أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-02-2011
  #11
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 105
المسألة السادسة
ان ثمرات الكلام هي: المعاني المتولدة في صور متعددة والمتفجرة في طبقات متفاوتة. فكما هو معلوم لدى الكيمياويين: ان الذهب عند استحصاله، يمرر في انابيب معامل متعددة ويرسب ترسبات مختلفة في طبقات متفاوتة ويشكل باشكال متنوعة. وفي الختام يحصّل على قسم من الذهب. كذلك الكلام الذي هوخريطة مختصرة اخذت من صورة المعاني المتفاوتة، فالمفاهيم المتفاوتة تتشكل صورها كالآتي:
انه باهتزاز قسم من احاسيس القلب بتأثيرات خارجية، تتولد الميول. وبتكّون معان هوائية منها وتعلّقها بنظر العقل توجِّه العقل الى نفسها.. ثم بتكاثف قسم من ذلك المعنى البخاري يبقى قسم من الميول والتصورات معلقة.. ثم بتقطر قسم آخر يرغب فيه العقل.. ثم القسم المائع يتحصل منه ويُصلّب، فيضمه العقل ضمن الكلام.. ثم ذلك المتصلب لانه يتجلى ويتمثل برسم خاص به، يُظهره العقل بكلام خاص حسب قامته المخصوصة.
بمعنى ان المتشخص من المعنى يأخذه العقل ضمن صورة خاصة للكلام. ومالم يصلّب يسلّمه ليد الفحوى، ومالم يتحصل يحمله على اشارات الكلام وكيفياته، ومالم يتقطر يحيله الى مستتبعات الكلام، ومالم يتبخر يربطه باهتزازات الاسلوب واطوار المتكلم التي ترافق الكلام.
ومن هذا النبع ينفجر مسمّى (الاسم)، ومعنى (الفعل)، ومدلول (الحرف) ومظروف (النظم)، ومفهوم (الهيئة)، ومرموز (الكيفية)، ومشار (المستتبعات) ومحرك (الاطوار المشايعة للخطاب) ومقصود (الدال بالعبارة) ومدلول (الدال بالاشارة) والمفهوم القياسي (للدال بالفحوى) والمعنى الضروري (للدال بالاقتضاء) وامثالها من المفاهيم كل منها ينعقد في طبقة من طبقات هذه السلسلة.
فان اشتقت فتطلع في وجدانك تشاهد هذه المراتب، وذلك اذا ما ألقى محبوبك شعاع حسنه وبريقه من نافذة العين الى الوجدان؛ فذلك العشق المسمى بالنار الموقدة، يحرق مباشرة الحسيات ويلهبها، فتتهيج الآمال والميول، فتثقب تلك الامال مباشرة سقف ذلك الخيال الذي في الطبقة العليا. ويستغيث فتسعى الى تلك الآمال


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 106
الخيالاتُ الممسكة بيدها محاسن المحبوب او المشبعة بمحاسن غيرها، فتهاجم معاً وتنطلق من تلك الخيالات الى اللسان وتستردف ميل زلال الوصال، وتضع على يمينها آلام الفراق، وتضع في يسارها التعظيم والتأدب والاشتياق، وتضع امامها محاسن المحبوب المقتضي للعطف والترحم، فتنشر تحية ثنائها، وتنظم قلائد مدحها، المتجلية من الكل بوصف الفضائل المستجلب لزلال الوصال، المطفئ للنار الموقدة على الافئدة . فانظر كم من المعاني ترفع رأسها من غير الطبقات التي تعرفها.
فان لم تخف فانظر الى وجدان كل من ابن الفارض وابي الطيب المنبهر اكثر من عيونهما، وتأمل في ترجمان الوجدان في:
غرستُ باللحـظ ورداً فـوق وجـنتها حقٌ لطرفي ان يجني الذي غرسا 1
وايضاً:
فللعين والاحشــــاء اول هل أتى تلا عائدي الآسي وثالث تبت 2
وايضاً:
صـــــدٌّ حَمى ظمأي لـُماكَ لماذا وهواك قلبي صار منه جذاذاً 3
وايضاً:
حشاي على جمر ذكي من الغضا وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع 4
فشاهد واستمع كيف ان عيونهم تتجول في جنة وسعيرُ وجدانهم تُعذِّب.
ولقد بيّن الشعراء خيالات رقيقة جداً بالاشارة الى محاسن المحبوب، وبالرمز الى استغنائه، وبالايماء الى التألم من فراقه، وبالتصريح بالشوق اليه، وبالتلويح بطلب الوصال، وبالنص على الحسن الجالب للعطف.. مع ما يحرك الحسيات من اطوار.
_____________________
1 وفي رواية الديوان: غرست باللحظ ورداً فوق وجنته... ص177 دار صادر - بيروت.
2 اول هل اتى : اراد به سورة من القرآن الكريم اولها (هل أتى ...) تلا: من التلاوة، والقراءة. وثالث تبت: اراد بها ثالث لفظة من سورة (تبت يدا ابي لهب...) وهي: ابو لهب. يريد الشاعر: انه اصبح كأنه لم يكن شيئاً مذكوراً ، وصارت احشاؤه تكنى بأبي لهب، لشدة اشتعالها بنار الوجد (ص 42 من الديوان)
3 الصدّ: الإعراض. حمى : منع. لُماك: سمرةُ شفتيك . وهواك : أي قسماً بهواك. منه: أي من صدك . جذاذاً : قطعاً.
4 وفي رواية الديوان: حشاي على جمر ذكيٍ من الهوى...



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 107
اشارة: كما يلزم في نظام اية دولة كانت، ان يكون اجر الموظف حسب وظيفته وبمقدار خدماته وعلى وفق قابليته واستعداده، كذلك يلزم تقسيم العناية وتوزيع الاهتمام توزيعاً عادلاً، بحيث تأخذ كل معنى من المعاني المتزاحمة في مثل هذه المراتب المتفاوتة نصيبه وحظه بنسبة قربه من مركز الغرض الكلي الذي سيق له الكلام، وبنسبة خدمته للمقصود الاساس. وذلك ليحصل بتلك المعادلة: الانتظام، ومن الانتظام: التناسب، ومن التناسب: حسن الوفاق، ومن حسن الوفاق: حسن المعاشرة، ومن حسن المعاشرة: ميزان التعديل لكمال الكلام.
وبخلاف هذا فان دخول مَن هو خادم وظيفةً وصبي طبعاً في مراتب كبيرة يتكبر فيفسد التناسب ويشوش المعاشرة. اي يلزم اخذ استعداد قيود الكلام بنظر الاعتبار.
نعم! يجب ان يرفع مقام كل شئ بقدر استعداده؛ اذ العين والانف وما شابههما من الاعضاء مهما كان جميلاً فانه يتشوه اذا جاوز الحد ولوكان ذهباً.
تنبيه:
قد يذهب جندى بسيط الى مواضع من العدو لاستكشاف مالا يقدر عليه المشير، او يؤدي تلميذ صغير من العمل ما لايؤديه عالم كبير. اذ الكبير لايلزم ان يكون كبيراً في كل أمر، بل كلٌ كبيرٌ في صنعته.
وكذلك قد يترأس معنى صغير بين تلك المعاني المتزاحمة، فيأخذ قيمة اعلى، لان وظيفته ذات اهمية كما سنبينها. والذي يشير الى تلك المعاني المتزاحمة، والمنار على قيمتها عدم صلاحية صريح الحكم المنصوص ولازمه القريب لسفارة الكلام وسوق الخطاب وارسال اللفظ لاجله. اما لكونه بديهياً معلوماً مشهوداً.. او خفيفاً وضعيفاً لا يُهتم به في الغرض الاساس.. او لفقدان من يتقبله و يستمع اليه.. أو لايوافق حال المتكلم ولايفي بداعي الرغبة في التكلم.. أو لا يمتزج ولا يقبل الامتزاج مع حيثية المخاطب ومنزلته.. أو يبدو غريباً في مقام الكلام وتوابع المستتبعات.. أو ليس له استعداد للحفاظ على الغرض وتهيئة لوازمه. بمعنى: ان كل مقام يستمع الى سبب واحد من بين هذه الاسباب. ولكن لو اتحدت عموماً ترفع الكلام الى اعلى طبقة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 108
خاتمة:
هناك معان معلقة، ليس لها شكل مخصوص ولاوطن معين. فهي كالمفتش الذي يمكنه الدخول الى اية دائرة كانت وبعضها يقلّد لفظاً خاصاً بها. هذه المعاني المعلقة قسم منها معان حرفية هوائية، قد تستتر في كلمة، او يتشربها كلام او تتداخل في جملة او قصة، فان عصرت تقطّر ذلك المعنى كالروح فيها كما في معاني "التحسر" و"الاشتياق" و"التمدح" و"التأسف" وغير ذلك.

المسألة السابعة
ان العقدة الحياتية للبلاغة، او بتعبير اخر "فلسفة البيان" او "حكمة الشعر" هي التمثل بنواميس الحقائق الخارجية ومقاييسها. اي: تمكين قوانين الحقائق الخارجية في المعنويات والاحوال الشاعرة من حيث القياس التمثيلي وبطريق الدوران وبتصرف الوهم. اي ان البليغ يتمثل اشعة الحقائق المنعكسة من الخارج كالمرآة وكأنه يقلّد الخلقة ويحاكي الطبيعة بصنعته الخيالية وبنقش كلامه.
نعم! لو لم تكن في الكلام حقيقة ففي الاقل لابد فيه من شبيه للحقيقة وما يستمد من نظامها والتسنبل على نواتها. ولكن لكل حبة سنبلها الخاص فلا تتسنبل الحنطة شجرة.
فان لم تؤخذ فلسفة البيان بنظر الاعتبار، فالبلاغة تكون كالخرافة لا تغني السامع غير الحيرة.
اشارة: ان للنحو فلسفته كما للبيان فلسفته. هذه الفلسفة تبين حكمة الواضع وهي مؤسسة على المناسبات المشهودة المشحونة بها كتب النحو، فمثلاً لايدخل عاملان على معمول واحد. وان لفظ (هل) ما ان يرى الفعل الاّ ويطلب الوصال بلا صبر، وان الفاعل قوي، والقوى يضم الضمة لنفسه. فهذه وامثالها نظائر القوانين الجارية في الكائنات وفي الخارج.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 109
تنبيه:
ان هذه المناسبات النحوية والصرفية - التي هي حكمة الواضع - وان كانت لا تبلغ درجة فلسفة البيان الاّ ان لها قيمة رفيعة جداً. فمثلاً: تحول العلوم النقلية الثابتة بالاستقراء الى صور العلوم العقلية.

المسألة الثامنة
ان تلقيح المعاني البيانية وانقلاباتها، انما هو: بتشرب معنى الكلمة الحقيقي بغرض الكلام او جذبه بمعنى من المعاني المعلقة الى جوفه، وحالما يدخل فيه يرجع المعنى الى الحقيقة والاساس التي هي صاحب البيت. اما المعنى الذي هو صاحب اللفظ الاصلي فيرجع الى صورة حياتية تمدّه، وتستمد من المستتبعات. هذا هو السر في وجود معان عدة لكلمة واحدة ومنه ينبع التلقيح والتبادل والانقلاب.
فمن لم يفهم هذه النقطة فاتته بلاغة عظيمة.
اشارة: وكم من شئ يركب عليه فيستحق لفظ "على" ولكن ما ان يكون ظرفاً، فانه يستدعي لفظ "في" كـ: "تجري في البحر".. او آلة تستلزم لفظ "باء" كـ: "صعدت السطح بالسلم" ولكن لكونها مكاناً او مركوباً تقتضي ايضاً "في" و"على".. او يكون غاية فيطلب "الى" و "حتى" ولكن لكونه علةً وظرفاً يناسبه "اللام" و "في" كـ
(والشمس تجري لمستقرلها). فقس.
تنبيه:
قدّم ضمن هذه المعاني المتداخلة وصرِّح ما كان امسّ لغرضك واقرب رحماً الى القصد، وشيّع الباقي وضمّنه. والاّ كان المعنى عرياناً عاطلاً من حلّة البيان.

المسألة التاسعة
ان أعلى مراتب الكلام وكماله الذي يُعجز الارادة الجزئية والتصور البسيط للانسان هو: تضمن الكلام واستعداده بتعدد المقاصد المتداخلة المتسلسلة،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 110
وبتسلسل المطالب المرتبطة المتناسلة، وباجتماع الاصول المولدة لنتيجة واحدة، وباستنباط الفروع الكثيرة المولدة لثمرات متباينة. وذلك:
ان الذي يعطي الكلام عظمة وسعة هو: ان المقاصد القادمة من ابعد هدف واعلاه - وهو مقصد المقاصد - يرتبط بعضها ببعض، ويكمل احدها نقصان الاخر، ويؤدي الواحد منها حق جاره، حتى كأن وضع هذا في موضعه يمكّن الآخر في مكانه، ويقرّ الاخر في مستقره.. وهكذا كلٌ يأخذ محله الملائم له؛ فتنصب تلك المقاصد في قصر الكلام المشيد بملاحظة نسب يمين هذا وشماله وكل جهاته. وكأن المتكلم استعار عقولاً الى عقله للتعاون، وغدا كل مقصد من تلك المقاصد جزءاً تشترك فيه التصاوير المتداخلة، بمثل ما اذا وضع رسام نقطة سوداء في صور متداخلة، فانها تكون عين هذا ومنخر ذاك وفم هذا وشامة ذلك.. وهكذا ففي الكلام ارفيع نقاط امثال هذه ..
النقطة الثانية:
ان المطالب تتسلسل وتتناسل بسرالقياس المركب المتشعب حتى كأن المتكلم يشير الى شجرة النسب لبقاء المطالب وتناسلها.
فمثلاً: العالم جميل، فصانعه اذاً حكيم، لا يخلق عبثاً، ولايسرف في شئ، ولايهمل الاستعدادات والقابليات، اي سيكمّل الانتظام دوماً. اي لايسلط على الانسان الهجران الابدي والعدم الذي يمحي الكمالات ويقتل الامل.. فلا بد اذاً من سعادة ابدية.
وافضل مثال لهذا: الجهة الثالثة من الفرق بين الانسان والحيوان من مباحث النبوة في مقدمة الشهادة الثانية من المقالة الثالثة.
النقطة الثالثة:
ان الذي يجعل النتيجة الواحدة تولد نتائج متعاقبة هو: جمع الاصول المتعددة وذكرها، لان لكل اصل من الاصول، وان لم يكن له ارتباط بالذات وقصدٌ بالنتيجة الرفيعة، ففي الاقل يهزها ويكشفها الى حد ما. فكأن الكلام يشير بتباين الاصول - التي هي مظاهر ومرايا - وبوحدة النتيجة والمتجلّى، الى تجرد المقصد وسموّه،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 111
واتصال قوته الحياتية بحقيقة الحياة الكلية، حياة العالم المسماة بالدوران العمومي. فالمقصد الاول من المقاصد الثلاثة التي في ختام المقالة الثالثة مثال لهذا؛ وكذلك الاشارة والارشاد والتنبيه ومسلك المحاكمة العقلية التي في المسالة الرابعة من المقالة الثالثة مثال جيد لهذا ايضاً.. [فانظر الى كلام الرحمن الذي علم القرآن. فبأي آيات ربك لا تتجلى هذه الحقيقة؟ فويل حينئذٍ للظاهريين الذين يحملون ما لا يفهمون على التكرار].
النقطة الرابعة:
هي افراغ الكلام افراغاً تاماً، ومنحه استعداداً كاملاً، بحيث يتضمن بذور كثير من الفروع، ويكون مصدر كثير من الاحكام، ويصبح دليلاً على وجوه عديدة ومعاني مختلفة. وكأن الكلام بتضمنه هذا الاستعداد يلوّح الى مافيه من قوة للنمو، ويبين كثرة غلته ومحصوله. اذ يجمع في المسألة تلك الفروع والوجوه ليوازن بين مزاياه ومحاسنها، ويسوق كل فرع الى غرض ويعيّن كل وجه في وظيفة: [فانظر الى قصة موسى فانها أجدى من تفاريق العصا، أخذها القرآن بيده البيضاء، فخرّت سحرة البيان ساجدين لبلاغته].
ايها الاخ!
ان الخيال البلاغي الموجود في هذه المسالة يرسم لك - بمثل هذه الاساليب - شجرة حقيقة عظيمة، عروقها الجسيمة متشابكة، وعقدها الطويلة متناسقة، واغصانها المتشعبة متعانقة، وثمراتها وفواكهها متنوعة. فتأمل في المسألة السادسة فهي مثال لهذه المسألة وان كانت مشوشة.

تنبيه واعتذار:
ايها الاخ!
اعلم يقيناً ان هذه المقالة تبدو لك غامضةً مغلقةً، ولكن ما الحيلة فان شأن المقدمة الاجمال والايجاز. وسيتجلى لك الامر في الكتب الثلاثة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 112
المسألة العاشرة
ان سلاسة الكلام، بعدم التشابك، عدم الطفر من حسّ الى اخر، مع تقليد الطبيعة وتمثل الخارجيات، والسداد الى مسيل الغرض، وتميّز المقصد والمستقر، كالآتي:
ان الوثوب من حسّ الى آخر قبل ان يتم الاول، ومن بعد ذلك مزجه مع الاخر يخل بالسلاسة ويغيرها، فيلزم التدرج في المعاني المتسلسلة والحذر من الاشتباك العشوائي بدون نظام.
وينبغي ايضاً مساوقة الطبيعة والتتلمذ عليها بصنعة المتكلم الخيالية، كي تنعكس قوانينها في صنعته.
وكذا يجب محاكاة تصوراته مع الخارجيات ومشاكلتها معها، بحيث لو تجسمت تصورات المتكلم في الخارج - هاربة من الدماغ - لايردّه الخارج ولايستلحقها الى المتكلم، ولاينكر نسبها اليه. بل يقول: هي انا، او كأنها انا او هي من صلبي.
وكذا يجب السداد وعدم التمايل يميناً وشمالاً، للحيلولة دون التفرق في مسيل الغرض والتشتت في مجرى القصد، وذلك لئلا تهون الجوانب من الغرض بتشرب قوته، بل تمده الجوانب - كالحوض - بما تتضمه من الطراوة واللطافة.
ويلزم ايضاً - لسلامة السلاسة - تميّز مستقر القصد، وتعيّن ملتقى الغرض.

المسألة الحادية عشرة
ان سلامة البيان وصحته: اثبات الحكم بلوازمه ومبادية وبآلات دفاعه، كالاتي: يجب عدم الاخلال بلوازم الحكم، وعدم افساد راحته، مع رعايته، والرجوع الى مبادئه لاستمداد الحياة.. وذلك بالتقلد بقيود الاجابة عن كل سؤال مقدر في ردّ الاوهام ودفع الشبهات.. اي ان الكلام شجرة مثمرة نضدت فيها اشواكها لحمايتها من اجتناء ثمراتها والتجني عليها. فكأن الكلام نتيجة لكثير من المناظرات


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 113
والمناقشات وزبدة كثير من المحاكمات العقلية. فلا يسترق منه السمع شياطين الاوهام ولايسعهم النظر اليه نظرة سوء. لان المتكلم قد احاط بجهاتكلامه الست وشيّد حوله سوراً، اي جهّزه بتقييد الموضوع او المحمول او بالتوصيف او بجهة اخرى دفاعاً عن كل سؤال مقدر ووضعها في نقاط يتوقع هجوم الاوهام منها. وان شئت مثالاً لهذا، فهذا الكتاب كله مثال طويل له، ولاسيما المقالة الثالثة فهي مثاله الساطع.
المسألة الثانية عشرة
ان سلامة الكلام وملاسته واعتدال مزاجه: بتقسيم العناية وتوزيع خلع الاساليب حسب ما يستحقه كل قيد. فان كان الكلام حكاية، فيجب على المتكلم فرض نفسه في موضع المحكي عنه، اذ لا بد من الحلول في المحكى عنه والنزول ضيفاً الى قلبه والتكلم بلسانه لدى تصوير افكاره وحسياته. واذا تصرف في ماله فيجب العدالة فيتقسيم الرعاية والاهتمام - الدالين على القيمة والمكانة - باخذ كل قيدٍ للكلام واستعداده ورتبته، بنظر الاعتبار، والباس الاساليب على قامة استعداد كل قيد. حتى يتحلى المقصد بما يناسبه من اسلوب، اذ اسس الاساليب ثلاثة:
الاول: الاسلوب المجرد، كالاسلوب السلس للسيد الشريف الجرجاني ونصير الدين الطوسي.
الثاني: الاسلوب المزين، كالاسلوب الباهر الساطع لعبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز واسرارالبلاغة.
الثالث: الاسلوب العالي، كبعض الكلام المهيب للسكاكي والزمخشري وابن سينا او بعض الفقرات العربية لهذا الكتاب، ولاسيما في المقالة الثالثة، فهي تبدو مشوشة الا انها تحوي فقرات رصينة، ذلك لان علو الموضوع قد افرغ هذا الكتاب في اسلوب عالٍ. وما صنعتي انا الاّ جزئية فيه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 114
الخلاصة:
ان كنتَ في بحث الالهيات وتصوير الاصول، فعليك بالاسلوب العالي، ففيه الشدة والقوة والهيبة، بل عليك الاّ تغادر هذ الاسلوب.
وان كنت في بحث الخطاب والاقناع، فعليك بالاسلوب المزيّن ذي الحلي والحلل والترغيب والترهيب. لا تدع هذا الاسلوب ما استطعت، بشرط الاّ يداخله التصنع والتظاهر، وما يثيرالعوام.
وان كنت في المعاملات والمحاورات وفي العلوم الآلية، فعليك بالاسلوب المجرد وحده فهو الذي يحقق وفاء الموضوع واختصار البحث وسلامة القصد ويجري على وفق السليقة حتى انه يبين جماله الذاتي بسلاسته.
خاتمة هذه المسالة:
اعلم ان قناعة الكلام واستغناءه وعصبيته، ان لاتمدّ عينيك الى اسلوب خارج المقصد. فلو اردت ان تفصّل اسلوباً على قامة معنى من المعاني، فالمعنى نفسه والمقام والصنعة والقصة والصفة يعينك بتفاريق لوازمها وتوابعها، فتخيط من تلك التفاريق لباس اسلوبك. فلا تمد نظرك الى الخارج الاّ مضطراً. او بتعبير اخر قاطع اموال الاجانب، فهو اساس مهم للحيلولة دون تبعثر ثروة البلاد. فمقاطعة الاجانب تزيد قوة الكلام، اي: ان المعنى والمقام والصنعة يفيد الكلام بدلالته الوضعية، اذ كما يُظهر الكلام المعنى بدلالته الوضعية، فمثل هذا الاسلوب يشير بطبيعته الى المعنى.
وان شئت مثالاً فانظر في المسألة التاسعة الى: [فانظر الى كلام الرحمن الذي علّم القرآن، فبأي أيات ربك لاتتجلى هذه الحقيقة؟ فويل حينئذ للظاهريين الذين يحملون ما لايفهمون على التكرار] وفيها ايضاً: [فانظر الى قصة موسى، فانها اجدى من تفاريق العصا، اخذها القرآن بيده البيضاء فخرّت سحرة البيان ساجدين لبلاغته]. وان شئت فانظر الى ديباجة كتب العلوم الآلية، فان مافيها من براعة الاستهلال - وان لم يكن بلاغتها دقيقة ولطيفة - براعة استهلال لهذه الحقيقة.
وايضاً ففي ديباجة هذا الكتاب امثلة: اذ اظهر النبيّ الكريم معجزة لنبوته.. وفي ديباجة المقالة الثالثة: قد بُينت جملتا كلمة الشهادة، كل منها شاهدة على
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 115
الاخرى.. وكذا قيل في المقدمة السابعة لاولئك الذين قالوا بنزول القمر الى الارض بعد انشقاقه: لقد اصبحتم سبباً لخسف معجزة القمر الظاهر كالشمس الساطعة برهاناً على النبوة وجعلتم تلك المعجزة الظاهرة مخفية كنجم السهى!
وقياساً على هذا تجد امثلة كثيرة لهذه الحقيقة، لان مسلك هذا الكتاب مقاطعة اموال الخارج، وعدم الاخذ منها الاّ للضرورة كما هو حالي انا. بل مقاطعتها في المسائل والامثلة والاساليب، لكن ربما يرد توافق في الخواطر. اذ الحقيقة واحدة، فمن اي باب دخلت عليها تجدها تجاهك.
خاتمة:
لقد قيل: انظر الى القول دون القائل! ولكني اقول: انظر الى مَن قال؟ ولمن قال؟ وفيمَ قال؟ ولِمَ قال؟ اذ يلزم مراعاة هذه الامور كمراعاة القول نفسه في نظر البلاغة بل هذا هو الالزم.
اشارة: اعلم ان شرطاً مهماً لمزايا علم المعاني وفن البيان - من حيث البلاغة - هو: القصد والعمد، بنصب الامارات والاشارات الدالة على جهة الغرض، فلا تقام للعفوية وزناً.
اما شرط علم البديع والمحسنات اللفظية فهو عدم القصد، والعفوية، او القرب من طبيعة المعنى الشبيهة بالعفوية.
تلويح: لايخفى ان شأن الآلات التي تثقب السطح نافذة الى الحقيقة، وتدل على الطبيعة والحقيقة الخارجية، وتربط الحكم الذهني بالقانون الخارجي، بل انفذ تلك الالات هي "إنّ" التحقيقية. نعم! ان "إنّ" بناءً على خاصيته هذه استعملت كثيراً في القرآن الكريم.
ايها الاخ!
ان القوانين اللطيفة التي تضمها هذه المقالة لايورطك في مغالطة، لتبرئتها ونفورها عن هذه الاساليب الخشنة الواهية! فلا يذهب بك الظن الى القول: لو كانت هذه القوانين صالحة وصائبة لكانت تلقّن واضعها درساً قوياً في البلاغة فكانت تلبس اساليب جميلة، بينما الذي وضعها اميّ واساليبه متهرئة.. دع عنك هذا الظن، لانه
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 116
لا يلزم لكل علم ان يكون كلُ عالم ماهراً فيه. فضلاً عن ان القوة المركزية الجاذبة اقوى من القوة الدافعة، ولان للاذن قرابة مع الدماغ وصلة رحم مع العقل، بينما القلب الذي هو منبع الكلام ومعدنه بعيد عن اللسان وغريب عنه. وكثيراً لايفهم اللسان فهماً تاماً لغة القلب، لا سيما ان كان القلب يئن في غور المسائل وفي اعماق بعيدة كغيابة الجب فلا يسمعه اللسان، وكيف يترجمه؟
وحاصل الكلام: الفهم اسهل من الافهام ....
والـسلام
اعتذار:
ايها الاخ الصابر الجلد! ويامن يرافقني في هذه المسالك الضيقة المظلمة! لااحسبك الاّ متفرجاً حائراً في هذه المقالة الثانية، ولم تك مستمعاً لانك لم تفهمها، ولك الحق في ذلك؛ اذ المسائل عميقة جداً، وجداولها طويلة جداً. بينما العبارات غامضة مختصرة. ولغتي التركية مشوشة وقاصرة ووقتى ضيق، وانا اكتب باستعجال، وصحتي معتلة فانا مصاب بالزكام. ففي مثل هذه الاحوال لا يصدر الاّ مثل هذه الوريقات.. [والعذر عند كرام الناس مقبول].
ايها الاخ!
امزج عنصر الحقيقة - قوة كبرى - وعنصرالبلاغة - قوة صغرى - وامرر في المزيج الحدس الصادق الذي هو كشعاع الكهرباء. لينتج لك عنصر العقيدة المضيئة، وليمنح ذهنك استعداداً لفهمها.
سنبحث عن عنصر العقيدة في المقالة الثالثة .
فاشرع واقول : نخو 1

_____________________
1 كلمة كردية باللهجة الكرمانجية الشمالية، تعني: اذن -. المترجم.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #12
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 117
المقالة الثالثة
عنصر العقيدة
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 119
بسم الله الرحمن الرحيم

اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمداً رسول الله

هذه الكلمة السامية اساس الاسلام.. وانور رايته واعلاها التي ترفرف على الكائنات طراً.
نعم! ان الايمان الذي هو عهدنا بالميثاق الازلي قد درج في هذا الكلام المقدس.
وان الاسلام الذي هو الماء الباعث على الحياة، قد نبع من عين حياة هذه الكلمة.
فهذه الكلمة ميثاق ازلي، سُـلِّمَ بيد المبشَّرين بالفوز بالسعادة الابدية والمعنيين لها، من بين البشرية المرشحة للخلود.
نعم! ان هذه الكلمة منهاج رباني.. وترجمان بليغ لأوامره تعالى، تتنور به اللطيفة الربانية الموضوعة على نافذة قلب الانسان المطل على عوالم الغيوب.
هذه الكلمة منهاج أزلي، ينطق به اللسان، المبلّغ الأمين عن الايمان بالله الحكيم.. وخطاب فصيح ينشده الوجدان الملئ بالاسرار تجاه الكائنات.
ان كلمتي الشهادة كل منها شاهد صادق على الاخرى. فالالوهية برهان "لـمّيّ" للنبوة ومحمد صلى الله عليه وسلم بذاته وبلسانه برهان "انّيّ" للالوهية 1.
ان حقائق العقائد الاسلامية بجميع تفرعاتها صريحة ومبرهنة في مظانها من الكتب، وهي في متناول اليد. ولكن لما كان ايضاح الظاهر يومئ الى تجهيل المخاطب او خفاء الظاهر، فلا ابيّن من عناصر العقيدة سوى ثلاثة او اربعة منها، واحيل بقيتها الى كتب فحول العلماء، فقد أوفوها حقها.
_____________________
1 البرهان إما »لمّي« وهو الاستدلال بالمؤثر على الأثر، وإما »إنِّي« وهو الاستدلال بالاثر على المؤثر، وهذا اسلم. (اشارات الاعجاز ص150).



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 120
مقدمة المقصد الاول
من المعلوم لدى المدققين ان مقاصد القرآن اربعة: اثبات الصانع الواحد، النبوة، الحشر الجسماني، العدل.
فالمقصد الأول يخص الدلائل على الصانع الجليل، ومحمد صلى الله عليه وسلم أحد براهينه.
هذا وان وجود الصانع ووحدانيته اجلّ واظهر واغنى من ان يحتاج الى اثبات، ولاسيما لدى مخاطبة المسلمين، لذا وجهت كلامي هذا الى الاجانب، وبخاصة اليابانيين؛ اذ قد سألوا في السابق مجموعة من الاسئلة، فأجبتهم عنها في حينه، وادرج هنا قسماً من تلك الأجوبة.
منها: [ما الدليل الواضح على وجود الآله، الذي تدعوننا اليه؟ والخلق من اي شيء؟ أمن العدم أو المادة أو ذاته؟ الى آخر اسئلتهم المرددة].
ارجو المعذرة عن الغموض الذي يكتنف كلامي، اذ لايمكن حصر معرفة الله التي لا حدود لها في مثل هذا الكلام المحدد.
ان القصد من الكلام الآتي: انجلاء الحقيقة في المجموع، باظهار طريق المحاكمة العقلية وعقد الموازنات، لأن تحرى النتيجة بتمامها في كل جزء من اجزاء المجموع سترٌ للحقيقة بالاوهام والشكوك، بسبب من جزئية الذهن وسيطرة قوة الوهم.
ان الذي يحجب ظهور الحقيقة: الرغبة في المعارضة.. وإلتزام جانب المعارض.. وإعذار المرء نفسه - بالتزامه لها - وارجاع أوهامه الى أصل موثوق.. وتتبع الهفوات والعيوب.. والتحجج بحجج واهية صبيانية.. وامثالها من الامور.
فان استطعت ان تجرد نفسك منها، فقد وفيت بشرطي، فاستمع اذاً بقلب شهيد:


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 121
المقصد الاول

ان كل ذرة من ذرات الكائنات، بينما هي مترددة في إمكانات واحتمالات غير محدودة، بذاتها وصفاتها وسائر وجوهها، اذا بها تسلك مسلكاً معيناً، وتتجه وجهة مخصصة، فتنتج مصالح وفوائد تتحير منها الألباب. مما تدل على وجوب وجوده سبحانه، وتشهد شهادة صادقة عليه، وفي الوقت نفسه تزيد سطوع الايمان المودع في اللطيفة الربانية للانسان الممثلة لنموذج عوالم الغيب.
نعم! كما ان كل ذرة من ذرات الكون تدل على الخالق الكريم بذاتها وبوجودها المنفرد، وبصفاتها، وخواصها، فانها تدل عليه دلالات اكثر: بمحافظتها على موازنة القوانين العامة الجارية في الكون، اذ تنتج في كل نسبة مصالح متباينة، وفي كل مقام منه فوائد جليلة، لكونها جزءاً من مركبات متداخلة متصاعدة في اجزاء الكون الواسع؛ وذلك من حيث الامكانات والاحتمالات التي تسلكها في كل مرتبة، حتى انها تستقرئ دلائل الوجود فيها.. لذا غدت الدلائل على وجوده سبحانه اكثر بكثير من الذرات نفسها.
فاذا قلت: لِمَ اذاً لايراه كل فرد بعقله؟
الجواب: لكمال ظهوره جلّ وعلا.
نعم! ان هناك اجراماً مادية لاترى من شدة ظهورها - كالشمس - فكيف بالصانع الجليل المنزّه عن المادة!
تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الاعلى اليك رسائل
تأمل في صحائف العالم بعين الحكمة، فانظر كيف سطّر البارئ المصور في تلك الابعاد الشاسعة سلسلة الحوادث. وانعم النظر في تلك الرسائل الآتية من الملأ الاعلى كي ترفعك الى اعلى عليي اليقين.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 122
ان وجدان الانسان لاينسى الله قط. لما غُرز فيه من "نقطتي الاستمداد والاستناد" بل حتى لو عطّل الدماغ اعماله، فالوجدان لا ينسى؛ لانه منهمك بتلك الوظيفتين المهمتين؛ كالآتي:
ان قلب الانسان مثلما ينشر الحياة الى ارجاء الجسد، فالعقدة الحياتية في الوجدان - وهي معرفة الله - تنشر الحياة الى آمال الانسان وميوله المتشعبة في مواهبه واستعداداته غير المحدودة. كلٌ بما يلائمه، فتقطّر فيها اللذة والنشوة، وتزيدها قيمة وترفعها شأناً، بل تبسطها وتصقلها. هذه هي نقطة الاستمداد.
ثم ان معرفة الله نقطة استناد وحيدة للانسان، تجاه تقلبات الحياة ودوّاماتها، وتزاحم المصايب وتوالى النكبات. اذ لو لم يعتقد الانسان بالخالق الحكيم الذي امرُهُ كله حكمة ونظام، واسند الامور والحوادث الى المصادفات العمياء، وركن اليها والى ما يملكه من قوة هزيلة لا تقاوم شيئاً، فسينتابه الفزع والرعب وينهار من هول ما يحيط به من بلايا. وسيشعر بحالات أليمة تذكّر بعذاب جهنم.. وهذا ما لايتفق وكمال روح الانسان المكرم، اذ يستلزم سقوطه الى هاوية الذل والمهانة، مما ينافي روح النظام المتقن القائم في الكون كله.
وهذه هي نقطة الاستناد.. نعم! لا ملجأ الاّ بمعرفة الله!
اذن فالوجدان يطل على الحقائق بذاتها من هاتين النافذتين، فيرى هيمنة النظام على العالم كله، والخالق الكريم ينشر نور معرفته ويبثها في وجدان كل انسان من هاتين النافذتين.. فمهما اطبق العقل جفنه، ومهما اغمض عينه، فالفطرة تراه وعيون الوجدان مفتحة دائماً، والقلب نافذة مفتوحة.
تنبيه:
ان اصول العروج الى عرش الكمالات وهو معرفة الله جلّ جلاله اربعة:
اولها: منهاج علماء الصوفية، المؤسس على تزكية النفس والسلوك الاشراقي.
ثانيها: طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والامكان.
هذان الاصلان وإن تشعبا من القرآن الكريم، الاّ ان فكر البشر قد افرغهما في صور اخرى فاصبحتا طويلة وذات مشاكل.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 123
ثالثها: مسلك الفلاسفة.
هذه الثلاثة ليست مصونة من الشبهات والاوهام.
رابعها: المعراج القرآني الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو اقصر طريق واوضحه واقربه الى الله واشمله لبنى الانسان.
ونحن قد اخترنا هذا الطريق. وهو نوعان:
الاول: دليل العناية
ان جميع الآيات الكريمة التي تعدد منافع الاشياء، تومئ الى هذا الدليل وينظم هذا البرهان.
وزبدة هذا الدليل: رعاية المصالح والحكم في نظام العالم الاكمل. مما يثبت قصْد الصانع وحكمته وينفي وهْمَ المصادفة.

مقدمة
على الرغم من أن كل انسان لا يستطيع ان يستقرئ استقراءً تاماً رعاية المصالح والانتظام في العالم ولا يمكنه ان يحيط بها، فقد تشكل - بتلاحق الافكار في البشرية عامة - علمٌ يخص كل نوع من انواع الكائنات، ذلك العلم ناشئ من القواعد الكلية المطردة في الكون، وما زالت العقول تكشف عن علوم اخرى.. وحيث أن الحكم لا يجري بكليته في ما لا نظام فيه، فكلية القاعدة اذن دليل على حسن انتظام النوع.. فبناء على كلية القاعدة هذه غدا كل علم من علوم الاكوان برهاناً على النظام الاكمل في العالم بالاستقراء التام.
نعم! ان اظهار المصالح المتعلقة بسلسلة الموجودات بوساطة العلوم، وبيان فوائد الثمرات المتدلية منها، وابراز الحكم والفوائد المنتشرة ضمن تلافيف انقلابات الاحوال.. يشهد شهادة صادقة على قصد الصانع الحكيم، ويشير اليه، ويطرد شياطين الاوهام كالنجم الثاقب.
اشارة: اذا جردت نفسك من حجاب الألفة التي هي سبب الجهل المركب، والتي تنشئ لدى الانسان النظر السطحي العابر.. وافرغت نفسك من محاولة إلزام الخصم،


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 124
بعدم الانصياع الى الحق ليس الاّ، تلك المحاولة التي تلقح الاوهام والشكوك وتسد الطريق الى العقل.. ونظرتَ الى حيوان صغير لا يرى الاّ بالمجهر، ورأيت ما تشف تلك الماكنة الصغيرة الدقيقة، الماكنة الالهية البديعة، عن وجود منتظم متناسق فيه، فلا تستطيع ان تقنع نفسك وتطمئنها، الى أن هذه الآلات الدقيقة ناشئة من مصنع الاسباب الطبيعية الجامدة التي لا شعور لها ولا حدّ لمجالها ولا اولوية لإمكاناتها، الاّ اذا استطعت من رفع المحالات الناشئة من اجتماع الضدين، أي وجود القوة الجاذبة والدافعة في تلك الذرة التي لا تتجزأ.
فان كانت نفسك تجد احتمالاً في هذه المحالات، فسترفع اسمك من سجل الانسانية!.
ولكن يجوز ان يكون الجذب والدفع والحركة التي هي اساس كل شئ - كما يظنون - اسماء وعناوين قوانين الله الجارية في الكون. ولكن بشرط الاّ تتحول القوانين الى طبيعة فاعلة، والاّ تخرج من كونها امراً ذهنياً الى أمر خارجي مشاهد، والاّ تتحول من كونها شيئاً اعتبارياً الى حقيقة ملموسة، ولا من كونها آلة تتأثر الى مؤثر حقيقي.
(فارجع البصر هل ترى من فطور) (الملك: 3) كلا! فالمبصر لايرى نقصاً، الاّ ان كان اعمى البصر والبصيرة، أو مصاباً بقصر النظر!
فان شئت فراجع القرآن الكريم، تجد دليل العناية بأكمل وجه، في وجوه الممكنات، لأن القرآن الكريم الذي يأمر بالتفكر في الكون، يعدّد ايضاً الفوائد ويذكّر بالنعم الالهية.. فتلك الآيات الجليلة مظاهر لهذا البرهان، برهان العناية.
استمسك بما ذكرناه، فانه اجمال، أما التفصيل، فنفسّره في الكتب الثلاثةالتي عقدنا العزم على كتابتها لبحث علم السماء والارض والانسان، كمنهج تفسير في الآفاق والأنفس، ان شاء الله ووفق، وعندها تجد هذا البرهان بوضوح تام.
الدليل القرآني الثاني: دليل الاختراع
وخلاصته: ان الله تعالى قد اعطى كل فرد، وكل نوع ، وجوداً خاصاً، هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة. فلا نوع يتسلسل الى الأزل، لأنه من


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 125
الممكنات. فضلاً عن أن حدوث قسم منها مشاهد وقسم آخر يراه العقل بنظر الحكمة.
ان انقلاب الحقائق محال. وسلسلة النوع المتوسط لا تدوم. أما تحول الاصناف فهو غير انقلاب الحقائق.
ولما كان لكل نوع آدم وجدّ اكبر، فالوهم الباطل الناشئ من التناسل في سلسلة كل نوع لايسري الى اولئك الادميين والاجداد الاوائل. اذ إن الفلسفة وعلم الجيولوجيا وعلم الحيوان والنبات، يشهد أن الانواع التي يزيد عددها على مئتي ألف نوع، كل منها له مبدأ وأصل معين، وجدّ اكبر، بمثابة آدم لذلك النوع، وكل مبدأ منها قد حدث حدوثاً مستقلاً عن غيره. وكل فرد من هذه الانواع الوفيرة كأنه ماكنة بديعة عجيبة تبهر الأفهام، فلا يمكن ان تكون القوانين الموهومة الاعتبارية والاسباب الطبيعية العمياء الجاهلة، موجدة لهذه السلاسل العجيبة من الافراد والانواع،بل هي عاجزة عجزاً مطلقاً عن ايجادها.. اي أن كل فرد، وكل نوع، يعلن بذاته أنه صادر صدوراً مستقلاً عن يد القدرة الالهية الحكيمة.
نعم ! ان الصانع الجليل قد ختم في جبهة كل شئ ختم الحدوث والامكان.
ان اعطاء احتمال تشكل الانواع من أزلية المادة وحركة الذرات العشوائية، وغيرها من الامور الباطلة، إنما هو لمجرد اقناع النفس بشئ آخر غير الايمان بالله، ولاينشأ هذا الاحتمال الاّ من عدم الادراك، ومن فساد الفكر، بالنظر السطحي العابر. ولكن ما ان قصدَ الانسان وتوجّه بالذات الى اقناع نفسه، فلابد أنه سيقف على محالية الفكرة وبُعدها عن المنطق والعقل. ولو اعتقدها، فلا يعتقد الاّ اضطراراً بالتغافل عن الخالق سبحانه.
ان الانسان - المكرم من حيث جوهر انسانيته - يبحث دوماً عن الحق، ويتحرى الحقيقة دائماً، وينشد السعادة على الدوام. ولكن اثناء بحثه عن الحق يعثر على الباطل والضلال دون ان يشعر، واثناء تنقيبه عن الحقيقة يقع الباطل على رأسه بلااختيار منه أي كلما خاب في الحصول على الحق ويئس من وجدان الحقيقة قَبل مضطراً أمراً محالاً وغير معقول، يقبله بالنظر السطحي والتبعي، مع أنه يعرف يقيناً بفطرته الاصلية ووجدانه وفكره انه محال.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 126
خذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار وضعها نصب العين:
ان ما يتوهمونه من أزلية المادة والحركة، من جراء تغافلهم عن نظام العالم.. وما يتخيلونه من مصادفة عشواء في الصنعة البديعة التي تبهر العقول.. وما يعتقدونه من تأثير حقيقي للاسباب الجامدة، رغم شهادة جميع الحِكَم على عدم تأثيرها.. وما يغالطون به انفسهم ويتسلّون به من اسناد كل شئ الى الطبيعة الموهومة المتخيلة المتجسمة، بسبب استمرار اغواء الوهم.. فان فطرتهم ترد هذه المحالات والاوهام وترفضها.
ولكن متى ما توجه الانسان الى الحق يقصده، تعرض له على جانبي الطريق هذه الاوهام، من دون دعوة منه ولا طلب. فمن سدد النظر الى غرضه ونصب هدفه امام عينه، نظر الى الاوهام الباطلة نظر العابر السطحي، من دون ان ينفذ باطنها الملئ باللوثات. واذا ما توجه اليها شارياً لها يراها لا تستحق حتى الالتفات اليها فكيف بالشراء! بل يشمئز وجدانه منها ويستحيلها عقله ويمجها قلبه، الاّ ان يشاغب، وتستفزه السفسطة؛ فيقبل في كل ذرة عقل الحكماء وسياسة الحكام! كي تتشاور كل ذرة وتتحاور مع اخواتها على الاتفاق والانتظام. فهذا المسلك وهذا شأنه لايقبله حتى الحيوان! ولكن ما الحيلة فان لازم البينة من المسلك نفسه، وهذا المسلك لا يصّور الا بهذه الصورة.
نعم ان شأن الباطل هو أنه اذا نظر اليه الانسان نظر التبعي العابر يعطى له صحة الاحتمال، بينما اذا انعم النظر فيه يُرفع ذلك الاحتمال ويدفع.
ان ما يسمونه بالمادة لا تتجرد عن الصورة المتغيرة ولا عن الحركة الحادثة الزائلة، اى ان حدوثها محقق. فيا ترى ان من يضيق عقله عن ادراك ازلية الله سبحانه، وهي صفة لازمة ضرورية للذات الجليلة، كيف يتسع عقله لأزلية المادة التي تنافي الازلية منافاة مطلقة.. حقاً ان هذا شئ عجاب. حتى ان الانسان يندم على انسانيته كلما فكر في هؤلاء الذين يحيلون هذه المصنوعات البديعة الى المصادفة العمياء وحركة الذرات ويستغربون صدورها عن الصانع الجليل المتصف بجميع الصفات الكمالية.
ان القوى والصور الحاصلة من حركة الذرات كما يدّعون، لاتشكل المباينة الجوهرية للانواع، بسبب عَرَضيتها، فالعرض لايكون جوهراً قط. بمعنى أن فصول


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #13
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 127
هذه الانواع والخواص المميزة لعموم الاعراض انما هي مخترع من العدم الصرف. والتناسل في التسلسل انما هو الشرائط الاعتيادية.
فهذا اجمال دليل الاختراع وان شئت تفصيله بوضوح فادخل جنان القرآن الكريم فانه لا رطب ولا يابس إلا ّ وتفتح في كتاب مبين زهرةً زاهية او برعماً لطيفاً.
فإن شاء الله تعالى، ووفقني، وساعد الأجل، سأعرض اللآلئ التي تزين هذا البرهان مستخرجاًَ اياها من اصداف الفاظ القرآن.
اذا قلت: ما هذه الطبيعة والقوانين والقوى التي يسلّون بها أنفسهم؟
فالجواب: أن الطبيعة هي شريعة الهية فطرية، اوقعت نظاماً دقيقاً بين أفعال وعناصر واعضاء جسد الخليقة المسمى بعالم الشهادة، هذه الشريعة الفطرية هي التي تسمى بالطبيعة والمطبعة الالهية.
نعم! ان الطبيعة هي محصلة وخلاصة مجموع القوانين الاعتبارية الجارية في الكون. أما ما يسمونه بـ"القوى" فكل منها حكم من أحكام هذه الشريعة. أما القوانين فكل منها عبارة عن مسألة من مسائلها، ولكن لاستمرار احكام هذه الشريعة واطراد مسائلها، وتهيؤ النفوس التي ترى الخيال حقيقة وتريها هكذا، تسلّط الخيال وضيق الفهم، فتجسمت الطبيعة حتى اصبحت موجوداً خارجياً وتنزلت من الخيال الى المثال. وكم للوهم من حيل تروج.
لا يقنع العقل ولا ينجذب الفكر ولا يأنس نظر الحقيقة الى كون آثار القدرة - التي تتحير منها العقول - صادرة من صنعة هذه الطبيعة الشبيهة بالمطبعة، او من امور يسمونها قوى عامة. علماً انها تفتقر الى قابلية لتكون مصدراً أو علّة لوجود هذه الكائنات. فليس اذاً الاّ التغافل عن الله الحكيم والاّ الاضطرار المتولد من إلجاءات الانتظام الجاري في الكون فيتخيلون الطبيعة مصدراً، وهي ليست الاّ مِسطراً، وما محاولة انتاج الملزوم الاخص من اللازم الاعم الاّ قياس عقيم. وهذا القياس العقيم فتح الطرق الكثيرة الى وديان الضلالة والحيرة.
ان الشريعة - والقانون - هي نظّام الافعال الاختيارية، فمع كثرة المخالفات والخرق، يتصور كثير من الجهلة كأن الشريعة حاكم روحاني، ويتصورون النظام كأنه سلطان معنوي، فيتخيلون ان لهما تأثيراً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 128
فالبدوي الذي لم ير الحضارة، اذا ما شاهد حركات الجنود في طابور، حركة مطردة واطواراً منسقة واحوالاً مرتبطة، ظن ان هؤلاء الافراد العديدين أو الهيئة العسكرية مرتبط بعضهم ببعض بحبل معنوي!
أو أن شخصاً عامياً أو ذا طبع شاعري، تراه يتصور النظام الذي يربط الناس بعضهم ببعض موجوداً معنوياً، أو يتصور ان الشريعة خليفة روحانية، وهكذا يغالى من يتصور الشريعة الفطرية الالهية المتعلقة باحوال الكائنات، انها الطبيعة، تلك الشريعة التي لم تخرق الاّ تكريماً للانبياء وتصديقاً للاولياء اذ هي مستمرة دائمة. فكيف لاتتجسم الاوهام على هذا النمط من التصورات؟
كما ان استماع الانسان وتكلمه وملاحظته وتفكره جزئية تتعلق بشئ فشئ على سبيل التعاقب، كذلك همته جزئية لا تشتغل بالاشياء الاّ على سبيل التناوب فبوساطة التعاقب يتعلق بشئ فحسب وينشغل به.
ثم ان قيمة الانسان بنسبة ماهيته، وماهيته بدرجة همته، وهمته بمقدار اهمية المقصد الذي يشتغل به.
ثم ان الانسان الى أي شئ توجّه يفنى فيه، وينحبس عليه، وكأنه يكون مصداق: "الفناء في المقصد" فبناء على هذه النقطة ترى الناس - في عرفهم - لايسندون شيئاً خسيساً وأمراً جزئياً الى شخص عظيم، بل الى الوسائل، ظناً منهم ان الاشتغال بالأمر الخسيس لا يناسب وقاره، وهو لا يتنزل له، ولايسع الامر الحقير همته العظيمة، ولايوازن الامر الخفيف مع همته العظيمة.
ثم ان من شأن الانسان اذا تفكر في شئ، يتحرى مقاييسه واسسه في نفسه، وان لم يجدها ففيما حوله وفي ابناء جنسه. حتى انه اذا تفكر في واجب الوجود المنزّه عن الشبه بالممكنات، تلجئه قوته الواهمة لأن يجعل هذا الوهم السئ المذكور دستوراً، والقياس الخادع منظاراً، مع ان الصانع جل جلاله لا يُنظر اليه من هذه النقطة، اذ لا انحصار لقدرته. لأن قدرته وعلمه وارادته جل جلاله كضياء الشمس - ولله المثل الاعلى - شاملة لكل شئ، وعامة لكل أمر، فكما تتعلق باعظم شئ تتعلق بأصغره واخسه. فمقياس عظمته تعالى وميزان كماله سبحانه مجموع آثاره، لا كل جزء منه، اذ لا يصلح ان يكون مقياساً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 129
وهكذا فقياس واجب الوجود بالممكنات قياس مع الفارق، ومن الخطأ المحض المحاكمة العقلية بالوهم الباطل المذكور.
فبناء على هذا الخطأ المشين للادب، وتسلط الوهم الباطل، اعتقد الطبيعيون تأثير الاسباب تأثيراً حقيقياً، وادّعى المعتزلة ان الحيوان خالق لأفعاله الاختيارية، ونفى الفلاسفة علم الله بالجزئيات، وقال المجوس: ان للشر خالقاً غيره تعالى. اذ ظنوا وتوهموا ان الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنزهه، كيف يتنزل الى الاشتغال بمثل هذه الامور الجزئية الخسيسة. فتباً لعقولهم التي حبست نفسها اسيرة في هذا الوهم الباطل.
ايها الاخ! ان هذا الوهم ان لم يرد من جهة الاعتقاد، فقد يستحوذ على المؤمنين من حيث الوسوسة.
اذا قلت: ان دليل الاختراع هواعطاء الوجود، واعطاء الوجود يصاحب اعدام الموجود، بينما عقولنا لا تستوعب ظهور الوجود من العدم الصرف، وانقلاب الوجود المحض الى العدم المحض.
فالجواب: يا هذا! ان ما تستصعبونه وتستغربون منه في تصوركم هذه المسألة، هو النتيجة الوخيمة لقياس خادع مضل. اذ تقيسون الايجاد والابداع الالهي بكسب العبد وصنعته، والعبد عاجز عن اماتة ذرة واحيائها. وليس له الاّ الصنعة والكسب في الامور الاعتبارية والتركيبة.
نعم ان هذا القياس خدّاع لا ينجو الانسان منه.
وحاصل الكلام: لما لم ير الانسان في الكائنات قدرة وقوة تتملكها الممكنات الى درجة تتمكن بها الايجاد من العدم المحض، ويبني حكمه على مشاهداته وينشئه منها، اذ ينظر الى الآثار الإلهية من جهة الممكنات، بينما عليه ان ينظر اليها من جهة القدرة الإلهية الثابتة بآثارها المحيرة للالباب. فتراه يفرض الصانع الجليل في قوة وقدرة العباد التي لا تأثير لها الاّ في الامورالاعتبارية. اي في قوة موهومة. فينظر الى المسألة من هذه الزاوية، مع انه يجب عليه ان ينظر اليها من جانب القدرة التامة للواجب الوجود.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 130
اشارة: فلو اخذت آثار احد من الناس بنظر الاعتبار في محاكمة عقلية، يجب اخذ خاصته ايضاً. ولكن لانه لم تؤخذ هذه القاعدة في هذه المسالة، فقد نظر اليها من خلال عجز العبد تحت ستار القياس التمثيلي لقدرة الممكنات. بينما نرى في تكوين العالم ان الله سبحانه وتعالى يخلق قسماً من الممكنات بالابداع - اي بدون مادة - وقسماً آخر بالاختراع - أي ينشؤه من المادة - وهكذا بث في الوجود هذه الآثار المعجزة الباهرة، واظهر قدرته المطلقة بجلاء.
فالانسان اذا صرف نظره عن هذا، ورأى الغائب بصورة الشاهد بقياس خادع او وضع ابناء جنسه في المحاكمة العقلية، اي لو نظر الى واجب الوجود من هذه الزاوية المحددة، توهم ان كثيراً من الامور المعقولة التي يستصوبها العقل السليم غير معقولة.
فلو صرفنا النظر عن المخترعات، فان القوانين العجيبة للضوء - وهو نور عين العالم وانور المصنوعات - ونواميسه البديعة المصغرة في بصر الانسان في ترسيماتها على شبكيته التي اعيا على العقول حلها.. اقول اذا قيست هذه التي تُعد بعيدة عن العقل بكمال القدرة الالهية لرآها الانسان مأنوسة مألوفة وبين اهداب عين العقل وبصره.
وكما ان النظريات تستنتج من الضروريات، كذلك ضروريات آثار الله وصنعته دليل،اي دليل، على مخفيات صنعته. وكلاهما معاً يثبتان هذه المسألة.
فهل يمكن ان يتصور العقل ادق واعجب واغرب من صنعة الله في نظام العالم، وابعد من جنس الممكنات وقدرتها؟ لاشك لايتصور، لأن الحكم والفوائد التي بينتها العلوم تشهد بالضرورة على قصد الصانع وصنعته وحكمته. حتى اضطرت العقول الى قبولها. والاّ فالعقل بمفرده لايقبل اصغر حقيقة من هذه البديهيات.
نعم! ان الذي حمل الارض ورفع السموات بغير عمد وسخر الاجرام وادخل الموجودات تحت نظام، فلا يعصونه في امره كيف يُستغرب منه ان يحمل ما هو اخف واسهل بدرجات لا تقدر.
نعم ان الشك في قدرة من يرفع الجبل عن ان يرفع صخرة ليس الاّ سفسطة.
الحاصل: كما ان القرآن يفسر بعضه بعضاً، كذلك سطور كتاب العالم يفسّر ماوراءه من اتقان وحكمة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 131
اذا قلت: يظهر من كلام قسم من المتصوفة معنى الاتصال والاتحاد والحلول. فيتوهم من كلامهم وجود علاقة مع مذهب وحدة الوجود الذي يتبناه قسم من الماديين.
الجواب: ان شطحات محققي الصوفية، التي هي من قبيل المتشابهات، لم يفهمها هؤلاء، اذ ان مسلكهم المبني على الاستغراق وحصر النظر في الذات الالهية والتجرد من الممكنات قد ساقهم الى ان يكون مطمح نظرهم رؤية النتيجة ضمن الدليل، اي سلكوا مسلك رؤية الصانع الجليل من خلال العالم!. فعبّروا عن جريان التجليات الالهية في جداول الاكوان وسريان الفيوضات الالهية في ملكوتية الاشياء ورؤية تجلي اسمائه وصفاته سبحانه في مرايا الموجودات. عبروا عن هذه الحقائق - لضيق الالفاظ - بالالوهية السارية والحياة السارية. هذه الحقائق لم يفهمها اولئك، اذ طبقوا شطحات المحققين الصوفيين على وهام واهية ناشئة من سوء الفهم وفقر الاستعداد.. فسحقاً وبعداً لعقولهم.
ان الافكار المجردة للعلماء المحققين التي هي بسمو الثريا ابعد بكثير من افكار سافلة للمقلدين الماديين التي هي في دركات الثرى.
نعم! ان محاولة تطبيق هذين الفكرين، في هذا العصر، عصر الرقي، دليل على اصابة العقل البشري بسكتة دماغية، وتنظر الانسانية الى هذا الامر نظر الاسف والاسى وتضطر الى ان تقول بلسان مواهبها وقابلياتها للرقي والتحقيق العلمي: [كلا.. والله.. اين الثرى من الثريا، واين الضياء من الظلمة الدامسة].
اشارة: ان هؤلاء هم اصحاب "وحدة الشهود"، ولكن قد يعبّر عنهم مجازاً باهل "وحدة الوجود" حيث ان وحدة الوجود على حقيقته مسلك باطل لقسم من الفلاسفة القدماء. تنبيه:
لقد قال رئيس هؤلاء المتصوفة وكبيرهم: "من ادّعى الاتصال او الاتحاد اوالحلول، لم يشم من معرفة الله شيئاً. كيف يتصل او يتحد الممكن بالواجب؟ بل أي قيمة للممكن حتى يحل فيه الواجب، تعالى الله وتقدس مما توهم المتوهمون" نعم يتجلى


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 132
فيض من فيوضات الله في الممكن. فمسلك هؤلاء لا علاقة له ولا مناسبة فيه مع اولئك، ولاتماس بينهما قطعاً، لان مسلك الماديين حصر النظر في المادة والاستغراق فيها، حتى تجردت افكارهم وتعرت اذهانهم عن فهم الالوهية وابتعدوا عنه، بل اعطوا للمادة قيمة واهمية عظيمة حتى رأوا فيها كل شئ. بل ولج قسم منهم في مسلك دنئ حيث مزجوا الالوهية بالمادة.
اما اهل "وحدة الشهود" وهم المحققون الصوفيون فقد حصروا نظرهم في واجب الوجود حتى لم يروا للممكنات قيمة، فقالوا: هو الموجود..
الانصاف الانصاف ايها الناس! فالبعد بين المذهبين بعد الثرى عن الثريا. اقسم بالله الذي خلق المادة بانواعها واشكالها، لا ارى في الدنيا ابشع واخسّ وانعى على صاحبه بانحراف مزاج عقله من الرأى الاحمق الذي ينتج التماس بين هذين المسلكين.تنوير:
لو افترض - مثلاً - ان الكرة الارضية قد تشكلت من قطع زجاجية صغيرة جداً مختلفة الالوان، فلا شك ان كل قطعة منها ستستفيض من نور الشمس حسب تركيبها وجرمها ولونها وشكلها.
فهذا الفيض الخيالي ليس الشمس بذاتها ولا ضياءها بعينه. اذ لو نطقت الوان الازهار الزاهية المتجددة - والتي هي تجليات ضياء الشمس، وانعكاسات الوانه السبعة - لقال كل لون منها: ان الشمس مثلي. او ان الشمس تخصني انا.
آن خيالاتى كه دام اولياست عكس مهرويان بوستان خداست 1
ولكن مشرب اهل وحدة الشهود هو: الصحو والتمييز والانتباه، بينما مشرب اهل وحدة الوجود هو: الفناء والسكر. والمشرب الصافي هو مشرب الصحو والتمييز.
حقيقــــــة المرء ليــس المرء يدركها فكيـــف كيفية الجــبار ذي القــدم
هو الذي ابدع الاشــياء وانشــأها فكيف يدركه مستحدث النسم؟ 2
_____________________
1 بيت شعر باللغة الفارسية يعني: (ان الخيالات التي هي شباك الاولياء انما هي مرآة عاكسة تعكس الوجود النير في حديقة الله). والشعر للرومي في مثنويه ج1 / ص3 ط. بومباي.
2 ينسب الى الامام علي كرم الله وجهه - ديوان الامام علي ص158 - بيروت.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 133
تنبيه:هذه هي الدلائل الاجمالية لوجود الصانع، سترد تفاصيلها في الكتب الثلاثة.
اذا قلت: اريد بيان دلائل التوحيد ولو اجمالاً.
اقول: ان دلائل التوحيد اكثر بكثير من ان يضمها هذا الكتاب. وما تضمنته الآية الكريمة
(لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا) (الانبياء: 22) من برهان التمانع دليل كاف، ومنار ساطع على هذا المنهاج.
نعم! الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للالوهية.
ان تشابه آثار العالم، وتعانق اطرافه، واخذ بعضه بيد بعض، وتكميل بعضه انتظام البعض الآخر، وتجاوب الجوانب، وتلبية بعض لسؤال بعض، ونظر الكل الى نقطة واحدة، وحركة الكل بالانتظام على محور نظام واحد، تلوّح بوحدانية الصانع بل تصرح: بان صانع هذه الماكنة الواحدة واحد. وتتلو على الكل:
وفي كل شئ له آيــــة تدل علــى انه واحـــد
ان الابعاد الشاسعة غير المتناهية للآفاق صحائفُ كتاب العالم
والاثار التي لا تعد سطورُ كائنات الدهر
لقد طُبعت في لوح الطبيعة المحفوظ:
ان كل موجود لفظ مجسم حكيم.
لا شك ان الشاعر الفاضل "تحسين" 1 لا يقصد بغير المتناهي وغير المعدود معناه الحقيقي وانما امر نسبي.
اشارة: ان الصانع الجليل متصف بجميع الاوصاف الكمالية. لانه من المقرر: ان ما في المصنوع من فيض الكمال، مقتبس من ظل تجلي كمال صانعه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحسن ما هو اعلى بدرجات غير متناهية حتماً من عموم ما في الكائنات من الحسن والكمال والجلال. اذ الاحسان
_____________________
1 اصله من ألبانيا درس العلوم الحديثة في باريس ثم اصبح مديراً لدار الفنون (الجامعة) باستانبول. عالم فاضل وشاعر رقيق الاّ انه لم يطبع له ديوان. توفي سنة 1291 رومي. - المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 134
فرع لثروة المحسن ودليل عليها، والايجاد، لوجود الموجد، والايجاب لوجوب الموجب، والتحسين لحسن المحسن المناسب له.
وكذلك ان الصانع منزّه عن جميع النقائص، لأنها تنشأ من عدم استعداد ماهيات الماديات، وهو تعالى مجرد عن الماديات. وكذلك انه تعالى مقدس عن لوازم واوصاف نشأت من امكان ماهيات الكائنات، وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جلاله.

مقدمةان قلت: لقد ذكر في الديباجة ان الكلمة الثانية من كلمتي الشهادة شاهدة على الاولى ومشهودة.
الجواب: نعم ! ان أقوى منهج من بين المناهج المؤدية الى معرفة الله، كعبة الكمالات، واكثرها استقامة، هو المحجة البيضاء التي سلكها صاحب المدينة المنورة صلى الله عليه وسلم. ذلك المنهج الذي ترجمه لسانه الصادق المبارك العاكس كالمرآة لما في قلبه الشريف - الذي هو كمشكاة مطلة على عوالم الغيب - فهو صلى الله عليه وسلم روح الهداية، واصدق شاهد حي وافصح برهان ناطق واقطع حجة على الصانع الجليل؛ اذ من حيث الخليقة، ذاته برهان باهر، ومن حيث الحقيقة لسانه شاهد صادق.
نعم! ان محمداً صلى الله عليه وسلم حجة قاطعة على وجوده تعالى وعلى النبوة وعلى الحشر وعلى الحق وعلى الحقيقة. كما سيأتي تفصيله.
تنبيه : لا يلزم الدور؛ لان صدقه ثابت بادلة لاتتوقف على ادلة الصانع.
تمهيد: ان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم برهان على وجوده تعالى، لهذا يجب اثبات صدق هذا البرهان، ونتاجه وصحته صورة ومادةً، نحو:


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 135
المقصد الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد الذي دل على وجوب وجودك
اما بعد:
فياعاشق الحقيقة! ان كنت تتحرى الحقائق بمطالعة وجداني انا، فطهّر قلبك، تلك اللطيفة الربانية، من الصدأ، اي: الرغبة في المعارضة والخلاف.. والتزام طرف المخالف والمعارض.. واعذار النفس بارجاع اوهامك الى اصل لتحقيقها.. وطلب رؤية نتيجة المجموع في كل فردٍ، الذي يضعف بانفراده عن حمل النتيجة، فيجلب لك استعداداً سيئاً لردّ النتيجة.. او التطلع بطبيعة الصبيان، او سجية الاعداء، اي التشبث بحجج واهية.. او تقمص طبيعة المشتري الذي يتحرى العيوب والنقائص.. وامثالها من الامور.
فاصقل تلك المرآة وطهرها منها، ثم ابدا بالموازنة والمقابلة واجعل الشعلة الجوّالة الناتجة من امتزاج اكثر الامارات قرينة منوِّرة على اقلها، كي تتنور هذا القليل من اوهامك المظلمة ويندفع.
ثم استمع بقلب شهيد وبانصاف ورويّة، ولا تعترض حتى يبلغ الكلام أجله، فانه الى الختام جملة واحدة، حكم واحد، ومن بعد ذلك ان بقي لك ماتقول فاذكره.
استمع الى ما اقول فاني ابدأ بالاصغر: برهان النبوة مطلقاً، ثم الاكبر: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
اعلم! ان حكمة الصانع الجليل.. وعدم العبثية في افعاله.. ومراعاته النظام في اقل ما في العالم.. وعدم اهماله اخسّ مافيه.. وضرورة حاجة البشرية الى مرشد.. كل ذلك يستلزم قطعاً النبوة في نوع البشر.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 136
ان قلت: لم افهم هذا الاجمال، يرجى التفصيل:
اقول: اسمع، فانك تشاهد ان النبوة المطلقة التي هي بمثابة معدن نظام البشرية المادي والمعنوي، ومركز انتظام احوال كثير من الانواع التي ضمتها تحت تصرفها قوة العقل.. هذه النبوة المطلقة برهانها: رقي الانسان على الحيوانية في ثلاث نقط:النقطة الاولى:ادراك الانسان وكشفه عن الترتيب في الاشياء، الناشئ من العلل المترتبة المتسلسلة في الخلقة.. وقابليته العلمية والتركيبية ومعرفته الحاصلة من تحليله مركبات بذور كمالات الانسانية الى بسيطات، وارجاعها الى اصلها.. وقدرته على محاكاة الطبيعة،ومساوقة نواميس الله الجارية في الكون بصنعته ومهارته، بالسر الكامن في القاعدة: (بداية الفكر نهاية العمل، نهاية الفكر بداية العمل).فالانسان الذي هذه قابلياته، يدرك قصور نظره في صنعت، وزحمة الاوهام عليه، وافتقاره في جبلته الانسانية.. مما يدله على حاجته الماسة الى نبي مرشد، يحافظ على موازنة النظام المتقن في العالم.

النقطة الثانية: هي استعداد الانسان غير المتناهي، وآماله ورغباته غير المحصورة، وافكاره وتصوراته غير المحدودة، وقوته الشهوية والغضبية غيرالمحددّة.
فنرى الانسان يتأسفُ ويتأفف ويقول: ليت كذا وكذا، حتى لو منح ملايين السنين من العمر وتمتع بلذائذ الدنيا وحكم حكماً نافذاً في كل شئ.. وذلك بحكم اللاتناهية المغروزة في استعداده، فكأن عدم الرضا هذا يرمز ويشير الى ان الانسان مرشح للأبد، ومخلوق للسعادة الابدية. كي يتمكن من تحويل استعداده غير المحصور من طور القوة الى طور الفعل في عالم غير متناهٍ وغير محدود بحدود، واوسع بكثير من عالمه هذا.
ان عدم العبثية، وثبوت حقائق الاشياء تومئان الى: ان هذه الدنيا الدنية الضيقة المحصورة، وتزاحم كثير من الاعراض فيها والتي لاتخلو من التحاسد والاضطراب،


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #14
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 137
لاتسع كمالات الانسانية، بل تحتاج تلك الكمالات الى عالم ارحب لا تزاحم فيه، كي يتسنبل استعداد البشر وينمو نمواً كاملاً، فيكون منسجماً مع نظام العالم بانتظام احوال كمالاته.
ولقد اُومئ الى الحشر استطراداً، وسيُبرهن بالبرهان القاطع في موضعه. ولكن الذي اريد قوله هو:
ان استعداد الانسان مسدّد نحو الأبد. فان شئت فتأمل في جوهر الانسانية، وقيمة ناطقيته، ومقتضى استعداده، ثم انظر الى الخيال الذي هو اصغر خادم لجوهر الانسانية، واذهب اليه وقل: ايها الخيال السيد، أبشر فسيوهب لك عمراً يزيد على ملايين السنين مع سلطنة الدنيا وما فيها.. ولكن عاقبتك الفناء والعدم وعدم العودة الى الحياة. ثم انظر كيف يقابلك الخيال؟ أبالبشارة والسرور ام بالحسرة والندامة؟
بل ان جوهر الانسانية سيئنّ في اعماق الوجدان:
آه.. واحسرتاه.. على فقدان السعادة الابدية. وسيعنف الخيال ويزجره: يا هذا لا ترض بهذه الدنيا الفانية.
فياايها الاخ!
ان كانت سلطنة الدنيا الفانية لا تشبع خادم سلطان الانسانية او شاعره او صناعه او مصوره - وهو الخيال - ولا ترضيه، فكيف تشبعه وهو السيد الذي يعمل بين يديه الكثيرون من امثال ذلك الخادم؟
نعم انها لا تشبعه، ولن تشبعه الا السعادة الابدية المكنونة في صَدَف الحشر الجسماني.

النقطة الثالثة:
هي اعتدال مزاج الانسان، ولطافة طبعه، وميله الى الزينة، اي ميله الفطري الى العيش اللائق بالانسانية.
نعم ! ان الانسان لايعيش عيش الحيوانات، ولايسعه ذلك فهو محتاج لتحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه الى تلطيفها واتقانها بصنائع جمة، لا يقتدر هو


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 138
بانفراده عليها كلها، ولهذا احتاج الى الامتزاج مع ابناء جنسه، ليتشاركوا فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. ولكن لتجاوز قوى الانسانية على الاخرين - بسر عدم التحديد - تحتاج الجماعة الى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لان عقل كل واحد لا يكفي في درك العدالة، احتاج النوع الى وضع قوانين كلية.. ثم لمحافظة تأثيرها ودوامها، لابد من مقنن يجريها.. ثم لادامة حاكمية ذلك المقنن في الظاهر والباطن يحتاج الى امتياز وتفوق - مادة ومعنىً - و يحتاج ايضاً الى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم.. ثم لتأسيس اطاعة الاوامر وتامين اجتناب النواهي يحتاج الى ادامة تصور عظمة الصانع وصاحب الملك في الاذهان.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج الى مذكّر مكرِر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرِّر الاّ العبادة... وهذه العبادة توجه الافكار الى الصانع الحكيم، وهذا التوجه يؤسس الانقياد. والانقياد هو للايصال الى النظام الاكمل والارتباط به. وهذا النظام الاكمل يتولد من سر الحكمة، وسر الحكمة يشهد عليها اتقان الصنع وعدم العبثية.
فاذا علمت هذه الجهات الثلاث من تمايز الانسان عن سائر الحيوانات انتج لك بالضرورة: ان النبوة المطلقة في نوع البشر قطب بل مركز ومحور تدور عليه احوال البشر وذلك كالاتي:
دقق النظر في الجهة الاولى:
انه لما لم يكف ميل الانسان الطبيعي وسوق انسانيته، وقصر نظره، واختلاط الاوهام في طريق عقله.. احتاج البشر اشد الحاجة الى مرشد ومعلم.. فذلك المرشد هو النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تدبر في الجهة الثانية:
ان اللاتناهية المغروزة في الانسان، وميله الى التجاوز في طبيعته، وعدم تحدد قواه، وعدم انضباط آماله. هذه اللاتناهية في الميول والآمال لايسعها قانون البشر الذي لا ينطبق على قامة استعداده النامية كثمرة لميله الى الترقي الذي هو غصن من شجرة ميل الاستكمال في العالم.
فعدم كفاية هذا القانون البشرى الحاصل نتيجة تلاحق الافكار والتجارب التدريجية، لإنماء بذور ثمرة استعدادات الانسان، احتاج الى شريعة الهية حية خالدة تحقق له سعادة الدارين معاً مادةً ومعنىً، وتتوسع حسب قامة استعداداته ونموها...


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 139
فالذي اتى بالشريعة هو النبي صلى الله عليه وسلم.
اذا قلت: اننا نشاهد ان احوال الملحدين او ذوي الاديان المنحرفة تجري على وفق العدالة والانتظام.
الجواب: ان تلك العدالة والانتظام انما نشآ بتذكير اهل الدين وارشاداتهم. فاسس العدالة والفضيلة شيّدها الانبياء عليهم السلام. اي ان الانبياء هم الذين ارسوا تلك القواعد والاسس. ثم اخذ هؤلاء بالفضيلة وعملوا بها ما عملوا، زد على ذلك فان نظامهم - وكذا سعادتهم - ليس دائماً بل موقتاً، فهو ان كان قائماً ويستقيم من جهة فهو منحرف ومائل من جهات كثيرة. اي: مهما يبدو منتظماً في صورته ومادته ولفظه ومعاشه الاّ انه في سيرته ومعناه وروحه فاسد ومختل.
ايها الاخ! الآن بدأ دور الجهة الثالثة. تفكر جيداً في الآتي:
ان الافراط والتفريط في الاخلاق يفسدان الاستعدادات والمواهب. وهذا الافساد ينتج العبثية، وهذه العبثية مناقض للحكمة الالهية المهيمنة برعاية المصالح والحكم حتى على اصغر شئ في العالم.
ان مايقال من "مَلَكة معرِفة الحقوق" اي التحسس احساساً مادياً بضرر كل ماهو فاسد، وكذا مايقال من "ملكة رعاية الحقوق" الحاصلة من تنبيه الافكار العامة وبث الوعى فيها. هذان الامران يجعلهما الملحدون بديلاً عن الشريعة الالهية. ان تصورهم هذا واستغناءهم عن الشريعة توهم باطل ليس الاّ. لأنه لم يظهر لحد الآن شيء من هذا الأمر في الدنيا وقد هرمت، بل حتى مقدماته! وانما صح العكس، اذ كلما رقت المحاسن رقت المساوي ايضاً وتزينت بارغب زي واخدعه.
نعم! ان نواميس الحكمة لا تستغني عن دساتير الحكومة، كما تحتاج البشرية اشد الحاجة الى قوانين الشريعة والفضيلة الحاكمة على الوجدان.
وهكذا فملكة تعديل الاخلاق الموهومة لا تكفي للمحافظة على القوى الثلاثة في الحكمة والعفة والشجاعة، لذا فالانسان بالضرورة محتاج الى نبي يمسك بميزان العدالة الالهية النافذة والمؤثرة في الوجدان والطبائع.
اشارة: لقد ظهر الوف الانبياء عليهم السلام واعلنوا النبوة واثبتوا نبوتهم بمعجزاتهم التي تربو على الالوف. فجميع اولئك الانبياء الكرام يعلنون بمعجزاتهم


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 140
بلسان واحد وجود النبوة المطلقة في نوع البشر، فهي برهان قاطع على النبوة المطلقة، صغرى البراهين. وهذا مايسمى بالتواتر بالمعنى او سمّوه ماشئتم من الاسماء، فهو دليل قوى.
تنبيه:
ان جهة الوحدة لهذه المحاكمات العقلية هي :
انه اذ اُخذت العلوم جميعها ونُظر الى ما كشفته بقواعدها الكلية من اتساق وانتظام.. ودُقق النظر في افعال واهية وامور ضعيفة تترابط وتتصل بخميرة تجمع مصالحها الجزئية المتفرقة، تلك هي اللذة او المحبة او امر آخر اودعته العناية الالهية في تلك الافعال والامور كما في المأكل والمنكح.. واذا عُلم عدم العبثية الثابت بشهادة الحكمة، وعدم الاهمال... فان النتيجة الحاصلة بالاستقراء التام هي:
ان النبوة التي هي قطب المصالح الكلية ومحورها ومعدن حياتها ضرورية لنوع البشر. فلو لم تكن النبوة لهلك النوع البشري. اذ كأنه ألقي من عالم مختل الى عالم منظم، فيخل بالقوانين الجارية العامة..
تنبيه:
ايها الأخ! فلو قبل هذا الفرض فكيف تجابه الانسانية سائر المخلوقات في العالم؟.. اذا انتقش في ذهنك صغرى براهين الصانع، فتهيأ لندخل الى مبحث كبرى براهينه وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
اشارة وارشاد:
البرهان الاكبر صادق. فاذا ما طالعت آثار الانبياء المنقوشة في صحيفة العبر في العالم ، واستمعت الى احوالهم الجارية بلسان التاريخ واستطعت ان تجرد الحقيقة - اي جهة الوحدة - من تأثير صور الزمان والمكان.. ترى: ان اموراً دفعت البشرية الى تسميتهم بالانبياء هي:
ان حقوق الله وحقوق العباد التي هي ضياء العناية الالهية وشعلة المحاسن المجردة، قد اتخذها الانبياء عليهم السلام دستور حركتهم.. ومعاملة الانبياء مع اممهم.. وتلقي الامم لهم.. وتركهم منافعهم الشخصية لاجل دعوتهم.. واموراً اخرى غيرها دفعت البشرية الى اطلاق النبوة عليهم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 141
اما الاسس التي هي مدار النبوة فهي تظهر باكمل وجه واظهره فيه صلى الله عليه وسلم، اذ هو استاذ ابناء البشر في سن كمال البشر، ومنبع العلوم العالية في مدرسة جزيرة العرب ومعلهما.
بمعنى انه بالاستقراء التام ولاسيما في النوع الواحد، ولاسيما بتأييد القياس الاولوي، وباعانة القياس الخفي المبني على الانتظام المطرد تنتج: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وبتجريد الخصوصيات المسماة بتنقيح المناط، فان جميع الانبياء عليهم السلام، يشهدون بلسان معجزاتهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم البرهان الباهر على وجود الصانع الجليل.

اعتذار:
اني لا اورد كلامي في جمل قصيرة، فتكون غامضة مع شئ من الاغلاق، اذ لما كانت هذه الحقائق قد مدت جذورها في كل جهة فان المسألة تطول، لذا لا اريد تجزئة صورة المسألة والاخلال بها وايلام الحقيقة. وانما اريد احاطة الحقيقة بسور دائري حوله، كي تنحصر الحقيقة ولا تفلت، فان لم استطع مسكها فليمسكها غيري. وان اعذرتموني فبها ونعمت، والاّ فكلٌ حرّ فيما يراه، ولا سبيل الى الاكراه .


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 142
"براهين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم"

مقدمة
ان كل حال من احواله صلى الله عليه وسلم، وكل حركة من حركاته دليل على صدقه .
نعم! ان عدم التردد في كل حركة من حركاته، وعدم مبالاته بالمعترضين، وعدم تخوفه من المخالفين.. شاهد على صدقه وجديته.
وان اصابته روح الحقيقة في اوامره كلها تدل على انه على الحق المبين.
نحصل من هذا: انه في الوقت الذي هو مبرأ من التخوف والتردد والاضطراب وامثالها من الامور التي تومئ الى الحيلة وعدم الثقة وفقدان الاطمئنان، تراه يلفت نظر اهل الدقة الى كل فعل من افعاله والى كل طور من اطواره، يلفتهم بالمبدأ على صدقه وفي المنتهى على اصابته الحق؛ اذ يعمل في اخطر المواقع دون تحرج وبقوة اطمئنان بالغ، ومن بعدذلك بلوغه الهدف في الختام بتأسيسه القواعد الحية المثمرة لسعادة الدارين، ولاسيما اذا لوحظ مجموع حركاته وامتزاجا، فالجدية واصابته الحق تشعان كالشعلة الجوالة، ويتجلى لعينك برهان نبوته من انعكاساتها وموازناتها.
اشارة: ان الزمان الماضي والزمان الحاضر - اي عصر السعادة النبوية - والمستقبل يتضمنان براهين نيّرة على النبوة، ويرددان بلسان واحد برهان ذاته صلى الله عليه وسلم بانه معدن الاخلاق العالية وداعي الصدق ودلال النبوة. فهذه الازمنة تدل وتعلن عن نبوته وتبينها حتى لمن فقد بصره، ولهذا سنطالع هذه الصحف الثلاث والمسالة العظمى من ذلك الكتاب.. وهي ذاته المباركة صلى الله عليه وسلم، فنزوره ونبين مدّعانا الذي هو البرهان الاكبر.
وبناء على هذه النقاط فمسالك النبوة اربعة. والخامسة منها مشهورة مستورة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 143
المسلك الاول للنبوة
يعني لا بد من معرفة اربع نكت لنرى ذاته الشريفة:
احداها: انه " ليس الكحل كالتكحل" اي لا يصل الصنعي والتصنعي - ولو كانا على اكمل الوجوه - مرتبة الطبيعي والفطري، ولا يقوم مقامه ، بل تومئ فلتات هيئته العامة الى التصنع والتكلف.
ثانيتها: ان الاخلاق العالية انما تتصل بارض الحقيقة بـ "الجدية" وان ادامة حياتها وانتظام مجموعها انما هي بـ"الصدق". ومتى ما انقطعت عرى الصدق والجدية منها صارت كهشيم تذروه الرياح.
ثالثتها:من القواعد وجود الميل والجذب في الامور المتناسبة ووجود الدفع والتنافر في الامور المتضادة، فكما ان هذه القاعدة جارية في الماديات، جارية ايضاً في الاخلاق والمعنويات.
رابعتها: للكل حكمٌ ليس لكلٍ.. ان آثار محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته المباركة وتاريخ حياته تشهد - مع تسليم اعدائه - بانه لعلى خلق عظيم، وانه قد اجتمعت فيه الخصال العالية كافة. ومن شأن امتزاج كثرة من تلك الاخلاق وتجمعها واحاطتها، توليد عزة النفس،التي تولد شرفاً ووقاراً يترفعان عن سفساف الامور، كترفع الملائكة وتنزههم عن الاختلاط بالشياطين، فالاخلاق السامية كذلك لاتسمح اصلاً بتداخل الحيلة والكذب بينها، بل تتنزه وتتبرأ وتترفع عنها، بحكمة التضاد فيما بينها.
ثم ان حياة هذه الاخلاق الرفيعة وروحها هي: الصدق واصابة الحق، فهما يضيئان كالشعلة المنورة ويعلنان عنها.
ايها الاخ! ألا ترى ان الشخص المشتهر بالشجاعة وحدها يترفع عن الكذب، لئلا يخل بالمقام الذي تعطيه تلك الصنعة، فكيف اذا اجتمعت جميع الخصال الرفيعة؟ نعم، للكل حكم ليس لكلٍ.
نشاهد في الوقت الحاضر: ان المسافة بين الصدق والكذب لاتتجاوز الاصبع، فكلاهما يباعان في سوق واحدة، ولكن لكل زمان حكمه، اذ لم يحدث قط في أي وقت مضى ان اتسعت الشقة بين الصدق والكذب اتساعه الذي حدث في عصر السعادة النبوية. فقد انجلى الصدق ببهائه الحقيقي وبكمال الاحتشام والهيبة واعتلى


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 144
محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الامين اعلى عليي الصادقين، واوقع انقلاباً عظيماً في العالم فاظهر بُعدَ الصدق عن الكذب بُعد مابين المشرق والمغرب. فراج سوق الصدق ومتاعه في ذلك القرن.
اما الكذب الشبيه باشلاء الاموات والجثث. فقد ظهر قبحه وسماجته، وتردّى بمن تمسك به من امثال مسيلمة الكذاب الى اسفل سافلي الانسانية. فكسد سوقه ولم ترج بضاعته في ذلك القرن.
وهكذا فمن طبائع العرب الاعتزاز والتفاخر، والرغبة في الرائج من المتاع، لذا تسارعوا وتسابقوا للتجمل بالصدق والبعد عن الكذب، ونشروا راية العدل على العالمين. ومن هنا نشأت عدالة الصحابة عقلاً. اذا انعم الانسان النظر في السيرة والتاريخ والآثار، ودقق حاله صلى الله عليه وسلم من الرابعة من عمره الى الاربعين، مع ان شأن الشبابية وتوقد الحرارة الغريزية تظهر ما يخفى، وتلقى الى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحيل، تراه صلى الله عليه وسلم قد تدرج في سنيه وعاشر باستقامة كاملة، ومتانة بالغة، وعفة تامة، مع اطراد وانتظام، وما اومأ حالٌ من احواله الى حيله، لاسيما في مقابلة المعاندين الاذكياء.
وبينما تراه صلى الله عليه وسلم كذلك اذ تنظر اليه وهو على راس اربعين سنة الذي من شأنه جعل الحالات مَلَكة والعادات طبيعة ثابتة لاتخالف، قد اوقع انقلاباً عظيماً في العالم.. فما هو الاّ من الله.
فمن لم يصدق انه من الحق وعلى الحقيقة المحضة، فقد اختفى اذاً في ذهنه سوفسطائي. الا ترى انه صلى الله عليه وسلم كيف كان حاله في امثال واقعة الغار الذي انقطع بحسب العادة امل الخلاص، اذ يتصرف بكمال الوثوق وغاية الاطمئنان والجدية..
كل ذلك شاهد كاف على نبوته وجديته ودليل قاطع على تمسكه بالحق.
المسلك الثاني
ان صحيفة الماضي برهان على نبوته، بملاحظة اربع نكت:
احداها: ان من يأخذ اساسات علم وفن - او في القصص - ويعرف روحه والعقد الحياتية فيه ويحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدّعاه عليها، فان ذلك يدل على مهارته وحذاقته في ذلك العلم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 145
ثانيتها: ايها الاخ ! ان كنت عارفاً بطبيعة البشر، لا ترى احداً يتجاسر بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو حقيراً، في قوم ولو قليلين، في دعوىً ولو حقيرة، بحيثية ولو ضعيفة. فكيف بمن له حيثية في غاية العظمة، وله دعوى في غاية الجلالة، ويعيش بين قوم في غاية الكثرة، ويقابله عناد في غاية الشدة، ومع انه امّي لايقرأ ولايكتب، الاّ انه يبحث في امور لايستقل فيها العقل وحده، ويظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الاشهاد.. افلا يدل هذا على صدقه؟
ثالثتها: ان كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدنيين - بتعليم العادات والاحوال وتلقين الوقوعات والافعال - مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فلابد لمن يحاكم محاكمة عقلية، ويتحرى حال البدويين ان يفرض نفسه في تلك البادية.
فان شئت راجع المقدمة الثانية، فقد اوضحت هذه النكتة.
رابعتها: لو ناظر امىّ علماء علم، ثم بيّن رأيه في مسائله مصدقاً في مظان الاتفاق، ومصححاً في مطارح الاختلاف، يدلك ذلك على تفوقه، وان علمه وهبي لا كسبي.
فبناء على هذه النكتة نقول:
ان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع اميته، كأنه بالروح الجوالة الطليقة طوى الزمان والمكان، فدخل في اعماق الماضي، وبيّن كالمشاهد لأحوال الانبياء عليهم السلام، وشرح اسرارهم على رؤوس العالم، في دعوى عظيمة تجلب اليها انظار الاذكياء. وقد قص قصصهم بلا مبالاة ولا تردد وفي غاية الثقة والاطمئنان، واخذ العقد الحياتية فيها واساساتها، مقدمة لمدّعاه مصدقاً فيما اتفقت عليه الكتب السالفة ومصححاً فيما اختلفت فيه. فثبت ان حاله هذه دليل على نبوته.
ان مجموع دلائل نبوة الانبياء عليهم السلام، دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وجميع معجزاتهم معجزة معنوية له.
ايها الاخ!
قد يحل القَسَم محل البرهان، لانه يتضمن البرهان لذا: [والذي قص عليه القصص للحصص، وسيّر روحه في اعماق الماضي وفي شواهق المستقبل، فكشف له


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 146
الاسرار في زوايا الواقعات، ان نظره النقاد ادق من ان يُدلَّس عليه، ومسلكه الحق اغنى من ان يُدلِسَ على الناس].
نعم! ان الخيال لايستطيع ان يظهر نفسه حقيقة لنور نظره صلى الله عليه وسلم، ومسلكه الحق اغنى من ان يدلس او يغالط الناس.

المسلك الثالث
في بيان صحيفة الحال الحاضرة - اعني عصر السعادة النبوية - فها هنا ايضاً اربع نكت؛ ونقطة لا بد من انعام النظر فيها:
احداها: انك اذا تأملت في العالم ترى انه قد يتعسر ويستشكل رفع عادة ولو حقيرة، في قوم ولو قليلين، أو خصلة ولو ضعيفة في طائفة ولو ذليلين، على ملك ولو عظيماً، بهمة ولو شديدة، في زمان مديد بزحمة كثيرة، فكيف انت بمن لم يكن حاكماً، تشبث في زمان قليل بهمة جزئية بالنسبة الى المفعول، وقلع عادات ورفع اخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستأنست بها نهاية استئناس واستمرت غاية استمرار، فأرسى فجأة بدلها عادات واخلاقاً تكملت دفعة في قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب، أفلا تراه خارقاً للعادات؟ فان لم تصدق بهذا فسأورد اسمك في قائمة السوفسطائيين.
ثانيتها: هي ان الدولة شخص معنوي، تشكُّلها تدريجي - كنمو الطفل - وغلبتها للدول العتيقة - التي صارت احكامها كالطبيعة الثابتة لملتها - متمهلة تدريجية ايضاً. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادة تشكل الدول، تشكيل محمد صلى الله عليه وسلم لحكومة عظيمة، في زمان قصير، وغلبتها للدول العظمى دفعة، مع ابقاء حاكميته لا على الظاهر فقط بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً. فان لم تستطع رؤية هذه الامور الخارقة، فانت في طائفة العميان!
ثالثتها: هي انه يمكن بالقهر والجبر تحكم ظاهري، وتسلط سطحي، لكن الغلبة على الافكار والتأثير بالقاء حلاوته في الارواح والتسلط على الطبائع مع محافظة حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون الاّ من خوارق العادات. وليس الاّ الخاصة الممتازة للنبوة. فان لم تعرف هذه الحقيقة فانت غريب عنها.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #15
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 147
رابعتها: هي ان تدوير افكار العموم وارشادها بحيل الترهيب والترغيب، انما يكون تأثيرها جزئياً سطحياً موقتاً يسدّ طريق المحاكمة العقلية في زمان. أما من نفذ في اعماق القلوب بارشاده، وهيج دقائق الحسيات، وكشف اكمام الاستعدادات، وايقظ السجايا الكامنة، واظهر الخصال المستورة، وجعل جوهر انسانيتهم فوارة، وابرز قيمة ناطقيتهم، فانما هو مقتبس من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة.
نعم! ان صقل القلوب وتطهيرها من امثال القساوة المتجسمة في وأد البنات، وجعل تلك القلوب ترق وتترحم حتى على النمل الصغير، انما هوانقلاب عظيم. لاسيما لدى اولئك البدويين. بحيث ان ارباب البصائر يصدقونه حتماً، ويقولون انه خارق للعادة لا يشملها قانون طبيعي.
فان كنت ذا بصيرة تصدّق هذا بلا ريب.
والآن استمع الى هذه "النقطة":
ان تاريخ العالم يشهد ان الداهي الفريد، هو الذي اقتدر على انعاش استعداد عمومي، وايقاظ خصلة عمومية، والتسبب لانكشاف حس عمومي، اذ من لم يوقظ هكذا حساً نائماً يكن سعيه هباءً منثوراً ومؤقتاً لا يدوم.
وهكذا فان اعظم الدهاة قد وفق لايقاظ واحد او اثنين او ثلاث من هذه الحسيات العمومية: كحس الحرية، وكحس الحمية الملية، وحس المحبة. افلا يكون اذاً من الخوارق ايقاظ الوف من الحسيات العالية المستورة النائمة، وجعلها دفعةً فوارة منكشفة في قوم بدويين منتشرين في جزيرة العرب، تلك الصحراء الواسعة.
ان من لم يُدخل هذه النقطة في عقله، نتحداه بجزيرة العرب فهي ماثلة أمام عينه.. بعد ثلاثة عشر عصراً، وبعد ترقي البشر في مدارج التمدن!. فلينتخب المعاندون مئة من اكمل الفلاسفة، وليسعوا مائة سنة، فهل يفعلون جزءاً من مئة جزء مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة الى زمانه؟
اشارة: ان من اراد التوفيق يلزمه مصافاةٍ مع عادات الله، ومعارفة مع قوانين الفطرة، ومناسبة مع روابط الهيئة الاجتماعية. والاّ اجابته الفطرة بعدم الموفقية جواب اسكات! اما النواميس العامة الجارية فتقذف من يخالفها الى صحراء العدم. تأمل في


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 148
هذا، تر: ان حقائق الشريعة التي هي قوانين دقيقة عميقة جارية في فطرة العالم، كم حافظت على موازنة قوانين الفطرة وروابط الاجتماعيات التي بدقتها لاتتراءى لعقول اولئك القوم!!نعم! ان المحافظة على حقائق الشريعة، في هذه الاعصار المديدة، مع تلك المصادمات العظيمة بل انكشافها اكثر، يدل على ان مسلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مؤسس على الحق الذي لايزول.فاذا عرفت هذه النكت الاربع مع هذه النقطة، فاستمع بذهن متفتح واسع يملك قوة في المحاكمة العقلية ودقة في الملاحظة، الى ما يأتي:ان محمداً الهاشمي صلى الله عليه وسلم مع انه امي لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوته الظاهرية وعدم ميله الى تحكم وسلطنة.. قد تشبث بقلبه - بوثوق واطمئنان، في موقع في غاية الخطر وفي مقام مهم - بامر عظيم، فغلب على الافكار، وتحبب الى الارواح، وتسلط على الطبائع وقلعمن اعماق قلوبهم العادات والاخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الاحكام والقوة - كأنها اختلطت بلحمهم ودمهم - اخلاقاً عالية وعادات حسنة.. وقد بدّل قساوة قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة واظهر جوهر انسانيتهم، ثم اخرجهم من زوايا النسيان ورقى بهم الى اوج المدنية وصيّرهم معلمي عالمهم، واسس لهم دولة عظيمة في زمن قليل. فاصبحت كالشعلة الجوالة والنور النوار بل كعصا موسى تبتلع سائر الدول وتمحوها. فاظهر صدقه ونبوته وتمسكه بالحق الى كل مَن لم تعم بصيرته.
فان لم تر صدقه ذاك فسوف يشطب اسمك من سجل الانسان!

المسلك الرابعفي مسألة صحيفة المستقبل، لاسيما مسألة الشريعة. لابد من ملاحظة اربع نكت فيها:
احداها: ان شخصاً لايكون متخصصاً، وصاحب مَلَكة، في اربعة علوم او خمسة منها، الاّ اذا كان خارقاً.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 149
ثانيتها: ان مسألة واحدة قد تتفاوت بصدورها عن متكلمين، اذ احدهما لما نظر الى مبدئها ومنتهاها، ولاحظ ملاءمتها مع السياق والسباق، واستحضر مناسبتها مع اخواتها، ورأى موضعاً مناسباً فاحسن استعمالها فيه، وتحرى ارضاً منبتةً فزرعها فيها.. مما دل كلامه على ماهريته وحذاقته.. اما الاخر فلانه اهمل هذه النقاط، دل كلامه في المسالة على سطحيته وتقليده وجهله، علماً ان الكلام هو الكلام نفسه. فان لم يميّز عقلك هذا فروحك تحس به.ثالثتها: ان كثيراً من الكشوف التي كانت تعدّ من الخوارق قبل عصرين، لو كانت في هذا العصر لعدّت من الامور الاعتيادية، وذلك بسبب تكمل المبادئ والوسائط، حتى يلعب بها الصبيان كما ذكر في المقدمة الثانية. استحضر هذا واجعله نصب عينك، ثم ارجع بخيالك الى ما قبل ثلاثة عشر قرناً وتجرد من التأثيراتالزمانية والمكانية، وانظر الى الامور في جزيرة العرب تر:
انساناً وحيداً لاخبرة سابقة له في امور الانظمة والمجتمع، ولم تعنه احوال زمانه وبيئته، الاّ انه اسس نظاماً، وارسى عدالة، تلك هي الشريعة، التي هي كخلاصة جميع قوانين العلوم وكأنها حصيلة تجارب كثيرة، بل لايبلغ ادراكها الذكَاء مهما توسع، تلك الشريعة متوجهة الى الازل، معلنة انها آتية من الكلام الازلي، ومحققة سعادة الدارين.
فان انصفت تجد ان هذا ليس في طوق بشر، في ذلك الزمان، بل خارج عن طوق النوع البشري قاطبة. الاّ اذا افسدت اوهامٌ سيئة بالتغلغل في الماديات طرف فطرتك المتوجهة نحو هذه الحقائق.
رابعتها: كما ذكر في المقدمة العاشرة وكما سيأتي في جواب نقطة الاعتراض كالاتي: ان الارشاد انما يكون نافعاً اذا كان على درجة استعداد افكار الجمهور الاكثر، والجمهور باعتبار الكثرة الكاثرة منه عوام والعوام لايقتدرون على رؤية الحقيقة عريانة، ولايستأنسون بها الاّ بلباس خيالهم المألوف. فلهذا صورت الشريعة تلك الحقائق بمتشابهات وتشبيهات فابهمت واطلقت في مسائل العلوم الكونية، التي يعتقد الجمهور بالحس الظاهري خلاف الواقع ضرورياً. وذلك لعدم انعقاد المبادي والوسائط.. ولكن مع ذلك اومأت الى الحقيقة بنصب أمارات.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 150
تنبيه: ان الصدق يلمع في كل فعل وكل حال من افعاله واحواله صلى الله عليه وسلم. الاّ ان هذا لايلزم ان تكون افعاله واحواله خارقة، لان اظهار الخوارق والمعجزات لتصديق المدّعى ان لم تكن حاجة اليه، يكون الانقياد لقوانين عادات الله بالانسياق للنواميس الجارية العامة.
ايها الاخ! ان هذا التنبيه من طائفة مقدمة المسلك الاول، الاّ انه بسبب النسيان ضاع في الطريق فدخل هاهنا.
تفطن لهذه النكت، ونحن ندخل النتيجة:
ان الديانة والشريعة الاسلامية المؤسسة على البرهان ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد الحياتية في جميع العلوم الاساسية، منها: فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفن تدبير الجسد، وعلم ادارة المنزل، وفن سياسة المدنية، وعلم انظمة العالم، وفن الحقوق، وعلم المعاملات، وفن الآداب الاجتماعية، وكذا وكذا...
فالشريعة فسّرت واوضحت في مواقع اللزوم ومظان الاحتياج، وفيما لا يلزم او لم تستعد له الاذهان او لم يساعد له الزمان، اجملتْ بخلاصة ووضعت اساساً، احالت الاستنباط منه وتفريعه ونشو نمائه على مشورة العقول. والحال لايوجد في شخص كل هذه العلوم، ولا ثلثها بعد ثلاثة عشر عصراً، في المواقع المتمدنة، ولا في الاذكياء. فمن زين وجدانه بالانصاف يصدق بان حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائماً ولاسيما في ذلك الزمان.
والفضل ما شهدت به الاعداء:
فهذا "كارليل" 1 فيلسوف العالم الجديد، نقلاً عن احد حكماء الالمان واحد سياسييه، انه قال بعد ما انعم النظر في حقائق الاسلام: "ان كان الاسلام هكذا فيا
_____________________
1 توماس كارلايل (1795 - 1881) كاتب ومؤرخ وفيلسوف انكليزي، اراد والده البنّاء ان يكون إبنه قسيساً إلاّ ان كثرة شكوكه حول الدين حالت دون ذلك، مرّ بمعاناة نفسية دامت زهاء سبع سنوات، انتهى به المطاف بالاستقرار على مسائل الايمان. ألقى سلسلة من المحاضرات، تناول في احداها عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه وبيّن انه النبي الحق ودحض افتراءات كثيرة. جمع تلك المحاضرات في كتابه المشهور »الابطال«. اوصى بتوزيع ثرواته الى الطلاب الفقراء، وايداع مكتبته في جامعة هارفرد الامريكية. ترك آثاراً عميقة في ثقافة الانكليز ونظرتهم الى العالم(باختصارمن YENI LUGAT عن دائرة المعارف التركية).



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 151
ترى أيمكن للمدنية الحاضرة ان تعيش ضمن اطار الاسلام؟. فاجاب نفسه: نعم." بل المحققون الآن يعيشون ضمن تلك الدائرة.
ثم قال كارليل: "ماكاد يظهر الاسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية وكل مالم يكن بحق فانها حطب ميت أكلته نار الاسلام فذهب".
نعم، انه منذ ثلاثة عشر قرناً حافظ الاسلام على حقائقه رغم التحولات والانقلابات والمصادمات بل كانت تلك مخفِفةً عن كاهله مما تساقط من تراب الاوهام والريوب.
نعم ان الوجود والحال الحاضرة للعالم شاهد على هذا.
ولا بد من اخذ مقدمات المقالة الاولى بنظر الاعتبار.
ان قلت : ان معرفة خلاصةٍ وفذلكةٍ من كل علم ممكن لشخص.
الجواب : نعم، لا.. لأن الخلاصة بحسن الاصابة في موقعها المناسب، واستعمالها في ارض منبتة، مع امور ونقاط ذُكرت سابقاً، تشفّ كالزجاجة عن مَلَكة تامة في ذلك العلم واطلاع تام فيه. فتكون الخلاصة في حكم العلم، ولا يمكن لشخص امثال هذه.
ان كلاماً واحداً يصدر عن متكلمين اثنين، يدل - لبعض الامور المذكورة غير المسموعة - على جهل هذا، وحذاقة ذاك.
يا اخا الوجدان! يامن يرافقني بخياله من اول منازل هذا الكتاب! انظر بمنظار واسع ووازن الامور وكوّن في خيالك مجلساً رفيعاً لاجراء محاكمات عقلية. واستحضر ما تنتقيه من المقدمات الاثنتي عشرة. ثم شاور القواعد الاتية:
ان شخصاً لايتخصص في علوم كثيرة... وان كلاماً واحداً يتفاوت من شخصين.. وان العلوم نتيجة تلاحق الافكار، وتتكمل بمرور الزمن.. وان البديهي في المستقبل قد يكون نظرياً في الماضي.. وان معلوم المدني قد يكون مجهول البدوي.. وان قياس حال الماضي على المستقبل قياس خادع مضل.. وان بساطة اهل البادية والوبر لا تتحمل حيل ودسائس اهل المدينة والمدر. نعم، ان الحيل ربما تتستر تحت حجاب المدنية.. وان كثيراً من العلوم انما يتحصل بتلقين العادات والوقوعات..


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 152
وان نور نظر البشر لا ينفذ في المستقبل ولايرى الكيفيات المخصوصة به.. وان لقانون البشر عمراً طبيعياً ينقطع وينتهي كما ينتهي عمره.. وان للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في احوال النفوس.. وان كثيراً من الخوارق الماضية قد يكون اعتيادياً الآن بسبب تكمل المبادئ.. وان الذكاء ولو كان خارقاً لا يكفي في كمال علمٍ، فكيف في علوم عدة!
فيا ايها الأخ! شاور هذه القواعد، ثم جرد نفسك، وانزع عنك لباس الخيالات المحيطة والاوهام الزمانية، ثم غص من ساحل هذا العصر في بحر الزمان، حتى تخرج الى جزيرة عصرالسعادة النبوية.. فأول ما يتجلى لعينك؛ انك ترى:انساناً وحيداً لا ناصر له ولا سلطان، يبارز العالم وحده، وقد حمل على كاهله حقيقة اجلّ من كرة الارض، واخذ بيده شريعة هي كافلة لسعادة الناس كافة. وتلك الشريعة كأنها زبة جميع العلوم الالهية وخلاصة الفنون الحقيقية. وتلك الشريعة ذات حياة - لا كاللباس بل كالجلد - تتوسع بنمو استعداد البشر وتثمر سعادة الدارين، وتنظم احوال نوع البشر كأنهم في مجلس واحد. فإن سألت قوانينها: من أين الى أين؟ لقالت بلسان اعجازها: نجئ من الكلام الازلى، ونرافق فكر البشر لضمان سلامته ونتوجه الى الابد. وبعد ما نقطع هذه الدنيا الفانية، تبقى معنوياتنا دليلاً وغذاءً روحياً للبشرية، مع اننا نفارقهم صورة.

خاتمة:ان الشبهات والريوب منبعها ثلاثة امور وهي: انك لو تجاهلت عن مقصود الشارع، وعن كون الارشاد بنسبة استعداد الافكار، واعترضت بمغالطة - هي وكر الاوهام السيئة - بان القرآن الكريم الذي هو اساس الشريعة فيه ثلاث نقاط:
اولاها: وجود المتشابهات والمشكلات في القرآن، وهذا مناف لاعجازه المؤسس على البلاغة، المبنية على ظهور البيان ووضوح الافادة.
ثانيتها: الاطلاق والابهام في العلوم الكونية، مع انه مناف لمسلك التعليم والارشاد الذي هو المقصود الحقيقي للشريعة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 153
ثالثتها: ان قسماً من ظواهر القرآن أمَيل الى خلاف الدليل العقلي، فيحتمل خلاف الواقع، وهو مخالف لطريق القرآن الذي هو التحقيق والهداية.
ايها الاخ! اقول وبالله التوفيق، ان ما تتصورونه سبباً للنقص - في هذه النقاط الثلاثة - ليس كذلك، بل هو اصدق شاهد على اعجاز القرآن.
اما الجواب عن الريب الاول: وقد رأيت هذا الجواب ضمناً مرتين:
اعلم ان الجمهور الاكثر هم عوام، والاقل تابع للاكثر في نظر الشارع. لان الخطاب المتوجه نحو العوام يستفيد منه الخواص ويأخذون حصتهم منه، ولوعكس لبقي العوام محرومين. وان جمهور العوام لايجردون اذهانهم عن المألوفات والتخيلات، فلا يقتدرون على درك الحقائق المجردة والمعقولات الصرفة الاّ بمنظار متخيلاتهم وتصويرها بصورة مألوفاتهم. لكن بشرط ان لا يبقى نظرهم على الصورة نفسها حتى يلزم المحال، كالجسمية او الجهة بل يمر نظرهم الى الحقائق.
مثلاً: ان الجمهور انمايتصورون حقيقة التصرف الالهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير السلطنة، كما في قوله سبحانه وتعالى :
(الرحـمن على العرش استـوى) (طه :5)، واذ كانت حسيات الجمهور في هذا المركز، فالذي يقتضيه منهج البلاغة ويستلزمه طريق الارشاد، رعاية افهامهم واحترام حسياتهم ومماشاة عقولهم ومراعاة افكارهم. فهذه المنازل التي يراعى فيها عقول البشر ويحترم تسمى بـ "التنزلات الالهية" فهذا التنزل لتأنيس اذهانهم. راجع المقدمة العاشرة.
فلهذا وضع صور المتشابهات التي تراعي الجمهور المقيدين باحاسيسهم ومتخيلاتهم منظاراً على نظرهم لرؤية الحقائق المجردة. ولهذا فقد اكثر الناس في كلامهم من الاستعارات لتصور المعاني العميقة او لتصوير المعاني المتفرقة، في صورة سهلة بسيطة، بمعنى ان هذه المتشابهات من اكثر اقسام الاستعارات غموضاً، اذ انها صور مثالية لأخفى الحقائق الغامضة، بمعنى ان الاشكال انما هو من دقة المعنى وعمقه لا من اغلاق اللفظ وتعقيده.
فيا ايها المرتاب! انظر بانصاف ! الا يكون من عين البلاغة - التي هي مطابقة مقتضى الحال - تقريب مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن افكار الناس ولاسيما


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 154
العوام، تقريبها الى افهام العوام بطريق سهل واضح.. اهذا مطابق المعنى بوضوح تام أم الوهم الذي في ذهنك؟ كن انت الحاكم في هذا.
اما الجواب عن الريب الثاني:
وقد مرّ تفصيله في المقدمة الثانية.
فاعلم ان في شجرة العالم ميل الاستكمال، وتشعب منه في الانسان ميل الترقي، وقد تشكلت العلوم التي هي كدرجات سلم الترقي من ثمرات ميل الترقي بالتجارب الكثيرة وتلاحق الافكار. هذه العلوم مترتبة ومتعاونة ومتسلسلة، بحيث لاينعقد المتأخر الاّ بعد تشكل المتقدم، ولا يكون المتقدم متقدمةً للمؤخر الاّ بعد صيرورته كالعلوم المتعارفة.
فبناء على هذا السر: فان العلم الذي تولد وظهر في هذا الزمان نتيجة تجارب كثيرة لو كان قبل عشرة عصور، وحاول احدٌ أن يفهّمه للناس لشوش عليهم واوقعهم في السفسطة والمغلطة.فمثلاً: لو قيل "انظروا الى سكن الشمس وحركة الارض واجتماع مليون حيوان في قطرة، لتتصوروا عظمة الصانع!" وجمهور العوام بسبب الحس الظاهري او غلط الحس يرون خلاف ما قيل لهم من البديهيات، اذاً لانساقوا الى التكذيب او مغالطة نفوسهم، او المكابرة تجاه شئ مخصوص، والحال ان تشويش الاذهان ـ لاسيما في مقدار عشرة اعصر مناف لمنهاج الارشاد.تنبيه:
ان امثال هذه المسائل لاتقاس بالنظريات التي تظهر في المستقبل لان الحس الظاهري لايتعلق بالاشياء التي تعود للمستقبل، لذا فاحتمال الجهتين وارد. لانه ضمن دائرة الممكنات، فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها. فحقها الصريح التصريح بها، ولكن "مانحن فيه" لماخرج من درجة الامكان والاحتمال الى درجة البداهة اي الى الجهل المركب، فحقه في نظر البلاغة الذي لا يمكن انكاره هو: الابهام والاطلاق لئلا تتشوش الاذهان. ولكن مع ذلك لابد من الرمز والايماء او التلويح الى الحقيقة، وفتح الابواب للافكار ودعوتها للدخول كما عملت الشريعة الغراء. فيا هذا أمِن


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 155
الانصاف وتحري الحقيقة ان تتوهم ما هو ارشاد محض وعين البلاغة ولب الهداية انه مناف للارشاد ومباين له. وان تتخيل ماهو عين الكمال في البلاغة نقصاً فيها؟!.
فيا هذا أهكذا البلاغة في ذهنك السقيم: تكليف بتغليط الاذهان وتشويش الافكار، وبما لا تهضمه العقول، لعدم ملاءمة المحيط واعداد الزمان.. كلا بل [كلم الناس على قدر عقولهم] دستور حكيم. فان شئت فراجع المقدمات، ولاسيما المقدمة الاولى وتأمل فيها جيداً.
اما الجواب عن الريب الثالث:
وهو امالة بعض ظواهر الايات الى منافي الدلائل العقلية:
تدبر في المقدمة الاولى. ثم استمع الى: ان المقصد الاصلي للشارع الحكيم من ارشاد الجمهور محصور في اثبات الصانع الواحد والنبوة والحشر والعدالة. لذا فذكر الكائنات في القرآن انما هو تبعي واستطرادي، للاستدلال. اي الاستدلال بالنظام البديع في الصنعة - الظاهرة لافهام الجمهور - على النظام الحقيقي جل جلاله. والحال ان اثر الصنعة ونظامها يتراءى في كل شئ. وكيف كان التشكل فلاعلينا اذ لا يتعلق بالمقصد الاصلي.تنبيه:
من المقرر ان الدليل ينبغي ان يكون معلوماً قبل المدّعى، لذا قد اُميل ظواهر بعض النصوص لاتضاح الدليل واستئناس الافكار بالمعتقدات الحسية للجمهور، لا ليدل عليها بل قد نصب القرآن في تلافيف آياته امارات وقرائن ليشير الى ما في تلك الاصداف من جواهر والى مافي تلك الظواهر من حقائق لاهل التحقيق.
نعم ! ان الكتاب المبين الذي هو كلام الله انما يفسر بعضه بعضاً. اي ان بعض الايات تبين ما في ضمائر اخواتها. لذا قد تكون بعض الايات قرينة لاخرى، فالمراد ليس المعنى الظاهري.
فلو قيل في مقام الاستدلال: تفكروا في سكون الشمس مع حركتها الظاهرية، وحركة الارض اليومية والسنوية مع سكونها الظاهر. وتأملوا في غرائب الجاذبية العمومية بين النجوم، وانظروا الى عجائب الكهرباء، والى غرائب الامتزاجات


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 156
الكيمياوية بين العناصر التي تزيد على السبعين لتعرفوا الصانع الجليل..لكان الدليل - الذي هو الصنعة - اخفى واغمض من النتيجة التي هي الصانع. وما هذا الا مناف لقاعدة الاستدلال، لذا اُمليت بعض الظواهر وفق الافكار، لان هذا من قبيل مستتبع التراكيب ونوع من الكنايات، فلا تكون معانيها مدار صدق وكذب.
الاترى ان "قال" ألفه ان كان اصلها واواً اوقافاً لايؤثر في شئ.
ايها الاخ!
انصف! الا تكون هذه النقط الثلاث دلائل واضحة على اعجاز القرآن الذي نزل لجميع الناس في جميع الاعصار. نعم [والذي علّم القرآن المعجز ان نظر البشير النذير وبصيرته النقادة ادقّ واجل واجلى وانفذ من ان يلتبس او يشتبه عليه الحقيقة بالخيال وان مسلكه الحق اغنى واعلى وانزه وارفع من ان يُدلِسَ او يغالط على الناس].نعم! انّى للخيال ان يبين نفسه حيقة تجاه القرآن الذي يتفجر نوراً.
نعم! ان مسلك القرآن هو الحق نفسه ومذهبه عين الصدق، والحق اغنى من ان يدلس او يغالط الناس.

المسلك الخامسهذا المسلك يخص الخوارق المعروفة المشهورة والمعجزات الظاهرة. وكتب السيرة والتاريخ مشحونة بها. وقد اوفى العلماء الكرام حقه من التدوين والتفسير فجزاهم الله خيراً، وقد احلنا التفصيل على كتبهم لان تعليم المعلوم عمل ضائع.
ان الخوارق الظاهرة وان كان كل فرد منها غير متواتر، ولكن جنسها، وكثيراً من انواعها متواتر بالمعنى.
ثم ان هذه الخوارق على انواع عدة:
منها: الارهاصات المتنوعة وكأن ذلك العصر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم استفاد واستفاض منه فصار حساساً ذا كرامة فبشّر بالارهاصات، بقدوم فخر العالم بحس قبل الوقوع.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 157
ومنها: الاخبارات الغيبية الكثيرة حتى لكأن روحه المجرد الطيّار صلى الله عليه وسلم مزّق قيد الزمان المعين والمكان المشخص فجال في جوانب الماضي والمستقبل، فقال لنا ماشاهده في كل ناحية منهما وبينه لنا.
ومنها: الخوارق الحسية التي اظهرها وقت التحدي والدعوى وقد بلغ هذا النوع الى مايقرب الالف. بمعنى ان مجموع هذا النوع متواتر بالمعنى وان كان افراده آحادياً.
ومنها: نبعان الماء من اصابعه المباركة، وكأنه يصور تصويراً حسياً فورانَ زلال الهداية الباعث للارواح من لسانه الذي هو منبع الهداية بنبعان الماء الباعث على الحياة من يده المباركة التي هي معدن السخاء.
ومنها : تكلم الشجر والحجر والحيوان، وكأن الحياة المعنوية في هدايته صلى الله عليه وسلم قد سرت الى الجمادات والحيوانات فانطقتها.
ومنها: انشقاق القمر. وكأن القمر الذي يمثل قلب السماء قد انشق اشتياقاً اليه باشارة من اصبعه المبارك علّه يجد علاقة مع قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم.
ان انشقاق القمر ثابت بنص الاية الكريمة، وهو متواتر بالمعنى حتى ان
(وانشق القمر) (القمر: 1) هذه الاية الكريمة لم يتصرف في معناها من انكر القرآن ايضاً. ولم يؤل ويحول معناها الاّ لاحتمال ضعيف.
ان اختلاف المطالع ووجود السحاب وعدم الترصد للسماء كما في هذا الزمان، ولكون الانشقاق في وقت الغفلة، ولحدوثه في الليل ولكونه آنياً، لايلزم ان يراه كل الناس او اكثرهم.
ثم انه قد ثبت في الروايات انه قد رآه كثير من القوافل الذين كان مطلعهم ذلك المطلع .
ثم ان اعظم هذه المعجزات واكبرها واولاها هو القران الكريم المبرهن اعجازه بجهات سبع، اشير اليها سابقا.... وهكذا واحيل ســائر المعجزات الى الكتب المعتبرة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 158
خاتمة:ايها الافاضل المطالعون لكلامي، ارجو ان تتأملوا في مجموع كلامي، اي المسالك الخمسة، بفكر واسع ونظر حاد وبصيرة ذات موازنة وتجعلوه ضمن سُور محيط به. واجعلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في مركزها ثم انظروا اليها كالعساكر المتنوعة المصطفة حول السلطان، وذلك لكي يتمكن سائر الجوانب من رفع الاوهام المهاجمة من الاطراف.
وهكذا فجواباً عن سؤال اليابانيين:
"ما الدليل الواضح على وجود الاله الذي تدعوننا اليه..".
اقول:
انه محمد صلى الله عليه وسلم.اشارة وارشاد وتنبيه:
لما توجه نوع البشر نحو المستقبل سأل فن الحكمة المرسل من قبل الكائنات، ومن جانب حكومة الخلقة مستنطقاً: يابني آدم! من اين؟ والى اين؟ ما تصنعون؟ من سلطانكم؟ من اين مبدؤكم والى اين المصير؟. فبينما المحاورة، اذ قام سيد نوع البشر محمد صلى الله عليه وسلم وخطيبهم ومرشدهم: ايها السائل نحن معاشر الموجودات اتينا بامر السلطان الازلي، مأمورين ضمن دائرة القدرة الالهية، وقد ألبسنا واجب الوجود المتصف بجميع صفات الكمال، وهو الحاكم الازلي، حلة الوجود هذه، ومنحنا استعداداً هو رأسمال السعادة.. ونحن معاشر البشر ننشغل الآن بتهيئة اسباب تلك السعادة الابدية.. ونحن على جناح السفر، من طريق الحشر الى السعادة الابدية. فيا ايتها الحكمة اشهدي وقولي مثلما ترين، ولا تخلطي الامور بالسفسطة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 159
المقصد الثالث
وهو الحشر الجسماني

نعم! ان الخلق بدونه عبث، بل لا يكون. فالحشر حق وصدق، وأوضح براهينه محمد صلى الله عليه وسلم.

المقدمةلقد اوضح القرآن الكريم الحشر الجسماني ايضاحاً جلياً لم يدع مجالاً لدخول اية شبهة كانت. ونحن هنا نشير الى قسم من مقاصده ومواقفه، معتمدين على براهين القرآن للقيام بشئ من تفسير جزئي للحشر الجسماني.المقصد الاولان في الكائنات نظاماً اكمل.. وان في الخلقة حكمة تامة.. وان لاعبثية في العالم.. وان لا اسراف في الفطرة.. والاستقراء التام الثابت بجميع العلوم.. والقيامة النوعية المكررة في كثير من الانواع كاليوم والسنة.. وجوهر استعداد البشر.. وعدم تناهي آمال الانسان.. ورحمة الرحمن الرحيم.. ولسان الرسول الصادق الامين صلى الله عليه وسلم.. وبيان القرآن المعجز.. كل ذلك شهود صدق وبراهين حق وحقيقة على الحش الجسماني.موقف واشارة:
1- لو لم تنجر الكائنات الى السعادة الابدية لصار ذلك النظام، صورة زائفة خادعة واهية، وتذهب جميع المعنويات والروابط والنسب في النظام هباءً منثوراً. بمعنى ان الذي جعله نظاماً هو السعادة الابدية.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 160
2- ان الحكمة الالهية التي هي مثال العناية الازلية تعلن السعادة الابدية، لانها مجهزة برعاية المصالح والحكم في الكائنات، لانه لو لم تكن السعادة الابدية للزم انكار هذه الحكم والفوائد التي اجبرتنا البداهة على الاقرار بها.
3- ان عدم العبثية الثابت بشهادة العقل والحكمة والاستقراء، يشير الى السعادة الابدية في الحشر الجسماني، بل يدل عليها، لان العدم الصرف يحيل كل شئ الى عبث.
4- ان عدم الاسراف في الفطرة، الثابت بشهادة علم منافع الاعضاء ولاسيما في العالم الاصغر - الانسان - يدل على عدم الاسراف في الاستعدادات المعنوية للانسان وآماله وافكاره و ميوله. وهذا يعني انه مرشح للسعادة الابدية.
5- نعم! لولا السعادة الابدية لتقلصت كل المعنويات وضمرت وذهبت هباءاً منثوراً. فيا للعجب، ان كان الاهتمام والعناية بغلاف جوهر الروح - وهوالجسد - الى هذه الدرجة، حتى يحافظ عليه من وصول الغبار اليه، فكيف تكون العناية بجوهر الروح نفسه؟ وكيف يمحى ويفنى اذن؟ كلا... بل العناية بالجسد انما هي لاجل تلك الروح.
6- ان النظام المتقن الثابت بالاستقراء التام الذي انشأ العلوم كافة - كما ذكر سابقاً - يدل على السعادة الابدية، اذ الذي ينجي الانتظام من الفساد والاخلال، والذي يجعله متوجهاً الى العمر الابدي والتكامل هو السعادة الابدية ضمن الحشر الجسماني.
7- كما ان الساعة الاعتيادية التي فيها دواليب مختلفة دوارة متحركة ومحركة للاميال العادّة للثواني والدقائق والساعات والايام، تخبر كل منها عن التي تليها، كذلك اليوم والسنة وعمر الانسان ودوران الدنيا شبيهة بتلك الساعة كل منها مقدمة للاخرى. فمجئ الصبح بعد كل ليلة، والربيع بعد كل شتاء يخبر عن ان بعد الموت قيامة ايضاً.
نعم ان شخص الانسان كنوع غيره، اذ نور الفكر اعطى لآمال البشر وروحه وُسعة وانبساطاً بدرجة لو ابتلع الازمان كلها لا يشبع، بينما ماهية افراد سائر الانواع


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 161
وقيمتها ونظرها وكمالها ولذائذها وآلامها جزئية وشخصية ومحدودة ومحصورة وآنية، في الوقت الذي ماهية البشر عالية كلية سرمدية فالقيامات النوعية المكررة الحاصلة في اليوم والليلة ترمز وتشيرالى القيامة الشخصية في الانسانية بل تشهد لها.
8- ان تصورات البشر وافكاره التي لاتتناهى، المتولدة من آماله غير المتناهية، الحاصلة من ميوله غير المضبوطة، الناشئة من قابلياته غير المحدودة، المستترة في استعداداته غير المحصورة، المزروعة في جوهر روحه الذي كرمه الله تعالى، كل منها يشير في ماوراء الحشر الجسماني باصبع الشهادة الى السعادة الابدية وتمد نظرها اليه.
9- نعم! ان رحمة الرحمن الرحيم والصانع الحكيم تبشر بقدوم السعادة الابدية، اذ بها تصير الرحمة رحمة والنعمة نعمة، وتنجيها من كونها نقمة وتخلص الكائنات من نياحات الفرق. لانه لو لم تجئ السعادة الابدية وهي روح النعم، لتحول جميع النعم نقماً وللزم المكابرة في انكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة.
فيا ايها الاخ! انظر الى ألطف آثار الرحمة الالهية، اعني المحبة والشفقة والعشق، ثم تأمل في الفراق الابدي والهجران اللايزالي. كيف تتحول تلك المحبة الى مصيبة كبرى. اي ان الهجران الابدي لا يعادل المحبة ولا يوازيها. فالسعادة الابدية ستصفع ذلك الفراق الابدي وتلقيه الى العدم والفناء.
10- لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الثابت نبوته المبرهن عليها بالمسالك الخمسة السابقة، هذا اللسان المبارك مفتاح السعادة الابدية المكنوزة في الحشر الجسماني.
11- نعم! ان القرآن الكريم الذي اثبت اعجازه بسبعة وجوه خلال ثلاثة عشرة عصراً كشاف للحشر الجسماني ومفتاحه.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 162
المقصد الثاني

سوف يُفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران اليه.
نخو : بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الاستاذ بديع الزمان سعيدالنورسي المؤلف، في مستهل الشعاع التاسع من كليات رسائل النور التي الفها بعد ثلاثين سنة:
"انه لعناية ربانية لطيفة ان كتب "سعيد القديم" قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلفه "محاكمات" الذي كتبه مقدمة لتفسير "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز" مايأتي: (المقصد الثاني: سوف يفسّر آيتين تبينان الحشر وتشيران اليه). ولكنه ابتدأ بـ نخوL بسم الله الرحمن الرحيم) وتوقف ولم تتح له الكتابة. فالف شكر وشكر للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر واماراته ان وفقنى لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة".
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #16
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 163

قزل ايجاز
على سلم المنطق
حاشية الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي
على متن "السلم المنورق للشيخ عبدالرحمن الأخضري"
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
مع شرح اخيه عبد المجيد النورسي


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 164
ايضاح
على كل حال فقد كتبتُ هذا الاثر..لأجل تعويد الأذهان على الدقة في الملاحظة والإنعام في النظر.
وحيث أنه قد أُلّف.. فليُنشر.. وليلاحظ في الاقل المباحث المبدؤة بـ"اعلم".
سعيد

ملاحظة: قام السيد الفاضل محمد زاهد الملازكردي بتصحيح هذه الرسالة وطبعها لأول مرة في مطبعة بركات بدمشق وذلك في محرم الحرام سنة 1387هـ. فضلاً عن قيامه بترجمة ونشر عدد من مجموعات رسائل النور. فجزاه الله خيراً كثيراً.
وقد أعدت النظر في هذه الطبعة من الرسالة وقابلتها مع طبعتها الاولى من غير شرح، ولم اغيّر منها سوى ما يستوجبه التنسيق والتنظيم، فوضعت حاشية الاستاذ النورسي في أعلى الصفحة عقب متن الناظم وجعلت شرح اخيه الملا عبدالمجيد في اسفل الصفحة.
وأملي في الله عظيم أن يقيّض من علمائنا المتبحرين في علم المنطق من يقدر هذه الرسالة والتي تليها "تعليقات" حق قدرهما ويستجلى ما غمض فيهما من نفائس علم المنطق لتكونا رسالتين يستفيد منهما الخواص والعوام معاً غير قاصرتين على الخواص من العلماء.
واسم الرسالة "قزل ايجاز" قد يثير القارئ الكريم فهو اسم مركب من التركية والعربية أو على الاقل الكلمة تركية التركيب. فكلمة "قزل" تعني بالعربية: العرج الشديد، أي ان اسم الرسالة يعني: الايجاز الشديد العرج.
أما اذا اعتبرنا اسم الرسالة اسماً تركياً فهو يعني: الايجاز المتقد، الايجاز الاحمر الى حدّ الجمرة.

احسان قاسم الصالحي


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 165
بسم الله الرحمن الرحيم

"
مقدمة الملا عبدالمجيد النورسي"
أشكر على حمدي لواحد أحد ليس له ثان. كما اثني موحداً لمن له كل يوم شأن. واُصلّي كما اُسلّم على من لما كان في ذاته محموداً كان اسمه محمداً. وعلى آله وصحبه من بعد.
وبعد:
فاعلم أني بعدما نجوت بين تلاطم امواج البليات من مخالب سباع المصيبات. ساقني القدر على رأس الفين إلا خمسين سنة الى ولاية مولانا جلال الدين الرومي وسكنت في جواره بعيداً عن الاستاد. لاهو يراني ولا انا أراه إلا في غفلات النوم والرقاد. الى ان قضى الاستاذ نحبه وارتحل الى دار السعادة شهيداً. وبقيت أنا في الحسرات غريباً ووحيداً.
فأدى بي الوحشة الى الوحدة وترك التماس بالناس. وترجيح التوحش على الإستئناس. ولم أجد لأزيل به كربتي ويكون تسليةً في وحدتي شيئاً إلا الاشتغال بتحشية (قزل ايجاز) وشرح ما فيه من الالغاز. رجاء أن يشتغل به البال عما فيه من شدة الحال.
فبعدما أردت ان اكسر صخور ألفاظه بفأس فكري. أبى وامتنع ذلك الفكر الكليل عن امري. فصرت كلما أضربها بذلك الفاس نبا ذلك الفأس من الصخرة الى الرأس. فبقيت حائراً ذا يأس في يأس. فاغلظت على الفكر شدة الامر. وأجبرته بعد الفر الى الكر. مشوقاً له قائلاً - ها بابام ها- فاستحيى عن غلظة الامر. فاجتهد كل يوم من الصبح الى العصر. الى ان صار مظهراً للتحسين والتقدير. بعدما كان معروضاً للتحقير والتكدير.


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 166
فشكرت سعيه وقبلت عذره. لكن لكهولته عجز عن قلع بعض الصخور. مع ان بعض مافصل وحصل ماكان بريئاً من الخطأ والقصور.
فاحلت فض ما بقي باكرة من مواضع عديدة واصلاح ما وقع من الخطأ والغلط الى ذوي الاذهان الثاقبة من شبان الاستقبال.

عبدالمجيد
بلدة (قونيــة)
1385هــ - 1965م


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 167
بسم [1] الله [2] الرحمن [3] الرحيم

[1] الباء للمصاحبة لا للاستعانة. لأن الكسب تابع للخلق، والمصدر شرط للحاصل بالمصدر 1.
[2] مستجمع لجميع الصفات الكمالية. للزوم البيّن 2.
[3] هذا مقام التنبيه لا الامتنان، فتكون صنعة التدلي في التعديد امتناناً صنعةَ الترقي تنبيهاً 3.

_____________________
1 (الباء للمصاحبة لا للاستعانة) اذ يلزم حينئذ ان يكون العبد أصيلا في الفعل، والخالق معيناً وتابعاً له في الفعل والحال ان العبد ليس الا مصدراً للكسب. والحاصل بالمصدر أي المكسوب ليس إلا بخلق الخالق. فالكسب - أي كسب العبد - ليس إلا مقارناً ومصاحباً وشرطاً في حصول ذلك الفعل، بخلق الخالق. فالعبد تابع، أي وكسبه شرط لا اصيل. كما هو رأي أهل الاعتزال من كون العبد خالقاً في فعله.
فالمناسب في باء البسملة المصاحبة، اذ ليس فيها ما في الاستعانة من ذلك الإيهام، لانها تدل بمادتها وجوهرها على ان المستعين أصيل، والمستعان منه تابع، بخلاف لفظة المصاحبة، اذ ليس فيها تلك الدلالة فلا احتمال لذلك الايهام.
قد ظهر من هذا ان انتشار كون الباء للاستعانة في تآليف بعض أهل السنة انما ترشح عن الغفلة من هذا المذهب، أي الاعتزال.
2 )(للزوم البيّن) أي البيّن بالمعنى الأخص بين الذات والصفات. وهو الانتقال بمجرّد تصور الملزوم الى اللازم. ومنه الى اللزوم بينهما. فلفظة الجلال دالة على الذات بالمطابقة وعلى الصفات بالالتزام فمن ذكر لفظ الجلال كان ذاكراً لجميع صفات الكمال.
3 (هذا مقام التنبيه) حاصله: ان الرحمن اشارة الى عظام النِعَم، والرحيم الى صغارها. فالانتقال من الاعظم الى الاصغر ليس بمناسب، لأنه من صنعة التدلي. وهي ليست مقبولة إلا في مقام تعديد النعم للامتنان. والمقام هنا ليس لتعديدها للامتنان. فأشار بتقديم الرحمن الى ان هذا المقام مقام التنبيه، لدفع غفلة السامع عن النعم الصغار.
فالتدلي هنا يُعدّ من الترقي. على ان الغفلة عن النعم الصغار اقوى احتمالاً فلا اشكال.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 168
الحمد[1] لله الذي[2] قد اخرجا[3] نتائج الفكر[4] لارباب الحجا
وحط[5] عنهم من سماء العقل كل حجاب من سحاب الجهل

[1] كتصور العلة الغائية 1.
[2] وصف ليكون ثوابه اكثر، اذ الواجب اكثر ثواباً 2.
[3] اي ترتب النتيجة على المقدّمات عادي، لا استعدادي ولا تولدي 3.
[4] خص هذه النعمة ليَبْرَعَ مستهلّه لبراعة الاستهلال. كأن المعنى اذا مر في خزانة الخيال ما وجد ما يلبس إلاّ صورة صنعته 4.
[5] الأولى قشع للسحاب او كشف للحجاب وإلأ فالابل ينص تليله تحت "حط عنهم" 5.
_____________________
1 (كتصور العلة الغائية) أي ان ذكر الحمد في أوائل التأليفات اشارة الى ان المقصد والغاية منها الحمد والطاعة لله تعالى.
2 (وصف) أي بنعمة الإخراج ليكون حامداً على النعمة فيكثر ثوابه، اذ الحمد على النعمة لازم وثواب اللازم اكثر.
3 (اي ترتب النتيجة) إشارة الى ان الاولى ذكر الترتب بدل الاخراج، لان حصول النتيجة من المقدمات »عادي« كخروج الماء بالحفريات لا »استعدادي« كخروج الثمرة من الشجرة، ولا »تولدي« كالولد من الانسان فالمناسب تبديل الاخراج بالترتب.
4 (لبراعة الاستهلال) أي ليُعلم في اول التأليف نوع ما يُذكر فيه من المسائل.
5 هذه مناقشة لفظية بين الاستاذين. حاصلها: ان الحط مستعمل للآبال ولا إبل هنا. فالأولى تبديل الحط بالقشع، نظراً الى لفظ السماء، او بالكشف لمناسبته للفظ الحجاب. وإلاّ فالسامع يتحرى الابل الناصب عنقه القاعد تحت »حط«. ولا إبل هنا فيقع في اليأس.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 169
حتى بدت لهم شموس [1] المعرفة رأوا مخدراتها [2] منكشفة
[1] التشبيه قياس والمقيس عليه حقه الوجود وما لهم إلا شمس. إلا ان الخيال الماضي حقيقة الآن. او لأن السماء تلد من بطن كل ليلة شمساً 1.
[2] هذا التلون والاندماج في الاسلوب، يردد الذهن بين ان يتصور الرأس سماء تتلألأ نيراتها في مطالعها وبين ان يتصورها قصراً تتشرف مخدراته من بروجه. إلا أن في جنان الجنان رقيبات لشموس العقل وازاهيرها من نجومه 2.
_____________________
1 (التشبيه قياس) اي تشبيه المسائل بالشموس قياسها عليها، فيلزم من ذلك القياس وجود المقيس عليه وتعدده والحال انه هنا واحد. فاجاب قائلا (إن الخيال الماضي) أي الشموس الآفلة الماضية في الزمان الماضي، المجتمعة بالتخيل في خزينة الخيال، كالحقيقة الموجودة. او ان الشموس المستقبلة الموجودة في بطن السماء نظراً إلى أنها تلد كل يومٍ واحدة والشموس كالموجودة الآن فلا اشكال.
2 (هذا التلون والاندماج) أي التفنن في العبارة بتشبيه المسائل تارة بالشموس وأخرى بالمخدرات.. (يردد الذهن) أي مع استحسانه وتقديره إلى ان يتصور الرأس سماء مرة وقصراً مرة اخرى. يتشرف من ذلك النيراتُُ ومن هذا المخدراتُ مباهيا بهما.
(الا ان في جنان الجنان) يعنى كما ان المسائل شبهت بالشموس والمخدراتُ الرأسية لزم أيضا تشبيهها بالازاهير القلبية. إذ أزاهير القلوب رقيبات لشموس العقول في الفضل والشرف.
فالتشبيه بواحدة دون الأخرى جاعل لذلك الاسلوب غير محبوب لذوي القلوب.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 170
نحمده [1] جل على الانعام بنعمة الايمان والاسلام
[1] كرره للاثبات بعد الثبوت، والانشاء بعد الخبر، والعمل بعد العلم. ولم يتكلم وحده، لأنه وان كان واحداً ليس وحده. بل معه طوائف اعضائه وقبائل اجزائه وجماعات ذراته ذوات الوظائف والحياة. فلتضمين الحمد معنى الشكر العرفي الجامع تكلم مع الغير 1.
اعلم!
أيها الناظر لابأس عليك ان تتلقى هذا المبحث مستقلا برأسه، لاشرحاً لهذه الجملة. فان المناسبة ضعيفة لان اليراع اجتذب اللجام من يدي فهرول حيث شاء. سعيد.
ان الشخص مع ان روحه واحد، جسمه جماعة. بل جماعات من ذوات الحياة. حتى ان كل حجيرة من حجيراته حيوان برأسه ذات خمس قوى حساسات.
فالشخص كصورة (يس) كُتب فيه سورة (يس) وشدة الحياة وقواها تتزايد بتصاغر الجرم معكوساً. ان شئت وازن بين حواس الانسان وبين حواس حُوينة ميقرسقوبية تَر عجباً. اذ ذلك الحيوان الصغير مع انه لا يُرى الا بعد تكبير جسمه الف دفعة يرى رأس اصبعه ويسمع صوت رفيقه، وقس سائر حواسه وقواه. واين للانسان ان يرى اصبع ذلك الحيوان أو يسمع صوته. فبنسبة تصاغر المادة تشتد الحياة وتحد وتحتد وترق وتروق.
فهذا الحال يدل حدسا على ان الاصل الحاكم والمبدأ النافذ والمخلوق الاول هو الروح والحياة والقوة. وما المادة الاّ تصلبها او زبدها.
_____________________
1 (كرره.. الخ) حاصله: ان الحمد المذكور أولاً لأسمية الجملة هناك، كانت دالة على ثبوت الحمد والاخبار عنه والعلم به فكرره ثانياً بالجملة الفعلية لتدل على الاثبات والانشاء والعمل، وليكون الناظم الحامد بالذات مثبتاً منشئاً حامداً، اي متكلما ومصدراً للحمد بالفعل.
(لانه واحد ليس وحده) أي لأنه وان كان منفرداً في حد ذاته. لكنه ليس منفرداً في فعل الحمد، بل معه طوائف كثيرة من اعضائه واجزائه وذراته.
(تكلم مع الغير) إشارة إلى ان الحمد هنا متضمن وعبارة عن الشكر العرفي الذي هو عبارة عن صرف العبد جميع ما انعم الله عليه إلى ماخلق له.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 171
فكما يُستخدم روح واحد جماعات من الماديات الحيوانية، جاز ان يستخدم روح آخر اصغر الماديات. واليه يستند فقط. فكما أن نواة في عالم التراب شئ صغير مع انها في عالم الهواء نخلة عظيمة، كذلك تلك المادة الصغيرة ذات الحياة في عالم الشهادة تكون متسنبلة في عالم المثال والمعنى، بسبب استناد الروح اليها 1.

من خصنا[1] بخبر من قد ارسلا [2] وخير [3] من خاض المقامات العلا

[1] لأن المضاف الى المعرفة معرفة بجهة والمنسوب الى الشريف يتشرف 2 .
[2] أي خير الخلق؛ لأنه خيار من خيار ستة مرات 3.
[3] أي لأنه على خلق عظيم. عطف الدليل على المدلول.
_____________________
1 أيها الناظر لا تقل لمه هذا التطويل الغير المناسب للمقام فان القلم قد يطغى فليكن مسألة من (قزل اطناب) مسافرة في (قزل ايجاز) ( س )
2 (لأن المضاف الى المعرفة) أي لاننا قد خُصصنا بالاضافة والانتساب الى خير الرسل ذي الشهرة والمعرفة. والتخصيص بالاضافة الى المعرفة وان لم يكن معّرفاً للنكرة حقيقة، لكن يقربها الى المعرفة ويشّرفها بها. نعم، لتلك الاضافة والانتساب صرنا خير امة اخرجت للناس. والمنسوب إلى الشريف شريف.
3 (ستة مرات) أي ان الله تعالى اختار من المخلوقات ذوي الحياة ومنهم بني آدم ومنهم اولاد اسماعيل ومنهم قريشاً ومنهم بني هاشم ومنهم محمداً عليه الصلاة والسلام هذا مآل حديث (مازلت خياراً من خيار).



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 172
محمد[1] سيد كل [2] مقتفى العربي [3] الهاشمي [4] المصطفى [5]
صلى [6] عليه الله مادام الحجا يخوض في [7] بحر المعاني لججا

[1] أى اسما ومسمى. الثاني سبب للاول، لكن بالاول. 1
[2] لأن كتابه جمع الجوامع لأنه متأخر. لأنه متقدم. 2
[3] وفي أبنائه الصدق والذكاء.
[4] وفي بيته الشهامة والسماحة والمنسوب منسوب اليه. 3
[5] كـ "قفا" و "ارجعوني" مكرراً، مع انفراده بحذف لفظ "من". فهو مشتق من خمسة افعال وهى "اصطفى" 4.
[6] صورة الماضي دلت على كمال الوثوق والشوق والحمل على المسئول بلطف لأن رد الخبر اشد من
رد الانشاء. 5
[7] تبطن "في" "من" للدخول والخروج6
_____________________
1 (اي اسماً ومسمى الثاني سبب الاول لكن بالاول) أي في ذاته خلق محمداً وسمّى به ليطابق الاسم المسمى. فالذاتي سبب للاسمى لكن بالاول. وهو مصدر كالقول من آل يؤل. بمعنى الرجوع. اي كونه كثير الحمد في الخلقة. سيرجع ويصير سبباً لكونه كثير الحمد من بعد.
2 (لأن كتابه جمع الجوامع) أي لأن القرآن لكونه نزولاً متأخراً من الكتب السماوية جامعٌ لجميع ما فيها ولكونه متقدما عليها في الفضل والشرف تأخر عنها، لأن السلطان يمشي خلف الجنود.
3 (المنسوب منسوب اليه) أي الأمر بالعكس معنى لأن محمداً عليه الصلاة والسلام كما انه منسوب اليه لكافة الخلق، منسوب اليه لهاشم ايضا.
4 (كقفا وارجعوني) يعني كما ان التثنية والجمع في هذين اللفظين راجعان إلى الفعل، لا إلى الفاعل. اذ المراد منهما قف قف. ارجع ارجع ارجع. كذلك ان الإفراد في (المصطفى) عائد إلى نائب الفاعل وليس راجعاً إلى الوصف لأنه في النية مكرر مجموع قد اشتق من (اصطفى) خمس مرات على ما أشار اليه حديث الاصطفاء.
5 (صورة الماضي) يعني ان الطلب والسؤال بلفظ الماضي يجبر المسئول على ان لايكذب السائل ويحمله على ان يوفي بالمسئول عنه بحيلة، لان الماضي إخبار ورد الإخبار قبيح.
6 ( تبطن "في" "من" أي كما يدل عل ذلك التبطن مادة الخوض، لانه بالدخول، وهو يقتضي الخروج. من. مفعول تبطن.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #17
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 173
وآله وصحبه [1] ذوي الهدى [2] من شبهوا [3] بانجم [4] في الاهتدا [5]

[1] اسم جمع صحابي. وتذكرهم بالصلاة حق علينا. لانهم الوسائط بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم. 1
[2] أي اكتسبوا الهدى كالمال، الحاصل بالمصدر المكسوب لهم. فان الهدى هو الذي يحتذى عليه لا المصدر، لأنه كسب. 2
[3] اي بلسان من "أفصح من نطق بالضاد" بانهم مكمَّلون ومكمِّلون.
[4] اي العشر السيارة فان نورها مستفاد من الشمس 3.
[5] نتيجة التشبيه لاوجه الشبه لانه لابد ان يكون اظهر اوصاف المشبه به، والاظهر في الحديث النورانية وما يقاربها. 4
_____________________
1 (اسم جمع صحابي) وهو منسوب الى صحاب، وهو مصدر كالذهاب. وليس الصحب بجمع لان »فعل« ليس من اوزان الجموع. هو اسم لكل من رأى النبي او النبي رآه ومات على الايمان.
2 (أي اكتسبوا الهدى) مفعول الحاصل صفة له، المكسوب صفة للمصدر. يعنى المراد من الهدى هنا الحاصل بالمصدر، لا المعنى المصدري الذي هو الكسب.
3 (هي العشرة السيارة) وهي العطارد والزهرة والمريخ والمشتري والزحل والنبتون والاورانس والارض والقمر و. .
4 (نتيجة التشبيه لا وجه الشبه) يعني ان وجه الشبه النورانية على ماهو المتبادر من حديث (بايهم اقتديتم اهتديتم).



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 174
وبعد [1] فالمنطق [2] للجنان نسبته كالنحو للسان
[1] اعلم! أنه تأكيد وتشويق مبني على حب النفس المستلزم لحب صنعتها المقتضى لفنائها فيها، المؤدي الى ظن انحصار الكمالات فيها لزومية او ادعائية هكذا أي شئ وجد لزم بقائه لعدم العبثية. وبقاؤه مستلزم للخلقة لانه جزؤها والخلقة مستلزمة لنتيجتها وهي الانسان. ووجود الانسان بسر الحكمة مستلزم لنتيجته، وهي كماله ومعرفة الصانع. والوصول الى الكمال مستلزم لإصابة العقل وسداده. وسدادهُ مستلزم للمنطق المتصف بما ذكر. فمهما وجد شئ فالمنطق كذا. 1
[2] اعلم! كما ان النحو شريعة الموجودات الطيارة اللسانية. الذين آدمهم الهابط من ذروة الخيال المسمى باللفظ موجود في فضاء اللسان. كذلك ان المنطق شريعة الموجودات الذهنية الساكنة في الجنان، أي اللطيفة الربانية، الذين آدمهم النازل من اعلى الدماغ المسمى بالمعنى موجود في الجنان. ان الآدم للادم نسيب والشرع للشرع قريب. لأنهما كليهما وضع إلهي سائق لذوى العقول ممن في الجنان واللسان الى الصراط المستقيم. 2
_____________________
1 (لزومية او ادعائية) خبر مبتدأ محذوف أي هذه شرطية لزومية الخ.
(وبقاؤه لازم للخلقة) أي البقاء جزء للخلقة لان الوجود كما انه مستلزم لها ولولاها لم يوجد الوجود، كذلك البقاء مستلزم للخلقة ولولاها لم يكن البقاء. وايضاً البقاء تكرر الوجود ودوامه. فالوجود والبقاء كلاهما مستلزمان للخلقة، وجزآن لها. فالخلقة عبارة عن الايجاد والابقاء معاً. فالابقاء جزء لها كالوجود.
(والخلقة مستلزمة لنتيجتها وهي الانسان) نعم (لولاك لولاك لما خلقت الافلاك) يدل على ان الغاية من الخلقة ونتيجتها الحياة وذوو الحياة واشرفهم الانسان فهو نتيجة الخلقة.
(بما يذكر) أي في هذا الكتاب من القواعد.
(فمهما وجد فالمنطق كذا) هذه نتيجة لما أشار اليه الاستاذ من القياسات الكثيرة المطوية الغير المتعارفة.
2 (كما ان النحو الخ) حاصله: ان النحو والمنطق باحثان عن اللفظ والمعنى. أما اللفظ: فهو »آدم«، اي كالاب للمسائل النحوية، محله الخيال ومقر فعاليته اللسان.. واما المعنى فهو »حواء« أي كالاُم للمسائل المنطقية مسكنه القلب. كل منهما خادم لتشريع القواعد لتمييز الصحيح عن الفاسد. فبينهما مكافأة تامة. فاذا وصلا الى حد البلوغ يصعد المعنى من القلب إلى الخيال ويتزوج بما في خزينة الخيال من الالفاظ مايشاء ثم ينحدران الى اللسان فيتولد ويتناسل من اجتماعهما القواعد، وتصير تلك القواعد شريعة مبيّنة للحلال والحرام والصحيح والفاسد.
فتبيّن ان الانسان ماهو الا القلب واللسان كما قيل:
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 175
فيعصم [1] الأفكار[2] عن غي الخطا وعن دقيق الفهم يكشف الغطا
فـهـاك [3] من اصـولـه قـواعـدا تـجـمـع من فنـونـه فـوائـدا

[1] أي ان راعى، وما دام لم تستخلف الطبيعة الصنعة. يشير إلى العلة الغائية ورسمه، وإلى جهة الحاجة وآليته. 1
[2] الفكر هو الكشاف لترتب العلل المتسلسلة في الخلقة للتقليد، فيحلل فيعلم، فيركب فيصنع. اي بتخريج السلسلة المتناتجة وتلقيحها. 2
[3] (فهاك) جزاء لما دلت عليه الفاء الجزائية. الجزاء هو الوجوب اللازم للامر عرفاً باقامة الملزوم مقام اللازم. وإلا فالامر انشاء لايلزم. 3

_____________________
1 (أي ان راعى) أي ان بنى صاحبُ الدليل ترتيبه على ما امر به المنطق.
(ولم تستخلف الخ) اي ولم يكن تصنيعه للدليل تابعاً لطبيعته وسليقته في الصحة والاستقامة. أي حاصلا منها بحيث ان لم يكن صاحب الدليل مراعياً للقواعد ايضا لم ينحرف دليله عن الصحة والاستقامة. وان كانت سلامة دليله ناشئة عن سليقته لاعن القواعد لايعد من المنطقيين.
2 (الفكر هو الكشاف) حاصله: ان الولد كما انه نتيجة علل مترتبة في الخلقة كالجد والاب ولابد لوجوده من تلك العلل، كذلك المعرف نتيجة علل مترتبة كالجنس البعيد والقريب والفصل لابد لمعرفته من وجود هذه العلل وترتيبها.
فالفكر مقلد الخلقة يحلل سلاسل العلل ويأخذ منها ما يناسب مطلوبه فيركب ويصنع ما يصنع.
(أي بتخريج السلسلة) اي بتحصيل المبادئ المناسبة للمطلوب وادخال بعضها في بعض. كادخال الحد الاصغر تحت الحد الاوسط وادخاله تحت الحد الاكبر.
3 (جزاء لما دل) تقديره: إذا كان المنطق عاصماً فهاك، أي خذ من قواعده الخ. . .
(الجزاء هو الوجوب عرفاً) إشارة إلى ما يردّ ما يرد وجه الورود، ان هاك أمر، والامر ليس بخبر، والجزاء لابد ان يكون خبراً حتى يكون ويصلح جزاء للشرط. والامر لكونه إنشاء لايكون باقيا فكيف يكون لازماً.
وجه الرد ان الامر مستلزم عرفاً للوجوب. فالامر ملزوم والوجوب لازم. وقد اقيم الملزوم مقام اللازم.
(تقديره إذا كان المنطق عاصما وجب الاخذ من قواعده) اي لزم لزوماً عرفياً كما يقال بين الناس: ينبغي ان تفعل كذا او لا ينبغي.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 176
سميته[1] بالسلم [2] المنورق يرقى به سماء علم [3] المنطق

[1] أيها الناظم! ليهنك القطوف الجواد الذي لايثقل الحاذ في تسميته ترسم تمثيلي. 1
[2] علم الشخص، لان المصباح المتمثل في المرايا الكثيرة مع انه الف واحد. 2
[3] المرسم بمقوى النطق اللفظي، ومسدد النطق الادراكي، ومكمل القوة النطقية. شعبات فصل الانسان 3.
_____________________
1 (ليهنك) مضارع هنأ محذوف اللام بجزم اللام تبريك وتهنئة لقطوف الناظم.
(وفي تسميته ترسم) اذ يستفاد من تسميته بالسلّم تشبيهه به. ويستفاد من التشبيه جعل السلّم الذي هو آلة للصعود الى الفوق مثالاً للتأليف. والايضاح بالامثلة رسم كما اشير اليه آنفاً. فالمراد من الرسم التعريف مطلقا لا الرسم الاصطلاحي.
2 (علم الشخص) كأنه قيل: ان امثال هذه الاسماء لإطلاقها على كثيرين، كليات ذوات جزئيات. فأشار الى الجواب، بأن الاسم اذا وضع باوضاع متعددة لاشخاص لا يقتضي الكلية، لان كلاً من اوضاعه لواحد لا لكثيرين. نعم، مع ان كون المصباح مرئياً في المرايا الكثيرة لا يخلّ وحدته لأنها صور لا ذوات.
3 (المرسم) صفة العلم. أي بهذا العلم يتقوى الانسان في نطقه اللفظي، ويتسدد في نطقه الادراكي، ويزداد في قوته العقلية. هذا اشارة الى ان الناطق الذي هو فصل الانسان متضمن لهذه النطوق الثلاثة. فالمرسم اي المعرف لا الرسم الاصطلاحي. .



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 177
والله [1] أرجو ان يكون [2] خالصاً [3] لوجهه [4] الكريم ليس ناقصا

[1] التقديم يقوى جناح "خالصا". 1
[2] لان الاخلاص لا يكفي في حصول الخالصية، او لعدم الأمن من دسائس النفس. 2
[3] اذ لامناص بالنص الا في المستثنى الثالث في الحديث. 3
[4] هذا من أساليب التنزيل التنزيلية، المبني على النورانية كالشمس، مثلاً وجهها عين ذاتها، كما ان ذاتها عين وجهها. 4
_____________________
1 (التقديم يقوى) أي تقديم المفعول يفيد الحصر، وهو يرد توجيه الرجاء الى غيره تعالى فيحصل الخلوص به ايضا فيتكرر الخلوص فيتقوى.
2 (لان الاخلاص) اي الاخلاص مصدر من العبد، والخالصية اي الحاصل بالمصدر من الله تعالى. ولا لزوم بينهما. فليست الخالصية الا فضلا من الله تعالى فالتقديم للتقوية لازم.
3 (إلا في المستثنى الثالث في الحديث) وهو: هلك الناس الا العالمون هلك العالمون الا العاملون، هلك العاملون الا المخلصون.
4 (هذا) اي التعبير عن الله تعالى باضافة الوجه اليه.
(من الاساليب الخ) اي من التعبيرات التي استعملها القرآن تنزلاً للتقريب الى فهم البشر.
(كالشمس مثلا) اي بلا تشبيه. اي ان الشمس كما أنها لكونها نورانية لايفرق بين ذاتها ووجهها، بل كلاهما واحد.. كذلك وجه الله تعالى عين ذاته وذاته عين وجهه. فمتى أُضيف الوجه اليه تعالى يُراد الذات. اي يكون الاضافة من قبيل اضافة المسمّى الى الاسم. فلا إشكال.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 178
فصل في جواز الاشتغال به

والخلف [1] في جواز [2] الاشتغال به على ثلاثة أقوال

[1] ما اعظم ضرر الاطلاق في مقام التقييد، والتعميم في مقام التخصيص! ومن هذا تتعادى الاجتهادات المتآخية. 1
[2] سلب الضرورة الاختيارية. 2
_____________________
1 (ما اعظم ضرر الاطلاق الخ) يعني ان جواز الاشتغال بالكلام مقيد بقيد الاستعداد، وخاص بذوي القريحة. فلو اعتبر هذا القيد لم يبق الخلاف والشقاق بين ذوي الاجتهادات؛ اذ لا يخفى ان عدم الجواز إنما هو بدون هذا القيد وجوازه معه. فمن عدم اعتبار هذا القيد هنا وقع بين ذوي الاجتهادات بالمخالفة ماوقع من العداوة.
2 (سلب الضرورة الخ) اي المراد بالجواز هنا عدم اللزوم العرفي المعبّر عنه بالانبغاء بين الناس حينما يقول بعضهم لبعض: ينبغي ان يكون الامر هكذا وهكذا، أي يلزم.
ولايخفى ان الضرورة الاختيارية اذا انسلبت بقي الجواز الاختياري العرفي فلا مانع للاشتغال به عرفاً.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 179
فابن الصلاح والنواوي [1] حرما وقال قوم [2] ينبغي [3] أن يعلما[4]

[1] أي لأدائه الى ترك الواجب، او لانجراره الى الفاسد، او لاختلاطه بالباطل، او لانحراف المزاج الذي يأخذ من كل شيء سيئه. وإلاّ فتعصب بارد. 1
[2] عرف في الاول، لأنه نكرة أو معرفة. ونكّر في الثاني لانه معرف أو منكر. 2
[3] اي ينطلب اي الانبغاء لزوم طبيعي لاعقلي أي فطرته مسخرة للعلم. فكما أن مقتضى الفطرة في أفعال الجامدات يوجه بالضرورة، كذلك مقتضاها في مظان الاختيار يوجه (بالضرورة أيضاً)، لكن من عالم الامر. 3
[4] لأنه مقدمة الواجب، ولأنه دليل ترك الشر، وإلا فتعصب الصنعة. 4
_____________________
1 ان الاستاذ يشير الى أسباب التحريم. (أي لأدائه الى ترك الواجب) أي ان لم يجعل مقدمة لعلم التوحيد (او لانجراره الى الفاسد) كجامع الحطب بالليل. (او لاختلاطه بالباطل) اذ المركب من الصحيح والباطل باطل والاشتغال بالباطل حرام (او لانحراف المزاج) أي انحراف فكره وذهنه عن صوب الصحة.
2 (عرف في الاول) أي القول القائل بالتحريم. حيث ذكره بالكنية والنسبة الى العلم، (لانه معرفة) بين الناس.. (أو نكرة) عند السامع فعرفه له.. (ونكر في الثاني) وهو القائل بالجواز.. (لانه معرف) أي بالبيت الآتي.. (او منكر) اي لأن السامع لايعرفهم وليس طالباً لمعرفتهم.
3 (أي ينطلب) من باب الانفعال اي طلب العلم طبيعي لايُطلب بقصد بل ينطلب بنفسه.. (اذ فطرته مسخرة للعلم) اي لاتنفك عن العلم. فكما ان مقتضاها في الجامدات يوجّه بالضرورة مثل النار محرقة بالضرورة كذلك في مظان الاختيار يوجه بها مثل الانسان عالم بالضرورة. اي بحسب الفطرة.. (لكن هذا من عالم الامر) أي والاول من عالم الخلق اذ الماديات بالخلق وغيرها من عالم الامر كالروح.
4 (لأنه مقدمة الواجب) وهو التوحيد وردّ الكفريات .. (ولأنه دليل الشر) أي دليل على معرفة الشر، لأن من لم يشتغل بالكلام لا يفّرق بين الاقوال السالمة والباطلة. فلزم الاشتغال به ليعرف الباطل ليتوقى منه؛ إذ لا يتحفظ ممن ومما لايعرف. كما قال من قال:
عرفتُ الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 180
والقولة المشهورة الصحيحة[1] جوازه[2] لكامل القريحة[3]
ممارس[4] السنة[5] والكتاب[6] ليهتدى[7] به الى الصواب
[1] لان تلقى الامة بالقبول امارة تجرد الحقيقة.
[2] أي "مندوب" لانه مكَمِّلٌ .. "مكروه" لانه قد يشوش.. "مباح" لان علم الشئ خير من جهله.. "فرض كفاية" لانه المجهز.. "حرام" لغير المستعد، للمفهوم المخالف. 1
[3] والمستعد ايضا 2.
اعلم! ان من محاسن الخلقة والفطرة تقسيم المحاسن، ومنه انقسام المشارب، ومنه تفريق المساعي، ومنه امتثال فروض الكفاية في الخلقة، ومنه تقسيم الاعمال.
نعم: بتركه نزرع اكثر من السلف ونستغل الاقل.
[4] اي مجهز بالمنطقين المنجبين
[5] أي السنة الصغرى بجوانبها الاربعة، تفسير كبير لسنة الله الكبرى المنبثة في العالم الاصغر والاكبر. 3
[6] أي
(ذلك الكتاب لاريب فيه) الذي هو تمثال سنة الله في الفطرة، التي لا تبديل لها ولاتحويل. أي المنطق الاعظم للانسان الاكبر، الذي قوته المفكرة نوع العالم الاصغر وهو الانسان.
[7] أي لئلا يزل الناظر لنفسه، ولا يضل الناظر لغيره. فان الاستدلال للنفي غالب ،دون الاثبات في العقائد. 4
_____________________
1 (أي مندوب) إشارة إلى انه يجتمع فيه الاحكام الشرعية
(لانه المجهز) أي يجهز العقائد الحقة. وتصفيتها في كل قطعة من فروض الكفاية.
( للمفهوم المخالف) أي عكس كامل القريحة، بان لم يكن له قريحة ولا كمالها.
2 (والمستعد ايضا) عطف على كامل القريحة في المتن. اي من له استعداد بالقوة فقط.
3 (السنة الصغرى) وهي السنة المحمدية التي جوانبها الاربعة عبارة عن الحديث القدسى والقولي والفعلي والتقريري. وتلك السنة كشافة للسنة الكبرى المنتشرة بين انواع ذوي الحياة وبين طبقات الكائنات من القوانين والارتباطات التي لاتبديل لها ولاتحويل.
4 (فان الاستدلال الخ) حاصله: ان الحق والصواب في المسائل أقل، وغير الصواب اكثر واغلب. فالاحتياج الى الدلائل النافية لغير الصواب اكثر وأغلب من المثبتة للصواب.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 181
فصل في انواع العلم الحادث
ادراك[1] مفرد[2] تصوراً [3] علم ودرك[4] نسبة[5] بتصديق وسم
[1] للنفس في الادراك فعل، يستتبع اضافة، تستلزم انفعالاً، يستولد كيفية، تستردف صورة. مع انها علم معلوم ايضا. والاول صفة. والثاني مظروف للذهن. 1
[2] اي ولو حكما باجمالية النسبة.
[3] الاطلاق المستفاد من الاطلاق تقييد. اي التصور المطلق لا مطلق التصور. 2
[4] غيّر لمغايرة النوعين في التعلق لا في المتعلق فقط؛ فان الاول كالحل، والثاني كالربط والعقد. 3
[5] أي درك ان النسبة واقعة مفصلة مستردف الاذعان. لا درك نسبة؛ فانه شرط او شطر. ولا درك وقوع النسبة؛ فانه تابع 4.

_____________________
1 (مع انها علم معلوم ايضا) أي الادراك عبارة عن الصورة الحاصلة في الذهن. فتلك الصورة من حيث ينتقش ويتصف بها الذهن تكون علماً وصفة. ومن حيث حصولها في الذهن تكون مظروفة للذهن ومعلوماً لتعلق ذلك الانتقاش به.
2 (أي التصور المطلق لامطلق التصور) دفعٌ لما يوهمه قول الناظم من عدم المطابقة بين التعريف والمعرف، اذ المتبادر من قوله (تصوراً علم) مطلق التصور أي سواء كان ذلك التصور مع الحكم او لا. وهذا عام يشمل التصور مع الحكم ايضا، لان محل حصوله الذهن. وبهذا الاعتبار يكون المعرف اعم من التعريف.
وجه الدفع ان المعرف هنا اعني (تصورا) لكونه غير مقيد، مقيد بالاطلاق، أي التصور المطلق. وهو خاص لايشمل التصور مع الحكم. فالمعرف يساوي التعريف فلا اشكال.
3 (غير لمغايرة الخ) أي بدّل الادراك بالدرك، لان التصور والتصديق كما تغايرا في المتعلق لانه في الاول المفرد وفي الثاني الحكم تغايرا في التعلق ايضا. لان التعلق في الاول بطرفى القضية وفي الثاني بالنسبة بينهما. ولايخفى ان وجود النسبة يتوقف على العقد والربط بين الطرفين والاول يدل على الانفصال بين الطرفين وانحلالهما عن النسبة.
4 (اي درك ان النسبة واقعة) يعني ان الظاهر من هذا القول: ان الناظم ذاهب الى مذهب القدماء من أن التصديق عندهم عبارة عن درك النسبة التامة الخبرية أي درك الثبوت بين الطرفين. بناء على ان اجزاء القضية عندهم ثلاثة: الموضوع والمحمول وثبوت الثاني للاول. لكن عند المتأخرين عبارة عن درك وقوع الثبوت بينهما. فالاجزاء عندهم اربعة ان جعل الثبوت المسمى عندهم بالنسبة بين بين شطراً اي جزء او ثلاثة ان جعل شرطا.
وصف الاستاذ ذلك الادراك بالاذعان في سائر رسائله اي الاطمئنان القلبي إشارة إلى ان القائل »لكلمة التوحيد« من غير اذعان واطمئنان بمفهومها لايفوز بحقيقة الايمان.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 182
وقدم الاول[1] عند الوضع لانه[2] مقدم بالطبع[3]

[1] وإن كان متأخراً في النهاية، لانه النتيجة. اذ التصديقات معرفة نسب الشئ. ونسب الشئ رسم صورته. 1
[2] اذ ليس للجعل ان يعزل مانصبه الخلق. وان الصنعة تلميذ الطبيعة، نورها مستفاد منها. وان الاختيار متمم الفطرة مانع المانع ولاينوب عنها. 2
[3] اي شرط او جزء، ولايجوز تقوم الشئ بالنقيضين، او اشتراطه بنقيضه؛ لان التصور ليس جنسا ولاذاتياً للتصورات، بل عرض عام كالمصطلحات لافرادها. 3

_____________________
1 حاصله: ان التصديق لكونه يتوقف على تصور اجزاء القضية يكون التصور مقدماً عليه.
وكذا ان التصديق عبارة عن معرفة نسبة الموضوع إلى محمولاته، كنسبة زيد إلى الكاتب والشاعر وغيرهما وتلك النسبة رسم ناقص له وهو يفيد حصول صورته في الذهن. وما هذا إلاّ تصور. فالتصديق ينجر وينتهي الى التصور. فالتصور نتيجة للتصديق متأخر عنهما.
2 (إذ ليس للجعل) حاصله: أن التصور شرط أو جزء للتصديق وهما مقدمان على الكل، والمشروط طبعا وفطرة. فليس للواضع أن يخالف مقتضي الخلقة باختياره عازلاً للفطرة، لأن الاختيار انما هو تلميذ يتلو تلو استاذه ولاينوب منابه. وإنما وظيفته دفع الموانع لإكمال الخلقة.
3 (أي شرط أو جزء) دفع لما يقال: من أن التصور والتصديق ضدان أو نقيضان، فكيف يكون احدهما جزءاً أو شرطاً للآخر؟
وحاصل الدفع: أن الشرط او الجزء للتصديق انما هو التصور الخاص لا التصور الذي هو عرض عام. وإنما يلزم ذلك لو كان ذاتياً للتصورات.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #18
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 183
والنظري[1] ما احتاج[2] للتأمل[3] وعكسه[4] هو [5] الضرورى[6] الجلي

[1] أي منهما، أي الادراك والدرك بمعنى المدرك، أي ماصدق عليه في زمان ما 1
[2] أي بالعموم وإلاّ فالإلهام والتعليم والتصفية من طرقه 2.
[3] أي استكشاف الرتب متحركاً لتحصيل المادة، مستردفاً لتجريد الذهن عن الغفلات، مستتبعاً لتحديق العقل نحو المعقولات، مستصحباً لملاحظة المعلوم لتحصيل المجهول، منتهياً الى البسائط. ثم متحركاً لتحصيل الصورة، مستصحباً للتفطن، مستلزماً لترتيب الامور، مولداً للمرتبية الحاصلة بالمصدر. "هذه الحقيقة مزقها العوام شذراً مذراً" 3.
[4] أي لا منطقاً ولا لغة. 4
[5] "هو" للجمع و "ال" للمنع او للبداهة كوالدك العبد 5. .
[6] أي الذهني لا الخارجي مقابل الإمكان 6. .

_____________________
1 (اي منهما) راجع للتصور والتصديق. لامفسر بما بعده، لانه غير مذكور.
(بمعنى المدرك) اول باسم المفعول ليصح الحمل. ولشمول التعريف لما يدرك بعد عمم الزمان بقوله (في زمان ما).
2 (اي بالعموم) اي الدرب الكبير والطريق العام. وإلا فله طرق اخرى كالالهام والتعليم والتصفية.
3 (اي استكشاف الرتب) حاصله ان للذهن لاحضار الدليل حركتين احداهما انه يدور في ساحة المعلومات والمعقولات يبحث عما يناسب لإثبات مدعاه. فاذا وجد تلك المقدمات المناسبة جمعها ويختم حركته الاولى للمادة. ثم يعود ثانياً لتحصيل الصورة، فيضع كلاً من المقدمات في موضعها مراعيا للشرائط، فتتشكل الصورة ايضا فيتم الدليل ويصل الى المطلوب. .
4 (اي لا منطقا ولا لغة) اي المراد من العكس هنا المعنى العرفي الذي هو عبارة عن الضدية فقوله (عكسه) اي ضده لا العكس المنطقي، الذي هو عبارة عن تبديل الطرفين، ولا اللغوي اي الانتقال من جهة الى جهة مثل الانعكاس.
5 (هو للجمع) اي للاشارة الى جامعية التعريف، لان (هو) يدل على حصر المعرف في التعريف (وال للمنع) أى للدلالة على كون التعريف مانعا عن الاغيار لانه للعهد الخارجي او للبداهة كما ان (ال) في (والدك العبد) للبداهة. .
6 (اي الذهني) اي البديهي لانه هو الضد للنظري. اما الخارجي فبمعنى الوجوب الذي هو مقابل وضد للامكان. .



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 184
ومابه[1] الى تصور[2] وصل[3] يدعى[4] بقول شارح[5] فلنبتهل

[1] هذا قول شارح للقول الشارح:
ان ادخلت في "ما" القاموس، وقسم من التقسيمات، واكثر التفسيرات، وكل التمثيلات وجميع الامثلة لم يمتلئ 1...
مافي الباء من السببية علة معدة حضوراً ومجامعة حصولا 2..
أي ذاتاً او صفة او لازماً موضوعاً او مفهوماً بنوعيه، او مدلولا بأنواعه، او مراداً، او ماهية حقيقية او اعتبارية او اصطلاحية مفصلا او مجملا تاما، او ناقصا بالعلل او المعلولات او بكليهما 3..
[2] اي متصوراً بوجه، فإن المجهول المطلق كما يمتنع الحكم عليه يمتنع تعريفه...
[3] مصدره نائب فاعل، ميزانه ومفهومه روح كل محمولاته وجنس عال لها. كما ان المعلوم اب لموضوعاته و "المعلوم موصل" ام مسائله 4...
[4] اي الدعاء. هذا آخر صــــورة انتهت اليها هذه النســــبة منـاد على اسمية التـعريـف لإحضــار ذات وقول. اي مركب ولو ذهنــا. لان البســائط لاتـعرف بل

_____________________
1 (ان دخلت في ما) يعني أن لـ (ما) بطنا لو أدخل فيه جميع ماذكر -لكن من قسم التصورات- لم يمتلئ ولم يشبع.
يعني أن كل مافي جوف (ما) مما ذكر تعريفات توصل الى معرفات..
2 (ما في الباء من السببية) يدل على أن التعريف علة لاحضار المعرف، بحيث لولاه لم يحضر. وبعد الاحضار والحصول، علة مجامعة ومقارنة معه لاتنفك عنه للزوم بينهما.
3 (أي ذاتا او صفة الخ) إن شئت إيضاح هذه الاقسام مع الامثلة فراجع قبر الاستاذ رضي الله عنه وأرضاه (وهو في ربوة رفيعة من ربى ولاية اسبارطة مستور مجهول ممنوع عن الناس!!!).
4 (أي مصدره نائب فاعل ميزانه) أي فعل الوصول على أنه من باب التضمين (ومفهومه) هو الوصول: حاصله: أن التعريف كالاب ملقح للمعرف. أي نافخ لروح الوصول في رحم المعرف. فالتعريف موضوع والمعرف محمول والوصول روح منفوخ منه في رحمه. فكل المسائل داخلة في (المعلوم موصل) أي المعلومات موصلة الى المجهولات...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 185
تحدس حدسا 1..
[5] اي مستقرئ مواطئ النشو، ومدارج الاستكمال، ومحلل يرد الشئ الى اصله. 2

_____________________
1 (اي الدعاء) اى مصدره الدعاء بمعنى النداء أي يسمي وينادي..
(هذا) أي ندائه بالقول الشارح وتسميته به آخر صورة ينجر وينتهي اليها النسبة التضائفية بين العرف والمعرف، اذ بينهما تضايف. أي التسمية انما تتحقق بعد تمام الوصول لان الاسم بعد تمام المسمى.. (هذا) مبتدأ (آخر) خبره الاول (مناد) خبره الثاني. أى يدل على ان التعريف اسم لما كان مركبا من ذات وصفة ولو ذهنا، كالناطق في الحد الناقص. اذ البسيط لا يعرف وانما يعرف بالحدس أى الانتقال دفعة وفجأة من المعلوم الى المجهول..
2 أي (مستقرئ) اي التعريف مفتش يبحث عما ينشأ ويحصل عنه المعرف من الاجناس والفصول والخواص والاعراض. وكذا محلل شارح يرد المعرف الى أصله. مثلا: ان من يريد أن يعرف الانسان يتحرى أولا ما يتركب منه من الاجناس كالجوهر والجسم والجسم النامي والحيوان. ومن الفصول كالقابل للابعاد الثلاثة والنامي والحساس والناطق. ثم يجمعها ساترا لها في بطن الحيوان الناطق فيتولد الانسان.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 186
وما [1] لتصديق[2] به[3] توصلا[4] بحجة[5] يعرف[6] عند العقلا[7]

[1] "ما" موصوفة، اي تصديق، اي لاتصور. لان النوعين غير متجانسين فلا يتوالدان وإن تلازما...
[2] كما تضمن اللام "الى" تضمن "توصل" "تكلف". فالاول متعلق بالثاني، اذ هذا التصديق مدعي. والثاني بالاول، اذ هو نتيجة باول وبالاطلاق أو التخييل أيضاً 1...
[3] وبالجزئي على الجزئي، او الجزئي على الكلي، او بالكلي على الجزئي 2.
[4] زاد هنا وجرده في التصور للإشكال في الأشكال، والاشتباك في الدليل. "ومصدر المجرد نائب فاعل المزيد" اي وصولا لازماً الى معلوم، او مظنون لذات الدليل، او صورته او موهوم او متخيل او جهل مركب 3..

_____________________
1 كما تضمن (اللام) معنى (الى) اي لان الوصول يتعدى بإلى (تضمن توصل معنى تكلف) لان الوصول يحصل بالكلفة فناسب تضمين التوصل. فاللام في (لتصديق) له معنيان: معناه الاصلي، ومعنى (الى). (فالاول) اي اذا نظر اليه بالمعنى الاصلي (متعلق بالثاني) التكلف المتضمن للتوصل (اذ هذا التصديق) اي مدخول اللام (مدعى) وفي اثبات المدعي المجهول كلفة، فناسب تعلقه بالتكلف (والثاني) اى اللام بالمعنى الثاني (متعلق بالاول) اي التوصل المتضمن (اذ هو) اي التصديق المدخول للام (نتيجة باول) أي سيؤول وسيرجع ويصير نتيجة. وفي نتاجها لا يوجد الكلفة فالمناسب تعلقه بالتوصل لا بالتكلف.
(وبالاطلاق أو التخييل أيضاً)، أي ذلك التصديق المدخول للام لكونه غير مقيد شامل للقسمين. أي ما كان مدعى وما كان نتيجة، وبالتخييل والتقدير ايضا يمكن الشمول للقسمين.
2 (وبالجزئي على الجزئي) أي الوصول قد يكون بالجزئي على الجزئي، مثل: هذا زيد، وزيد ضاحك، فهذا ضاحك (وبالجزئي على الكلي) كما في الحدسيات، كالانتقال من بعض الامارات الى المطلوب الكلي (وبالكلي على الجزئي) مثل :كل انسان حيوان وكل انسان كاتب فبعض الحيوان كاتب.
3 (زاد هنا) قائلاً توصل من المزيد (وجرد هناك) قائلاً وصل من الثلاثي (للاشكال في الأشكال) بكسر أول الاول وفتحه في الثاني. يعني أن الإشكالات الواقعة في الاشكال والضروب والقياسات أجبرت على ترجيح المزيد على المجرد اشارة الى زيادة الكلفة هنا.
(ومصدر المجرد نائب فاعل المزيد) يعني أن (توصل) لكونه بناء المجهول يقتضي نائب الفاعل ولا مفعول ينوب منابه لكونه غير متعد فأشار الاستاذ الى أن مصدر المجرد أعني الوصول نائب عن فاعله.
فمعنى توصل (وقع الوصول) (أي وصولا) مفعول مطلق نوعي (لازما) صفة للاشارة الى اللزوم بين الدليل والنتيجة (الى معلوم) متعلق بالوصول أي نتيجة ذات يقين (او مظنون) أي من الظنيات (لذات الدليل او صورته) أي سبب الظنية ما وجد في الدليل او صورته من موجبات الظن (او موهوم) أي من الوهميات.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 187
[5] اعلم!
انها نسابة انسال الحادثات، وسرادة سلاسل مناسبات الكائنات، وتمثال مجاري الحياة من جرثوم الحقيقة العظمى الى الثمرات 1..
[6] مجاز من "يتحد" وهو من "يحمل" وهو من "يحدد" والمعرفة هي كيفية هذه النسبة، اشارة الى استغناء هذه الدعوى عن الدليل...
[7] اللام عوض الصفة اي المنطقيين. لا الاضافة لان "عاقلا" من ذي كذا 2.
واعلم!
ان الكل كالانسان مثلا: في حكم مصدره جزئه مستتر تحت جزئه او خلفه كالعين للمفتش والاذن للجاسوس والعقل للمنطقي 3.

_____________________
1 (اعلم انها نسابة لأنسال.. الخ) الضمير عائد للحجة. (نسابة) صفة مبالغة من النسبة. بمعنى كثير المعرفة بالانساب. والأنسال جمع نسل بمعنى الذرية. أى الحجة الالهية كأنها تاريخ جامع للحادثات الكونية وعارف بتناسل بعضها عن بعض.
(وسرادة سلاسل) أى مركز لاجتماع تلك السلاسل كأنها »سانترال« محل ومرابط لتلك السلاسل.
2 (اللام) اي الالف واللام في العقلاء (عوض) اي بدل (عن الصفة) اي عقلاء منطقيين (لا الاضافة) اي عقلاء المنطق. لان العاقل ليس باسم فاعل حتى يضاف الى مفعوله (بل هو من ذي كذا) اي من باب ذي كذا. فالمعنى عند ذوي العقول من المنطقيين.
3 واعلم!
(ان الكل كالانسان) اي المركب من اجزاء كالعين والاذن وغيرهما اذا وقع (في حكم) اي فعل (مصدره) اسم مكان ضميره عائد للحكم مبتدأ خبره (جزؤه) والضمير راجع للكل. والجملة صفة الحكم مثل (تجسس زيد) فان التجسس يكون بالاذن. فالقاعدة في التعبير عن ذلك الحكم والفعل اما استتار الفاعل اي الكل في ذلك الجزء او اضافة الكل اليه بواسطة (ذو) فيقال للشخص المنطقي عاقل او ذو عقل لان المنطق يصدر من العقل وللمفتش عاين او ذو عين هكذا. والى هذا أشار بقوله (مستتر تحته او خلفه) كالعين للمفتش والاذن للجاسوس والعقل للمنطقي.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 188
انواع الدلالات الوضعية

دلالة[1] اللفظ[2] على ما [3] وافقه[4] يدعونها[5] دلالة المطابقة[6]

[1] هذه هي الثانية من احوال اللفظ الاربعة التي يقسمها اللفظ واللغة والمنطق والبيان والاستنباط الاصولي من الوضع والدلالة والإستعمال والفهم 1.
[2] اعلم!
ماأدق حكمة الله في اللفظ وما أعجب شأنه وما ألطفه نقشا! ان الرابط بين مأخذي جنس الانسان وفصله هو النَفَس ذو الرأسين، الموظف بوظيفتين، صاحب الثمرتين، الموجه الى القبلتين، المثمر اسافله لنار حياة الحيوان مع تصفية مائها، والمولد أعاليه لحركات نطق الناطق.
فبدخوله الى عالم الغيب يصفي الدم الملوث بانقاض الحجيرات المحللة، بسر امتزاج (مولد الحموضة الهوائي بكربونه) بسبب العشق الكيميوي. فاذ يمتزج العنصران يتحد كل جزئين منهما. واذ يتحدان يتحركان بحركة واحدة. فتبقى الحركة الاخرى معلقة باقية. فبسر "تحول الحركة حرارة والحرارة حركة" تنقلب تلك الحركة الباقية المعلقة حرارة غريزية. اعني نار حياة الحيوان. فبينما يخرج النَفَس من عالم الغيب الى عالم الشهادة تعباً اذ يتداخل في المخارج متكيفا بالصوت والصوت يتفرق على المقاطع متحولا حروفاً "اجدى من تفاريق العصا". بينما هي قطعات صوت لاحراك لها. اذ صارت أجساماً لطيفة عجيبة النقوش، غريبة الاشكال، حاملة

_____________________
1 (التي انقسمها اللفظ واللغة الخ) ان قيل المقسوم أربعة والمقسوم عليه خمسة فكيف يصح التقسيم؟ قلت، نعم، لكن التقسيم أيضاً على أربعة، اذ اللفظ خارج عن المقسوم عليه، اذ الوضع ناظر الى اللغة والدلالة الى المنطق والاستعمال للبيان والفهم للاصول. لكن لاتظنن أن اللفظ بقي خارجا عن التقسيم، بل هو كالام لهذه الاربعة تأخذ من حصة كل واحد، إذ بيده رأس حصة كل منها، حيث يقول اللغوى وضع اللفظ لهذا المعنى والمنطقي دلالة اللفظ على هذا المعني مطابقة وهكذا..
فاللفظ داخل في حصة كل. وبهذا الاعتبار تأخذ الام من حصص الاولاد اربعا..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 189
للاغراض والمقاصد، تتطاير مترنمة من أوكارها، مرسلة الى ماقدر لها صانعها الحكيم سفراء بين العقول. فاللفظ زبد الفكر، صورة التصور، بقاء التأمل، رمز الذهن. فبسبب الخفة والتعاقب وقلة المؤنة وعدم المزاحمة وعدم القرار ترجّح اللفظ لهذه النعمة العظمى: فما أجهل من يكذب او يسرف بقيمة هذه النعمة!.
[3] "أي المفرد" لان دلالة المركب على جزء معناه مطابقة. واللفظ امارة ورمز على ما في الذهن على مذهب، وعلى مافي الخارج على مذهب 1..
[4] أي مقدار قامات المعاني.. لا يشتكى قصر منها ولا طول 2.
[5] فيه مامر في "يدعى" فان نسبة الحكم لها صور متفاوتة واستحالات متسلسلة 3.
[6] وإن قارنها دلالة التضمن والالتزام بتسليم بقاء الضعيف مع القوي، ووجود الدلالة بدون الارادة؛ لان الحيثية مرادة في "مقول الاضافة" بسر ان الحكم على المشتق وما في معناه يدل على التقييد 4...

_____________________
1 (اي المفرد) لان اللام في اللفظ للعهد والاشارة الى المفرد فلا يرد على حصر التقسيم وجمعه دلالة المركب على جزئه مطابقة على ماسيجئ فلا تبقى خارجة عن التقسيم وعن اقسام الدلالة، لان المقصود من الوضع في الدلالة المطابقية ليس وضع اللفظ لعين المعنى بل ما كان للوضع فيه مدخل..
2 (اي مقدار قامات) اقتباس من شعر الشاعر:
والفاظ رقاق النسج قدت على مقدار قامات المعاني
3 (فان نسبة الحكم) نعم. ان دلالة اللفظ على المعنى لها صور وعنوانات متخالفة كالتطابق والتضمن والالتزام وانقلابات متسلسلة بتبدل المواضع والتراكيب. مثلا: ان الناطق يكون تارة مدلولاً تضمنياً وتارة التزامياً وهكذا..
4 (لان الحيثية مرادة) علة لمقدر: كأنه قيل بعد تسليم المقارنة والبقاء لايصح ولايخص التسمية بالمطابقة فأجاب: بان الحيثية مرادة والمجوز لإرادتها ترتب الحكم على المشتق كما هنا. اي من حيث وافقه..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 190
وجزئه[1] تضمناً[2] وما[3] لزم فهو التزام ان بعقل[4] التزم[5]

[1] بمقدمتين نقلية وعقلية. ببقية ارادة واحدة، لامستقلة. والا فمطابقة مجاز او حقيقة قاصرة. ولا بارادة مشتركة وإلاّ فمجاز وحقيقة. وبالدخول في جواب ما هو، لا الوقوع في طريق ما هو. فما ذكر عند المنطقيين وإلاّ فمطلق 1.
[2] هذا والالتزام مصدران جعليان مشتقان من الدلالة التضمنية والالتزامية 2.
[3] أي خارج وإلاّ تداخل القسمان 3.
[4] أي عقلياً بيّنا أخص عند المنطقي. والاّ فسواء عقلياً او عادياً او عرفياً او شرعياً او اصطلاحياً او دائماً او موقتاً لكلمة او كلام أو قصة. او اللازم لتصور أو تصديق او تخييل او معنى من المعاني الحرفية التي لاوطن لها، تبعيا او قصديا 4.
[5] اي وان كان ضداً إذ كثيراً ما يكون اقرب الاشياء الى الشئ خطوراً ضده، لاسيما اذا انضاف الى الضدية الاضافية. حتى قيل ان النقيض نظير نقيضه 5.

_____________________
1 (بمقدمتين) اي دلالة اللفظ على جزء المعنى ثابتة بمقدمتين نقلا وعقلا. أما نقلا: فلأن دلالة اللفظ على جزء المعنى ليست مهجورة، بل هي ثابتة عند العلماء ومعتبرة في الاحكام. وأما عقلا: فلأن وجود المركب انما هو بوجود الاجزاء ولولاها لم يوجد، فاستلزامه لها ودلالته عليها ضرورية.
(وبالدخول في جواب ماهو) عطف على (ببقية) اشار به الى لزوم تصور ذلك الجزء بالجزئية والا لم تكف الدلالة تضمنا. وانما يعلم ذلك التصور بصلاحية ذلك الجزء للدخول في جواب ماهو لان تعبير الدخول خاص بالاجزاء والوقوع عام فالحيثية مرادة. اي من حيث هو جزء. وإلى هذا أشار بقوله (لا الوقوع في طريق).
2 (وهذا) أي التضمن (والالتزام مصدران) توجيه لما يقال: من ان التسمية بالتضمن والالتزام ليست بصحيحة اذ لايجوز حملهما على الدلالة.
وجه التوجيه: انهما مصدران جعليان اي مشتقان اي مشقوقان اي متغيران اي محرفان من التضمنية والالتزامية. مثل »شمو من شمس الدين«.
3 (اي خارج) ليخرج الداخل من شمول (ما) (والاّ تداخل القسمان) أي التضمن والالتزام لان الجزء الداخل لازم.
4 (اي عقليا بينا) هذه الاقسام المذكورة المتساوية عند غير المنطقي، ايضاحها بالامثلة ليس في وسع (عبد المجيد) الآن بل مدفون مع الاستاذ !.
5 (حتى قيل ان النقيض نظير نقيضه) كالنور والظلمة والليل والنهار، فان تصور كل يخطر الآخر بالبال.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 191
فصل في مباحث الالفاظ

مستعمل[1] الالفاظ حيث يوجد إما مركب[2] وإما مفرد[3]

[1] مسور كلية هذه القضية الاستغراق المكسوب من المضاف اليه، لوصفية المضاف. لانه حملية. والسور "حيث" من حيث أنها شبيهة المنفصلة 1.
[2] المركب المركب مع مع مفرد ومع من مركب من 2...
[3] اي مع عدم اعتبار الغير لا اعتبار عدم الغير. أخّره مع تقدمه لأن مافيه من العدم حادث لا أصلي. اذ وضع الالفاظ لاليفيد معانيها لتعينها اولاً، بل ليفيد مايعرضها بالتركيب. فالمركب مقدم. كما في دلائل الاعجاز 3.

_____________________
1 (مسور كلية هذه القضية) حاصله: ان تشكل هذا التقسيم في شكل قضية حملية كلية شبيهة بالمنفصلة. موضوعها (مستعمل)، محمولها المردد بين إما و او.
كليتها لمحافظة حصر التقسيم وجمعه. اذ لولاها لم يكن جامعا للاقسام.
وسورها الاستغراق المستفاد من اللام في المضاف اليه، اذ لا يكتسب الاستغراق من الموضوع المضاف لانه وصف لا افراد له لذاته.
وشبهها بالمنفصلة في كون التردد بين جزئي المحمول لا بين قضيتين. ثم ان محمول هذه القضية الحملية لكونه كالمنفصلة لابد ان يكون كلية مسورة كالحملية ايضا محافظة لحصر التقسيم لكن الاستغراق في الشرطيات باعتبار الازمان والاوضاع. وسور هذه المنفصلة (حيث) فمعنى تلك القضية: كل لفظ مستعمل في كل زمان وعلى كل وضع اما مفرد او مركب.
2 (المركب المركب مع مع مفرد) لان واحدا من جزئي المركب وقع بعد مع، ولم يبق فيه الا جزء واحد فهو قبل ذكر ما وقع بعد مع مفرد. (والمركب مع من مركب من. .) لان من بيان وتفسير لما قبله، فلو لم يلاحظ الجزآن في المركب قبل ذكر (من) يبقى المفسر بلا مفسر. فقبل ذكر (من) يلاحظ الجزان فيه البتة، فهو مركب من أى (من) اجزائه.
3 (اي مع عدم اعتبار الغير) اي وارداته. سواء كان الغير موجودا او لا ليدخل عبد المجيد علما (لا اعتبار عدم الغير) اذ حينئذ يخرج هذا الفقير عن التعريف (اخّره مع تقدمه) اي على المركب لانه جزؤه (لان مافيه من العدم حادث) لان وجود عدم وجود دلالة الجزء في مفهوم المفرد، إنما وجد بعد وجودها في شئ آخر، اعني المركب. مع ان الوجودي مقدم على السلبي والاصلي على الحادث.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 192
فأول[1] ما[2] دل[3] جزئه[4] على[5]
جزء[6] لمعناه[7] بعكس[8] ما تلا
[1] من ديدنهم ترديف التقسيم القطعي بالعقلي للاثبات 1
[2] أي لفظ 2 [3] اي واريدت 3
[4] اي المرتب في السمع 4 [5] أي بالذات 5
[6] أي له وقع 6 [7] أي المعنيّ 7
[8] أي نقيضه 8...
اعلم! ان لمفهوم المركب فرداً فرداً هو وجود جميع الاجزاء. وللمفرد افراداً بعدد عدم الاعم. فالاخص، ثم الاخص الى عدم الارادة. واخص الكل الاعم، اذ عدم الاخص أعم، فيعم احداً وثلاثين عقلا وستة واقعاً 9.

_____________________
1 (التقسيم القطعي بالعقلي) أي من عادة العلماء انهم بعد التقسيم القطعي أي الثابت ثبوته في الواقع، يقسمون بالعقلى أيضاً للاثبات. أي ليحصل الثبوت في الذهن أيضاً..

2
(اي لفظ) جنس وباقي القيود فصل فغيره ليس بمفرد ولامركب كالإِشارات..
3 (اى واريدت) اي ان دلت ولم ترد فمفرد كالحيوان الناطق علما..
4 (أي المرتب في السمع) فالفعل الدال بمادته على الحدث وبهيئته على الزمان مفرد لامركب ...
5 (أى بالذات) فالدال بالواسطة ليس مركبا، كالانسان الدال على قابل العلم بواسطة اللزوم.
6 (ليس له وقع) أى تأثير وفائدة فلا عبرة بأرادة دلالة (زاء زيد) على يده مثلا..

7
(أي المعنىّ) كعبد المجيد فان مدلول جزئه ليس جزءاً للمعنى المقصود إذا كان علما فليس مركبا..
8 (أي نقيضه) اي لان (دلّ) نقيض (ما دل) فالمفرد والمركب نقيضان مفهوما...
9 (اعلم ان لمفهوم الخ) حاصله: ان للمركب فرداً فرداً أى اجزاء يحصل ويتشكل المركب باجتماعها فقط. وللمفرد أفراداً أى جزئيات واقساما حاصلة من نفي كل واحد من القيود المذكورة المشروطة لتشكل المركب.فبانعدام كل قيد مع بقاء الآخر فرضا يحصل للمفرد قسم عقلا. فاذا ضربنا القيود المنفية في المفرد في الستة المشروطة الموجودة في المركب - المذكورة آنفا - يحصل للمفرد ستة وثلاثون قسما عقلا. ولكن القيد الاول - أعني اللفظ - خارج عن الضرب لكونه مقسما للمفرد والمركب. فيبقى احد وثلاثون قسما. هذا عقلي. وأما الخارجي فستة: والى هذا أشار بقوله (بعدد عدم الاعم ..الخ). نعم، بناء على ان كل قيد ذى قيد اخص من مطلقه، كالانسان الكاتب مع الإِنسان..
والحاصل: انه كلما يتزايد القيود يتخصص. يعني يكون الثاني أخص من الاول، والثالث من الثاني، والرابع من الثالث، والخامس من الرابع، والسادس من الخامس. فالاخص من الكل الثالث؛ اذ لا اخص تحته. وهو مع كونه اخص الكل؛ بهذا الاعتبار يكون اعم الكل اذ لا اخص تحته فهو مطلق والمطلق أعم من المقيد...


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #19
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 193
وهو على[1] قسمين أعني[2] المفردا[3] كلي[4] أو جزئي[5] حيث وجدا

[1] "على" حاملة بـ "الى" ظرفان لغوان. أي ينقسم الى قسمين ويقوم واقفاً عليهما 1…
[2] كما أن "أى" للمطابقي و "المراد" للالتزامى -كذلك "اعني" وما يرادفه للتضمني. اذ المذكور مركب 2.
[3] لا مقابل المضاف والجملة والنسبة
[4] منسوب الى كله الذي هو جزئيه 3
[5] منسوب الى جزئه الذي هو كله. فالناقص زائد والزائد ناقص 4.

_____________________
1 (على حاملة بـ الى ). نعم، ان مجرور (على) أي (القسمين) بمادته وجوهره يقتضي تقدير (ينقسم) وهو إنما يتعدى بـ (الى) وبتثنيته المفيدة للحصر، اذ لا ثالث لهما يقتضى تقدير (ينحصر) او ما يقوم مقامه. ففي بطن (على) (الى).
(لغوان) أي سواء كان (على) او (الى) فهما ظرفان لغوان لاظرف مستقر لتعلقهما بالافعال الخاصة.
2 (كما ان اى). حاصله: ان المعنى المجهول ان كان المعنى الموضوع له يفسر بـ (اى) وان كان جزؤه فبـ (عنى) وان كان لازمه فبـ (المراد)..
اختار الناظم التفسير بـ (اعني) إشارة إلى أن الضمير في اول البيت أى في قوله (وهو على قسمين) راجع إلى المذكور. وفيه المفرد والمركب. فلفظ (المذكور) المراد مركب والمفرد من اجزائه. فاختيار الناظم التفسير باعني مناسب في موضعه. وإِلى هذا أشار الاستاذ بقوله (إذ المذكور مركب) يعنى ان ضمير (هو) راجع إلى المذكور وهو مركب من المفرد والمركب...
3 (منسوب إلى كله الذي هو جزئيه) الضمير للمنسوب؛ لأن الجزئي عبارة عن الكلي، والتشخصات فالكلي جزء للجزئي والجزئي كل للكلي فالنسبة بينهما من قبيل نسبة الجزء إلى الكل..
4 (منسوب الى جزئه الذي هو كله) لان الكلى. داخل في حقيقة الجزئى فالنسبة بينهما من قبيل نسبة الكل الى جزئه. فالجزئي كل والكلي جزء.
(فالناقص) أي الجزء المنسوب اليه الناقص بعدد حروفه من المنسوب (زائد) على المنسوب باعتبار كليته وشموله للغير. وكذا ان الزائد أي المنسوب الكثير الحروف من المنسوب اليه (ناقص) باعتبار تشخصه وعدم شموله للغير.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 194
فمفهم اشتراك[1] الكلى كاسد[2] وعكسه[3] الجزئي[4]

[1] اعلم!
ان هذا الاشتراك اشتراك تمثيلي واتحاد وهمي. اذ الاشتراك والاتحاد بكلي معنييهما غير متصور هنا. بل المراد تطابق النسب. كتساوى نقط المحيط لنقطة المركز. لو ذهبت احداها اليها كانت اياها وبالعكس. أعني أن الكلي لو خرج بالفرض من عالمه ودخل باب إحدى جزئياته - فبسر عدم العبثية - يفنى هو ويبقى ما في الجزئى من ظله فيتوهم الاتحاد.. وكذا لو تطاير بالفرض متصاعداً إحدى جزئياته من عالمها الى مقام الكلى، فبالوصول الى بابه يناديها "أنا زعيمكم هنا كما أنتم نوابي في مملكتكم". ثم ينطفى. فيتوهم الاشتراك، ولو ممتنعاً. اذ الفرض ممكن 1..
[2] اي من المبادئ التصورية. اي رسم ناقص ليطمئن قلوب الحواس لحكم العقل فيقرأوا ما في المثال من آيته 2..
[3] أي لا يشترك بالامكان اشتراك الوجود الظلي، لوجوداته الاصلية. الممثل عكسه بتخييل نقطة المركز مصباحا ونقاط المحيط زجاجات 3..

_____________________
1 (اعلم! أن هذا الاشتراك) حاصله: أن الكلي ظل ذهني للجزئيات الخارجية وهي مثالات له. فالنسبة بينهما كنسبة نقطة المركز الى نقط المحيط. لكن ان ارتفع الجزئي من الخارج ودخل الذهن تنطفى تشخصاته وتنسلب عنه فيكون كليا. وكذا ان سقط الكلي ووقع في الخارج ينضم اليه التشخصات فيصير جزئيا.
ففي المنزلتين لايُرى الا واحد منهما فيتوهم بينهما الاشتراك والاتحاد..
2 (اي من المبادى) اى قسم من القول الشارح لانه مثال والامثلة رسوم ناقصة...

3 (أي لايشترك بالامكان.. الخ) اظن ان هذه القضية موجهة (والجهة) الامكان و(لا) نافية لها و (اشتراك) منصوب اما بنزع الخافض - اي كاشتراك - أو على انه مفعول مطلق نوعي. حاصله: ان الجزئي لايمكن ان يشترك ذلك النوع من الاشتراك كما كان في الكلي اذ لاوجود له ظليا لوجدات في الذهن اصلية في الخارج. بل الخارج مركز لوجوده الاصلي. وهو مصباح في الخارج يرى في زجاجات الاذهان عكس الكلي...
س :- مالفرق بين الجزئي والكلي في فرض الافراد حتى تفرض للكلي لا للجزئي؟
فاجاب المرحوم: بان الفرض ممكن في الكلي ممتنع في الجزئي. مثلا: ان (الله) علم للذات لايحد، اذ لاجنس له ولافصل فليس له مفهوم حتى يفرض له الافراد باعتبار المفهوم. فالفرض فيه ممتنع.
واما فرض الافراد للجزئي الكلي في (الجزئي كلي) فهو فرض ممكن؛ اذ له حد. وفي حده جنس وفي جنسه عموم. فله مفهوم عام يمكن فرض قوله على كثيرين لا وجود لها.
(كما ان الفعل اسم) دفعٌ لما يقال: من ان الجزئي والكلي ضدان كيف يحمل احدهما على الآخر.. وجه الدفع: ان حمل الكلي هنا ليس على الجزئي الفردي الخارجي، بل على مفهومه. وهو ايضا كلي من الكليات لكن من المعقولات الاولى. والكلي المحمول عليه في المثال من المعقولات الثانية فلا اشكال. كما لا اشكال في حمل الاسم على الفعل؛ لان الاسم محمول على لفظ الفعل وهو اسم من الاسماء (كالاسم).



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 195
[4] كــ [الله] جل جلاله: والجزئي كلي كما ان الفعل اسم. وافترق الجزئي والكلي الفرضي، بان الاول فرض ممتنع والثاني فرض ممكن..

فأولاً[1] للذات ان[2] فيها[3] اندرج[4]
فانسبه[5] او[6] لعارض[7] اذا[8] خرج[9]
[1] أي الأولى "اولا" اذ لا ثاني هنا، لان الجزئي كما لاينضبط احوالاً لايفيدنا كمالاً حكمياً "للذات" كذات "يدك وأنائك" فان الماهية مظروفة الوجود. والذات هي مع اضافة الوجود. والحقيقة هي بشرط الوجود. والهوية هي مع الوجود 1...

_____________________
1 أي الاولى (اولا) يعني ان صنيع الناظم في هذه العبارة حيث اختار (اولا) على (الاول) فذكرُ ذلك وترك هذا احسن وأسلم. لأن لفظ الاول والثاني من الاضداد ومن المتضايفات، ذكر احدهما يخيل الآخر. فلو ذكر الناظم لفظ الاول لبقي السامع -بحكم التضايف الضدي- منتظراً إلى أن يذكر (الثاني). ولا (ثاني) هنا لان احوال الجزئي لاتنضبط ولا فائدة لنا فيها. كذلك أحكامه لاتفيد كمالا ولا فائدة، حتى يلزم ذكرها فيحتاج إلى ترديف (الاول) (بالثاني)، فاختار (اولا) تخليصاً للسامع عن الانتظار لان المفهوم من (اولا) الابتدائية لا اول الاعداد.
(للذات) (كذات يدك و(انا) ئك). أشار بهذين المثالين إلى أن (الذات) ينسب اليه أجزاء الماهية كالجنس وتمامها كالنوع. وان الذات كما يطلق على الكل يطلق على الجزء ايضا. فاليد في المثال الاول لكونه جزء لتمام ذي اليد مثال للجنس الذي هو جزء الماهية. ومرجع (أنا) الذي هو تمام ذي اليد مثال للنوع الذي هو تمام الماهية. (وانائك) مركب اضافي على لغة "الاكراد" من ضميري المتكلم والمخاطب. عطف على (يدك) والمعنى أي كذاتك الذي تعبر عنه بـ »انا« فمرجع »انا« تمام جسد ذي اليد واليد جزؤه.
(فان الماهية.. الخ) حاصله: ان الهوية والحقيقة والذات اعيان للماهية انقسمت هي اليها باختلاف الاعتبارات والحيثيات، إذ الوجود لو اعتبر مع الماهية اي شطراً فهوية. ولو اعتبر شرطا فحقيقة. ولو اعتبر مع الاضافة فذات. لكن المضاف اليه غير داخل..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 196
[2] فالتشكيك لخفاء الذاتية عكس العروض.
[3] اي في تفصيلها ذهناً، للزوم الاتحاد في الخارج للحمل. واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات. أو في الخارج مأخذها. وقيل متعددة فيه، وصحة الحمل للالتحام 1...
[4] اي لم يخرج 2..
[5] اي سمه ذاتيا. ولا يلزم شمول وجه النسبة - مناسبة التسمية - لكل الافراد 3..
[6] للتقسيم لا للتخيير الذي يفيده الانشاء فانه اخبار 4..
[7] عدل عن عرض، اشارة إلى الحمل 5..
[8] للظهور بالنسبة 6..
[9] فالنوع كالفصل خاصة الجنس وعارضه كما في المناسبات 7...
_____________________
1 (أي في تفصيلها) أي تحليل الماهية إلى أجزائها. وإنما ذلك في الذهن، ولولا الاتحاد في الخارج لما جاز الحمل بينهما.
(واختلاف العبارات) كالاندماج والدخول وعدم الخروج (باختلاف الاعتبارات). ومن الاعتبارات مراعاة النظم والوزن..
2 (اي لم يخرج) سواء كان جزء الماهية او تمامها ليشمل النوع...
3 (ولا يلزم شمول وجه النسبة) فلا بأس لخروج النوع من وجهها..
4 (فانه اخبار) إذ التقسيم واقع في الازمنة الخالية. لكن الناظم اراد ان يخبر ويحكى عن ذلك الخبر بلفظ الانشاء.
5 (اشارة الى الحمل) اذ العرض لايحمل بل المحمول العارض .. وفيه مافيه.. تأمل!.
6 (للظهور بالنسبة) اي ذكر أولا (إن) الدال على الشك. وهنا (اذا) الدال على القطع. اشارة الى ان كون التسمية بالعارض اظهر من التسمية بالذاتي في الجملة..
7 (فالنوع كالفصل) أي فعلي هذا لايكون النوع ذاتيا،ً بل يكون خاصة للجنس وعارضه، اي غير شامل كما ان الفصل كذلك كما سيأتي..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 197
والكليــات[1] خمســة[2] دون انـتـقاص
جنس[3] وفصل[4] عرض[5] نوع[6] وخاص[7]

[1] في التعريف استعظام. هي كاخواتها بينما هن معقولات ثانية، حرفية المعاني. وتبعيتها مرايا للمعقولات الاولى؛ اذ صارت طبائع اسمية يتطاير من جوانبها ما يتوضع عليها، ويخرج ما كانت لابسة له، ويتولد منها من يدعى انه اب لأبيه كما أن الكلي نوع الجنس الذي هو نوع الكلي وقس 1..
[2] اي انتج أربعة تقسيمات، خمسة أقسام متقابلة ان اتحد المنسوب اليه. فأن تعدد فقد تجتمع في واحد وقد تتحد في نوع كالنوع الاضافي. 2
[3] أي الذاتي الاعم بسيطاً او مركباً. 3
[4] اي الذاتي المميز قريبا او بعيداً. 4
[5] اي الخارج العام مطلقا او مقيداً. 5
[6] اي الجواب التام حقيقاً او اضافياً. 6
[7] أي الخارج المميز للجنس او النوع..

_____________________
1 (في التعريف استعظام) اى العظمة والحشمة تترشح من ايرادها بالجماعة »حرفية المعاني« أى مدلولاتها كمدلول الحرف غير مستقلة »وتبعيتها« اى تبعية المعاني اى معانيها تابعة وآله للغير »اذ« فجائية »اسمية« أى حقائق مستقلة كالاسم »يخرج ما كانت لابسة له« اولاً من العنوان الاول وتتزيا بعنوان آخر »يتولد منها الخ« مثلاً: ان الكلي بعدما كان نوعاً للجنس وإبناً له ولابساً لعنوان النوعية اذ يخرج من ذلك العنوان ويتلبس بعنوان الكلية ويصير أبا لمن كان أباً له...
2 (ان اتحد المنسوب اليه) أى ان لوحظ الكلي حين الانقسام باعتبار المفهوم فلاشك يكون الاقسام متقابلة »وان تعدد« اى لوحظ الكلي في ضمن الافراد »فقد تجتمع« الخمسة »في واحد« فلا تقابل بينها كالملون فانه جنس للاسود والابيض. ونوع للمكيف. وفصل للكثيف. وخاصة للجسم. وعرض عام للحيوان. »وقد تتحد« اى بعضها »في نوع كالنوع الاضافي« كالحيوان فانه جنس لما تحته ونوع لما فوقه..
3 (اى الذاتي الاعم) هو الجنس العالي كالجوهر والجسم المطلق..
4 (أى الذاتي المميز) اى الفصل القريب والبعيد...

5
(أى الخارج العام) هو العرض المطلق عن اللزوم او المقيد به.
6 (أي الجواب التام) هو النوع عبر عنه بهذا لانه جواب تام لسؤال »ماهو«. أما الجنس - ولو يقال في جواب ما هو - لكنه جواب ناقص...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 198
اعلم! ان بينها مشاركات مثنى وثلاث ورباع وخماس. ومباينات ومناسبات ككون الجنس عرضاً عاماً للفصل والفصل.. خاصة للجنس.. والنوع خاصتها..
ثم أعلم! أن هذه المصطلحات لها كامثالها حقائق اعتبارية لا وجود لأفرادها وانما مناط الحكم النقط التي تتسنبل عليها حدودها...

وأول[1] ثلاثة بلا شطط جنس قريب[2] أو بعيد[3] أو وسط[4]

[1] أى الاول اولى. واوليته هنا لانه اول في التعريف لانه جزء المادة الا عرف لانه أعم ولأوليته في الوجود لأنه كالمادة كالهيولى 1...
[2] أى يكون فذلكة سلسلة الاجناس والفصول غير الفصل القريب 2...
[3] أى المبدء البسيط للسلسلة وهي العشرة المشهورة التي هي أوادم الموجودات. 3
[4] أى كما انه جنس نوع. وايضاً النوع كالجنس. 4

_____________________
1 (اي الاول أولى) اما اولويته فلأن (اول) نكرة لاتكون مبتدأ إلا أن يكون تنوينه عوضاً عن (ها). وأما اوليته فلانه في التعريف أول، لانه عبارة عن جزأين أولهما الجنس لانه الأعم.
2 (أى يكون فذلكة) أى خلاصة تحتوى على مافوقه من الاجناس والفصول غير الفصل القريب، لانه تحته فلا يكون آخذا له في مفهومه..
3 (اى المبدأ البسيط) أى غير المركب من الجنس والفصل إِذ لاحد له (للسلسلة) أى سلسلة الموجودات التي هي عبارة عن عشرة اصول تتدلى جهتها الاعلى من الجوهر والجسم المطلق والجسم النامي والحيوان والانسان. فهذه خمسة ولو عد معها فصولها اعني الناطق والحساس والنامي وقابل الابعاد الثلاثة لكانت تسعة. ولو زيد عليها الصنف لتمت عشرة كاملة. وهذه الاصول منشأ المخلوقات كما أن آدم اصل لذوى الحياة...
4 (نوع) اى اضافي بالنسبة الى ما فوقه (وايضا النوع) اى الاضافي بالنظر الى ماتحته...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 199
فصل في نسبة الالفاظ للمعاني

ونسبة[1] الالفاظ[2] للمعاني[3] خمسة[4] اقسام[5] بلا نقصان

[1] اعلم! ان اللسان كالإِنسان عاش أدواراً وتحول أطواراً وترقى اعصاراً. فان نظرت الآن إلى ما تبطن "الآن" من أطلال وانقاض اللسان التي تفتت في سيل الزمان لرأيت منها تاريخ حياة اللسان ومنشؤه. فالدور الذي نجم اللسان إلى الوجود، إنما هو دور حبات الحروف الضعيفة الانعقاد، المغمورة في الاصوات، الدال اكثرها بطبيعة المحاكاة. ثم بتلخص المعاني ارتقى الى الهجاء. ثم بتكثر الأغراض تدرج الى التركيبي "ولها آيات في الشرق". ثم بتشعب المقاصد تصاعد الى التصريفي. ثم بامتزاج الحسيات الرقيقة والأغراض اللطيفة تعارج الى النحوى، وهو العربي الذي اخصر الاختصارات، الموجز المطنب، القصير الطويل. ثم بسر قلب المجاز بالاستمرار حقيقةً، تولّد الاشتراك. وبحكمة نسيان المناسبة وانقلاب الصفة بالجمود تولد الترادف.. وقس.. فالتناسب نتيجة التناسل...
[2] أي اللفظ مع اللفظ واللفظ مع المعنى والمعنى مع الفرد 1...
[3] والفرد معنى. فيه احتباك: "ذكر في كل ماترك في كل" 2..
[4] أي باندراج التساوي في الترادف. والنقل والمجاز في الاشتراك 3.
[5] اي الخمسة نتيجة خمسة، او سبعة تقسيمات بالقياس المقسم.

_____________________
1 (أي اللفظ مع اللفظ الخ) حاصله: ان الاقسام الخمسة الآتية حاصلة من نسبتين: احداهما: نسبة اللفظ إلى اللفظ يحصل من هذا الترادف والتشكك. والاخرى: نسبة اللفظ الى المعنى يحصل من هذا التواطؤ والاشتراك والتخالف. لكن الناظم احتبك في العبارة؛ بان حذف من الاولى آخرها ومن الثانية أولها. وتقدير العبارة هكذا: ونسبة الالفاظ للالفاظ ونسبة الالفاظ للمعاني. فترك من الأول ثانيه ومن الثاني اوله.
(والمعنى مع الفرد) اي نسبة المعنى المطابقي إلى جزئه او لازمه. يحصل من هذا قسمان آخران: التباغض والتلازم. ترك الناظم هذا لسبقه في الدلالة.
2 (والفرد معنى) اي جزء المعنى المطابقي أو لازمه من المعاني. فنسبته إِلى أحدهما من نسبة المعنى إلى المعنى...
3 (أي باندراج التساوي الخ) والا يكون الأقسام سبعة والتقسيمات المنتجة لها أيضا سبعة...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 200
تواطؤ[1] تشكك[2] تخالف[3] والاشتراك[4] عكسه[5] الترادف[6]

[1] أي تساوى الحصص ذاتا، وإن تفاوتت كمالاً وانكشافاً، اذ قانون تولد الاتحاد والامتزاج من الاختلاف تحكم. وكم من مترجم عن تأثره يئن قائلا:
وطالما كنا كغصنى بان لكن نما وزدت في النقصان
ألم تر: نواتين توأمين إذ سعت "تا" انكشفت نخلة. وان عصت "تي" انكمشت نخرة 1...
[2] أي التشكك مشكل بين المشتركين
اعلم! ان التشكك مع امتناعه قد يتوهم فيما لبس نفسه، والبست ماهيته هويته، ولابست ذاته صفته اسماً ورسماً كالبياض للثلج والعاج. وأما وجود الواجب والممكن فلا يشتركان إلا في العرض العام الذي هو الوجود الغير الذاتي للموجودات...
[3] فيدخل غير التغاير من التقابل والتضاد والتناقض والتضايف والتنافي والتباين وعدم الملكة...
[4] أي المتولد في الأكثر بالاستمرار أو بتناسي سر التشبيه: ألم تر لو تخيلت وجه السماء جبهة ونصف وجه أفطس أعور أو أرمد لرأيت الشمس عينه الباصرة المبصرة. أو توهمت السماء أرضا أو طوداً مظلين لأبصرت الشمس عينهما الجارية بماء الحياة وهو الضياء وقس 2...

_____________________
1 (أي تساوى الحصص) أي المراد من التواطؤ تساوي الأفراد ذاتا ومفهوما لا اتحادا في الكمال والانكشاف، لأن الاتحاد لايمكن في الافراد المتخالفة: (ألا ترى) الشاعر كيف يئن ويتأوه من نقصه وترقي رفيقه مع انهما من نوع واحد.
وانظر إلى النواتات يكون بعضها نخلة وبعضها نخرة مع أن الاصل واحد. فالتواطؤ في الذات فقط. - كالبياض للثلج - إذ لايفرق بين ماهيته وهويته وذاته وصفته ومفهومه وأفراده فيقع التشكك في حمل البياض على الثلج إما على مفهومه أو على أفراده...
2 فان لفظ العين في تلك العبارة مشترك بين الجارية والباصرة قد نُسي علاقة التشبيه بين الجارية والباصرة فصار حقيقة...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 202
[3] أي الحرف المنبث في غيره. وفي التنبيه والقسم طلب ما والمطلوب محال او ممكن. عدم أو وجود. والوجود في الذهن أو في الخارج. وهو اما حقيقي أو اعتبارى.. هذا 1..
[4] أي مايمكن عقلا في المحصل أن يكذب بتخلف المدلول ويصدق بمطابقة المدلول للمعنى كما هو يصدق لأنه تصديق 2..
وسر الفرق بين الاخبار والإِنشاء: إن الخارج في الأول لما كان كالعلة المجامعة لما في الذهن، فمتى جاء الذهنى قابله إما بالوفاق أو بالخلاف! وفي الثاني مافي الذهن كالعلة المعدة. فما دام لم يتم لا خارج له. وإذا جاء الخارج ذهب من حيث هو إنشاء...
[5] اي أو ثلاثة عشر 3..
[6] ما اقبح النظم المحوج في المختصر الى المطول بلا طائل.

أمر[1] مع استعلا[2] وعكسه[3] دعا[4]
وفي[5] التساوي[6] فالتماس [7] وقعا

[1] اعلم! انه يتفرع من الامر -كالنهي- التهديد والتعجيز والتسخير والتسوية والتمنى والتأديب والارشاد والامتنان والاكرام والامتهان والاحتقار والوجوب والحرمة والندب والكراهة والاباحة والتخيير والايجاد. وكذا التعجب وغيرها،

_____________________
1 (اي الحرف المنبث في غيره) يعني أن (أما) هذه ليست للشرط بل هي حرف للترديد لامدلول لها مستقلاً بل آلة للغير. (وفي التنبيه والقسم) أي نوع من الطلب. والمطلوب في الاول ايقاظ المخاطب وفي الثاني اثبات المدعى أو تأكيده مثلاً.
2 (ويصدق بمطابقة المدلول للمعني) حاصله: ان صدق القضية بمطابقة مدلول اللفظ للمعنى المراد. لكن هذه المطابقة لاتكفي وحدها لصدق القضية بل يلزم تطابق تلك المطابقة للواقع أيضاً كما قال الاستاذ (كما هو يصدق) أي يلزم أن يكون تلك المطابقة أيضا صادقة اي مطابقة للواقع (لأنه تصديق) أي مصدق يعني هذه المطابقة مصدقة للمطابقة الاولى لولا هذه المطابقة لم تكف الأولى لصدق القضية.
3 (أي أو ثلاثة عشر). نعم، قد زاد الاستاذ على ثلاثة الناظم عشراً من الترجي والتمني.. الخ.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #20
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 203
وامثالها من المعاني الهوائية التي يتشربها لفظ الأمر أو النهى والامر باعتبار المقامات.
ثم ان الأمر للوجوب، لان روح الاوامر "كن" وهو تامة للايجاد. ويتضمن الناقصة أيضاً.
أما الاوامر المتعلقة بأفعال المكلفين، فللابقاء على الاختيار استبدل الايجاد بالايجاب، لأنهما صنوان والايجاب ينتج الوجوب في أمر الخالق دون الخلق، لجواز تخلف مطلوبهم عن طلبهم 1.
[2] أي وإن لم يكن عالياً.
[3] أي الاستعلاء للغير.(ولقد سفل من استعلى غيراً غير عال).
[4] ما أجهل من لم يخص بالدعاء من اختص بامر الايجاد.
[5] اذا عصرت "في" و"فا" تقطرت "ان" فلا اشكال 2.
[6] أي من جهة ما به التساوي اذ قد يتساوى المتباينان 3.
[7] أي يداً بيدٍ لابرأس لا بذيل 4.

_____________________
1 (أما الاوامر المتعلقة الخ) دفع لما يرد على ماقال: من (أن روح الاوامر (كن) وهو تام بمعنى الايجاد): انه لو كان بمعنى الايجاد لزم أن يكون الأمر المتعلق بافعال المكلفين أمراً إيجاديا. ويترشح من هذا (الجبر) والحال (لا جبر ولا تفويض).
وجه الدفع: أن ذلك الأمر استبدل في حق العبد بالإِيجاب فهو أمر إيجابي، أي يتعلق الأمر بفعل العبد لها بالاختيار، لا إيجادي يتعلق بنفس الأفعال.
2 (إذا عصرت »في« »وفا«: يعني بعدما تأملت في كون »الفاء« فصيحة وفي كون »في« ظرفية يتقطر من ذلك أن (إن) مع شرطه مقدر: تقديره إن كان التساوي فالتماس، فيخلص التركيب عن الأشكال.
3 (إذ المتساويان قد يتباينان) كالمؤمن والكافر في التجارة مثلا، فالأمر الصادر من أحدهما للآخر التماس من جهة التجارة.
4 (يداً بيد) لايبعد ان يكون هذا القول إشارة إلى أن المأمور به شرعاً المصافحة باليد لا بالرأس كفعل اليهود. ولا بالذيل كما يفعله الراكعون الرافعون لأعجازهم والخافضون للرؤوس للتعظيم.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 204
فصل في بيان الكل والكلية والجزء والجزئية

الكل[1] حكمنا[2] على المجموع[3] ككل[4] ذاك [5] ليس ذا [6] وقوع

[1] اعلم! ان في جملة العالم - بالاختلاط والارتباط - تركيبا متداخلاً متسلسلاً هو مصدر الآثار. وفي الكائنات من الكل نظاماً منبث العروق منتشر الفروع، هو مدار الاحكام. فما من كل إلاّ ويلمح بثمرة من ثمرات التركيب. وما من كلية إلاّ وهي تلوح بقانون من قوانين النظام... فتأمل!.
[1] وهو كالكلية دون الكلي تصديق والكلي شخص بالنسبة إلى الكلية1.
[2] في الحمل تسامح 2.
[3] اي سواء لكل جزء نفس الحكم أيضا، أو في جزء منه دخل فيه، أو في وجوده. أو لا 3.
[4] حديث بالمعنى. المشهور، لعموم السلب لتأخر النفي -ولسؤال ذي اليدين بـ "أم" رجح سلب العموم لتنزيه كلامهصلى الله عليه وسلم عن توهم الكذب ولو سهواً في النسيان. ولأن "ليس كل" مثل "كل ليس" عند بعض 4.

_____________________
1 و(هو) راجع إلى الكل مع تعريفه المحمول عليه. (كالكلية) أي كالقضية الكلية أي في حكمها (دون الكلي) أي ليس الكل هنا بكلي ذي جزئيات حتى يكون مع محموله قضية. بل المراد منه المفهوم كالانسان في »الإنسان حيوان ناطق« فهو مع محموله قضية شخصية ذات (تصديق). (والكل) أي بحسب مفهومه (شخص) أي جزئي (بالنسبة إلى الكلية) أي إذا قوبل بها...
2 (في الحمل تسامح) لأن الكل ليس نفس الحكم حتى يحمل عليه، والمتحد به انما هو المجموع.
3 (اي سواء) ثبت الحكم (لكل جزء ايضا) كما في الحديث، على تقدير أن يكون السلب فيه عموم السلب (او في جزء منه) كالحديث أيضاً على تقدير كون سلبه سلب العموم...
4 (حديث بالمعنى) أي لا باللفظ (المشهور) ان السلب في الحديث (لعموم السلب) وهو أعم من سلب العموم (لتأخر النفي) لان (ليس) بعد (كل) لكن بالنظر لسؤال (ذي اليدين -بأم-) رجح سلب العموم أي لا وقع لا ذا ولاذاك. (في النسيان) اشارة الى أن السهو ما وقع من النبي (عليه الصلاة والسلام) الا وقت النسيان...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 205
[5] أي القصر والنسيان. "ذا. ذاك وكذلك" كالمثل لايتغيرن 1.
[6] أي عندي أو في ظني..

و[1] حيثما[2] لكل[3] فرد حكما فانه[4] كلية قد علما

[1] اعلم! ان القضية الكلية فذلكة قضايا ضمنية بعدد افراد موضوعها. مثلا: "كل ضاحك متعجب" ان (كل) أي كل فرد لا الكل المجموعي ولا المنطقي "ماصدق". اى لاحقيقته ولا صفته "عليه الضاحك" بالفعل، لا بالامكان "الفرضي". أي لا الخارجي فقط "من جزئياته". أي لا مع مسماه "الإضافية". أي لا الشخصية فقط "يتحد أو يشتمل لذاته". أي لا لمفهومه "متعجب". أي مفهومه لاذاته. وإلاّ لم ينتج الشكل الأول بفقدان أيها كان.
[2] مما أفاض "ما" على "حيث" من العموم والشرط يفيض جامعية التعريف واستلزامه للمعرف 2...
[3] أي على العنوان له ولو في "ال" والاضافة والموصول وغيره 3..
[4] ان "أن" امارة كون مدخولها من الحقائق. وماتشربت من التحقيق جهة الإثبات، كما ان الضرورة جهة الثبوت 4..

_____________________
1 (ذا وذاك وكذلك) هذه الكلمات الثلاث (كالمثل) أي مثل ضروب الامثال لا يتغيرن. فلا يرد ماقيل: من أن المشار اليه هنا اثنان والمخاطبون كثيرون.
2 (مما أفاض "ما" على "حيث") يريد ان »حيث« متى لحق به »ما« الكافة يدخل في عداد الأسماء الشرطية ويفيد جامعية التعريف ويحافظ استلزامه للمعرف...
3 »أي على العنوان له« اي حكم على مفهومه المشترك بين الافراد. "ولو في "ال" والاضافة الخ« أي ولو حصل الاستغراق منها..
4 (إن "أن" امارة) أي كما إن (أن) بالفتح تأكيد لمدخولها إن »إن« بالكسر تحقيق لمدخولها، أي لإثبات كونه حقاً فأن الجهة اى الضرورة للثبوت. وتحقيق "إن" للاثبات في الذهن...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 206
والحكم[1] للبعض[2] هو[3] الجزئية[4] والجزء[5] معرفته[6] جلية

[1] أى له، وكذا عنده وعنه. إلاّ أن البعض فيهما من الاوضاع 1..
[2] على نفسه أو ما يرادفه طراً أولاً وآخراً، ركناً او قيداً، إسما أو حرفاً. ومايشابهه معنىً كذلك. "ككم" والعهد الذهني في "ال" والاضافة والموصول 2...
[3] و[هو] هو رافع الموضوع الى المحمول لينطبعا او يتحدا. وذات الموضوع في المحمول، خرج للجمود. ورابطة تضمنت صورة القضية 3.
[4] منسوب الى موضوعها اي الحملية الجزئية. اما الحكم على الجزئي ولو اعتبارياً كتمام الافراد وجميع مراتب الأعداد فشخصية 4...

_____________________
1 (أى له وكذا عنده) الأول إشارة إلى الحملية. والثاني إلى المتصلة والثالث إلى المنفصلة. لكن الحكم في الأخيرين على الأوضاع والأزمنة.
2 (على نفسه) أى نفس البعض كبعض الإِنسان كاتب. (او مايرادفه) أى يدل على مادل عليه البعض من البعضية مثل طراً واولاً وآخراً وركناً وقيداً. فهؤلاء الكلمات وان كانت دالة على البعضية لكن لاتستعمل في أسوار القضية إلا نادراً. (ومايشابهه معنى كذلك) بان كان بين المعنيين مشابهة لاترادف (ككم) أى الخبرية مثل: »كم كتاباً قرأته« فان الكتب المقروئة المخبر عنها بكم بعض قليلاً أو كثيراً (والعهد الذهني في (ال) والإِضافة والموصول) هذا الاخير عطف على العهد لا على (ال) إذ دلالته على البعضية ليست لذاته بل بالصلة.
3 (وهو) أى لفظه. وله في القضية ثلاث وظائف:
احداها: رفع الموضوع وجره إلى المحمول (لينطبعا) إذا كان الثاني أعم (او يتحدا) إذا كان مساوياً:
الوظيفة الثانية: انه (ذات الموضوع) أى راجع إلى ذات الموضوع أى لا إلى وصفه. ساكناً ومستتراً (في المحمول) لكن (خرج) من مسكنه كما هنا (للجمود) أى لكون المحمول جامداً.
الوظيفة الثالثة: انه (رابطة) بين الطرفين يدل ويحافظ على صورة القضية كما يحافظ الطرفان مادتها.
4 (منسوب إلى موضوعها) العائد للجزئية. تقدير الكلام: الحملية الجزئية هي الحكم للبعض. فالحملية موضوع والجزئية صفة لها، أى الحملية المنسوبة إلى الجزء أى البعض.. (أما الحكم على الجزئي). هذا مقابل للحكم على كل فرد وعلى البعض. أى الحكم على الجزئىة شخصية (ولو) كان كونه جزئيا (اعتباريا) أى فرضيا (كتمام الأفراد) فانه جزئي فرضي (ومراتب الأعداد الخ) فان العشرين وأمثاله ليس من الجموع. فالحكم عليه شخصية...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 207
[5] أما التصوري فظاهر. واما التصديقي فانما هو في ضمن الكل. وإلا ففي التصريح إما شخصية أو كلية أو طبيعية أو جزئية 1.
[6] أى الجزئية بالتفرع في ضمن الكل اى في ضمن التصوري. وأما التصديقي فتحقيقه تجلو بالقياس الغير المتعارف المستعمل في ادراج مسائل العلوم في تعريف العلوم. كـ "يده" داخل فيه وكله حسن فيده لها دخل في الحسن 2…

_____________________
1 (أما التصوري فظاهر) أي أما الحكم على الجزء الذي لاحكم فيه فظاهر أنه شخصية. (وأما التصديقي) أى الحكم على الجزء التصديقى الذي كان موضوعاً لمحمول »كيده حسن« فقد علم حكمه في ضمن الكل في قول الناظم: »وحيثما لكل فرد«...
وإن لم تكتف بمعرفته الضمنية فقد يكون شخصية »كعينه كحلاء«. او كلية »ككل عين باصرة«. او طبيعية »كالعين آلة للرؤية«. او جزئية »كبعض العين شهلاء«..
2 (بالتفرع) أي انكشفت معرفة الجزئية تبعاً في ضمن الكل. (بالقياس الغير المتعارف) وهو الذي لايكون الحد الأوسط من الموضوعات والمحمولات. بل من متعلقاتهما.. (المستعمل في أدراج الخ) مثلاً: هذه المسألة جزء من المنطق والمنطق يبحث عن الايصال فهذه المسألة لها دخل في الايصال..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 208
فصل في المعرفات

معرف[1] على ثلثة[2] قسم[3] حد[4] ورسمي[5] ولفظي[6] علم

أعلم! أن في بحبوحة فطرة الانسان احتياجاً ذا ألسنة ضمنية ذات خمسة اسئلة، يقابل بها الحادثات. وينعي بها الواقعات. وينادي بها الكائنات.. المشهور منها "ما" المولد للمبادئ التصورية. و"لمه" المدون للمبادئ التصديقية في العلوم.. وتجيبها الحكمة بلسان الكائنات المفسر بعضها بعضا - بالتعريفات - في مقابلة سؤال "ما". وبالادلة في جواب سؤال "لمه".
[1] هو لتعريف الحدود الوسطى، لإدراج الجزئيات تحت الكليات، فيسرى اليها حكمها فتسهل الصغرى 1...
[2] اكتفى بما مرّ من التقسيم عن التعريف لان بيان المصطلحات ليس من اساسى العلم بشئ. واما التقسيم فمن المسائل.. ثم انهم رجحوا "على" على "الى" نظراً للمبدأ والتحصيل لا المحصل والتعليم. فان استقراء الجزئيات والأقسام هو الذي يفيد ترتب المقسم على الأقسام 2.
[3] تقسيم الكلي الى الجزئيات محصل لحدود الاقسام، ان كان عقلياً. واما تقسيم الكل الى الاجزاء فلتحصيل ماهية المقسم في الخارج...

_____________________
1 (هو لتعريف الحدود الوسطى) أى القول الشارح لتعريف الأقسام الأربعة، أى الحدين والرسمين، أى يعرفهما للطالبين، ليعلموا كيفية تحصيل تلك الأقسام وترتيبها بحيث يجمع تحتها الافراد ويخرج الاغيار. فينتقلوا بواسطة ذلك الترتيب بسهولة إلى المعرفات المجهولات. قوله (فتسهل الصغرى) إشارة الى المقدمة الاولى من الدليل الذي هو خلاصة »علم المنطق« وقد مر. . والمراد بقوله (الحدود الوسطى) أقسام التعريف..
2 (اكتفى بما مر الخ) يعنى ترك الناظم التعريف اكتفاء بما ذكر من التقسيم لأن التعريف من المصطلحات وبيانها ليس من أساسى العلم بشئ أى التصور والتصديق. (ثم انهم رجحوا »على« الخ) يعني ان نظر إلى أن الجزئيات والأقسام حصلت بالاستقراء. ثم وقع التقسيم على الموجودات الذهنية يترجح (على) على (إلى) لأن (على) يفيد ترتب المقسم على الأقسام الموجودة الحاضرة. وان نظر إلى أن التقسيم وقع قبل الاستقراء فالاولى (إلى)...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 209
[4] أي ما اشتمل على حدّي الشئ اللذين تضمنهما "من أين إلى أين" في النشر 1..
[5] هو نظير "برهان الإنّ". كما أن الحد "برهان اللم" 2.
[6] هو كالأسمي ناظر الى الوضع، كما في "القاموس" وتعريفات المصطلحات 3..

فالحد بالجنس[1] وفصل وقعا[2]
والرسم[3] بالجنس[4] وخاصة[5] معا[6]

[1] أي فذلكة ماعدا الفصل القريب معه ولو تركباً. والفصل خاصية الشئ الجوهرية. والفصول العرفية مشيرة اليها بنفسها مفردة أو مركبة مفيدة لبسيط. والجنس كالهيولي، والفصل كالصورة، وهما كالمادة. والترتيب كالصورة في الوجود الذهني.. عرف في الأول لأنه أعرف.. لأنه أعم.. فهو الأول.. ونكر في الثاني، لأنه أخفى.. لأنه أخص 4...

_____________________
1 (أى ما اشتمل على حدّي الشئ) أى اوله وآخره ومنشؤه ومنتهاه (في النشر) أي الشرح والفصل.. نعم. إذا فصل الحد مثلا: ينفصل إلى الجنس والفصل. والجنس إشارة الى المنشأ والمبدأ والفصل إلى المنتهى والآخر.. فاذا سألت عن الإنسان (من أىن) يُجاب: من الحيوانية و (إلى أين) يجاب: إلى الناطقية أى الإنسانية فالحد لاشتماله على الجواب لسؤال المبدأ والمنتهى سمّي حداً...
2 (هو نظير برهان الإنّ) أي الاستدلال من العلة إلى المعلول (برهان لمي). ومن المعلول إلى العلة (إنّي) كالاستدلال بالنار على الدخان ليلا. وبالعكس نهاراً. والتعريف بالحدّ يشبه الأول وبالرسم يشبه الثاني...
3 (ناظر إلى الوضع) أي لا إلى المعنى (كما في القاموس) أي كل ما في القاموس من بيان اللغات (وتعريفات المصطلحات) لأنها من التعريفات اللفظية التي هي كالأسامي...
4 (أى فذلكة) أي الجنس القريب فذلكة وخلاصة لما فوقه من الاجناس العالية والمتوسطة، مع فصولها البسيطة والمركبة »اي كفصل الحيوان فانه مركب من جزئين الحساس والمتحرك بالإرادة« غير ماتحته كالناطق. والفصل الذي يميز الأنواع عبارة عن جوهر خاص في ذات النوع. والفصول الظاهرة أعراض مشيرة إلى ذلك الجوهر البسيط...



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 210
[2] هو كحصل ووجد وثبت الحرفية. شأنه الاستقرار. ولكن لغى للنظم. او لاسلوب لطيف، كأن الحد ثمرة 1..
[3] اللام للكمال 2..
[4] اللام عوض الصفة 3.
[5] ولو مركبة من أعراض عامة. ولادور؛ لأن التعريف المفيد لانتقال طبيعة الفكر يتوقف على وجود الاختصاص في نفس الأمر، لا على العلم بالإختصاص حتى يدور؛ لأن الإنتقال ليس باختياري، وعلم العلم ليس لازما 4.
[6] إشارة إلى التفطن الذي هو مزج الأجزاء لتوليد الطلب: وكذلك في القياس..

_____________________
1 (هو كحصل الخ) يعني ان حصل وامثاله من الافعال العامة ليست بذات معان مستقلة بل معانيها حرفية لارتباط الكلمات بعضها مع بعض. (شأنه الإستقرار) يعني المناسب معنى تبديل الوقوع بالاستقرار حتى يكون مستقراً لا لغواً لكن (لغى) ضرورة للنظم (او لاسلوب) يعني ان الوقوع هنا بمعنى السقوط: فكأنه إشارة إلى أن الحد كالثمرة والمناسب للثمرة الوقوع لا الإستقرار..
2 (اللام للكمال) إشارة إلى الرسم التام لا الناقص.
3 (اللام عوض الصفة) أي جنس قريب.

4
(ولادور) وجه الدور: ان العلم بالتعريف موقوف على العلم بأجزائه. ومنها الخاصة والخاصة لاتعلم إلا بعد ذي الخاصة. وجه الدفع: إن العلم بالتعريف إنما يتوقف على وجود الإختصاص في نفس الأمر لا على علمه. وكذا إن الإنتقال ليس باختياري حتى يتوقف على العلم بالإختصاص..



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 211
وناقص[1] الحد بفصل[2] ومعا[3] جنس[4] بعيد لا قريب[5] وقعا

[1] أي المساوى ماصدقا لا مفهوما 1..
[2] أي المقوم للنوع، والمقسم للجنس. والمحصل لحصة الجنس في النوع. فإن تأول بالمركب فذاك... وإلا فالتعريف حدسي 2..
[3] اي وبعدمه، أو بعده معاً 3..
[4] أي تمام المشترك بين النوع وبين بعض مشاركيه لا كله.
[5] أي لا.. ولا متوسط 4..

_____________________
1 (أي المساوى ما صدقا) أي افرداً (لامفهوما) اشارة إلى أن الحد الناقص - إذا كان بالفصل البعيد أو بالفصلين البعيدين عند من يجوز التعريف بالأعم - أعم من المعرف...
2 (فإن تأول بالمركب) أي الفصل القريب كالناطق مثلا: اذا تأول بـ (ذات من ثبت له النطق) (فذاك) طيب أي لايرد على جامعية التعريف (وإلا) اي وان أبقى على افراده بلا تأويل فالتعريف حدسي لا منطقي عند من فسر القول بالمركب في (القول الشارح).
3 (أي وبعدمه أو بعده معاً) الاول راجع للجنس القريب. والثاني للبعيد. حاصله: أن الحد الناقص اما بالفصل القريب بدون الجنس. اشار الى هذا بقوله (وبعدمه) اي الجنس كالناطق... وإما بالفصل مع الجنس البعيد أي بشرط وقوع الفصل بعد الجنس كما قال (أو بعده معاً) فالمعية بعدية كالجسم الناطق لا قبلية بأن يقال الناطق الجسم..
4 (أى لا.. ولا متوسط) أي لا أبعد ولا متوسط ليفترق عن الرسم الناقص.



صيقل الإسلام/قزل إيجاز - ص: 212
وناقص[1] الرسم بخاصة[2] فقط[3] أو مع جنس أبعد قد ارتبط[4]

[1] ولقد أفرزوا له أدنى المراتب. ولكنه قد حاز اعلاها لانه اطول اخوانه باعاً - اي يدا - وأوسعهم مجالا واعظمهم وكراً وأكثرهم لله ذكراً.. 1
[2] أي شاملة او لا. لازمة او لا. حقيقية اولا. بسيطة او لا. محصلة ولو من المثال او التمثيل او التقسيم او التفسير وقس.. وهذا القسم من الرسم هو الملجأ في تعريف البسائط والاجناس العالية والفصول البسيطة وغيرهما اللاتي لاتحد. وان حدت. اما الاشخاص فلا تحد ولا تحد - الا العلوم والقرآن - فانهما يحدان بتنزيل أجزائهما بمنزلة الجزئيات. 2
[3] لو سكت لسقط.. 3
[4] أي بنسبة تفيد المزج كالتوصيفي، لا الإضافي المفيد دخول الاضافة وخروج المضاف اليه.

_____________________
1 (وأكثرهم لله ذكراً) لأن توصيف الله تعالى بصفاته داخل في شمول هذا القسم من التعريف..
2 (اللاتي لاتحد) إذ لاجنس لها. والحد لابد له من جنس (وان حدت) اي تكون حداً أو جزء حد للغير...
3 (لو سكت لسقط) لأن الرسم الناقص إما بالخاصة وحدها او مع الجنس. فلو كان سكت عن قيد (فقط) ولم يذكره لكان مطلقاً. والمطلق أعم يشمل القسم الثاني أيضاً فيكون ذكره سقوطا عن الفائدة...



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
(( الإنسان )) في الإسلام .. الوفا لله المواضيع الاسلامية 0 07-17-2013 06:44 AM
الإسلام دين المحبة عبدالقادر حمود مقالات مختارة 2 11-27-2012 01:06 AM
صور من صدر الإسلام معين السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 2 07-19-2009 01:41 PM
أخلاق الإسلام نوح القسم العام 2 07-16-2009 02:40 PM
من أدب الإسلام هيثم السليمان المواضيع الاسلامية 12 04-17-2009 03:33 PM


الساعة الآن 10:02 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir