رد: ذكر تاريخ وقعة اليرموك ومن قتل بها
فلما رأى قيس بن هبيرة خيل المسلمين وراء صفهم مما يلي ميسرة المسلمين، وأن المسلمين قد دخلت ميسرتهم العسكر وأن الروم قد صمدت لهم، اعترض الروم بخيله تلك ينتظر خيل خالد بن الوليد، فتعطف بعضهم إلى بعض ورجع المسلمون في آثارهم فقاتلوهم، وحمل على من يليه من الروم، وهو في ميمنة المسلمين حتى اضطروهم إلى صفوفهم. فلما رأى خالد بن الوليد أن قيس بن هبيرة قد كشف من يليه وأن المسلمين قد رجعت راجعتهم إلى المسلمين حمل على من يليه من الروم فتعطف بعضهم على بعض، وزحف المسلمون إليهم رويداً حتى إذا دنوا منهم إذا هم ينتقضون، فبعث أبو عبيدة عند ذلك إلى سعيد بن زيد أن شد عيهم. وشد المسلمون بأجمعهم شدة واحدة وأظهروا التكبير، ثم صكوهم صكة واحدة فطعنوا بالرماح وضربوا بالسيوف، وأنزل الله تعالى نصره. وما وعد نبيه صلى الله عليه وسلم، فضرب الله وجوه أعدائه ومنح أكتافهم، وأنزل الله تعالى ملائكة يضربون وجوههم حتى ولوا المسلمين أكتافهم.
وقال سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: لما جلنا هذه الجولة سمعنا صوتاً قد كاد يملأ العسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، فتعطفنا عليه فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه، وشد خالد في سرعان الناس معه يقتلون كل قتلة، وركب بعضهم بعضاً حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية فأخذوا يتساقطون فيها، وهم لا يبصرون، وهو يوم ذو ضباب. وقيل: كان ذلك في الليل. فأخذ آخرهم لا يعلم ما يلقى أولهم، يتساقطون فيها حتى سقط فيها نحو من ثمانين ألفاً فما أحصوا إلا بالقصب.
وبعث أبو عبيدة شداد بن أوس ابن أخي حسان بن ثابت بعدهم، بعد ذلك اليوم بيوم واحد، فوجد من سقط في تلك الأهوية حتى عدهم بالقصب ثمانين ألفاً، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وسميت تلك الأهوية الواقوصة من يومئذ حتى اليوم لأنهم وقصوا فيها، وأخذوا وجهاً آخر، وقتل المسلمون في المعركة بعدما أدبروا ما لا يحصى. وغلبهم الليل فبات المسلمون. فلما أصبحوا نظروا فإذا هم لا يرون في الوادي شيئاً، فقالوا: كمن أعداء الله لنا، فلما بعثوا الخيول في الوادي تنظر هل لهم من كمين أو نزلوا بوطاء من الأرض، فإذا الرعاة يخبرونهم أنهم قد سقطوا في الواقوصة. فسألوا عن عظم الروم فقالوا: قد ترحل منهم البارحة نحو من أربعين ألفاً. ثم اتبعهم خالد بن الوليد على الخيل فقتلهم حتى مر بدمشق فخرج إليه رجال من أهل دمشق فاستقبلوه، فقالوا: نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم فقال لهم: نعم أنتم على عهدكم، ثم اتبعهم فقتلهم في القرى وفي كل وجه، حتى قدم دمشق فخرج إليه أهلها فسألوه التمام على ما كان بينهم ففعل، ومضى خالد يطلب عظم الناس حتى أدركهم بغوطة دمشق. فلما انتهوا إلى تلك الجماعة من الروم، وأقبلوا يرمونهم بالحجارة من فوقهم فتقدم إليهم الأشتر وهو في رجال من المسلمين فإذا أمامهم رجل من الروم جسيم عظيم، فمضى إليه حتى وثب عليه فاستوى هو والرومي على صخرة مستوية فاضطربا بسيفهما فأطن لأشتر كف الرومي، وضرب الرومي الأشتر بسيفه فلم يضره، واعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا على الصخرة ثم انحدرا وأخذ الأشتر يقول وهو في ذلك ملازم العلج لا يتركه: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين". فلم يزل يقول ذلك حتى انتهى إلى مستوى في الجبل وقرار. فلما استقر وثب على الرومي فقتله وصاح في الناس أن جوزوا.
قال: فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتل خلوا الثنية وانهزموا. وكان الأشتر ذا بلاء حسن في اليرموك. قالوا: لقد قتل ثلاثة عشر. فركب خالد والمسلمون الثنية، ثم انحطوا مشرقين وأنكوا في سائر البلاد يطلبون أعداء الله في القرى والجبال، حتى وصلوا إلى حمص فخرج إليهم أهل حمص يسألونهم التمام على عهدهم وعقدهم وحريتهم، ففعل بهم خالد ما فعل بأهل دمشق، وأقام بها ينتظر رأي أبي عبيدة، ولما سار خالد بن الوليد من اليرموك في إثر من انهزم وقع أبو عبيدة في دفن المسلمين حتى غيبهم وكفاه دفن الكفار بالواقوصة التي وقعوا فيها، وقد كان مما يعملون أن يدفنوا الكفار بعد ما يدفنون المسلمين فكفاه الله الكفار بالواقوصة التي وقعوا فيها. فكتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يصف له أمرهم.
وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشام كورة، فسمى لأبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح حمص، وليزيد بن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل بن حسنة الأردن، ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجزز فلسطين، فإذا فرغا منها ترك علقمة وسار إلى مصر. فلما شارفوا إلى الشام دهم كل أمير منهم قوم كثير، وأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين.
قالوا: ولما رأى المسلمون خيل الروم قد توجهت للهرب أفرجوا لها ولم يحرجوها، فذهبت فتفرقت في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل يفضهم، فكأنما هدم بهم حائطاً فاقتحموا في خندقهم، واقتحموا عليهم فعمدوا إلى الواقوصة حتى هووا فيها، المقترنون وغيرهم، فمن صبر للقتال هوى به من جشعت نفسه فيهوي الواحد بالعشرة ولا يطيقونه. وكلما هوى اثنان كان البقية عنهم أضعف، وكان المقترنون أعشاراً فتهافت في الواقوصة عشرون ومئة ألف، ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل في المعركة، من الخيل والرجل، فكان سهم الفارس يومئذ ألفاً وخمس مئة وتجلل القيقاز وأشراف من أشراف الروم برانسهم، وجلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذا لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذا لم نستطع أن نمنع النصرانية فأصيبوا في تزملهم.
قالوا: وكان الكافرون أربعين ومئتي ألف، منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألف مربوط بالعمائم، وثمانون ألف فارس، وثمانون ألف راجل. والمسلمون سبعة وعشرون ألفاً ممن كان مقيماً. إلى أن قدم عليهم خالد في التسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألفاً ممن كان مقيماً. إلى أن قدم عليهم خالد في التسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألفاً، وفتح الله على المسلمين آخر الليل، وقتلوهم حتى الصباح، ثم أصبحوا فاقتسموا الغنائم، ودفنوا قتلى المسلمين، وبلغوا ثلاثة آلاف، وصلى كل أمير قوم على قتلاهم.
مختصر تاريخ دمشق ابن منظور
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 04-19-2011 الساعة 11:29 PM