أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعملت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-02-2011
  #31
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 331
السانحات
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة
إحسان قاسم الصالحى
صيقل الإسلام/السانحات - ص: 332
افادة مرام

حينما كنت اتدبّر في بعض الآيات الكريمة خطرت على قلبي نكات لطيفة، فدونّتها على صورة ملاحظات ومذكرات.. فيا قارئي العزيز لاتضجر من اسلوبي الموجز فلست غنياً بالالفاظ كما لا احب الاسراف. ولاتعجبني الالفاظ المنمقة. . خذ من كل شئ احسنه. سر على هذه القاعدة. فما لايعجبك ولا يروق لك دعه لي، ولاتعترض.
سعيد
صيقل الإسلام/السانحات - ص: 333
بسم الله الرحمن الرحيم
(إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
(العصر :3)

سنبين حكمة "الاطلاق" فقط. فالقرآن الكريم يترك "الصالحات" مطلقة دون قيد يقيدها، ومبهمة دون ان يشخصها، وذلك:
ان الفضائل والاخلاق، وكذا الحسن والخير، اغلبها امور نسبية، تتغير كلما عبرت من نوع الى آخر، وتتباين كلما نزلت من صنف الى صنف، وتختلف كلما بدّلت مكاناً بمكان، وتتبدل باختلاف الجهات، وتتفاوت ماهيتها كلما علت من الفرد الى الجماعة ومن الشخص الى الامة.
فمثلاً: الشجاعة والكرم في الرجل تدفعانه الى النخوة والتعاون، بينما تسوقان المرأة الى النشوز والوقاحة وخرق حقوق الزوج.
ومثلاً: ان عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي، لو كانت في القوي لكانت تكبّراً، وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف، لو كان في الضعيف لكان تذللاً.
ومثلاً: ان جدّية ولي الامر في مقامه وقارٌ، بينما لينُه ذلة. كما ان جديّته في بيته دليل على التكبر، ولينه دليل على التواضع.
ومثلاً: ان تفويض الامر الى الله في ترتيب المقدمات كسل، بينما في ترتّب النتيجة توكل. كما ان رضا المرء بثمرة سعيه وقسمته قناعة، يقوي فيه الرغبة في السعي، بينما الاكتفاء بالموجود تقاصر في الهمة.
ومثلاً: ان صفح المرء ــ عن المسيئين ــ وتضحيته بما يملك، عملٌ صالح، بينما هو خيانة ان كان متكلماً عن الغير ــ باسم الجماعة ــ وليس له ان يتفاخر بشئ يخصّه، ولكن يمكنه ان يفخر باسم الامة من دون ان يهضم حقها.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 334
وهكذا رأيت في كل مما ذكرنا مثالاً، فاستنبط بنفسك. اذ القرآن الكريم خطاب الهي شامل لجميع طبقات الجن والانس، ولكل العصور، والاحوال والظروف كافة.
وحيث ان الحسن النسبي والخير النسبي كثير جداً، فان اطلاق القرآن اذن في "الصالحات" ايجاز بليغ لاطناب طويل. وان سكوته عن بيان انواع الصالحات كلام واسع.
***

(وان الفجّار لفي جحيم) (الانفطار: 14)
العاقبة دليل العقاب، الحدس يدل عليه؛ فعاقبة المعصية التي تقع في الدنيا، امارة حدسية ان عاقبتها تؤول الى عقاب؛ لان اي انسان كان يرى حدساً وبتجربته الخاصة، ان المعصية تنجر الى عاقبة سيئة وخيمة - رغم عدم وجود علاقة طبيعية بينهما - فهذه الكثرة الكاثرة من التجارب الشخصية، والتي تقع في ميدان واسع جداً، لاتكون نتيجة مصادفة قط. فلو اخذنا هذه التجارب الشخصية بنظر الاتبار، ظهر لدينا ان نقطة الاشتراك بينها هي طبيعة المعصية المستلزمة للعقاب. فالعقاب اذن لازم ذاتي للمعصية.
ولما كان هذا اللازم الضروري يترتب - على الاغلب - في الدنيا على طبيعة المعصية وحدها، فلاشك ان ما لم يترتب عليه في هذه الدنيا سيترتب عليه في الدار الآخرة.
فيا ترى هل هناك احدٌ لم يمر بتجربة في حياته قال فيها: ان فلاناً قد جوزي بما اساء!.
***

(وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (الحجرات :13)
اي: لتعارفوا فتعاونوا فتحابوا، لالتناكروا فتعاندوا فتتعادوا!
اذ كما ان هناك روابط تربط الجندي بفصيله وفوجه ولوائه وفرقته في الجيش، وله واجب ووظيفة في كلٍ منها، كذلك كل انسان في المجتمع له روابط متسلسلة


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 335
ووظائف مترابطة. فلو اختلطت هذه الروابط والوظائف ولم تعيّن وتحدّد لما كان هناك تعاون ولا تعارف.
فنمو الشعور القومي في الشخص اما ان يكون ايجابياً او سلبياً:
فالايجابي ينتعش بنمو الشفقة على بني الجنس التي تدفع الى التعاون والتعارف.
اما السلبي فهو الذي ينشأ من الحرص على العرق والجنس الذي يسبب التناكر والتعاند. والاسلام يرفض هذا الاخير.
***

(وما من دآبة في الارض الاّ على الله رزقها) (هود:6)
الرزق ذو اهمية عظيمة كاهمية الحياة في نظر القدرة الإلهية، اذ القدرة هي التي تُخرج وتوجِد الرزق، والقَدر يلبسه اللباس المعين، والعناية الإلهية ترعاه.
فالقدرة الإلهية - بفعّالية عظيمة - تحوّل العالم الكثيف الى عالم لطيف. ولاجل أن تكسب ذرات الكائنات حظاً من الحياة فانها تعطيها الحياة بادنى سبب وبحجة بسيطة، وبالاهمية نفسها تحضر القدرة الرزق متناسباً مع انبساط الحياة.
فالحياة محصّلة مضبوطة اي مشاهدة محدّدة، اما الرزق فغير محصّل - اي لايحصل آنياً - وانما بصورة تدريجية ومنتشرة تدفع الانسان الى التأمل فيه.
ومن وجهة نظر معينة يصح أن يقال: انه ليس هناك موت جوعاً. لان الانسان لا يموت قبل ان ينتهي الغذاء المدخر على صورة شحوم وغيرها.
اي ان المرض الناشئ من ترك العادة هو الذي يسبب موت الانسان وليس عدم الرزق.
***

(وان الدار الآخرة لهي الحيوان) (العنكبوت : 64)
الحياة الحقيقية انما هي حياة الآخرة، فذلك العالم هو عين الحياة، اذ لا ذرة من ذراتها الا نابضة بالحياة، ولا تعرف الموت اطلاقاً.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 336
ودنيانا حيوان ايضاً؛ اذ ان كرتنا الارضية اشبه ما تكون بكائن حي. لان آثار الحياة ظاهرة عليها. فلو فرضنا انها صغرت بحجم البيضة، اما كانت حيواناً؟ او ان جرثومة صغيرة كبرت وعظمت عظم الكرة الارضية، اما كانت تشبهها؟ وحيث ان الكرة الارضية حية، فلها روح اذن.
نعم، ان العالم الذي هو انسان مكبر، يظهر من اثار الحياة بما يتضمن من منظومات الكائنات مايظهره الجسد بين اعضائه واجزائه، كالتساند والتجاوب والتعاون، بل تبقى هذه الآثار الحياتية للجسد قاصرة دون تلك الآثار.
فلو صغر العالم صغر الانسان وتحولت نجومه الى مايشبه الذرات والجواهر المفردة، اما يكون حيواناً ذا شعور؟
فهذه الآية الكريمة تلمّح الى سر عظيم:
ان مبدأ الكثرة هو الوحدة، وان منتهاها ايضاً الى الوحدة. فهذا دستور فطري. فلقد خلقت القدرة الإلهية، من القة التي اودعتها في الكائنات - وهي فيض تجليها واثر ابداعها - قوة جاذبة عامة، متصلة مستقلة محصلة باحسانها على كل ذرة من ذرات الوجود جاذبة خاصة بها. فاوجدت رابطة الكون. فكما ان في الذرات محصلة القوى الجاذبة الناشئة من القوة المودعة فيها، فهي ضياء القوة، واستحالة لطيفة من اذابتها، كذلك فان محصل قطرات الحياة المنتشرة على الكائنات كافة ولمعانها، انما هي حياة عامة تعم الوجود جميعاً.. نعم هكذا يقتضي الامر.فاينما وجدت الحياة فثمّ الروح. والروح مثل الحياة ايضاً منتهاها بداية تجلي فيض لروح.
فمبدأ الروح هذا ايضاً تجلٍ للحياة الخالدة التي سميت لدى المتصوفة بـ"الحياة السارية".
وهكذا ترى ان سبب الالتباس الذي وقع فيه اهل الاستغراق ومنشأ شطحاتهم هو التباس هذا الظل مع الاصل لديهم.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 337
(ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات بل احياء ولكن لاتشعرون) (البقرة:154)
والشهداء يشعرون انهم احياء، وانهم ماماتوا، اذ الشهيد يعدّ نفسه حياً، لانه لايذوق ألم السكرات فيرى حياته التي ضحّى بها مستمرة غير منقطعة، بل يجدها انزه واسمى من حياته.
وحياة الشهيد وحياة الميت نظير هذا المثال:
رجلان يريان فيما يرى النائم انهما يتمتعان بلذائذ لطيفة في تجوالهما خلال بستان بديع. فأحدهما يشعر ان مايراه هو رؤيا ليس الاّ، فلا يستمتع متعة كاملة. اما الآخر فلا يعلم انه رؤيا، بل يعتقد ان ما يراه هو حقيقة، فيستمتع تمتعاً كاملاً.
وحيث ان عالم الرؤيا ظل عالم المثال، وهذا ظل لعالم البرزخ، لذا اصبحت دساتير هذه العوالم متماثلة.
***

(من قتل نفساً بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً،
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
(المائدة : 32)
هذه الآية الكريمة حق خالص ولا تنافي العقل قطعاً، وهي حقيقة محضة لا مبالغة فيها قط، الاّ ان النظر الظاهري يدعو الى التأمل:
الجملة الاولى:
تضع اعظم دستور للعدالة المحضة التي تقرر: لا يهدر دم بريء ولا تزهق روحه حتى لو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء، فكما ان كليهما في نظر القدرة الالهية سواء فهما في نظر العدالة سواء ايضاً. وكما ان نسبة الجزئيات الى الكلي واحدة كذلك الحق في ميزان العدالة، النسبة نفسها. ولهذا فليس للحق صغير وكبير.
اما العدالة الاضافية فهي تفدي بالجزء لأجل الكل بشرط ان يكون لذلك الجزء المختار الرضا والاختيار صراحة او ضمناً، اذ عندما يتحول "انا " الافراد الى "نحن" الجماعة ويمتزج البعض بالبعض الآخر مولداً روح الجماعة، يرضى الفرد ان يضحي بنفسه للكل.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 338
وكما يتراءى النور كالنار ، تتراءى احياناً شدة البلاغة مبالغة.
وهنا نقطة البلاغة تتركب من ثلاث نقاط:
اولاها: لإظهار غير محدودية استعداد العصيان والتهور المغروز في فطرة الانسان. فكما ان له قابلية غير محدودة للخير فله قابلية غير متناهية للشر ايضاً. بحيث ان الذي تمكّن فيه الحرص والانانية يصبح انساناً يريد القضاء على كل شئ يقف دون تحقيق حرصه، حتى تدمير العالم والجنس البشري ان استطاع.
ثانيتها: لزجر النفس، باظهار قوة الاستعداد الفطري الكامن، في الخارج. اي باظهار الممكن في صورة الواقع، بمعنى ان بذرة العرق النابض بالغدر والعصيان كأنها انفلقت من طور القوة الى طور الفعل. فالجملة تحوّل الامكانات الى وقوعات، لتثمر قابلياتها حتى تأخذ شكل شجرة الزقوم، وذلك لينزل التنفير والانزجار الى اعماق النفس. وهو المطلوب. وهكذا تكون بلاغة الارشاد.
ثالثتها: قد تظهر القضية المطلقة احياناً قضية كلية، وقد تظهر القضية الوقتية المنتشرة في صورة قضية دائمة. بينما يكفي لصدق القضية وصحتها - منطقاً - اذا ما نال فرد في زمان معين حكماً. اما اذا صارت كمية ذات اهمية فعندها تكون القضية صحيحة عرفاً.
ان في كل ماهية افراداً خارقين، او فرداً في منتهى الكمال لذلك النوع، كذلك لكل فرد زماناً خارقاً لظروف وشرائط عجيبة بحيث ان سائر الافراد والازمنة بالنسبة لذلك الفرد الخارق والزمان الخارق تكون بمثابة ذرات لاقيمة لها او كاسماك صغيرة بالنسبة للحوت الضخم.
وبناء على هذا السر الدقيق فان الجملة الاولى رغم انها قضية كلية ظاهراً فانها ليست دائمة. الاّ انها تضع امام انظار البشر ارهب قاتل من حيث الزمان.
نعم ، سيكون زمان تسبب فيه كلمة واحدة توريط جيش كامل في الحرب، وطلقة واحدة إبادة ثلاثين مليون نسمة وكما حدث. 1
وستكون هناك احوال بحيث ان حركة بسيطة تسمو بالانسان الى اعلى عليين ، وفعل صغير يرديه الى اسفل سافلين.
_____________________
1 لقد كانت طلقة جندى اطلقت على ولي عهد النمسا سبباً في اشعال نار الحرب العالمية الاولى التي ذهب ضحيتها ثلاثون مليون نسمة. - المؤلف



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 339
فهذه الحالات التي هي قضايا مطلقة او منتشرة زمانياً تؤخذ بنظر الاعتبار لنكتة بلاغية عظيمة.
فالافراد العجيبون والازمنة العجيبة تُترك على الاطلاق والابهام. فمادام الولي في الناس وساعة الاجابة في الجمعة وليلة القدر في شهر رمضان واسم الله الاعظم في الاسماء الحسنى والأجل في العمر، مجهولاً، سيظل لسائر الافراد قيمتهم واهميتهم. بينما اذا تعيّن اولئك الافراد وتلك الازمنة تسقط أهمية سائر الافراد والازمنة. فان عشرين سنة من عمر مبهم افضل من ألف سنة من عمر معلوم النهاية. حيث الوهم يمتد الى الابدية ويجعلها محتملة الوقوع فتقنع النفس في العمر المبهم. بينما في العمر المعين يكون كمن يتقرب الى الاعدام خطوة خطوة بعد مضي نصف العمر.
تنبيه:
هناك آيات كريمة واحاديث نبوية شريفة وردت بصورة مطلقة الا انها عُدّت كلية، وهناك اخرى منتشرة مؤقتة الا انها عدّت دائمة وهناك اخرى مقيدة الا انها اعتبرت عامة.
فمثلاً: ورد بهذا المعنى: ان هذا الشئ كفر. اي لم تنشأ هذه الصفة من الايمان، اي انها صفة كافرة. ويكون ذلك الشخص قد كفر لهذا السبب. ولكن لايقال: انه كافر. ذلك لانه يملك صفات اخرى بريئة من الكفر قد نشأت من الايمان، فهو اذن يحوز اوصافاً اخرى نابعة من الايمان، الاّ اذا عُلم يقيناً ان تلك الصفة قد نشأت من الكفر، لانها قد تنشأ من اسباب اخرى. ففي دلالة الصفة شك، وفي وجود الايمان يقين. والشك لايزيل اليقين. فينبغي للذين يجرأون على تكفير الآخرين بسرعة، ان يتدبروا!
الجملة الثانية:
(ومن احياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
الاحياء باعتبار المعنى الظاهري المجازي يبين دستور تضاعف الحسنات تضاعفاً غير محدود. ولكن بمعناه الاصلي، رمز الى قطع دابر الشرك والاشتراك من الاساس في الخلق والايجاد. لان التشبيه الموجود في هذه الجملة وفي الآية الكريمة (ما خلقكم

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #32
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/السانحات - ص: 340
ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة) (لقمان : 28) يفهّم معنى الاقتدار. فالتشبيهان يستلزمان حسب القاعدة المنطقية "عكس النقيض": من لا يقتدر على احياء الناس جميعاً لا يقتدر على احياء نفس واحدة.
بمعنى ان الآية الكريمة تدل اشارة الى هذا المعنى:
ما دامت قدرة الانسان - والممكنات - غير مقتدرة بالبداهة على خلق السموات والارض فلا يمكن ان تخلق شيئاً ابداً ولو حجرة واحدة.
بمعنى ان من لا يملك قدرة قادرة على تحريك الارض والنجوم والشموس كلها كتحريك خرز المسبحة وتدويرها، ليس له ان يدّعى الخلق والايجاد في الكون قطعاً.
اما ما يصنعه البشر ويتصرف فيه، فانما هو كشف لجريان النواميس الإلهية في الفطرة، وانسجام معها واستعمالها لصالحه.
فالى هذا الحد من الوضوح البيّن في البرهان وسطوعه انما هو من شأن اعجاز القرآن. والآية الكريمة الآتية تثبت ذلك:
(ما خلقكم ولا بعثكم الاّ كنفس واحدة)
لان القدرة الالهية ذاتية لا يتخللها العجز، وهي متعلقة بالملكوتية فلا تتداخل فيها الموانع، ونسبها قانونية، فالجزء يكون في حكم الكل والجزئي في حكم الكلي.
النقطة الاولى:
ان القدرة الإلهية الإزلية ضرورية للذات الجليلة المقدسة.
أي أنها بالضرورة لازمة للذات المقدسة، فلا يمكن ان يكون للقدرة منها فكاك مطلقاً، لذا فمن البديهي ان العجز الذي هو ضد القدرة لا يمكن أن يعرض للذات الجليلة التي استلزمت القدرة، لأنه عندئذ سيجتمع الضدان، وهذا محال.
فما دام العجز لا يمكن أن يكون عارضاً للذات، فمن البديهي انه لا يمكن ان يتخلل القدرة اللازمة للذات أيضاً.. ومادام العجز لا يمكنه ان يدخل في القدرة مطلقاً فبديهي اذن ان القدرة الذاتية ليست فيها مراتب، لأن وجود المراتب في كل شئ يكون بتداخل أضداده معه، كما هو في مراتب الحرارة التي تكون بتخلل البرودة، ودرجات الحسن التي تكون بتداخل القُبح.. وهكذا فقس.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 341
أما في الممكنات فلأنه ليس هناك لزومٌ ذاتي حقيقي أو تابع؛ اصبحت الأضداد متداخلة بعضها مع البعض الآخر، فتولّدت المراتب ونتجت عنها الاختلافات، فنشأت منها تغيرات العالم. وحيث أنه ليست هناك مراتب قط في القدرة الإلهية الأزلية، لذا فالمقدّرات هي حتماً واحدة بالنسبة الى تلك القدرة، فيتساوى العظيم جداً مع المتناهي في الصغر، وتتماثل النجوم مع الذرات، وحشر جميع البشر كبعث نفس واحدة.المسألة الثانية: ان القدرة الإلهية تتعلق بملكوتية الأشياء..نعم، ان لكل شئ في الكون وجهين كالمرآة : أحدهما: جهة الـمُلك وهي كالوجه المطلي الملّون من المرآة. والأخرى هي جهة الملكوت وهي كالوجه الصقيل للمرآة. فجهة الملك، هي مجال وميدان تجوّل الأضداد ومحل ورود أمور الحُسن والقُبح والخير والشر والصغير والكبير والصعب والسهل أمثالها.. لذا وضعَ الخالق الحكيم الاسباب الظاهرة ستاراً لتصرفات قدرته، لئلا تظهر مباشرةُ يد القدرة الحكيمة بالذات على الأمور الجزئية التي تظهر للعقول القاصرة التي ترى الظاهر، كأنها خسيسة غير لائقة، اذ العظمة والعزّة تتطلب هكذا.. الاّ انه سبحانه لم يعط التأثير الحقيقي لتلك الأسباب والوسائط؛ اذ وحدة الأحدية تقتضي هكذا أيضاً.
أما جهة الملكوت، فهي شفافة، صافية، نزيهة، في كل شئ، فلا تختلط معها ألوان ومزخرفات التشخصات... هذه الجهة متوجهة الى بارئها دون وساطة، فليس فيها ترتب الاسباب والمسبّبات ولا تسلسل العلل، ولا تدخل فيها العليّة والمعلولية ولا تتداخل الموانع، فالذرة فيها تكون شقيقة الشمس.
ان القدرة هي مجردة، أي ليست مؤلفة ومركبة، وهي مطلقة غير محدودة، وهي ذاتية أيضاً. أما محل تعلقها بالأشياء فهي دون وساطة، صافية دون تعكر، ودون ستار ودون تأخير، لذا لا يستكبر أمامها الكبير على الصغير، ولا تُرجح الجماعة على الفرد ولا يتبجّح الكل أمام الجزء ضمن تلك القدرة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 342
المسألة الثالثة: نسبة القدرة قانونية..
(ولله المثل الاعلى) (النحل: 60)
(ليس كمثله شئ) (الشورى: 11)
فهذه المسألة الغامضة سنقرّبها الى الذهن ببعض الأمثلة. حيث التمثيل يقرب التصوير الى الاذهان.المثال الأول: "الشفافية"
ان تجلّي ضوء الشمس يُظهر الهويةَ نفسَها على سطح البحر أو على كل قطرة من البحر، فلو كانت الكرة الأرضية مركّبة من قطع زجاجية صغيرة شفافة مختلفة تقابل الشمس دون حاجز يحجزها، فضوء الشمس المتجلي على كل قطعة على سطح الأرض وعلى سطح الأرض كلها يتشابه ويكون مساوياً دون مزاحمة ودون تجزؤ ودون تناقص.. فاذا افترضنا ان الشمس فاعل ذو إرادة واعطت فيض نورها واشعاع صورتها بارادتها على الأرض، فلا يكون عندئذٍ نشرُ فيضِ نورها على جميع الأرض اكثَر صعوبة من اعطائها على ذرة واحدة.المثال الثاني: "المقالة"
هب أنه كانت هناك حلقة واسعة من البشر يحمل كل واحد منهم مرآة بيده، وفي مركز الدائرة رجل يحمل شمعة مشتعلة، فان الضوء الذي يرسله المركز الى المرايا في المحيط واحد، ويكون بنسبة واحدة، دون تناقص ودون مزاحمة ودون تشتّت.المثال الثالث: "الموازنة"
إن كان لدينا ميزان حقيقي عظيم وحساس جداً وفي كفتيه شمسان او نجمان، أو جبلان، أو بيضتان، أو ذرتان.. فالجهد المبذول هو نفسه الذي يمكن ان يرفع احدى كفتيه الى السماء ويخفض الأخرى الى الارض.المثال الرابع: "الانتظام"
يمكن ادارة اعظم سفينة لأنها منتظمة جداً، كأصغر دمية للأطفال.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 343
المثال الخامس: "التجرد"
ان الميكروب مثلاً كالكركدن يحمل الماهية الحيوانية وميزاتها، والسمك الصغير جداً يملك تلك الميزة والماهية المجردة كالحوت الضخم، لأن الماهية المجردة من الشكل والتجسم تدخل في جميع جزيئات الجسم من اصغر الصغير الى اكبر الكبير وتتوجه اليها دون تناقص ودون تجزؤ، فخواص التشخصات والصفات الظاهرية للجسم لا تشوش ولا تتداخل مع الماهيّة والخاصة المجرّدة، ولا تغيّر نظرة تلك الخاصة المجردة.المثال السادس: "الطاعة"
ان قائد الجيش بأمره "تَقَدمْ" مثلما يحرّك الجندي الواحد فانه يحرّك الجيش بأكمله كذلك بالأمر نفسه. فحقيقة سر الطاعة هي ان لكل شئ في الكون ـ كما يشاهد بالتجربة ـ نقطة كمال، وله ميل اليها، فتضاعف الميل يولّد الحاجة، وتضاعف الحاجة يتحول الى شوق، وتضاعف الشوق يكوّن الانجذاب، فالانجذاب والشوق والحاجة والميل.. كلّها نوىً لأمتثال الأوامر التكوينية الرّبانية وبذورها من حيث ماهية الأشياء.
فالكمال المطلق لماهيات الممكنات هو الوجود المطلق، ولكن الكمال الخاص بها هو وجود خاص لها يُخرج كوامن استعداداتها الفطرية من طور القوة الى طور الفعل، فاطاعة الكائنات لأمر "كُنْ" كأطاعة ذرة واحدة التي هي بحكم جندي مطيع. وعند امتثال الممكنات وطاعتها للأمر الأزلي "كُن" الصادر عن الارادة الإلهية تندمج كليّاً الميول والأشواق والحاجات جميعها، وكل منها هو تجلٍّ من تجلّيات تلك الارادة أيضاً. حتى أن الماء الرقراق عندما يأخذ - بميل لطيف منه - أمراً بالانجماد، يظهر سرّ قوة الطاعة بتحطيمه الحديد.
فان كانت هذه الأمثلة الستة تظهر لنا في قوة الممكنات المخلوقات وفي فعلها وهي ناقصة ومتناهية وضعيفة وليست ذات تأثير حقيقى، فينبغي اذن ان تتساوى جميع الأشياء أمام القدرة الإلهية المتجلّية بآثار عظمتها.. وهي غير متناهية وأزلية وهي التي اوجدت جميع الكائنات من العدم البحت وحيّرت العقول جميعها، فلا يصعب عليها شئ اذن.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 344
ولا ننسى أن القدرة الإلهية العظمى لا توزن بموازيننا الضعيفة الهزيلة هذه، ولا تتناسب معها، ولكنها تُذكَر تقريباً للأذهان وازالة للأستبعاد ليس إلاَّ.
نتيجة الاساس الثالث وخلاصته: ما دامت القدرة الإلهية مطلقة غير متناهية، وهي لازمة ضرورية للذات الجليلة المقدسة، وأن جهة الملكوت لكل شئ تقابلها ومتوجهة اليها دون ستار ودون شائبة، وأنها متوازنة بالأمكان الاعتباري الذي هو تساوي الطرفين، وان النظام الفطري الذي هو شريعة الفطرة الكبرى مطيع للفطرة وقوانين الله ونواميسه، وان جهة الملكوت مجردة وصافية من الموانع والخواص المختلفة. لذا فان اكبر شئ كأصغره أمام تلك القدرة، فلا يمكن ان يحجم شئ أيّاً كان أو يتمرّد عليها. فإحياءُ جميع الأحياء يوم الحشر هينّ عليه كإحياء ذبابة في الربيع ولهذا فالآية الكريمة
(ما خَلقكم ولا بَعثُكُم إلاّ كَنَفْسٍ واحدة) أمرٌ حق وصدق جلي لا مبالغة فيه ابداً.
***

(ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله) (آل عمران : 64)
نورد نكتة واحدة من بين الوف نكات هذه الآية الكريمة:
انه بقطع النظر عن مشرب الصوفية، فان الاسلام يرفض الواسطة ويقبل الدليل، وينفي الوسيلة ويثبت الامام. بينما غيره من الاديان يقبل الواسطة. فبناء على هذا السر الدقيق يستطيع النصراني ان يصبح متديناً اذا اشغل مقامات من حيث الثروة والمنصب. بينما في الاسلام، العوام هم المتمسكون بالدين اكثر من ذوي الثروات والمناصب. وذلك لان النصراني ذا المقام يحافظ على نصرانيته وانانيته بقدر تعصبه في دينه، فلا ينقص ذلك من تكبره وغروره. بينما المسلم يبتعد عن التكبر والغرور بقدر تمسكه بالدين. بل ينبغي له ان يتنازل عن عزة المنصب.
ومن هنا فالنصرانية ربما تتمزق بهجوم العوام المظلومين على الظالمين الذين يعدّون انفسهم خواص النصارى، حيث النصرانية تعين تحكّمهم. بينما الاسلام لا ينبغي ان يتزعزع لانه ملك العوام اكثر من الخواص الدنيويين.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 345
(ولا تزر وازرة وزر اخرى) (الانعام: 164)
تمثل هذه الآية الكريمة اعدل دستور في السياسة الشخصية والجماعية والقومية. اما الآية الكريمة:
(انه كان ظلوماً جهولاً) (الاحزاب :72) فتبين استعداد الانسان الى الظلم الرهيب المغروز في فطرته.
والسر في ذلك هو:
ان القوى والميول المودعة في الانسان لم تحدد، خلافاً للحيوان؛ لذا فان الميل للظلم وحبّ الذات يتماديان كثيراً وبشكل مخيف.
نعم، ان حب الانسان لنفسه، وتحري مصلحته وحده، وحبه لذاته وحده، من الاشكال الخبيثة لـ " انا والانانية"، واذا ما اقترن العناد والغرور بذلك الميل تولدت فظائع بشعة بحيث لم يعثر لها البشر على اسم بعد. وكما ان هذا دليل على وجوب وجود جهنم كذلك لا جزاء له الاّ النار.
ولنتناول هذا الدستور في:
نطاق الشخص:
يحوز الشخص اوصافاً كثيرة. ان كانت صفة منها تستحق العداء، فيقتضي حصر العداء في تلك الصفة وحدها، حسب القانون الالهي الوارد في الآية الكريمة. بل على الانسان ان يشفق على ذلك الشخص المالك لصفات بريئة كثيرة اخرى ولا يعتدي عليه. بينما الظالم الجهول يعتدي على ذلك الشخص لصفة جانية فيه، لما في طبيعته من ظلم مغروز ، بل تسري عداوته لاوصاف بريئة فيه، حيث يخاصم الشخص نفسه، وربما لا يكتفي بالشخص وحده فيشمل ظلمه اقارب الشخص بل كلّ من في مسلكه. علماً ان تلك الصفة الجانية قد لا تكون نابعة من فساد القلب، وربما هي نتيجة اسباب اخرى، حيث ان اسباباً كثيرة تولد الشئ الواحد. فلا تكون الصفة جانية، بل حتى لو كانت تلك الصفة كافرة ايضاً لا يكون الشخص جانياً.
وفي نطاق الجماعة:
نشاهد ان شخصاً حريصاً ، قد طرح فكراً ينطوى على رغبة فقال بدافع الانتقام او بدافع اعتراض جارح: سيتبعثر الاسلام ويتشتت، او ستمحى الخلافة. فيتمنى ان


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 346
يهان المسلمون - العياذ بالله - وتخنق الاخوة الاسلامية، لكي يظهر صدق كلامه ويُشبع غروره وانانيته فحسب، بل يحاول ايضاح ظلم الخصم الجاحد في صورة عدالة، باختلاق تأويلات وحذلقات لا تخطر على بال.
وفي نطاق المدنية الحاضرة:
نشاهد ان هذه المدنية المشؤومة قد اعطت البشرية دستوراً ظالماً غداراً، بحيث يزيل جميع حســـــناتها، ويبين السر في قلق الملائكة الكرام لدى استفسارهم
(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) (البقرة: 30) اذ لو وجد خائن واحد في قصبة، فانها تقضي بتدميرها وبمن فيها من الابرياء، ولو وجد عاصٍ واحد في جماعة فهي تقضي بالقضاء على تلك الجماعة مع افرادها وعوائلها واطفالها. ولو تحصّن من لايخضع لقانونها في جامع ايا صوفيا فانها تقضي بتخريب ذلك البناء المقدس الذي هو اثمن من مليارات الذهب. وهكذا تحكم هذه المدنية بوحشية رهيبة.
فلئن كان المرء لا يؤاخذ حتى بجريرة اخيه، فكيف تدان ألوف الابرياء في قصبة او في جماعة لوجود مخرب واحد فيها. علماً انه لا تخلو مدينة او جماعة منهم.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 347
هيمنة القرآن الكريم

قال تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا) (آل عمران: 103)
(الم. ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) (البقرة: 1،2)
أرى ان مرد ماتبديه الامة الاسلامية من اهمال وعدم مبالاة نحو الاحكام الفقهية مايأتي:
ان اركان الدين واحكامه الضرورية نابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية المفسرة له، وهي تشمل تسعين بالمائة من الدين، اما المسائل الخلافية التي تحتمل الاجتهاد فلا تتجاوز العشرة منه.
فالبون اذن شاسع بين اهمية الاحكام الضرورية والمسائل الخلافية.
فلو شبهنا المسائل الاجتهادية بالذهب لكانت الاحكام الضرورية واركان الايمان اعمدة من الالماس. تُرى هل يجوز ان تكون تسعون عمودا من الالماس تابعة لعشرة منها من الذهب؟ وهل يجوز ان يوجه الاهتمام الى التي من الذهب اكثر من تلك التي من الالماس؟.
ان الذي يسوق جمهور الناس الى الاتباع وامتثال الاوامر، هو مايتحلى به المصدر من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس الى الانقياد اكثر من قوة البرهان ومتانة الحجة، فينبغي اذن ان تكون الكتب الفقهية بمثابة وسائل شفافة - كالزجاج - لعرض قدسية القرآن الكريم، وليس حجاباً دونه، او بديلاً عنه.
ان ذهن الانسان ينتقل من الملزوم الى اللازم وليس الى لازم اللازم - كما هو مقرر في علم المنطق - ولو انتقل فبقصد غير طبيعي. فالكتب الفقهية شبيهة بالملزوم، والقرآن الكريم هو الدال على تلك الاحكام الفقهية ومصدرها، فهو اللازم، والصفة الملازمة الذاتية للقرآن الكريم هي القدسية المحفزة للوجدان. فلأن نظر العامة ينحصر


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 348
في الكتب الفقهية فحسب، فلا ينتقل ذهنهم الى القرآن الكريم الا خيالاً، ونادرا مايتصورون قدسيته - من خلال نظرهم المنحصر - ومن هنا يعتاد الوجدان التسيب، ويتعود على الاهمال فينشأ الجمود.
فلو كان قد بيّن القرآن الكريم ضمن بيان الضروريات الدينية مباشرة لكان الذهن ينتقل انتقالاً طبيعياً الى قدسيته، ولاثارت الشوق الى الاتباع، ولنبهت الوجدان الى الاقتداء، وعندها تنمو ملكة رهافة المشاعر لدى المخاطب بدلا من صممها امام حوافز الايمان وموقظاته.
فالكتب الفقهية اذن ينبغي ان تكون شفافة لعرض القرآن الكريم واظهاره، ولاتصبح حجابا دونه كما آلت اليه - بمرور الزمان - من جراء بعض المقلدين. وعندئذ تجدها تفسيراً بين يدي القرآن وليست مصنفات قائمة بذاتها.ان توجيه انظار عامة الناس في الحاجات الدينية توجيها مباشراً الى لقرآن الكريم، خطاب الله العزيز الساطع باعجازه والمحاط بهالة القدسية والذي يهز الوجدان بالايمان دائما.. إنما يكون بثلاث طرق:
1- اما ازالة ذلك الحجاب من امام القرآن الكريم بتوجيه النقد وتجريح الثقة باولئك المؤلفين للكتب الفقهية الذين يستحقون كل الاحترام والتوقير والثقة والاعتماد.. وهذا ظلم فاضح، وخطر جسيم، واجحاف بحق اولئك الائمة الاجلاء.
2- او تحويل تلك الكتب الفقهية تدريجيا الى كتب يستشف منها فيض القرآن الكريم، اي تصبح تفسيرا له، ويمكن ان يتم هذا باتباع طرق تربوية منهجية خاصة حتى تبلغ تلك الكتب الى مايشبه كتب الائمة المجتهدين من السلف الصالح امثال "الموطأ" لمالك بن انس و"الفقه الاكبر" لابي حنيفة النعمان. فعندئذ لايُقرأ كتاب "ابن حجر" - مثلاً - بقصد مايقوله ابن حجر نفسه، بل يُقرأ لاجل فهم مايأمر به القرآن الكريم، وهذا الطريق بحاجة الى زمن مديد.
3- او شد انظار جمهور الناس دوما الى مستوى اعلى من تلك الكتب - التي اصبحت حجابا - اي شدها باستمرار الى القرآن الكريم واظهاره فوقها دائما، مثلما يفعله ائمة الصوفية، وعندها تؤخذ الاحكام الشرعية والضروريات الدينية من منبعها


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 349
الاساس وهو القرآن الكريم، اما الامور الاجتهادية التي ترد بالواسطة فيمكن مراجعتها من مظانها.
ولايخفى ان مايستشعره المرء من جاذبية في كلام الصوفي الحق ومن طلاوة في حديثه غير مايستشعره في وعظ عالم في الفقه، فالفرق في هذا نابع من ذلك السر.ثم انه من الامور المقررة، ان مايوليه عامة الناس من تقدير لشئ وتثمينهم له ليس نابعاً - على الاغلب - مما فيه من كمال، بل مما يشعرون نحوه من حاجة وبما يحسون تجاهه من رغبة، فالساعاتي الذي يأخذ اجرة اكثر من عالم جليل مثال يؤيد هذا.فلو وجهت حاجات المسلمين الدينية كافة شطر القرآن الكريم مباشرة، لنال ذلك الكتاب المبين من الرغبة والتوجه - الناشئة من الحاجة اليه - اضعاف اضعاف ماهو مشتت الآن من الرغبات نحو الالوف من الكتب، بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على انفوس، ولكانت اوامره الجليلة مطبقة منفذة كليا. وما كان يظل كتابا مباركا يتبرك بتلاوته فحسب.
هذا وان هناك خطراً عظيماً في مزج الضروريات الدينية مع المسائل الجزئية الفرعية الخلافية، وجعلها كأنها تابعة لها، لان الذي يرى الآخرين على خطأ- ونفسه على صواب - يدعي:
ان مذهبي حق يحتمل فيه الخطأ والمذهب المخالف خطأ يحتمل فيه الصواب!
وحيث ان جمهور الناس يعجزون عن ان يميزوا تمييزاً واضحا بين الضروريات الدينية والامور النظرية الممتزجة معها، تراهم يعممون - سهواً او وهماً - الخطأ الذي يرونه في الامور الاجتهادية على الاحكام كلها، ومن هنا تتبين جسامة الخطر.
والذي اراه ان من يخطّئ الاخرين - ويرى نفسه في صواب دائما - مصاب بمرض ضيق الفكر وانحصار الذهن الناشئين من حب النفس. ولاشك انه مسؤول امام رب العالمين عن تغافله عن شمول خطاب القرآن الى البشرية كافة.
ثم ان فكر التخطئة هذا، منبع ثر لسوء الظن بالاخرين، والانحياز، والتحزب في الوقت الذي يطالبنا الاسلام بحسن الظن والمحبة والوحدة! ويكفيه بعدا عن روح


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #33
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 350
الاسلام ما شق من جروح غائرة في ارواح المسلمين المتساندة، ومابثه من فرقة بين صفوفهم، فابعدهم عن اوامر القرآن الكريم.
***

بعد ان كتبت هذه المسألة بفترة قصيرة، تشرفت برؤيا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام. كنت في حظوة مجلسه الجليل في مدرسة دينية، سيعلمني من القرآن درسا. فعندما اتوا بالمصحف الشريف قام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم احتراماً للقرآن، فخطر لي آنئذ ان هذا ارشاد للامة لتوقير القرآن الكريم واجلاله.
ثم حكيت الرؤيا لاحد الصالحين فعبَّره هكذا:
ان هذه اشارة واضحة وبشرى عظيمة الى ان القرآن الكريم سيحوز مايليق به من مقام رفيع في العالم اجمع.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 351
دعوة الى انشاء
مجلس شورى للاجتهاد
1

قال تعالى:
(وامرهم شورى بينهم) (الشورى: 38)
(وشاورهم في الامر) (آل عمران: 159)
يرينا التاريخ انه: متى ما كان المسلمون متمسكين بدينهم فقد ترقوا بقدر تمسكهم بدينهم، بينما تدنوا كلما بدأ ضعف الدين يدب فيهم. بخلاف مايحدث لاصحاب الاديان الاخرى؛ اذ متى ماتمسكوا بدينهم فقد اصبحوا كالوحوش الكاسرة ومتى ماضعف لديهم الدين ترقوا في مضمار الحضارة.
ان ظهور جمهور الانبياء في الشرق رمزٌ من القدر الإلهي: ان المهيمن على شعور الشرقيين هو الدين. فما نراه في الوقت الحاضر من مظاهر اليقظة في انحاء العالم الاسلامي تثبت لنا ان الذي ينبه العالم الاسلامي وينقذه من الذل والهوان هو الشعور الديني ليس الاّ.
وقد ثبت ايضاً ان الذي حافظ على هذه الدولة المسلمة (العثمانية) هو ذلك الشعور رغم جميع الثورات والمصادمات الدامية التي نشبت في ارجائها.. فنحن نتميز بهذه الخاصية عن الغرب، ولانقاس بهم.
ان السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لاتنفكان وان كانت وجهة كل منهما مغايرة للاخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الاسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مليوناً، ومن
_____________________
1 لقد طالبت بهذه الفكرة اعضاء »تركيا الفتاة« ابان اعلان الدستور، فلم يوافقوا عليها، وبعد مضي اثنتي عشرة سنة طالبتهم بها ايضاً فقبلوها ولكن المجلس النيابي قد حل. والآن اعرضها مرة اخرى على نقطة تمركز العالم الاسلامي. - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 352
حيث الخلافة ينبغي ان يكون ركيزة ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وان يكون موضع امدادهم وعونهم.
فالوزارة تمثل السلطنة، اما المشيخة الاسلامية فهي تمثل الخلافة. فبينا نرى الوزارة تستند اصلاً الى ثلاثة مجالس شورى - وقد لاتوفي هذه المجالس حاجاتها الكثيرة - نجد ان المشيخة قد اودعت الى اجتهاد شخص واحد، في وقت تعقدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في ادق الامور، فضلا عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الافكار وتدني الاخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا.
من المعلوم ان مقاومة الفرد تكون ضعيفة امام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من احكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية.
وبينما كانت الامور بسيطة والتسليم للعلماء وتقليدهم جارياً كانت المشيخة مودعة الى مجلس شورى - ولو بصورة غير منتظمة - ويتركب من شخصيات مرموقة، اما الان وقد تعقدت الامور ولم تعد بسيطة وارتخى عنان تقليد العلماء واتباعهم.. اقول كيف يا ترى يكون بمقدور شخص واحد القيام بكل الاعباء؟
ولقد اظهر الزمان ان هذه المشيخة الاسلامية - التي تمثل الخلافة - ليست خاصة لاهل استانبول او للدولة العثمانية، وانما هي مؤسسة جليلة تعود للمسلمين عامة. فوضعها الحالي المنطفئ لايؤهلها للقيام باعباء ارشاد استانبول وحدها ناهيك عن ارشاد العالم الاسلامي!
لذا ينبغي ان تؤول هذه المشيخة الى درجة ومنزلة تتمكن بها كسب ثقة العالم الاسلامي فتكون كالمرآة العاكسة لمشاكل المسلمين. وتغدو منبعاً فياضاً للاجتهادات والافكار. وعندها تكون قد ادت مهمتها حق الاداء تجاه العالم الاسلامي.
لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصا واحدا، ومفتيه ربما شخص واحد ايضاً، يصحح رأيه ويصوبه. فالزمان الآن زمان الجماعة والحاكم شخص معنوي ينبثق من روح الجماعة. فمجالس الشورى تملك تلك الشخصية، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم ينبغي ان يكون متجانساً معه، اي ينبغي ان يكون شخصاً


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 353
معنويا نابعا من مجلس شورى عالٍ، كي يتمكن من ان يُسمع صوته للآخرين، ويسوق ذلك الحاكم الى الصراط السوي في امور الدين.
والا فسيبقى صوته كطنين الذباب امام الشخص المعنوي الناشئ من الجماعة، حتى لو كان فرداً فذاً عظيما. فهذا الموقع الحساس يعرض قوة المسلمين الحيوية الى الخطر مادام باقياً على وضعه المنكفئ هذا، حتى يصح لنا ان نقول:
ان الضعف الذي نراه في الدين، والاهمال الذي نشاهده في الشعائر الاسلامية، والفوضى التي ضربت اطنابها في الاجتهادات قد تفشت نتيجة ضعف المشيخة وانطفاء نورها، حيث ان الشخص الموجود خارج المشيخة يمكنه ان يحتفظ برأيه ازاء المشيخة المستندة الى شخص واحد. بينما كلام شيخ الاسلام المستند الى مجلس شورى المسلمين يجعل اكبر داهية يتخلى عن رأيه او يحصر اجتهاده في نفسه في الاقل.
نعم، ان كل من يجد في نفسه كفاءة واستعدادا للاجتهاد يمكنه ان يجتهد، ولكن لايكون هذا الاجتهاد موضع عمل الا عندما يقترن بتصديق نوع من اجماع الجمهور. فمثل هذا الشيخ - اي شيخ الاسلام المستند الى مجلس شورى - يكون قد نال هذا السر. فكما نرى في كتب الشريعة ان مدار الفتوى: الاجماع، ورأي الجمهور، يلزم الآن ذلك ايضاً ليكون فيصلاً قاطعاً لدابر الفوضى الناشبة في الآراء.
ان الوزارة والمشيخة جناحا هذه الدولة المسلمة، فان لم يكونا جناحين متساويين متكافئين فلا يدوم لها المضي، وان مضت المشيخة على وضعها الحاضر فسوف تنسلخ عن كثير من المقدسات الدينية امام اجتياح المدنية الفاسدة.
الحاجة استاذ لكل امر. هذه قاعدة، فالحاجة شديدة لمثل هذا المجلس الشوري الشرعي، فان لم يؤسس في مركز الخلافة فسيؤسس بالضرورة في مكان آخر.
وعلى الرغم من ان القيام ببعض المقدمات يناسب ان يسبق تأسيس هذا المجلس - كمؤسسة الجماعات الاسلامية والحاق الاوقاف بالمشيخة وامثالها من الامور - فان الشروع بتأسيس المجلس مباشرة ثم تهيئة المقدمات له يحقق الغرض ايضاً. فالدوائر الانتخابية - للاعيان والنواب - رغم محدوديتها واختلاط وظائفها قد تكون لها


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 354
تأثير بالواسطة، رغم ان الوضع يستوجب تأسيس مجلس شورى اسلامي خالص كي يتمكن كفالة المهمة السامية.
ان استخدام اي شئ في غير موضعه يكون مآله التعطل، ولايبين اثره المرجو منه. فدار الحكمة الاسلامية التي انشئت لغاية عظيمة، اذا خرجت من طورها الحالي واشركت في الشورى مع رؤساء الدوائر الاخرى في المشيخة وعُدّت من اعضائها، واستُدعي لها نحوا من عشرين من العلماء الاجلاء الموثوقين من انحاء العالم الاسلامي كافة، عندها يمكن ان يكون هناك اساس لهذه المسألة الجسيمة.
لا ينبغي ان نكون مترددين ومتخوفين، فلا نعطي الدنية والرشوة من ديننا بالتخوف والتردد. وتلعين المدنية الزائفة بما سببت من ضعف الدين، مما يشجع الخوف ويزيد الضعف ويقوي التأثيرات الخارجية.. فالمصلحة المرجحة المحققة لاتضحى لاجل مضرة موهومة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 355
حوار في رؤيا

"
المعنى وكذا الألفاظ التي ظلت في الخاطر هي
نفسها كما جاءت في الرؤيا"

كنت في أيلول سنة 1919 اتقلب في اضطراب شديد، من جراء اليأس البالغ الذي ولّدته حوادث الدهر. كنت أبحث عن نور بين هذه الظلمات المتكاثفة القاتمة.. لم استطع ان أجده في يقظة هي رؤياً في منام. بل وجدته في رؤيا صادقة هي يقظةٌ في الحقيقة.
سأسجل هنا تلك النقاط التي اُستنطقتها واُجريت على لساني من كلام، دون الخوض في التفاصيل. وهي كالآتي:
دخلتُ عالم المثال في ليلة من ليالي الجمعة. جاءني أحدهم وقال:
- يدعوك مجلس موقر مهيب منعقد لبحث مصير العالم الاسلامي، وما آلت اليه حاله.
فذهبت، ورأيت مجلساً منوراً قد حضره السلف الصالحون، وممثلون من العصور، من كل عصر ممثل.. لم أر مثيلهم في الدنيا.. فتهيبت، ووقفت في الباب تأدباً واجلالاً.
قال أحدهم موجهاً كلامه لي:
- يا رجل القدر!.. ويا رجل عصر النكبة والفتنة والهلاك!.. بيّن رأيك في هذا الموضوع. فان لك رأياً فيه.
قلت وانا واقف: سلوني أُجبْ!
قال أحدهم:
- ماذا ترى في عاقبة هذه الهزيمة - التي آلت اليها الدولة العثمانية - وماذا كنتَ تتوقع ان يؤول اليه أمر الدولة العثمانية لو قُدِّر لها الانتصار؟.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 356
قلت: ان المصيبة ليست شراً محضاً، فقد تنشأ السعادة من النكبة والبلاء، مثلما قد تفضي السعادة الى بلاء.. فهذه الدولة الاسلامية التي أخذت على عاتقها - سابقاً - القيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - حفاظاً على العالم الاسلامي وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء لأجله، وحملت راية الخلافة اعلاءً لكلمة الله وذوداً عن استقلال العالم الاسلامي.. ستعوّض عما أصابتها من مصيبة، وستزيلها السعادةُ التي سوف يرفل بها عالم الاسلام.
إذ عجّلت هذه المصيبة بعث الاخوة الاسلامية ونماءها في أرجاء العالم الاسلامي، تلك الاخوة التي هي جوهر حياتنا وروحنا. حتى اننا عندما كنا نتألم كان العالم الاسلامي يبكي، فلو أوغلت أوروبا في إيلامنا لصرخ العالم الاسلامي.
فلو متنا فسوف يموت عشرون مليوناً "من العثمانيين الأتراك" ولكن نُبعث ثلاثمائة "أي: ثلاثمائة مليوناً من المسلمين".
نحن نعيش في عصر الخوارق. فبعد مضي سنتين أو ثلاث على موتنا سنرى أحياءً يبعثون.
لقد فقدنا بهذه الهزيمة سعادة عاجلة زائلة، ولكن تنتظرنا سعادة آجلة دائمة، فالذي يستبدل مستقبلاً زاهراً فسيحاً بحال حاضرٍ جزئي متغير محدود، لاشك أنه رابح..
واذا بصوت من المجلس:
- بيّن! وضّح ما تقول!
قلت: حروب الدول والامم قد تخلت عن مواضعها لحروب الطبقات البشرية. والانسان مثلما يرفض ان يكون أسيراً لا يرضى ان يكون أجيراً أيضاً.
فلو كنا منتصرين غالبين، لكنا ننجذب الى ما لدى أعدائنا من الاستعمار والتسلط، وربما كنا نغلو في ذلك. علماً ان ذلك التيار - التيار الاستعماري الاستبدادي - تيار ظالم ومنافٍ لطبيعة العالم الاسلامي، ومباين لمصالح الاكثرية المطلقة من أهل الايمان، فضلاً عن ان عمره قصير، ومعرّض للتمزق والتلاشي. ولو كنا متمسكين بذلك التيار لكنا نسوق العالم الاسلامي الى ما ينافي طبيعته الفطرية.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 357
فهذه المدنية الخبيثة التي لم نرَ منها غير الضرر، وهي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتُها على حسناتها، تحكم عليها مصلحة الانسان بالنسخ، وتقضي عليها يقظة الانسان وصحوته بالانقراض.
فلو كنا منتصرين لكنا نتعهد حماية هذه المدنية السفيهة المتمردة الغدارة المتوحشة معنىً في أرجاء آسيا.
قال أحدهم من المجلس:
- لِمَ ترفض الشريعة هذه المدنية؟ 1
قلت: لأنها تأسست على خمسة أسس سلبية:
فنقطة استنادها هي: القوة، وهذه شأنها: الاعتداء.
وهدفها وقصدها: المنفعة، وهذه شأنها: التزاحم.
ودستورها في الحياة: الجدال والصراع، وهذا شأنه: التنازع.
والرابطة التي تربط المجموعات البشرية هي: العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين. وهذه شأنها: التصادم، كما نراه.
وخدمتها للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي: تشجيع هوى المنفعة، واثارة النفس الأمارة، وتطمين رغباتها وتسهيل مطاليبها. وهذا الهوى شأنه: اسقاط الانسان من درجة الملائكية الى درك الحيوانية الكلبية. وبهذا تكون سبباً لمسخ الانسان معنوياً.
فمعظم هؤلاء المدنيين لو انقلب باطنهم بظاهرهم لوجد الخيال تجاهه صور الذئاب والدببة والحيات والقردة والخنازير.
ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية الى أحضان الشقاء واخرجت عشرة بالمئة منها الى سعادة مموهة زائفة. وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء واولئك، علماً ان السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية؛ بيد ان سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس.
_____________________
1 المقصود محاسن المدنية التي اسدتها الى البشرية ، وليست سيئاتها وآثامها التي يلهث وراءها الحمقى ظناً منهم ان تلك السيئات حسنات حتى اوردونا الهلاك، ولقد تلقت البشرية صفعتين مريعتين وهما الحربان العالميتان من جراء ما طفحت به كفة سيئات المدنية على حسناتها وتغلبت آثامها على محاسنها حتى ابادتا تلك المدنية الآثمة فقاءت دماً لطخت به وجه الكرة الارضية كله. نسأل الله ان تغلب بقوة الاسلام في المستقبل محاسن المدنية لتطهّر وجه الارض من لوثاتها وتضمن السلام العام للبشرية قاطبة. المؤلف



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 358
لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.
ثم انه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولت الحاجات غير الضرورية الى مايشبه الضرورية، اذ بينما كان الانسان محتاجاً الى أربعة اشياء في حياة البداوة والبساطة اذا به في هذه المدنية يحتاج الى مئة حاجة، وهكذا أردَته المدنية فقيراً مدقعاً.
ثم، لأن السعي والعمل لايكفيان لمواجهة المصاريف المتزايدة، انساق الانسان الى مزاولة الخداع والحيلة وأكل الحرام. وهكذا فسد أساس الاخلاق.
وبينما تعطي هذه المدنية للجماعة والنوع ثروة وغنى وبهرجة اذا بها تجعل الفرد فقيراً محتاجاً، فاسد الأخلاق.
ولقد قاءت هذه المدنية وحشية فاقت جميع القرون السابقة.
وانه لجدير بالتأمل، استنكاف العالم الاسلامي من هذه المدنية، وعدم تلهفه لها، وتحرجه من قبولها، لأن الهداية الالهية التي هي الشريعة تعطي خاصية الاستقلال والاستغناء عن الآخرين، ولا يمكن ان تطعّم هذه الشريعة بالدهاء الروماني ولا ان تمتزج معها ولا يمكن ان تبلعها أو ان تتبعها.
ان دهاء الرومان واليونان - أي حضارتيهما - وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الاحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية او ادماجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لايقبلان الامتزاج، بل انهما يعيشان الآن بروحهما بانماط متنوعة واشكال مختلفة.
فلئن كان التوأمان، مع وجود عوامل المزج والدمج والاسباب الداعية له، لم يمتزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلمات تلك المدنية التي اساسها دهاء روما! لا يمكن بحال من الأحوال ان يمتزجا أو يهضما معاً.
قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 359
قلت: أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً ايجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.
نعم! ان نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة. والحق من شأنه: العدالة والتوازن. وهدفها: الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها: المحبة والتجاذب.
وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية: الرابطة الدينية، والوطنية، والمهنية بدلاً من العنصرية. وهذه شأنها: الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الاجانب.
ودستورها في الحياة: التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والاتحاد.وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكماً على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى: رفع الانسانية الى مراقي الكماات، فهي اذ تحدد الهوى وتحدّ من النزعات النفسانية تُطمئن الروح وتشوقها الى المعالي.
بمعنى اننا بانهزامنا في الحرب تبعنا التيار الثاني الذي هو تيار المظلومين وجمهور الناس. فلئن كان المظلومون في غيرنا يشكلون ثمانين بالمئة منهم ففي المسلمين هم تسعون بل خمس وتسعون بالمئة.
ان بقاء العالم الاسلامي مستغنياً عن هذا التيار الثاني، او معارضاً له ، ظل دون مستند اومرتكز، وهدر جميع مساعيه. فبدلاً من الذوبان والتميع تحت استيلاء المنتصر، كان عليه ان يتصرف تصرف العاقل فيكيّف ذلك التيار الى طراز اسلامي ويستخدمه. ذلك لان عدو العدو صديق ما دام عدواً له، وصديق العدو عدو مادام صديقاً له.
ان هذين التيارين ، اهدافهما متضادة، منافعهما متضادة، فلئن قال احدهما: مت، لقال الآخر: ابعث. فنفعُ احدهما يسلتزم ضررنا واختلافنا وتدنينا وضعفنا مثلما تقتضي منفعة الآخر قوتنا واتحادنا بالضرورة.
كانت خصومة الشرق تخنق انبعاث الاسلام وصحوته. وقد زالت وينبغي لها ذلك. اما خصومة الغرب فينبغي ان تدوم لانها سبب مهم في تنامي الاخوة الاسلامية ووحدتها.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #34
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/السانحات - ص: 360
واذا بامارات التصديق تتعالى من المجلس. فقالوا:
نعم، كونوا على أمل؛ ان اعظم صوت داوٍ في انقلابات المستقبل هو صوت الاسلام الهادر.
وسأل احدهم ايضاً:
ان المصيبة نتيجة جناية، ومقدمة ثواب. فما الذي اقترفتم حتى حكم عليكم القدر الإلهي بهذه المصيبة، اذ المصائب العامة تنزل لأخطاء الاكثرية؟ وما ثوابكم العاجل؟
قلت :
مقدمتها اهمالنا لثلاثة اركان من اركان الاسلام؛ الصلاة ، الصوم، الزكاة. اذ طلب منا الخالق سبحانه ساعة واحدة فقط من اربع وعشرين ساعة لأداء الصلوات الخمس فتقاعسنا عنها . فجازانا بتدريب شاق دائم لاربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات. اي ارغمنا على نوع من الصلاة.. وانه سبحانه طلب منا شهراً من السنة نصوم فيه رحمة بنفوسنا، فعزّت علينا نفوسنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا. ونه سبحانه طلب منا الزكاة عُشراً او واحداً من اربعين جزءٍ من ماله الذي انعمه علينا، فبخلنا وظلمنا. فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. فـ " الجزاء من جنس العمل".
اما ثوابنا العاجل، فرفعُه سبحانه وتعالى خُمس هذه الامة المذنبة - اي اربعة ملايين منهم - الى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين. فالمصيبة العامة الناشئة من خطأ العامة ازالت ذنوب الماضي.
فقال احدهم ايضاً:
- إن كان آمراً بخطأٍ ألقى الامة الى الهلاك؟
قلت:
- ان المصاب يرجو الثواب. فإما ان تُعطى له حسنات الآمر الذي ارتكب الخطأ، وهي لا تعدّ شيئاً. او تعطيه خزينة الغيب. وثوابه في مثل هذه الامور من خزينة الغيب هي درجة الشهادة والمجاهدين.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 361
رأيت ان المجلس قد استحسن هذا الكلام. وانتبهت من النوم من شدة انفعالي. ووجدت نفسي في الفراش مشبّكاً يديّ، يتصبب مني العرق.
وهكذا مضت تلك الليلة.
***

وفي اليوم نفسه والامل يطفح مني ذهبت الى مجلس آخر، مجلس دنيوي فسألوني.
- لِمَ لا تتدخل بالسياسة منذ مجيئك؟
قلت : اعوذ بالله من الشيطان والسياسة.
نعم، ان السياسة الحاضرة لاستانبول شبيهة بالانفلونزا تسبب الهذيان. فنحن لسنا متحركين ذاتياً، بل نتحرك بالوساطة. فاوروبا تنفخ ونحن نرقص هنا، فهي تلقّن بالتنويم - المغناطيسي - ونحن نتصورها نابعة من انفسنا ونجري اثر تلقينها بتخريب اعمى اصم. فمادام المنبع في اوروبا فالتيار القادم اما سيكون تياراً سلبياً او ايجابياً.
فالذين يتبعون السلبي هم كالحرف الذي يعرّف "دلّ على معنى في نفس غيره، او لا يدل على معنى في نفسه" بمعنى ان جميع افعاله ستكون لصالح الخارج مباشرة. لان ارادته لا حكم لها. فلا تنفعه النية الخالصة. ولاسيما التيار سلبي فيكون اداة لا تعقل للخارج بضعف من جهتين.
اما التيار الآخر الايجابي فيلبس لبوس التأييد والموافقة من الداخل، فهو كالاسم الذي يعرّف "دلّ على معنى في نفسه". فافعاله لنفسه، ولكن ما يترتب عليها للخارج. الاّ انه لايؤاخذ عليه لان لازم المذهب ليس مذهباً. ولا سيما اذا انضم بجهتين الى الايجابي والضعيف في التيار الخارجي، فيمكن ان يجعل الخارجَ اداةً له لا تشعر.
قالو:
  1. الا ترى الالحاد يتفشى؟ انه من الضرورة الاندفاع الى الميدان باسم الدين.
قلت:


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 362
نعم، ضروري، ولكن بشرط قاطع هو ان يكون الدافع المحرك عشق الاسلام والحمية الدينية. اذ الخطورة إن كان الدافع او الموجّه هو السياسة او التحيز. فالأول قد يعفى عنه حتى لو أخطأ بينما الثاني مسؤول عن عمله حتى لو اصاب.
قيل: كيف نفهم ذلك؟
قلت: مَن فضّل رفيقه السياسي الفاسق على متدين يخالف رأيه السياسي، بإساءة الظن به، فالدافع اذن هو السياسة.
ثم ان اظهار الدين الذي هو ملك مقدس للناس كافة - بالتحيز والتحزب - انه أخص بمن في مسلكه دون غيره، يثير الاكثرية الغالبة ضد الدين. فيكون سبباً في التهوين من شأن الدين.. فالدافع اذن هو التحيز.
مثال: يتصارع اثنان فما ان يشعر احدهما انه سيُغلب، عليه ان يعطي القرآن الذي بيده الى القوي ليقوم الآخر بحمايته ولئلا يسقطا معاً في الوحل. مظهراً محبته وتبجيله للقرآن. فتكون محبته للقرآن لكونه قرآناً. ولكن لو اتخذه ترساً تجاه القوي، فانه يثير غضبه بدلاً من ان يحرك غيرته لحمايته.
فمن يحرم القرآن من خادم قوي ويجعله في يد ضعيف، حتى اذا سقط سقط معه ايضاً، فهذا يعني انه يحب القرآن لنفسه لا للقرآن.
نعم ، ان خدمة الدين وسوق الناس اليه انما تكون بالحث على الالتزام وتذكير اصحابه بوظائفهم الدينية. وبخلاف ذلك، فان مخاطبتهم بانكم ملحدون، يسوقهم الى التعدي.
ألا لا يُستغل الدين في الداخل في الامور السلبية التخريبية. ولقد رأيتم الاعتداء على الشريعة بظن ان الخليفة الذي دام حكمه ثلاثين سنة قد اُستغل في اجراءات سياسية سلبية. تُرى من الذي يستفيد من آراء السياسيين السلبيين الحاليين؟ أتعرفونهم؟.. انني ارى انهم الخصم اللدود للاسلام، الذي غرز خنجره في قلب الاسلام.
قالوا:
كنت تعارض الاتحاد والترقي، الاّ انك تسكت عليهم الآن.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 363
قلت: لكثرة هجوم الاعداء عليهم.
ان هدف الهجوم الذي يشنه الاعداء هو العزم والثبات اللذان يتحلون بهما وعدم كونهم وسيلة لتنفيذ مآرب الاعداء في تسميم افكار المسلمين. وهذا من حسناتهم.
انني ارى ان الطريق طريقان؛ ككفتي الميزان. خفة احداهما تولد ثقل الاخرى.
فأنا لا اصفع انور 1 بجانب "انترانيك" 2، ولا اصفع "سعيد حليم" 3 بجانب "فنزيلوس" 4. وفي نظري ان الذي يصفعهما سافل منحط.
قالوا: التحزب ضرورة من ضروريات المشروطية.
قلت: ان خطوط الافكار عندنا بدلاً من ان تتقارب للتلاقي تنحرف مبتعدة الواحدة عن الاخرى كلما امتدت . لذا لانجد نقطة التلاقي، لا في الوطن، ولا في الكرة الارضية. فالافكار اشبه ما تكون بالوجود والعدم لا يجتمعان، حيث ان وجود احدهما يقتضي عدم الآخر.
ان العناد يلزم احياناً المغالين في التعصب الضلال والباطل، حتى اذا ساعد الشيطان احدهم قال له: انه ملك ويترحم عليه ، بينما اذا رأى ملَكاً في صف من يخالفه في الرأي، قال انه شيطان قد بدل ملابسه، فيبدأ بمعاداته ويلعنه. ويرى الامارة الواهية برهاناً بظنه الحسن، بينما يرى البرهان امارة واهية بسوء الظن، كمن ينظر في المنظار احد طرفيه الذي يقرّب والاخر يبعّد الشئ. وهذا ظلم فاضح يبيّن الحكمة في الآية الكريمة
(ان الانسان لظلوم كفار) (ابراهيم: 34) وذلك لان قواه وميوله لم تتحدد فطرة بخلاف الحيوان، فميله نحو الظلم لايحد ولا سيما اذا
_____________________
1 انور باشا: (1881 - 1922) كان وزيراً للحربية في حكومة الاتحاد والترقي سنة 1913 هرب الى المانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى ومنها الى تركستان وشكل جيشاً لمقاومة الروس واستشهد في احدى المعارك.
2 انترانيك: رئيس منظمة الطاشناق الارمنية، أشغل الدولة العثمانية مدة طويلة من الزمن بعدد من ثوراته ضد الدولة.
3 سعيد حليم: (1863 - 1921) كان رئيساً للوزراء عندما كان انورباشا وزيراً للحربية. أدين مع (67) من رفقائه باقحامهم الدولة العثمانية في الحرب العالمية. فنفي على اثره الى جزيرة مالطه، وظل فيها سنتين، ثم التجأ الى ايطاليا حيث حظر دخوله الى تركيا ومصر اذ كانت تحت الاحتلال البريطاني. اغتيل في 6 / 1 / 1921 بيد شخص ارمني قرب روما.
4 فنزيليوس: (1864 - 1936) من رجال اليونان البارزين في السياسة، كان محامياً ثم قائد الثوار في جزيرة كريت أسقط في سنة 1910 رئيس الوزراء قسطنطين وحلّ محله. اصبح سبباً لكثير من الاضطرابات والقلاقل في البلاد هرب سنة 1935 الى باريس، وتوفي بعد سنة. (المترجم)



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 364
انضمت الى ذلك الميل الاشكال الخبيثة للانانية كالاعجاب بالنفس وتحرى المصلحة الشخصية والكبر والعناد والغرور، تتولد جرائم بشعة لم تجد البشرية لها اسماً، ولا جزاء لها الاّ نار جهنم مثلما هي دليل على ضرورة وجودها.
فمثلاً: اذا استاء من صفة جانية لشخص، فانه يشمل ظلمه الى جميع صفاته البريئة ايضاً بل الى احبته بل الى من في مسلكه ، فيكون متمرداً امام الآية الكريمة
(ولا تزر وازرة وزر اخرى) (الانعام:164)
ومثلاً: قد قال احد الحريصين بدافع الانتقام: سيُغلب الاسلام، وسيتمزق قلبه. فلأجل ان يظهر صدق كلامه المشؤوم النابع من روح سقيمة وفكر كاذب، يتمنى ان يهان المسلمون ويصفق له ويتلذذ من ضربات العدو. فهذا التصفيق والترحيب واللذة جعلت الاسلام في موضع مجروح.
حيث العدو الذي غرز خنجره في قلب الاسلام لا يكتفي بسكوتنا عليه بل يقول: رحّب بي، تلذذ من اعمالي ، وكنّ لي حباً...
فدونكم ذنب عظيم وظلم شنيع لايجازيهما الاّ ميزان الحشر الاعظم.
قيل:
كنا نعلم اننا نُغلب، فقد دفعونا الى المصيبة عن علم.
قلت: كيف تكون نتيجة الحرب بديهياً بالنسبة لكم وانتم لا ثقافة لكم. وتكون خافية عن شخص عظيم كهندنبرغ 1؟ اخشى ان يكون ما تسمونه فكراً هو رغبة والعياذ بالله. اذ يلبس الانتقام الشخصي الظالم احياناً لباس الفكر. يا هؤلاء لقد وقعتم في طين نجس تلوثون وجوهكم به وكأنه المسك والعنبر؟
فهذا ايضاحي وبياني لما دار في مجلس مثالي في الليل المنير وفي محفل الدنيويين في النهار المظلم. فليست هذه المحاورة من بنات الفكر ولم تسل من العقل سيلاناً بل تفجرت من القلب. فان شئت فاقبلها وان شئت ردّها وارفضها، ولكن بشرط ان تفهمها.
_____________________
1 (187 - 1934) مارشال الماني انتصر على الروس 1914. رئيس الاركان في الحرب العالمية الاولى . رئيس جمهورية الرايخ 1925 - 1934 . المترجم.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 365
ذيل الرؤيا

سكت في الحج في اثناء سرده الرؤيا، لان اهمال الحج واهمال ما ينطوي عليه من حكم لا يُنزل المصيبة وحدها بل ينزل غضب الله وقهر الجبار. وجزاؤه ليس كفارة الذنوب بل كثارتها.
نعم، ان اهمال السياسة الاسلامية الرفيعة في الحج والمتضمنة توحيد الافكار بالتعارف وتشريك المساعي بالتعاون هو الذي ادّى الى تهيئة الوسط الملائم للاعداء ليستخدموا ملايين المسلمين في العداء للاسلام.
فها هو الهندي جالس يبكي على رأس ابيه الذي قتله ، ظناً منه انه عدوّه.
وها هما التتار والقفقاس ، واقفان عند قدمي جثة ساعدا على قتلها.. وبعد فوات الاوان يدركان انها والداهما.
وها هم العرب قتلوا شقيقهم البطل خطأً، ومن حيرتهم لا يعرفون كيف يبكون وينتحبون.
وهاهي افريقيا قتلت اخاها دون علم به، والآن تصرخ وتولول.
وها هو العالم الاسلامي ساعد على قتل ولده المقدام غافلاً دون علم به. فهو يلطم وينفّش شعره كالوالدة الحنون.
فالملايين من المسلمين دُفعوا الى سياحات طويلة في العالم، تحت لواء العدو الذي هو الشر المحض، بدلاً من شدّ الرحال الى الحج وهوالخير المحض.
فاعتبروا!
[كما ان الضرورات تبيح المحظورات، كذلك تسهّل المشكلات].
ان الدجاجة التي يضرب بها المثل في الخوف والجبن تهاجم الجاموس الضخم حفاظاً على فراخها.. فها هي الجسارة الفائقة.
وخوف العنز من الذئب يضرب به المثل، الا ان خوفه ينقلب الى دفاع ومقاومة في حالة الاضطرار حتى يقارع الذئب.. فها هي الشجاعة الخارقة.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 366
نعم، ان الميل الفطري لا يُقاوم. فغرفة من ماء لو وضعت في كرة من حديد لفتّت الماءُ الحديدَ كلما تعرض للبرودة في الشتاء، وذلك لميله الى الانبساط والتمدد.
فجسارة الدجاجة الرؤوم على فراخها.. وشجاعة الاضطرار لدى العنز العزيز النفس يمثلان هيجاناً فطرياً.. فمثل هذا الهيجان الفطري لو تعرض له ظلم الكافر البارد، لفتّت كل شئ امامه كالماء في كرة الحديد. (والقرويون الروس امثلة شهود على هذا).
ومع هذا فان الشهامة الخارقة التي تنطوي عليها ماهية الايمان. والشجاعة التي تتحدى العالم الكامنة في طبيعة العزة الاسلامية يمكن ان تُظهر المعجزات في كل وقت وآن بانبساط الاخوة الاسلامية وتوسعها.
ستشرق شمس الحقيقة يوماً
أفيظل العالم في ظلام الى الابد؟


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 367
ذيل الذيل
لدواء اليأس 1
الحمد لله الذي قال : (ولا يغتب بعضكم بعضاً) (الحجرات: 12)
والصلاة على محمد الذي قال: (من قال هلك الناس هلك الناس فهو اهلكهم) 2.
فان محاكم التفتيش المدنية لهذا العصر، انجبت لقطاءها - غير الشرعيين - باستعمالها وسائل رهيبة في تلقيح بعض الاذهان، وتجري بهم حقدها الدفين على الاسلام للثار منه ، محاولةً فتح الباب امام ما يصرف المسلمين عن الدين، او جعلهم في الاقل مهملين له، او بإمالتهم نحو النصرانية، او التخلي عن الاسلام بإلقاء الشبهات والشكوك في العقول، وتشيع بهذا مكراً سيئاً هو الآتي:
- ايها المسلم! تأمل اينما وجد مسلم فهو فقير، غافل، جاهل الى حدٍ ما ، بينما النصراني اينما حلّ فهو متحضر، يقظ، صاحب ثروة... وهذا يعني.. الخ..
وانا اقول:
- ايها المسلم لا ترخِ يدك عن الاسلام الذي هو حامي وجودنا وكياننا تجاه الدمار الذي تولّده هذه النتيجة المخيفة لتقدم اوروبا، بل عض عليه بالنواجذ واستعصم به بقوة، والاّ فمصيرك الهلاك.
نعم ، نحن نتدنى الى اسفل وهم يرقون الى أعلى ، ولهذا سببان اثنان احدهما مادي والآخر معنوي.
السبب الاول:
الوضع الفطري لأوروبا التي هي كنيسة النصرانية عامة، ومنبع حياتها، فهي ضيقة، جميلة، تملك الحديد، متعرجة السواحل، تلتف فيها الانهار والبحار التفاف الامعاء في الجسد، مناخها بارد.
_____________________
1 رسالة "دواء اليأس " هي " الخطبة الشامية " وذيلها "تشخيص العلة " وهذا البحث ذيل لذيلها. الاّ انه نشر مع هذه الرسالة فأبقيناه في موضعه. المترجم.
2 في صحيح مسلم 4 / 2237 "اذا قال الرجل هلك الناس فهو اهلكهم ".



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 368
نعم، ان اوروبا على الرغم من كونها عُشر الخمس للكرة الارضية، فانها جذبت ربع البشرية نحوها بلطافة مناخها الفطري.
وانه ثابت حكمةً : ان اجتماع الافراد الكثيرين يولّد الحاجات، فلا يستوعب انتاج الارض تلك الحاجات التي تتزايد باسباب كثيرة - كالتقليد وغيره - ومن هنا تصبح الحاجة ام الاختراع والصناعة، وحب الاستطلاع معلّم العلم، والضيق الروحي مولد السفاهة.
نعم ان التوجه نحو الصناعة والميل الى المعرفة ينشأ من الكثرة. فبسبب ضيق المكان في اوروبا، وكثرة بحارها وانهارها التي هي وسائط نقل طبيعية فيها، فان التعارف ينتج التجارة، والتعاون الاشتراك في الاعمال، مثلما يولد التّماس تلاحق الافكار والمنافسة والتسابق.
ولكثرة ما فيها من الحديد - الذي هو منبع جميع صناعات اوروبا اعطى لمدنيتهم السلاح القوي حتى غصبت انقاض مدنيات الدنيا كلها وأغارت عليها، الى حد اثقلت كفتها وأخلّت بميزان الكرة الارضية.
ثم ان البرودة المعتدلة التي من شأنها ان تأخذ كل شئ ببطء وتتركه ببطء، قد أعطت لسعيهم الثبات والمتانة، فأدامت مدنيتهم.
ثم ان تشكل دولهم المستندة الى العلم، وتصادم قواهم المتكافئة، وازعاجات استبداداتهم الغدارة ، ومضايقات تعصبهم المقيت الظالم - كتعصب محاكم التفتيش - والذي آل الى خلاف المقصود، والتسابق الجاري بين عناصرها المتوازنة.. كل ذلك نمّى استعدادات الاوروبيين ، وفجّر قابلياتهم فظهرت لديهم المزايا، والفكر القومي.
السبب الثاني:
هو نقطة الاستناد. نعم ان اي نصراني كان اذا ما رفع رأسه ومدّ يده الى اي مقصد من المقاصد المتسلسلة المتداخلة، اذا به يجد وراءه نقطة استناد قوية تعزز قوته المعنوية وتبعث فيها الحياة، حتى يجد في نفسه من القوة ما يمكّنه ان يقتحم كل صعب وعظيم من الاعمال.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 369
فتلك النقطة، نقطة الاستناد، هي مدنية اوروبا التي هي معسكر"كتلة مسلحة" وكنيستها العظيمة، وهي مستعدة في كل آن ان تنفخ الحياة في عروق رفقاء دينها الذين يمدون اليها ايديهم من كل صوب. ومتهيأة ايضاً لقطع الشريان النابض للمسلمين، فلقد عجنت بتعصب محاكم التفتيش المدنية الماكرة، والالحاد النابع من الفكر المادي. فاوروبا تختال غروراً بانتصار مدنيتها على الآخرين.
اَلا يُشاهد الانكليز الذين تقنّعوا بقناع الحرية، يمدّون أيدهم الى كل جهة ويتحرون عن نصراني، فاينما وجدوه بعثوا فيه الحياة.. فها هي الحبشة والسودان... وها هي الطيار والارتوش وها هي لبنان وحوران.. وها هي ماسور وألبانيا.. وها هم الكرد والارمن.. والترك والروم.. الخ.
حاصل الكلام:
ان الذي ينفث فيهم الحياة هو الأمل.. والذي يقتلنا هو اليأس. وقد اشتهر احدهم بقوله: "استطيع ان احرّك الكرة الارضية من مكانها اذا وجدتُ نقطة استناد" ففي هذا القول المفترض نقطة عجية، هي: ان هذا الانسان الصغير جداً اذا ما وجد نقطة استناد يستطيع ان يدير اعظم الاشياء كالكرة الارضية.
فيا أهل الاسلام!
ان نقطة استنادنا تجاه المصائب والدواهي، التي القت بثقلها العظيم، عِظم الارض، على العالم الاسلامي، هي الاسلام الذي يأمر بالاتحاد النابع من المحبة، وبامتزاج الافكار الناشئ من المعرفة، وبالتعاون الذي تولده الاخوة.
فانظر بدءاً من العالم الاسلامي، تلك الدائرة الواسعة، وانتهاء الى طالب علم في المدرسة الشرعية كأصغر دائرة... تجد ان لكل منها عقد حياتية، وتلك العقد مرتبطة ببعضها متسلسلة ومستندة الى تلك النقطة العظمى، كافراد المجتمع وروابطه.. بمعنى انه يمكن ان يصحو المسلمون ويبدأوا بالرقي متى ما نبّهوا وبُث فيهم روح النماء، فلا صحوة بخنق تلك العقد الحياتية.
وإلاّ فان قيام احد بالموازنة والمقارنة بين محاسن اوروبا ومساوئنا، وثمرة تلاحق الافكار لديهم مع ثمرة سعي شخص واحد عندنا 1. فكما انه يبين بهذه المقارنة
_____________________
1 ان اسناد محاسن المدنية الى النصرانية التي لافضل لها فيها، والصاق التدني والتقهقر بالاسلام الذي هو عدوّ له، دليل على دوران المقدرات بخلاف دورتها وعلى قلب الاوضاع - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 370
الظالمة المجحفة الخادعة انه لقيط اوروبا لاظهار افتتانه بها ونفوره من امته، فانه ايضاً بالهجاء النابع من الخداع والفكر الثوري والميل الى التخريب، والمشحون بالعصيان والافتراء والتعرض للشرف، يظهر فرعونيته والثناء على نفسه والتربيت على غروره ضمناً مبدياً دون علم منه عداءه للاسلام. علماً انه المكلف بالشعور بالشفقة على امته شرعاً وعقلاً وحكمة، الاّ انه بحكم الفرعونية والانانية والغرور يضع الشعور بالتحقير بدلاً من الشعور بالشفقة، والميل الى النفور من الامة بدلاً من ميل الانجذاب اليها، وارادة الاستخفاف بها بدلاً من محبتها، ويوصمها بالجهل بدلاً من احترامها ويرغب في التكبر عليها بدلاً من الرحمة بها، ويقيم روح الانفرادية بدلاً من روح التضحية والفداء لها. فيثبت بهذا كله انه لايملك حمية للأمة وانه مبتوت الاصالة، فيكون جانياً منفوراً منه في نظر الحقيقة بحيث يتصرف تصرف الاحمق الابله، كمن يحاول إلباس ملابس اعجبته لراقصة ساقطة في باريس عالماً فاضلاً في المسجد.
ذلك لان الحمية هي نتيجة ضرورية للمحبة والاحترام والرحمة فلا حمية بدون هذه الامور، والاّ فهي حمية كاذبة وخادعة. والنفور من الامة خلاف الحمية ايضاً، فقساوسة اوربا الذين يشنون هجومهم على المتعصبين عندنا، كل منهم اكثر تعصباً وتزمتاً في مسلكهم السقيم. فلو مدح عالم ديني الشيخ الكيلاني بافراط كمدح اولئك لشكسبير لكُفّر.
هيهات اين المحبة من هؤلاء ؟
ان احدى العقد الحياتية المحركة للمجتمع والدافعة الى الفعالية، هو الفكر الادبي. الذي بدأ فينا وحده بالنمو - مع الاسف - ولا سيما ادب الهجاء ورغبة تحقير الاخرين. والذي ينطوي على الاعجاب بالنفس والغلو في الوصف في اسلوب شعري وبما لا يليق بالادب. فهو ادب خارج عن الادب الحقيقي الذي تؤدبنا به الآية الكريمة
(ولا يغتب بعضكم بعضاً) بحيث يهاجم كل الآخر. ومع ردّ تعرضات ضمنية للأمة وللاسلام بوجه اولئك القسس، نمر مرّ الكرام على هجائهم اللاديني واهانة الآخرين، فنمضي قائلين : ربما يستحقون ذلك.
انني اظن ان الباعث على ذل هذه الامة اكثر من الجهل هو الذكاء الابتر العقيم غير المرافق لنور القلب. وفي نظري ان اخطر مرض هو الانحياز المتطرف، لانه يدفع الى خلاف المقصود، باخراج كل شئ عن طوره.


صيقل الإسلام/السانحات - ص: 371
ايها الاخ! لقد بدأت عندنا تباشير اسباب فتية، قوية، بدلاً من تلك الاسباب الهرمة التي ولّدت تقدم النصرانية.
وقد فصلت ذلك في كتاب آخر. 1

حكاية:
قبل عشر سنوات (المقصود سنة 1910م) ذهبت الى "تفليس" وصعدت تل الشيخ صنعان ، كنت اتأمل تلك الارجاء واراقبها. اقترب مني احد رجال البوليس فقال :
- بم تنعم النظر؟
قلت: اخطط لمدرستي!
قال : من اين انت؟
قلت : من بتليس
قال: وهنا تفليس!
قلت : بتليس وتفليس شقيقتان
قال: ماذا تعني؟
قلت : لقد بدأ ظهور ثلاثة انوار متتابعة في آسيا، في العالم الاسلامي، وستظهر عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض ، سيُمزّق هذا الستار المستبد ويتقلص ، وعندها آتي الى هنا وانشئ مدرستي.
قال: هيهات ! انني احار من فرط أملك؟
قلت : وانا احار من عقلك ! أيمكن ان تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعاً ولكل ليل نهاراً.
قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.
قلت: ذهبوا لكسب العلم ، فها هو الهندي الذي هو ابن الاسلام الكفوء يدرس في اعدادية الانكليز.
_____________________
1 المقصود الخطبة الشامية - المترجم.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 372
وها هو المصري الذي هو ابن الاسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الادارية السياسية للانكليز..
وها هو القفقاس والتركستاني اللذان هما ابنا الاسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس.. الخ.
فيا هذا ! ان هؤلاء الابناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء ابيهم العادل، الاسلام العظيم ، خفاقاً ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الازلية المقدرة في بني البشر رغم كل شئ.
وهذا هو نصف حكايتي.
مثال:
والآن سأمثل للحالة الروحية التي تدفع الى القول : نفسي نفسي.. ماذا عليّ. بالآتي:
يتقابل شخصان وتبدأ المناظرة والمفاخرة بينهما، احدهما جسور ولكن عضت النوائب 1 عشيرته الاصيلة. والآخر جبان، لكنه ينتمي الى عشيرة اخرى تبسمت لها الاقدار. فالاول ما ان يرفع رأسه ويرى ذلّ عشيرته لا تستطيع عزة نفسه تحمّل الذل، فيخفض رأسه وينظر الى نفسه، فيراها محملة الى حدٍّ ما بالعزة. وعندها يبدأ غروره المجروح بالانانية بالصراخ قائلاً: وماذا عليّ.. ها أنذا! وهاهي افعالي انا .. فينسحب من تلك العشيرة او ينتسب الى اخرى مظهراً عدم اصالته.
أما الثاني فكلما رفع رأسه سطعت امام ناظريه مفاخر عشيرته فينتفخ غروره. ولكن ما ان ينظر الى نفسه يراها واهية، وعندها يتيقظ روح التضحية والفداء في الشعور القومي. فيقول : فداكِ نفسي يا عشيرتي!.
فاذا فهمت الرمز الكامن في هذا المثال، فان في ميدان العالم هذا،ميدان الامتحان والمجاهدة والسباق، اذا تظاهرت مشاعر كل مسلم ونصراني، وكردي ورومي، في اثناء المبارزة في الحمية، تجد سر المثال. ولكن هذا التفاوت ليس كما يظنه الناس وربما هو ناتج من النظر الظاهري والسطحي وغلط الحس.
_____________________
1 بمعنى ان »الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر « ليس مجازاً - المؤلف.



صيقل الإسلام/السانحات - ص: 373
ايها المسلم!
اياك ان تنخدع . فلا تخفض رأسك! فان قطعة ألماس نادرة مهما كانت صدئة افضل من قطعة زجاج لامعة دوماً. فان ضعف الاسلام الظاهري ناشئ من خدمة هذه المدنية الحاضرة في سبيل دين آخر.
آن الأوان اذن ان تبدل هذه المدنية صورتها، فاذا ما بدّلتها فالقضية تنعكس.
فكما قيل في البداية اينما كان المسلم فهو البدوي بالنسبة للنصراني، مستنكف عن المدنية لا يكترث بها ويتحرج في قبولها، فاذا ما بدّلت الصورة فالوضع يتبدل..
وكل آت قريب. وان مع العسر يسراً.
سعيد النورسي
* * *
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #35
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 375

المناظرات
وصفة طبية
لقارة شاسعة عظيمة الجانب .. رديئة الطالع
ولدولة مشــهورة عريقة المجد . . سيئة الحظ
ولأمـة عـزيــزة جـليـلة القدر . بلا رائدتأليف:
بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 377المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد
فقد أعلن السلطان عبد الحميد الثاني "المشروطية" 1 في 23/ تموز/ 1908م، وهي تعنى تأسيس النظام البرلماني في الدولة العثمانية التي اصبحت بموجبها الوزارة مسؤولة تجاه البرلمان وليس تجاه السلطان، كما ان صلاحية تشريع القوانين غدت من اختصاص البرلمان، واطلقت على اثرها حرية العمل السياسي وحرية الصحافة وغيرها..
كانت وجهات نظر الناس عامة والمثقفين خاصة متباينة حول "المشروطية"، اذ بدأت الفئات المختلفة تفسّر "الحرية" بالشكل الذي يروق لها، فبينما اندفعت فئة في تأييد المشروطية ومناصرتها بشدة بغية جرّها لأغراض سياسية واجتماعية وصولاً الى مآربهم في تقويض الدولة العثمانية، اذا بآخرين يتوجسون خيفة من هذا الانقلاب الذي حدث في نظام الدولة، وفي الوقت نفسه وقف آخرون مبهوتين لايتقدمون خطوة ولا يتأخرون، بينما صفق لها غيرهم من المفتونين بحضارة اوروبا المبهورين ببريقها. . وهكذا اختلفت الآراء. .
أما بديع الزمان سعيد النورسي فقد سلك مسلك الاعتدال، مسترشداً بالنهج الاسلامي السالم من التعصب الذميم الذي يعيق كل تجدد، والمبرأ عن اللهات وراء الغرب وتقليده تقليداً اعمى. فناصر مفهوم "الحرية" و "الشورى" ضمن ماهو واضح في الاسلام. ودافع عن "المشروطية" المحددة بحدود الشرع. فكتب مقالات عديدة في الصحف المحلية آنذاك، وألقى كثيراً من الخطب في الاجتماعات التي عقدت في
_____________________
1 المشروطية: وهي اعلان النظام البرلماني في الدولة العثمانية، وقد أعلن السلطان عبد الحميد المشروطية مرتين، مرة عند بداية حكمة وهي المشروطية الاولى في 19 مارت 1877م. ثم جمدها بعد هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا وبعد أن رأى ان اعداء الدولة العثمانية قد استغلوا البرلمان لتمزيقها وجرّها الى الدمار. ثم عاد بعد أكثر من ثلاثين سنة الى اعلانها مرة اخرى وهي المشروطية الثانية. واستمرت حتى معاهدة موندروس في 30/10/1918م.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 378
الميادين العامة والجوامع. مبيناً مفهوم الحرية والشورى في ضوء الاسلام. ومحذراً من التعصب المقيت والتقليد المشين، اذ شعر بمحاولات خبيثة تعمل في الخفاء لاستغلال "المشروطية" وتوجيهها لمصلحة مغرضين مناهضين للاسلام. وحينما كان يبذل وسعه في هذا الميدان لم ينسَ السياسيين والمفكرين والصحفيين، فأجرى معهم لقاءات عديدة ناصحاً ومرشداً وموضحاً المنهج الاسلامي الصحيح الذي فيه خير البلاد وصلاح العباد. ولما ادرك انه أفرغ جهده في مركز الخلافة، استانبول توجّه الى شرقي الاناضول سنة 1910م وبدأ بجولة واسعة بين مختلف العشائر الكردية والتركية، وعقد معهم اجتماعات وندوات يجري فيها مناقشات حول امور اجتماعية وسياسية، وبين لهم صلاحية "المشروطية" بالمفهوم الاسلامي. واختار معهم اسلوب الحوار السهل المستساغ والقريب الى الاذهان. على الرغم من انه قد أورد جملاً أشبه مايكون بالشفرات، ولفّع قسماً من العبارات بالتشبيهات والمجازات، ووجه الخطاب احياناً الى الاجيال المقبلة.
كان جلّ اهتمامه منصباً في تحطيم قيود اليأس وكسر أغلال القنوط التي كبّلت الناس، وكان يحاول جهده أن يشعل بصيص الأمل وبريق الرجاء في نفوسهم. فضلاً عن وضعه لهم موازين شرعية ومنطقية لوزن الاحداث المستحدثة، بعقلية متوازنة ايمانية هادئة، بعيدة قدر الامكان عن الانفعالات وردود الفعل.
دوّن الاستاذ النورسي هذه المحاورات بالتركية في رسالة طبعها في مطبعة "ابو الضياء" باستانبول سنة 1913م ونشرها تحت اسم (بديع الزمانك مناظراتي) -مناظرات بديع الزمان- ثم ترجمها الى العربية بنفسه ونشرها تحت عنوان "رجتة العوام" اي الوصفة الطبية للعوام. وجاءت هذه الترجمة مبهمة مغلقة العبارات، فاضطر الاستاذ أن يكتب في مقدمتها "معذرة طويلة الاذيال" جاء فيها قوله:
"ان هذه الرسالة العربية ترجمتُها من التركية، التي ترجمتها من الكردية، التي ارتجلتها لأسئلة الاكراد القرويين. فالمترجَم من المترجَم من المرتجل، من امي (يقصد نفسه) لقرويين، لايتملّس ولايخلص من خشونة في المعنى واللفظ".
ولم تتح للاستاذ النورسي ان يعيد النظر في رسالته هذه الاّ بعد خمس واربعين سنة من تأليفه لها، اذ عصفت اعاصير مدمرة بالامة الاسلامية عامة والتركية خاصة بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى ودخول الاجانب في البلاد ثم


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 379
الحروب الدامية في طردهم منها، حتى انتهى الأمر الى اعلان الجمهورية وإلغاء الخلافة، واعقب ذلك عداءٌ سافرٌ للدين، دام طوال ربع قرن من الزمان بل اكثر. وعانى الاستاذ النورسى في تلك الايام الحالكة أشد الظلم والعنت، اذ ماكان يحل في منفى الاّ وينفى الى غيره ولا يبرأ من محكمة إلاّ ويدخل اخرى وهكذا الى مابعد سنة 1950م حيث تمكن من اعادة النظر في الرسالة فشذبها وعلّق عليها بهوامش وحذف ما يقرب من ثلثها من بداية الرسالة وما كان قاصراً على فترة معينة، أو ما يمكن ان يُساء فهمه. وعندما اريد نشرها في سنة 1959 أعاد المؤلف فيها النظر بدقة وأجرى بعض التنقيحات والتعديلات من حذف واضافة ونحن بدورنا قمنا بترجمة هذه الطبعة المنقحة.
هذا وقد كتب الاستاذ النورسي الى طلابه رسالة خاصة بعثها لهم من منفاه "قسطموني" يبين فيها رأيه في مؤلفات "سعيد القديم" عامة وفي هذه الرسالة خاصة، ثم اعقبها برسالة اخرى بعثها لهم من منفاه "اميرداغ" كلتا الرسالتين ذات اهمية في فهم مضامين مؤلفات سعيد القديم، وقد ألحقنا رسالة قسطموني بهذه المقدمة ونحيل القارئ الكريم الى "الملاحق" ص383 - 387 للاطلاع على الرسالة الاخرى قبل مطالعته مؤلفات سعيد القديم الاجتماعية.
أما عملي في الترجمة والتحقيق، فقد اقتصر على الخطوات الآتية:
1- اعتبار النص التركي الموسوم بـ "
Münazarat " المطبوع بدار سوزلر باستانبول طبعات عديدة جداً والذي اقره المؤلف نفسه هو الاساس .
2- مقابلة هذا النص بالطبعة الاولى من الرسالة المطبوعة في سنة 1913م في مطبعة "ابو الضياء" باستانبول.
3- مقابلته ايضاً بالترجمة العربية التي قام بها المؤلف نفسه، وهي المنشورة ضمن كتاب "الصيقل الاسلامي" المطبوع بمطبعة النور بانقرة سنة 1958م.
4- مقابلته ايضاً بنسخة الترجمة العربية المحفوظة في المكتبة الوطنية بازمير تحت رقم 2262/ 288/ 20 دون ذكر اسم المطبعة وسنة الطبع.
5- الاحتفاظ بالعبارات والفقرات العربية الواردة في النص التركي كما هي


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 380
ووضعها بين قوسين مركنين [ ]. فكل مابين هذين القوسين هو من عبارات المؤلف نفسه.
6- كتابة هوامش لشرح ما كان معروفاً آنذاك ويحتاج اليه القارئ اليوم، سواءً من الاحداث التاريخية أو مواقع جغرافية أو تعابير سياسية.
7- ثم عزوت الآيات الكريمة التي فيها الى مواضعها من السور، وكذا خرّجت الاحاديث الشريفة من مظانها من امهات كتب الحديث الموثوقة.
والله نسأل ان يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل. وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين.
احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 381
رأى المؤلف في مؤلفاته القديمة

نص الرسالة التي بعثها الاستاذ النورسي لطلابه من منفاه (قسطموني) يبين فيها رأيه في الاسباب الموجبة لتنقيحه "المناظرات" وعدوله عن شئ مما ذكره فيها من آراء.
لقد ألقيت نظرة الى رسالة "المناظرات" وذلك بعد مرور خمس وثلاثين سنة على تأليفها فرأيت فيها وفي امثالها من مؤلفات "سعيد القديم" أخطاءً وهفوات. اذ ألّف تلك الآثار في حالة روحية ولّدها الانقلاب السياسي 1 وأنشأتها مؤثرات خارجية وعوامل محيطة به.
انني استغفر الله بكل حولي وقوتي من تلك التقصيرات راجياً من رحمته تعالى اَن يغفر تلك الخطايا التي ارتكبتها بنية حسنة وبقصد جميل، لدفع اليأس المخيم على المؤمنين.
ان اساسين مهمين يهيمنان على آثار "سعيد القديم" -كهذه الرسالة - والاساسان ذوا حقيقة، ولكن كما تحتاج كشفيات الاولياء الى تأويل، والرؤى الصادقة الى تعبير، فان ما أحس به "سعيد القديم" باحساس مسبق - أي قبل وقوع الأمر - بحاجة كذلك الى تعبير، بل الى تعبير دقيق. الاّ ان إخباره عما توقع حدوثه وبيانه تلكما الحقيقتين بلا تأويل ولا تعبير، ادّى الى ظهور شئ من النقص والقصور وخلاف الواقع فيما أخبر عنه. الأساس الأول: هو ما زفّه من بشرى سارة للمؤمنين بظهور نورٍ في المستقبل. زفّ هذه البشرى ليزيل بها يأسهم ويرفع عنهم القنوط، فلقد أحسّ باحساس مسبق ان "رسائل النور" ستنقذ ايمان كثير من المؤمنين، وستشد أزرهم في زمان عصيب عاصف. الاّ انه نظر الى هذا النور، من خلال الأحداث السياسية التي واكبت الانقلاب وحاول تطبيق ما رآه من نور على واقع الحال من دون تعبير ولا تأويل. فوقع في ظنه ان ذلك النور سيظهر في عالم السياسة وفي مجال القوة وفي ميدان فسيح. فقد أحسّ احساساً صادقاً الاّ انه لم يوفّق في التعبير عن بُشراه توفيقاً كاملاً.

_____________________
1 المقصود اعلان المشروطية.- المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 382
الاساس الثاني: لقد أحس "سعيد القديم" ما أحسّه عدد من دهاة السياسة وفطاحل الادباء؛ بان استبداداً مريعاً مقبلٌ على الأمة، فتصدوا له، ولكن هذا الاحساس المسبق كان بحاجة الى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف 1 لإستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب. فحسبوا ظل استبدادٍ - ليس له الاّ الاسم - استبداداً أصيلاً، فهاجموه. فالغاية صحيحة الاّ ان الهدف خطأ.
وهكذا فلقد أحسّ "سعيد القديم" أيضاً بمثل هذا الاستبداد المخيف فيما مضى. وفي بعض آثاره توضيحات بالهجوم عليه، وكان يرى ان المشروطية الشرعية وسيلة نجاةٍ من تلك الاستبدادات المرعبة. لذا سعى في تأييدها بالحرية الشرعية والشورى ضمن نطاق احكام القرآن، آملاً ان تدفعا تلك المصيبة.
نعم ! لقد أظهر الزمان ان دولة تسمى داعية الحرية، قد كبّلت بثلاثمائة من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليوناً من الهنود، منذ ثلاثمائة سنة، وسيطرت عليهم كأنهم ثلاثمائة رجل لاغير، حتى لم تتركهم يحركون ساكناً. ونفذت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذة آلاف الأبرياء بجريرة مجرم واحد. واعطت لقانونها الجائر هذا اسم العدالة والانضباط. فخدعت العالم ودفعته الى نار الظلم. هذه الدولة غدت مقتدى ذلك الاستبداد القادم في المستقبل.
وفي رسالة "المناظرات" هوامش قصيرة، وملاحظات وردت على صورة طُرف ولطائف، فهي من قبيل الملاطفة مع قسم من طلابه الظرفاء في تأليفه القديم ذاك، اذ قد وضح لهم الامور باسلوب الدرس والارشاد.
ثم ان زبدة هذه الرسالة "المناظرات" وروحها وأساسها، هي ما في خاتمتها من حقيقة اقامة "مدرسة الزهراء"، وماهي الاّ المهد الذي سيشهد ظهور "رسائل النور" في المستقبل. فكان يُساق الى تأسيسها دون ارادة منه. ويتحرى - بحس مسبق - عن تلك الحقيقة النورانية في صورة مادية حتى بدت جهتها المادية أيضاً، اذ منح
_____________________
1 المقصود: ان الاستبداد الذي كان يمارس في عهد السلطان عبدالحميد يعدّ ظلاً ضعيفاً للاستبدادات التي حصلت بعد عهده وبعد سقوط الخلافة. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 383
السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك المدرسة، وارسيت قواعدها فعلاً، الاّ ان اندلاع الحرب العالمية الاولى حال دون اكمال المشروع.
ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ الى انقرة، وسعيت في انجاز تلك الحقيقة، وفعلاً وافق مائة وثلاثة وستون نائباً في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسة عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن ياللأسف - ألف ألف مرة - سدّت جميع المدارس الدينية، ولم استطع ان انسجم معهم فتأخر المشروع أيضاً.
بيد ان المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائص المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في "اسبارطة" فاظهر "رسائل النور" للوجود. وسيوفق - ان شاء الله - طلاب النور الى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضاً.
ان سعيداً القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة "الاتحاد والترقي" 1 فانه مال الى حكومتها ولاسيما الى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير واعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك الاّ بما كان يحس به من احساس مسبق من ان تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال اليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبما يخالف مشربه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول الى مخيض لا قيمة له. فعاد "سعيد الجديد" الى الاستمرار في جهاده وخالف سعيداً القديم.
_____________________
1 جمعية الاتحاد والترقي: وهي جمعية تشكلت سنة 1888م، كان شعارها »الاتحاد، المساواة، والاخوة« نادت بعزل السلطان عبد الحميد واقامة حياة برلمانية في البلاد. اتصل بعض اعضائها بالمحافل الماسونية وبالدول الاجنبية، ونجحت اخيراً في عزل السلطان. وعندما وصلت الى الحكم اسست حكماً دكتاتورياً قاسياً، ثم ورطت الدولة العثمانية في اتون الحرب العالمية الاولى (بجانب المانيا) وبعد ان تمزقت اوصال الدولة العثمانية هرب زعماؤها الى الخارج. المترجم.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #36
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 385

المناظرات
وصفة طبية
لقارة شاسعة عظيمة الجانب.. رديئة الطالع
ولدولة مشهورة عريقة المجد… سيئة الحظ
ولأمة عزيزة جليلة القدر… بلا رائد
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 387
[قسم من أجوبة "سعيد القديم" عن أسئلة
طـرحتها العشـائر قبل خمس وأربعين سنة]. 1

بسم الله الرحمن الرحيم

س : ان لم يكن على الدين ضرر، فليكن مايكون ولانبالي.
ج : الاسلام كالشمس لا ينطفئ سناها بالنفخ، وكالنهار لا يحال ليلاً باغماض العين. ومن يغمض عينه فلا يجعل الظلمة الاّ من نصيبه.
تُرى لو فُوّضت حماية الدين الى رئيسٍ مغلوب على أمره، أو الى مسؤولين مداهنين، أو الى فئة من ضباط لا منطق لهم. أيكون اَولى أم يُعتمد على العمود النوراني، ذلك السيف الألماسي، الحاصل من امتزاج شرارات حمية الاسلام النيرة، ولمعات الانوار الالهية التي تشع من عاطفة الايمان في قلب كل فرد، والتي هي معدن المشاعر الاسلامية الممدّة لأفكار الامة العامة؟
فلكم ان تقدّروا أيهما اولى بالاعتماد عليه في حماية الدين ؟
نعم. سيرفع هذا العمود النوراني 2 حماية الدين على رأس شهامته، وعلى عين مراقبته وعلى كاهل حميته. فها أنتم اولاء تشاهدون ان اللمعات المتفرقة بدأت تتلألأ، وستمتزج رويداً رويداً بالانجذاب؛ لأنه قد تقرر في "فن الحكمة" -اي الفلسفة- أَن الشعور الديني ولاسيما الدين الفطري الحق، اَنفذُ كلاماً، وأعلى حُكماً، وأشد تأثيراً من كل الاحاسيس والمشاعر.
وخلاصة القول: مَن لم يعتمد على غيره يحاول هو بنفسه. وسأضرب لكم مثلاً: انتم من البدو، رأس مالكم الغنم - وانتم اعلم بأموركم - فقد عهد كلٌ منكم قسماً
_____________________
1 المقصود سنة 1910م حيث تجول الاستاذ النورسي بين العشائر التركية والكردية في شرقي الاناضول وطبع الكتاب لأول مرة في استانبول سنة 1913م. المترجم.
2 فلقد أحسّ برسائل النور حتى اَجاب عن السؤال بثلاث صفحات... ولكن حُجُب السياسة صبغَتْه بلون آخر. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 388
من اغنامه الى راعٍ، بينما الراعي كسلان ومعاونه متهاون متكاسل وكلابه جبانة، فان اعتمدتم عليه ونمتم براحة في بيوتكم، ظلت اغنامكم الوادعة تحت سطوة الذئاب الضارية واللصوص والمصائب والبلايا.. أهذا الأمر اَولى اَم التفطن الى عدم كفاءة الراعي لحمايتها، فينطلق كلٌ منكم من مسكنه كالبطل منتبهاً من نوم الغفلة، ساعياً الى الحفاظ على الأغنام، فتكونوا ألفاً من الحماة المحافظين بدلاً من راعٍ واحد... فلا يجرأ عندئذٍ ذئبٌ ولاسارق على الإقتراب من غنمكم؟… اَما جعل هذا السرّ أشقياء "مامه خوران" 1 تائبين، بل مريدين صوفيين؟ ... نعم، ان ارواحهم قد تاقت الى البكاء وصار شخصٌ 2 بنصيحةٍ سبباً لاستجاشتها، فبكوا دمعاً سخيناً بكاء الندامة..
نعم... نعم... أجل.. أجل.! لو سكن طنينُ البعوض وهدأ دويّ النحل فلا تأسوا ولاتحزنوا ولا تخمد أشواقكم أبداً، فالموسيقى الالهية العظيمة التي تجعل بنغماتها الكون في رقصٍ وانتشاء، وتهز باشجانها اسرار الحقائق، لم تسكن ابداً ولم تهدأ... بل تستمر قوية عالية هادرة.
ان ملك الملوك وسلطان السلاطين ملك الأزل وسلطان الأبد ينادي بقرآنه الكريم الذي هو موسيقاه الالهية، مالئاً الكون كله صوتاً صداحاً هادراً في قبة السماء فانعطفت النغمات المقدسة لذلك النداء السامي متموجة نحو اصداف رؤوس العلماء ومغارات قلوب الأولياء وكهوف افواه الخطباء وانعكست أصديتها من ألسنتهم سيّالة، سيارة منوّعة، مختلفة... هزّت الدنيا بشدة موجاتها، فطبعتْ بتجسّمها كتبَ الاسلام كلها وصيّرتها كأنها وترٌ من طنبور، وشريط من آلة قانون فأعلن كلُ وترٍ نوعاً من ذلك الصدى السماوي الروحاني... فمن لم يسمع - أو لم يستمع - بأذن قلبه ذلك الصدى الذي ملأ العالم ضياءاً، اَنّى له اَن يصغيَ الى طنين أمير الدولة ورجاله!
الحاصل: ان مَن يتوجس خيفة على دينه من انقلاب سياسي فليس له نصيب من الدين الاّ "الجهل" -الواهي كبيت العنكبوت- الذي يدفعه الى الخوف، وليس له الاّ "التقليد" الذي يرميه في أحضان الاضطراب والإرتباك... لأنه لما ظن - بالعجز
_____________________
1 عشيرة ساكنة شرقي الاناضول حوالى مدن »باتنوس، أرجس.. «. المترجم.
2 هو الشيخ احمد احد الاولياء الصالحين المعروفين في تلك المنطقة، وسيأتي ذكره. المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 389
وبفقدان الثقة بالنفس - ان سعادته ليسَ الاّ في جيب الحكومة، تصوَّر أن قلبه وعقله كذلك هما في كيس الحكومة. فلا جرم أن يملأه الخوف.
س: لايقول بعضهم مثلما تقول، بل يقولون: لابد اَن يجئ "السيد المهدي" لان الدنيا قد اضطربت وتشوشت لإكتهالها وهرمها، والاسلام قد اهتزّ كيانه بانتعاش المنافع الشخصية وتنفس الأغراض الدنيوية.
ج: لو استعجل السيد المهدي، وأتى، فعلى العين والرأس، فليأتِ حالاً، فقد آن أوانُه، فلقد تهيأ وتمهّد له وضعٌ ملائم حسن، فليس فاسداً كما تظنون، فالأزهار اليانعة تزدهر في الربيع، ومن شأن الرحمة الإلهية لهذه الأمة ان يجد ذلُّها نهايته، ومع هذا فمن قال: ساءَ الزمان كلياً وفسد علينا مُبدياً ميلاً الى العهد السابق، فانه يسند - من حيث لايشعر - سيئات العهد السابق الناشئة من مخالفة الاسلام الى الاسلام نفسه، كما هو ظن قسم من الاجانب.
س: مَن هم اولاء المشوّشون على الأفكار ولا يقدرون "الحرية" و " المشروطية" حق قدرهما؟
ج: جمعية تشكلت برئاسة "الجهل" آغا و"العناد" أفندي، و"الغرض" بك، و "الانتقام" باشا و"التقليد" حضرتلرى ومسيو " الثرثرة"، وهي جمعية من الناس تشوّه "الشورى" التي هي منبع سعادتنا وتكدّرها، فالمنتسبون اليها - في البشرية - هم الذين لا يضحون بدرهم واحد من حسابهم لاعظم مصلحة من مصالح الأمة ومنافعها… والذين يرون نفعَهم في اضرار الناس، وبدانتهم في هزال الآخرين… والذين يفسّرون الأمور دون محاكمة عقلية عادلة فيطلقون المعاني جزافاً… فبينما ترى أحدهم لا يكبح جماح نفسه للثأر ولا يضحي بغرضه الشخصي، اذا به يدّعي بغرورٍ استعداده لفِداء روحه للأمة… وهم اولاء الذين يحملون افكاراً غير معقولة أمثال تكوين الامارات "البكلك" اَو الحكم الذاتي "المختارية" - التي هي مقدمة طوائف الملوك - اَو الجمهورية بمفهوم الاستبداد المطلق… وهم اولاء الذين رأوا الظلم فامتلأت قلوبُهم غيظاً ورغبة في الثأر حتى لم يستطيعوا اَن يهضموا العفو العام والأمن العام وهما من اُولى حسنات "الحرية" و " المشروطية". فيثيرون الآخرين للإخلال بالأمن ويهيّجونهم للقيام بالاضطرابات كي يتشَفّوا بانزال العقوبة بهم، وتأديبهم.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 390
س: لِمَ تفنّد جميعهم وتعدّهم فاسدين، مع انهم يبدون ناصحين لنا؟
ج: اَروني مفسداً يقول: اَنا مفسد، وماهو الاّ مفسد الا أنه يتراءى في صورة الحق، اَو يرى الباطل حقاً. نعم؛ مامن أحد يقول: مخيضي حامض.. فلا تأخذوا شيئاً الاّ بعد إمراره على المحك، لأن أقوالاً مغشوشة مزيّفة قد كثرت في تجارة الأفكار... حتى كلامي اَنا لا تأخدوه على علاّته - بحسن ظنكم - لانه صادر عني فقد اكون مفسداً، أو اُفسد من حيث لا أشعر، فعلى هذا تيقظوا! ولا تفتحوا الطريق الى القلب لكل طارِق. فليظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرضوه على المحك، فان ظهر اَنه ذهب فارسلوه الى القلب، واحتفظوه هناك، وان ظهر اَنه نحاس، فاحملوا على عاتق ذلك الكلام المنحوس كثيراً من الغيبة وشيّعوه بسوء الدعاء عليّ وردّوه خائباً اليّ.
س: لِمَ تسئ الظن بحُسن ظننا؟ فالسلاطين والحكومات السابقة ما استطاعوا ان يصرفوك عن الحق ولم يستطع كذلك اعضاء "جون تورك" 1 ان يكسبوك الى صفوفهم. فلمْ تداهنهم، حتى ألقوك في السجن وكادوا اَن يصلبوك، فما رضختَ لهم ولا خنعت اَمامهم بل برزتَ بطلاً شهماً برفضك ما وعدوك من مرتّب ضخم... فأنت اذاً بجانب الحق ولا تميل الاّ اليه، ولا تقول ماتقول انحيازاً اليهم.
ج: نعم، ان الذي عرف الحق، لايستبدل له بشئ، لأن شأن الحق رفيع وسامٍ ما ينبغي أن يُضحّى به لأجل أي شئ كان، ولكني لا أقبل حسن ظنكم هذا، لأنكم قد تحسنون الظن بالمفسد أو المحتال. انظروا الى دليل فكره ونتيجته.
س: كيف نعرف ذلك؟ ونحن جاهلون، نقلّد العلماء أمثالكم.
ج: ان لم تكونوا من أهل العلم، فأنكم من أهل العقل. بدليل؛ لو تقاسمت الزبيب مع احدكم فقد يغبنني بذكائه! فجهلكم اذاً ليس عذراً... اعلموا ان الاشجار المتشابهة تمّيزها ثمراتُها، لذا تبصّروا في ثمرات افكاري ونتاج أفكارهم، فقد تلألأت في احدهما السلامة والطاعة، وتستر في الآخر الاختلاف والفساد. سأضرب لكم مثالاً آخر:
_____________________
1 مشتقة من العبارة الفرنسية »Jeunes Turces« اي تركيا الفتاة: يطلق هذا الاسم على الجماعات والافراد المعارضين للحكم في الدولة العثمانية منذ عهد السلطان عبد العزيز وفيهم الشاعر نامق كمال وضياء باشا ممن يطالبون بالحرية. كانت مطاليب هذه الجماعات والافراد تتلخص في اعلان الدستور وتأسيس حياة برلمانية. وتعدّ جمعية الاتحاد والترقي اقوى هذه الجماعات تأثيراً، اذ استطاعت - بالتعاون مع القوى الخارجية - ازاحة السلطان عبد الحميد من الحكم. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 391
تصوّروا ناراً منيرة تتراءى في هذه الصحراء، فانا أبشركم بأنها نورٌ وليست ناراً، وحتى ان كانت فيها نار فليس الاّ طبقة عليا منها ضعيفة موروثة... فتعالوا اذاً لنحيط بها ونتحلق حولها ونتفرج عليها ونستضئ بها ونقتبس منها حتى تتلاشى طبقة النار ولنستفد منها. فان كانت نوراً - كما قلت - فبه، فقد استفدنا، وان كانت ناراً - كما قالوا - ماضرّتنا، اذ لم نقتحمها. أما هم فيقولون: "أن النار محرقة" فان كان نوراً أعمــى قلوبهــم وابصارهــم لأن النــور - الـذي يظنونه ناراً - هو نور السعادة 1 ، فاينما أشرق لم يُطفأ ولو بصبّ اُلوف القِرَب من دماء ملايين الناس، بل حاول بعض من فينا اطفاءه بضع مرات منذ سنتين إلاّ انهم خابوا.
س: انت قلت انه ليس بنار، ولكن كلامك يشير الى ناريته..؟!
ج: نعم، النور نار للأشرار.
س: ماتقول لأهل الفضيلة من تلك الزمرة؟ وهم أخيار...
ج: هناك كثير من الأخيار يسيئون وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً.
س: كيف يَرِد الشرُ من الخير؟.
ج: طلب المحال حمقٌٌ ووبال على صاحبه، لأن من كانت بغيته حكومة بريئة معصومة فطلبه محال اعتيادي، اذ لماّ لم يكن الشخص الواحد الآن معصوماً فكيف بالشخص المعنوي "الحكومة" الذي كلُ ذرة من ذراته مذنبة؟ فمدار النظر اذاً هو في ترجّح حسنات الحكومة على سيئآتها كمّاً أو نوعاً. واَنا أنظر الى هؤلاء واعدّهم فوضويين، لأنه لو عاش اُحدهم - لا سامح الله - الف سنة، ورأى الصور الممكنة للحكومات، لما ارتضى كذلك باحداها، لما في خياله وحلمه من تصّور للحكومة المعصومة، فيولد فيه هذا الحلم ميلَ التخريب فيمزق تلك الصور الممكنة.
لذا حتى الفاسدين - في نظرهم - من اعضاء "جون تورك" يعدّونهم زمرة ملعونة فوضوية مشاغبة، فمسلكهم ليس الاّ الاخلال بالأمن والإفساد.
س: فلمَ لا يجوز ان تكون ضالّتهم العهد السابق؟.
ج: اني أبعث الى سماعكم قانوناً قصير القامة طويل الهمّة، يمكنكم حفظه، فشاوروه، وهو: "ان تلك الحال محال، فإما هذه الحال وإما الإضمحلال" فالحكومة
_____________________
1 وهنا ايضاً قد أحسّ برسائل النور، ولكنه نظر اليها من تحت ستار السياسة فتبدل شكل الحقيقة - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 392
مسلمة، والأمة التي تحكمها مسلمة وأس أساس سياستها أيضاً هو الدستور الآتي: ان دين الدولة الاسلام... فوظيفتنا اذاً الحفاظ على هذا الاساس ووقايته، لأنه جوهر حياة أمتنا.
س: أتستمر الحكومة في خدمة الاسلام وتقوية الدين بعد الآن؟.
ج: بخ بخٍ وبكل سرور، نعم، فان هدف الحكومة وان كان مستتراً وبعيدا وباستثناء بعض الملحدين الجهلة - هو حماية سلسلة الاسلام النورانية وتقوية رابطته التي تجعل ثلاثمئة مليون مسلم - بسرّ الاخوة الايمانية - كياناً واحداً، اذ اِنها هي وحدها "نقطة الاستناد" وهى وحدها "نقطة الاستمداد"… ان قطرات المطر ولمعات النور كلما بقيت متفرقة وظلّت متناثرة، جفّت بسرعة وانطفأت حالاً. فينادينا رب العزة سبحانه قائلاً:
(ولاتفرقوا) (آل عمران: 103) (لاتقنطوا) (الزمر: 53) ليحول بيننا وبين الانطفاء والزوال..
نعم، ان نغمات
(لاتقنطوا) واصداءها تتجاوب من ست جهات: الضرورة، والانجذاب، والتمايل، والتجارب، والتجاوب، والتواتر، تجمع تلك القطرات واللمعات في مصافحة وعناق، وتطوي مابينها من المسافة مولدةً حوضاً من ماء يبعث على الحياة وضياءً منوراً ينير العالم أجمع. ذلك لأن الدين جمال الكمال وضياء السعادة ونمو المشاعر وسلامة الوجدان. 1
س: الآن نستفسر عن الحرية، فما هذه الحرية التي تتجاذبها التأويلات وتتراءى فيها الرؤى العجيبة الغريبة؟!.
ج: ان من عاش مع طيفها منذ عشرين سنة حتى تعقبها في الرؤى وترك كل شئ لحبّها يستطيع الأجابة عنها فهو الخبير بوصفها.
س: لقد فسّروا لنا "الحرية" تفسيراً خاطئاً سيئاً، وكأن الانسان مهما فعل - في كنف الحرية - من سفاهات ورذائل وفضائح لا يؤاخَذ عليها مادام لم يضرّ بها الناس... هكذا أفهمونا الحرية، اَهي كذلك؟!.
ج: ان الذين فسّروها هكذا، ما اعلنوا الاّ عن سفاهاتهم ورذائلهم على رؤوس الاشهاد، فهم يهذرون متذرعين بحجج واهية كالصبيان، لأن الحرية الحسناء ماهي
_____________________
1 مهلاً، لها أشارات أشبه ماتكون بالشفرات. المؤلف.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 393
الاّ تلك المتأدبة بأداب الشريعة والمتزينة بفضائلها، وليست تلك التي في السفاهة والرذائل. بل تلك حيوانية وبهيمية وتسلط شيطاني، ووقوع في أسر النفس الأمارة بالسوء.
ان الحرية العامة هي المحصّلة الناتجة من حريات الأفراد، ومن شأن الحرية عدم الاضرار سواء بالنفس اَو بالآخرين.
[على ان كمال الحرية، ان لايتفرعن، وان لا يستهزئ بحرية غيره، ان المراد حق لكن المجاهدة ليست في سبيلها] 1
س: كم رأينا من لايفسّر الحرية كما تفسّرها أنت، مع ان أفعال اعضاء من "جون تورك" تخالفك في التفسير ويناقض قولهم قولك، اِذ اِن بعضهم يفطرون في رمضان ويشربون الخمر ويتركون الصلاة...
فهيهات ان يصدُق مع الأمة من خانَ الله ولم يصدق في امتثال أمره تعالى؟
ج: اَجل، نعم! لكم الحق... ولكن الحمية شئ والعمل شئ آخر، وعندي ان القلب أو الوجدان الذي لم يتزيّن بالفضائل الاسلامية لا تُرجى منهُ الحمية الحقة والوفاء الصادق والعدالة الخالصة. ولكن لأن الصنعة غير الفضيلة، فقد يقوم الفاسق برعي الاغنام رعياً جيداً، وقد يصلّح شارب الخمر ساعةً باتقان حين لايكون سكرانَ، ولكن وا أسفى على ندرة الذين جمعوا النورَين معاً: نور القلب ونور الفكر، أو بعبارة أخرى الفضيلة والصنعة، فهم نادرون لا يكفون لملء الوظائف، فاذاً اِما الصلاح واِما المهارة... واذا تعارضا فالمهارة مرجحة في الصنعة.
واعلموا كذلك ان السفهاء التاركين للصلاة، ليسوا بـ "جون تورك" بل هم "شين الترك" اي فاسدون، فهم روافض "جون تورك" مثلما لكل شئ روافضه، فروافض "الحرية" هم السفهاء.
ايها الأتراك والاكراد! انصفوا... هل يُرفَض الحديث الشريف وينكر اذا أوّلَه الرافضي تأويلاً فاسداً أو عمل بخلافه، أم يخطّأ الرافضي حفاظاً على منزلة الحديث الشريف وكرامته؟.
_____________________
1 لا تستعجل. . . الجملة تعنى ان صاحب جريدة (الميزان) »مراد« هو محق ورئيس تحرير جريدة (طنين) »حسين جاهد« على خطأ. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 394
اَلا ان الحرية هي: ان يكون المرء مطلق العنان في حركاته المشروعة مصوناً من التعرض له، محفوظ الحقوق ولايتحكم بعضٌ في بعض، ليتجلى فيه نهي الآية الكريمة: (ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) (آل عمران: 64) ولايتأمّر عليه غير قانون العدالة والتأدب، لئلا يُفسِد حرية اخوانه.
س 1: فما لنا اذن نحن معاشر البدو، نحن احرار منذ القدم، فقد ولدتْ حريتُنا توأماً معنا، فليفرح بها الآخرون من غيرنا، فالأمر لايهمّنا.
ج: نعم، ان حب تلك الحرية والشغف بها هي التي جعلتكم تتحملون مشقات البداوة التي لا تطاق، وان سلوككم المفعم بالقناعة هو الذي اغناكم عن محاسن المدنيّة البرّاقة، فزهدتم فيها. ولكن أيها البدو! ان مالديكم من الحرية هو نصفها، والنصف الآخر هو عدم المساس بحرية الآخرين. ثم ان الحرية الممزوجة بالبداوة وبالعيش الكفاف، توجد منها ايضاً في حيوانات الجبال والبراري القريبة منكم، وفي الواقع لو كانت هناك لذة وسلوان لهذه الحيوانات فهي في حريتها تلك...
ولكن أين أنتم من تلك الحرية الانسانية الساطعة كالشمس وهي معشوقة كل روح، وصنو جوهر الانسانية، وما هي الاّ التي تربّعت على قصر سعادة المدنية وتزيّنت بحلل المعرفة وحُليّ الفضيلة والتربية الاسلامية.
س: لقد قيل في حق هذه الحرية التي تثني عليها:
[حُريّةٌ حَرِيّةٌ بالنار، لانها تختص بالكفار] فما تقول في هذا القول؟
ج: ان ذلك المسكين الشاعر قد ظن الحرية مسلك البلشفية ومذهب الإباحية. كلاّ، بل الحرية بالنسبة للانسان تولّد العبودية لله سبحانه، وقد رأيت كثيرين يهاجمون "السلطان عبد الحميد" اكثر من هجومهم على " الاحرار" 2.. وكانوا يقولون: انه على خطأ لقبوله "الحرية" و "القانون الأساس" 3 قبل ثلاثين سنة" هكذا ! فما ظنكم بقول قائل حَسِبَ الاستبداد الذي اضطر اليه السلطان عبدالحميد
_____________________
1 هذا سؤال البدو الرحل الساكنين في الخيم السوداء. - المؤلف.
2 الاحرار: هو حزب معارض لجمعية الاتحاد والترقي وذلك في الفترة القصيرة التي بدأت قبيل عزل السلطان عبد الحميد، حتى استئثار جمعية الاتحاد والترقي بالحكم. المترجم.
3 اي الدستور بالتعبير الشائع حالياً والذي يعّين صلاحية الحاكم والحكومة والبرلمان، ويحدد الخطوط الرئيسية لسياسة الدولة وقوانينها. المترجم.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #37
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 395
حريةً، وارتعد من القانون الاساس الذي هو اسم دون مسمّى! فما قيمة قوله ياتُرى؟ هذا ولقد قال مجاهدٌ خدمَ الاسلام عشرين سنة: [حريةٌ عطيةُ الرحمن اذ إنها خاصية الايمان] 1.
س: كيف تكون الحرية خاصية الايمان؟
ج: لأن الذي ينتسب الى سلطان الكون برابطة الإيمان ويكون عبداً له تتنزّه شفقتُه الايمانية عن التجاوز على حرية الآخرين وحقوقهم، مثلما تترفع شهامتُه الايمانية وعزته عن التنازل بالتذلل للآخرين والانقياد لسيطرتهم واكراههم.
نعم. ان خادماً صادقاً مخلصاً للسلطان لايتذلل لتحكّم راعٍ وسيطرته، كما لا يتنازل أن يفرض سيطرته على مسكين ضعيف. فبمقدار قوة الايمان اذن تتلألأ الحرية وتسطع. فدونكم خير القرون، العصر السعيد، عصر النبوة والصحابة الكرام.
س: هيهات! نحن عوام كيف نصير أحراراً تجاه الشخصيات الكبار أو الاولياء والصلحاء والعلماء العظام، أوَ ليس من حقهم ان يتحكموا فينا لمزاياهم، فكيف لانكون اسراء فضائلهم؟
ج: ان شأن الولاية والمشيخة والعظمة: التواضع والتجرد، وهما من لوازم الفضيلة وخصائص الكمال ورفعة الشأن، لا التكبر والتحكم.. فمن تكبّر فهو صبي متشيّخ وطفل متكهّل، فلا تعظّموه..
س: لِمَ يكون التكبّر علامة التصاغر؟
ج: لأن لكل شخص نافذة يشاهد فيها ويطل منها على المجتمع، تلك هي مرتبة الشهرة والكرامة. فاذا كانت تلك النافذة ارفع من قامة استعداده، يتطاول بالتكبر، اما اذا كانت اخفض من قامة همته يتواضع بالتحدب ويتخفض كي يشهد في تلك المرتبة ويُشاهد.
س: حسناً جداً. لقد رضينا بأن الحرية حسنة جميلة، ولكن تبدو حرية الروم والارمن شوهاء. وتسوقنا الى التوجس وقلق البال، فما رأيك فيها؟
_____________________
1 ) تعريف جميل. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 396
ج:
اولاً: ان حريتهم الاّ يُظلَموا، ولايُخلّ براحتهم، وهذا أمر شرعي. أما مازاد على هذا فهو تعدّ منهم تجاه طيشكم وسوء تصرفكم، أو استغلال لجهلكم.
ثانياً: لو كانت حريتهم - كما تظنونها - مضرة بكم، فلسنا معاشر المسلمين بخاسرين، لأن الارمن الذين هم بين ظهرانينا لا يبلغون ثلاثة ملايين، وغير المسلمين فينا ايضاً لايبلغون عشرة ملايين، بينما ملتنا الاسلامية واخواننا الحقيقيون الابديون يزيدون على ثلاثمائة مليون، الاّ انهم مقيّدون بثلاثة قيود رهيبة من قيود الاستبداد، فينسحقون تحت هذا الاستبداد المعنوي للاجانب.. وهكذا فحرية غير المسلمين - التي هي شعبة من حريتنا - انما هي مقدمة وأتاوة لحرية امتنا كافة.. وهي رافعةٌ ذلك الاستبداد المعنوي المرعب 1. وهي مفتاح لفك تلك القيود.. وهي رافعة للاستبداد المعنوي الرهيب الذي ألقاه الاجانب على كاهلنا. نعم حرية العثمانيين كشّافة لطالع آسيا العظيمة ومفتاح لحظ الاسلام واساس لسور الاتحاد الاسلامي.
س: ما تلك القيود الثلاثة التي قيّد الاستبداد المعنوى بها العالَم الاسلامي؟
ج: ان استبداد حكومة روسيا - مثلا - قيدٌ.. وتحكم الشعب الروسي قيدٌ آخر. وتغلّب عاداتهم الكفرية الجائرة على العادات الاسلامية قيد ثالث.. والحكومة الانكليزية، وان كانت تبدو غير مستبدة الاّ ان امتها متحكمة مسيطرة، وعاداتها مهيمنة، فدونكم "الهند" برهاناً على ذلك و "مصر" نصف برهان عليه.
أفلم يثبت اذاً ان امتنا الاسلامية مقيدة بثلاثة قيود، أو بقيد ونصف، وليس لنا ازاء ذلك الاّ قيد كاذب موهوم ضعيف وضعناه على أرجل غير المسلمين فينا. وقد تحملنا كثيراً من دلالهم بديلاً عن ذلك. فلقد ازدادوا نسلاً وثروة، أما نحن فقد تناقصنا نسلاً وثروة. وذلك بسبب انحصار الوظائف - التي هي ضربٌ من عمل الخادم - والعسكرية فينا.
ان الفكر الملّي 2 والدُ "الحرية" وما كان الأسرى الاّ الاكراد والأتراك.
_____________________
1 كان ينبغي ان يتحدث بهذا الكلام بعد(اربع واربعين) سنة الاّ أنه ذكره في ذلك الوقت. المؤلف.
2 يعرّفه الاستاذ المؤلف في ص415 بأن »مليتنا وجود مستقل بذاته، روحها الاسلام وعقلها القرآن والإيمان«. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 397
وهكذا نفكّ ذلك القيد الكاذب ونحلّه عن أرجل ثلاثة ملايين أو عشرة ملايين لينفسح المجال ويتمهّد الطريق أمام حرية ثلاثمائة مليون مسلم مقيدين بثلاثة قيود. 1 ولاريب أن مَن أعطى ثلاثة عاجلاً وربح ثلاثمائة آجلاً ليس بخاسر!..
[وسيأخذ الاسلام بيمينه من الحجة سيفاً صارماً جزاراً مهنداً... وبشماله من الحرية لجام فرس عربي مشرق اللون فالقاً بفأسه وقوسه رؤوس الاستبداد الذي به اندرس بساتيننا] 2.
س: هيهات! كيف تكون حريتُنا مقدمة لحرية العالم الاسلامي كافة وفجره الصادق؟.
ج: بجهتين: -
الأولى: ان الاستبداد الذي فينا أقام سداً مظلماً جائراً ازاء حرية آسيا، فما كان لضياء الحرية ان ينفذ من ذلك الستار الكثيف المظلم ليفتّح الابصار ويُري الكمالات، ولكن بخراب هذا السدّ انتشر - وسينتشر - فكر الحريّة ومفهومها حتى الى الصين، بيد أن الصين أفرطت واصبحت شيوعية. ولما ثقلت كفة الحرية في ميزان العالَم، فقد رفعت كليّاً الوحشيةَ والاستبداد اللذين في الكفة الأخرى، وسيزولان بمرور الزمن. فلو انكم قرأتم صحيفة الأفكار وتأملتم في طريق السياسة واستمعتم الى الخطباء العموميين، أعني الصحافة الصادقة في أخبارها، لعلمتم أنه قد حصل في العالم العربي والهند وجاوا ومصر والقفقاس وافريقيا وأمثالها، تحّولٌ عظيم وانقلاب عجيب ورقي فكرى وتيقظ تام نابعٌ من فوران فكر الحرية وغليانه في افكار العالم الاسلامي، فلو كنا دافعين مئة سنة ثمناً لها لكان رخيصاً، لأن الحرية كشفت عن الملّيةٍ وأظهرتها وبدأ يتجلى الجوهر النوراني للاسلام في صَدَفة الملّية، فآذنت بتحرك الاسلام واهتزازه: بأن المسلم ليس جزءاً فرداً سائباً حبلُه على غاربه، بل هو جزء لمركبات متداخلة متصاعدة، له مع سائر الاجزاء صلة رحم من حيث جاذبية الاسلام العامة. فهذا النبأ يمنح أملاً قوياً بأن نقطة الاستناد ونقطة الاستمداد في غاية القوة
_____________________
1 وقد بدأت الآن بالتحلل والانفتاح والحمد لله . المؤلف.
2 ارجع النظر اليها، انها فقرة ذات شفرات كانها تخبر عن مجموعة رسائل النور أمثال: »ذو الفقار« »حجة الله البالغة«.. مثلما تخبر عن الشعوب الاسلامية: اليمن ومصر والجزائر والهند والفاس (المغرب) والقفقاس وفارس والعرب. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 398
والمتانة، وهذا الأمل أحيا قوتنا المعنوية بعد أن كانت صريعة اليأس. وستمزّق هذه الحياة حُجُبَ الاستبداد المعنوي العام المستولي على العالم الاسلامي كله مستمدة من فكر الحرية ومفهومها الذى يفور فيه 1 [على رغم أنف أبي اليأس].
الجهة الثانية: مازال الأجانب يذلّون ملّتنا بالحِيَل، ويتذرعون باسباب واهية وحجج تافهة لذلك. أما الآن فما ظل في ايديهم ما يحتجون به من حجة تؤثر في عروق انسانيتهم، أو تهيّج اعصاب تعصبهم أو تحرك أوتارهم الخدّاعة الدساسة، بل لو وجدوا حجةً ما فلا يمكنهم أن يتذرعوا بها؛ اذ من شأن المدنية وخاصيتها: حب الانسانية.
س: هيهات! أين هذا الأمل العظيم الذي تسلّينا به، من تلك الحيّات المرعبة المحيطة بنا الفاغرة أفواهها لتنفث السم في حياتنا وتمزق دولتنا إرباً إرباً، فتحول ذلك الأمل المشرق الى يأس قاتم؟ 2.
ج: لا تخافوا، ان المدنية والفضيلة والحرية قد بدأت تهيمن على العالم الانساني مما اثقلت كفة الميزان، فبالضرورة تتخفف الكفة الأخرى شيئاً فشيئاً، فلو فرضنا محالاً من أنهم مزّقونا وقتلونا - لاسامح الله - اطمئنوا باننا نموت ونحن عشرون الاّ أننا نُبعَث ونحن ثلاثمائة، نافضين غبار الرذائل والاختلافات عن رؤوسنا متّحدين مقدّرين حقيقة مسؤليتنا، نتسلّم الراية لنقود قافلة البشرية. فنحن لا نهاب هذا الموت الذي يُنتج حياةً أشد وأقوى وأبقى. فحتى لو متنا نحن فسيبقى الاسلام حيا سالماً، فلتعش أبداً تلك الملّة المقدسة.
س: كيف نتساوى مع غير المسلمين؟.
ج: المساواة ليست في الفضيلة والشرف، بل هي في الحقوق. فالسلطان الملك والفقير المسكين كلاهما سيّان في الحقوق.. فيا للعجب إن الشريعة التي نهت عن تعذيب نملة وأمرت الاّ تداس عمداً، أتهمل حقوق بني آدم؟ كلا !
ولكن نحن الذين لم نمتثل الشريعة.
_____________________
1 وقد بدأ تمزقها بعد خمس واربعين سنة، ولله الحمد والمنّة. المؤلف.
2 سؤال محير ذو حقيقة. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 399
ألا تكفي لتصحيح خطئكم هذا، محاكمة أمير المؤمنين الامام عليّ رضى الله عنه، مع يهودي فقير، ومرافعة صلاح الدين الأيوبي - وهو مدار فخركم - مع نصراني مسكين 1.
س: إن منح الحرية للروم والأرمن يقلقنا، فتارةً يتجاوزون علينا وأخرى يفتخرون بأن الحرية والمشروطية هما نتيجة سعيهم فيحرموننا فضائلها.
ج: اظن ان تجاوزهم الحدود الآن هو تشفٍّ لغيظ ما توهموا من تجاوزكم عليهم في الماضي... أو هو تصنّع وتظاهر وتهديد تجاه ما يتوقعون واهمين من تعدٍّ منكم عليهم في المستقبل، فإن اطمأنوا واعتقدوا بعدم التعدي عليهم فسيرضخون - بلا شك - للعدالة ويقتنعون بها، وإن لم يقنعوا بالعدالة فالحق يُرغم أُنوفهم بقوته ويسوقهم مضطرين الى الاقتناع.
أما قولهم "نحن الذين حصلنا على المشروطية" فهو كذب بيّن، اذ ما برزت الحرية والمشروطية الى الوجود الاّ بحراب جنودنا وبأقلام مجتمعنا الحامل لروح الأمة، بل كان هدف هؤلاء وامثالهم من الثرثارين المهاذير هو "اللامركزية السياسية" التي هي إبنة عم "الامارة" و "الحكم الذاتي" الاّ أن تسعين بالمئة منهم قد اتّبعونا، وظلّت خمسة من العشرة الباقية يثرثرون، والبقية الباقية باتوا يعذرون ولايرغبون في العدول عن أوهامهم الماضية.
س: كيف تشير الينا بمحبة اليهود والنصارى، مع أن القرآن الكريم ينهى عن ذلك بقوله تعالى
(لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء) (المائدة: 51).
ج: اولاً: كما يلزم أن يكون الدليل قطعي المتن، يلزم كذلك أن يكون قطعي الدلالة،مع أن للتأويل والاحتمال مجالاً، لأن النهي القرآني ليس بعام بل مطلق، والمطلق قد يُقيّد، والزمان مفسّر عظيم، فاذا ما أظهر قيدَه فلا أعتراض عليه.
_____________________
1 بينما كان سعيد القديم يجاهد بحماسة »للحرية« جاعلاً السياسة وسيلة للاسلام بناءً على ما تشعه خاصّية »النور« الساطعة من أمل قوي وسلوان تام أحسّ من قبيل الحسّ المسبق: ان استبداداً مطلقاً رهيباً لا دينياً سيأتي، بناء على مافهمه من معنى حديثٍ شريف، فأخبر به قبل خمسين سنة.
وقد أحس أن ما أخبر به من أنباء مسلية وآمال مشرقة سيكذبه ذلك الاستبداد المطلق فعلياً طوال خمس وعشرين سنة، لذا نبذ السياسة منذ ثلاثين سنة قائلاً: »اعوذ بالله من الشيطان والسياسة« واصبح سعيداً الجديد - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 400
وايضاً، إن كان الحكم قائماً على المشتق، فانه يفيد علّية مأخذ الأشتقاق للحكم. فاذن المنهيّ عنه في هذه الآية الكريمة هو محبتهم من حيث ديانتهم اليهودية والنصرانية.. وايضاً، لا يكون المرء محبوباً لذاته، بل لصفته وصنعته، لذا فكما لا يلزم ان تكون كل صفةٍ من صفات المسلم مسلمة، كذلك لا يلزم أن تكون جميع صفات الكافر وصنعته كافرة ايضاً.
فعلى هذا، لِمَ لا يجوز اقتباس ما استحسنّاه من صفة مسلمة أو صنعة مسلمة فيه؟ فان كانت لك زوجة كتابية، لاشك أنك تحبها.
ثانياً: لقد حدث انقلاب ديني عظيم في العصر النبوي السعيد، وجّه كل الأفكار والأذهان نحو الدين، فارتبطت بالدين جميع الحسّيات والمشاعر، فكانت العداوة والمحبة تدوران حول ذلك المحور "الدين"، لهذا كانت تُشمّ رائحة النفاق من المحبة مع غير المسلم. ولكن الانقلاب الحاضر العجيب في العالم هو انقلاب مدني ودنيوي، فالمدنية والرقيّ الدنيوي يجذبان العقول كلها ويشغلانها ويشدّان بهما جميع الأذهان فضلاً عن أن معظم غير المسلمين ليسوا ملتزمين إلتزاماً جادّاً بدينهم اساساً... فعلى هذا فان محبتنا لهم ماهي الاّ لإقتباس ما استحسناه من مدنيتهم وتقدمهم ولأجل المحافظة على نظام البلاد وأمنها الذي يُعدّ اساس سعادة الدنيا، فهذه الصداقة اذاً لا تدخل قطعاً ضمن النهي القرآني.
س: ان قسماً من افراد "جون تورك" يقولون: لا تخاطبوا النصارى بــ: "يا كافر" استهانةً بهم، فهم أهل كتاب!.. لماذا لا نخاطب الكافر بـ "ايها الكافر"؟!.
ج: مثلما لا تقولون للأعور: أيها الاعور! لئلا يتأذى، فهناك نهيٌ عن آذاهم كما جاء في الحديث الشريف: [من آذى ذمياً... الخ] 1.
وثانياً للكافر معنيان:
فالأول : وهو المتبادر الى الذهن عُرفاً وهو: المُنكِر للخالق سبحانه والملحد الذي لادين له، فهذا المعنى ليس لنا الحق في اطلاقه على أهل الكتاب.
وثانيه: هو المنكِر لرسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم وللاسلام، فهذا المعنى، لنا الحق ان نطلقه
_____________________
1 تمام الحديث: (من آذى ذمياً فأنا خصمه) رواه ابو داود عن عدة ابناء اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . قال في المقاصد: وسنده لابأس به. (راجع كشف الخفاء 2/298).



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 401
عليهم، وهم راضون به كذلك. ولكن لماّ كان المعنى الأول هو الذي يتبادر الى الذهن مباشرة، صارت تلك الكلمة، كلمة تحقير واهانة واذى، زد على ذلك انه لا اضطرار لخلط "دائرة الاعتقاد" بـ "دائرة المعاملات" وربما هذا هو ما يقصده ذلك القسم من "جون ترك".
س: نسمع كثيراً من الأخبار المؤسفة والحوادث السيئة، لاسيما من غير المسلمين. . كأن تزوج احدهم بمسلمة.. وكذا وكذا في مكان، وكيت وكيت في مكان آخر، وحدث ماحدث في مكان... الخ...
ج: نعم، ان وقوع هذه الأمور السيئة الفاسدة وأمثالها أمر هو أقرب مايكون بالضرورة - مع الأسف - في دولة مستجدة وغير مستقرة، وفي أمة جاهلة متخلفة، علماً انه كان هناك أسوأ من هذه السيئات في الماضي، ولكنها كانت خافية عنّا، الاّ أنها ظهرت الآن للعيان. فالداء اذا ماظهر يسهل علاجه. وكذا فالذي لايرى من الامور العظيمة الاّ التقصيرات ينخدع ويخدع الآخرين بالخب الخبيث اذ من شأنه إنبات سيئة واحدة وإثمارها كي تطغى على الحسنات، هذا وان الطور العجيب لهذا الخب، هو أنه يجمع الامور المتفرقة في الزمان والمكان ويوحّدها معاً، وينظر من خلال ذلك الحجاب الاسود الى الأشياء. حقاً إن الخب بأنواعه المختلفة هو ماكنة الغرائب ومصنعها. ألا ترى ان عاشقاً خبّاً كيف يرى الكائنات تتراقص متضاحكة متحابة متجاذبة.. وان والدة حزينة بوفاة طفلها كيف ترى الكائنات نادبة متباكية حزينة؟ فكلٌ يجني ما يشتهيه وما يلائمه. سأورد لكم مثلاً بهذه المناسبة:
تأملوا! اذا دخل احدكم في بستان رائع جميل يشتمل على أنواع الأزاهير والثمرات، لأجل أن يتنزه فيه ويستجمّ ساعة من الزمان. وكانت في بعض جوانب البستان بعض العفونات والنجاسات - حيث أن وجود النقص مع الكمال من مقتضيات هذا العالم وليس المبّرأ من النقص الاّ الجنة - فإنه لايبحث ولا يتحرّى الاّ تلك العفونات ولا يديم النظر الاّ الى تلك النجاسات، لانحراف في مزاجه. وكأن ليس في ذلك البستان الباهر الاّ تلك. ثم يتوسع ويتسنبل ذلك الخيال الفاسد بحكم التوهم والتخيل حتى يحسب ان ذلك البستان الرائع مسلخٌ قذرٌ أو مزبلة وسخة ويأخذه الدوار والغثيان، ويبدأ بالتقيؤ وينكص على عقبيه


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 402
فيا ترى هل ترضى الحكمة والمصلحة بوجههما الصبوح أمثال هذا الخيال المنغّص للذة حياة البشر.
ألا تَرَون: أن مَن أحسَنَ رؤيتَه حَسُنَتْ رويّته وتفكيره، فتحسُنُ رؤياه، ويستمتع بحياته.
س: كيف يجوز تجنيد غير المسلم وانخراطه في سلك الجيش؟.
ج: بأربعة اوجه 1:
اولاً: ما الجندية الاّ للحرب.. فلقد قاتلتم بالأمس دُبّاً ضخماً وعاونكم النساء والغجر والصبيان والكلاب ونصروكم، فهل في ذلك من بأس عليكم أو من عارٍ عليكم؟
ثانياً: كان للنبي صلى الله عليه وسلم معاهدون وحلفاء من مشركي العرب وكانوا يخرجون معاً الى الحرب، بينما هؤلاء أهل كتاب.. ولأنهم يكونون متفرقين في الجيش، لا متجمعين، فان كثرتنا الغالبة، وقوة مشاعرنا، ستحدّان من الضرر الموهوم.
ثالثاً: قد استُخدم في جيش الدول الإسلامية غير المسلمين - ولو نادراً - والجيش الانكشاري 2 شاهد على هذا.
س: كان المسلمون هم الأغنياء وكان اولئك هم الفقراء، الاّ ان الآية انعكست الآن، فما الحكمة؟.
ج: هناك سببان لهذا حسب علمي:
الأول: الفتور في السعي وعدم الرغبة خلافاً لما هو مستفاد من الأمر الربّاني:
(وأن ليس للإنسان الاّ ماسعى) (النجم: 39) وانطفاء جذوة شوق الكسب المستفاد من الأمر النبوي بأن [الكاسب حبيب الله] 3 وذلك نتيجة إيحاءات بعض الرجال وتلقينات قسم من الوعاظ الجاهلين، اولئك الذين لم يدركوا ان اعلاء كلمة
_____________________
1 المذكور هنا ثلاثة اوجه أما الوجه الرابع فهو انحصار العسكرية فينا فقد ادمج في السؤال الذي يلي الجواب. الوجه الرابع اصبح السؤال التالي.
2 وهو تنظيم عسكري وضعه الغازي اورخان ابن عثمان (مؤسس الدولة العثمانية)، خدم الدولة العثمانية كثيراً في البداية، ثم دبّ فيه الفساد واصبح مشكلة عويصة، الى ان نجح السلطان محمود الثاني في إلغائه وتصفيته واقامة »النظام الجديد« بدلاً منه، وهو نظام سعى الى التجديد في الجيش العثماني. المترجم.
3 وفي كشف الخفاء 1 / 157 (افضل الاعمال الكسب الحلال). المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 403
الله في الوقت الحاضر يتوقف على الرقي المادي... ولم يتفهموا قيمة الدنيا [من حيث هي مزرعة الآخرة].. ولم يميّزوا بين متطلبات القرون الوسطى والقرون الأخرى.. ولم يفرقوا بين قناعتين بعيدتين عن بعضهما "القناعة في التحصيل والكسب" وهي المذمومة والقناعة في المحصول والاجرة، وهي الممدوحة.. ولم يتبينوا البون الشاسع بين "التواكل" الذي هو عنوان الكسل و "التوكل" الذي هو صَدَفَة الاخلاص الحقيقي.
فالاول: هو تكاسل في ترتيب المقدمات وهو في حكم التمرد على النظام القائم بين الأسباب التي هي مقتضى مشيئة الله تعالى. والآخر: هو توكل ايماني في ترتُّب النتائج، وهو من مقتضيات الاسلام، والذي يقود صاحبه الى التوفيق حتى في النتائج شريطة عدم التدخل في التقديرات الإلهية.
فالتَبَسَ عليهم كلا الأمرين... ولم يتفرسوا سرّ (أمتّي.. أمتّي) 1 ولا يفهمون حكمة (خير الناس أنفعهم للناس) 2 فهؤلاء هم الذين حطموا ذلك الميل وأطفأوا ذلك الشوق...
والسبب الثاني: هو سلوكنا في المعيشة مسلكاً غير طبيعي، مسلكاً يوافق الكسل ويلائمه، ويداعب الغرور ويربت عليه، وهو المعيشة على الوظيفة الحكومية.. لذا لقينا جزاء ما كسبت أيدينا.
س: كيف؟.
ج: ان الطريق المشروع للمعيشة والسبيل الطبيعي والحيوي اليها هو "الصناعة، الزراعة، التجارة". أما الطريق غير الطبيعي فهو الوظيفة الحكومية والأمارة بأنواعها. وعندي ان الذين جعلوا مدار معيشتهم "الأمارة" - وان تسمّت بأي اسم كان- فهم في زمرة الشحاذين العاجزين المتسولين ومن زمرة المخادعين الحيالين.. وفي نظري ان الذي ينخرط في سلك الوظيفة أو الامارة، فليدخل اليها لأجل الحمية والخدمة
_____________________
1 جزء من حديث الشفاعة الطويل، ذكر الاستاذ المؤلف جزء منه بمعناه. والحديث بطوله أخرجه البخاري برقم 3340 و 3361 و 4712 ومسلم برقم 194 والترمذي برقم 2551 "تحفة" وقال: هذا حديث حسن صحيح، كلهم من حديث ابي هريرة رضي الله عنه باختلاف في السياق.
2 حديث حسن أخرجه القضاعي في مسند الشهاب وابن عساكر في تاريخ دمشق 2 / 420 / 2 وانظر الصحيحة 426 وصحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 6538 .



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 404
للأمة والاّ لو دخلها للمعيشة والمنفعة فحسب، فلا يقوم الاّ بضرب من التسوّل 1، اذ ثبت أن حصر كل الوظائف فينا، أضاع علينا ثرواتنا بتسليمها ليد الاسراف، وان حصر العسكرية فينا شتت ذرارينا في الآفاق. فلو كان الأمر يستمر على هذا المنوال لكنا ضائعين منقرضين. فعلى هذا، فان هذه المسألة، أي أخذهم الى الجندية فيه "مصلحة مرسلة" قرينة من الضرورة، فضلاً عن أننا مضطرون اليه اضطراراً، والمصالح المرسلة في مذهب الامام مالك، تعدّ علّة شرعية.
س: كيف يمكن أن يصير الأرمني والياً أو قائمقاماً، كما يحدث الآن؟
ج: كما صار ساعاتياً وميكانيكياً وكناساً... لأن المشروطية هي حاكمية الأمة، والحكومة ليست الاّ خادمة.
ولئن صدقت المشروطية فالقائمقام والوالي ليسوا رؤساء بل خدام مأجورون، فغير المسلم لا يكون رئيساً مطلقاً، بل يكون خادماً. فلو فرضنا أن الوظيفة والأمارة ضرب من الرئاسة والسيادة، فان اشراكنا ثلاثة آلاف غير مسلم في سيادة رئاستنا يفتح طريقاً الى الرئاسة أمام ثلاثمائة الف من اخواننا المسلمين في اقطار العالم، فالذي يخسر واحداً ويربح الألف لا يتضرر..
س: ألا ترى ان بعض احكام الشريعة لها علاقة بولاية الوالي مثلاً.
ج: ان الذي يمثل الخلافة بعد الآن هو بالضرورة المشيخة الاسلامية ورئاسة الأمور الدينية وستكون ممتازة، ومقدسة سامية، منفصلة رقيبة ناظرة على الكل... فالمستولي الآن ليس شخصاً فرداً، بل الأفكار العامة، لذا هناك حاجة الى شخصية معنوية مثلها، تكون أمينة على الفتوى.
س: كنا نسمع سابقاً والى الآن أن اكثر أفراد "جون تورك" هم من الماسونيين، الذين يعادون الدين.
ج: لقد ألقى الاستبداد هذه التلقينات إبقاءً لنفسه، ومما يسند هذا الوهم ويقوّيه عدم مبالاة بعضهم بالدين..
_____________________
1 لا تستاؤا ولا تسخطوا أيها الموظفون من كلام سعيد القديم هذا الذي قاله قبل خمس وأربعين سنة. المؤلف.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #38
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 405
ولكن اطمأنوا، ان قصد من لم ينضم منهم الى الماسونية، ليس اضرار الدين، بل نفع الأمة وتأمين سلامتها، ولكن البعض منهم يفرطون في الهجوم على التعصب المقيت الذي لايليق بالدين. ويبدو انكم تطلقون على الذين سبق منهم خدمات للحرية والمشروطية أو الذين ارتضوا بهما اسم "جون تورك". فاعلموا ان قسماً من اولئك هم مجاهدو الاسلام، وقسماً منهم فدائيو سلامة الأمة، فالذين يشكلون القسم الأعظم منهم والعقدة الحياتية لهم هم من غير الماسونيين ويمثلون اكثرية الاتحاد والترقي. فهناك علماء ومشايخ في صفوف "جون تورك" بقدر عشائركم.. رغم وجود زمرة من الماسونيين المفسدين السفهاء فيهم، وهم قلّة قليلة لا يتجاوزون عشرة بالمئة منهم، بينما التسعون بالمئة الباقية منهم مسلمون ذوو عقيدة امثالكم ومعلوم ان الحكم للأكثرية... فأحسنوا الظن بهم. إذ إن سوء الظن يضركم ويضرهم معاً حسب قاعدة [ان زين عين الرضا، حسن النظر باللطف والشفقة، وان نور الفؤاد بالرفق والرحمة، ولقد سما على الحق باقدام التوفيق وسعد من اختار الاستضاءة بمصباح (أنا عند ظن عبدي بي)] 1.
س: لِمَ يضرّهم سوء ظنّنا؟.
ج: لأن كثيراً منهم - مثلكم - لم يمحّصوا الاسلام وما عرفوا الاّ ظواهره بالتقليد، والتقليد يتشتت ويتمزق بإلقاء الشبهات والشكوك فانظروا مثلاً: اذا خاطبتم بعضهم: بانكم لادين لكم - وبخاصة من كان منهم سطحياً في الدين ومتوغلاً في الفلسفة المادية - فلربما يتردد ويشك في أمره بوساوس من أن مسلكه خارج عن الاسلام فيشرع بالقيام باعمال وحركات منافية للاسلام، ناشئة من اليأس والعناد ولسانه يردد: ليكن مايكون فلا أبالي..
فيا ايها البعيدون عن الانصاف!.. أرايتم كيف تصبحون سبباً لضلالة بعض المنكوبين؟! علماً ان كثيراً ما يصلح الفاسد اذا كرّر عليه القول: انت صالح، انت فاضل، ويفسد الصالح اذا ما كرر عليه انت فاسد، انت طالح. وهذا أمر مجرّب وقد حدث كثيراً.
س: لماذا؟.
_____________________
1 كرر النظر في هذه الفقرة العربية الأخيرة، ففيها شفرات ولها اشارات. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 406
ج: لأنه لو كان في ضمير البعض سوء، فلا ينبغي ان يُهاجَم، لأن هناك كثيراً من السيئات كلما بقيت مستورة تحت ستار الحسنة ولم يمزق عنها حجابها وتغوفل عنها، انحصرت في نطاق ضيق وربما يسعى صاحبُها لإصلاحها تحت حجاب الحياء. ولكن ما ان يُمزَّق الحجابُ ويُرفع حتى يُرمى بالحياء فيُزال، واذا ما أُظهر معه الهجوم، فالسيئة تتوسع توسعاً هائلاً… ولقد رأيت في حادثة (31 مارت) 1 حالة قريبة من هذا: عندما نادى من كانوا يجودون بارواحهم للاسلام من اصحاب الهمم بالدعوة الى المشروطية، والذين كانوا يعتقدون ان نعمة المشروطية غاية المنى وجوهر الحياة، وجدّوا في تطبيق تفرعاتها وفق الشريعة مرشدين المسؤولين في الدولة وموجهين لهم للتوجه الى القبلة في صلاة العدالة طالبين اعلاء الشريعة المقدسة حقاً بقوة المشروطية، وابقاء المشروطية بقوة الشريعة، محمّلين مخالفة الشريعة السيئات السابقة جميعَها، فما ان نادى هؤلاء بهذا النداء وقاموا بتطبيق بعض الامور الفرعية اذا ببعض مَن لايميّز يمينه عن شماله يبرز أمامهم ويجابهونهم ظناً منهم ان الشريعة تشد أزر الاستبداد - حاشاها - فقلّدوا كالببغاء منادين: "بأنّا نطالب بالشريعة" فاختفى الهدف ولم يعد يُفهم القصد الحقيقي، وانجر الوضع الى مارأيتم. ومعلوم ان الخطط قد مُهّدت وحيكت من قبل. فلما آل الأمر الى هذا هجم بعض من يتقنع كذباً بالحمية على ذلك الاسم السامي، واعترضوا متعدين عليه. فدونكم نقطة سوداء مظلمة جديرة بالاعتبار. [ولقد قعدت الهمة بتلك النقطة ولم تقدر على النهوض. ولقد شوشت طنطنة الاغراض صدى موسيقى الحرية، ولقد تقلصت المشروطية منحصرة اسماً على قليلين، فتفرق عنها حماة ذمارها] 2
_____________________
1 حادثة 31 مارت 1325 (حسب التقويم الرومي)، وهي حادثة تمرد وعصيان عسكري بدأ في معسكر »طاش قشلة« في استانبول، ثم انتشر الى معسكرات اخرى فيها، ثم نزل الجنود المتمردون الى الشوارع، وقتلوا بعض الوزراء والنواب والضباط.
وقعت هذه الحادثة في 13 نيسان 1909 اي بعد اعلان المشروطية الثانية ووصول جمعية الاتحاد والترقي الى موقع مؤثر في الحكم، ولكنها لم تكن قد شددت قبضتها بعدُ، أتهم السلطان عبد الحميد ظلماً باثارة التمرد، واستدعت الجمعية مدداً عسكرياً من مقرها الرئيس في »سلانيك« ومع ان السلطان كان بمقدوره تشتيت هذا المدد العسكري الاّ انه لم يفعل حقناً للدماء. وبعد وصول الجيش الى استانبول اُعلنت الاحكام العرفية وقُضي على التمرد، وشكلت محكمة عسكرية اعدمت الكثيرين، وانتهزت الجمعية هذه الحادثة وقامت بعزل السلطان. المترجم
2 قف أمام هذه الفقرة.. لاتغادرها.. انعم النظر فيها.. ولقد سكت - في تلك الحادثة - الشهام الغيارى والنجباء والكرماء من أولي العزائم والهمم العالية، وكمّمت الصحافة المغرضة صوت الحرية الحقة، فانحصرت المشروطية في قلّة قليلة جداً من الناس وتشتت عنها فدائيوها. المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 407
س: لِمَ نتضرر ممن نظن أن لادين لهم؟.
ج: سأمثل لكم صورة تمثيلية على شاشة الخيال تبيّن لكم مضاره. تصوّروا في هذه الصحراء قصراً وسط بستان زاهر، وفي زاوية من القصر هناك حمام للمياه المعدنية -كمستحمكم في وادى "بيت الشباب" 1 - فأنتم مضطرون الى الدخول في ذلك القصر شئتم أم أبيتم بسبب ارتعاشكم من شدة البرد ولكمات الثلج ولطمات الريح. ولكن لأنكم قد سمعتم - أو رأيتم - ان في باب القصر اشخاصاً عمياناً وفي الحوض رجالاً عراةً يستحمون فتتوهمون - من هذا - ان القصر كلّه دار عميان ومنزل عرايا... فلما أردتم الدخول والوهم آخذ بايديكم - تنزعون عنكم لباس الطاعة لتوافقوهم، وتغمضوا عين الحقيقة - التي هي العقيدة - لئلا تنظروا الى عوراتهم، علماً أن عيونهم مفتحة وعوراتهم مستورة، يتشاورون فيما بينهم بتفكر وتأمل في غرفٍ محتشمة ويداوون في بعض الزوايا العميان ويخدمون العرايا لسترهم.
فبالله عليك اذا دخلت عليهم بهذه الصورة الجنونية، وعورتك مكشوفة وعينك معصوبة، فهل تتصور اعظم من هذه الحالة المزرية الداعية الى الاستهزاء والسخرية.
وفي نظري أن من جاء - في الحقيقة - من نسل مسلم، لاتترك فطرتُه ووجدانهُ الاسلامَ البتة، حتى إن تجرد عقلُه وفكرُه عن الاسلام. بل حتى اولئك الذين هم أشدّ سفاهة وبلاهة يوالون الاسلام الذي هو سور حصين لمستندنا. وسيما المطلعين على السياسة. ولم يشهد التأريخ منذ العصر النبوي السعيد الى الآن ان رجّح مسلم ديناً آخر على الاسلام بمحاكمته العقلية، أو دخل ديناً آخر بدليل عقلي. نعم! هناك من يمرق من الدين، فتلك مسألة أخرى.. أما التقليد فلا أهمية له... بينما منتسبو سائر الأديان قد دخلوا ويدخلون حظيرة الاسلام افواجاً أفواجاً بالمحاكمة العقلية والبراهين القاطعة، فاذا ما أريناهم الاسلام الصادق المستقيم، والصدق والاستقامة اللائقين بالاسلام، فسوف يدخلون في الاسلام أفواجاً. وكذلك يشهد التأريخ وينبئنا ان رقي المسلمين وتمدنهم يكمن في اتباعهم حقيقة الاسلام ويتناسب معه، في حين رقي الآخرين وتمدنهم يتناسب تناسباً عكسياً مع تمسكهم بدينهم.. وكذا تشهد لنا الحقيقة ان الانسان المنتبه لايمكن أن يكون هملاً بدون دين البتة، ولاسيما المتيقظ
_____________________
1 منطقة في جنوب شرقي تركيا تعد مركز عشائر الارتوشي الكردية. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 408
الذي ذاق طعم الانسانية وعرف ماهية ذاته وأنه مهيأ ومرسل الى الخلود، فلايمكن لهذا أن يعيش دون دين مطلقاً، لأن المتنبه إن لم يتمسك بالدين الحق الذي هو جوهر الحقيقة، لايمكنه أن يقف دون "نقطة استناد" أمام هجوم الكائنات عليه ودون "نقطة استمداد" لاستثمار آماله غير المحدودة.. ومن هذا السر فقد انتبه الآن في الجميع ميلُ البحث والتحري عن الدين الحق. فثبت من براعة الاستهلال هذا بأن الاسلام هو الدين الفطري للبشرية في المستقبل.
أيا من لاينصفون! كيف ضاقت في نظركم حقيقةُ الاسلام التي لها القدرة على أن تعم العالم أجمع وتوحّده وتربّيه وتضيئَه نوراً. فرُحتم تحصرون الاسلام في الفقراء وفي المتعصبين من العلماء، وتريدون ان تطردوا نصف أهله منه، كيف تجرأتم على ذلك الاسلام العظيم الذي هو القصر النوراني الجامع لكمالات الانسانية كلها وهو المربي المزكّي لأحاسيس البشرية النبيلة ومشاعرها الراقية كلها، فتخيلتموه خيمة المآتم السوداء مضروبة على حشد من الفقراء والبدو الجائعين.
نعم! ان المرء بحسب ما تريه مرآتُه. فمرآتُكم السوداء الكاذبة اذاً قد مثّلت لكم الأمر هكذا.
س: انت تغالي وتفرط، اِذ تُظهر الخيال عينَ الحقيقة وتُهيننا بظنك اننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان 1 والفساد يستشري وسينقلب من سئ الى أسوأ.
ج: لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدان تأخر وتدنٍ.. فهل الأمر هكذا؟! فها أنذا آليتُ على نفسي ألاّ أخاطبكم، فأدير اليكم ظهري وأتوجه بالخطاب الى القادمين في المستقبل: أيا مَن اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة، يستمع الى كلمات النور بصمت وسكون. وتلمحنا بنظر خفي غيبي.. أيا من تتسمّون بـ "سعيد وحمزة ، وعمر وعثمان وطاهر، ويوسف وأحمد وامثالهم" انني أتوجه بالخطاب اليكم: ارفعوا هاماتكم وقولوا: "لقد صدقت" وليكن هذا التصديق دَيْناً في اعناقكم. ان معاصري هؤلاء وان كانوا لايعيرون سمعاً
_____________________
1 ربما جاء هذا الاعتراض من وليّ عظيم كان حاضراً في ذلك الوقت فاعترض على ما أحسّه سعيد القديم - قبل خمس وأربعين سنة - »بحسّ مسبق« من أن ميدان رسائل النور الضيق هو واسع جداً وهو سياسي ايضاً. لذا صدرت أغلب أجوبته في هذه الرسالة في ضوء ذلك الاحساس. فلربما أبدى ذلك الولي العظيم اعتراضه على هذه النقطة فقط - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 409
لأقوالي، لندعهم وشأنهم. انني أتكلم معكم عبر أمواج الاثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي - المسمّى بالتأريخ - الى ذرى مستقبلكم الرفيع.. ماحيلتي لقد استعجلتُ وشاءت الاقدارُ أن آتي الى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم ستأتون اليها في ربيع زاهر كالجنة، ان ما يُزرع الآن ويُستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهير يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا، أنكم اذا جئتم لتعبروا الى سفوح الماضي، عوجوا الى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة "القلعة" 1 التي هي بمثابة شاهد قبر مدرستي، والمستضيفة لرفاتنا وعظامنا والحارسة لتراب "خورخور" 2 سنوصي الحارس ونذكّره... نادونا... ستسمعون صدى "هنيئاً لكم" ينطلق من قبورنا [ولو من الشاهد على طيف الضيف].
ان عيون هؤلاء الذين يرتضعون معنا ثدي هذا الزمان في قفاهم تنظر الى الماضي دوماً، وتصوراتُهم شبيهة بهم معزولة وبلا حقيقة، هؤلاء الصبيان وان كانوا ينظرون الى حقائق هذا الكتاب 3 ويتوهمونها خيالاً.. فلا أبالي، لأنني على ثقة من أن مسائل هذا الكتاب ستتحقق فيكم واضحة.
أيا من أخاطبكم، ألا معذرةً، اني اصرخ عالياً، وأنا معتلٍ منارة العصر الثالث عشر الهجري، ادعو اولئك المدنيين المتحضرين صورةً وشكلاً والمتهاونين في الدين حقيقة، والذين يجولون في أودية الماضي السحيق فكراً.. ادعوهم الى الجامع.. فيا ايتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، ايتها الجنائز الشاخصة! ويا أيها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما.. وهو الاسلام، انصرفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقفوا امامه حجر عثرة، فالقبور تنتظركم.. تنحّوا عن الطريق ليأتي الجيل الجديد الذي سيرفع أعلام الحقائق الاسلامية عالياً ويهزها خفاقة تتماوج على وجوه الكون.
س: ان أسلافنا كانوا أفضل منا أو مثلنا، فهل يكون احفادنا أفسد منّا؟
ج: ايها الأتراك والأكراد، لو أنني أقمت اجتماعاً عظيماً، ودعوت أجدادكم من قبل ألف سنة وكذا اولادكم من بعد عصرين.. دعوتهم جميعاً الى المجلس الصاخب لهذا العصر، ألا يقول اجدادكم الذين اصطفوا يميناً:
_____________________
1 المقصود قلعة مدينة "وان" التي هي بمثابة شاهد قبر للمدرسة الدارسة (خورخور) والتي تمثل نموذجاً لمدرسة الزهراء في وان - المؤلف.
2 اسم نبع صغير اسفل قلعة »وان« وعنده مدرسة المؤلف. المترجم.
3 انه ينبئ بحس مسبق عن كليات رسائل النور التي ستؤلف في المستقبل - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 410
أيها الاولاد التافهون والخلف المتبذّرون، أأنتم زبدة حياتنا ونتيجتها؟ هيهات.. لقد جعلتمونا أسوةً عقيمة وتركتمونا عاقرين..!!. وكذا، أفلا يقول اولادكم الذين اصطفوا يساراً والمقبلون من مدنية المستقبل، مصدقين اجدادكم المصطفين يميناً:
أيها الآباء الكسالى!.. أ أنتم تمثلون حياتنا كلها دقّها وجلّها، أمَ أنتم رمزها والحد الأوسط لرابطتنا مع اولئك الاجداد الأشاوس؟ هيهات لَكَمْ اصبحتم انتم أنموذجاً تافهاً وعيّنة لا حقيقة لها وقياساً ذا إلتباس واختلاط. 1
فيا أيها البدو الرحل ويا أدعياء الانقلاب 2.
لقد رأيتم على لوحة الخيال 3 أن الطرفين معاً قد أقاما الحجة عليكم في هذا الاجتماع.
س: نحن لانستحق هذا القدر من الاهانة والتحقير. نقطع على أنفسنا عهداً على اننا لانتقاعس عن التمسك بالأَخلاف ولانتشبث بأذيال الأسلاف [ففتحنا السمع لكلامك فمرحباً به].
ج: يمكنكم الآن أن تعودوا الى وظيفتكم في طرح الاسئلة لأنكم أظهرتم الندامة.
س: هل بحث علماء السلف عن مساوئ الاستبداد؟ 4.
ج: نعم، وألف مرة نعم. ان أغلب الشعراء في قصائدهم وكثيراً من المؤلفين في ديباجات كتبهم، شكوا من الزمان واعترضوا على الدهر وهجموا على الفَلَك 5 وداسوا الدنيا بالاقدام وسحقوها...
فاذا استمعتم اليهم بأذن القلب ونظرتم اليهم بعين العقل لرأيتم أن سهام الاعتراضات جميعها لاتستهدف ولاتصيب الاّ صدر الاستبداد الذي تلففَ وتزمّلَ بستار الماضي المظلم. ولسمعتم الصراخات والآهات جميعها انما تصدر من تحت مخالب الاستبداد، ومع ان الاستبداد لم يكن يُرى، ولم يكن يُعلَم اسمه ومعناه، الاّ
_____________________
1 من عبارات علم المنطق. وقد قالها لحضور مجلس طلابه الذين تلقوا في وقتها درساً في المنطق - المؤلف.
2 أضيف مؤخراً - المؤلف.
3 فالخيال بدوره مثل المشاهد السينمائية - المؤلف.
4 ان ذلك الدرس الذي القي قبل اربعين سنة لهو درس ضروري في الوقت الحاضر كذلك، اذ ان هذه المحاورة الدائرة بين السؤال والجواب قادرة على مواكبة الحياة وتعيش حية في كل وقت وهي نابضة بالحياة الآن - المؤلف.
5 الفلك: يعني الدهر، ايام الحياة، الحياة المقدّرة على الانسان - المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 411
أن أرواح الجميع كانت تتسمّم بمعناه، وتتألم به، وتعلم أن هناك أحداً ينفث السم. حتى ان بعض الدهاة كلما كان يتنفس كان يصرخ صراخاً من الاعماق، الاّ أن العقل ماكان ليدرك ماهيته جيداً، اذ كان مُنبثاً في الظلمات غير متجمع على حال. لذا عندما ظنوا البلايا - المحال ازالتُها - مصائب سماوية، بدأوا بشن الهجوم على الزمان وصنع الدهر وصوّبوا سهاماً نحو صدر الفَلَك، اذ من القواعد المقررة انه: اذا خرج أمرٌ من دائرة الجزء الأختياري، ومن الجزئية ودخل الدائرة الكلية العمومية، أو كان دفعه محالاً بحسب العادة يُسند الى الزمان، ويُلقى اللوم على الدهر، وترمى قبة الفلك بالحجارة، واذا أنعمت النظر جيداً لرأيت ان الاحجار الآيبة تنقلب يأساً وتتحجر في القلب [انظر كيف أطالوا فيما لايلزم وكلما اضاءت لهم السعادة أثنوا على مَن سادهم، وكلما أظلم عليهم شتموا الزمان 1].
س: أما تكون الشكوى من الزمان والاعتراض على الدهر اعتراضاً على بدايع صنعة الصانع جلّ جلاله؟
ج: كلا، ثم كلا، بل ربما تعني الشكوى ما يأتي:
كأن الشاكي يقول: ان ماهية العالم المنظمة بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لانجاز الأمر الذي أطلبه، والشئ الذي أبغيه، والحالة التي اشتهيها، ولايسمح به قانون الفلك المنقش بيد العناية الأزلية، ولاتوافقه طبيعة الزمان المطبوعة بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمة الإلهية المؤسّسِة للمصالح العامة.. لذا لا يقطف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمرات التي نطلبها بهندسة عقولنا وتَشَهّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم لا يمكن أن تسكن دائرة عظيمة عن حركاتها المهمة لاجل هوى شخص...
س: ما تقول في كثير من الشعراء والعلماء الذين أفرطوا - في زمانهم - في الثناء على الامراء والحكام؟ مع انك تنظر الى كثير منهم نظرك الى مستبدين؟ فاذاً قد أساءوا العمل.
_____________________
1 تمهل، لاتغادر هذه الفقرة، ادركها جيداً. وهي تعني: انهم يمنحون الحسنات الى الرؤساء ويلصقون السيئات بالزمان، فيبدون شكواهم بالشتم - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 412
ج: [ولولا خلال سنّة الشعر مادرى بُناة المعالي كيف تُبنى المكارم]
كانت نواياهم حسب هذه القاعدة هي حض الأمراء - بحيلة لطيفة - على الترفع عن السيئات، وجعلهم يتسابقون في مضمار الحسنات بادخال المكافأة الشعرية موضع التسابق في الأوساط، ولكن لما كانت تلك المكافأة الشعرية قد سُلِبتْ من عرق جبين أمة عظيمة فقد تصرفوا تصرفاً مستبداً، أي انهم قد أساءوا في العمل وان أحسنوا في النيّة.
س: لِمَ ؟.
ج: أفلا ترون ان محصل كلامهم في قصائدهم وبعض مؤلفاتهم إنما هو غصبٌ ضمني لمحاسن قوم عظيم وإغارة عليها، ثم اهداء تلك المحاسن الى شخص مستبد. فباظهارهم أن تلك المحاسن صادرة منه، أثنوا على الاستبداد - من هذه الزاوية - دون أن يشعروا.
س: نحن معاشر الاتراك والاكراد لنا من الشجاعة ما يملأ قلوبنا، بل ملء أجسادنا.. بل انبسطت حتى تجلّت بين هذه الوديان جبالاً محصنة لنا، ولنا من الذكاء ما يملأ رؤوسنا، ولنا من الغيرة ما يملأ صدرونا، ولنا من الطاعة ما يملأ أبداننا وجوارحنا، فأفرادنا يملأون الأودية حياةً وتتزين بهم الجبال 1 فما بالنا بقينا هكذا سافلين مفلسين أذلاء، حتى صرنا لقىً على الطريق يدوسنا الممتطون للرقي والسارعون المجدون للمستقبل، مع ان الامم المجاورة، وان كانوا أقلّ منا عدداً وأقصر منا قوة، الاّ انهم يتطاولون علينا [ان ركسهم يغلب طاهرنا] 2 .
ج: أما حينما انفتح بالمشروطية باب للتوبة وتاب الكثيرون، فليس لي حق في توبيخ الرؤساء وتعنيفهم، الاّ انني ألقم السابقين وأعنيهم، فان انجرح شعور البعض واحترامه فليعذرني، إذ احترام الحق وعدم جرحه أولى، فاحترام شعور الملّة أعلى وأغلى شأناً منهم. اعلموا أن سبباً مهماً لذلك التدني هو بعض الرؤساء والخدّاعون المتظاهرون بالحميّة ممن يدّعون الفداء والتضحية للأمة، أو قسم من المتشيخين المدّعين غير المؤهلين للولاية.
_____________________
1 اذاً لم تفتر قوتهم المعنوية - المؤلف.
2 اذا أردت فأنعم النظر، فان العبارة تشير الى »وارتكس« »عضو المبعوثان« من الأرمن والسيد »ملا طاهر« النائب عن »حكاري« في ذلك الوقت - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 413
فهذه السنّة السيئة المخالفة للسنة النبوية السنيّة هي الأخرى من سيئات الاستبداد.
س: كيف ؟
ج: ان لكل أمة من الأمم حوضاً معنوياً يشكل جسارة الأمة، ويصون عرضها، وتجتمع فيه قوتها. ولها كذلك خزينة معنوية تشكل سخاء الأمة، وتضمن منافعها العامة. وتخزن فيها ما فضل من الأموال. فالقسمان المذكوران من الرؤساء - بعلم أو بدون علم - فد فتحوا ثغرات وثقوباً في جوانب ذلك الحوض وتلك الخزينة. وسحبوا موارد البقاء وأَسالوا مادة الحياة، فجففوا الحوض وأفرغوا الخزينة، فاذا استمر الأمر على هذا المنوال فستنهار الدولة تحت غَلَبة الديون البالغة المليارات، فكما أن الرجل اذا فقد كلاً من قواه الغضبية - الدافعة - وقواه الشهوية - الجاذبة - يصبح ميتاً وان كان حياً يرزق.. وكما أن القطار اذا ثقب خزانه البخارى بثقوب يتعطل عن الحركة.. وكما ان المسبحة اذا انقطع خيطها تتبعثر حباتها.. كذلك الأمر في الأمة - التي هي شخصية معنوية - فان الرؤساء الذين يجففون حوضَ قوتِها ويفرغون خزينة ثروتها ويقطعون حبل فكرها الملّي، يفتتّونها قطعاً وأوصالاً، ويجعلونها سائبة ذليلة دون كيان، عديم الوجود... نعم، [حقيقت كتم نمى كنم براى دل عامى جند]، فلا اجرح شعور الحقيقة لأجل فئة من العوام.
س: ان هذا المقام أجدر بالتفصيل، فلا تدعه مجملاً ومبهماً؟
ج: ان العهد السابق قد انتهز بداوتكم وجهلكم، وحاك خططاً، فاستغلها قسم من الكبراء باسلوب خبيث مستخدمين القوة والارغام، فثقبوا ذلك الكنز وذلك النبع، وأسالوا زلال الحياة في صحراء قاحلة وأرض سبخة، فما نبتَ ولا اخضرّ الاّ كسالى وانتهازيين، حتى كانوا يستغلون الضعف البشري والعواطف الحساسة لدى اولئك المساكين الذين مدّوا ايديهم الى صيد صغير، بتنفيرهم من ثروة الدنيا لترتخي اظفارهم عن الصيد... فيفلت منهم ، ليخطفوه هم بمخالبهم لأنفسهم.
نعم ان لكل امة سخاءً وكرماً وهو بذل مقدار من ثروتها لمصلحة الامة ومنفعتها، بيد أنه اُستغل سخاء الأمة فينا استغلالاً سيئاً بخلاف سخاء الأمم الأخرى الذي يتخزن في جوفها حوضاً واسعاً ليسقي بستان العلوم والمعارف، وكذا من طبيعة كل امة جسارةً، لأجل المحافظة على شرف الامة وصيانة عرضها.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 414
وقد أساء بعض الكبراء في العهد السابق استعمال هذه الجسارة فألقوها في صحراء الاختلاف وأضاعوها وأخذ كلٌّ يضرب عنق الآخر بغمدٍ من تلك القوة وغلاف منها، حتى كسروه... وهكذا انكسرت... حتى أنهم صرفوا - فيما بينهم - تلك القوة العظيمة المركبة من خمسمائة ألف من الأبطال المستعدين للحفاظ على شرف الامة فأبادوها في أرض الأختلافات جاعلين أنفسهم مستحقين للتأديب والتأنيب. فان استفدتم من "المشروطية" و"الحرية الشرعية" وسددتم تلك الثغرات أو جعلتموها مسايل اليه كالحوض، وأعطيتم تلك القوة الرائعة بيد الدولة لصرفها في الخارج فستحصلون ثمنها رحمةً، وعدالة ومدنية.
فان شئتم نتبادل فيما بيننا اسلوب الحوار، فأنا أسألكم وأجيبوا انتم.
ج: [فاسأل ولا تجد به خبيراً].
س: هل يمكن ان تكون أمة الارمن اشجع منكم؟ 1.
ج: كلا، ثم كلا، لم تكن ولن تكون..
س: فلماذا اذن لايبوح فدائيهم بأسراره ولايفشي عن أخيه شيئاً ولو قطّع إرباً إرباً وأحرق حرقاً، بينما لو طُعن شجاع منكم يفرش اسراره جميعاً مع دمه المهراق... فما سبب هذا التفاوت العظيم في الشجاعة؟...
ج: نحن لانعرف كنه ماهيته، ولكننا نعلم ان ثمة شيئاً يصيّر الذرة جبلاً ويخضع الأسد للثعلب، فذلك وظيفتك - في الاجابة - نحن لانطيق حملها، فقد عرفنا وجود ذلك الشئ فعليك بشرح ماهيتنا.
ج: فاستمعوا اذاً، وافتحوا آذانكم جميعاً، فان همة أرمني متيقظ بالفكر الملّي، هي مجموع أمته، وكأن أمته قد صغرت واصبحت نفسَه أو استقرت في قلبه، فمهما كانت روحه عزيزة وغالية عنده الاّ أن أمته أعظم عنده وأعزّ. وحتى لو كان له ألف روح لضحّى به مفتخراً لما يحمل من فكر سامٍ -بالنسبة اليه - علماً أن أقصى ما كان يتصوره اشجعكم في السابق - ولا أقصد الحاليين - الذي لم يك متيقظاً ولا داخلاً في النور، ولاعالماً بشرف الملّة الاسلامية، هو مجرد شرف نفسه أو نفعها، أو شرف
_____________________
1 ان الأتراك والأكراد لكونهم علماء عظاماً في فن الشجاعة، اصبحوا هم المجيبين وأنا السائل - المؤلف.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #39
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 415
عشيرته أو رئيسها، فاذن ينظر بنظر قصير ويفكر بتفكير قاصر. فلا جرم قليلٌ مَن يُفدي روحه العزيزة لمثل هذه المقاصد الصغيرة..
فلو تصورتم وفكّرتم بالملّية الاسلامية 1 مثل ما ينظرون بملّيتهم الى الأمور. لأعلنتم على رؤوس الأشهاد في العالم شجاعتكم وبسالتكم ولسموتم الى العلا، ولو تصور الأرمن وفكّروا مثلكم تفكيراً سطحياً وقاصراً لكانوا لقىً أذلاء.
حقاً، إن لكم استعداداً لشجاعة لاتجارى ولبسالة لاتمارى، بدليل أن أحدكم يستخف حياته ويفدي روحه رخيصة لصغائر الامور -كمنفعة بسيطة او عزة جزئية أو شرف رمزي اعتباري أو ليقال أنه جَسور أو لأستعظام شرف رئيسه. فكيف اذا تنبّه هؤلاء.. ألا يستخفّون بحياتهم فداءً للملّة الاسلامية - التي لاتقدّر بثمن - ولو كانوا مالكين لألف روح اذ تكسبهم أخوةُ ثلاثمائة مليون مسلم ومساندتهم وعونهم المعنوى، فلا غرو أن الذي يضحّي بحياته لعشرة قروش، يضحّي بها بشوق مضاعف لعشر ليرات.
فوا أسفى! انه مثلما انتقلت محاسننا الى غير المسلمين فسجايانا الحميدة هم الذين سرقوها كذلك، وكأن قسماً من اخلاقنا الاجتماعية السامية لم يجد رواجاً عندنا، فنَفَر منا والتجأ اليهم، وان قسماً من رذائلهم لم يلق رواجاً عندهم فجُلب الى سوق جهالتنا.
ألا ترون - بحَيرة شديدة - أن غير المسلمين قد سرقوا الكلمة البيضاء والخصلة الحمراء كأمثال:- "ان مُتّ أنا فلتسلم دولتي ولتحيا أمتي واحبّتي" التي هي أس أساس الكمال والرقي والتقدم الحاضر، بل هي مقتضى الدين المبين، ذلك لأن فدائييهم يقول "ان متّ فلتحيا أمتي، انّ لي فيها حياة معنوية..." علماً أن الكلمة الحمقاء والسجية العوراء التي هي أساس الذلّ والأنانية هي التي تقودنا وقد شلّت همتنا وهي التي تتمثل بالعبارة الآتية [اذا متّ ظمآناً فلا نزل القطر..]...
وهكذا فان أفضل خصالنا ومقتضى ديننا هو أن نقول، بروحنا وجسدنا ووجداننا وفكرنا وبكل قوانا: "إن متنا، فأمتنا الاسلامية حية، وهي باقية خالدة فلتحيا أمتي ولتسلم، وحسبي الثواب الأخروي فان حياتي المعنوية التي في حياة
_____________________
1 ان ملّيتنا وجود مستقل بذاته، روحها الاسلام وعقلها القرآن والايمان - المؤلف.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 416
الأمة تحييني وتعيّشني، وتجعلني في نشوة ولذة في العالم العلوي، فينبغي أن نجعل الدساتير النورانية للنور والحميّة لنا دستوراً مردّدين: [والموت يوم نوروزنا].
س: كيف نجمع قوتنا ونحافظ على شرف الملّة الاسلامية؟ 1.
ج: احفروا بالفكر الملّي في جوف الأمة حوضاً للمعرفة والمحبّة - كحوض الكوثر - وسدّوا بالمعارف والعلوم ثغرات تحتها يسيل منها الماء، وافتحوا بالفضيلة الاسلامية المسايل التي تصب الماء فيه. هناك نبع كبير ضائع أسئ استعماله الى يومنا هذا فجرى في الأرض السبخة الرملية فما أدّى الاّ الى ترعرع متسولين عجزة.. فشيّدوا مجرىً جميلاً له وصُبوا الماء بالمساعي الشرعية الى ذلك الحوض ثم اسقوا بستان كمالاتكم به، فهذا نبعٌ لاينضب ولاينفد ابداً.
س: ما ذلك النبع؟.
ج: الزكاة، فانتم أحناف وشوافع.
س: [حبذا ونعمت ان لم تذهب غائضه، بل فاضت الى تلك الخزينة] 2 .
ج: [أجل أن فيكم ذكاوة انما تتزاهر بالزكاة].
س: كيف؟.
ج: لو أعطى الأذكياء زكاة ذكائهم، وصرف الأغنياء ولو زكاة زكاتهم لمنفعة الأمة، لتسابقت امتنا مع الأمم الأخرى.
س: ثم ماذا؟
ج: ان ما يعين ذلك النبع هو الإعانة الملّية الاسلامية، وهي الصدقات والنذور التي هي ابناء عمومة الزكاة تنبض بعرقها، وتعين في الخدمات.
س: لِمَ تسخَر كثيراً من عاداتنا المستمرة وتزيفها؟ 3 .
_____________________
1 لقد ورد الى القلب أنه: يمكن أن تكون هذه الدروس التي ألقيت قبل خمس واربعين سنة على العشائر البدو دروساً الآن لطلاب النور الحاليين أيضاً - المؤلف.
2 لا تمتعض ان هذا الكلام قد لبس لبوس الزكاة - المؤلف.
3 تجد كأن بعض الاسئلة دخيلة في الموضوع وكأن ودياناً تفصل بينها ولكن اذا ركب الخيال منطاداً وأخذ بيده منظاراً مكبراًَ فلربما يجد مواطنها - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 417
ج: لأن لكل زمان حكماً، وهذا الزمان يحكم على عادات هرمة بالموت والنسخ، لأن مضارها قد ترجّحت على منافعها، وهذا الترجيح يفتي بأعدامها والقضاء عليها.
س: ما أول ما يلزمنا؟.
ج: الصدق.
س: ثم ؟
ج: عدم الكذب.
س: ثم ؟
ج : الصدق والاخلاص والوفاء، والثبات، والتساند.
س: فقط ؟
ج: أجل.
س: ولِمَ ؟
ج : ان ماهية الكفر الكذب، وماهية الايمان الصدق، أليس هذا البرهان كافياً: أن بقاء حياتنا مرهونة بدوام الايمان والصدق والتساند.
س: ألا يلزم اولاً اصلاح رؤسائنا؟.
ج: نعم، كما أن الرؤساء قد أخذوا أموالكم وحجزوها في جيوبهم، فقد أخذوا عقولكم أيضاً أو حجزوها في أدمغتكم. لذا فأنا الآن اخاطب عقولكم الموجودة لديهم:
فيا ايتها الرؤوس والرؤساء، ايّاكم والتواكل الذي هو عين التكاسل، ولاتسوّفوا في الأعمال فيحولها بعضكم الى بعض، اخدمونا بأموالنا التي في ايديكم وبما تملكون من عقول. فقد أخذتم اجرتكم باستخدامكم هؤلاء المساكين... فهذا أوان الخدمة والعمل [فعليكم بالتدارك لما ضيّعتم في الصيف]. 1
س: يبدو منذ سنين أنه قد تنبهت الرغبة في التدين وتيقّظ الشعور الديني والنزوع الى الحق، حتى تاب أشقياء "كه وه دان ومامه خوران" توبةً نصوحاً
_____________________
1 "في الصيف ضيّعتِ اللبن" مثل يضرب لمن يطلب شيئاً قد فوّته على نفسه. المترجم.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 418
بنصيحة من السيخ أحمد واصبحوا مريدين صوفيين [وقد قطع الطريق على الشقاوة هذا الميلان].
ج: ما أرشدهم الاّ المشروطية الرشيدة والشيخ رسائل النور 1 لأنه لما ارتقت المشروطية الشرعية عرش الأفكار، هزّت الحبل المتين للملّية، فاهتز بدوره الاسلام - وهو العروة الوثقى - وعرف كل مسلم أنه ليس هملاً سائباً، بل مرتبط بالآخرين بالمنفعة المشتركة والحسّ المجرد، فالمسلمون جميعاً مرتبطون كالعشيرة الواحدة. اذ كما ان الحسنة التي تصدر من فرد من العشيرة يفتخر بها الكل، ويشتركون معه، فلا ينحصر ذلك الشرف على الفرد نفسه، بل يصبح ألوفاً -كالشمعة التي تظهر لها آلاف الصور في آلاف المرايا- فيمدّ الرابطة الحياتية لتلك العشيرة بالنور والقوة. كذلك الأمر اذا ارتكب احدهم جناية فان أفراد العشيرة كلهم يعدّون متهمين معه الى حدّ ما. فمثلاً: اذا ارتبط أفراد هذا المجلس برباط، والقى أحدهم نفسه في الطين، فاما أن يوقع اصدقاءه في الطين أو يضجرهم بكثرة الحركة، وبناء على هذا فان السيئة الواحدة تتصاعد الى الألف والحسنة المنفردة تصير
(كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبّة) (البقرة: 261).
فهذا السر الذي يقود الى التوبة أجهش المتيقظين فكراً أو روحاً بالبكاء، ولكن العقل الذي هو في قمة المنارة لايرى جيداً سببه الذي هو في قعر بئر الوجدان.
الحاصل: ان المسلمين تنبهوا ويتنبهون 2 وبدأوا يرون الشر شراً والخير خيراً.. فهذا هو السرّ الذي جعل عشائر هذه البوادي والوديان يتوبون الى الله توبة نصوحاً والمسلمون كلهم بدورهم يستعدّون لكسب هذا السرّ شيئاً فشيئاً.
الاّ انكم أقرب الى الملّية الاسلامية لأنكم بدو لم تفسد بعدُ فطرتكم الأصلية.
س: مع علمك بأن اكرام الضيف عادة مستحسنة عندنا، فَلِمَ لاتنزل ضيفاً على أحدنا وتحجم عنا، فعاداتنا هذه قديمة وأصيلة فلِمَ تستحف بهذه العادات وتمنع طلابك من تناول طعامنا وقبول هدايانا، مع أنه واجبٌ علينا خدمتكم والاحسان اليكم، وهو من حقكم علينا.
_____________________
1 لما كان طلاب النور قد دخلوا ضمن مامه خوران، فيجب اطلاق شيخ رسائل النور - بدلاً عن الشيخ المشروطية - لانهم ستار الاحرار والحمية الاسلامية والملّية وهم لامحالة ضمن دائرة الاتحاد المحمدي - المؤلف.
2 نعم قد استقلت بعد خمس واربعين سنة كلٌ من عشائر البلدان العربية وباكستان، فهم يصدقون سعيداً القديم في درسه هذا، وسيصدقونه في المستقبل - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 419
ج:
اولاً: العلم عزيز، لاأريد أن أذلّه.. وأريد أن أريكم أن من أهل العلم من لايتنزل للدنيا، ولايجعل صنعة العلم وسيلة العيش، وأن الطلاب ليسوا متسولين ولا شحاذين.
ثانياً: اريد ان انصح فعلاً بعض الموظفين الذين يظهرون الاهمال والكسل في وظيفتهم ولا يقنعون بمرتّباتهم فلا تمسك تلك المرتبات ايديهم عن اكرام الضيوف.
ثالثاً: بعض الرؤساء الذين انقطعت مجاري وارداتهم الظالمة يزلّون الى ظلمات الظلم بفتحهم ابواب مصاريف واسعة جداً، فأريد أن أبيّن لهم طريقاً لسد تلك الأبواب.
رابعاً: أريد أن أريكم مقياساً تقيسون به من يسيح فيما بينكم ويجول، أهُم يقومون بهذا العمل لأجل الملّة أم لهوى أنفسهم؟ فأبيّن بذلك محكّاً بين الحيلة والحمية.
س: تصبح بهذا مانعاً لإحسان الناس، ألا ينتج هذا استخفافاً بسخاوتهم؟
ج: الإحسان انما يكون إحساناً حقاً إن كان للنوع او للمحتاج أو الفقير، وعنده يكون السخاء سخاءً حقاً، واذا كان السخاء لأجل الأمة، أو للفرد الذي يتضمن الأمة، فهو سخاء جميل، ولكن ان كان لغير المحتاج يعوّده الكسل والتسوّل.
والخلاصة: ان الأمة باقية، بينما الفرد فانٍ.
س: [ما تقول في الاحسانات الشخصية في السلف، أمناء الأمة، ورشدائها، وسيوف الدولة وصلاحها... تجلت العبوسية بمكارمها باهداء عشرة دنانير لشعرٍ لايوزن شعيرة].
ج: 1 [فيه مافيه... مع انها بالنهاية قد انجرّت الى النوع والملّة، لأن اللسان الذي خَدَمه الشعرُ خيط الملّية، مع أن هذا الزمان هو الذي كشف عن احتياج الملّية وفتح الباب لهذا المقصد العالي].
س: ان الرؤساء المتغلبون، قد تهاووا، وأوصد باب الظلم دونهم، دع الساقطين وشأنهم، واترك الذين يعانون السكرات، يتمّوا سكراتهم...
_____________________
1 هذه العبارة نابعة من مصنع الموضوع ولابسة ما اهدي اليه من الأسلوب المحلّي - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 420
ج: انني أريد ان أحفّظَكم سنّة الحرية الشرعية حتى يمتثلوها ماداموا على قيد الحياة. نعم، لقد تساقط الرؤساء الذين تربَّوا بقوة الاستبداد وحدها، وهم يستحقونه، الاّ أن فيهم حماة.
[نعم أن بينهم حماة للمليّة، فنشكرهم.. ومتكاسلين، فنشكوَهم.. ومتحيرين، فنرشدهم.. وأمواتاً فنحافظ على ميراثهم لئلا يأخذه مَنْ..] برز الى الميدان حديثاً.
س: لقد كنتَ - سابقاً - تودّ الشيوخ جميعاً وتحبهم بل تحسن الظن حتى بالمتشيخين، فما هذا الهجوم على قسم من المتشيخين الذين ابتلوا بالبدع؟
ج: قد يرد العداء من فرط المحبة وشدتها! نعم، فكما كنت أحبّهم لأجل نفسي، فقد عشقتهم لنفس الاسلام أضعاف أضعافها،
[لقد انتقش في سويداء قلوبهم الطاهرة الصبغة الربّانية وفي خلدهم ضياء الحقيقة] 1
[نديمانْ بادَهَا خوْر دند رفتند تهى خمخانها كردندورَفتنْد]. 2
الاّ أن أس أساس مسلكهم: تنوير القلوب وربطها بالفضيلة الاسلامية والسير عليها، أي: الانطباع بالحمية الاسلامية، اي: ترك المنافع الشخصية لأجل الاخلاص، اي: التوجه الى تأسيس المحبة العامة، أي: خدمة الاتحاد الاسلامي والدعوة اليه.
[فوا أسفاً لقد أساؤا متكئين وتكاسلوا في خدمتهم فحينئذٍ أريد تحويل هممهم الى مجراها الحقيقي القديم ].
س: انت تذكر دوماً "الاتحاد الاسلامي" ألا تعرّفه لنا؟.
ج: قد عرّفته في مؤلفي "المحكمة العسكرية العرفية"وسوف أريكم حجراً من ذلك القصر المعلّى ونقشاً منه:
ان "الكعبة المكرمة" هي الحجر الأسود لكعبة سعادتنا التي هي الاتحاد الاسلامي المنوّر. و "الروضة المطهّرة" درّته البيضاء، و"جزيرة العرب" مكته المكرمة و"الدولة العثمانية" المنفّذة للحرية الشرعية بحذافيرها هي مدينته المنورة لمدنيّتها.
_____________________
1 ان هذا الاسلوب قد نسج من قطع الخرق المباركة لأحد السلاسل (للأولياء الصوفيين) أي هو اشارة الى أولياء عظام من أمثال: الشاه النقشبندي، الامام الرباني، خالد ضياء الدين، سيد طه، سيد صبغة الله ، وسيدا - المؤلف.
2 بيت بالفارسية تعنى: ان الندماء شربوا ما شربوا وتركوا الحانة خالية. المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 421
فان شئت ان ترى مليّة الاسلام والحجر الاساس للاتحاد الاسلامي ونقشه، فدونك التوقير اللائق الغيور النابع من الحياء والحمية.. والتبسم البرئ الناشئ من الاحترام والرحمة.. والحلاوة الروحانية الحاصلة من الفصاحة والملاحة.. والنشوة السماوية الناشئة من العشق الفتي والشوق الربيعي.. واللذة الملكوتية المتولدة من الحزن الغروبي والفرح السَحَري.. والزينة المقدّسة المتجلّية من الحُسن المجرد والجمال المجلّى 1 فيمكن أن يرى من اللون النوراني الباعث من امتزاج هذه الخصال الحميدة شئ من منظر اللون الأرجواني من بين الألوان السبعة لقوس قزح قاب قوسي الشرق والغرب والطاق المعلّى لكعبة سعادتهما.
ولكن لايحصل الاتحاد بالجهل، بل الاتحاد امتزاج للأفكار، وهذا الامتزاج لايتمّ الاّ بالنور الوضئ للمعرفة.
س: لِمَ سكتّ في السابق؟.
ج: [لأن الاستبداد كان مانعاً للاتحاد فكنت سكتّ على جمر الغضى] 2
س: الهجوم على المشايخ الذين وقعوا في البدع فيه خطر عليك، لأن فيهم أولياء [ألا تخاف أن تصيبهم بجهالة فتصبح على ما فعلت من النادمين].
ج: [ان المولى جل جلاله قد وَسَم بقدرته على جباههم الرفيعة نقش الحقيقة. ومُرادي أن أرشد من طاش فهمه من ذلك النقش] 3 نعم ان هجومي ليس عليهم بل لهم. وذلك لئلا يقلل من شأنهم غير الكفوئين الذين يتزيّونَ بزيّهم. فعلى هذا أعلن ولا أبالي:
اني على عزم جازم ان أقتحم المهالك - ايّاً كانت - أمام ما أصبو اليه من سلامة الاسلام، ولن يثنوني عن عزمي بالتهديد والتخويف. وما قيمة هذه الحياة الدنيا التي يفديها أدنى أرمني لقومه؟. فكيف أخاف عليها وعلاقتي واهية معها، ولاسيما انها كادت تطير مني سبع مرات، الاّ أن الله سبحانه أبقاها عندي أمانةً. فاذاً ليس لي
_____________________
1 ان كل فقرة من هذه الفقرات في هذا الاسلوب المسلسل تشير الى شعاع من اشعة الاسلام والى جمال من جماله والى سجية من سجاياه والى رابطة من روابطه والى اساس من اسسه - المؤلف.
2 قلت هذا الكلام عندما كنت افكر في لزوم اللغة العربية - المؤلف.
3 ان المرشدين قد اجتمعوا في هذه التكية، اي في هذه العبارة، فلا تغادرهم دون زيارة لهم ففيها اشارة الى كل من المولوي والقادري والنقشبندي والبكتاش - المؤلف.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 422
حق المنّة في بذلها والتضحية بها. ومع ان الروح ارادت الطيران من القفص الى الشجر، والعقل نزع الى الهروب الى اليأس، الاّ انهما استُبقيا كي تفدي الحياة نفسها في المستقبل. فالتهديد اذن باستلاب هذه الحياة لاقيمة له وليس بشئ عندي. ولم يبق ما يهددوني به الاّ الحياة الأخروية، فلو حرمت حتى من هذه الحياة، فلن أحجم عن مقصدي ولا أرضى بالبقاء تحت وطء منّتها وثقلها. فان دَعوا على تلك الروح المحترقة الآن بنار الأسى والأسف لتحرق في نار جهنم، فليكن ولا أبالي، لأن الوجدان باخراجه نار الاسى منه يتضمن فردوساً من المقاصد، كما أن الخيال يشكل جنة من الأمل. فليكن الجميع على علم أنني قابض على حياتيّ بيدي كلتيهما ومنهمك بحربين مع عدوين في ميدانين للمبارزة، فلا يرتقينّ أحدٌ إلى ميداني من يملك حياة واحدة!.
س: ما تطلب من الشيوخ الحاليين؟.
ج: الإخلاص الذي يترنمون به دوماً، والجهاد الأكبر الذي يرابطون في التكايا التي هي معسكرات معنوية بالطريقة، التي هي جندية روحانية فيها.. وترك التزام النفس وترك المنافع الشخصية الذي هو معنى الزهد، الذي هو شعارهم.. والمحبة التي يدعونها وهي جوهر مزاج الاسلام. ها هم قد أخذوا منا اجرتهم باستخدامنا، فالآن نطالبهم بالعمل وهو دَيْن في رقابهم.
س: كيف يكونون؟
ج: اِما أن يولّوا وينصرفوا عنّا أو يرفعوا العناد والغيبة والانحياز فيما بينهم، لأن قسماً من المتشيخين المبتدعين قد تسببوا في تشكيل فرقٍ من أهل البدع والضلالة.
س: كيف يمكن أن يتحدوا ويتفقوا فيما بينهم، وبعضهم ينكر على بعض. وتحرم في قواعدهم ودساتيرهم محبة المُنكِر، بل حتى الأنس به، فلا ريب أن مسألة الانكار مسألة مهمة؟!.
ج: وعلى هذا فلي الحق اذاً أن أخاطب بما يأتي: ايها الحمقى أما سمعتم أو أما علمتم ان الآية الكريمة
(انما المؤمنون إخوة) (الحجرات :10) ناموس إلهي، وهل


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 423
تعاميتم عن الدستور النبوي الكريم (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؟ 1.
فيا للعجب... كيف تتمكن أن تنسخ مسألة الانكار هذه - الواهية المترددة بين الصدق والكذب - هذين الأساسين العظيمين الضروريين، ألا إن مسألة الانكار ليست بكلام الله تعالى حتى لاتقبل النسخ.. أما علموا أن الزمان قد نَسَخَ ذلك الانكار بفتوى غلبة ضرّه على نفعه، والعمل بالمنسوخ لايجوز؟.
س: ألا يمكن أن يكون العداء فيما بينهم لرؤية بعضهم من بعض أفعالاً غير مشروعة؟.
ج: عجباًَ ! بأى وجه حق، وبأي انصاف وبأي سبب تغلبت أسبابُ العداء الناشئة من تصرفات غير مشروعة واهية كحجج الصبيان، وترجحت على اسباب المحبة العظيمة - كجبل سَبحان - 2 الناشئة من الايمان والاسلام والانسانية والجنسية.
نعم، ان الاسلام والانسانية اللتين تقتضيان المحبة هما كجبل "أُحُد" أما الأسباب المنتجة للعداء فليست الاّ كالحصيّات الصغيرة. فالذي يجعل العداء يتغلب على المحبة يرتكب في الحقيقة حماقة عظيمة، كمن يبخس من قيمة جبل "أُحد" ويستصغره الى أدنى من حصاة !!.
ان العداء والمحبة كالضياء والظلام لايجتمعان أبداً، فاذا تغلب العداء، انقلبت المحبة الى مداراة وتصنّع، أما اذا تغلبت المحبة فالعداء ينقلب الى ترحّم واشفاق ورقّة قلب.
ان مذهبي هو ابداء الحب للمحبة، واظهار الخصام للعداء، أي أن أحبّ شئ اليّ في الدنيا هي المحبة، وابغض شئ عندي هو الخصام والعداء.
س: ما الفرق بين الشيخ الولي والمتشيخ المدّعي للولاية؟.
ج: ان كان هدف الشخص وغايته الاتحاد بضياء القلب ونور الفكر، وكان مسلكه المحبة، وشعاره ترك حبّ الذات والأنانية، وكان مشربه انكار الذات
_____________________
1 رواه مسلم في كتاب الايمان: 71 والبخاري في الايمان: 7 .
2 جبل في شرقى تركيا. المترجم.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 424
(المحويّة) وطريقته الحميّة الاسلامية، ربما يكون شيخاًَ مرشداً حقاً. ولكن ان كان مسلكه اظهار مزاياه بتنقيص الآخرين، ويلقّن محبته - الى مريديه - بخصومة الآخرين، وينحاز الى نفسه ويلتزم جانبها مما يستلزم الاختلاف وشق العصا، وكان يظهر أن محبته متوقفة على خصومة الآخرين مما ينتج الغيبة والميل اليها.. فما هو الاّ متشيّخ يتطلع الى الرئاسة، أو ذئب متغنّم (في زي غنم) فلا ينتهي به الأمر الاّ الى جعل الدين وسيلة لجرّ مغانم الدنيا. أو هو منخدع بلذة منحوسة مشؤومة أو بأجتهادٍ خطأ يجعله يُحسن الظن بنفسه ويفتح طريق سوء الظن في المشايخ الكرام والذوات المباركة.
س: كلامك حسن جميل، ولكن اين من يسمع؟ ومسلكك عالٍ ورفيع ولكن من يتّبع؟
ج: [ما لايدرك كله لايترك كله] 1.. و [انما الاعمال بالنيات] 2.. [ان الملام على من اتبع الهوى والسلام على من اتبع الهدى].
س: مارأيك في الاختلافات الرهيبة بين علماء العالم الاسلامي؟ وماذا تقول فيها؟
ج: ان العالم الاسلامي في نظري كمجلس النواب (البرلمان) غير المنتظم أو كمجلس الشورى اختل نظامه، وما نسمعه في الفقه بأن: "هذا هو رأي الجمهور، وعليه الفتوى" انما هو نظير رأى الأكثرية في ذلك المجلس. وما عدا رأى الجمهور من الأقوال ان لم تكن خالية من الحقيقة والجوهر واللب، تفوّض الى رأي صاحب القابليات والمواهب والاستعدادات لينتخب كلُّ استعدادٍ وموهبة مايناسب تربيته وينسجم معها. وهاهنا نقطتان مهمتان 3.
الأولى: ان "القول" الذي أُنتخب بميل هذا الاستعداد، والذي يتضمن الحقيقة - الى حدّ ما - وظلَّ في الأقلية، مقيّد في نفس الأمر، ومخصَّص بالاستعداد الذي انتخبه، الاّ أن صاحبه اهمله فتركَهُ مطلقاً، والتزمه متبعوه فجعلوهُ عاماً، وتعصّب له
_____________________
1 (ما لا يدرك كله لا يترك جلّه) هو معنى الآية (فاتقوا الله ما استطعتم) والحديث (اتق الله ما استطعت) ولفظ الترجمة قاعدة وليس بحديث (كشف الخفاء للعجلونى 2/196)
2 متفق عليه.
3 تأمل جيداً في هاتين النقطتين ويحسن بك أن تقدرهما حق قدرهما. المؤلف.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #40
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 425
مقلّدوه وسعوا في هدم المخالفين حفاظاً عليه.. من هذه النقطة تولدت المصادمة والمشاجرة والجرح والردّ حتى تشكل من الغبار المثار من تحت أرجلهم ومن الابخرة المتصاعدة من أفواههم ومن البروق المنطلقة من ألسنتهم - سحاباً ذا بروق وذا رحمة أحياناً- فولّد حجاباً أمام شمس الاسلام الساطعة، ولكن ذلك السحاب المبشّر بالرحمة الواهب للاستعداد والقابلية من فيض نور الشمس، مثلما لم يُنزل الغيث.. فقد حجب النور أيضاً...
الثاني: ان القول الذي ظل في الأقلية، إن لم يغلبْ ما فيه من الحقيقة والجوهر على ما في الاستعدادات المنتخبة له، من هَوَسٍ وهوى أو تدين موروث ومزاج. فانه - أي ذلك القول - يبقى على خطر عظيم، لإنه بدلاً من أن ينصبغ الاستعداد به وينقلب الى مايقتضيه، يصرفه لنفسه ويلقحه ويسخّره لأمره.
وها هنا يتحول الهُدى الى الهوى، ويتشرب المذهب من المزاج. ان النحل يشرب الماء فيقطّر عسلاً، بينما الحية تشربه وتنفث سمّاً.
س: ياترى، ألا يجد هذا المجلس الاسلامي العالي على سطح الارض انتظاماً وتنسيقاً لأعماله مرة أخرى؟.
ج: أعتقد بأن العالم الاسلامي قاطبة سيصير بمثابة مجلس نواب (برلمان) مقدّس في الملّة الانسانية وبين بنى آدم، وسيشكل وينظم السلف والخلف فيما بينهم مجلساً للشورى مولياً كلٌّ منهم وجهَه للآخرَ على مدى العصور الاّ أن القسم الأول وهم الآباء الشيوخ، سينصتون بهدوء وثناء.
س: 1 ان قسماً من الأجانب يوردون شبهات حول مسائل كتعدد الزوجات والرق، كأنها لاتساير المدنية، فيثيرون الأوهام حول الشريعة.
ج: سأقول لكم قاعدة بصورة مجملة لأنني على نية اصدار تفاصيلها في رسالة مستقلة.
ان أحكام الاسلام على قسمين:
الأول: وهو الذي يؤسَّس عليه الشريعة وهو الحُسن الحقيقي والخير المحض.

_____________________
1 هذا السؤال طرح من قبل أحد الأرناووط - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 426
الثاني: الشريعة المعدِّلة، أي تأتي الشريعة وتخرج الشئ من صورته البشعة الظالمة الى صورة ملائمة للزمان والمحيط قابلة للتطبيق حسب الطبيعة البشرية، أخذاً بالصورة المعدَّلة اختياراً لأهون الشرّين وأخف الضررين، حتى يتيسّر الوصول الى الحُسن الحقيقي تماماً. لأن رفع أمرٍ مستأصل في الطبيعة البشرية رفعاً آنياً يقتضي قلبَ الطبيعة البشرية رأساً على عقب.
وعلى هذا فالشريعة ليست هي التي أوجدت الرقّ، بل هي التي أوجدت السُبُل، ومهّدت الطريق لتحويل الرقّ من أقسى صوَره الى ماييسّر الوصول الى الحرية التامة والانتقال اليها. اي عدّلت تلك الصورة البشعة وقلّلت منها. ثم ان تعدّد الزوجات الى حدّ الأربع زوجات، مع أنها موافقة لطبيعة الأنسان والعقل والحكمة، فان الشريعة لم تجعلها من الواحدة الى الأربعة، بل أنزلتها وأنقصتها من الزوجات الثمانية والتسعة الى الأربعة، ولاسيما قد وضعت شرائط - في التعدد - بحيث لاتؤدي مراعاتُها الى ضررٍ ما، وحتى لو حصل في بعض النقاط شر، فهو شرّ أهون، وأهون الشرّ عدالة اضافية (نسبية)، إذ الخير المحض لايمكن ان يحصل في جميع أحوال العالم، هيهات!!..
***
لقد صادفت - بسوء التصادف - أهل الأفراط والتفريط من مهاجمي الحكومة والمعترضين عليها. فقسمٌ من أهل الأفراط كانوا يضللون الأتراك -الذين هم قوام الاسلام بعد العرب - حتى تجاوز بعض جهلاء هذا القسم الى تكفير أهل القانون محتجين بوضع "القانون الأساسي" و "اعلان الحرية" قبل هذا بثلاثين سنة ومستدلين بالآية الكريمة
(ومنْ لم يحكم بما أنزل الله...) (المائدة: 44) فهؤلاء المساكين لم يعرفوا أن (ومَن لم يحكم) هو يعني "مَن لم يصدّق". فيا للعجب... كيف لا اعارض مَن ظن الاستبداد السابق حريةً وهاجم القانون الأساس! ولكن مع أن اولئك كانوا يعارضون الحكومة الاّ أنهم أرادوا استبداداً أشدّ، لهذا كنت أرفضهم وأردّ عليهم، فمضللّو أهل "الحرية" هم الآن من هذا القسم.
أما القسم الثاني: وهم أهل التفريط فلا يعرفون الدين، ويعترضون ظلماً على المسلمين ويهاجمونهم بدون انصاف محتجّين بالتعصب، فالذين انسلخوا من


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 427
"عثمانيتهم" وتجردوا منها، والذين يريدون التمثل بأوروبا وتقليدها كليّاً، هم الآن من هذا القسم.
أيها العوام! فالآن... نستودعكم الله...
انتظروا فان لي دعوى أبحثها مع الخواص، ولي مسألة مهمة مع الحكومة، مع الأشراف، مع اولئك الذين ليسوا من الماسونيين من جماعة الاتحاد والترقي.
ياطبقة الخواص! نحن العوام ومعاشر أهل المدرسة الدينية نطالبكم بحقنا!..
س: ماتريدون؟ .
ج: نريد أن تصدقوا قولكم بفعلكم، ولاتعتذروا بقصور غيركم، ولا تتواكلوا فيما بينكم وتتكاسلوا في خدمتنا الواجبة عليكم، وان تتداركوا فيما فاتنا بسببكم، وان تستمعوا الى أحوالنا وتستشيروا حاجاتنا، وان تستفسروا عن اوضاعنا، وتَدَعوا لَهوَكم جانباً!..
الحاصل: اننا نطلب ضمان مستقبل العلماء في الولايات الشرقية ونطلب نصيبنا من معنى "الاتحاد" و"الترقى" لا من الاسم فنطلب ماهو هيّن عليكم وعظيم عندنا.
س: افصح عن مقصدك ولاتتركه مبهماً. ماذا تريد؟.
ج: نطلب تأسيس "مدرسة الزهراء" - شقيقة الجامع الأزهر - التي تتضمن الجامعة. نطلب تأسيسها في "بتليس" مع رفيقتها في كل من "وان" و"دياربكر" جناحَي بتليس، اطمأنوا أننا - نحن الأكراد - لسنا كالآخرين - فنحن نعلم يقيناً أن حياتنا الاجتماعية تنشأ من حياة الأتراك وسعادتهم.
س: كيف؟ مثل ماذا؟ ولِمَ؟.
ج: ان لها بعض شرائط تربوية، ومجاري واردات، ومحاسن ثمرات...
س: ما شرائطها؟.
ج: ثمانية:
اولاها: التسمية باسم "المدرسة" لأنه مألوف ومأنوس وجذّاب، ومع كونه عنواناً اعتبارياً الاّ أنه يتضمن حقيقة عظيمة ممّا يهيّج الأشواق وينبّه الرغبات.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 428
ثانيها: مزج العلوم الكونية الحديثة ودرجها مع العلوم الدينية معَ جعل اللغة العربية واجبة، والكردية جائزة، والتركية لازمة.
س: ما الحكمة في هذا المزج، حتى تدعو اليه دائماً وتدافع عنه؟.
ج: لتخليص المحاكمة الذهنية (العقلية) من ظلمات السفسطة الحاصلة من أربعة أنواع من الأقيسة التمثيلية الفاسدة 1 وازالة المغالطة التي تولدها الملكة المتفلسفة على التقليد الطفيلي.
س: كيف؟ مثل ماذا؟.
ج: ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبإمتزاجهما تتجلّى الحقيقة، فتتربّى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الاولى والحيل والشبهات في الثانية.
الشرط الثالث: انتخاب المدرسين فيها، أما من العلماء الأكراد من ذوي الجناحين أي الموثّقين والمعتمدين من قبل الأكراد والأتراك او ممن يعرفون اللغة المحلية ليُستأنس بهم.
رابعها: الإستشارة باستعداد الأكراد وقابلياتهم، وجعل صباوتهم وبساطتهم نصب العين، وكم من لباس يُستحسن على قامة، يستقبح على أخرى، وتعليم الصبيان قد يكون بالقسر أو بمداعبة ميولهم.
الشرط الخامس: تطبيق قاعدة "تقسيم الأعمال" بحذافيرها، حتى يتخرج من كل شعبة متخصصون مَهَرة مع أنها مداخل ومخارج بعضها ببعض.
الشرط السادس: ايجاد سبيل بعد تخرج المداومين وضمان تقدمهم واستفاضتهم حتى يتساووا مع خريجي المدارس العليا ويتعامل معهم بنفس المعاملة مع المدارس العليا والمعاهد الرسمية، وجعل امتحاناتها كامتحانات تلك المدارس منتجة، دون تركها عقيمة.
_____________________
1 من أمثال تلك القياسات الفاسدة: قياس المعنويات على الماديات، واتخاذ ماتقوله اوروبا حجة في المعنويات، أي كما أنهم ماهرون في الماديات، ويقتدى بهم فيها، فهم ماهرون في العقائد ايضاً. وثانيتها: رفض أقوال العلماء - ممن لم يطّلعوا على بعض العلوم الحديثة - في العلوم الدينية ايضاً. ثالثتها: الاعتماد على النفس والاعتداد بها في الدين لاغتراره بمهارته في العلوم الحديثة. رابعتها: قياس السلف على الخلف والماضي على الحاضر، ثم شن الهجوم وتقديم الاعتراضات الباطلة - شقيق المؤلف عبدالمجيد.




صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 429
الشرط السابع: اتخاذ دار المعلمين - موقتاً - ركيزة لهذه المدرسة ودمجها معها، ليسري الانتظام والاستفاضة من العلم من هذه الى تلك والفضيلة والتدين من تلك الى هذه، حتى يكون كل منها ذا جناحين بالتبادل.
س: ما وارداتها؟
ج: الحمية والغيرة..
س: ثم ؟
ج: ان هذه المدرسة كنواة تتضمن - بالقوة - شجرة طوبى. فان اخضرّت بالحميّة والغيرة إستغنت عنكم وعن خزائنكم المنضوبة، وذلك بجذبها الطبيعي لحياتها المادية.
س: بأي جهة؟
ج: بجهات عديدة:
الاولى: الأوقاف، لو انتظمت انتظاماً حقيقياً، لأسالَت الى هذا الحوض عيناً سيالة بتوحيد المدارس.
الثانية: الزكاة، فنحن شافعيون وأحناف، فاذا أبدت - بعد حين - تلك المدرسة الزهراء خدماتها للاسلام والانسانية، فلا ريب أن يتوجه اليها قسم من الزكاة وتحصرها لنفسها باستحقاق، وحتى لو كانت لها زكاة الزكاة لكفتها.
الثالثة: النذور والصدقات... فكما ان هذه المدرسة تكوّن وتمثل عند العقول أسمى "مدرسة" وبنظر القلوب والوجدان أقدس زاوية "تكية" وذلك بما تنشره من ثمرات وما تعمه من ضياء وما تقدمه للاسلام من خدمات جليلة. أي فكما هي مدرسة دينية فهي مدرسة حديثة، وتكية أيضاً. وحينها يتوجه اليها قسم من النذور والصدقات التي هي من جملة التكافل الاجتماعي في الاسلام.
الرابعة: الإعارة.. بتوسيع واردات دار المعلمين - بعد الدمج لأجل التبادل المذكور- توسيعاً نسبياً، يمكن اعارة تلك الواردات اليها موقتاً، وحينما تستغني - بعد مدة - ستردّ تلك العارية.
س: ما ثمرات هذه المدرسة حتى تصرخ وتدعو اليها بحماسة من قبل عشر سنين بل من قبل خمس وخمسين سنة؟.


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 430
ج: مجملاً تأمين مستقبل العلماء الأكراد والأتراك 1 واقحام المعرفة عن طريق "المدرسة" الى كردستان واظهار محاسن "المشروطية" و "الحرية" والاستفادة منها.
س: يحسن بك أن توضح أكثر وتفصّل.
ج:
الأول: توحيد المدارس الدينية واصلاحها...
الثاني: انقاذ الاسلام من الأساطير والأسرائيليات والتعصب الممقوت، تلك التي صدّأت سيف الاسلام المهنّد.
نعم إن شأن الاسلام الصلابة في الدين وهي المتانة والثبات والتمسك بالحق، وليس التعصب الناشئ عن الجهل وعدم المحاكمة العقلية، وفي نظري ان أخطر انواع التعصب هو ذلك الذي يحمله قسم من مقلدي اورربا وملحديها، لما يصرّون بعناد على شبهاتهم السطحية، وليس هذا من شأن العلماء المتمسكين بالبرهان.
الثالث: فتح باب لنشر محاسن المشروطية.
نعم، ليس هناك في العشائر من فكرٍ يجرح المشروطية، ولكن ان لم تستحسن في نظرهم فلا يستفاد منها. وهذا أشد ضرراً، فلاشك أن المريض لايستعمل دواءً يظنه مشوباً بالسم.
الرابع: فتح طريق لجريان العلوم الكونية الحديثة الى المدارس الدينية، بفتح نبع صافٍ لتلك العلوم بحيث لاينفر منها أهل المدارس الدينية، ولقد قلت مراراً بأن فهماً خطأً وتوهماً مشؤوماً قد أقاما - لحد الآن - سدّين أمام جريان العلوم.
الخامس: اكرر ماقلته مراراً - بل مئة مرة - ان هذه المدرسة تصالح بين أهل المدرسة "الدينية" والمدرسة "الحديثة" وأهل الزوايا "التكايا" وتجعلهم يتحدون - في الأقل- في المقصد، وذلك بما تحدث فيما بينهم من الميل وتبادل الأفكار.
نعم، نشاهد بأسى وأسف أن تباين أفكارهم كما فرّق الاتحاد فيما بينهم فان تخالف مشاربهم قد وقّف التقدم والرقي أيضاً وذلك لأن كلاً منهم بحكم التعصب
_____________________
1 لقد ألقيت هذه المباحث حول »مدرسة الزهراء« في السنة الثالثة من اعلان الحرية على صورة خطب للأهالي في كل من بتليس ووان ودياربكر وغيرها من الأماكن، وقابلوني جميعاً بالموافقة وبأن هذه المسألة حقيقة وممكنة وقابلة للتطبيق، لذا أستطيع أن أقول انني مترجم لما كان يدور بخلدهم في هذه المسألة - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 431
لمسلكه ونظره السطحي لمسلك الآخر، انساق الى الافراط والتفريط، ففرّط هذا بتضليل ذاك، وأفرط ذاك بتجهيل هذا.
الخلاصة: ان الاسلام لو تجسّم لكان قصراً مشيداً نورانياً ينور الأرض ويبهجها فأحد منازله "مدرسة حديثة"، واحدى حجراته "مدرسة دينية"، واحدى زواياه "تكية"، ورواقه مجمع الكل، ومجلس الشورى، يكمل البعض نقص الآخر.. وكما أن المرآة تمثل صورة الشمس وتعكسها فهذه المدرسة الزهراء ستعكس وتمثل أيضاً صورة ذلك القصر الإلهي الفخم في البلدان الخارجية.
يا أيها الاشراف! اخدمونا كما خدمناكم والاّ... يا أهل الحكومة الذين تدّعون الوصاية علينا بعدم بلوغنا سن الرشد كما تظنون أمّنوا وسائل سعادتنا كيما نطيعكم، وإلاّ.. يا اعضاء الاتحاد والترقي القدماء يامن تعهّدتم وتحمّلتم بحق الواجب الاجتماعي للأكراد والأتراك حسناً فعلتم وقمتم بهذا المزج، فان احسنتم فحسناً وإلاّ.. [فردّوا الأمانات الى أهلها] 1 .
س: هناك عتاب كبير على العلماء حتى...
ج: انه ظلم عظيم وعدم انصاف شديد.
س: لماذا؟
ج: لأنه حماقة كحماقة من يهب وجوداً على ذنب صدر من العدم.
س: ماذا تعني؟.
ج: ان إدانة العلم، بذنب ناشئ من عدم الحلم، لشخص - اقترن علمه بعدم الحلم - كم هي حماقة وبلاهة، كذلك فان إدانة العلماء المساكين - وهم المرشدون دوماً الى قدسية الاسلام وسمّوه، والمبلّغون لأحكام الدين، حسب طاقاتهم والذين يستحقون اكثر احتراماً ومحبة ورحمة في الوقت الحاضر - ادانتهم بذنب وخطأ ناشئ من عدم وجود علماء بمستوى لائق لهذا العصر، ثم القاء ذلك الذنب وتلك
_____________________
1 تنبيه: يا اعضاء الحكومة وأهل السياسة الذين تعدّون أنفسكم من الخواص، لاتسلّوا أنفُسَكم بالاستناد الى هذا الكتاب الذي يخاطب العوام ويلقنهم الدروس في تحطيم اليأس لأن سوء استعمالكم أسوأ تأثيراً من سوء فهمهم، لكي ارشدكم جعلتُ الزمان وكيلاً، فلم تعيروا الى درس الزمان بالاً، فذقتم صفعة تأديبية - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 432
الخطيئة على كاهل هؤلاء المساكين، ان لم تكن هذه حماقة اعظم وبلاهة اكبر فما هي اذن؟ !...
نعم، ان الضرر لم يصبنا من "وجودهم" بل من "عدم وجود" ما نبتغيه من العلماء الأفذاذ، لأن اغلب الأذكياء قد اتجهوا الى المدارس الحديثة والأغنياء لم يتنازلوا الى نمط المعيشة في المدرسة الدينية، والمدرسة نفسها - لعدم وجود الانتظام وفقدان الاستزادة من العلوم وانقطاع سبل التخرج - لم تتمكن تهيئة علماء بمقتضى هذا العصر، احذروا! ان كره العلماء وبغضهم خطر عظيم. 1
س: فان كانت نيتك خالصة توفّق وقليل من يخلص النية، فانظر الى نيتك.
ج: لله الحمد ولا فخر 2 .. ان عناصر الأغراض الشخصية ومصالحها المخلّة باخلاص النيّة - من نسب ونسل وطمع وخوف - لاتعرفني ولا أعرفهن، بل لا أريد ان أتعرّف اليهن، ذلك لأني لست صاحب نسب شهير كي أجدّ في صون ماضيه، ولست صاحب اولاد كي أسعى لضمان مستقبلهم. ولكن لي جنون - أيّ جنون - حتى أعْجَزَ المحكمة العسكرية بهيبته ورهبته في علاجه، ولي جهل مطبق - وايّ جهل - حتى جعلني أمياً لا أستطيع قراءة المكتوب على الدينار والدرهم. أما التجارة الأخروية... فقد آليت على نفسي ألاّ أتراجع عن طريقي التي أسلكها ولو ضيّعت فيها رأس مالي. واني على خسارتها منذ الآن، اذ أسقط في آثام كثيرة... فلم يبق الاّ الشهرة الكاذبة... ولقد مللت منها، وأهرب منها. لأنها تحمّلني مالايمكن أن اتحمله من وظائف..
س: لِمَ تحسن الظن -كلما امكنك ذلك - بحكومة المشروطية وأفراد "جون تورك" غير الملحدين؟.
ج: لانكم تسيئون الظن بهم كلما تيسّر لكم ذلك، فأنا أحسن الظن بهم، فان كانوا بمثل ما أقول فبه ونِعمَ، والاّ فانا أرشدهم الى الصواب كي يسلكوه.
س: ما رأيك في الاتحاد والترقي؟.
_____________________
1 يا أهل المدارس (الدينية): لاتيأسوا ان العلوم الدينية والعلوم الحديثة في الوقت الحاضر هما المسيطرتان. وان طريق التقدم والرقي سيكون بالعلم وبانواعه كافة، وسوف يرتقي أرفعه واعلاه الى أسمى طبقة - المؤلف.
2 ان التحدث بنعم الله ضرب من الشكر، مثلما يحدّث الشيخ عن كرامته شكراً لنعم الله عليه - المؤلف.



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 433
ج: مع انني أثمّن قيمتهم الاّ انني اعترض على الشدّة التي يزاولها سياسيوهم 1 واهنئ - في الوقت ذاته واستحسن - الى حدٍّ ما- فروعهم وشعبهم الاقتصادية والثقافية ولاسيما في الولايات الشرقية.
***
سؤال: ما الذي ألقانا في غياهب الضياع واقعدنا عن معالي الامور؟
الجواب:
ان الحياة حركة وفعالية، أما الشوق فجوادُها، وهو مطية الهمة. فحالما تمتطي همتُكم صهوة جواد الشوق ناشدة معالي الامور في ميادين معركة الحياة، اذا بـ"اليأس" أول ما يصادفها، هذا العدو الألد هو الذي يفتّ من قوة الهمة.. فعليكم ان تضربوه بسيف الآية الكريمة:
(لا تقنطوا) (الزمر: 53).
ثم يشن "حب الظهور وميل التفوق" هجومه، هذا الميل المغروز في الانسان يحاول التحكم على خدمة الحق الخالصة من الحسد والمنازعة، فيهوي بضرباته على رأس الهمة ويطرحها الارضَ من على جوداها.. فعليكم ان تبعثوا اليه حقيقة الآية الكريمة:
(كونوا قوامين) (النساء : 135).
ثم يبرز الى الميدان "الاستعجال" فيُزلّ قدم الهمة ويُقلبها على عقبيها بطفراته خطوات ترتب الاسباب والمسببات. فتشوش مراحل العلل التي وضعها الله سبحانه في سننه الكونية.. فعليكم ان تحتموا منه بالخندق الأمين للآية الكريمة:
(اصبروا وصابروا ورابطوا) (ال عمران : 200).
ثم يتصدى لها "الرأي الشخصي" المستبد والتفكير الانفرادي الذي يبدد اعمال الانسان، رغم انه مكلّف بفطرته رعاية حقوقه ضمن رعايته لحقوق الآخرين.. فعليكم ان تصدوه بالحقيقة الشامخة في الحديث الشريف: (خير الناس انفعهم للناس). 2
ثم يخرج الى ساحة المعركة عدوٌ آخر وهو: "التقليد" فيجد الفرصة سانحة لتقليد
_____________________
1 يظهر الظلم عند عدم توزيع العدالة توزيعاً عادلاً. فلا يمكن جرح شعور ألف من الناس لأجل شخص واحد. فالشدة شيء والحمية شيء آخر، اذ لو التزم مغرورٌ معجب بنفسه الحقَّ، يسوق الكثيرين الى الباطل، وربما يرغمهم عليه (بما يستعمل من شدة) - المؤلف.
2 حديث حسن أخرجه القضاعي في مسند الشهاب وابن عساكر في تاريخ دمشق، 2 / 420 / 2 وانظر الصحيحة 426 وصحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 6538 .



صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 434
الكسالى والمتخلفين، وبه يقصم ظهر الهمة.. فعليكم تحدّيه بالحقيقة الشاهقة، تلك هي حكمة الآية الكريمة: (لا يضركم من ضل اذا اهتديتم) (المائدة: 105). كيلا تبلغ يدُ العدو أذيال الهمة.
ثم يلوح العدوّ الغدّار وهو: "التسويف" الناجم من العجز وفقدان الثقة بالنفس، فينشأ منه تأجيل الاعمال الاخروية من اليوم الى الغد، وهكذا حتى يمسك يدّ الهمة ويقعدها عن النهوض.. فعليكم الاقتداء بسر الآية الكريمة:
(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) (ال عمران : 122). على الله لا على غيره. فاجعلوا التوكل عليه سبحانه حصناً للهمة.
ثم يدخل الساحة العدو الملحد وهو: "التدخل في ما هو موكول امره الى الله" فينزل هذا التدخل بضرباته القاسية ولطماته الموجعة على وجه الهمة حتى يُعمي بصرَها... فعليكم ان ترسلوا عليه الحقيقة الدائبة والرابحة دوماً وهي الآية الكريمة:
(فاستقم كما امرت) (هود: 122). كي تقفه عند حدّه، فلا يتجاوزه، اذ ليس للعبد ان يتأمر على سيده.
واخيراً يُقبل "حب الراحة والدعة" الذي هو أم المصائب ووكر الرذائل فيصفّد الهمة الكريمة بسلاسله واغلاله ويقعدها عن طلب معالي الامور ويقذفها في هاوية السفالة والذلة.. فعليكم ان تُخرجوا على ذلك السفاح الساحر، البطل المجاهد في الآية الكريمة:
(وأن ليس للانسان الاّ ما سعى) (النجم: 39).
[حقاً ان لكم في الجهاد وتحمّل المشاق راحة كبرى، وان الذي يملك فطرة حساسة راحتُه في السعي والعمل].


صيقل الإسلام/المناظرات - ص: 435
كان الذين لايعرفونني في اثناء تجوالي ينظرون الى ملابسي ويحسبونني تاجراً، ويسألون:
- أأنت تاجر؟
- نعم، وكيمياوي كذلك!
- كيف؟
- هناك مادتان، امزجهما معاً، فيولدان ترياقاً شافياً، وضياء كهربائياً.
- اين هما؟
- في سوق المدنية والفضيلة، صندوق يمشي على رجلين مكتوب عليه "الانسان" فيه جوهر ساطع أو أسود قاتم وهو القلب.
- وما المادتان.
- الايمان والمحبة والوفاء والحمية.
الجريدة السيارة
ابو لاشئ، ابن الزمان، اخو العجائب، رفيق الغرائب.
بديع الزمان سعيد النورسي
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
(( الإنسان )) في الإسلام .. الوفا لله المواضيع الاسلامية 0 07-17-2013 06:44 AM
الإسلام دين المحبة عبدالقادر حمود مقالات مختارة 2 11-27-2012 01:06 AM
صور من صدر الإسلام معين السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 2 07-19-2009 01:41 PM
أخلاق الإسلام نوح القسم العام 2 07-16-2009 02:40 PM
من أدب الإسلام هيثم السليمان المواضيع الاسلامية 12 04-17-2009 03:33 PM


الساعة الآن 06:38 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir