من تاريخ البحرية الإسلامية
مواجهة الخطر البيزنطي
لعلّه من المفيد أوّلاً أن نذكر في مقدّمة هذا البحث، أن القوى البحريّة العربيّة، كانت تشغل منذ وقت مبكّر من تاريخ الفتوح، يعود إلى عام 26ه وهو تاريخ فتح طرابلس الشام، مركزاً طليعيّاً في تاريخ البحار والمحيطات التي كانت معروفة في ذلك الوقت. وقد اقترن تاريخ هذه القوى البحرية العربية منذ بدء ظهورها أو تأسيسها في بلاد الشام ومن ثم مصر، بحركة الفتوحات العربيّة الإسلاميّة، التي كانت قد بدأت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، واستمرت طوال عهد الخلفاء الراشدين والأمويين. إذ وجد قادة الفتح العربي، أن في بلاد الشام أو في مصر، خصوصاً بعدما أصبح لديهم سواحل متصلة بأعماق البحار ضرورة أن ينتهجوا سياسة بحرية، تدفع عنهم أذى الحملات البحرية البيزنطية التي كانت تعمل جاهدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المدن الساحليّة التي كانت تتساقط تحت وقع الضربات العربيّة البريّة.
المرابطون على الشواطئ
ويقول غير واحدٍ من الباحثين، إنّه كان لزاماً على العرب بعد أن تمّ لهم فتح الشام ومصر، وأصبحت لديهم سواحل متصلة تطل على البحر المتوسط، أن ينتهجوا سياسة بحرية رضوا أم كرهوا، لأنّ استيلاءهم على الشام ومصر أدّى إلى تمزق وحدة الإمبراطورية البيزنطيّة، وحكم بفصل بيزنطة عن ولاياتها التابعة لها، وأصبح البحر وحده الوسيلة الوحيدة للربط بين أجزاء هذه الإمبراطورية، مما كان ينذر بقيام صراع بحري مرير بين القوى الإسلاميّة التي كانت تعتمد اعتماداً تاماً على المعارك البريّة والقوى البيزنطية التي كانت تتفوّق في الحروب البحريّة، وذلك من أجل حسم مسألة السيطرة على حوض البحر المتوسط، والتي تؤدي بصورة طبيعية إلى حسم الأمور في جميع السواحل الشامية والتي تطلّ عليه.
فقبل عام 26ه، كنّا نرى بيزنطة مثلاً تقوم بحملات بحرية على كثير من المدن الساحلية في سوريا ولبنان وفلسطين من أجل استرداد الساحل الشامي، وكان من بينها حملتها البحرية الشهيرة التي قامت بها سنة 23ه والتي باءت بالفشل، مما كان يدفع بالعرب أولاً بأول لتوسّل الوسائط الدفاعية البريّة من أجل مواجهة الخطر البيزنطي الذي كان يتربص بثغورهم المفتتحة حديثاً في ذلك الوقت، فاتجهوا إلى ترميم الحصون الساحليّة وإقامة الأربطة والمناظر والمسالح على طول الساحل وشحنها بالمقاتلة، واتخاذ المواقيد للإنذار باقتراب سفن الروم من السواحل، بل إن معاوية وهو بعد والٍ على الشام نقل أهالي المناطق الداخليّة إلى هذه السواحل، ومنحهم فيها الإقطاعات الواسعة، مستهدفاً من وراء ذلك تشجيعهم على ركوب البحر. وعلى هذا النحو أصبحت سواحل الشام مبثوثة بالقلاع والأبراج التي كانت أشبه شيء بسور، يمتدّ بحذاء الساحل، اعتمد عليه العرب في الدفاع البحري، وحظيت سواحل عكا وصور وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس وعرقة وأنطاكية بقلاع ومحارس، كانت تشحن بالحاميات العسكرية المرابطة التي أخذت على عاتقها أمر حراسة الشواطىء الشاميّة من هجمات السفن البيزنطيّة المغيرة.
وفي خطوة لاحقة في زمن الخليفة الراشدي عثمان بن عفّان رضي الله عنه بدأ العرب بمجاراة البيزنطيين في اصطناع سياسة بحرية، دفاعيّة وهجوميّة في وقت واحدٍ معاً، وذلك حين عمدوا أيضاً إلى إنشاء الأساطيل الحربيّة، مستعينين على تحقيق هذا الأمر بأهل البلاد الذين استقبلوا الفاتحين العرب، ودخلوا معهم في طور جديد من التأسيس والبناء. إذ كان لملاّحي بلاد الشام تجارب بحرية عظيمة وقديمة، تعود إلى تاريخ عريق في ركوب البحار وخوض عبابها ومواجهة كوارثها الطبيعية والعسكرية. ونحن لا ننسى أن التاريخ البحري للفينيقيين كان قد حفل بأمجادٍ وبطولات منذ أقدم العصور، وحتى زمن الرومان والبيزنطيين أيضاً.
__________________