أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور           
العودة   منتديات البوحسن > الصوتيات والكتب > المكتبة الاسلامية

المكتبة الاسلامية كل ما يختص بكتب التراث الإسلامي الصوفي أو روابط لمواقع المكتبات ذات العلاقة على الشبكة العالمية...

إضافة رد
قديم 03-14-2012
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم المنعم بالإيجاد والإمداد المنزه عن التقييد والإطلاق الذي نور بصائر العارفين بنور معرفته وملأ قلوبهم أنواراً وصلوا بها إلى ميادين مكاشفته وجعل الإقتداء بهم سبباً لنيل الامال والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله المنزل عليه : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } وعلى اله وأصحابه الذين أذن لهم ببث العلم والمعرفة بالله تعالى


الملفات المرفقة
نوع الملف: docx عجائب القلب من الاحياء.docx‏ (103.2 كيلوبايت, المشاهدات 536)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-14-2012
  #2
فراج يعقوب
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
المشاركات: 1,269
معدل تقييم المستوى: 16
فراج يعقوب is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

جزاك الله خيرا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
__________________
اللهم صل على سيدنا محمد صاحب الكوثر صلاة لاتعد ولاتكيف ولاتحصر ننال بها الرضوان الأكبر وجواره يوم المحشر وعلى آله وسلم
فراج يعقوب غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-15-2012
  #3
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

وهو الكتاب الأول من ربع المهلكات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تتحيز دون إدراك جلاله القلوب والخواطر، وتدهش في مبادئ إشراق أنواره الأحداث والنواظر، المطلع على خفيات السرائر، العالم بمكنونات االضمائر، المستغني في تدبير مملكته عن المشاور والموازر، مقلب القلوب وغفار الذنوب، وستار العيوب، ومفترج الكروب.
والصلاة على سيد المرسلين، وجامع شمل الدين، وقاطع دابر الملحدين. وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم كثيراً.
أما بعد: فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، وإنما استعد للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه؛ فالقلب هو العالم بالله. وهو المتقرب إلى الله؛ وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية والصانع للآلة؛ فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً بغير الله، وهو المطالب وهو المخاطب وهو المعاتب وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه؛ وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره؛ وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء ينضح بما فيه، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه. وحيلولته بأن بمنعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته وكيفية تقلبه بين إصبعين مع أصابع الرحمن، وأنه كيف يهوى مرة إلى أسفل السافلين وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين. ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصد لما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيه "نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين وأساس طريق السالكين.
وإذ فرغنا من الشطر الأول من هذا الكتاب من النظر فيما يجري على الجوارح من العبادات والعادات - وهو العلم الظاهر، ووعدنا أن نشرح في الشطر الثاني ما يجري على القلب من الصفات المهلكات والمنجيات - وهو العلم الباطن؛ فلا بد أن نقدم عليه كتابين: كتاباً في شرح عجائب صفات القلب وأخلاقه، وكتاباً في كيفية رياضة القلب وتهذيب أخلاقه. ثم نندفع بعد ذلك في تفصيل المهلكات والمنجيات.
فلنذكر الآن من شرح عجائب القلب بطريق ضرب الأمثال ما يقرب من الأفهام، فإن التصريح بعجائبه وأسراره الداخلة في جملة عالم الملكوت مما يكل عن دركه أكثر الأفهام.
بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل
وما هو المراد بهذه الأسامي
اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل في هذه الأبواب، ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات مختلفة. ونحن نشرح في معنى هذه الأسامي ما يتعلق بغرضنا:
اللفظ الأول: لفظ القلب، وهو يطلق لمعنيين "أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته، إذ يتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية. وهذا القلب موجود للبهائم، بل هو موجود للميت. ونحن إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك؛ فإنه قطعة لحم لا قدر له، وهو من عالم الملك والشهادة إذ تدركه البهائم بحاسة البصر فضلاً عن الآدميين. "والمعنى الثاني هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب. ولها علاقة مع القلب الجسماني، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته؛ فإن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة. أو تعلق المتمكن بالمكان، وشرح ذلك مما نتوقاه لمعنيين: أحدهما أنه متعلق بعلوم المكاشفة، وليس غرضنا من هذا الكتاب إلا علوم المعاملة والثاني أن تحقيقه يستدعي إفشاء سر الروح وذلك مما لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليس لغيره أن يتكلم فيه، والمقصود أنا إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب أردنا به هذه اللطيفة وغرضنا ذكر أوصافها وأحوالها لا ذكر حقيقتها في ذاتها وعلم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها وأحوالها ولا يفتقر إلى ذكر حقيقتها.
اللفظ الثاني: الروح، وهو أيضاً يطلق فيما يتعلق بجنس غرضنا لمعنيين: أحدهما جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت؛ فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به، والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان، والروح مثالها السراج، وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه، والأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى: وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب، وليس شرحه من غرضنا، إذ المتعلق به غرض الأطباء الذين يعالجون الأبدان؛ فأما غرض أطباء الدين المعالجين للقلب حتى ينساق إلى جوار رب العالمين، فليس يتعلق بشرح هذه الروح أصلاً. المعنى الثاني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، وهو الذي شرحناه في أحد معاني القلب، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله "قل الروح من أمر ربي وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته.
اللفظ الثالث: النفس، وهو أيضاً بين معان، ويتعلق بغرضنا منه معنيان: "أحدهما" أنه يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان على ما سيأتي شرحه، وهذا الاستعمال هو الغالب على أهل التوصف؛ لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون: لا بد من مجاهدة النفس وكسرها، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" . "المعنى الثاني" هي اللطيفة التي ذكرناها التي هي الإنسان بالحقيقة، وهي نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها؛ فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة. قال الله تعالى في مثلها "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى؛ فإنها مبعدة عن الله، وهي من حزب الشيطان. وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه. قال الله تعالى "ولا أقسم بالنفس اللوامة" وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء. قال الله تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام أو امرأة العزيز "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" وقد يجوز أن يقال: المراد بالأمارة بالسوء: هي النفس بالمعنى الأول، فإذن النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم، وبالمعنى الثاني محمودة لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات.
اللفظ الرابع: العقل، وهو أيضاً مشترك لمعان مختلفة ذكرناها في كتاب العلم، والمتعلق بغرضنا من جملتها معنيان: "أحدهما" أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب. "والثاني" أنه قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة. ونحن نعلم أن كل عالم فله في نفسه وجود هو أصل قائم بنفسه، والعلم صفة حالة فيه، والصفة غير الموصوف، والعقل قد يطلق ويراد به صفة العالم، وقد يطلق ويراد به محل الإدراك أعني المدرك، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:" أول ما خلق الله العقل": فإن العلم عرض لا يتصور أن يكون أول مخلوق، بل لا بد وأن يكون المحل مخلوقاً قبله أو معه، ولأنه لا يمكن الخطاب معه. وفي الخبر: أنه قال له تعالى أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر.. الحديث.
فإذن قد انكشف لك أن معاني هذه الأسماء موجودة: وهي القلب الجسماني، والروح الجسماني، والنفس الشهوانية، والعلوم. فهذه أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة، ومعنى خامس: وهي اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان. والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها، فالمعاني خمسة، والألفاظ أربعة، وكل لفظ أطلق لمعنيين، وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها؛ فتراهم يتكلمون في الخواطر ويقولون: هذا خاطر العقل، وهذا خاطر الروح، وهذا خاطر القلب، وهذا خاطر النفس، وليس يدري الناظر اختلاف معاني هذه الأسماء، ولأجل كشف الغطاء عن ذلك قدمنا شرح هذه الأسامي، وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب، فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر، لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة، فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ولكنها تتعلق به بواسطة القلب، فتعلقها الأول بالقلب وكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها، ولذلك شبه سهل التستري القلب بالعرش، والصدر بالكرسي فقال: القلب هو العرش والصدر هو الكرسي، ولا يظن به أنه يرى أنه عرش الله وكرسيه فإنه ذلك محال، بل أراد به أنه مملكة الإنسان والمجرى الأول لتدبيره وتصرفه، فهمابالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى، ولا يستقيم هذا التشبيه أيضاً إلا من بعض الوجوه، وشرح ذلك أيضاً لا يليق بغرضنا فلنجاوزه.
بيان جنود القلب
قال الله تعالى "وما يعلم جنود ربك إلا هو" فلله سبحانه في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم جنود مجندة لا يعرف حقيقتها وتفصيل عددها إلا هو. ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب، فهو الذي يتعلق بغرضنا. وله جندان: جند يرى بالأبصار، وجند لا يرى إلا بالبصائر، وهو في حكم الملك، والجنود في حكم الخدم والأعوان، فهذا معنى الجند: فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، فإن جميعها خادمة للقلب ومسخرة له، فهو المتصرف فيها والمردد لها، وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء. وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة لله تعالى، فإنهم مجبولون على الطاعة لا يستطيعون له خلافاً، بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإنما يفترقان في شيء: وهو أن الملائكة عليهم السلام عالمة بطاعتها وامتثالها، والأجفان تطيع القلب في الانفتاح والإنطباق على سبيل التسخير ولا خبر لها من نفسها ومن طاعتها للقلب، وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره الذي لأجله خلق، وهو السفر إلى الله سبحانه وقطع المنازل إلى لقائه، فلأجله خلقت القلوب. قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وإنما مركبه البدن وزاده العلم. وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح، وليس يمكن العبد أن يصل إلى الله سبحانه ما لم يسكن البدن ولم يجاوز الدنيا، فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى، فالدنيا مزرعة الآخرة، وهي منزل من منازل الهدى، وإنما سميت دنيا: لأنها أدنى المنزلتين، فاضطر إلى أن يتزود من هذا العالم، فالبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم، فافتقر إلى تعهد البدن وحفظه، وإنما يحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره، وأن يدفع عنه ما ينافيه من أسباب الهلاك، فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن: وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء، وظاهر، وهو اليد والرجل اللذين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها، ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق: وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها. وتفصيل وجه الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة. وقد أشرنا إلى طرف يسير منها في كتاب الشكر فليقتنع به.
فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف: صنف باعث ومستحث: إما إلى جلب النافع الموافق كالشهوة، وإما إلى دفع الضار المنافي كالغضب، وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة. والثاني: هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد، ويعبر عن هذا الثاني بالقدرة: وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار. والثالث: هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس: وهو قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك، ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود، فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع، وقوة البصر إنما هي بالعين، وكذا سائر القوى، ولسنا نتكلم في الجنود الظاهرة أعني الأعضاء فإنها من عالم الملك والشهادة، وإنما نتكلم الآن فيما أيدت به من جنود لم تروها. وهذا الصنف الثالث وهو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما قد أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس: أعني السمع والبصر والشم والذوق واللمس وإلى ما سكن منازل باطنة: وهي تجاويف الدماغ، وهي أيضاً خمسة، فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظة فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ، ولولا خلق الله قوة الحفظ والفكر والذكر والتخيل لكان الدماغ يخلوا عنه كما تخلو اليد والرجل عنه؛ فتلك القوى أيضاً جنود باطنة وأماكنها أيضاً باطنه، فهذه هي أقسام جنود القلب، وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء بضرب الأمثلة يطول. ومقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء، ولكنا نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم.
بيان أمثلة القلب مع جنوده الباطنة
اعلم أن جندي الغضب والشهوة قد ينقادان للقلب انقياداً تاماً، فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه وتحسن مرافقتهما في السفر الذي هو بصدده، وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه، وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد، وللقلب جند آخر: وهو العلم والحكمة والتفكر، كما سيأتي شرحه، وحقه أن يستعين بهذا الجند فإنه حزب الله تعالى على الجندين الآخرين، فإنهما قد يلتحقان بحزب الشيطان. فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب والشهوة هلك يقيناً وخسر خسراناً مبيناً، وذلك حالة أكثر الخلق، فإن عقولهم صارت مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل لقضاء الشهوة، وكان ينبغي أن تكون الشهوة مسخرة لعقولهم فيما يفتقر العقل إليه، ونحن نقرب إلى فهمك بثلاثة أمثلة:
المثال الأول: أن نقول: مثل نفس الإنسان في بدنه أعني بالنفس اللطيفة المذكورة كمثل ملك في مدينته ومملكته فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل. والشهوة له كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة، والغضب والحمية له كصاحب الشرطة. والعبد الجالب للميرة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة، كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره مستشيراً له ومعرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث، مستدلاً بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه، أدبه صاحب شرطته وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره، حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبراً لا أميراً مدبراً، استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه؛ فكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها، ومن عدل عن هذه الطريقة كان كمن قال الله تعالى فيه "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم" وقال تعالى "واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" وقال عز وجل فيمن نهى النفس عن الهوى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوي" وسيأتي كيفية مجاهدة هذه الجنود وتسليط بعضها على بعض في كتاب رياضة النفس إن شاء الله تعالى.
المثال الثاني: اعلم أن البدن كالمدينة والعقل - أعني المدرك - من الإنسان كملك مدبر لها، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده وأعوانه، وأعضاؤه كرعيته، والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته، فصار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن هو جاهد عدوه وهزمه وقهره على ما يحب حمد أثره إذا عاد إلى الحضرة كما قال الله تعالى "والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة" وإن ضيع ثغره وأعمل رعيته وذم أثره فانتقم منه عند الله تعالى فيقال له يوم القيامة: يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم تأو الضالة ولم تجبر الكسير اليوم أنتقم منك كما ورد في الخبر. وإلى هذه المجاهدة الإشارة بقوله له صلى الله عليه وسلم "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
المثال الثالث: مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقاً وفرسه مروضاً وكلبه مؤدباً معلماً كان جديراً بالنجاح، ومتى كان هو في نفسه أخرق وكان الفرس جموحاً والكلب عقوراً فلا فرسه ينبعث تحته منقاداً ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعاً فهو خليق بأن يعطب فضلاً عن أن ينال ما طلب، وإنما خرق الفارس مثل جهل الإنسان وقلة حكمته وكلال بصيرته، وجماح الفرس مثل غلبة الشهوة خصوصاً شهوة البطن والفرج، وعقر الكلب مثل غلبة الغضب واستيلائه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه.
بيان خاصية قلب الإنسان
اعلم أن جملة ما ذكرناه قد أنعم الله به على سائر الحيوانات سوى الآدمي؛ إذ للحيوان الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة أيضاً، حتى إن الشاة ترى الذئب بعينها نتعلم عداوته بقلبها فتهرب منه فلذلك هو الإدراك الباطن.
فلنذكر ما يختص به قلب الإنسان، ولأجله عظم شرفه واستأهل القرب من الله تعالى. وهو راجع إلى علم وإرادة:
أما العلم فهو العلم بالأمور الدنيوية والأخروية والحقائق العقلية فإن هذه أمور وراء المحسوسات ولا يشاركه فيها الحيوانات، بل العلوم الكلية الضرورية من خواص العقل إذ يحكم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يتصور أن يكون في مكانين في حالة واحدة، وهذا حكم منه على كل شخص. ومعلوم أنهذ لم يدرك بالحس إلا بعض الأشخاص فحكمه على جميع الأشخاص زائد على ما أدركه الحس. وإذا فهمت هذا في العلم الظاهر الضروري فهو في سائر النظريات أظهر.
وأما الإرادة فإنه إذا أدرك بالعقل عاقبة الأمر وطريق الصلاح فيه انبعث من ذاته شوق إلى جهة المصلحة وإلى تعاطي أسبابها والإرادة لها، وذلك غير إرادة الشهوة وإرادة الحيوانات بل يكون على ضد الشهوة. فإن الشهوة تنفر عن الفصد والحجامة، والعقل يريدها ويطلبها ويبذل المال فيها. والشهوة تميل إلى لذائذ الأطعمة في حين المرض والعاقل يجد في نفسه زاجراً عنها، وليس ذلك زاجر الشهوة. ولو خلق الله العقل المعرف بعواقب الأمور ولم يخلق هذا الباعث المحرك للأعضاء على مقتضى حكم العقل لكان حكم العقل ضائعاً على التحقيق.
فإذن قلب الإنسان اختص بعلم وإرادة ينفك عنها سائر الحيوان بل ينفك عنها الصبي في أول الفطرة وإنما يحدث ذلك فيه بعد البلوغ. وأما الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة فإنها موجودة في حق الصبي.
ثم الصبي في حصول هذه العلوم فيه له درجتان؛ إحداهما: أن يشتمل قلبه على سائر العلوم الضرورية الأولية؛ كالعلم باستحالة المستحيلات وجواز الجائزات الظاهرة فتكون العلوم النظرية فيها غير حاصلة إلا أنها صارت ممكنة قريبة الإمكان والحصول، ويكون حاله بالإضافة إلى العلوم كحال الكاتب الذي لا يعرف من الكتابة إلا الدواة والقلم والحروف المفردة دون المركبة فإنه قد قارب الكتابة ولم يبلغها بعد.
الثانية: أن تتحصل له العلوم المكتسبة بالتجارب والفكر فتكون كالمخزونة عنده، فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشراً للكتابة بقدرته عليها. وهذه هي غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى يتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها؛ إذ تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة، ولبعضهم بتعلم واكتساب، وقد يكون سريع الحصول وقد يكون بطيء الحصول. وفي هذا المقام تتباين منازل العلماء والحكماء والأنبياء والأولياء، فدرجات الترقي فيه غير محصورة إذ معلومات الله سبحانه لا نهاية لها. وأقصى الرتب رتبة النبي الذي تنكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف، بكشف إلهي في أسرع وقت، وبهذه السعادة يقرب العبد العبد من الله تعالى قرباً بالمعنى والحقيقة والصفة لا بالمكان والمسافة ومراقى هذه الدرجة هي منازل السائرين إلى الله تعالى ولا حصر لتلك المنازل، وإنما يعرف كل سالك منزله الذي بلغه في سلوكه فيعرفه ويعرف ما خلفه من المنزل.
فأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته علماً ولكن قد يصدق به إيماناً بالغيب، كما أنا نؤمن بالنبوة والنبي ونصدق بوجوده ولكن لا يعرف حقيقة النبوة إلا النبي، وكما لا يعرف الجنين حال الطفل، ولا الطفل حال المميز وما يفتح له من العلوم الضرورية، ولا المميز حال العاقل وما اكتسبه من العلوم النظرية فكذلك لا يعرف العاقل ما افتتح الله على أوليائه وأنبيائه من مزايا لطفه ورحمته "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" وهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود والكرم من الله سبحانه وتعالى غير مضنون بها على أحد ولكن إنما تظهر في القلوب المتعرضة لنفحات رحمة الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم "إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها والتعرض لها بتطهير القلب وتزكيته من الخبث والكدورة الحاصلة من الأخلاق المذمومة - كما سيأتي بيانه - وإلى هذا الجود الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له"? وبقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه عز وجل "لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً وبقوله تعالى "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" كل ذلك إشارة إلى أن أنوار العلوم لم تحتجب عن القلوب لبخل ومنع من جهة المنعم - تعالى عن البخل والمنع علواً كبيراً - ولكن حجبت لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب فإن القلوب كالأواني فما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء فالقلوب المشغولة لغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله تعالى. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء ومن هذه الجملة يتبين أن خاصية الإنسان العلم والحكمة.
وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله فيه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال. فالبدن مركب للنفس، والنفس محل للعلم، والعلم هو مقصود الإنسان وخاصيته التي لأجله خلق. وكما أن الفرس يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة فيكون الفرس مخلوقاً لأجل تلك الخاصية، فإن تعطلت منه نزل إلى حضيض رتبة الحمار. وكذلك الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور ويفارقها في أمور هي خاصيته وتلك الخاصية من صفات الملائكة المقربين من رب العالمين. والإنسان على رتبة بين البهائم والملائكة، فإن الإنسان من حيث يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط، وإنما خاصيته معرفة حقائق الأشياء.
من استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة؛ فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكاً وربانياً كما أخبر الله تعالى عن صواحبات يوسف عليه السلام بقوله "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم".
ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم فيصير إما غمراً كثور، وإما شرهاً كخنزير. وإما ضرياً ككلب أو سنور، أو حقوداً كجمل. أو متكبراً كنمر، أو ذاروغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد.
وما من عضو من الأعضاء ولا حاسة من الحواس إلا ويمكن الاستعانة به على طريق الوصول إلى الله تعالى - كما سيأتي بيان طرف منه في كتاب الشكر- فمن استعمله فيه فقد فاز، ومن عدل عنه فقد خسر وخاب. وجملة السعادة في ذلك أن يجعل لقاء الله تعالى مقصده، والدار الآخرة مستقره، والدنيا منزله، والبدن مركبه، والأعضاء خدمه. فيستقر هو - أعني المدرك من الإنسان - في القلب الذي هو وسط مملكته كالملك، ويجري القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ مجرى صاحب بريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عنده، ويجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجرى خازنه، ويجري اللسان مجرى ترجمانه، ويجري الأعضاء المتحركة مجرى كتابه، ويجري الحواس الخمس مجرى جواسيسه فيوكل كل واحد منها بأخبار صقع من الأصقاع؛ فيوكل العين بعالم الألوان، والسمع بعالم الأصوات، والشم بعالم الروائح. وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم ويؤدونها إلى القوة الخيالية التي هي كصاحب البريد، ويسلمها صاحب البريد إلى الخازن وهي الحافظة، ويعرضها الخازن على الملك فيقتبس الملك منها ما يحتاج إليه في تدبير مملكته وإتمام سفره الذي هو بصدده، وقمع عدوه الذي هو مبتلي به، ودفع قواطع الطريق عليه فإذا فعل ذلك كان موفقاً سعيداً شاكراً نعمة الله وإذا عطل هذه الجملة أو استعملها لكن في مراعاة أعدائه وهي الشهوة والغضب وسائر الحظوظ العاجلة، أو في عمارة طريقه دون منزله إذ الدنيا طريقه التي عليها عبوره، ووطنه ومستقره الآخرة؛ كان مخذولاً شقياً كافراً بنعمة الله تعالى مضيعاً لجنود الله تعالى ناصراً لأعداء الله مخذلاً لحزب الله فيستحق المقت والإبعاد في المنقلب والمعاد. نعوذ بالله من ذلك.
وإلى المثال الذي ضربناه أشار كعب الأحبار حيث قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت؛ الإنسان عيناه هاد وأذناه قمع ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريد والقلب منه ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده، فقلت: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. وقال علي رضي الله عنه في تمثيل القلوب: إن لله تعالى في أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها: ثم فسره فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان، وهو إشارة إلى قوله تعالى "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقوله تعالى "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" قال أبي بن كعب رضي الله عنه: معناه مثل نور المؤمن وقلبه وقوله تعالى "أو كظلمات في بحر لجى" مثل قلب المنافق. وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى "في لوح محفوظ" وهو قلب المؤمن. وقال سهل: مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي فهذه أمثلة القلب.
بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته
اعلم أن الإنسان قد اصطحب في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي: الصفات السبعية والبهيمية والشيطانية والربانية. فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم. ومن حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشره والحرص والشبق وغيره. ومن حيث أنه في نفسه أمر رباني كما قال الله تعالى "قل الروح من أمر ربي" فإنه يدعى لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء، والاستعلاء، والتخصص، والاستبداد بالأمور كلها، والتفرد بالرياسة، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها؛ بل يدعي لنفسه العلم، والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، ويحزن إذا نسب إلى الجهل، والإحاطة بجميع الحقائق والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك. ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز مع مشاركته لها في الغضب والشهوة حصلت فيه شيطانية فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.
وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة - أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية - وكل ذلك مجموع في القلب. فكأن المجموع في إهاب الإنسان: خنزير وكلب وشيطان وحكيم.
فالخنزير هو الشهوة فإنه لم يكن الخنزير مذموماً للونه وشكله وصورته بل لجشعهوكلبه وحرصه.
والكلب هو الغضب فإن السبع الضاري والكلب العقور ليس كلباً وسبعاً باعتبار الصورة اللون والشكل، بل روح معنى السبعية الضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه وحرص الخنزير وشبقه، فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر والسبع بالغضب إلى الظلم والإيذاء.
والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويحسن لهما ما هما مجبولان عليه.
والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق الواضح، وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه إذ بالغضب يكسر سورة الشهوة ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه ويجعل الكلب مقهوراً تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويرضى الكلب فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير.
وهذا حال أكثر الناس مهما كان أكثر همتهم البطن والفرج ومنافسة الأعداء، والعجب منه أن ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة، ولو كشف الغطاء عنه وكوشف بحقيقة حاله ومثل له حقيقة حاله كما يمثل للمكاشفين إما في النوم أو اليقظة لرأى نفسه ماثلاً بين يدي خنزير ساجداً له مرة وراكعاً أخرى ومنتظراً لإشارته وأمره. فمهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهواته انبعث على الفور في خدمته وإحضار شهوته، أو رأى نفسه مثلاً بين يدي كلب عقور عابداً له مطيعاً سامعاً لما يقتضيه ويلتمسه مدققاً بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته وهو بذلك ساع في مسرة شيطانه فإنه الذي يهيج الخنزير ويثير الكلب ويبعثهما على استخدامه فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعبادتهما فليراقب كل عبد حركاته وسكناته وسكوته ونطقه وقيامه وقعوده، ولينظر بعين البصيرة فلا يرى إن أنصف نفسه إلا ساعياً طول النهار في عبادة هؤلاء، وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكاً والرب مربوباً والسيد عبداً والقاهر مقهوراً، إذ العقل هو المستحق للسيادة والقهر والاستيلاء وقد سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طابعاً وريناً مهلكاً للقلب ومميتاً له، أما طاعة خنزير الشهوة فتصدر منها صفة الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والحقد والشماتة وغيرها. وأما طاعة كلب الغضب فتنتشر منها إلى القلب صفة التهور والبذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعجب والاستهزاء والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها. وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفة المكر والخداع والحيلة والدهاء والجراءة والتلبيس والتضريب والغش والخب والخنا وأمثالها. ولو عكس الأمر وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية: لاستقر في القلب من الصفات الربانية العلم والحكمة واليقين والإحاطة بحقائق الأشياء ومعرفة الأمور على ما هي عليه، والاستيلاء على الكل بقوة العلم والبصيرة، واستحقاق التقدم على الخلق لكمال العلم وجلاله، ولاستغنى عن عبادة الشهوة والغضب، ولانتشر إليه من ضبط خنزير الشهوة ورده إلى حد الاعتدال صفات شريفة مثل العفة والقناعة والهدو والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرف والمساعدة وأمثالها، ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفة الشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار وغيرها.
فالقلب في حكم مرآة قد اكتنفته هذه الأمور المؤثرة فيه، وهذه الآثار على التواصل واصلة إلى القلب. أما الآثار المحمودة التي ذكرناها فإنها تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقاً ونوراً وضياءً حتى يتلألأ فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب في الدين، وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه وبقوله صلى الله عليه وسلم "من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوباً عن الله تعالى، وهو الطبع وهو الرين قال تعالى "كلا بل وإن على قلوبهم ما كانوا يكسبون" وقال عز وجل "أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون" فربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى "واتقوا الله واسمعوا واتقوا الله ويعلمكم الله".
ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق صلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويصير مقصور الهم عليها. فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك أولئك "يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور" وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة.
قال ميمون بن مهران: إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكته سوداء فإذا هو نزع وتاب صقل، وإن عاد زيد فيها حتى يعلوا قلبه فهو الران وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر وقلب الكافر أسود منكوس فطاعة الله سبحانه بمخالفة الشهوات مصقلة للقلب، ومعاصيه مسودات له فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه، ومن اتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ومن أتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ولكن ينقص نوره كالمرآة التي يتنفس فيها ثم تمسح ويتنفس ثم تمسح، فإنها لا تخلو عن كدورة. وقد قال صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها? وفي رواية: ذهبت به. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى.
بيان مثل القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة
اعلم أن محل العلم هو القلب؛ أعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء، وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات؛ فكما أن للمتلون صورة ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها، كذلك لكل معلوم حقيقة ولتلك الحقيقة صورة ينطبع في مرآة القلب وتتضح فيها، وكما أن المرآة غير وصور الأشخاص غير وحصول مثالها في المرآة غير فهي ثلاثة أمور. فكذلك ههنا ثلاثة أمور القلب، وحقائق الأشياء، وحصول نفس الحقائق في القلب وحضورها فيه.
فالعالم عبارة عن القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء. والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة.
وكما أن القبض مثلاً يستدعي قابضاً كاليد ومقبوضاً كالسيف، ووصولاً بين السيف واليد -بحصول السيف في اليد- ويسمى قبضاً فكذلك وصول مثال المعلوم إلى القلب يسمى علماً، وقد كانت الحقيقة موجودة والقلب موجوداً ولم يكن العالم حاصلاً، لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب، كما أن السيف موجود واليد موجودة ولم يكن اسم القبض والأخذ حاصلاً لعدم وقوع السيف في اليد، نعم القبض عبارة عن حصول السيف بعينه في اليد والمعلوم بعينه لا يحصل في القلب، فمن علم النار لم تحصل عين النار في قلبه، ولكن الحاصل حدها وحقيقتها المطابقة لصورتها، فتمثيله بالمرآة أولى لأن عين الإنسان لا تحصل في المرآة وإنما يحصل مثال مطابق له. وكذلك حصول مثال مطابق لحقيقة المعلوم في القلب يسمى علماً.
وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور أحدها نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل. والثاني لخنثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل. والثالث لكونه معدولاً به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة. والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة. والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذى بها شطر الصورة وجهتها.
فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلى فيها حقيقة الحق في الأمور كلها، وإنما خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة أولها نقصان في ذاته كقلب الصبي فإنه لا ينجلى له المعلومات لنقصانه. والثاني لكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا" أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها إذ غايته أن يتبعه بحسنة يمحوه بها، فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لازداد لا محالة إشراق القلب فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها نوراً. فهذا خسران مبين ونقصان لا حيلة له فليست المرآة التي تتدنس ثم تمسح بالمصقلة كالتي تمسح بالمصقلة لزيادة جلائها من غير دنس سابق? فالإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ولذلك قال الله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال صلى الله عليه وسلم "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم".
الثالث أن يكون معدولاً به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافياً فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب. بل يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكراً فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها. وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعاً عن انكشاف جليه الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي?.
الرابع: الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوباً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد. وهذا أيضاً حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجاباً بينهم وبين درك الحقيقة.
الخامس: الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا من علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى. ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة لم يمكنه ذلك من حمار وبعير وإنسان بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص. فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب، فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم. ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها، بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلاً بالمرآة فإنه إذا رفع المرآة بإزاء وجهه لم يكن قد حاذى بها شطر القفا فلا يظهر فيها القفا، وإن رفعها وراء القفا حاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا، وهذه في مقابلتها بحيث يبصرها ويراعى مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا، ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين، ثم تدرك العين صورة القفا، فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب مما ذكرناه في المرآة يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات. فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور. وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف. وإليه الإشارة بقوله عز وجل "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان" إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال بها صار مطيقاً لحمل أمانة الله تعالى. وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرناها. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" إشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلوب وبين الملكوت.
وإليه الإشارة بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله، يا رسول الله أين الله في الأرض أو في السماء? قال في قلوب عباده المؤمنين، وفي الخبر "قال الله تعالى: لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع" وفي الخبر "أنه قيل يا رسول الله من خير الناس فقال "كل مؤمن مخموم القلب" فقيل: وما مخموم القلب? فقال "هو التقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غدر ولا غل ولا حسد ولذلك قال عمر رضي الله عنه: رأى قلبي ربي. إذ كان قد رفع الحجاب بالتقوى، ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه فيرى جنة عرض بعضها السموات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السموات والأرض لأن السموات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة وهو وإن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف فهو متناه على الجملة، وأما عالم الملكوت وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصائر فلا نهاية له، نعم الذي يلوح للقلب منه مقدار متناه ولكنه في نفسه بالإضافة إلى علم الله لا نهاية له. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة تسمى الحضرة الربوبية لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله، ومملكته وعبيده من أفعاله، فما يتجلى من ذلك للقلب هي الجنة بعينها عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق، ويكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته وبمقدار ما تجلى له من الله وصفاته وأفعاله. وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه "قد أفلح من زكاها" ومراد تزكيته حصول أنوار الإيمان فيه أعني إشراق نور المعرفة وهو المراد بقوله تعالى "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه".
نعم هذا التجلي وهذا الإيمان له ثلاث مراتب المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض. والثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام والثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين.
ونبين لك هذه المراتب بمثال: وهو أن تصديقك بكون زيد مثلاً في الدار له ثلاث درجات.
الأولى: أن يخبرك من جربته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا اتهمته في القول، فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن بخبره بمجرد السماع، وهذا الإيمان بمجرد التقليد، وهو مثل إيمان العوام فإنهم لما بلغوا سن التمييز سمعوا من آبائهم وأمهاتهم وجود الله تعالى وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته وبعثة الرسل وصدقهم وما جاءوا به، وكما سمعوا به قبلوه وثبتوا عليه واطمأنوا إليه، ولم يخطر ببالهم خلاف ما قالوه لهم لحسن ظنهم بآبائهم وأمهاتهم ومعلميهم، وهذا الإيمان سبب النجاة في الآخرة وأهله من أوائل رتب أصحاب اليمين وليسوا من المقربين لأنه ليس فيه كشف وبصيرة وانشراح صدر بنور اليقين، إذ الخطأ ممكن فيما سمع من الآحاد بل من الأعداد فيما يتعلق بالاعتقادات، فقلوب اليهود والنصارى أيضاً مطمئنة بما يسمعونه من آبائهم وأمهاتهم إلا أنهم اعتقدوا ما اعتقدوا خطأ لأنهم ألقي إليهم الخطأ، والمسلمون اعتقدوا الحق لا لاطلاعهم عليه ولكن ألقي إليهم كلمة الحق.
الرتبة الثانية: أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار ولكن من وراء جدار فتستدل به على كونه في الدار فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع، فإنك إذا قيل لك إنه في الدار ثم سمعت صوته ازددت به يقيناً لأن الأصوات تدل على الشكل والصورة عند من يسمع الصوت في حال مشاهدة الصورة، فيحكم قلبه بأن هذا صوت ذلك الشخص؛ وهذا إيمان ممزوج بدليل والخطأ أيضاً ممكن أن يتطرق إليه، إذ الصوت قد يشبه الصوت وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة إلا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع لأنه ليس يجعل للتهمة موضعاً ولا يقدر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضاً.
الرتبة الثالثة: أن تدخل فتنظر إليه بعينك وتشاهده؛ وهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية وهي تشبه معرفة المقربين والصديقين لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين، ويتميزون بمزية بينة يستحيل معها إمكان الخطأ. نعم وهم أيضاً يتفاوتون بمقادير العلوم وبدرجات الكشف.
أما درجات الكشف فمثاله أن يبصر زيداً في الدار عن قرب وفي صحن الدار في وقت إشراق الشمس فيكمل له إدراكه والآخر يدركه في بيت أو من بعد أو في وقت عشية فيتمثل له في صورته ما يستيقن معه أنه هو؛ ولكن لا يتمثل في نفسه الدقائق والخفايا من صورته. ومثل هذا متصور في تفاوت المشاهدة للأمور الإلهية.
وأما مقادير العلوم فهو بأن يرى في الدار زيداً وعمراً وبكراً غير ذلك وآخر لا يرى إلا زيداً فمعرفة ذلك تزيد بكثرة المعلومات لا محالة. فهذا حال القلب بالإضافة إلى العلوم والله تعالى أعلم بالصواب.
بيان حال القلب
بالإضافة إلى أقسام العلوم العقلية والدينية والدنيوية والأخروية
اعلم أن القلب بغريزته مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وإلى شرعية. والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة. والمكتسبة إلى دنيوية وأخروية.
أما العقلية: فنعني بها ما تقضي بها غريزة العقل ولا توجد بالتقليد والسماع؛ وهي تنقسم إلى ضرورية: لا يدري من أين حصلت وكيف حصلت? كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً موجوداً معدوماً معاً؛ فإن هذه علوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا مفطوراً عليها ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل له? أعني أنه لا يدري له سبباً قريباً، وإلا فليس يخفى عليه أن الله هو الذي خلقه وهداه.
وإلى علوم مكتسبة: وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال. وكلا القسمين قد يسمى عقلاً.
قال علي رضي الله عنه: رأيت العقل عقلـين فمطبوع ومسمـوع
ولا ينفع مسـمـوع إذا لم يك مطبـوع
كما لا تنفع الشمـس وضوء العين ممنوع
والأول هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل" والثاني هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه "إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك" إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة. ولكن مثل على رضي الله عنه هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين، فالقلب جار مجرى العين وغريزة العقل فيه جارية مجرى قوة البصر في العين، وقوة الإبصار لطيفة تفقد في العمى وتوجد في البصر وإن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل، والعلم الحاصل منه في القلب جار مجرى قوة إدراك البصر في العين ورؤيته لأعيان الأشياء. وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات. والقلم الذي سطر الله به العلوم على صفحات القلوب يجري مجرى قرص الشمس. وإنما لم يحصل العلم في قلب الصبي قبل التمييز لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نفس العلم. والقلم عبارة عن خلق من خلق الله تعالى جعله سبباً لحصول نفس العلوم في قلوب البشر قال الله تعالى "الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" وقلم الله تعالى لا يشبه قلم خلقه كما لا يشبه وصفه وصف خلقه، فليس قلمه من قصب ولا خشب كما أنه تعالى ليس من جوهر ولا عرض؛ فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف؛ فإن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة، وهي كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر. ولموازنة البصيرة الباطنة للبصر الظاهر سماه الله تعالى باسمه فقال "ما كذب الفؤاد ما رأى" سمى إدراك الفؤاد رؤية وكذلك قوله تعالى "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض" وما أراد به الرؤية الظاهرة فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم عليه السلام حتى يعرض في معرض الامتنان، ولذلك سمي ضد إدراكه عمى فقال تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب في الصدر" وقال تعالى "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً" فهذا بيان العلم العقلي.
أما العلوم الدينية: فهي المأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معانيهما بعد السماع، وبه كمال صفة القلب وسلامته عن الأدواء والأمراض، فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب وإن كان محتاجاً إليها، كما أن العقل غير كاف في استدامة صحة أسباب البدن بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلم من الأطباء، إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل، فلا غنى بالعقل عن السماع ولا غنى بالسماع عن العقل. فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية والشخص المريض يستضر بالغذاء من فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب لا يمكر علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة وهي وظائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم لإصلاح القلوب، فمن لا يداوى قلبه المريض بمعالجات العبادة الشرعية واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء. وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما. فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين. وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات. وإنما مثاله مثال الأعمى الذي دخل دار قوم فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم: ما بال هذه الأواني تركت على الطريق لم لا ترد إلى مواضعها? فقالوا له: تلك الأواني في مواضعها! وإنما أنت لست تهتدي للطريق لعماك فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك على عماك وإنما تحيلها على تقصير غيرك? فهذه نسبة العلوم الدينية إلى العلوم العقلية
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-15-2012
  #4
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية. فالدنيوية: كعلم الطلبوالحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات. والأخروية: كعلم أحوال القلبوآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله -كما فصلناه في كتاب العلم-وهما علمان متنافيان -أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه قصرت بصيرتهعن الآخر على الأكثر- ولذلك ضرب علي رضي الله عنه للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلةفقال: هما ككفتي الميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرتين إذا رضيت إحداهما أسخطتالأخرى.
ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسةوالفلسفة جهالاً في أمور الآخرة. والأكياس في دقائق علوم الآخرة جهالاً في أكثرعلوم الدنيا، لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعاً في الغالب فيكون أحدهما مانعاًمن الكمال في الثاني. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن أكثر أهل الجنة البلهأي البله في أمور الدنيا.
وقال الحسن في بعض مواعظه: لقد أدركنا أقواماً لو رأيتموهم لقلتممجانين ولو أدركوكم لقالوا شياطين. فمهما سمعت أمراً غريباً من أمور الدين جحدهأهل الكياسة في سائر العلوم، فلا يغرنك جحودهم عن قبوله إذ من المحال أن يظفر سالكطريق المشرق بما يوجد في المغرب، فكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة ولذلك قال تعالى"إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" الآيةوقال تعالى "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون" وقالعز وجل "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم منالعلم" فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدنيا والدين لا يكاد يتيسر إلالمن رسخه الله لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدسالمستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها. فأما قلوب سائرالخلق فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا انصرفت عن الآخر وقصرت عن الاستكمال فيها.
بيان الفرق بين الإلهام والتعلم
والفرق بين طريق الصوفية في استكشاف الحق وطريق النظار
اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية - وإنما تحصل في القلب في بعضالأحول - تختلف الحال في حصولها فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لايدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلةالدليل يسمى إلهاماً، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتباراً واستبصاراً. ثم الواقعفي القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما يدري العبد أنه كيف حصلله ومن أين حصل? وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدةالملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاماً ونفثاً في الروع والثاني: يسمى وحياًوتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله - وهو المكتسببطريق الاستدلال - يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجليفيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة - التيسبق ذكرها - فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هومنقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح فيمرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها، والحجاب بين المرآتين تارةيزال باليد وأخرى يزول بهبوب الرياح تحركه. وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتنكشفالحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ، ويكون ذلكتارة عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل. وتمام ارتفاع الحجاب بالموت فيهينكشف الغطاء، وينكشف أيضاً في اليقظة حتى يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى،فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم تارة كالبرق الخاطف، وأخرىعلى التوالي إلى حد ما. ودوامة في غاية الندور فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفسالعلم ولا في محله ولا في سببه ولكن يفارقه من جهة زوال الحجاب، فإن ذلك ليس باختيارالعبد ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم،فإن العلم إنما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة، وإليه الإشارة بقوله تعالى"وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحيبإذنه ما يشاء".
فإذا عرفت هذا فاعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دونالتعليمية. فلذلك لم يحصروا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عنالأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومةوقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هوالمتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولى الله أمر القلبفاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكلوت،وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهيةفليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإدارة الصادقةوالتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة.
فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لابالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغالقلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فمن كان لله كان الله له.وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية وتفريغ القلب منهاوبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن وعن العلم والولاية والجاه بل يصيرقلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه، ثم يخلوا بنفسه في زواية مع الاقتصارعلى الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآنولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد أن لا يخطر ببال شيء سوىالله تعالى، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلاً بلسانه: على الدوام مع حضورالقلب حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثميصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان ويصادف قلبه مواظباً على الذكر ثم يواظبعليه إلى أن يمحى عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمةمجرداً في قلبه حاضراً فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلىهذا الحد واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس، وليس له اختيار في استجلابرحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله فلا يبقى إلاالانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق؛وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغلهحديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرقالخاطف لا يثبت؛ ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفاً؛ وإن ثبتقد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد.ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم. وقد رجعهذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط.
وأما النظار وذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانهوإفضائه إلى هذا المقصد على الندور فإنه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء، ولكناستوعروا هذا الطريق واستبطؤا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه، وزعموا أن محوالعلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر وإن حصل في حال فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواسوخاطر يشوش القلب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قلب المؤمن أشد تقلباًمن القدر في غليانها" وقال عليه أفضل الصلاة والسلام "قلب المؤمن بينإصبعين من أصابع الرحمن وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرضالبدن، وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت بالقلب خيالاتفاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها، فكممن صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ولو كان قد أتقن العلم منقبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال، فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقربإلى الغرض. وزعموا أن ذلك يضاهي ما لو ترك الإنسان تعلم الفقه. وزعم أن النبي صلىالله عليه وسلم لم يتعلم ذلك وصار فقيهاً بالوحي. والإلهام من غير تكرير وتعليقوأنا أيضاً ربما انتهت بي الرياضة والمواظبة إليه ومن ظن ذلك فقد ظلم نفسه وضيععمره، بل هو كمن يترك طريق الكسب والحراثة رجاء العثور على كنز من الكنوز، فإن ذلكممكن ولكنه بعيداً جداً؛ فكذلك هذا. وقالوا: لا بد أولاً من تحصيل ما حصله العلماءوفهم ما قالوه ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف لسائر العلماء فعساهينكشف بعد ذلك بالمجاهدة.
بيان الفرق بين المقامين بمثال محسوس
اعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس، لأن القلب أيضاً خارجعن إدراك الحس وما لبس مدركاً بالحواس تضعف الأفهام عن دركه إلا بمثال محسوس. ونحننقرب ذلك إلى الأفهام الضعيفة بمثالين:
أحدهما: أنه لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض احتمل أن يساق الماءمن فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقربمن مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوموقد يكون أغزر وأكثر. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمسمثال الأنهار. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتباربالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصريعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.
فإن قلت: فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه? فاعلم أن هذامن عجائب أسرار القلب ولا يسمح بذكره في علم المعاملة بل القدر الذي يمكن ذكره أنحقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقربين. فكما أنالمهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة فكذلكفاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجإلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منهصورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورةالسماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها، ولو انعدمت السماء وارض وبقي هو فينفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما، ثم يتأدى منخياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. والحاصلفي القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجودفي نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه. والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة فياللوح المحفوظ.
فكأن للعالم أربع درجات في الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابقعلى وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي -أعني وجود صورته في الخيال - ويبتع وجوده الخيال وجوده العقلي - أعني وجود صورتهفي القلب وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية. والروحانية بعضها أشد روحانيةمن البعض؛ وهذا اللطف من الحكمة الإلهية، إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبعصورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها، ثم يسري من وجودها في الحسوجود إلى الخيال، ثم منه وجود في القلب فإنك أبداً لا تدرك إلا ما هو واصل إليك،فلو لم يجعل للعالم كله مثالاً في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك، فسبحان مندبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار، حتى صارتقلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها.
ولنرجع إلى الغرض المقصود فنقول: القلب قد يتصور أن يحصل فيه حقيقةالعالم وصورته تارة من الحواس وتارة من اللوح المحفوظ، كما أن العين يتصور أن يحصلفيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابل الشمسويحكي صورتها. فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجرإليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس، فيكون ذلك كتفجر الماء من عمقالأرض. ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجاباً له عن مطالعةاللوح المحفوظ كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار منع ذلك من التفجر في الأرض،وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس لا يكون ناظراً إلى نفس الشمس؛فإذن للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة،وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة. وعالم الشهادة والملكأيضاً يحاكي عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة. فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباسمن الحواس فلا يخفى عليك. وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوحالمحفوظ فتعلمه علماً يقيناً بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم علىما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس. وإنما ينفتحذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم "سبقالمفردون" قيل ومن المفردون يا رسول الله? قال "المتنزهون بذكر اللهتعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً" ثم قال في وصفهمإخباراً عن الله تعالى فقال "ثم أقبل بوجهي عليهم أترى من واجهته بوجهي يعلمأحد أي شيء أريد أن أعطيه? ثم قال تعالى: أول ما أعطيهم أن أقذف النور في قلوبهمفيخبرون عني كما أخبر عنهم" ومدخل هذه الأخبار هو الباب الباطن فإذا الفرقبين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا وهو أن علومهم تأتيمن داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يتأتى من أبوابالحواس المفتوحة إلى عالم الملك، وعجائب عالم القلب وتردده بين عالمي الشهادةوالغيب لا يمكن أن يستقصى في علم المعاملة. فهذا مثال يعلمك الفرق بين مدخلالعالمين.
المثال الثاني: يعرفك الفرق بين العملين، أعني عمل العلماء وعملالأولياء: فإن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب، وأولياءالصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط، فقد حكي أن أهلالصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور فاستقر رأيالملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانباً وأهل الروم جانبياًويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ففعل ذلك، فجمع أهل الروم منالأصباغ الغريبة ما لا ينحصر ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهمويصقلونه، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم فرغوا أيضاً فعجب الملك منقولهم وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ? فقيل: وكيف فرغتم من غير صبغ! فقالوا:ما عليكم ارفعوا الحجاب، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية معزيادة إشراق وبريق، إذ قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيدالتقصيل؛ فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيهجلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين، وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقشالعلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم، فكيفما كان الأمر فقلت المؤمن لايموت وعلمه عند الموت لا يمحى وصفاؤه لا يتكدر وإليه أشار الحسن رحمه الله عليهبقوله: التراب لا يأكل محل الإيمان بل يكون وسيلة وقربة إلى الله تعالى.
وأما ما حصله من نفس العلم وما حصله من الصفاء والاستعداد لقبولنفس العلم فلا غنى به عنه ولا سعادة لأحد إلا بالعلم والمعرفة، وبعض السعادات أشرفمن بعض كما أنه لا غنى إلا بالمال. فصاحب الدرهم غني وصاحب الخزائن المترعة غني،وتفاوت درجات السعداء بحسب تفاوت المعرفة والإيمان كما تتفاوت درجات الأغنياء بحسبقلة المال وكثرته، فالمعارف أنوار ولا يسعى المؤمنون إلى لقاء الله تعالى إلا بأنوارهمقال الله تعالى "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" وقد روي في الخبر"أن بعضهم يعطى نوراً مثل الجبل وبعضهم أصغر حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوراًعلى إبهامقدميه فيضيء مرة وينطفئ أخرى فإذا أضاء قدم قدميه فمشى وإذا طفئ قام،ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر طرف العين ومنهم من يمر كالبرقومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كالفرس إذا اشتدفي ميدانه، والذي أعطي نوراً على إبهام قدمه يحبو حبواً على وجهه ويديه ورجليه يجريداً ويعلق أخرى ويصيب جوانبه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص" الحديث فبهذاظهر تفاوت الناس في الإيمان ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين سوى النبيينوالمرسلين لرجح. فهذا أيضاً يضاهي قول القائل: لو وزن نور الشمس بنور السرج كلهالرجح؛ فإنما أحاد العوام نوره مثل نور السراج وبعضهم نوره كنور الشمع، وإيمان الصديقينكنور القمر والنجوم، وإيمان الأنبياء كالشمس. وكما ينكشف في نور الشمس صورة الآفاقمع اتساع أقطارها ولا ينكشف في نور السراج إلا زواية ضيقة من البيت فكذلك انشراحالصرد بالمعارف وانكشاف سعة الملكوت لقلوب العارفين. ولذلك جاء في الخبر "أنهيقال يوم القيامة اخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصف مثقالوربع مثقال وشعيرة وذرة" كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان وأن هذهالمقادير من الإيمان لا تمنع دخول النار، وفي مفهومه أن من إيمانه يزيد على مثقالفإنه لا يدخل النار، إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولاً وأن من في قلبه مثقال ذرة لايستحق الخلود في النار وإن دخلها. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "ليس شيءخيراً من ألف مثله إلا الإنسان المؤمن إشارة إلى تفضيل قلب العارف بالله تعالىالموقن فإنه خير من ألف قلب من العوام. وقد قال تعالى "وأنت الأعلون إن كنتممؤمنين" تفضيلاً للمؤمنين على المسلمين والمراد به المؤمن العارف دون المقلدوقال عز وجل "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"فأراد ههنا بالذين آمنوا الذين صدقوا من غير علم وميزهم عن الذين أوتوا العلم.ويدل ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد وإن لم يكن تصديقه عن بصيرة وكشف.
وفسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى "والذين أوتوا العلمدرجات" فقال يرفع الله العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كل درجتين كمابين السماء والأرض، وقال صلى الله عليه وسلم "أكثر أهل الجنة البله وعليونلذوي الألباب وقال صلى الله عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنىرجل من أصحابي" وفي رواية "كفضل القمر ليلة البدر على سائرالكواكب" فبهذه الشواهد يتضح لك تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت قلوبهمومعارفهم، ولهذا كان يوم القيامة يوم التغابن إذ المحروم من رحمة الله عظيم الغبنوالخسران، والمحروم يرى فوق درجته درجات عظيمة فيكون نظره غليها كنظر الغني الذييملك عشرة دراهم إلى الغني الذي يملك الأرض من المشرق إلى المغرب وكل واحد منهماغني ولكن ما أعظم الفرق بينهما وما أعظم الغبن على من يخسر حظه من ذلك"وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا".
بيان شواهد الشرع على صحة طريق أهل التصوف
في اكتساب المعرفة لا من التعلم ولا من الطريق المعتاد
اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوعفي القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفاً بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قطفينبغي أن يؤمن به، فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جداً، ويشهد لذلك شواهد الشرعوالتجارب والحكايات:
أما الشواهد: فقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهمسبلنا" فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو بطريقالكشف والإلهام. وقال صلى الله عليه وسلم "من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولميوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار وقال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل لهمخرجاً" من الإشكالات والشبه "ويرزقه من حيث لا يحتسب" يعلمه علماًمن غير تعلم ويفطنه من غير تجربة. وقال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إنتتقوا الله يجعل لكم فرقاناً" قيل نوراً يفرق به بين الحق والباطل ويخرج بهمن الشبهات، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من سؤال النور فقال عليهالصلاة والسلام "اللهم أعطني نوراً وزدني نوراً واجعل لي في قلبي نوراً وفيقبري نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً حتى قال في شعري وفي بشري وفي لحمي ودميوعظامي" وسئل صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى "أفمن شرح الله صدرهللإسلام فهو على نور من ربه" ما هذا الشرح? فقال "هو التوسعة إن النورإذا قذف به في القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال علي رضي الله عنه: ما عندنا شيءأسره النبي صلى الله عليه وسلم إلينا إلا أن يؤتى الله تعالى عبداً فهماً في كتابهوليس هذا بالتعلم"? وقيل في تفسير قوله تعالى "يؤتى الحكمة منيشاء" إنه الفهم في:كتاب الله وقال تعالى "ففهمناها سليمان" خص ماانكشف باسم الفهم. وكان أبو الدرداء يقول: المؤمن من ينظر بنور الله من وراء ستررقيق والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم. وقال بعض السلف: ظنالمؤمن كهانة.
وقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنورالله تعالى وإليه يشير قوله تعالى "إن في ذلك لآيات للمتوسمين" وقولهتعالى "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" وروى الحسن عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم أنه قال "العلم علمان فعلم باطن في القلب فذلك هو العلم النافع"وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو? فقال: هو سر من أسرار الله تعالى يقذفهالله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكاً ولا بشراً. وقد قال صلى الله عليهوسلم "إن من أمتي محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم" وقرأ ابن عباسرضي الله عنهما "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" يعنيالصديقين والمحدث هو الملهم، والملهم هو الذي انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخللا من جهة المحسوسات الخارجة.
والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف: وذلك علم من غيرتعلم. وقال الله تعالى "وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوميتقون" خصصها بهم وقال تعالى "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين"وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صارجاهلاً، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء? بلا حفظ ولا درس. وهذا هو العلمالرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى "وعلمنا من لدنا علماً" مع أن كل علممن لدنه ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علماً لدنيا بل اللدني الذيينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج فهذه شواهد النقل ولو جمع كل ما وردفيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر.
وأما مشاهدة ذلك بالتجارب فذلك أيضاً خارج عن الحصر وظهر ذلك علىالصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي اللهعنها عند موته: إنما هما أخواك وأختاك، وكانت زوجته حاملاً فولدت بنتاً فكان قدعرف قبل الولادة أنها بنت. وقال عمر رضي الله عنه في أثناء خطبته: يا سارية الجبلالجبل؛ إذ انكشف له أن العدو قد أشرف عليه فحذره لمعرفته ذلك، ثم بلوغ صوته إليهمن جملة الكرامات العظيمة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلت على عثمان رضيالله عنه وكنت قد لقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزراً وتأملت محاسنها فقالعثمان رضي الله عنه لما دخلت: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه أما علمتأن زنا العينين النظر? لتتوبن أو لأعزرنك فقلت: أوحي بعد النبي? فقال. لا، ولكنبصيرة وبرهان وفراسة صادقة. وعن أبي سعيد الخراز قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيراًعليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كل على الناس، فناداني وقال "واللهيعلم ما في أنفسكم فاحذروه" فاستغفرت الله في سري فناداني وقال "وهوالذي يقبل التوبة عن عباده" ثم غاب عني ولم أره.
وقال زكريا بن داود: دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضلالهاشمي - وهو عليل وكان ذا عيال ولم يعرف له سبب يعيش به - قال: فلما قمت قلت فينفسي من أين يأكل هذا الرجل? قال: فصاح بي يا أبا العباس رد هذه الهمة الدنية فإنلله تعالى ألطافاً خفية. وقال أحمد النقيب: دخلت على الشبلي فقال مفتوناً: يا أحمدفقلت: ما الخبر? قال: كنت جالساً لجرى بخاطري أنك بخيل، فقلت: ما أنا بخيل، فعادمني خاطري وقال: بل أنت بخيل، فقلت: ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقيريلقاني، قال: فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم ومعه خمسون ديناراًفقال" اجعلها في مصالحك، قال: وقمت فأخذتها وخرجت وإذا بفقير مكفوف بين يديمزيد يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير، فقال: أعطها المزين، فقلت: إنجملتها كذا وكذا، قال: أوليس قد قلنا لك إنك بخيل? قال: فناولتها المزين فقالالمزين: قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجراً، قال: فرميتبها في دجلة وقلت: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل. وقال حمزة بن عبد اللهالعلوي: دخلت على أبي الخير النيناني واعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل فيداره طعاماً، فلما خرجت من عنده إذا به قد لحقني وقد حمل طبقاً فيه طعام وقال: يافتى كل فقد خرجت الساعة من اعتقادك، وكان أبو الخير النيناني هذا مشهوراًبالكرامات وقام إبراهيم الرقي: قصدته مسلماً عليه فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأالفاتحة مستوياً فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي! فلما سلم خرجت إلى الطهارة فقصدني سبعفعدت إلى أبي الخير وقلت: قصدني سبع، فخرج وصاح به وقال: ألم أقل لك لا تتعرضلضيفاني? فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال لي: اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتمالأسد، واشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد.
وما حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرجعن الحصر بل ما حكي عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام والسؤال منه، ومن سماع صوتالهاتف، ومن فنون الكرامات خارج عن الحصر والحكاية لا تنفع الجاحدما لم يشاهد ذلكمن نفسه، ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحدأمران أحدهما: عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النومفلا يستحيل أيضاً في اليقظة فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدماشتغالها بالمحسوسات فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه!والثاني: إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل كمااشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جاز لغيره إذ النبيعبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون في الوجودشخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق، وهذا لا يسمى نبياً بل يسمى ولياً،فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن القلب له بابان:باب إلى خارج وهو الحواس، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفثفي الروع والوحي، فإذا أقربهما جميعاً لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرةالأسباب المألوفة، بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيل إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ماذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت. وأما السبب في انكشافالأمر في المنام بالمثال المحوج إلى التعبير وكذلك تمثل الملائكة للأنبياءوالأولياء بصور مختلفة فذلك أيضاً من أسرار عجائب القلب، ولا يليق ذلك إلا بعلمالمكاشفة فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف منها.فقد قال بعض المكاشفين ظهر لي الملك فسألني أملي عليه شيئاً من ذكري الخفي عنمشاهدتي من التوحيد وقال: ما نكتب لك عملاً ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلىالله عز وجل فقلت: ألستما تكتبان الفرائض? قالا: بلى، قلت: فيكفيكما ذلك. وهذهإشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب وإنما يطلعون على الأعمالالظاهرة. وقال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين فالتفتإلى شماله فقال: ما تقول رحمك الله? ثم التفت إلى يمينه فقال: ما تقول رحمك الله?ثم أطرق إلى صدره وقال: ما تقول رحمك الله? ثم أجاب بأغرب جواب سمعته فسألته عنالتفاته فقال: لم يكن عندي في المسألة جواب عتيد، فسألت صاحب الشمال فقال لا أدري!فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال لا أدري، فنظرت إلى قلبي وسألته فحدثني بماأجبتك فإذا هو أعلم منهما. وكأن هذا هو معنى قوله عليه السلام "إن في أمتيمحدثين وإن عمر منهم".
وفي الأثر: إن الله تعالى يقول: أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيتالغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه. وقال أبوسليمان الداراني رحمة الله عليه: القلب بمنزلة القبة المضروبة حولها أبواب مغلقةباب فتح له عمل فيه? فقد ظهر انفتاح باب من أبواب القلب إلى جهة الملكوت والملأالأعلى، وينفتح ذلك الباب بالمجاهدة والورع والإعراض عن شهوات الدنيا. ولذلك كتبعمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم ينجليلهم أمور صادقة. وقال بعض العلماء: يد الله على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بماهيأ الله لهم من الحق. وقال آخر: لو شئت لقلت إن الله تعالى يطلع الخاشعين على بعضسره.
بيان تسلط الشيطان على القلب بالوساوس
ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها
اعلم أن القلب كما ذكرناه مثال قبة مضروبة لها أبواب تنصب إليهالأحوال من كل باب، ومثاله أيضاً مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو هومثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورةولا تخلو عنها، أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه. وإنمامداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال؛ أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأمامن الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان؛ فإنه إذاأدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلاً بسبب كثرةالأكل وبسبب قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر وإن كف عن الإحساس فالخيالاتالحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقلالقلب من حال إلى حال آخر. والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذهالأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر؛ وأعني بالخواطر ما يحصل فيه منالأفكار، والأذكار، وأعني به إدراكاته علوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيلالتذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها. والخواطرهي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوى بالباللا محالة، فمبدأ الأفعال الخواطر، ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم،والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى مايدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة، وإلى ما يدعو إلى ما ينفع في الدارالآخرة. فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمىإلهاماً، والخاطر المذموم أعنى الداعي إلى الشر يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذهالخواطر حادثة، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك علىاختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب.فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سببالسواد غير سبب الاستنارة.
وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلىالخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً واللطيف الذي يتهيأبه القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاًو الذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطانيسمىإغواء وخذلاناً، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة والملك عبارة عنخلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخيروالأمر بالمعروف، وقد خلقه وسخره لذلك والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهوالوعد بالشر والأمر بالفحشاء؛ والتخويف عند الهم بالخير بالفقر. فالوسوسة فيمقابلة الإلهام، والشيطان في مقابلة الملك، والتوفيق في مقابلة الخذلان. وإليهالإشارة بقوله تعالى "ومن كل شيء خلقنا زوجين" فإن الموجودات كلهامتقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالقللأزواج كلها. فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك. وقد قال رسول الله صلى الله عليهوسلم "في القلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلكفليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحقونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم -ثم تلا قوله تعالى"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء" الآية". وقال الحسن إنماهما همان يجولان في القلب هم من الله تعالى وهم من العدو، فرحم الله عبداً وقف عندهمه فما كان من الله تعالى أمضاه وما كان من عدوه جاهده.
ولتجاذب القلب بين هذين المسلطين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" فالله تعالى عن أن يكون لهأصبح مركبة من لحم ودم وعصب منقسمة بالأنامل ولكن روح الإصبع سرعة التقليب والقدرةعلى التحريك والتغيير، فإنك لا تريد إصبعك لشخصه بل لفعله في التقليب والترديد كماأنك تتعاطى الأفعال بأصابعك. والله تعالى يفعل ما يفعل باستسخار الملك والشيطانوهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب، كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجساممثلاص. والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحاًمتساوياً ليس بترجح أحدهما على الآخر، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوىوالإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضبوالشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هومرعى الشيطان ومرتعه، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكةعليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضبوحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى لا جرم لم يخلقلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم"ما منكم من أحد إلا وله شيطان" قالوا وأنت يا رسول الله? قال"وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمر إلا بخبر وإنما كان هذا لأنالشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسطإلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بهالا يأمر إلا بالخير. ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطانمجالاً فوسوس. ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجالهوأقبل الملك وألهم. والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلىأن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن، ويكون اجتياز الثاني اختلاساً. وأكثرالقلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثارالعاجلة وإطراح الآخرة. ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى. ولا يمكن فتحها بعدذلك إلا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالىالذي هو مطرح أثر الملائكة. وقال جابر بن عبيدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زيادما أجد في صدر من الوسوسة فقال: إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص فإنكان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه. يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخلهالشيطان. ولذلك قال الله تعالى "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" فكل مناتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله ولذلك سلط الله عليه الشيطان. وقال تعالى"أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده فهوعبد الهوى لا عبد الله. ولذلك قال عمرو ابن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال "ذلك شيطان يقال له خنزبفإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً" قال: ففعلت ذلك فأذهبهالله عني".
وفي الخبر "إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوابالله منه" ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به،لأنه إذا خطر في القلب ذلك شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل، ولكن كل شيء سوى اللهتعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان، وذكر الله هو الذييؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال. ولا يعالج الشيء إلا بضده وضد جميعوساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة، وهو معنى قولك: أعوذبالله من الشيطان الرجيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وذلك لا يقدرعليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقاتالفلتات على سبيل الخلسة. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف منالشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" وقال مجاهد في معنى قول الله تعالى "منشر الوسواس الخناس" قال: هو منبسط على القلب؛ فإذا ذكر الله تعالى خنسوانقبض، وإذا غفل انبسط على قلبه. فالتطارد بين الله تعالى ووسوسة الشيطانكالتطارد بين النور والظلام وبين الليل والنهار، ولتضادهما قال الله تعالى"استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله" وقال أنس: قال رسول الله صلىالله عليه وسلم "إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم فإن هو ذكر اللهتعالى خنس وإن نسي الله تعالى التقم قلبه" وقال ابن وضاح في حديث ذكره: إذابلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده وقال: بأبى وجه من لايفلح".
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-15-2012
  #5
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم ابن آدم فسلطنة الشيطان أيضاً ساريةفي لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن الشيطانيجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع". وذلك لأن الجوع يكسرالشهوة ومجرى الشيطان الشهوات. ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه قال اللهتعالى إخباراً عن إبليس "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهمومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" وقال صلى الله عليه وسلم "إنالشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتترك دينك ودينآبائك? فعصاه وأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر أتدع أرضك وسمائك? فعصاهوهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتلفتنكح نساؤك ويقسم مالك، فعصاه وجاهد" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"فمن فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" فذكر رسول اللهصلى الله عليه وسلم معنى الوسوسة وهي هذه الخواطر التي تخطر للمجاهد أنه يقتلوتنكح نساؤه وغير ذلك مما يصرفه عن الجهاد وهذه الخواطر معلومة. فإذاً الوسواسمعلوم بالمشاهدة وكل خاطر فله سبب ويفتقر إلى اسم يعرفه فاسم سببه الشيطان ولايتصور أن ينفك عنه آدمي وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته، ولذلك قال عليه السلام"ما من أحد إلا وله شيطان".
فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملكوالشيطان والتوفيق والخذلان فبعد هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان أنه جسم لطيف أوليس بجسم. وإن كان جسماً فكيف يدخل بدن الإنسان ما هو جسم? فهذا الآن غير محتاجإليه في علم المعاملة. بل مثال الباحث عن هذا مثال من دخلت في ثيابه حية وهو محتاجإلى إزالتها ودفع ضررها فاشتغل بالبحث عن لونها وشكلها وطولها وعرضها وذلك عينالجهل فمصادمة الخواطر الباعثة على الشر قد علمت ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة،وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور في المستقبل عدو فقد عرف العدو لا محالة فينبغيأن يشتغل بمجاهدته وقد عرف الله سبحانه عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن بهويحترز عنه فقال تعالى "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبهليكونوا من أصحاب السعير" وقال تعالى "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين" فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسهلا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه. نعم ينبغي أن يسأل عن سلاحه ليدفعه عن نفسهوسلاح الشيطان الهوى والشهوات وذلك كاف للعالمين. فأما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته- نعوذ بالله منه - وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفاتفلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته. نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى مايعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة. وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخيرفلا يشك في كونه إلهاماً، وإلى ما يتردد فيه فلا يدري أنه من لمة الملك أو من لمةالشيطان? فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير، والتمييز في ذلك غامضوأكثر العباد به يهلكون، فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصورالشر بصورة الخير، كما يقول للعالم بطريق الوعظ: أما تنظر إلى الخلق وهم موتى منالجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار? أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم منالمعاطب بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة? فكيفتكفر نعمة الله وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراطالمستقيم? وهو لا يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بطليف الحيل إلى أن يشتغل بوعظالناس، ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقولله: إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولم يهتدوا إلى الحق. ولا يزال يقررذلك عنده وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعززبكثرة الأتباع والعلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلىالهلاك، فيتكلم وهو يظن أن قصده الخير وإنما قصده الجاه والقبول، فيهلك بسبب وهويظن أنه عند الله بمكان وهو من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"إن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم". و "إن الله ليؤيد هذاالدين بالرجل الفاجر ولذلك روي أن إبليس لعنه الله تمثل لعيسى بن مريم صلى اللهعليه وسلم فقال له" قل لا إله إلا الله. فقال: كلمة حق ولا أقولها بقولك. لأنله أيضاً تحت الخير تلبيسات، وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى وبها يهلكالعلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشرولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة.
وسنذكر جملة من مكايد الشيطان في كتاب الغرور في آخر هذا الربع.ولعلنا إن أمهل الزمان صنفنا فيه كتاباً على الخصوص نسميه (تلبيس إبليس) فإنه قدانتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لا سيما في المذاهب والاعتقادات، حتى لم يبقمن الخيرات إلا رسمها، كل ذلك إذعاناً لتلبيسات الشيطان ومكايده.
فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له ليعلم أنه من لمة الملك أولمة الشيطان وأن يمعن النظر فيه بعين البصيرة لا بهوى من الطبع، ولا يطلع عليه إلابنور التقوى والبصيرة وغزارة العلم كما قال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهمطائف من الشيطان تذكروا" أي رجعوا إلى نور العلم "فإذا هم مبصرون"أي ينكشف لهم الإشكال فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسهبمتابعة الهوى فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه وهو لا يشعر. وفي مثلهم قال سبحانهوتعالى "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" قيل هي أعمال ظنوهاحسنات فإذا هي سيئات. وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس ومكايدالشيطان وذلك فرض عين على كل عبد وقد أهمله الخلق واشتغلوا بعلوم تستجر إليهمالوسواس وتسلط عليهم الشيطان وتنسيهم عداوته وطريق الاحتراز عنه. ولا ينجى من كثرةالوسواس إلا سد أبواب الخواطر. وأبوابها الحواس الخمس وأبوابها من داخل الشهواتوعلائق الدنيا. والخلوة في بيت مظلم تسد باب الحواس. والتجرد عن الأهل والمال يقللمداخل الوسواس من الباطن ويبقى مع ذلك مداخل باطنة في التخيلات الجارية في القلبوذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى ثم أنه لا يزال يجاذب القلب وينازعهويلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته، وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذلا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حياً. نعم قد يقوى بحيث لا ينقاد له ويدفع عن نفسهشره بالجهاد، ولكن لا يستغنى قط عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه.فإذا ما دام حياً فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق وهي الشهوة والغضبوالحسد والطمع والشره وغيرها - كما سيأتي شرحها - ومهما كان الباب مفتوحاً والعدوغير غافل لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة.
قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان? فتبسم وقال: لو ناملاسترحنا. فإذن لا خلاص للمؤمن منه. نعم له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته. قال صلىالله عليه وسلم "إن المؤمن ينضى شيطانه كما ينضى أحدكم بعيره في سفره"وقال ابن مسعود شيطان المؤمن مهزول. وقال قيس بن الحجاج: قال لي شيطاني دخلت فيكوأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور، قلت: ولم ذاك? قال: تذيبني بذكر اللهتعالى. فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة، أعنيالأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة، وإنما يتعثرون فيطرقه الغامضة فإنهم لا يهتدون إليها فيحرسونها كما أشرنا إليه في غرور العلماءوالوعاظ والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة وباب الملائكة باب واحد،وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة فالعبد فيها كالمسافر الذي يبقىفي بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطريق إلا بعينبصيرة وطلوع شمس مشرقة. والعين البصيرة ههنا هي القلب المصفى بالتقوى. والشمسالمشرقة هو العلم الغزير المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليهوسلم مما يهدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة وغامضة. قال عبد الله بن مسعودرضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطا وقال "هذا سبيلالله" ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ثم قال "هذه سبل على كل سبيلمنها شيطان يدعو إليه" ثم تلا "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل" لتلك الخطوط فبين صلى الله عليه وسلم كثرة طرقه.
وقد ذكرنا مثالاً للطريق الغامض من طرقه وهو الذي يخدع له العلماءوالعباد المالكين لشهواتهم الكافين عن المعاصي الظاهرة، فلنذكر مثالاً لطريقهالواضح الذي لا يخفى إلا أن يضطر الآدمي إلى سلوكه. وذلك كما روي عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال "كان راهب في بني إسرائيل فعمد الشيطان إلى جاريةفخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب، فأتوا بها إليه فأبى أن يقبلهافلم يزالوا به حتى قبلها، فلما كانت عنده ليعالجها أتاه الشيطان فزين له مقاربتهاولم يزل به حتى واقعها فحملت منه، فوسوس إليه وقال: الآن تفتضح يأتيك أهلهافاقتلها فإن سألوك فقل ماتت، فقتلها ودفنها، فأتي الشيطان أهلها فوسوس إليهم وألقىفي قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها، فأتاه أهلها فسألوه عنها فقال: ماتت،فأخذوه ليقتلوه بها فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي خنقتها وأنا الذي ألقيت في قلوبأهلها فأطعني تنج وأخلصك منهم قال: بماذا? قال: اسجد لي سجدتين؛ فسجد له سجدتينفقال له الشيطان: إني بريء منك. فهو الذي قال الله تعالى فيه "كمثل الشيطانإذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" فانظر الآن إلى حيلهواضطراره الراهب إلى هذه الكبائر، وكل ذلك لطاعته له في قبول الجارية للمعالجة وهوأمر هين وربما يظن صاحبه أنه خير وحسنة فيحسن ذلك في قلبه بخفي الهوى فيقدم عليهكالراغب في الخير فيخرج الأمر بعد ذلك عن اختياره ويجره البعض إلى البعض بحيث لايجد محيصاً: فنعوذ بالله من تضييع أوائل الأمور وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليهوسلم "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
بيانتفصيل مداخل الشيطان إلى القلب اعلم أن مثال القلب مثال حصن والشيطان عدو يريد أنيدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسةأبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه،فحماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة وهو فرض عين على كل عبد مكلف، وما لا يتوصل إلىالواجب إلا به فهو أيضاً واجب، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله فصارتمعرفة مداخله واجبة. ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد وهي كثيرة، ولكنا نشير إلىالأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان.
فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة؛ فإن الغضب هو غول العقل وإذاضعفت جند العقل هجم جند الشيطان. ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبيبالكرة. فقد روي أن موسى عليه السلام لقيه إبليس فقال له: يا موسى أنت الذي اصطفاكالله برسالته وكلمك وأنا خلق من خلق الله أذنبت وأريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أنيتوب علي، فقال موسى: نعم، فلما صعد موسى الجبل وكلم ربه عز وجل وأراد النزول قالله ربه: أد الأمانة، فقال موسى: يا رب عبدك إبليس يريد أن تتوب عليه، فأوحى اللهتعالى إلى موسى: يا موسى قد قضيت حاجتك مرة أن يسجد لقبر آدم حتى يتاب عليه، فلقيموسى إبليس فقال له: قد قضيت حاجتك أمرت أن تسجد لقبر آدم حتى يتاب عليك، فغضبواستكبر وقال: لم أسجد له حياً أسجد له ميتاً? ثم قال له: يا موسى إن لك علي حقاًبما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن: اذكرني حين تغضب فإن روحي فيقلبك وعيني في عينك وأجري منك مجرى الدم؛ اذكرني إذا غضبت فإنه إذا غضب الإنساننفخت في أنفه فما يدري ما يصنع، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقىالزحف فأذكره زوجته وولده وأهله حتى يولى، وإياك أن تجلس إلى امرأة ليست بذات محرمفإني رسولها إليك ورسولك إليها فلا أزل حتى أفتنك بها وأفتنها بك. فقد أشار بهذاإلى الشهوة والغضب والحرص فإن الفرار من الزحف حرص على الدنيا، وامتناعه من السجودلآدم ميتاً هو الحسد وهو أعظم مداخله وقد ذكر أن بعض الأولياء قال لإبليس: أرنيكيف تغلب ابن آدم? فقال: آخذه عند الغضب وعند الهوى، فقد حكي أن إبليس ظهر لراهبفقال له الراهب: أي أخلاق بني آدم أعون لك? قال: الحدة فإن العبد إذا كان حديداًقلبناه كما يقلب الصبيان الكرة: وقيل: إن الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذارضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه?
ومن أبوابه العظيمة الحسد والحرص فمهما كان العبد حريصاً على كلشيء أعماه حرصه وأصمه إذ قال صلى الله عليه وسلم "حبك للشي يعمي ويصم ونورالبصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان فإذا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجدالشيطان فرصة فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته وإن كان منكراً وفاحشاً. فقدروي أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمرهالله تعالى، فرأى في السفينة شيخاً لم يعرفه فقال له نوح: ما أدخلك? فقال: دخلتلأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك، فقال له نوح: أخرج منها يا عدوالله فإنك لعين، فقال له إبليس: خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثكباثنتين، فأوحى الله تعالى إلى نوح: أنه لا حاجة لك بالثلاث فليحدثك بالاثنتين،فقال له نوح: ما الاثنتان? فقال: هما اللتان لا تكذباني هما اللتان لا تخلفانيبهما أهلك الناس؛ الحرص والحسد، فبالحسد لعنت وجعلت شيطاناً رجيماً، وأما الحرصفإنه أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة فأصبت حاجتي منه بالحرص.
ومن أبوابه العظيمة: الشبع من الطعام وإن كان حلالاً صافياً؛ فإنالشبع يقوي الشهوات والشهوات أسلحة الشيطان. فقد روي أن إبليس ظهر ليحيى بن زكرياعليهما السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال له: يا إبليس ما هذه المعاليق?قال: هذه الشهوات التي أصبت بها ابن آدم فقال: فهل فيها من شيء? قال: ربما شبعتفثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: فهل غير ذلك? قال: لا" قال لله على أن لاأملأ بطني من الطعام أبداً، فقال له إبليس: والله على أن لا أنصح مسلماً أبداً.ويقال في كثرة الأكل ست خصال مذمومة؛ أولها: أن يذهب خوف الله من قلبه. الثاني: أنيذهب رحمة الخلق من قلبه لأنه يظن أنهم كلهم شباع. والثالث: أنه يثقل عن الطاعة.والرابع: أنه إذا سمع كلام الحكمة لا يجد له رقة، والخامس: أنه إذا تكلم بالموعظةوالحكمة لا يقع في قلوب الناس. والسادس: أن يهيج فيه الأمراض.
ومن أبوابه: حب التزين من الأثاث والثياب والدار، فإن الشيطان إذارأى ذلك غالباً على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الداروتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها ويدعوه إلى التزين بالثياب والدوابويستسخره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية، فإنبعض ذلك يجره إلى البعض فلا يزال يؤديه من شيء إلى شيء إلى أن يساق إليه أجلهفيموت وهو في سبيل الشيطان واتباع الوى ويخشى من ذلك سوء العاقبة بالكفر نعوذبالله منه.
ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس: لأنه إذا غلب الطمع على القلبلم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس حتىالمطموع فيه كأنه معبوده فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه ويدخل كلمدخل للوصول إلى ذلك. وأقل أحواله الثناء عليه بما ليس فيه والمداهنة له بتركالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد روى صفوان بن سليم أن إبليس تمثل لعبد اللهبن حنظلة فقال له: يا ابن حنظلة احفظ عني شيئاً أعلمك به فقال: لا حاجة لي به:قال: انظر فإن كان خيراً أخذت وإن كان شراً رددت، يا ابن حنظلة لا تسأل أحداً غيرالله سؤال رغبة? وانظر كيف تكون إذا غضبت? فإني أملكك إذا غضبت.
ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، وقال صلى اللهعليه وسلم "العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى وقال عز وجل "خلقالإنسان من عجل" وقال تعالى "وكان الإنسان عجولاً" وقال لنبيه صلىالله عليه وسلم "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه" وهذا لأنالأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل،والعجلة تمنع من ذلك، وعند الاستعجال يروج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري.فقد روي أنه لما ولد عيسى بن مريم عليه السلام أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحتالأصنام قد نكست رؤوسها فقال هذا حادث، مكانكم فطار حتى أتي خافقي الأرض فلم يجدشيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد وإذا الملائكة حافين به، فرجع إليهم فقال:إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا حاضرها إلا هذا،فأيسوا من أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلةوالخفة.
ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال منالعروض والدواب والعقار؛ فإن كل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان،فإن من معه قوته فهو فارغ القلب. فلو وجد مائة دينار مثلاً على طريق انبعث من قلبهشهوات تحتاج كل شهوة منها إلى مائة دينار أخرى فلا يكفيه ما وجد بل يحتاج إلىتسعمائة أخرى، وقد كان قيل قبل وجود المائة مستغنياً، فالآن لما وجد مائة ظن أنه صاربها غنياً وقد صار محتاجاً إلى تسعمائة ليشتري داراً يعمرها وليشتري جارية وليشتريأثاثاً ويشتري الثياب الفاخرة، وكل شيء من ذلك يستدعي شيئاً آخر يليق به. وذلك لاآخر له فيقع في هاوية آخرها عمق جهنم فلا آخر لها سواء. قال ثابت البناني لما بعثرسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هوفانطلقوا حتى أعيوا ثم جاءوا وقالوا ما ندري? قال: أنا آتيكم بالخبر فذهب ثم جاءوقال: قد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحابالنبي صلى الله عليه وسلم فينصرفون خائبين ويقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاءنصيب منهم ثم يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك، فقال لهم إبليس: رويداً بهم عسى اللهأن يفتح لهم الدنيا فنصيب منهم حاجتنا. وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام توسديوماً حجراً فمر به إبليس فقال: يا عيسى رغبت في الدنيا? فأخذه عيسى صلى الله عليهوسلم فرمى به من تحت رأسه وقال: هذا لك مع الدنيا وعلى الحقيقة من يملك حجراًيتوسد به عند النوم فقد ملك من الدنيا ما يمكن أن يكون عدة للشيطان عليه. فإنالقائم بالليل مثلاً للصلاة مهما كان بالقرب منه حجر، يمكن أن يتوسده? ولا تتحركرغبته إلى النوم. هذا في حجر فكيف بمن يملك المخاد الميثرة والفرش الوطيئةوالمنتزهات الطيبة فمتى ينشط لعبادة الله تعالى? ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوفالفقر؛ فإن ذلك هو الذي يمنع الإنفاق والتصدق ويدعو إلى الإدخار والكنز والعذابالأليم وهو الموعود للمكاثرين كما نطق به القرآن العزيز. قال خيثمة بن عبد الرحمن:إن الشيطان يقول: ما غلبني ابن غلبة فلن يغلبني على ثلاث؛ أن يأخذ المال من غيرحقه، وإنفاقه في غير حقه، ومنعه من غير حقه. وقال سفيان: ليس للشيطان سلاح مثل خوفالفقر فإذا قبل ذلك منه أخذ في الباطل ومنع من الحق وتكلم بالهوى وظن بربه ظنالسوء.
ومن آفات البخل الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال، والأسواق هيمعشش الشياطين. وقال أبو إمامة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنإبليس لما نزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيماً فاجعل ليبيتاً قال الحمام، قال: اجعل لي مجلساً قال الأسواق ومجامع الطرق، قال: اجعل ليطعاماً قال طعامك ما يذكر اسم الله عليه، قال: اجعل لي شراباً قال كل مسكر، قال:اجعل لي مؤذناً قال المزامير، قال: اجعل لي قرآناً قال الشعر، قال: اجعل لي كتاباًقال الوشم، قال: اجعل لي حديثاً قال الكذب، قال: اجعل لي مصايد قال النساء".
ومن أبوابه العظيمة: التوصل: التعصب للمذاهب والأهواء والحقد علىالخصوم والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار، وذلك مما يهلك العباد والفساقجميعاً فإن الطعن في الناس والاشتغال بذكر نقصهم صفة مجبولة في الطبع من الصفاتالسبعية، فإذا خيل إليه الشيطان أن ذلك هو الحق وكان موافقاً لطبعه غلبت حلاوتهعلى قلبه فاشتغل به بكل همته، وهو بذلك فرحان مسرور يظن أنه يسعى في الدين وهو ساعفي اتباع الشياطين، فترى الواحد منهم يتعصب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو آكلالحرام ومطلق اللسان بالفضول والكذب ومتعاط لأنواع الفساد ولو رآه أبو بكر لكانأول عدو له إذ موالي أبي بكر من أخذ سبيله وسار بسيرته وحفظ ما بين لحييه، وكان منسيرته رضي الله عنه أن يضع حصاة في فمه ليكف لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه فأنىلهذا الفضولي أن يدعي ولاءه وحبه ولا يسير بسيرته? وترى فضولياً آخر يتعصب لعليرضي الله عنه وكان من زهد علي وسيرته أنه لبس في خلافته ثوباً اشتراه بثلاثة دراهموقطع رأس الكمين إلى الرسغ، ونرى الفاسق لابساً الثياب الحرير ومتجملاً بأموالاكتسبها من حرام وهو يتعاطى حب علي رضي الله عنه ويدعيه وهو أول خصمائه يوم القيامة،وليت شعري من أخذ ولداً عزيزاً لإنسان هو قرة عينه وحياة قلبه فأخذ يضربه ويمزقهوينتف شعره ويقطعه بالمقراض وهو مع ذلك يدعي حب أبيه وولاءه فكيف يكون حاله عنده?ومعلوم أن الدين والشرع كانا أحب إلا أبي بكر وعمر وعثمان وعلى سائر الصحابة رضيالله عنهم، من الأهل والولد بل من أنفسهم والمقتحمون لمعاصي الشرع هم الذين يمزقونالشرع ويقطعونه بمقاريض الشهوات ويتوددون به إلى عدو الله إبليس وعدو أوليائه فترىكيف يكون حالهم يوم القيامة عند الصحابة وعند أولياء الله تعالى? لا بل لو كشفالغطاء وعرف هؤلاء ما تحبه الصحابة في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستحيواأن يجروا على اللسان ذكرهم مع قبح أفعالهم? ثم إن الشيطان يخيل إليهم أن من ماتمحباً لأبي بكر وعمر فالنار لا تحوم حوله، ويخيل إلى الآخر أنه إذا مات محباً لعليلم يكن عليه خوف وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة رضي الله عنها وهيبضعة منه اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً وهذا مثال أوردناه من جملةالأهواء. وهكذا حكم المتعصبين للشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من الأئمةفكل من ادعى مذهب إمام وهو ليس يسير بسيرته فذلك الإمام هو خصمه يوم القيامة إذ يقولله: كان مذهبي العمل دون الحديث باللسان، وكان الحديث باللسان لأجل العمل لا لأجلالهذيان؛ فما بالك خالفتني في العمل والسيرة التي هي مذهبي ومسلكي الذي سلكتهوذهبت فيه إلى الله تعالى ثم ادعيت مذهبي كاذباً? وهذا مدخل عظيم من مداخل الشيطانقد أهلك به أكثر العالم، وقد سلمت المدارس لأقوام قل من الله خوفهم وضعفت في الدينبصيرتهم وقويت في الدنيا رغبتهم واشتد على الاستتباع حرصهم ولم يتمكنوا منالاستتباع وإقامة الجاه إلا بالتعصب، فحبسوا ذلك في صدورهم ولم ينبهوهم على مكايدالشيطان فيه، بل نابوا عن الشيطان في تنفيذ مكيدته فاستمر الناس عليه ونسوا أماتدينهم فقد هلكوا وأهلكوا فالله تعالى يتوب علينا وعليهم، وقال الحسن: بلغنا أنإبليس قال: سولت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المعاصي فقصموا ظهري بالاستغفارفسولت لهم ذنوباً لا يستغفرون الله تعالى منها وهي الأهواء. وقد صدق الملعون فإنهملا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي فكيف يستغفرون منها?.
ومن عظيم حيل الشيطان أن يشغل الإنسان عن نفسه بالاختلافات الواقعةبين الناس في المذاهب والخصومات قال عبد الله بن مسعود: جلس قوم يذكرون الله تعالىفأتاهم الشيطان ليقيمهم عن مجلسهم ويفرق بينهم فلم يستطع، فأتى رفقة أخرى يتحدثونبحديث الدنيا فأفسد بينهم فقاموا يقتتلون - وليس إياهم يريد- فقام الذين يذكرونالله تعالى فاشتغلوا بهم يفصلون بينهم فتفرقوا عن مجسلهم، وذلك مراد الشيطان منهم.
ومن أبوابه حمل العوام الذين لم يمارسوا العلم ولم يتبحروا فيه علىالتفكير في ذات الله تعالى وصفاته، وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يشككهم فيأصل الدين، أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات يتعالى الله عنها يصير أحدهم بهاكافراً أو مبتدعاً وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره، يظن ذلك هو المعرفةوالبصيرة وأنه انكشف له ذلك بذكائه وزيادة عقله فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداًفي عقل نفسه وأثبت الناس عقلاً أشدهم اتهاماً لنفسه وأكثرهم سؤالاً من العلماء.قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطانيأتي أحدكم فيقول من خلقك? فيقول الله تبارك وتعالى فيقول فمن خلق الله? فإذا وجدأحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه والنبي صلى الله عليه وسلم لميأمر بالبحث في علاج هذا الوسواس فإن هذا وسواس يجده عوام الناس دون العلماء وإنماحق العوام أن يؤمنوا ويسلموا ويشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم ويتركوا العلم للعلماءفالعامي لو يزني ويسرق كان خيراً له من أن يتكلم في العلم فإنه من تكلم في اللهوفي دينه من غير إتقان العالم وقع في الكفر من حيث لا يدري، كمن يركب لجة البحروهو لا يعرف السباحة ومكايد الشيطان فيما يتعلق بالعقائد، والمذاهب لا تحصر وإنماأردنا بما أرودناه المثال.
ومن أبوابه سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى "يا أيها الذينآمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" فمن يحكم بشر على غيره بالظنبعثه الشيطان على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك أو يقصر في القيام بحقوقه أويتوانى في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيراً منه. وكل ذلك منالمهلكات ولأجل ذلك منع الشرع من التعرض للتهم فقال صلى الله عليه وسلم"اتقوا مواضع التهم" حتى احترز هو صلى الله عليه وسلم من ذلك. روي عنعلي بن حسين أن صفية بنت حي بن أخطب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كانمعتكفاً في المسجد قالت: فأتيته فتحدثت عنده فلما أمسيت انصرفت فقام يمشي معي فمربه رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا فناداهما وقال "إنها صفية بنت حي"فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيراً، فقال "إن الشيطان يجري من ابن آدممجرى الدم من الجسد وإني خشيت أن يدخل عليكما فانظر كيف أشفق صلى الله عليه وسلمعلى دينهما فحرسهما? وكيف أشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهمة حتى لايتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله? فيقول: مثل لا يظن به إلا الخيرإعجابا منه بنفسه. فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعينواحدة، بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم ولذلك قال الشاعر: وعين الرضا عن كلعيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار فإن الأشرار لا يظنونبالناس كلهم إلا الشر. فمهما رأيت إنساناً يسيء الظن بالناس طالباً للعيوب فاعلمأنه خبيث الباطن وأن ذلك خبثه يترشح منه، وإنما رأى غيره من حيث هو فإن المؤمنيطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق. فهذهبعض مداخل الشيطان إلى القلب ولو أردت استقصاء جميعها لم أقدر عليه وفي هذا القدرما ينبه على غيره فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان ومدخل من مداخله.
فإن قلت: فما العلاج في دفع الشيطان وهل يكفي في ذلك ذكر اللهتعالى وقول الإنسان لا حول ولا قوة إلا بالله فاعلم أن علاج القلب في ذلك سد هذهالمداخل بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة وذلك مما يطول ذكره. وغرضنا في هذاالربع من الكتاب بيان علاج الصفات المهلكات وتحتاج كل صفة إلى كتاب منفرد على ماسيأتي شرحه - نعم إذا قطعت من القلب أصول هذه الصفات كان للشيطان بالقلب اجتيازاتوخطرات ولم يكن له استقرار ويمنعه من الاجتياز ذكر الله تعالى لأن حقيقة الذكر لاتتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة، وإلافيكون الذكر حديث نفس لا سلطان له على القلب فلا يدفع سلطان الشيطان. ولذلك قالالله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هممبصرون" خصص بذلك المتقي فمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك فإن لم يكن بينيديك خبز أو لحم فإنه ينزجر بأن تقول له: اخسأ، فمجرد الصوت يدفعه. فإن كان بينيديك لحم وهو جائع فإنه يهجم على اللحم ولا يندفع بمجرد الكلام، فالقلب الخالي عنقوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد الذكر، فأما الشهوة إذا غلبت على القلب دفعت حقيقةالذكر إلى حواشي القلب فلم يتمكن من سويدائه فيستقر الشيطان في سويداء القلب. وأماقلوب المتقين الخالية من الهوى والصفات المذمومة فإنه يطرقها الشيطان لا للشهواتبل لخلوها بالغفلة عن الذكر، فإذا عاد إلى الذكر خنس الشيطان ودليل ذلك قوله تعالى"فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" وسائر الأخبار والآيات الواردة فيالذكر.
قال أبو هريرة: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر فإذا شيطانالكافر دهين سمين كاس وشيطان المؤمن مهزول أشعث أغبر عار، فقال شيطان الكافرلشيطان المؤمن: مالك مهزول? قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى الله فأظل جائعاً وإذاشرب سمى الله فأظل عطشاناً، وإذا لبس سمى الله فأظل عريانا، وإذا ادهن سمى اللهفأظل شعثاً، فقال: لكني مع رجل لا يفعل شيئاً من ذلك فأنا أشاركه في طعامه وشرابهولباسه. وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: اللهم إنك سلطت عليناعدواً بصيراً بعيوننا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم اللهم فآيسه منا كما آيستهمن رحمتك وقنطه منا كما قنطته من عفوك وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبينرحمتك إنك على كل شيء قدير. قال: فتمثل له إبليس يوماً في طريق المسجد فقال له: ياابن واسع هل تعرفني? قال: ومن أنت? قال: أنا إبليس، فقال: وما تريد? قال: أريد أنلا تعلم أحد هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك، قال: والله لا أمنعها ممن أراد فاصنع ماشئت. وعن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: كان شيطان يأتي النبي صلى الله عليه وسلمبيده شعلة من نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ ويتعوذ فلا يذهب، فأتاه جبرائيلعليه السلام فقال له: قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر منشر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن فتن الليلوالنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. فقال ذلك فطفئتشعلته وخر على وجهه وقال الحسن. نبئت أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى اللهعليه وسلم فقال: إن عفريتاً من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيوقال صلى الله عليه وسلم "أتاني الشيطان فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقهفوالذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد ماء لسانه على يدي ولولا دعوة أخيسليمان عليه السلام لأصبح طريحا في المسجد" وقال صلى الله عليه وسلم "ماسلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير الذي سلكه عمر وهذا لأن القلوب كانت مطهرة عنمرعى الشيطان وقوته وهي الشهوات فمهما طمعت في أن يندفع الشيطان عنك بمجرد الذكركما اندفع عن عمر رضي الله عنه كان محالاً، وكنت كمن يطمع أن يشرب دواء قبلالاحتماء والمعدة مشغولة بغليظ الأطعمة، ويطمع أن ينفعه كما نفع الذي شربه بعدالاحتماء وتخلية المعدة، والذكر الدواء والتقوى احتماء وهي تخلي القلب عن الشهوات.فإذا نزل الذكر قلباً فارغاً عن غير الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزولالدواء في المعدة الخالية عن الأطعمة. قال الله تعالى "إن في ذلك لذكرى لمنكان له قلب" وقال تعالى "كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلىعذاب السعير" ومن ساعد الشيطان بعمله فهو مواليه وإن ذكر الله بلسانه. وإنكنت تقول الحديث قد ورد مطلقاً بأن الذكر يطرد الشيطان ولم تفهم أن أكثر عموماتالشرع مخصوصة بشروط نقلها علماء الدين فانظر إلى نفسك، فليس الخبر كالعيان، وتأملأن منتهى ذكرك وعبادتك الصلاة؛ فراقب قلبك إذا كنت في صلاتك كيف يجاذبه الشيطانإلى الأسواق وحساب العالمين وجواب المعاندين وكيف يمر بك في أودية الدنيا ومهالكهاحتى إنك لا تذكر ما قد نسيته من فضول الدنيا إلا في صلاتك ولا يزدحم الشيطان علىقلبك إلا إذا صليت? فالصلاة محك القلوب فيها يظهر محاسنها ومساويها ؛ فالصلاة لاتقبل من القلوب المشحونة بشهوات الدنيا فلا جرم لا ينطرد عنك الشيطان بل ربما يزيدعليك الوسواس، كما أن الدواء قبل الاحتماء ربما يزيد عليك الضرر، فإن أردت الخلاصمن الشيطان فقدم الاحتماء بالتقوى ثم أردفه بدواء الذكر يفر الشيطان منك كما فر منعمر رضي الله عنه. ولذلك قال وهب بن منبه: اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنتصديقه في السر؛ أي أنت مطيع له. وقال بعضهم: يا عجبا لمن يعصى المحسن بعد معرفتهبإحسانه ويطيع اللعين بعد معرفته بطغيانه. وكما أن الله تعالى قال "ادعونيأستجب لكم" وأنت تدعوه ولا يستجيب لك فكذلك تذكر الله ولا يهرب الشيطان منكلفقد شروط الذكر والدعاء.
قيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا وقد قال تعالى"ادعوني أستجب لكم"? قال: لأن قلوبكم ميتة، قيل وما الذي أماتها? قال:ثمان خصال؛ عرفتم حق الله ولم تقوموا بحقه، وقرأتم القرآن ولم تعملوا بحدوده،وقلتم نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعملوا بسنته، وقلتم نخشى الموت ولمتستعدوا له، وقال تعالى "إن الشيطان لكم عدواً فاتخذوه عدواً" فواطأتموهعلى المعاصي، وقلتم نخاف النار وأرهقتم أبدانكم فيها، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوالها، وإذا قمتم من فرشكم رميتم عيوبكم وراء ظهوركم وافترشتم عيوب الناس أمامكمفأسخطتم ربكم، فكيف يستجيب لكم? فإن قلت فالداعي إلى المعاصي المختلفة شيطان واحدأو شياطين مختلفون? فاعلم أنه لا حاجة لك إلى معرفة ذلك في المعاملة فاشتغل بدفعالعدو ولا تسأل عن صفته. كل البقل من حيث يؤتى ولا تسأل عن المبقلة، ولكن الذييتضح بنور الاستبصار في شواهد الأخبار: أنهم جنود مجندة وأن لكل نوع من المعاصيشيطاناً يخصه ويدعو إليه فأما طريق الاستبصار فذكره يطول ويكفيك القدر الذي ذكرناهوهو أن اختلاف المسببات يدل على اختلاف الأسباب كما ذكرناه في نور النار وسوادالدخان.
وأما الأخبار فقد قال مجاهد: لإبليس خمسة من الأولاد قد جعل كلواحد منهم على شيء من أمره: ثبر والأعور ومبسوط وداسم وزلنبور. فأما ثبر: فهو صاحبالمصائب الذي يأمر بالثبور وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية. وأما الأعور:فإنه صاحب الزنا يأمر به ويزينه. وأما مبسوط: فهو صاحب الكذب. وأما داسم: فإنهيدخل مع الرجل إلى أهله يرميهم بالعيب عنده ويغضبه عليهم وأما زلنبور: فهو صاحبالسوق فبسببه لا يزالون متظلمين. وشيطان الصلاة يسمى خنزب وشيطان الوضوء يسمىالولهان وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة.
وكما أن الشياطين فيهم كثرة فكذلك في الملائكة. وقدذكرنا في كتاب الشكر السر في كثرة الملائكة واختصاص كل واحد منهم بعمل منفرد به،وقد قال أبو أمامة الباهلي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكل بالمؤمنمائة وستون ملكاً يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك؛ للبصر سبعة أملاك يذبون عنهكما يذب الذباب عن قصعة العسل في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كلسهل وجبل كل باسط يده فاغر فاه، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفتهالشياطين
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-15-2012
  #6
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

وقال أيوب بن يونس بن يزيد: بلغنا أنه يولد مع أبناء الإنس منأبناء الجن ثم ينشئون معهم. وروى جابر ابن عبد الله: أن آدم عليه السلام لما هبطإلى الأرض قال يا رب هذا الذي جعلت بيني وبينه عداوة إن لم تعني عليه ولا أقوىعليه، قال: لا يولد لك ولد إلا وكل به ملك، قال: يا رب زدني، قال: أجزي بالسيئةسيئة وبالحسنة عشراً إلى ما أريد، قال: رب زدني، قال: باب التوبة مفتوح ما دام فيالجسد الروح، قال إبليس: يا رب هذا العبد الذي كرمته على إن لا تعني عليه لا أقوىعليه? قال لا يولد له ولد إلا ولد لك ولد: قال: يا رب زدني، قال: تجري منهم مجرىالدم وتتخذون صدورهم بيوتاً، قال: رب زدني، قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك إلى قولهغروراً، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح فيالهواء، وصنف عليهم الثواب والعقاب. وخلق الله تعالى الإنس ثلاثة أصناف: صنفكالبهائم كما قال تعالى "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بهاولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل" وصنف أجسامهم أجسام بنيآدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف في ظل الله تعالى يوم القيامة لا ظل إلاظله"، وقال وهيب بن الورد: بلغنا أن إبليس تمثل ليحيى بن زكريا عليهما السلاموقال: إني أريد أن أنصحك، قال: لا حاجة لي في نصحك ولكن أخبرني عن بني آدم قال: همعندنا ثلاثة أصناف: أما صنف منهم وهم أشد الأصناف علينا نقبل على أحدهم حتى نفتنهونتمكن منه فيفزع إلى الاستغفار والتوبة فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه ثم نعودإليه فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا فنحن منه في عناء. وأماالصنف الآخر فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم نقلبهم كيف شئنا قد كفوناأنفسهم. وأما الصنف الثالث فهم مثلك معصمون لا نقدر منهم على شيء.
فإن قلت: فكيف يتمثل الشيطان لبعض الناس دون البعض، وإذا رأى صورةفهل هي صورته الحقيقية أو هو مثال يمثل له به? فإن كان على صورته الحقيقية فكيفيرى بصورة مختلفة? وكيف يرى في وقت واحد في مكانين وعلى صورتين حتى يراه شخصانبصورتين مختلفتين? فاعلم أن الملك والشيطان لهما صورتان هي حقيقة صورتهما ولا تدركحقيقة صورتهما بالمشاهدة إلا بأنوار النبوة، فما رأى النبي صلى الله عليه وسلمجبرائيل عليه السلام في صورته إلا مرتين وذلك أنه سأله أن يريه نفسه على صورتهفواعده بالبقيع وظهر له بحراء فسد الأفق من المشرق إلى المغرب ورآه مرة أخرى علىصورته ليلة المعراج عند سدرة المنتهى وإنما كان يراه في صورة الآدمي غالباً فكانيراه في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً حسن الوجه. والأكثر أنه يكاشف أهل المكاشفةمن أرباب القلوب بمثال صورته فيتمثل الشيطان له في اليقظة، فيراه بعينه ويسمعكلامه بأذنه فيقوم ذلك مقام حقيقة صورته كما ينكشف في المنام لأكثر الصالحين.وإنما المكاشف في اليقظة هو الذي انتهى إلى رتبة لا يمنعه اشتغال الحواس بالدنياعن المكاشفة التي تكون في المنام فيرى في اليقظة ما يراه غيره في المنام، كما رويعن عمر بن عبد العزيز رجمه الله أن رجلاً سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابنآدم، فرأى في النوم جسد رجل شبه البلور يرى داخله من خارجه ورأى الشيطان في صورةضفدع قاعد على منكبه الأيسر بين منكبه وأذنه، له خرطوم طويل دقيق قد أدخله منمنكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله تعالى خنس. ومثل هذا قد يشاهدبعينه في اليقظة، فقد رآه بعض المكاشفين في صورة كلب جاثم على جيفة يدعو الناسإليها، وكانت الجيفة مثال الدنيا. وهذا يجري مجرى مشاهدة صورته الحقيقية، فإنالقلب لا بد وأن تظهر فيه حقيقة من الوجه الذي يقابل عالم الملكوت وعند ذلك يشرقأثره على وجهه الذي يقابل عالم الملك والشهادة لأن أحدهما متصل بالآخر. وقد بيناأن القلب له وجهان: وجه إلى عالم الغيب وهو مدخل الإلهام والوحي، ووجه إلى عالمالشهادة. فالذي يظهر منه في الوجه الذي يلي عالم الشهادة لا يكون إلا صورة متخيلةلأن عالم الشهادة كله متخيلات، إلا أن الخيال تارة يحصل من النظر إلى ظاهر عالمالشهادة بالحس فيجوز أن لا تكون الصورة على وفق المعنى، حتى يرى شخصاً جميل الصورةوهو خبيث الباطن قبيح السر لأن عالم الشهادة عالم كثير التبليس. أما الصورة التيتحصل في الخيال من إشراق عالم الملكوت على باطن سر القلوب فلا تكون إلا محاكيةللصفة وموافقة لها، لأن الشيطان في صورة كلب وضفدع للصفة وموافقة لها، فلا جرم لايرى المعنى القبيح إلا بصورة قبيحة، فيرى الشيطان في صورة كلب وضفدع وخنزيروغيرها، ويرى الملك في صورة جميلة فتكون تلك الصورة عنوان المعاني ومحاكية لهابالصدق، ولذلك يدل القرد والخنزير في النوم على إنسان خبيث، وتدل الشاة على إنسانسليم الصدر وهكذا جميع أبواب الرؤيا والتعبير. وهذه أسرار عجيبة وهي من أسرارعجائب القلب ولا يليق ذكرها بعلم المعاملة. وإنما المقصود أن تصدق بأن الشيطانينكشف لأرباب القلوب وكذلك الملك، تارة بطريق التمثيل والمحاكاة كما يكون ذلك فيالنوم، وتارة بطريق الحقيقة. والأكثر هو التمثيل بصورة محاكية للمعنى - هو مثالالمعنى لا عين المعنى - إلا أنه يشاهد بالعين مشاهدة محققة وينفرد بمشاهدتهالمكاشف دون من حوله كالنائم.
بيان ما يؤاخذ به العبد من وساوس القلوب
وهمها وخواطرها وقصودها وما يعفى عنه ولا يؤاخذ به
اعلم أن هذا أمر غامض، وقد وردت فيه آيات وأخبار متعارضة يلتبسطريق الجمع بينها إلا على سماسرة العلماء بالشرع. فقد روي عن النبي صلى الله عليهوآله وسلم أنه قال "عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل بهوقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن الله تعالىيقول للحفظة: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها شيئة وإذا همبحسنة لم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً وقد خرجه البخاري ومسلمفي الصحيحين وهو دليل على العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة. وفي لفظ آخر "منهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له إلى سبعمائة ضعفومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت" وفي لفظ آخر،"وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها" وكل ذلك يدل علىالعفو فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه "إن تبدوا ما في أنفسكم أوتخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وقوله تعالى "ولاتقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً" فدلعلى أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه وقوله تعالى "ولا تكتمواالشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" وقوله تعالى "لا يؤاخذكم الله باللغوفي أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" والحق عندنا في هذه المسألة لايوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهرالعمل على الجوارح.
فنقول. أول ما يرد على القلب الخاطر، كما لو خطر له مثلاً صورةامرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها. والثاني هيجان الرغبة إلىالنظر وهو حركة الشهوة في الطبع وهذا يتولد من الخاطر الأول ونسميه ميل الطبعويسمى الأول حديث النفس. والثالث حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أنينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف، فإنه قديمنعه حياء أو خوف من الالتفات وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حالحكم من جهة العقل، ويسمى هذا اعتقاداً وهو يتبع الخاطر والميل. الرابع تصميم العزمعلى الالتفات وجزم النية فيه وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصداً، وهذا الهم قديكون له مبدأ ضعيف ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفستأكد هذا الهم وصار إرادة مجزومة فإذا انجزمت الإرادة فربما يندم بعد الجزم فيتركالعمل وربما يغفل بعارض فلا يعمل به ولا يلتفت إليه وربما يعوقه عائق فيتعذر عليهالعمل.
فههنا أربع أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة: الخاطر وهو حديثالنفس، ثم الميل، ثم الاعتقاد، ثم الهم.
فنقول: أما الخاطر فلا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار وكذلكالميل وهيجان الشهوة لأنهما لا يدخلان أيضاً تحت الاختيار، وهما المرادان بقولهصلى الله عليه وسلم "عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها" فحديث النفس عبارةعن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل، فأما الهم والعزم فلايسمى حديث النفس، بل حديث النفس كما روى عثمان بن مظعون حيث قال للنبي صلى اللهعليه وسلم: يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلق خولة، قال "مهلاً إن من سنتيالنكاح" قال: نفسي تحدثني أن أجب نفسي، قال: "مهلاً خصاء أمتي دءوبالصيام" قال: نفسي تحدثني أن أترهب، قال "مهلاً رهبانية أمتي الجهادوالحج" قال: نفسي تحدثني أن أترك اللحم، قال "مهلاً فإني أحبه ولو أصبتهلأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديثالنفس، ولذلك شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن معه عزم وهم بالفعل.
وأما الثالث: وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذاتردد بين أن يكون اضطراراً أو اختياراً، والأحوال تختلف فيه فالاختياري منه يؤاخذبه والا ضطراري لا يؤاخذ به.
وأما الرابع وهو الهم بالفعل: فإنه مؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعلنظر فإن كان قد تركه خوفاً من الله تعالى وندما على همه كتبت له حسنة لأن همه سيئةوامتناعه ومجاهدته نفسه حسنة، والهم على وفق الطبع مما يدل على تمام الغفلة عن اللهتعالى، والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة فجده في مخالفةالطبع هو العمل لله تعالى والعمل لله تعالى أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقةالطبع فكتب له حسنة لأنه رجح جده في الامتناع وهمه به على همه بالفعل، وإن تعوقالفعل بعائق أو تركه بعذر لا خوفاً من الله تعالى كتبت عليه سيئة، فإن همه فعل منالقلب اختياري.
والدليل على هذا التفصيل ما روي في الصحيح مفصلاً في لفظ الحديثقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قالت الملائكة عليهم السلام رب ذاك عبدكيريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه، فإن هو عملها فاكتبوها له بمثلها وإنتركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي وحيث قال: فإن لم يعملها: أراد بهتركها لله، فأما إذا عزم على فاحشة فتعذرت عليه بسبب أو غفلة فكيف تكتب له حسنة?وقد قال صلى الله عليه وسلم "إنما يحشر الناس على نياتهم" ونحن نعلم أنمن عزم ليلاً على أن يصبح ليقتل مسلماً أو يزني بامرأة فمات تلك الليلة مات مصراًويحشر على نيته وقد هم بسيئة ولم يعملها.
والدليل القاطع فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال"إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"، فقيل يا رسولالله هذا القاتل فما بال المقتول? قال "لأنه أراد قتل صاحبه" وهذا نص فيأنه صار بمجرد الإرادة من أهل النار مع أنه قتل مظلوماً فكيف يظن أن الله لا يؤاخذبالنية والهم? بل كل هم دخل تحت اختيار العبد فهو مؤاخذ به إلا أنه يكفره بحسنة،ونقض العزم بالندم حسنة فلذلك كتبت له حسنة، فأما فوت المراد بعائق فليس بحسنة.وأما الخواطر وحديث النفس وهيجان الرغبة فكل ذلك لا يدخل تحت اختيار فالمؤاخذة بهتكليف ما لا يطاق ولذلك لما نزل قوله تعالى "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوهيحاسبكم به الله" جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلموقالوا: كلفنا ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ثميحاسبه بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقولون كما قالت اليهود سمعناوعصينا قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا سمعنا وأطعنا" فأنزل الله الفرج بعد سنةبقوله "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" فظهر به أن كل ما لا يدخل تحتالوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به. فهذا هو كشف الغطاء عن هذا الالتباس.وكل من يظن أن ما يجري على القلب يسمى حديث النفس ولم يفرق بين هذه الأقسامالثلاثة فلا بد وأن يغلط وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلب من الكبر والعجب والرياءوالنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلب? بل السمع والبصر والفؤاد كل أولئككان عنه مسئولا? أي ما يدخل تحت الاختيار. فلو وقع البصر بغير اختيار على غير ذيمحرم لم يؤاخذ به فإن أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذاً به لأنه مختار فكذا خواطرالقلب تجري هذا المجرى بل القلب أولى بمؤاخذته لأنه الأصل. قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم "التقوى ههنا وأشار إلى القلب" وقال الله تعالى "لن ينالالله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وقال صلى الله عليه وسلم"الإثم حواز القلوب وقال "البر ما اطمأن إليه القلب وإن أفتوكوأفتوك" حتى إنا نقول إذا حكم القلب المفتى بإيجاب شيء وكان مخطئاً فيه صارمثاباً عليه بل من قد ظن أنه تطهر فعليه أن يصلي. فإن صلى ثم تذكر أنه لم يتوضأكان له ثواب بفعله. فإن تذكر ثم تركه كان معاقباً عليه. ومن وجد على فراشه امرأةفظن أنها زوجته لم يعص بوطئها وإن كانت أجنبية. فإن ظن أنها أجنبية ثم وطئها عصىبوطئها وإن كانت زوجته. وكل ذلك نظر إلى القلب دون الجوارح.
بيان أن الوسواس هل يتصور أن ينقطع بالكلية
عند الذكر أم لا?
اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب الناظرين في صفاتها وعجائبهااختلفوا في هذه المسألة على خمس فرق: فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجللأنه عليه السلام قال "فإذا ذكر الله خنس والخنس هو السكوت فكأنه يسكت.
وقالت فرقة: لا ينعدم أصله ولكن يجري في القلب ولا يكون له أثر لأنالقلب إذا صار مستوعباً بالذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة كالمشغول بهمه فإنهقد يتكلم ولا يفهم وإن كان الصوت يمر على سمعه.
وقالت فرقة: لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضاً ولكن تسقط غلبتهافكأنه يوسوس من بعد وعلى ضعف.
وقالت فرقة: ينعدم عند الذكر في لحظة وينعدم الذكر في لحظه،ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربها أنها متساوقة وهي كالكرة التي عليها نقطمتفرقة فإنك إذا أدرتها بسرعة تواصلها بالحركة، واستدل هؤلاء بأن الخنس قد وردونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له إلا هذا.
وقالت فرقة: الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقاًلا ينقطع، وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة فكذلك القلب قد يكونمجرى لشيئين فقد قال صلى الله عليه وسلم "ما من عبد إلا وله أربعة أعين:عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه وإلى هذاذهب المحاسبي. والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة ولكن كلها قاصرة عن الإحاطةبأصناف الوسواس، وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف واحد من الوسواس فأخبر عنه.
والوسواس أصناف: الأول: أن يكون من جهة التلبيس بالحق، فإن الشيطانقد يلبس بالحق فيقول للإنسان تترك التنعم باللذات فإن العمر طويل والصبر عنالشهوات طول العمر ألمه عظيم، فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى وعظيمثوابه وعقابه وقال لنفسه: الصبر عن الشهوات شديد ولكن الصبر على النار أشد منه،ولا بد من أحدهما فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنسالشيطان وهرب، إذا لا يستطيع أن يقول له النار أيسر من الصبر على المعاصي ولايمكنه أن يقول المعصية لا تفضي إلى النار، فإن إيمانه بكتاب الله عز وجل يدفعه عنذلك فينقطع وسواسه. وكذلك يوسوس إليه بالعجب بعمله فيقول: أي عبد يعرف الله كماتعرفه ويعبده كما تعبده? فما أعظم مكانك عند الله تعالى! فيتذكر العبد حينئذ أن معرفتهوقلبه وأعضاءه التي بها عمله وعلمه كل ذلك من خلق الله تعالى فمن أين يعجب به?فيخنس الشيطان إذ لا يمكنه أن يقول ليس هذا من الله فإن المعرفة والإيمان يدفعه.فهذا نوع من الوسواس ينقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان والمعرفة.
الصنف الثاني: أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة وهيجانها، وهذا ينقسمإلى ما يعلم العبد يقيناً أنه معصية وإلى ما يظنه بغالب الظن. فإن علمه يقيناً خنسالشيطان عن تهييج يؤثر في تحريك الشهوة ولم بخنس عن التهييج وإن كان مظنوناً،فربما يبقى مؤثراً بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه فتكون الوسوسة موجودة ولكنهامدفوعة غير غالبة.
الصنف الثالث: أن تكون وسوسة بمجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغالبةوالتفكر في غير الصلاة مثلاً فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع ساعة ويعود،ويندفع ويعود، فيتعاقب الذكر والوسوسة وبتصور أن يتساوقا جميعاً حتى يكون الفهم مشتملاًعلى فهم معنى القراءة وعلى تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب. وبعيد جداً أنيندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر، ولكنه ليس محالاً إذا قال عليه السلام"من صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من أمر الدنيا غفر له ما تقدم منذنبه فلولا أنه متصور لما ذكره، إلا أنه لا يتصور ذلك إلا في قلب استولى عليه الحبحتى صار كالمستهتر، فإنا قد نرى المستوعب القلب بعدو تأذى به قد يتفكر بمقدارركعتين وركعات في مجادلة عدوه بحيث لا يخطر بباله غير حديث عدوه، وكذلك المستغرقفي الحب قد يتفكر في محادثة محبوبه بقلبه ويغوص في فكره بحيث لا يخطر بباله غيرحديث محبوبه، ولو كلمه غيره لم يسمع ولو اجتاز بين يد أحد لكان كأن لا يراه. وإذاتصور هذا في خوف من عدو وعند الحرص على مال وجاه فكيف لا يتصور من خوف النار الحرصعلى الجنة ولكن ذلك عزيز لضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وإذا تأملت جملةهذه الأقسام وأصناف الوسواس علمت أن لكل مذهب من المذاهب وجهاً في محل مخصوص.
وبالجملة فالخلاص من الشيطان في لحظة أو ساعة غير بعيد ولكن الخلاصمنه عمراً طويلاً بعيداً جداً، ومحال في الوجود ولو تخلص أحد من وساوس الشيطانبالخواطر وتهييج الرغبة لتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي: أنه نظر إلىعلم ثوبه في الصلاة فلما سلم رمى بذلك الثوب وقال "شغلني عن الصلاة"وقال "اذهبوا به إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته وكان في يده خاتم من ذهبفنظر إليه وهو على المنبر ثم رمى به قال "نظرة إليه ونظرة إليكم وكان ذلكلوسوسة الشيطان بتحريك لذة النظر إلى خاتم الذهب وعلم الثوب - وكان ذلك قبل تحريمالذهب فلذلك لبسه ثم رمى به - فلا تنقطع وسوسة عروض الدنيا ونقدها إلا بالرميوالمفارقة، فما دام يملك شيئاً وراء حاجته ولو ديناراً واحداً لا يدعه الشيطان فيصلاته من الوسوسة في الفكر في ديناره، وأنه كيف يحفظه? وفيماذا ينفقه? وكيف يخفيهحتى لا يعلم به أحد وكيف يظهره حتى يتباهى به? إلى غير ذلك من الوساوس. فمن أنشبمخالبه في الدنيا وطمع في أن يتخلص من الشيطان كان كمن انغمس في العسل وظن أنالذباب لا يقع عليه فهو محال. فالدنيا باب عظيم لوسوسة الشيطان. وليس له باب واحدبل أبواب كثيرة. قال حكيم من الحكماء: الشيطان يأتي ابن آدم من قبل المعاصي، فإنامتنع أتاه من وجه النصيحة حتى يلقيه في بدعة، فإن أبى أمره بالتحرج والشدة حتىيحرم ما ليس بحرام، فإن أبى شككه في وضوئه وصلاته حتى يخرجه عن العلم، فإن أبى خففعليه أعمال البر حتى يراه الناس صابراً عفيفاً فتميل قلوبهم إليه فيعجب بنفسه وبهيهلكه، وعند ذلك يشتد إلحاحه فإنها آخر درجة ويعلم أنه لو جاوزها أفلت منه إلىالجنة.
بيان سرعة تقلب القلب وانقسام القلوب
في التغير والثبات
اعلم أن القلب كما ذكرناه تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليهالآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها، فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب،فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتتغير صفته. فإن نزل بهالشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبهشيطان آخر إلى غيره. وإن جذبه مالك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكونمتنازعاً بين ملكين، وتارة بين شيطانين، وتارة بين ملك وشيطان - ولا يكون قط مهملاً- وإليه الإشارة بقوله تعالى "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" ولاطلاع رسولالله صلى الله عليه وسلم على عجيب صنع الله تعالى في عجائب القلب وتقلبه كان يحلفبه فيقول "لا ومقلب القلوب وكان كثيراً ما يقول "يا مقلب القلوب ثبتقلبي على دينك" قالوا أو تخاف يا رسول الله? قال "وما يؤمنني والقلب بينإصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وفي لفظ آخر "إن شاء أن يقيمه أقامهوإن شاء أن يزيغه أزاغه".
وضرب له صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثلة: فقال "مثل القلب مثلالعصفور يتقلب في كل ساعة" وقال عليه السلام "مثل القلب في تقلبه كالقدرإذا استجمعت غليانا وقال "مثل القلب كمثل ريشة في أرض فلاة تقلبها الرياحظهراً لبطن" وهذه التقلبات وعجائب صنع الله تعالى في تقلبها من حيث لا تهدىإليه المعرفة لا يعرفها إلا المراقبون والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى.
والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما، ثلاثة: قلب عمربالتقوى وزكا بالرياضة وطهر عن خبائث الأخلاق تنقدح فيه خواطر الخير من خزائنالغيب ومداخل الملكوت، فينصرف العقل إلى التفكر فيما خطر له ليعرف دقائق الخير فيهويطلع على أسرار فوائده فينكشف له بنور البصيرة وجهه، فيحكم بأنه لا بد من فعلهفيستحثه عليه ويدعوه إلى العمل به، وينظر الملك إلى القلب فيجده طيباً في جوهرهطاهراً بتقواه مستنيراً بضياء العقل معموراً بأنوار المعرفة فيراه صالحاً لأن يكونله مستقراً ومهبطاً، فعند ذلك يمد بجنود لا ترى ويهديه إلى خيرات أخرى حتى ينجرالخير إلى الخير وكذلك على الدوام، ولا يتناهى إمداده بالترغيب بالخير وتيسيرالأمر عليه. وإليه الإشارة بقوله تعالى "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنىفسنيسره لليسرى" وفي مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتىلا يخفي فيه الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء،فلا يخفى على هذا النور خافية ولا يروج عليه شيء من مكايد الشيطان، بل يقف الشيطانويوحي زخرف القول غروراً فلا يلتفت إليه وهذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصيرعلى القرب معموراً بالمنجيات - التي سنذكرها - من الشكر والصبر والخوف والرجاءوالفقر والزهد والمحبة والرضا والشوق والتوكل والتفكر والمحاسبة وغير ذلك. وهوالقلب الذي أقبل الله عز وجل بوجهه عليه، وهو القلب المطمئن المراد بقوله تعالى"ألا بذكر الله تطمئن القلوب" وبقوله عز وجل "يا أيتها النفسالمطمئنة".
القلب الثاني: القلب المخذول المشحون بالهوى، المدنس بالأخلاقالمذمومة والخبائث، المفتوح فيه أبواب الشياطين، المسدود عنه أبواب الملائكة.ومبدأ الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويهجس فيه فينظر القلب إلى حاكم العقلليستفتي منه ويستكشف وجه الصواب فيه، فيكون العقل قد ألف خدمة الهوى وأنس بهواستمر على استنباط الحيل له وعلى مساعدة الهوى، فتستولي النفس وتساعد عليه فينشرحالصدر بالهوى وتنبسط فيه ظلماته لانحباس جند العقل عن مدافعته. فيقوى سلطانالشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني،ويوحي بذلك زخرفاً من القول غروراً فيضعف سلطان الإيمان بالوعد والوعيد، ويخبو نوراليقين لخوف الآخرة إذ يتصاعد عن الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ جوانبه حتى تنطفئأنواره، فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها فلا يقدر على أن ينظر، وهكذاتفعل غلبة الشهوة بالقلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف والاستبصار، ولو بصرهواعظ وأسمعه ما هو الحق فيه عمى عن الفهم، وصم عن السمع، وهاجت الشهوة فيه، وسطاالشيطان، وتحركت الجوارح على وفق الهوى فظهرت المعصية إلى عالم الشهادة من عالمالغيب بقضاء من الله تعالى وقدره. وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى"أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً. أم تحسب أن أكثرهم يسمعونأو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" وبقوله عز وجل "لقد حقالقول على أكثرهم فهم لا يؤمنون" وبقوله "سواء عليهم أأنذرتهم أم لمتنذرهم لا يؤمنون" ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات كالذي يتورع عنبعض الأشياء ولكنه إذا رأى وجهاً حسناً لم يملك عينه وقلبه وطاش عقله وسقط مساكقلبه، أو كالذي لا يملك نفسه فيها فيه الجاه والرياسة والكبر، ولا يبقى معه مسكةللتثبت عند ظهور أسبابه، أو كالذي لا يملك نفسه عند الغضب مهما استحقر وذكر عيب منعيوبه، أو كالذي لا يملك نفسه عند القدرة على أخذ درهم أو دينار بل يتهالك عليهتهالك الواله المستهتر فينسى فيه المروءة والتقوى، فكل ذلك لتصاعد دخان الهوى إلىالقلب حتى يظلم وتنطفئ منه أنواره فينطفئ نور الحياء والمروءة والإيمان ويسعى فيتحصيل مراد الشيطان.
القلب الثالث: قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر فيلحقهخاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير، فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوىالشهوة وتحسن التمتع والتنعم، فينبعث العقل إلى خاطر الخير ويدفع في وجه الشهوةويقبح فعلها وينسبها إلى الجهل ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر وقلةاكتراثها بالعواقب فتميل النفس إلى نصح العقل فيحمل الشيطان حملة على العقل فيقويداعي الهوى ويقول ما هذا التحرج البارد ولم تمتنع عن هواك فتؤذي نفسك? وهل ترىأحداً من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه? أفتترك لهم ملاذ الدنيا يتمتعون بهاوتحجر على نفسك حتى تبقى محروماً شقياً متعوباً يضحك عليك أهل الزمان? أفتريد أنيزيد منصبك على فلان وفلان قد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يتمنعوا? أما ترى العالمالفلاني ليس يحترز من مثل ذلك ولو كان ذلك شراً لامتنع عنه? فتميل النفس إلىالشيطان وتنقلب إليه؛ فيحمل الملك حملة على الشيطان ويقول هل لك إلا من اتبع لذةالحال ونسى العاقبة? أفتقنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد? أمتستثقل ألم الصبر عن شهوتك ولا تستثقل ألم النار? أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهمواتباعهم هواهم ومساعدتهم الشيطان مع أن عذاب النار لا يخففه عنك معصية غيرك?أرأيت لو كنت في يوم صائف شديد الحر ووقف الناس كلهم في الشمس وكان لك بيت باردأكنت تساعد الناس أو تطلب لنفسك الخلاص? فكيف تخالف الناس خوفاً من حر الشمس ولاتخالفهم خوفاً من حر النار? فعند ذلك تمتثل النفس إلى قول الملك فلا يزال يترددبين الجندين متجاذباً بين الحزبين إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به فإن كانتالصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها غلب الشيطانومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشيطان معرضاً عن حزب الله تعالى وأوليائه،ومساعداً لحزب الشيطان وأعدائه، وجرى على جوارحه بسابق القدر ما هو سبب بعده عنالله تعالى، وإن كان الأغلب على القلب الصفات الملكية لم يصغ القلب إلى إغواءالشيطان وتحريضه إياه على العاجلة وتهوينه أمر الآخرة، بل مال إلى حزب الله تعالىوظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه، فقلب المؤمن بين إصبعين من أصابعالرحمن - أي بين تجاذب هذين الجندين وهو الغالب - أعني التقليب والانتقال من حزبإلى حزب، أما الثبات على الدوام مع حزب الملائكة أو مع حزب الشيطان فنادر منالجانبين وهذه الطاعات والمعاصي تظهر من خزائن الغيب إلى عالم الشهادة بواسطةخزانة القلب فإنه من خزائن الملكوت، وهي أيضاً إذا ظهرت كانت علامات تعرف أربابالقلوب سابق القضاء. فمن خلق للجنة يسرت له أبواب الطاعات ومن خلق للنار يسرت لهأسباب المعاصي وسلط عليه أقران السوء وألقي في قلبه حكم الشيطان، فإنه بأنواعالحكم يغر الحمقى بقوله: إن الله رحيم فلا تبال، وإن الناس كلهم ما يخافون اللهفلا تخالفهم، وإن العمر طويل فاصبر حتى تتوب غداً "يعدهم ويمنيهم وما يعدهمالشيطان إلا غروراً" يعدهم التوبة ويمنيهم المغفرة فيهلكهم بإذن الله تعالىبهذه الحيل وما يجري مجراها، فيوسع قلبه لقبول الغزور ويضيقه عن قبول الحق، وكلذلك بقضاء من الله وقدر "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أنيضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء - إن ينصركم الله فلا غالب لكموإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده" فهو الهادي والمضل يفعل ما يشاءويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. خلق الجنة وخلق لها أهلاً فاستعملهمبالطاعة، وخلق النار وخلق لها أهلا فاستعملهم بالمعاصي. وعرف الخلق علامة أهلالجنة وأهل النار فقال "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" ثمقال تعالى فيما روى عن نبيه صلى الله عليه وسلم "هؤلاء في الجنة ولا أباليوهؤلاء في النار ولا أبالي فتعالى الله الملك الحق لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.
ولنقتصر على هذا القدر اليسير من ذكر عجائب القلب فإن استقصاء لايليق بعلم المعاملة، وإنما ذكرنا منه ما يحتاج إليه لمعرفة أغوار علوم المعاملةوأسرارها لينتفع بها من لا يقنع بالظواهر ولا يجتزئ بالقشر عن اللباب بل يتشوق إلىمعرفة دقائق حقائق الأسباب. وفيما ذكرناه كفاية له ومقنع إن شاء الله تعالى واللهولي التوفيق.
تم كتاب عجائب القلب ولله الحمد والمنة. ويتلوه كتاب رياضة النفسوتهذيب الأخلاق، والحمد لله وحده وصلى الله على كل عبد مصطفى.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 05-23-2012
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: عجائب القلب للغزالي من كتاب احياء علوم الدين

جزاكم الله خير
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مختارات من كتاب إحياء علوم الدين لحجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى عبدالقادر حمود كتب سيدي الشيخ احمد فتح الله جامي حفظه الله 2 09-09-2014 10:53 AM
كتاب أسرار الحج في إحياء علوم الدين للغزالي عبدالقادر حمود المكتبة الاسلامية 27 09-27-2013 03:51 PM
الطريق إلى إحياء علوم الدين والدنيا معا عبدالقادر حمود المواضيع الاسلامية 2 06-11-2013 01:05 PM
احياء علوم الدين علاء الدين المكتبة الاسلامية 4 07-12-2012 03:21 AM
يا عالم بكل علوم _ نور الدين خورشيد Hazem الصوتيات والمرئيات 5 12-22-2009 01:41 AM


الساعة الآن 10:40 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir