الإنشاد الديني يوقد في النفس جذوة الإيمان ويوقظ قبس الفكر
الإنشاد يذكّر بعظمة الله وحبه وسيرة النبي العطرة
الإنشاد الديني يوقد في النفس جذوة الإيمان ويوقظ قبس الفكر
ارشيفية ©إحدى فرق الإنشاد الديني
الاتحاد
الإنشاد الديني هو الإنشاد الذي يتصل بالدين من كل جوانبه، من خلال كلماته وموسيقاه، وهو أحد الفنون الإنسانية التي يلجأ إليها المرء، ليروي بها ظمأ روحه العطشى إلى السكينة والأمان، وقد يلوي عليها ليثبت في نفسه جواً من الفرح والسرور والأنس والطرب، وقد لاقى هذا النوع من الإنشاد عناية خاصة عبر تاريخنا الإسلامي، وثبت أنّ النبي استمع إلى الشعر والإنشاد في مسجده، كما استمع إلى الإنشاد والغناء مع الضرب بالدف في مناسبة العيد، من ذلك أن جَارِيَة فقَالَتْ للنبي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: “إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلاّ فَلا”، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ”، وروت السيدة عائشة أيضاً: أنها زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: “يَا عَائِشَةُ، مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ”، وفي رواية: “هل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني”؟ قالت: نقول ماذا؟ قال: تقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييـــكم
ولولا الذهب الأحمر
ما حلّت بواديـكم
ولولا الحنطة السمرا
ما سمنت عذاريكم
السلف الصالح
هناك الكثير من الأحاديث الأخرى التي تُوحي بإباحة هذا اللون من الإنشاد، بل التشجيع عليه أحياناً، وكذلك روي عن العديد من الصحابة الكرام والتابعين والسلف الصالح أنهم كانوا يستحسنون هذا النوع من الإنشاد، لأنه يحيي في النفس جذوة الإيمان، ويوقظ في العقل قبس الفكر، ويشجع على مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة، أو هو من اللهو المباح الذي يروَّح به عن النفس في ساعة الضيق.
وعبر التاريخ الإسلامي عُني ثلة من الشعراء بنظم قصائد مغنّاة وأناشيد هادفة، كالتي تذكّر بعظمة الله وحبه، أو التي فيها ذكر للنبي وسيرته العطرة ومعجزاته، ووصفه خلقاً وخُلقاً، وتشوف المؤمنين لرؤيته، وكذا حب الصحابة والصالحين، أو التي فيها وصف للجنة والنار، وأحوال الآخرة، أو تلك التي تعبِّر عن قيمة دينية، أو تنطق بموعظة إسلامية، أو حكمة بالغة مستقاة من صميم الشريعة أو من وحي تجارب الحياة وصراعاتها.. وقد عبّرت هذه الأناشيد - في كثير من الأحيان - خير تعبير عن المعاني الإسلامية الهادفة، التي رنا إليها الإسلام.
العصر الحديث
الملاحظ أنَّ هذا النوع من الإنشاد الديني ازداد انتشاراً في العصر الحديث، حتى صارت له مدارس مستقلة في تعليمه وصياغته، وفرق خاصة تمتهن هذا الفنّ، ودخل فيه التصوير، والمؤثرات الصوتية، واحتل مساحات واسعة في الفضائيات، وصارت الحفلات الإنشادية بديلاً عن الفرق الفنية المعتادة عند كثير من الناس في حفلات أعراسهم ومناسباتهم الخاصة والعامة. وقد ساهمت هذه الأناشيد إلى حدّ ما في نشر الصورة السمحة للإسلام، والتعريف بالقيم الأخلاقية والإنسانية، ولاقت قبولاً وإقبالاً من الشباب، زاد من جماهيريتها بشكل ملحوظ.
ويُعزى الدافع الأول في انتشار هذه الأناشيد - وخاصة في زماننا هذا - إلى الرغبة في تسويق الأنشودة كبديل عن الغناء غير المنضبط، الذي يحمل في طياته كلمات غير لائقة، وكذلك تحقيق أهداف تربوية من خلال هذا الفنّ، تعزز في نفوس الفتيان والفتيات الانتماء لدينهم وتاريخهم وأمجادهم، وتزكّي فيهم المعاني الإسلامية السامية، ولا شك في أنّ هذه الأسباب والأهداف وغيرها جديرة بالاهتمام، لأنَّ شخصية الإنسان بطبيعتها تطلب نوعاً معيناً من الطرب والسماع، أي إنَّ السماع من الأبعاد الوجودية للإنسان التي لا يجوز معاداتها، فإذا لم تجد النفس أمامها إلا هذا النوع من الغناء، تعلَّقت به، وعندها ستتغلغل معاني تلك الأغاني في نفس المستمع، لتصل إلى عقله الباطن، وتسهم في تكوين أفكاره، ومن هنا تبرز الحاجة لإشباع هذه النزعة الفطرية بما يتوافق مع الشرع والدين عن طريق هذا الإنشاد الديني الهادف والمفيد.
غايات نبيلة
هذه الغايات النبيلة كغيرها من مثيلاتها، لابدَّ أن تقيَّد بالضوابط الشرعية حتى نضمن تحقيق الأهداف المأمولة منها، فمن هذه الضوابط:
◆ مراعاة القيم الأخلاقية بانتقاء الكلمات والموضوعات التي تعبر عن المعاني السامية.
◆ مراعاة الأصول الفنية: فلابد أن تؤدى الأنشودة بألحان تتقبلها الآذان من غير إزعاج أو صخب.
◆ مراعاة الأحكام الشرعية: كمسألة الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، والانشغال بالنشيد عن طاعة الله وأداء الواجبات، إذ لا إشكال في السماع، وإنما في حصر الهمة فيه وترك باقي الأبعاد الإنسانية مثل البعد الديني والأخلاقي والروحي والعقلاني.
◆ مراعاة الأعراف العامة، وذلك بالابتعاد عن كلِّ ما يؤدي إلى حدوث خلافات، أو نزاعات، أو تحديات لعموم الناس.
◆ التوازن والاعتدال: فينبغي على المنشد أن يتجنب الإطراء الموصل إلى الوقوع في المنهيات الشرعية وخاصة فيما يتعلق بمدح النبي وذكر أوصافه.
(دع ما ادعته النصارى فى نبيهم. واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم.)
◆ مراعاة خصائص الفنّ الإسلامي ورونقه وبريقه ورنينه الخاص وسماته التي تميزه عن الأغنية، وتجعله في منزلة علية ودرجة رفيعة.
◆ مراعاة السمات العامة: فلا بدّ من تميز المنشدين بالمظهر اللائق، والإلقاء المتزن.
- مراعاة الجانب الوجداني: فلا ينبغي أن يكون الهدف الأول للمنشد الكسب المادي، لأنَّ هذا الأمر أيضاً يتنافى مع مقاصد هذا الفنّ الهادف.
◆ مناصحة أهل العلم والمعرفة للاستنارة بتوجيهاتهم وآرائهم، بغية الوصول إلى النهضة الفنية الإسلامية على وجهها الصحيح.
◆ الاهتمام باللغة العربية وعدم الاستهانة أو التفريط بها، عن طريق استخدام الكلمات واللهجات الغريبة، أو تركيب الجمل بطريقة ركيكة، بحجة ضعف المستوى اللغوي عند الناس.
الإطار الإنساني للإنشاد الديني
يجب أن نعترف بأن الإنشاد الديني تمكن من عبور الإطار الخاص إلى الإطار العام الإنساني، الذي يخاطب النفس البشرية التواقة للخير، وبات من الضروري أن يرقى النشيد إلى العالمية ليسهم في عرض كل القضايا الإنسانية، لأنَّ الأنشودة رسالة، ينبغي أن تحمل في طياتها معاني إرشادية، وهذا يتطلب المزيد من الجهد المؤسس على الإخلاص، مع التزام المنشدين بالقيم الدينية والأخلاق الفاضلة والسمت التربوي.
د. أنس محمد قصار
التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 08-13-2011 الساعة 03:11 AM