أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-07-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي التلويحات التسعة من المكتوب الــ 29

التلويحات التسعة



بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} الا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون{ (يونس: 62)

(هذا القسم يخص طرق الولاية وهي تسعة تلويحات)(1)

C التلويح الاول:

هناك تحت عناوين " التصوف، والطريقة، والولاية، والسير والسلوك" حقيقة روحانية نورانية مقدسة، طافحة باللذة والنشوة، اعلن عنها كثير من علماء ارباب الكشف والأذواق وتناولوها بالدرس والتمحيص والتعريف، فكتبوا آلاف المجلدات حولها فأخبروا الامة واخبرونا بها، جزاهم الله خيرا كثيرا.

ونحن هنا سنبين بضع رشحات في ضوء ما تلجئنا اليه الاحوال الحاضرة، فهي بمثابة بضع قطرات من بحر تلك الحقيقة الزاخر.

سؤال: ما الطريقة؟

الجواب: ان غاية ((الطريقة)) وهدفها هو معرفة الحقائق الايمانية والقرآنية، ونيلها عبر السير والسلوك الروحاني في ظل المعراج الاحمدي وتحت رايته، بخطوات القلب وصولا الى حالة وجدانية وذوقية بما يشبه الشهود. فالطريقة والتصوف سر انساني رفيع وكمال بشري سام.

اجل!لمّا كان الانسان خلاصة جامعة لهذا الكون، فان قلبه بمثابة خريطة معنوية لآلاف العوالم، اذ كما ان دماغ الانسان - الشبيه بمجمع مركزي للبث والاستقبال السلكي واللاسلكي - وهو بمثابة مركز معنوي لهذا الكون، يستقبل ما في الكون من علوم وفنون ويكشف عنها و يبثها ايضاً، فان قلب الانسان كذلك هو محور لما في الكون من حقائق لا تحد، ومظهر لها، بل هو نواتها. كما بيّن ذلك من لا يحصرهم العد من اهل الولاية فيما سطروه من ملايين الكتب الباهرة.

فما دام قلب الانسان ودماغه لهما هذه المنزلة والموقع، وقد ادرجت في القلب آلاف من مكائن اخروية ضخمة واجهزتها الابدية، كاندراج اجهزة الشجرة الضخمة في بذرتها، فان فاطر ذلك القلب الذي خلقه على هذه الصورة قد اراد تشغيل هذا القلب وتحريكه والكشف عن قدراته والانتقال به من طور ((القوة)) الى طور ((الفعل)).

فما دام سبحانه وتعالى قد اراد هكذا، فعلى القلب اذن ان يقوم بعمله الذي خلق من اجله، كما يقوم العقل بعمله، ولا شك ان اعظم وسيلة لعمل القلب وتشغيله هو التوجه الى الحقائق الايمانية بالاقبال على ذكر الله ضمن مراتب الولاية عبر سبيل ((الطريقة)).

C التلويح الثاني:

ان مفاتيح هذا السير والسلوك القلبي ووسائل التحرك الروحاني ان هي الا ((ذكر الله)) و ((التفكر)) فمحاسن الذكر وفضائل التفكر لا تحصى. فلو صرفنا النظر عن فوائدهما الاخروية التي لا حد لها ونتائجهما في رقي الانسانية الى الكمالات، واخذنا بنظر الاعتبار فائدة واحدة من فوائدهما الجزئية التي يعود نفعها على الانسان في هذه الحياة الدنيوية المضطربة نرى:

ان اي انسان كان لا بد ان يبحث عن سلوان، ويفتش عن ذوق ويتحرى عن انيس يستطيع ان يزيل عنه وحشته ويخفف عنه ثقل هذه الحياة، ويتخفف من غلوائها، ولو جزئياً

وحيث ان ما يهيؤه المجتمع الحضاري من الوسائل المسلية والانس بالآخرين قد تمنح واحداً او اثنين من عشرة من الناس ُانسا موقتا بل ذا غفلة وذهول، والثمانين بالمائة من الناس اما انهم يحيون منفردين بين الجبال والوديان، او ساقتهم هموم العيش الى اماكن نائية موحشة، او ابتلوا بالمصائب او الشيخوخة النذيرة بالآخرة... فهؤلاء جميعاً يظلون محرومين من الانس فلا يأنسون ولا يجدون العزاء بوسائل المجتمع الحضارية!.. لذا فالسلوان الكامل لأمثال هؤلاء، والانس الخالص لهم ليس الا في تشغيل القلب بوسائل الذكر والتفكر.. ففي الاصقاع النائية، وبين شعاب الجبال، وعبر مهاوي الوديان يتوجه الى قلبه مردداً: ((الله .. الله)) مستأنساً بهذا الذكر، ومتفكراً فيما حوله من الاشياء التي يتوجس منها خيفة وتوحي اليه بالوحشة، فإذا بالذكر يضفي عليه الانس والمودة، واذا بالذاكر يقول: ان لخالقي الذي اذكره عباداً لا حد لهم منتشرين في جميع الارجاء فهم كثيرون جداً.. اذن فانا لست وحيداً، فلا داعي للاستيحاش، ولا معنى له.. وبذلك يذوق معنى الانس في هذه الحياة الايمانية، ويلمس سعادة الحياة فيزداد شكره لربه.

C التلويح الثالث:

ان الولاية حجة الرسالة، وان الطريقة برهان الشريعة، ذلك لان ما بلغته الرسالة من الحقائق الايمانية تراها ((الولاية)) بدرجة ((عين اليقين)) بشهود قلبي وتذوق روحاني فتصدّقها، وتصديقها هذا حجة قاطعة لأحقية الرسالة.

وان ما جاءت به ((الشريعة)) من حقائق الاحكام، فان ((الطريقة)) برهان على أحقية تلك الاحكام، وعلى صدورها من الحق تبارك وتعالى بما استفاضت منها واستفادت بكشفياتها واذواقها.

نعم، فكما ان ((الولاية والطريقة)) هما حجتان على أحقية ((الرسالة والشريعة)) ودليلان عليهما، فانهما كذلك سر كمال الاسلام، ومحور انواره، وهما معدن سمو الانسانية ورقيها ومنبع فيوضاتها بأنوار الاسلام وتجليات اضوائه.

ولكن على الرغم مما فيهما من اهمية قصوى فقد انحاز قسم من الفرق الضالة الى انكار اهميتهما، فحرموا الآخرين من انوار هم محرومون منها. ومما يؤسف له بالغ الاسف ان عددا من علماء اهل السنة والجماعة الذين يحكمون على الظاهر وقسما من اهل السياسة الغافلين المنسوبين الى اهل السنة والجماعة يسعون لإيصاد ابواب تلك الخزينة العظمى، خزينة الولاية والطريقة، متذرعين بما يرونه من اخطاء قسم من اهل الطريقة وسوء تصرفاتهم، بل يبذلون جهدهم لهدمها وتدميرها وتجفيف ذلك النبع الفياض بالكوثر الباعث على الحياة، علماً انه يندر ان يوجد في الاشياء او في المناهج او المسالك ما هو مبرأ من النقص والقصور، وان تكون جوانبه كلها حسنة صالحة، فلا بد اذاً من حدوث نقص وأخطاء وسوء تصرف، اذ ما دخل امراً من ليسوا من أهله الا اساؤا اليه. ولكن الله تعالى يظهر عدالته الربانية في الاخرة على وفق موازنة الاعمال وتقويمها، برجحان الحسنات او السيئات، فمن رجحت حسناته وثقلت، فله الثواب الحسن وتقبل اعماله، ومن رجحت سيئاته وخفت حسناته فله العقاب وتُردّ اعماله، علما انه لا تؤخذ ((كمية)) الاعمال بنظر الاعتبار في هذه الموازنة مثلما ينظر الى ((النوعية)). فربّ حسنة واحدة ترجح الف سيئة بل قد تذهبها وتمحوها وتكون سبباً في انقاذ صاحبها.

فما دامت العدالة الإلهية تحكم على وفق هذا الميزان، وان الحقيقة تراها عين الحق، فلا ريب ان حسنات الطريقة التي هي ضمن دائرة السنة المطهرة لهي ارجح من سيئاتها.

ولا ادل على ذلك من احتفاظ اهل الطريقة بايمانهم اثناء هجوم اهل الضلالة، حتى ان منتسباً اعتيادياً مخلصاً من اهل الطريقة يحافظ على نفسه اكثر من اي مدّع كان للعلم. اذ ينقذ ايمانه بما حصل عليه من الذوق الروحي في الطريقة وبما يحمله من حب تجاه الأولياء، فحتى بارتكابه الكبائر لا يكون كافراً وانما يكون فاسقاً، اذ لا يلج صفوف الزندقة بيسر، وليست هناك قوة تستطيع ان تجرح ما ارتضاه من ولاء تجاه سلسلة اقطاب المشايخ الذين ارتبط بهم بمحبة شديدة واعتقاد جازم، وحيث ان الضلالة لا تستطيع ان تفند او تفسد ما لديه من الثقة والاطمئنان بهم، فلن تحل ما لديه من الثقة والرضا بهم، ولن يدخل الكفر والالحاد ما لم يفقد تلك الثقة بهم. فالذي ليس له حظ من الطريقة، ولم يشرع قلبه بالحركة، من الصعوبة بمكان - في هذا الوقت - ان يحافظ على نفسه محافظة تامة امام دسائس الزنادقة الحاليين، ولوكان عالماً مدققاً.

بقي امر آخر هو انه لا يمكن ان تدان ((الطريقة)) ولا يحكم عليها بسيئات مذاهب ومشارب اطلقت على نفسها ظلماً اسم ((الطريقة)) وربما اتخذت لها صورة خارج دائرة التقوى بل خارج نطاق الاسلام.

فلو صرفنا النظر عن النتائج السامية التي تُوصل اليها الطريقة سواء منها الدينية او الاخروية او الروحية، ونظرنا فقط الى نتيجة واحدة منها ضمن نطاق العالم الاسلامي نرى ان ((الطريقة)) هي في مقدمة الوسائل الايمانية التي توسع من دائرة الاخوة الاسلامية بين المسلمين وتبسط لواء رابطتها المقدسة في ارجاء العالم الاسلامي.

وقد كانت الطرق الصوفية وما زالت كذلك احدى القلاع الثلاث التي تتحطم على جدرانها الصلدة هجمات النصارى بسياساتهم ومكايد الذين يسعون لاطفاء نورالاسلام.. فيجب ألاّ ننسى فضل اهل الطرق في المحافظة على مركز الخلافة الاسلامية ((استانبول)) طوال خمسمائة وخمسين سنة رغم هجمات عالم الكفر وصليبية اوروبا. فالقوة الايمانية، والمحبة الروحانية، والاشواق المتفجرة من المعرفة الإلهية لاولئك الذين يرددون ((الله.. الله..)) في الزوايا والتكايا المتممة لرسالة الجوامع والمساجد، والرافدة لهما بجداول الايمان حيث كانت تنبعث انوار التوحيد في خمسمائة مكان، لتشكّل بمجموعها اعظم نقطة ارتكاز للمؤمنين في ذلك المركز الاسلامي.

فيا ادعياء الحمية ويا سماسرة القومية المزيفين! الا تقولون اية سيئة من سيئات الطريقة تفسد هذه الحسنة العظيمة في حياتكم الاجتماعية؟!

C التلويح الرابع

ان سلوك طريق الولاية مع سهولته هو ذو مصاعب، ومع قصره فهو طويل جداً، ومع نفاسته وعلوه فهو محفوف بالمخاطر، ومع سعته فهو ضيق جداً.

فلأجل هذه الاسرار الدقيقة، قد يغرق السالكون في هذه السبيل، وقد يتعثرون ويتأذون، بل قد ينكصون على اعقابهم ويضلون الآخرين. فعلى سبيل المثال؛ هناك ((السير الانفسي)) و ((السير الآفاقي)) وهما مشربان ونهجان في الطريقة.

فالسير الانفسي يبدأ من النفس، ويصرف صاحب هذا السير نظره عن الخارج، ويحدق في القلب مخترقاً انانيته. ثم ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلاً الى الحقيقة.. ومن هناك ينفذ الى الآفاق الكونية فيجدها منورة بنور قلبه، فيصل سريعاً، لان الحقيقة التي شاهدها في دائرة النفس يراها بمقياس اكبر في الآفاق. واغلب طرق المجاهدة الخفية تسير وفق هذه السبيل.

واهم اسس هذا السلوك هو كسر شوكة الانانية وتحطيمها، وترك الهوى واماتة النفس.

اما النهج الثاني فيبدأ من الآفاق، ويشاهد صاحب هذا النهج تجليات اسماء الله الحسنى، وصفاته الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الافاقية الكونية الواسعة ثم ينفذ الى دائرة النفس، فيرى انوار تلك التجليات بمقاييس مصغرة في آفاق كونه القلبي، فيفتح في هذا القلب اقرب طريق اليه تعالى، ويشاهد ان القلب حقا مرآة الصمد. فيصل الى مقصوده، ومنتهى امله.

وهكذا ففي المشرب الاول ان عجز السالك عن قتل النفس الامارة، ولم يتمكن من تحطيم الانانية بترك الهوى، فانه يسقط من مقام الشكر الى موقع الفخر، ومنه يتردى الى الغرور، واذا ما اقترن هذا بما يشبه السكر الناشئ من انجذاب آت من المحبة، فسوف يصدر عنه دعاوى اكبر من حده، واعظم من طوقه، تلك التي يطلق عليها ((الشطحات)). فيضر نفسه ويكون سبباً في الاضرار بالاخرين.

ان مثل صاحب الشطحات كمثل ضابط صغير برتبة ملازم. تستخفه نشوة القيادة واذواقها في محيط دائرته الصغرى، فيتخيل نفسه في لحظة انتشاء وكأنه المشير الذي يقود الفيالق والجحافل، فتختلط في ذهنه الامور، ويلتبس عليه امر القيادة ضمن دائرته الصغرى مع القيادة الكلية الواسعة ضمن دائرتها الكبرى، تماما كما يلتبس في النظر على بعض الناس صورة الشمس المنعكسة من مرآة صغيرة، مع صورتها المنعكسة من سطح البحر الشاسع، من حيث تشابههما في صورة الانعكاس، رغم اختلافهما في السعة والكبر.

وكذلك فان كثيرا من اهل الولاية من يرى نفسه اكبر واعظم بكثير ممن هم ارقى واسمى منه، بل ممن نسبته اليهم كنسبة الذباب الى الطاووس.

ولكنه ـــ اي صاحب الدعاوى ـــ يرى نفسه كما يصف، و يراها كما يقول، محقا في رؤيته. حتى انني رأيت من يتقلد شارات القطب الاعظم ويدعي حالاته، ويتقمص اطواره، وليس له من صفات القطبية الا انتباه القلب وصحوته، وسوى الشعور بسر الولاية من بعيد، فقلت له:

يا اخي! كما ان قانون السلطنة له مظاهر عديدة جزئية او كلية على نمط واحد في جميع دوائر الدولة، ابتداء من رئاسة الوزارة الى ادارة ناحية صغيرة، فان الولاية، والقطبية كذلك لها دوائر مختلفة ومظاهر متنوعة، ولكل مقام ظلال كثيرة. فأنت قد شاهدت الجلوة العظمى والمظهر الاعظم للقطبية الشبيهة برئاسة الوزارة ضمن دائرتك الصغيرة الشبيهة بادارة الناحية، فالتبس عليك الامر وانخدعت، اذ ان ما شاهدته صواب وصدق، الا ان حكمك هو الخطأ، حيث ان غرفة من الماء بالنسبة للذبابة بحر واسع.

فانتبه ذلك الاخ بكلامي، ونجا من تلك الورطة بمشيئة الله.

ورأيت كذلك عدداً من الناس يعدون انفسهم مقاربين او مشابهين ((للمهدى))، ويقول كل منهم: سأصبح ((المهدى))!

هؤلاء ليسوا كاذبين ولا مخادعين، ولكنهم ينخدعون، اذ يظنون ما يرونه هو الحق، ولكن كما ان الاسماء الحسنى لها تجلياتها ابتداء من العرش الاعظم وحتى الذرة، فان مظاهر هذه التجليات في الاكوان والنفوس تتفاوت بالنسبة نفسها، وان مراتب الولاية التي هي نيل مظاهرها والتشرف بها هي الاخرى متفاوتة.

واهم سبب لهذا الالتباس هو كون بعض مقامات الاولياء فيه شئ من خواص ((المهدي)) ووظائفه، ويشاهد فيه انتساب خاص مع القطب الاعظم وعلاقة خاصة بالخضر، فهناك مقامات لها علاقات وروابط مع بعض المشاهير، حتى يطلق على تلك المقامات ((مقام الخضر)) و((مقام اويس)) و((مقام المهدية)). وعليه فالواصلون الى ذلك المقام، والى جزء منه، او الى ظل من ظلاله، يتصورون انفسهم انهم هم اولئك الافذاذ المشهورون، فيعتبر الواحد منهم انه هو الخضر او المهدي، او يتخيل انه القطب الاعظم.

فان كانت الانانية فيه قد مُحقت حتى لم يعد لها استشراف وتطلع لحب الجاه والتفاخر على الاخرين فلا يُدان، ونعتبر دعاواه الخارجة عن حده ((شطحات)) قد لا يكون مسؤولا عنها، ويمكن التجاوز عنها.

اما هذه الدعاوى عند الشخص الذي ما زالت الانانية فيه متوفزة، متطلعة لحب الجاه، فستغلبه هذه الانانية وتأخذ بيده الى منازل الفخر مخلفاً وراءه مقام الشكر، ومن هناك يتردى تدريجياً الى هاوية الغرور الماحق للحسنات. فاما ان يتردى الى الجنون، او يضل ضلالاً بعيداً، وذلك لانه جعل نفسه في عداد اولئك الاولياء العظام، وهذا بحد ذاته سوء ظن بهم، لانه يخلع ما في نفسه من قصور، تدركه النفس مهما اغترت على اولئك الاولياء الافذاذ الذين يراهم بمنظار نفسه القاصرة، فيتوهم ان اولئك العظام مقصرون مثله، فيقل احترامه لهم، وبالتالي قد يقل احترامه حتى للانبياء عليهم السلام.

فيجب على هؤلاء المتلبسين ان يمسكوا ميزان الشريعة بايديهم ليزنوا اعمالهم، ويقفوا عند حدود ما حده علماء اصول الدين من دساتير، ويسترشدوا بتعليمات الامام الغزالي والامام الرباني وامثالهم من الاولياء المحققين العلماء، وان يضعوا انفسهم دائماً موضع التهمة، ويعرفوا ان القصور والعجز والفقر ملازم للنفوس مهما ارتقت وتسامت.

فما في هذا المشرب من شطحات عند بعض السالكين، منبعه حب النفس، حتى ليتعاظم هذا الحب فيظن الواحد منهم صفاء نفسه، ولمعان ذاته قطعة الماس رغم انها ليست الا قطعة زجاج تافهة في الحقيقة، اذ عين الرضا كليلة عن العيوب.

هذا وان اخطر المهالك في هذا النوع من السلوك هو: ان المعاني الجزئية التي ترد على قلب السالك بشكل الهام، يتخيلها - هذا السالك - كلام الله، ويعبر عن كل الهام وارد بــ ((آية)) فيمتزج بهذا الوهم عدم احترام لتلك المرتبة السامية العليا للوحي.

نعم ان كل الهام ابتداء من الهام النحل والحيوانات الى الهام عوام الناس والى الهام خواص البشرية، والى الهام عوام الملائكة، والى الهام المقربين الخواص منهم، انما هو نوع من الكلمات الربانية، ولكن الكلام الرباني تجلي الخطاب الرباني المتنوع المتلمع من خلال سبعين الف حجاب حسب قابليات المظاهر والمقامات.

اما ((الوحي)) فهو الاسم الخاص لكلام الله جل وعلا، وابهر مثاله المشخص، هو الذي اطلق على نجوم القرآن، وكل منجمة منه ((آية)) كما ورد توقيفاً. فتسمية هذه الانواع من الالهام بــ (الايات) خطأ محض. اذ بمقدار النسبة بين صورة الشمس الصغيرة الخافتة المتسترة المشاهدة في المرآة الملونة في ايدينا مع الشمس الحقيقية الموجودة في السماء، تكون النسبة بين الالهام الموجود في قلوب اولئك الادعياء وبين آيات شمس القرآن الكريم التي هي كلام إلهي مباشر [كما بينا واثبتنا ذلك في كل من الكلمات الثانية عشرة والخامسة والعشرين والحادية والثلاثين من كتاب ((الكلمات))].

نعم: اذا قيل ان صورة الشمس الظاهرة في مرآة هي صورتها حقاً وذات علاقة مع الشمس الحقيقية، فهذا الكلام لا غبار عليه وهو حق، الا انه لا يمكن ربط الكرة الارضية الضخمة بهذه الشموس ((المرآتية)) المصغرة، ولا يمكن شدها الى جاذبيتها.

C التلويح الخامس:

يعتبر ((وحدة الوجود)) التي تضم ((وحدة الشهود)) من المشارب الصوفية المهمة وهي تعني: حصر النظر في وجود ((واجب الوجود))، اي ان الموجود الحق هو: ((واجب الوجود)) سبحانه فحسب، وان سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لاتستحق اطلاق صفة الوجود عليها حيال ((واجب الوجود)) لذا فان اهل هذا المشرب يذهبون الى اعتبار الموجودات خيالا ووهماً، ويتصورونها عدما في مرتبة ترك ما سواه، اي: ((ترك ما سوى الله تعالى)) حتى انهم يتطرفون ويذهبون الى حد اعتبار الموجودات مرايا خيالية لتجليات الاسماء الحسنى.

ان اهم حقيقة يحتويها هذا المشرب هي: ان الموجودات الممكنة ((الممكنات والمخلوقات)) تصغر وتتضاءل عند اصحابها من كبار الاولياء الذين وصلوا الى مرتبة حق اليقين بقوة ايمانهم بحيث تنزل عندهم الى درجة العدم والوهم، اي انهم ينكرون وجود الكون بجانب وجود الله تعالى الذي هو واجب الوجود.

غير ان هناك محاذيرومخاطر عدة لهذا المشرب، اولها واهمها:

ان اركان الايمان ستة، فهناك عدا ركن الايمان بالله، اركان اخرى كالايمان بالاخرة، فهذه الاركان تستدعي وجود الممكنات اي ان هذه الاركان المحكمة لايمكن ان تقوم على اساس خيالي.

فعلى صاحب هذا المشرب ألاّ يصحب معه هذا المشرب، وألاّ يعمل بمقتضاه عندما يفيق من عالم الاستغراق والنشوة. ثم ان عليه الا يقلب هذا المشرب القلبي والوجداني والذوقي الى اسس عقلية وقولية وعلمية، ذلك لان الدساتير العقلية.والقوانين العلمية، واصول علم الكلام النابعة من الكتاب والسنة المطهرين لا يمكنها ان تتحمل هذا المشرب، ولاتتسع لامكانية تطبيقه. لذا فلا يرى هذا المشرب في اهل الصحوة الايمانية من الخلفاء الراشدين، والائمة المجتهدين، والعلماء العاملين من اجيال السلف الصالح من هذه الامة، اذن فليس هذا المشرب في اعلى المراتب واسماها، بل قد يكون ذا علو الا انه ناقص في علوه، وقد يكون ذا حلاوة مغرية ولكنه لاذع المذاق. ولظاهر حلاوته، ولجمال ايحائه لا يرغب الداخلون فيه في الخروج منه؛ ويتوهمون ـــ باستشرافات نفوسهم ـــ انه اعلى المراتب واسماها.

ولكوننا قد تناولنا شيئاً من اسس هذا المشرب وماهيته في رسالة نقطة من نور معرفة الله جل جلاله وفي ((الكلمات)) و((المكتوبات)) فاننا نكتفي بذلك، ونقصر الكلام هنا على بيان ورطة خطرة قد يقع فيها قسم من الحائمين حول ((وحدة الوجود)) وهي:

ان هذا المشرب يصلح لأخص الخواص عند حالات الاستغراق المطلق، وللمتجردين من الاسباب المادية، ومن الذين قد قطعوا علائقهم بما سوى الله من الممكنات والاشياء.

ولكن اذا نزل هذا المشرب من علياء الاذواق والمواجيد، والاشواق القلبية الى دائرة المذاهب الفكرية والعلمية وعرض بشكله العلمي والعقلاني على انظار الذين استهوتهم الحياة الدنيا، وغرقوا في الفلسفات المادية والطبيعية، فانه سيكون اغراقاً في الطبيعة والمادة، وابعاداً عن حقيقة الاسلام.

فالشخص المادي المتعلق بالاسباب، والمغرم بالدنيا، يتشوق الى اضفاء صفة الخلود على هذه الدنيا الفانية، لانه يعز عليه ان يرى محبوبته وهي تتبخر بين يديه وتذوب، فيسبغ صفة البقاء والوجود الدائم على دنياه، انطلاقاً من فكرة "وحدة الوجود" فلا يتورع - عندئذٍ - من رفع محبوبته - الدنياــ الى درجة المعبود بعد ان اسبغ عليها صفات الدوام والخلود والبقاء الابدي، فينفتح المجال امامه الى انكار الله سبحانه والعياذ بالله.

ولما كان الفكر المادي قد ترسخت دعائمه في هذا العصر، واستولى على غالبية النشاطات العقلية والعلمية، حتى غدت المادة - عند اصحابه - هي اصل كل شئ ومرجعه، لذا فان ترويج مذهب ((وحدة الوجود)) في هذا العصر - الذي يرى فيه اهل الايمان الخواص الماديات تافهة الى حد العدم - ربما يعطي للماديين حجة ليكونوا دعاة للمذهب نفسه فيخاطبوا اصحابه من اهل الايمان: ((نحن وانتم سواء، نحن ايضاً نقول هكذا ونفكر هكذا)) علما انه لا يوجد مشرب في العالم بعيد عن منهج المادييين وعبدة الطبيعة من مشرب ((وحدة الوجود)). ذلك لان اصحابه يؤمنون بالله ايماناً عميقاً الى درجة يعدون الكون وجميع الموجودات معدوماً بجانب حقيقة الوجود الإلهي، بينما الماديون يولون الموجودات من الاهمية الى حد انهم ينكرون معها وجود الله سبحانه وتعالى... فأين هؤلاء من اولئك؟!
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
العادلية الشريط الــ 30 - حادثة الاسراء والمعراج عبدالقادر حمود الصوتيات والمرئيات 10 05-12-2015 03:08 PM
الصوت الرخيم للخدمات الصوتية وتحويل المكتوب إلى مسموع جليس النجوم قسم الحاسوب 0 06-16-2013 11:26 PM
العادلية - الشريط الــ 26 عبدالقادر حمود الصوتيات والمرئيات 4 06-27-2010 03:06 PM
العادلية الشريط الــ 28 عبدالقادر حمود الصوتيات والمرئيات 0 06-20-2010 08:43 PM
نفحات العادلية الشريط الــ 25 عبدالقادر حمود الصوتيات والمرئيات 0 06-14-2010 02:48 PM


الساعة الآن 04:08 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir