور:

ان الزوج الرشيد لايبني مـحبته لزوجته على جـمال ظاهري زائل لا يدوم عشر سنوات، بل عليه ان يبني مودته لـها على شفقتها التي هي اجـمل مـحاسن النساء وادومه، ويوثقها بـحسن سيرتها الـخاصة بانوثتها، كي تدوم مـحبته لـها كلما شابت تلك الزوجة الضعيفة، اذ هي ليست صاحبته ورفيقته في حياة دنيوية مؤقتة، وانـما هي رفيقته الـمحبوبة في حياة ابدية خالدة. فيلزم ان يتحابا باحترام ازيد ورحـمة أوسع، كلما تقدما في العمر. اما حياة الاسرة التي تتربى في احضان الـحديثة فهي معرضة للانهيار والفساد، حيث تبنى العلاقة فيها على صحبة مؤقتة يعقبها فراق ابدي.

وكذلك قيل في جزء من رسائل النور:

ان السعيد هو ذلك الزوج الذي يقلد زوجته الصالـحة فيكون صالـحاً مثلها، لئلا يفقد رفيقته في حياة ابدية خالدة.

وكم هي سعيدة تلك الزوجة التي ترى زوجها متدينا فتتمسك بأهداب الدين لئلا تفقد رفيقها الابدي، فتفوز بسعادة آخرتها ضمن سعادة دنياها!

وكم هو شقي ذلك الزوج الذي يتبع زوجته التي ارتـمت في احضان السفاهة فيشاركها ولا يسعى لانقاذها!

وما اشقاها تلك الزوجة التي تنظر الى فجور زوجها وفسقه وتقلده بصورة اخرى!

والويل ثم الويل لذينك الزوجين اللذين يعين كل منهما الآخر في دفعه الى النار، أي يغري كل منهما الآخر للانغماس في زخارف الـمدنية.

وفـحوى هذه الـجمل التي وردت بهذا الـمعنى في رسائل النور هو:

انه لا يـمكن ان يكون – في هذا الزمان – تنعمّ بـحياة عائلية وبلوغ لسعادة الدنيا والآخرة وانكشاف لسجايا راقية في النساء الا بالتأدب بالآداب الإسلامية التي تـحددها الشريعة الغراء.

ان اهم نقطة وجانب في حياة الاسر في الوقت الـحاضر هي:

انه اذا ما شاهدت الزوجة فسادا في زوجها وخيانة منه وعدم وفاء، فقامت هي كذلك – عنادا له – بترك وظيفتها الاسرية وهي الوفاء والثقة فتفسدهما، يختل عندئذٍ نظام تلك الاسرة كليا ويذهب هباء منثوراً، كالاخلال بالنظام في الـجيش.

فلابد للزوجة ان تسعى جادة لإكمال نقص زوجها واصلاح تقصيره كي تنقذ صاحبها الابدي، والا فهي تـخسر وتتضرر في كل جانب اذا ما حاولت اظهار نفسها وتـحبيبها للآخرين بالتكشف والتبرج، لان الذي يتخلى عن الوفاء يـجد جزاءه في الدنيا ايضاً. لان فطرتها تتجنب غير الـمحارم وتشمئز منهم. فهي تـحترز من ثمانية عشرة شخصاً من كل عشرين شخصاً اجنبياً، بينما الرجل قد لا يشمئز من النظر الى امرأة واحدة من كل مائة اجنبية.

فكما ان الزوجة تعاني من العذاب من هذه الـجهة فهي تضع نفسها موضع اتهام ايضا بعدم الوفاء وفقدان الثقة والوفاء فلا تستطيع الـحفاظ على حقوقها فضلا عن ضعفها.

حاصل الكلام:

كما ان النساء لايشبهن الرجال – من حيث الشفقة والـحنان – في التضحية ولا في الاخلاص، وان الرجال لا يبلغون شأوهن في التضحية والفداء. كذلك لا تدرك الـمرأة الرجل في السفاهة والغي بأي وجه من الوجوه، لذا فهي تـخاف كثيراً بفطرتها وخلقتها الضعيفة من غير الـمحارم وتـجد نفسها مضطرة الى الاحتماء بالـحجاب. ذلك لان الرجل اذا غوى لاجل تلذذ ثماني دقائق لايتضرر الا بضع ليرات، بينما الـمرأة تـجازى على ثـماني دقائق من اللذة ثقلاً ثمانية اشهر وتتحمل تكاليف تربية طفل لا حامي له طوال ثـماني سنوات. بـمعنى ان الـمرأة لاتبلغ مبلغ الرجال في السفاهة، وتعاقب عليها اضعاف اضعاف عقاب الرجل.

ان هذه الـحوادث ليست نادرة وهي تدل على ان النساء مـخلوقات مباركة خُلقن ليكنّ منشأ للاخلاق الفاضلة، اذ تكاد تنعدم فيهن قابلية في الفسق والفجور للتمتع باذواق الدنيا. بـمعنى ان النساء نوع من مـخلوقات طبية مباركة، خلقن لاجل قضاء حياة اسرية سعيدة ضمن نطاق التربية الإسلامية.

فتباً وسحقاً لتلك الـمنظمات التي تسعى لافساد هؤلاء الطيبات.

واسأله تعالى ان يـحفظ اخواتي من شرور هؤلاء السفهاء الفاسدين.. آمين..

اخواتي! اقول لكـُنّ هذا الكلام بشكل خاص:

اعملن على كسب نفقاتكن بعمل ايديكن كما تفعل نساء القرى الطيبات واكتفين بالاقتصاد والقناعة الـمغروزتين في فطرتكن. وهذا اولى من بـخس انفسكن بسبب هموم العيش بالرضوخ لسيطرة زوج فاسد، سيء الـخلق، متفرنـج. واذا ما كان حظ احداكن وقسمتها زوجا لا يلائمها، فلترض بقسمتها ولتقنع، فعسى الله ان يصلح زوجها برضاها وقناعتها. والاّ ستراجع الـمحاكم لاجل الطلاق – كما اسمع في الوقت الـحاضر – وهذا لا يليق قطعاً بعزة الإسلام وشرف الامة.

النكتة الثالثة:

اخواتي العزيزات!

اعلمن قطعاً! ان الاذواق والـمتع الـخارجة عن حدود الشرع فيها من الآلام والـمتاعب اضعاف اضعاف لذائذها. وقد اثبتت رسائل هذه الحقيقة بـمئات من الدلائل القوية والـحوادث القاطعة. ويـمكنكن ان تـجدن تفاصيلها في رسائل النور.

فمثلاً: الكلمة السادسة والسابعة والثامنة من ((الكلمات الصغيرة)) و ((مرشد الشباب)) تبين لكن هذه الـحقيقة بوضوح تام نيابة عني. فعليكن اذاً القناعة والاطمئنان والاكتفاء بـما في حدود الشرع من اذواق ولذائذ، فملاطفة اودكن الابرياء ومداعبتهم ومـجالستهم في بيوتكن متعة نزيهة تفضل مئات الـمرات متعة السينما.

واعلمن يقيناً! ان اللذة الـحقيقية في هذه الدنيا انـما هي في الإيـمان وفي حدود الإيـمان. وان في كل عمل صالح لذة معنوية، بينما في الضلالة والغي آلاما منغصة في هذه الدنيا ايضاً. هذه الـحقيقة اثبتتها رسائل النور بـمئات من الادلة القاطعة. فانا شخصياً شاهدت بعين اليقين عبر تـجارب كثيرة وحوادث عديدة: ان في الإيـمان بذرة جنة، وفي الضلالة والسفه بذرة جهنم. وقد كتبت هذه الـحقيقة مرارا في رسائل النور حتى عجز اعتى الـمعاندين والـخبراء الرسميون والـمحاكم عن جرح هذه الـحقيقة.

فلتكن الآن ((رسالة الـحجاب)) في الـمقدمة و ((مرشد الشباب)) و ((الكلمات الصغيرة)) نائبة عني في القاء الدرس عليكن يا اخواتي الطيبات الـمباركات ويا من هن بـمثابة بناتي الصغيرات. فلقد سـمعت انكن ترغبن في ان القي عليكن درساً في الـجامع، ولكن مرضي الشديد، فضلاً عن ضعفي الشديد، واسباب اخرى، تـحول دون ذلك. لذا فقد قررت ان اجعلكن يا اخواتي اللاتي تقرأن درسي هذا الذي كتبته لكنّ مشاركات لي في جـميع مكاسبي الـمعنوية وفي دعواتي، كطلاب النور.

واذا استطعتن الـحصول على رسائل النور وقرأتنها او استمعتن اليها، نيابة عني، فانكن تصبحن مشاركات لإخوانكن طلاب النور في جـميع مكاسبهم الـمعنوية وادعيتهم حسب قاعدتنا الـمقررة.

كنت ارغب ان اكتب اليكن اكثر من هذا ولكن اكتفيت بهذا القدر لـمرضي الشديد وضعفي الشديد وشيخوختي وهرمي، وواجبات كثيرة تنتظرني كتصحيح الرسائل.

الباقي هو الباقي

اخوكم الـمحتاج الى دعائكن

سعيد النورسي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الألعاب التراثية القديمة.. من ذاكرة الريف السوري عبدالقادر حمود ركن وادي الفرات 0 06-05-2010 11:15 AM
برنامج DirectX 11 for Windows XP and VISTA لزيادة توافق الألعاب والبرامج الجديدة احمد قسم الحاسوب 3 08-04-2009 01:01 PM


الساعة الآن 12:13 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir