أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد،يُحيي ويُميت،وهو حي لا يموت،بيده الخير وهو على كل شئ قدير           

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-03-2009
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

قراءة في سيرة إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

"أســرة مـالــك

إذا كان الإمام مالك قد انشغل بالعلم منذ نعومة أظفاره، فإن ذلك ليس بالشيء الغريب، فقد كان أبوه وأعمامه وجده من أصحاب العلم وأرباب الفضل، لهم مع العلم صلات ووشائج، ومع الفضل روابط وأسباب.

وهذا بيان موجز عن بعض آباء الإمام وأعمامه وأبنائه وإخوته وزوجته:

- أبو عامر:

هو أبو جده، واسمه نافع. قيل: إنه صحابي، شهد المغازي كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا بدرًا، إلا أن هذا لم يتأكد، والأقوى أنه تابعي مخضرم، أي أنه كان يعيش في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسلما، لكنه لم يلقه.

- مالك بن أبي عامر:

هو جد الإمام، من كبار التابعين وعلمائهم، روى عن عمر، وعثمان، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة، وحسان بن ثابت، وعقيل بن أبي طالب.

وروى عنه بنوه: أنس - وبه يُكنَى - وأبو سهيل نافع، والربيع.

وفي تقريب التهذيب: مالك بن أبي عامر الأصبحي، سمع من عمر، ثقة، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ليلاً إلى قبره وغسلوه ودفنوه، وذكر أبو محمد الضراب أن عثمان - رضي الله عنه - أغزاه إفريقية ففتحها، وكان عمر بن عبد العزيز يستشيره، ذكر ذلك مالك في مُوَطَّئه، قال أبو إسحاق بن شعبان: روى مالك عن أبيه عن جده عن عمر - رضي الله عنه - حديث الغسْل واللباس.

وروى التستري أنه كان ممن يكتب المصاحف حين جمع عثمان المصاحف. وقد خرّج البخاري ومسلم ومَن بعدهما أحاديث كثيرة عن مالك بن أبي عامر جد مالك وأبي سهيل ابنه، وجاء ذكره في الأوسط في فضل من مات ما بين السبعين إلى الثمانين.

ويبدو أن مالكًا الجد قد امتد به العمر زمنًا طويلاً فعاش حتى عصر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وكان له به صلة ما، فقد كان عمر يستشيره في بعض الأمور.

- أنس بن مالك:

والد الإمام مالك، وليس بينه وبين الصحابي أنس بن مالك ـ رضي الله عنه - صلة قرابة، وإن كان من المحتمل جدا أن أباه قصد عند تسميته أن يكون اسمه على اسم هذا الصحابي الجليل.

كان أنس والد مالك نبّالاً، أي يصنع النِّبَال، وكان مُقعدًا، وعلى الرغم من هذا وذاك كان صاحب علم وحديث، وهو واحد ممَّن روى عنهم الإمام.

وكان للوالد أثر في ابنه مالك، الذي قال: "كان لي أخ في سن ابن شهاب الزهري، فألقى أبي يومًا علينا مسألة، وأجاب أخي وأخطأت، فقال لي أبي: ألهتك الحمام ـ أي شغلك اللعب بالحمام - عن طلب العلم! يقول مالك: "فغضبتُ وانقطعتُ إلى ابن هرمز سبع سنين".

ولكن لم يُعرَف أن مالكًا روى عن أبيه بطريق ثابتة، وهذا دليل على أنه لم يكن يتسع في طلب العلم، وأما ما جاء في بعض الكتب: عن مالك عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث يفرح لهن الجسد، فيربو عليهن: الطِّيب، والثوب اللَّيِّن، وشرب العسل" - فهو ضعيف.

- أعمام مالك:

للإمام ثلاثة أعمام، وهم مع أبيه أنس أربعة إخوة: أكبرهم أنس والد مالك، أما عمه الأول فهو نافع بن مالك أبو سهيل المدني، روى عن ابن عمر، وأنس، وعن ابن أخيه الإمام، والزهري وإسماعيل وحمد ابني جعفر بن أبي كثير، والداودي.

وثَّقه أبو حاتم وغيره، وقد خرَّج البخاري عنه كثيرًا، مات في خلافة أبي العباس السفاح.

وعمه الثاني: أويس بن مالك، ذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات. روى عن أبيه، وروى عنه مصعب بن محمد بن شرحبيل.

وعمه الثالث: الربيع بن مالك، ولم يروِ عنه إلا سليمان بن بلال، وذكر التستري لأبي بكر الأوسي عنه رواية، وقد روى أربعتهم عن أبيهم مالك بن أبي عامر.

وكان الإخوة الأربعة يُحسنون الرواية عن والدهم مالك، وكان أشهرهم في هذا الميدان هو أبو سهيل نافع، الذي عُدَّ من شيوخ ابن شهاب الزهري على الرغم من أن فارق السن بينهما لم يكن كبيرًا، بل إن وفاته كانت بعد وفاة الزهري، فلقد عُمِّر دهرًا طويلاً.

- أم مالك:

مالك سليل أسرة عُرِفت بالعلم، أنجبت علماء بارزين لعدة أجيال متعاقبة، ولكن ذلك لم يكن كافيًا لكي يجعل منه عالمًا جليلاً وإمامًا كبيرًا، فكثير من أبناء الأسر المعروفة بالعلم لا يختطون ذلك النهج، ولا يتبعون ذلك السبيل، فكم من أسرة عُرِفت بالعلم ثم رُزِئت بأبناء جُهَلاء، وكم من أسرة مغمورة هي أبعد ما تكون عن العلم أنجبت علماء نابهين، وفقهاء مرموقين.

لم يكن السبب في نجابة مالك مجرد انتمائه إلى هذه الأسرة المستنيرة ذات الأجيال المتعاقبة من العلماء وحسب، وإنما سر آخر يكمن في الأم العاقلة التي تُحسن توجيه أبنائها وتختار لهم الطريق السوي، وتهيئ لهم أسباب النجاح.

هذه الأم هي عالية بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك، وهي، والحال كذلك، عربية أزدية، وهناك من المصادر من يذكرها باسم طليحة ولا يذكر أبًا لها. وقد اختلفت الروايات كما اختلف المحقِّقون حول اسم هذه الأم العظيمة التي أهدت البشرية إمامًا عظيمًا، أهي عالية أم غالية، أم طليحة؟

بل لقد اختلفوا هل هي من الموالي أم من الحرائر؟

إن مالكًا الطفل لم يكن يريد أن يتجه إلى العلم، وإنما رغب في أن يتعلم الغناء ويجيده، ويجعل منه صناعة، والغناء مصدر للمال الكثير، ومجلبة سريعة للثروة في كل الأزمنة. والأم العاقلة لا ترضى لولدها بذلك، والأم الجاهلة أو الغافلة تُسارع إلى تشجيعه عليه.

لقد صرفت أم مالك ابنها في لطف شديد ولباقة جمَّة عن فكرته، واختارت له بديلاً عظيما هو العلم، الذي يرفع من قدر البيوت وإن كانت خاملة.

يقول الإمام عن تلك الحادثة: "نشأتُ وأنا غلام فأعجبني الأخذ عن المغنين، فقالت أمي: يا بنيَّ.. دع الغناء واطلب الفقه، فتركتُ المغنين وتَبِعتُ الفقهاء، فبلغ الله بي ما ترى".

إن أم مالك لم تكتف بتوجيهه إلى طلب العلم وحسب، بل ألبسته ثياب العلم، وفي ذلك يقول مالك: فألبستني ثيابًا مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي ـ يقصد القلنصوة الطويلة ـ وعممتني فوقها ثم قالت: اذهب فاكتب الآن".

ثم تستدرك وتختار له المعلم والأستاذ، وكان أشهرهم آنذاك ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فتقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه، وفي رواية: فتعلم علمه قبل أدبه.

- إخوة مالك:

أشهرهم النضر بن أنس الذي كان مُقبِلاً على العلم، ملازمًا للفقهاء، متلقيًا عنهم، معروفًا لديهم، حتى إن مالكًا كان يُعرَف بأخي النضر؛ لأن النضر كان أسبق منه في طلب العلم، وبالتالي كان معروفًا أكثر من أخيه. ثم تشاء المقادير أن يبلغ مالك من العلم والفضل ما شاء الله له، وأن تذيع شهرته بين شيوخ المدينة وعلمائها، فتنقلب الصورة، ويُذكَر النضر على أنه أخو مالك.

وقد ورد أن النضر كان يتَّجِر في البز.

وكان لمالك أخوات منهن: أم أبي بكر الأعشى - واسمه عبد الحميد بن عبد الله - وكان لمالك أخت تسكن معه تهيئ له خبزًا وزيتًا، وله أخت ثالثة هي أم اسماعيل، وقد روى إسماعيل عن خاله مالك.

- أبناء مالك:

كان لمالك أربعة أولاد، هم: يحيى، ومحمد، وحماد، وفاطمة أم أبيها أو أم البنين.

فأما يحيى فضعَّفه ابن حزم، وقال العقيلي: حدَّث عن أبيه بمناكير، وذكره ابن حبان في الثقات ـ وابن حبان يتساهل في التعديل ـ وقد روى عن أبيه نسخة الموطأ، وذكر ابن شعبان أنها تُروَى عنه باليمن، وروى عن محمد بن مسلمة.

قال أحد تلاميذ الإمام: "كنا نجلس عند مالك، وابنه يحيى يدخل ويخرج ولا يقعد، فيُقبل علينا ويقول: إن مما يُهَوِّن عليَّ أن هذا الشأن لا يُورَث، وأن أحدًا لم يخلُف أباه وما حازه إلا عبد الرحمن بن القاسم"، وكان ليحيى هذا ابن اسمه محمد، قدِم مصر، وكُتب عنه.

وأما محمد بن مالك فقد قرَنه ابن حزم مع أخيه بالضعف، وقد كان يحضر مجلس أبيه، وعليه باشق ونعل كيساني، وقد أرخى سراويله عليه، فيلتفت مالك إلى أصحابه ويقول: إنما الأدب أدب الله، هذا ابني، وهذه بنتي.

وكان لمحمد هذا ابن اسمه أحمد، سمع من جده مالك، ذكره أبو عبد الله بن مفرج القرطبي في رُواة مالك، وأبو بكر الخوارزمي البرقاني الحافظ في الضعفاء، وتوفي أحمد هذا سنة ست وخمسين ومائتين.

ويقول الزبيري: وكانت لمالك ابنة تحفظ علمه - يعني الموطأ - وكانت تقف خلف الباب، فإذا غلط القارئ نقَرت الباب، فيفطِن، فينظر مالك فيرد عليه".

أما ابنه حماد فلم يرد له ذكر إلا أنه ابن لمالك، وأنه أوصى به وبأخيه محمد إلى رجل من أهل المدينة اسمه إبراهيم بن حبيب، قال عنه قاسم بن أصبغ: إبراهيم بن حبيب ثقة من أصحاب مالك وهو وَصِيُّه.

- زوجة مالك:

على أن أعظم دروس الإمام من أسرته يتبدى في احترامه لزوجته. وكانت أَمةً تزوَّجها بطريق التسري، فاستبقاها زوجةً وحيدة له، وحاطها وأسرتهما بكل حبه واعتزازه.

ويُلاحظ في أسرة مالك طولُ أعمارها، فالإمام نفسه عاش ما يقارب التسعين عامًا، وعمه أبو سهيل نافع عاش أكثر من سبعين عاما، وجده عاصر عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما - وامتد به العمر إلى ما بعد سنة تسع وتسعين، وهي السنة التي ولي فيها عمر بن عبد العزيز الخلافة. وإذا اجتمع طول العمر وحسن العمل وطلب العلم ونشره، كان الحصاد ذا وفرة، والعطاء ذا بركة." اهـ. (الأئمة الأربعة لكمال عودة)
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 04-03-2009 الساعة 09:20 AM
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-03-2009
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

مـولـد الإمـام مـالــك

لا يولد الإنسان مشهورا، ولا ينزل إلى الحياة معروفًا بإنجازاتٍ ما أدَّاها، أو قدرات أظهرها، ولذلك تغيب بعض معلومات الحياة الأولى لبعض المشاهير، وهذا هو الإمام مالك بن أنس - في شهرته واتساع فقهه وانتشار تلاميذه في المشرق والمغرب - لا يُعرف له تاريخ ميلاد محدد، لكن الاختلاف فيه ليس كبيرا، فمالك وُلد في المدينة المنورة قبل نهاية القرن الأول الهجري بسنوات قليلة، سنة 93هـ على الأرجح، ويُنسب إليه أنه قال: "ولدتُ سنة ثلاث وتسعين".

وقد رأى بمكان ميلاده آثار الصحابة والتابعين، كما رأى وعايَن قبر النبي - صلى الله وعليه وسلم - والمشاهد العِظام، وفتح عينيه بنور الحياة، فوجد إجلال الناس لمدينة رسول الله وما بها، وكانت مهد العلم، ومبعث النور، ومنهل العرفان، فانطبع في نفسه التقديس لها، ولازمه إلى أن مات، وكان لذلك أثره في فكره وفقهه، وحياته، فكان لا يطأ ترابها بدابة قط، وكان لِما عليه عمل أهل المدينة مكان من الاعتبار في اجتهاده، بل كان عمل أهل المدينة أصلاً من أصول استنباطه.

بـيـت الإمـام مـالــك

لم يكن الإمام يملك دارًا، فكان يستأجر دارًا كتب على بابها: (ما شاء الله)، ويُسأَل مالك في ذلك، فيقول: قال الله تعالى: (وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ) (سورة الكهف: الآية39)، والجنة: الدار.

ومن الطرائف أن زائرًا عراقيًّا سأله عن تعليق الصورة في البيت، فقال مالك: إنه لا ينبغي وجودها، فأشار الزائر إلى صورة كانت في الحائط، فقال مالك بأن الصورة ربما كانت لساكن سابق، ثم أمر مالك الضيف أن يقوم فيحكها ويزيلها.

وقيل إنه سكن دارَ عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - سادس ستة أسلموا وواحد ممن انتهى إليهم علم الصحابة.

أما بيت مالك من الداخل فنظيف أنيق، مليء بالأثاث الناعم من نمارق ومخاد محشوة بالريش وبُسط ومنصات.

كما ثبت أن مالكًا سكن العقيق - وهو مكان يبعد عن المدينة نحو أربعة كيلو مترات - في طفولته وفي شيخوخته، بل عاش في العقيق للمرة الثانية اعتبارًا من عام 160هـ على وجه التقريب، فحين أراد والي المدينة تقديم الشافعي إلى مالك بتزكية من والي مكة، ذهب به إلى بيت مالك بالعقيق، وحين بعث الرشيد بولديه إلى مالك ليتلقَّيا عنه، كان أيضًا بالعقيق..

تقول الرواية: إن ابني الرشيد دقَّا عليه الباب، فلم يفتح لهما، فجلسا على الباب والريح يضرب وجوههما بتراب العقيق، فلما يئسا انصرفا". وكانت وفادة الغلامين العباسيين في العقد الثامن من القرن الثاني؛ أي سنة مائة وكذا وسبعين، وتلك قرينة على أن الإمام قد عاش زمنًا غير قصير في المرحلة الأخيرة من حياته بالعقيق." اهـ.

مـعـيـشـة مـالـك ومـهـنـتـه

"تتفق الأخبار على أن الإمام اتجه إلى طلب العلم صغيرًا، ولم يكن ذلك جديدًا في أسرته، بل كان جده وأعمامه من العلماء الرواة للحديث والأثر، لذا لم تذكر مصادر ترجمته أنه تولى صناعة النبال كأبيه، كما هو الشأن في الكثير من الأسر؛ أن يرث الولد صناعة أبيه، ولعل ذلك راجع إلى أنها تعوقه عن ملازمة الشيوخ.

إن النضر بن أنس أخا الإمام كان يتَّجِر في البز، وكان مالك يبيع معه ويتاجر مثله.. وليس هناك ما يمنع من الجمع بين التجارة وطلب العلم، فإن الوُكلاء قد يُغنون في هذا؛ لذا لم يكن مالك هو الذي يمارس التجارة حين غلبت الصفة العلمية عليه.

والنضر نفسه كان من المشتغلين بالعلم وطلب الحديث، حتى لقد كان مالك ـ في بداية أمره - يُنادَى بـ "أخي النضر"، ثم اشتُهر مالك حتى صار النضر يُنادَى بـ "أخي مالك".

وفي غالب الظن أن ريع التجارة وربحها لم يكن كافيًا لمعيشة مالك، مما جعله يواجه أزمات مالية، اضطر في إحداها إلى أن ينقض سقف بيته، ويبيعه حتى يفلت منها.

وها هو ابن القاسم - تلميذ الإمام - يثبت اشتغال مالك بالتجارة، فيقول: "كان لمالك أربعمائة دينار يتَّجِر، فمنها كان قوام عيشه".

وهذه الدنانير ليست مبلغا صغيرا، فهي تصلح رأس مال أوليا لتجارة معقولة الحجم. وقد كان الدينار يساوي بضعة دراهم، وكان مالك يشتري في اليوم لحما بدرهمين، ورأس ماله الذي كان يتاجر فيه يكفي لشراء حصته اليومية من اللحم لسنتين تقريبا، ولو افترضنا أنه كان يشتري كيلو واحدا من اللحم في اليوم له ولبيته، فإن رأس ماله الذي كان يزاول التجارة به يساوي عشرة آلاف جنيه مصري بسعر اليوم تقريبا.

وكان ثمة رابطة ود وصداقة تجمع بين مالك في المدينة والليث بن سعد إمام مصر، وكان الليث على جانب كبير من الثراء، جمع بين غنَى النفس وثروة العلم وثراء الخلُق ووفرة المال، وكان يُنفق فيض ماله حيث ينبغي أن يُنفَق، ومِن ثَمَّ كان يبعث لرجال العلم بهدايا مالية تارة وعينية تارة أخرى، فكان يرسل إلى مالك كل سنة مائة دينار.

ومن طرائف العلاقة بين الليث ومالك أن مالكًا أرسل إليه يطلب قليلاً من العصفر، يصبغ به ثياب صبيانه، فأنفذ إليه الليث ما صبغ به ثياب الصبيان وثياب الجيران، وبِيع الفضل بألف دينار." اهـ
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-03-2009
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

ولقد سئل مالك عن عدم السعي في طلب الرزق والانقطاع الى العلم فقال:

«لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضربه الفقر ويؤثره على كل حال. ومن طلب هذا الأمر صبر عليه.».
وفي الحق أنه ظل طالب علم بعد أن أصبح فقيها كبيرا يسعى إليه الناس من كل أقطار الأرض وإلى أن توفي سنة 179هـ وفي نحو السادسة والثمانين.

ولقد ظل يعلم الناس، عندما جلس للعلم، أن يتحرجوا في الفتيا وفي إبداء آرائهم، فإذا كان الفقيه غير متثبت مما يقول فعليه في شجاعة أن يعترف بأنه لا يدري. ذلك أن الفتيا لون من البلاء لأهل العلم.

فمن حسب نفسه قد أوتي العلم كله، فهو الجاهل حقا.. وشر الناس مكانا هو من يضع نفسه في مكان ليس أهلا له. وإن رأى الناس غير ذلك، فصاحب العلم أدرى بنفسه، وللرأي أمانته.

ويحكى أن رجلا جاءه من أقصى الغرب موفدا من أحد فقهائها، ليسأل مالكا بن أنس عن مسألة.. فقال مالك: «أخبر الذي أرسلك ألا علم لي بها» فأخبره الرجل أنه جاء من مسيرة ستة أشهر ليسأل عن هذه المسألة. فقال مالك: «ما أدري وما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا وما سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود غدا». وظل مالك يفكر في المسألة ويقرأ ما يمكن أن يتصل بها حتى إذا كان الغد جاءه الرجل فقال له مالك: «سألتني وما أدري ما هي» فقال الرجل «ليس على وجه الأرض أعلم منك وما جئتك من مسيرة أشهر إلا لذلك» فقال مالك: لا أحسن.

بهذه الأناة والتحرج كان مالك يعالج الفتيا.

ولقد عاش في المدينة المنورة طيلة حياته منذ ولد فيها نحو سنة 93هـ إلى أن ثوى تحت ثراها آخر الدهر. لم يبرحها قط إلا لحج أو عمرة..

كان مالك يجد في المدينة ريح النبوة، ونفحات علوية من أنفاس الرسول حتى لكأنه يستنشق كل خفقة من أنسام مدينة الرسول جلال الأيام الباهرة الخالية: أيام النور والوحي والبطلات والفرقان.

وما زال أهل المدينة يصغون كما كانوا يصغون في زمن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والصحابة الأوائل.. إنهم ليتوارثون سنته الشريفة في القول والعمل الآباء عن الأجداد.. آلافا عن آلاف حتى لقد صح عنده أن عمل أهل المدينة في عصره سنة مؤكدة، وأنه أولى بالإعتبار عند الفتيا والقضاء من أحاديث الآحاد..

إنه لعاشق لمدينة رسول الله كما لم يعشق أحد مدينة من قبل ولا من بعد، يكاد يحمل لها من التعظيم ما يحمله للرسول (صلى الله عليه سلم) نفسه ولصحابته.

حكى الشافعي أنه رأى على باب مالك هدايا من خيل خراسانية وبغال مصرية فقال الشافعي «ما أحسن هذه الأفراس والبغال، فقال مالك: هي لك فخذها جميعا. قال الشافعي: ألا تبقي لك منها دابة تركبها؟ قال مالك: إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بحافر دابة».

وفي الحق أن الحياة في المدينة كانت تناسب طبيعة مالك.. فقد ظلت المدينة بعيدا عن مضطرب التيارات الفكرية التي تصطخب في غيرها من مدائن المسلمين، فهي تعيش على السنن المتوارثة وتنأى بنفسها عن صراع العقائد، والجدل الفلسفي، وكلام الباحثين فيما وراء الغيب، وكل ما أنتجته ترجمة الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية.. إنها حقا قرية مؤمنة ورب غفور.. مالك بن أنس رجل يحب الدعة وينشد السكينة، ويعكف على الدرس المطمئن. وهو يكره الجدل واللجاج والصخب والمناظرة، والكلام فيما لا ينفع الناس في حياة كل يوم.

وكان يقول لمن سافر لمن يريدون الجدل في العقائد «لا تجادلوا.. وكلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل، وغير الإنسان دينه».
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-03-2009
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

وكان مالك لا يحب أن يخوض غمرات الصراع السياسي.. وكانت المدينة بالقياس الى غيرها من بلاد المسلمين أكثرهن بعدا عن الثورات الفتن ومناهضة الحكام.

ولقد بلغ نفوره من الجدل حدا جعله يصد عنه هارون الرشيد عندما لقيه في المدينة وطلب منه أن يناظر أبا يوسف صاحب أبي حنيفة.

فقال مالك مغضبا: «إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة».

كان مالك يعتقد أن الجدال في الدين مفسدة للدين. وقال: «إن الجدل يبعد المتجادلين عن حقيقة الدين. إن المراء والجدل في الدين يذهبان بنور العلم من قلب المؤمن». وسئل: «رجل له علم بالسنة آلا يجادل عنها؟ فقال: يخبر بالسنة فإن قبل منه، وإلا سكت.»

على أن الأفكار الجديدة اقتحمت على مالك وأهل المدينة حياتهم، وفرضت عليهم النظر فيها، فقد كان أصحابها يذهبن الى الحجاز للحج العمرة وللزيارة.. وكان على مالك وأهل العلم في المدينة أن يناظروا فيما هو مطروح من أفكار وكلام. صفات الله. كيف يرى يوم القيامة، وخلق القرآن.. القدر والجبر والإختيار.

وفرضت القضايا نفسها على فقهاء الحجاز.. أما مالك فقال: «الكلام في الدين أكرهه أنهي عنه ولم يزل أهل بلدنا (المدينة) يكرهونه وينهون عنه.. نحو الكلام في القدر والجبر ونحو ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل. وما تحته عمل من الدين هو ما يفيد الناس في دنياهم وآخرتهم.. هو الفقه الذي يحكم أعمال الناس ويرد الفروع إلى الأصول». أما العقائد فقد نهى عن الجدل فيها وقد فسر مالك كل آية تحدث عن العداوة والبغضاء التي تقع بين عباد الله، بأنها الخصومات للجدل في الدين.

وكان مالك يتساءل عن جدوى هذه الأفكار المبتدعة عن ذات الله وصفاته والجبر والاختيار؟ وخلق القرآن؟ وما عساها تحقق من مصالح أن تدفع من مضار؟

إنه لأولى بأهل العلم أن يشتغلوا بالحكمة... والحكمة التي جاءت كثيرا في القرآن هي ـ في رأي مالك ـ في دين الله والعمل به..

ولقد أطلق مالك على أصحاب الكلام في العقائد والجبر ونحو ذلك من أصحاب بدع وقال عنهم إنه ما عرف أشد منهم سخفا ولا حمقا. فما جدوى الكلام فيما يتكلمون فيه؟ ماذا يحقق جدل كهذا من مصالح للعباد؟..

إن المعتقدات يجب ألا تكون موضع كلام وعلى المسلم العاقل أن يسلم بها تسليما مطلقا، وأن يجعل همه إلى ما وراء ذلك مما ينفع الناس، ويمكث في الأرض يدفع عنهم الضرر والمفاسد، ويضبط لهم علاقاتهم وحياتهم ومعاشهم بما يستنبط به من أحكام الشريعة.

فليسأل أهل العلم أنفسهم ما هو مقصد الشريعة الإسلامية وما هدفها؟...... وليتقوا الله حق تقاته وهم يجيبون على هذه المسألة... أهو في الشريعة الإسلامية أن يتخاصم الناس ويتمارون حول القدر وخلق القرآن ورؤية الله والجبر الاختيار؟... وبهذا تنصرف العقول عن التفكير فيما ينفع الناس؟.. لا بل إن هدف الشريعة هو إقامة العمران في هذا العالم وتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة..

من أجل ذلك فقد وجب على العلماء والفقهاء أن يبصروا الناس بما يحقق المصلحة ويقيم عمارة العالم، وبما يدرأ عنهم المفاسد وبما يضبط أمورهم على أركان ركينة من العدل والتقوى وصلاح الأمور.

والأحكام التي تحقق مقاصد الشريعة منصوص عليها في القرآن والحديث، ويجب التعرف عليها بكل طرائق الفهم والتفسير، وتدبر ما وضح وما خفي من دلالات النصوص، فإن لم يسعف النص في موجهة ما يستجد من أحداث، فلينظر الفقيه في إجماع الصحابة ليستخلص الحكم، ففي إجماع الصحابة حجة كالسنة المؤكدة، فإن لم يجد الفقيه ما يشفي فلينظر في عمل أهل المدينة لأنهم تلقوه آلافا عن آلاف عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته.. فإن كان ما استجد من قضايا لا حكم له عند أهل المدينة فليقس الفقيه ليطبق على القضية الجديدة حكم قضية سابقة وأورد به نصا إن توفرت العلة في القضيتين فإن تعارض هذا القياس مع مصلحة فليفضل الحكم الذي يحقق المصلحة استحسانا له.. فهو الأحسن. وإن لم يسعفه القياس فلينظر في عرف الناس وعاداتهم إن لم يكن مخالفا لما أحله.. فإن لم يجد فلينظر أين المصلحة.. وليجعل تحقيق المصلحة هو مناط الحكم.

على أن مالك بن أنس لم يوفق الى هذه الأفكار ويدلي بها إلا بعد أن أصبح صاحب حلقة يدرس فيها..

فها هو ذا مالك بن أنس تجري به السنون لتعدو الأربعين، وقد لزم الفقهاء نحو ثلاثين عاما، فتلقى عنهم الأحاديث النبوية، ومحصها وحقق إسنادها وتدارس معهم ما ينبغي لاستنباط الأحكام التي تواجه قضايا لم تعرض من قبل، وتعلم منهم الكتاب والحكمة، وتفكر في خلق السموات والأرض وأحوال العباد، وتدارس معاملات الناس، فتكون له رأي خاص، واستقل بنظره في كل أمور الدنيا والآخرة اتبع في بعضه السنة وأفكار السلف الصالح وعمل أهل المدينة وأعرافها وعاداتها.

واستنبط الأحكام في بعضه الآخر بما يحقق المنفعة ويدرأ المفسدة.

جاء الوقت الذي ينبغي له فيه أن يجلس إلى أحد أعمدة الحرم النبوي، ويجعل له حلقة خاصة يفتي فيها للناس ويعلمهم مما علم رشدا ويطرح عليهم ما تكون له من فقه وما استقر عنده من تأويل الأحاديث.

وكان مالك قبل أن يجلس ليعلم الناس ويفتيهم، قد اختلف مع أستاذه ربيعة، فرأى مالك أن يستقل بحلقة، اقترحها عليه مشايعوه، غير أنه لم يفعلها من فوره بل طلب على سبعين من أصحاب الحلقات والشيوخ في المسجد النبوي، يعرض عليهم فقهه، ويستأذنهم في أن يجلس ليعلم الناس.

وأجازه له أستاذته لم يختلف على إجازته أحد، اختار المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب ليبستروح منه جلال الأيام الرائعة الماضية، حيث كان كل الصحابة يعيشون في المدينة المنورة.. أمسكهم فيها عمر لا يبرحونها إلا بإذنه، لكي يعلموا الناس، ولكي يستشيرهم إذا احتاج الأمر، ولكيلا يفتن بهم أهل الأقطار الأخرى من حديثي العهد بالإسلام.

وكان أنس بن مالك من قبل قد اختار سكنا له دار الصحابي عبد الله ابن مسعود، ليخفق منه القلب بنبضات عصر النبوة.. ذلك العصر المضيء بنور الإيمان والمعرفة والشوق المقدس العظيم الى صياغة عالم جديد من الطهارة والإخاء والنبل والعدالة والحرية والسكينة والنعيم..

ولقد أثث مالك بن أنس داره بأجمل أثاث، وزينها بأحسن زينة وملأ أجواءها بعرف البخور المعطر. ذلك أن الحياة أقبلت عليه.. فنال راتبا كبيرا من بيت المال، ثم توالت عليه هدايا الخلفاء فقد اقتنع الخلفاء برأيه في أن أهل العلم يجب ألا يشغلوا عنه بالسعي في طلب الرزق، بل يجب أن يكون لهم نصيب من بيت المال، فينالوا منه رواتب منتظمة كبيرة، كما ينال قواد الجيش الذين يقومون على حماية الأمة وسد الثغور... فنشر العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والتوفير على نشر العلم جهاد. وإذن فينبغي أن يكون لكل من العالم وطالب العلم جزاء المجاهدين كل بقدر ما يكفيه.

إن العلماء ليحمون أرواح الناس وعقولهم من الضلال، فمن واجب ولي الأمر أن يوفر لهم من المال ما يكفل لهم الحياة الكريمة والمظهر اللائق الحسن كخير ما ينعم به الولاة والأمراء وحماة الثغور.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-03-2009
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

على أنه كان يغدق من راتبه ومما يتلقى من هدايا على الفقراء من طلاب العلم يعطيهم ما تيسر من المال ويطعمهم أشهى طعام.. وكان حفيا بمأكله يختار الأطايب من كل صنف وكان مولعا بالفاكهة وخاصة الموز ويقول عنه: «لا شيء أكثر شبها بثمرات أهل الجنة منه، لا تطلبه في شتاء ولا صيف إلا وجدته.. قال تعالى «أكلها دائم وظلها».

وكان يحض تلاميذه على الاهتمام بحسن التغذية، فالغذاء الجيد يبني الجسم السليم.. والعقل السليم في الجسم السليم. ومكابد العلم تحتاج الى عقول نشطة تصونها أجساد قوية..

وهكذا عاش منذ بدأ يجلس للإفتاء والتدريس: جسد قوي، وعقل نفاذ.. طعام حسن ومسكن جيد وثياب أنيقة بيضاء من خير ما تنتجه مصر وخراسان وعدن.

وألف الناس كلما دخلوا المسجد النبوي بعد صالة الفجر أن رجلا مهيبا طويلا فارعا أشقر، أبيض الوجه، اوسع العينين، أشم الأنف، كبير اللحية، مفتول الشارب، يتخذ مكانه في هدوء، ويتحدث في صوب عميق صادق مستندا الى عمود من حوله حلقة من تلاميذه، كأن على رؤوسهم الطير. فإذا دخل غريب وألقى السلام لم يرد عليه أحدا إلا همسا.. فإذا سأل ما هذا؟ قيل له في صوت خفيف: إنه الإمام مالك بن أنس.

فقد كان يفيض إذا تكلم، وينفذ بصدقه الى القلوب.. ولم يكن جهير الصوت، فكان تلاميذه يكادون يمسكون بأنفاسهم لكيلا يفوتهم حرف مما يقول.

وكان قد خصص أياما لشرح الأحاديث النبوية الشريفة، وأياما للمسائل والفتيا.. فإذا سأله أحد في أمر لم يقع ولكنه متوقع، قال له: «سل عما يكون ودع ما لا يكون».

ذلك أنه كان يرى أن كثرة الفروض مفسدة، وفيما يقع من الحوادث والقضايا الجديدة ما يكفي وما يغني عما هو متوقع..
وعندما تقدمت به السن، عقد حلقات الدرس في بيته الواسعة ذات الأثاث الفاخر.

ترك مجاملة الناس التي اشتهر بها، «ترك حضر الجنازات، فكأن يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، وكان إذا عوتب في ذلك قال: «ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره».

ذلك أنه لم يفض لأحد بسر مرضه الذي أقعده عن المسجد والناس إلا فراش الموت وكان مرضه هو سلس البول. وعندما اشتد عليه المرض بعد أن جاوز الثمانين كره أن يخرج من داره.

وكان له في بيته مجلسان في السنوات الثماني الأخيرة من حياته: فقال أحد تلاميذه: «إنه كان عندما انتقل درسه الى بيته، إذا أتاه الناس تخرج لهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ أتريدون الحديث أم المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم أجلسوا، ودخل مغسله فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابا جددا، ولبس ساجه (وهي غطاء للرأس كالتاج) وتعمم، فتلقى له المنصة. فيخرج اليم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع، ويوضع عود فلا يزال يبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله(صلى الله عليه وسلم)».

ولكم كان حريصا على أن ينتقي الأحاديث.

وعلى الرغم من كثرة الأحاديث التي حفظها، فلم يكن يحدث بهن جميعا.. لقد قيل له إن أحد الفقهاء يحدث بأحاديث ليست عندك، فقال مالك: لو أني حدثت بكل ما عندي لكأني إذن لأحمق ثم أضاف: لقد خرجت مني أحاديث لوددت لو أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها. من أجل ذلك قال عنه تلميذه الشافعي: «إذا جاء الحديث فمالك النجم الثاقب».

وبهذا الحرج في الحديث كان يتحرج في الفتوى.. فقلا يقول هذا حلال وهذا حرام إلا إذا كان هناك نص قطعي الدلالة.

وفيما عدا هذا يقول: أظن. ثم يعقب فتواه مستشهدا بالآية الكريمة: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.

ولقد عاتبه بعض تلاميذه على تحرجه في الفتوى، فاستعبر وبكى وهو يقول: إني أخاف أن يكون لي منها يوم وأي يوم. وقال يوما لأحد تلاميذه: ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: (إننا سنلقي عليك قولا ثقيلا).. فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.

ولقد عاتبه بعض الناس في عنايته الفائقة بأثاث البيت، وبملبسه ومأكله فقال: «أما البيت فهو نسب الإنسان. ثم إني لا أحب لامرئ أنعم الله عليه ألا يرى أثر نعمته عليه وخاصة أهل العلم». كان يرى في أن البيت الجيد راحة للنفس والبدن، وأن الطعام الجيد يعين على نشاط الذهن، وأن حسن الثياب يكسب المرء ثقة بالذات وإحساسا بالسعادة.

وهكذا عاش يستمتع بزينة الحياة الدنيا التي أحلها الله لعباده والطيبات من الرزق، نائيا بنفسه عن السياسة، راغبا عن مصاولة الحكام وإن كانوا ظالمين حتى لقد أفتى بوجوب الطاعة للحاكم حتى إن كان ظالما. ولا ينبغي الخروج عليه بالفتنة بل يسعى الى تغييره بالموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ظلم ساعة خلال الفتنة شر من جور حاكم ظالم طيلة حياته. والحاكم الظالم يسلط الله عليه ما هو شر منه والله يرمي ظالما بظالم.

وعلى هذا سار أيام الأمويين، ثم في دولة العباسيين.. يحاول جهده أن يكون على الحياد. ولكنه على الرغم من كل شيء لم يعش بمنجاة عن بطش الذين أفتى بوجوب طاعتهم من الحكام مهما يظلمون.

لم يهاجم الأمويين فأصابه منهم خير كثير ثم جاء العباسيون فزادوه من الخيرات.. وأصبح الإمام مالك رجلا غنيا، يعيش في دعة وسعة يمنح كل وقته للعلم. ذلك أنه لم يمدح عليا بن أبي طالب ولم يساند حقه في الخلافة.. وكان مدح علي هو ما يغيظ الخلفاء الأمويين العباسيين.

وآثر الحياد، وترك السياسة، وأشفق على نفسه وعلى أهل المدينة بما رأى في شبابه من مذابح من بعد ثورة الخوارج ونهضة الإمام زيد بن علي زين العابدين، على أن السياسة لم تتركه ولم ينفعه حياد.!.

ولهو يشرح في المسجد الحديث الشريف: ليس على مستكره يمين.. ويبين للناس أن من طلق مكرها لايقع منه طلاق، إذ بأحد أحفاد الحسن ابن علي وهو محمد النفس الزكية، يثور على الخليفة المنصور، لأنه أخذ البيعة لنفسه قسرا فبايعه الناس مستكرهين. وإذ ببعض الناس في المدينة ينتقض بيعته لمنصور وينضم لمحمد النفس الزكية إعمالا لهذا الحديث وتطبيقا للسنة.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-03-2009
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

وأرسل والي المدينة إلى الإمام مالك أن يكف عن الكلام في هذا الحديث، وأن يكتمه عن الناس، لانه يحرضهم على الثورة ونقض البيعة.

ولكن الإمام مالك أبى أن يكتم هذا العلم، فكاتم العلم ملعون. وظل يفسر الحديث غير آبه بتهديد والي المدينة، وأطلق الحكم الذي جاء به الحديث على كل صور الإكراه في المعاملات والحياة.

فأمر والي المدينة رجاله فضربوا مالكا أسواطا، ثم جذبوه جذبا غليظا من يده، وجروه منها فانخلع كتفه.. ثم أعادوه الى داره وألزموه الإقامة بها. لا يخرج منها حتى للصلاة ولا يلقى فيها أحدا.

وفزع الناس في المدينة الى الله يشكون الظالم، وثار سخطهم على الوالي والخليفة نفسه وغضب الفقهاء والعلماء من كل الأمصار والأقطار. فهاهو ذا عالم يلتزم الحياد، ينأى بنفسه عن السياسة ودوران دولاتها، ويعكف على العلم ويشرح للناس حديثا نبويا صحيحا، ويبصرهم بأحكام هذا الحديث فإذا بالدولة بكل قوتها تبطش به، وهو عالم لا يملك إلا قوة العلم وما يستطيع بعد كتمان هذا العلم؟..

وأخذ الناس يلعنون والي المدينة والخليفة المنصور الذي ولاه.. ويتهمون الخليفة نفسه. وقمع المنصور ثورة النفس الزكية، وقتله هو وآله بيته وصحبه وأتباعه شر قتلة ومثل بأجسادهم.. واستقر له الأمر.

فاستقدم الخليفة المنصور مالكا ليسترضيه ولكن مالكا لم يقم ولم يبرح محبسه في منزله.

فأمر المنصور والي المدينة فأطلق سراح مالك.. ثم جاء المنصور بنفسه من العراق إلى الحجاز في موسم الحج، واستقبل الإمام مالك بن أنس. وقال الخليفة معتذرا: «أنا أمرت بالذي كان ولا عملته. إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني أخالك أمانا لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة فإنهم أسرع الناس الى الفتن».

ثم أضاف الخليفة أنه استحضر والي المدينة مهانا وحبسه في ضيق، وأمر الإيغال في إهانته، وأن ينزل به من العقوبة أضعاف ما نال منها الإمام مالك بن أنس.

فقال الإمام مالك: «عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه فقد عفوت عنه لقرابته من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ومنك.» قال الخليفة المنصور: «فعفا الله عنك ووصلك.. ووهبه المنصور مالا كثيرا وهدايا ثمينة ثم أضاف:

إن رابك ريب من عامل (الولي) المدينة أو مكة أو عمال (اي ولاة) الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك، أو سواء أو شر بالرعية فاكتب إلي أنزل بهم ما يستحقونه.

على أن الإمام مالك بن أنس لم يكتب الى الخليفة، على الرغم مما سمع وعاين من شر بالرعية في جميع أنحاء الحجاز، بل اكتفى بتوجيه النصح والموعظة الحسنة إلى هؤلاء الولاة.

على أن الخليفة المنصور لم يترك الحجاز حتى طلب من الإمام مالك أن يضع كتابا يتضمن أحاديث الرسول وأقضية الصحابة وآثارهم، ليكون قانونا تطبقه الدولة في كل أقطارها بدلا من ترك الأمر لخلافات المجتهدين والقضاة والفقهاء.. وكان ابن المقفع الكاتب قد أشار على الخليفة من قبل بإصلاح القضاء وتوحيد القانون في كل أرجاء الدولة..

قال المنصور للإمام مالك: «ضع للناس كتابا أحملهم عليه» فحاول مالك أن يعتذر عن المهمة ولكن المنصور ألح: «ضعه فما أحد اليوم أعلم منك» فقال مالك: «إن الناس تفرقوا في البلاد فأفتى كل مصر «أي قطر» بما رأى فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم». فقال الخليفة المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم، فالعلم علم أهل المدينة» فقال مالك: «إن أهل العراق لا يرضون علمنا» فقال المنصور: «يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط.
واقتنع مالك برأي الخليفة، بأن يجمع الأحاديث النبوية في كتاب يضم مع الأحاديث آثار الصحابة، ليجتمع المجتهدون والفقهاء والقضاة على رأي واحد وانقطع الإمام عاكفا على إعداد الكتاب وأخذ يكتب وينقح ويحذف أضعاف ما يثبت، وينقح ما يثبت وأسمى كتابه الموطأ. والموطأ لغة هو المنقح.

ولبث ينقح في الكتاب سنين عددا، وخلال تلك السنين أخرج منافسوه من علماء المدينة كتبا كثيرة في الأحاديث وآثار الصحابة أسموها الموطآت، وسبقوه بها.. فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شرك فيه الناس وعملوا أمثاله، وأخرجوا ما عملوا فقال: «ائتوني بما عملوا.. فأتوا بها فلما فرغ من النظر فيها قال: «لا يرتفع إلا ما أريد به وجده الله» أما تلك الكتب فكأنما القيت في الآبار وما يسمع بشيء منها يذكر بعد ذلك..

وفي الحق أن شيئا من تلك الكتب لم يذكر بعد، وكأنما ألقيت في الآبار.

أما كتاب الموطأ فقد أنجزه مالك بعد أن قضى المنصور وجاء بعده خليفة وخليفة ثم جاء هارون الرشيد فأراد أن يعلق كتاب الموطأ في الكعبة ولكن الإمام مالك بن أنس أبى.

والإمام مالك بن أنس من أفقه الناس بالحديث وآثار الصحابة.. والرأي عنده سنة فقد وعى عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قوله: أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي.. ونقل الإمام مالك عن الرسول عليه السلام أنه كان يشاور أصحابه ويأخذ برأيهم.. ونقل من آرائه أن قبلة الصائم لا تفطر، فقد سألت زوجه أم المؤمنين أم سلمة عن قبلة الصائم فقال لها هل أخبرت أني أقبل وأنا صائم؟.. وحفظ الإمام مالك من آراء الرسول صلى الله عليه وسلم : أنه ذهب إليه رجل ينكر ولده لأن امرأته جاءت به أسود والأب أبيض والأم بيضاء، فقال له الرسول عليه السلام: هل لك إبل؟ قال: نعم. قال فما ألوانها؟ قال: «حمر» فسأله عما إن كان فيها «رمادي» فقال الرجل: نعم. فسأله الرسول صلى الله عليه سلم: من أين؟: فقال الرجل: لعله نزعة عرق. فقال الرسول عليه السلام وهذا لعله نزعة عرق.

وعى مالك هذا الإجتهاد من الرسول، ووعى صورا عربية أخرى من أخذه بمشورة الصحابة فيما لم ينزل فيه وحي، فاجتهد هو الآخر معتمدا على حسن الفقه بالقرآن الكريم، وعمق العلم بالناسخ والمنسوخ، ودلالات النصوص ظاهرها وخفيها، وأسرار الأحكام في القرآن، وحسن معرفة الأحاديث وآثار الصحابة.

وقد عرف كل آثار الصحابة إلا فقه الإمام علي بن أبي طالب، إذ صادره الأمويون وحجبوه، وطارده العباسيون.. غير أن ذلك الفقه كان في حدود آل البيت وشيعتهم، وفي تكب يتداولونها خفية.

ولقد أتيح للإمام مالك أن يعرف جعفر الصادق معرفة صداقة وتدارس معا.. وعمل كل واحد منهما تقديرا عظيما لصاحبه.

وفي الحق أن الإمام مالك قد أفاد من صحبة الإمام جعفر الصادق ـ وأخذ عنه الاعتماد على العقل فيما لم يرد فيه نص ـ غير أنه أسماه بالاستحسان أو المصلحة المرسلة ـ فقضى بما يحقق مقاصد الشريعة من توفير المصلحة وجلب النفع ودفع الضرر.. واعتبر المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، ووازن بين المصالح وما أولاها بالرعية لتكون هي مناط الحكم.

وكما أعطى أعمال العقل لفقه الإمام الصادق ثراء وتجددا، فقد أثرى الفقه المالكي باعتماد المصلحة أساسا للحكم حيث لا نص..

ويقول الإمام مالك من علاقته بالإمام جعفر الصادق: كنت آتي جعفر ابن محمد، وكان كثير المزاح والتبسم فإذا ذكر عنده النبي (صلى الله عليه وسلم) أخضر واصفر. ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا وإما صائما وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على الطهارة ولا يتكلم فيما لا يعنيه. وكان من العلماء الزهاد العباد الذين يخشون الله. وما رأيته قط إلا يخرج الوسادة من تحته ويجعلها تحتي.

أفاد الإمام مالك من صحبة الإمام جعفر وأخذ عنه كثيرا من طرق استنباط الحكم ووجوه الرأي وأخذ عنه بعض الأحكام في المعاملات، وأخذ الإعتماد على شاهد دون شاهدين، إذا حلف المدعي اليمين وكما أخذ من الإمام الصادق جعفر بن محمد أخذ من أبيه الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن ابي طالب.

لزم مالك مجلس الإمام محمد الباقر وابنه الإمام جعفر وتعلم منهما على الرغم من أن رأيه في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لا يرضي آل البيت وشيعتهم.. فقد فضل عليه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان رضي الله عنهم وجعل الإمام عليا كرم الله وجهه ورضي الله انه كسائر الصحابة.

غير أن الإمام مالك بن أنس لم ينافق الخلفاء، وإذا كان لم يجهر بالإحتجاج على مظالمهم، فقد اختار أن يوجه إليهم الموعظة الحسنة كلما اقتضى ـ كلما لقيهم في موسم الحج أو في زيارة الحرم النبوي.. وأنكر عليه أحد تلاميذه أنه يتصل بالأمراء وبالخلفاء لأنهم ظالمون وما ينبغي أن يتصل بهم رجل صالح كالإمام مالك بن أنس.. فرد مالك: «حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئا من العلم والفقه أن يدخل على ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر» وربما يستشير السلطان من لا ينبغي فخير أن يدخل عليه العلماء الصالحون.

وعندما ألح عليه تلاميذه في إنكار علاقاته بالخلفاء والأمراء قال: لولا أني آتيتهم ما رأيت للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدنية سنة معمولا بها.

وفي الحق أنه كان يعظهم أحسن موعظة، الموعظة الحسنة لأولي الأمر خير من الثورة عليهم واشتعال الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة فقد تلتهم الظالمين والضحايا والأبرياء جميعا.

كان مالك.. يسر النصيحة إلى ولي الأمر بحيث لا يحرجه أمام الرعية ويصوغها بحيث تقع موقعا حسنا.

رأى أحدهم يذهب الى الحج في موكب فخيم وسوف الترف باد عليه فقال له: «كان عمر بن الخطاب على فضله ينفخ النار تحت القدر حتى يخرج الدخان من لحيته وقد رضي الناس منك بدون هذا».

وقال لآخر: «افتقد أمور الرعية، فإنك مسؤول عنهم، فإن عمر ابن الخطاب قال والذي نفسي بيده لو هلك جمل بشاطئ الفرات ضياعا لظننت أن الله يسألني عنه يوم القيامة».

وكتب لخليفة آخر: إحذر يوما لا ينجيك فيه إلا عملك وليكن لك أسوة بمن قد مضى من سلفك، وعليك بتقوى الله.

وكان أحد الولاة يزور الإمام مالك بن أنس في بيته، ويسأله النصيحة.. فأثنى على الوالي بعض الحاضرين، فغضب مالك، وكان بعيد الغضب، وصاح في الوالي ـ وقلما كان يصيح ـ: «إياك أن يغرك هؤلاء بثنائهم عليك، فإن من أثنى وقال فيك من الخير ما ليس فيك، أوشك أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك.. إنك أنت أعرف بنفسك منهم.. ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أحثوا التراب في وجوه المداحين.

عندما بلغ مالك من الكبر عتيا كانت شهرته طبقت الآفاق حقا، وكان يلزم بيته في السنوات الأخيرة لا يخرج إلا نادرا واضطر الى أن يتخذ له حاجبا ينظم دخول الناس كما يصنع الخلفاء، وقد اتخذ له بيتا آخر واسعا غير دار ابن مسعود فيه عدد من الجاري الحسان والخدم.

وكان يحرجه أن يرفض استقبال أحد، وله أصدقاء كثر. واستخلص العبرة من كل حياته الماضية وأفضى بنصيحة الى أحد تلاميذه ليبثها في الناس من بعده: «إياكم ورق الأحرار».

سأله تلميذه: «وما رق الأحرار؟» قال الإمام مالك «كثرة الإخوان.. فإن كنت قاضيا ظلمت أو اتهمت بالظلم، وإن كنت عالما ضاع وقتك».

وكان مالك يشكو كثرة الأصدقاء، إذ لا حيلة له معهم، فلا هو يستطيع أن يردهم عنه، ولا هم يتركونه يعمل أو يعتكف في داره للعلم كما ينبغي له..

ومهما يكن من أمر فقد أغنى مالك الفقه الإسلامي برأيه في المصلحة وجعلها مناط الأحكام وأساسه فيما لم يرد فيه نص ملزم بالإباحة أو المنع، وفي أخذه بالذرائع فما يؤدي إلى الحلال حلال، وما يؤدي إلى الحرام حرام.. فأنت حر في ملكك لكنك في حريتك يجب ألا تضر غيرك فإذا حفرت بئرا خلف بابك يؤدي الى سقوط الداخل إليك وهلاكه فهذا حرام.. لأن حفر البئر ذريعة لاهلاك الغير فهو ممتنع. والبيع بأقساط ترفع الثمن الأصلي الذي تدفعه معجلا ذريعة الى الربا فهو حرام ويجب على ولي الأمر منعه. فالأقساط يجب أن تكون ذريعة للتيسير على المشتري لا ذريعة لقهر على اقتراف الربا، وحمله على دفع ثمن أكبر.

وبهذا النظر حرم الإحتكار لأنه يحقق مصلحة لفرد أو لأفراد ويجلب الضرر على الآخرين..

فالمحتكر يغالي في السعر كيفما شاء، وعامة الناس مضطرون الى قبول ما يفرضه وفي هذا ضرر بهم كبير والمحتكر ملعون، بنص الحديث الشريف.

ومن أخذ الإمام مالك في فتاواه وآرائه بالقرآن والسنة والإجماع وعمل أهل السنة ورعاية المصالح أفتى بأمور كثيرة خالفه فيها بعض العلماء والفقهاء والمجتهدين.

فقد أفتى مالك بحق الزوجة في الطلاق إذا لم ينفق عليها زوجها، أو إذا ظهر لها عي بفيه لم تكن تعرفه وقت العقد.. عيب أي عيب جسديا كان أم حقيقيا..

وأفتى أن ديون الله ـ كالزكاة ونحوها وما يمكن أن نسميه بالضرائب في أيامنا هذه ـ لا تؤخذ من التركة إذا اعترف المورث بها قبل وفاته.. وحتى إذا ثبتت هذه الديون بأي طريق آخر من طريق الإثبات، فديون العباد مقدمة عليها.. لأن العباد «والأفراد» يضارون بعدم دفع ديونهم أكثر من الدولة.. أما عن ديون الله كالزكاة فالله غفور رحيم.

وأفتى بأن الحمل قد يستمر في بطن أمه ثلاث سنوات. ولقد سخر منه بعض خصومه وزعموا أنه يشجع على الفساد نساء غير صالحات من المطلقات أو ممن يغيب أو يموت عنهن الأزواج.

وأفتى بأن من يبني جدارا في ملكه ليمنع الشمس والهواء عن جاره، معتد آثم يجب هدم جداره، وإن زعم أنه يقصد حماية أهل بيته من أعين الجيران.


وأفتى مالك بوجوب وضع ضوابط لحق الرجل في الطلاق وفي الزواج بأكثر من واحدة بحيث لا تضار الزوجة أو الأولاد، وبحيث تكون مصلحة الأسرة هي العلة والأساس والأجدر بالرعية.

وأفتى مالك بأن الأعراف والعادات يجب أحترامها في استنباط الأحكام ما لم تتعارض مع نص صريح قطعي الدلالة.

وأفتى بأن المحظور يجوز أن يقترف لأن فيه دفعا لمضرة أكبر..

إنه ليرى الشريعة مبنية على جلب المنافع والبعد عما يكون طريق الى المفاسد.. فكل وسيلة من وسائل العمل يجب أن ينظر الى نتائجها فإن كانت النتيجة مصلحة فالعمل مباح وإن كانت فسادا وجب منع هذا العمل.

ولقد ذاع فقه مالك في كل الأمصار والأقطار، وكان في هذا الفقه ما حمل له عناصر التجديد كالأخذ بمراعاة تحقيق المصلحة إن لم يوجد نص يبيح أو يمنع، وهو نظر أخذه من فقه الإمام جعفر الصادق بإعماله العقل في استنباط الحكم حيث لا يكون نص، وحكم العقل، يقضي بالبحث عما يجلب المنفعة ويبعد الضرر تحقيقا لمقاصد الشريعة.

وقد نما فقه مالك واتبعه وأغناه كثير من المفكرين والمجتهدين والفقهاء من بعده منهم فيلسوف الأندلس ابن رشد..

غير أن بعض معاصري مالك عارضوه معارضة عنيفة وخالفه ونقده بعض أصحابه منهم الليث بن سعد فقيه مصر، وتلميذه الشافعي..

ولقد أرسل إليه صاحبه الليث بن سعد رسالة طويلة ذكره فيها بأن عمل المدينة لم يعد سنة بعد ولا يمكن أتباعه بعد عصر الرسول والخلفاء الراشدين فالصحابة خرجوا من المدينة بعد مقتل عمر، وتفرقوا في الأمصار، وبثاو فيها فقههم..

لقد كان أوائل أهل المدينة في زمن الرسول عليه السلام هو خير الأوائل أما أواخرهم في زمن مالك، فلم يعودوا كذلك بعد.. ولم ينس الإمام الليث ابن سعد فقيه مصر أن يسأل صاحبه الإمام مالك بن أنس إن كان في حاجة الى مال!

ومهما يكن من أمر الخلاف بين مالك وتلاميذه، فقد عاش مذهب الإمام مالك وتجدد حتى لقد أخذت قوانين الأحوال الشخصية في مصر منذ مطلع هذا القرن الميلادي حتى القوانين الأخيرة 1979 ميلادية من هذا المذهب.

على أن الذين خالفوا الإمام مالك بن أنس من صحبه وتلاميذه كانوا يحملون له كل الإجلال والتقدير والإحترام. قال عنه تلميذه الشافعي: إذا ذكر الحديث فمالك هو النجم الثاقب.أما صاحبه الليث بن سعد الذي صاحبه عمرا طويلا، وراسله، ووصله بالمال والهدايا، واختلف معه آخر الأمر، فقد قال عنه أثناء الخلاف وعلى الرغم من الخلاف: مالك وعاء العلم.


المصدر: عبد الرحمن الشرقاوي ـ أئمة الفقه التسعة ـ العصر الحديث للنشر والتوزيع 1985
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-04-2009
  #7
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 16
أبو يوسف is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

قيل للإمام مالك رحمه الله لمّا صنف كتابه الموطأ ...
إن فلان قد صنف الموطأ قبلك ، وهو أكبر من كتابك ...

قال :
ما كان لله بقي .
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُب = وَنَنوي فعالَ الصالِحات وَلَكِنّا
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-05-2009
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إمام دار الهجرة، سيدّنا مالك بن أنس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو يوسف مشاهدة المشاركة
قيل للإمام مالك رحمه الله لمّا صنف كتابه الموطأ ...
إن فلان قد صنف الموطأ قبلك ، وهو أكبر من كتابك ...

قال :
ما كان لله بقي .

يشرفنا مروركم
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
يا مصطفى يا إمام الرسل كلهمِ عبدالقادر حمود الانشاد والشعر الاسلامي 2 10-06-2011 01:18 PM
معاذ ين جبل إمام العلماء. أبوانس السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 1 08-21-2011 06:49 AM
الكسائي إمام القراءة والعربية عبدالقادر حمود السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 0 08-20-2011 08:35 AM
مالك إبن دينار أبوانس السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 3 12-15-2008 02:36 AM
هلال الخير ساره المواضيع الاسلامية 2 09-16-2008 02:49 PM


الساعة الآن 03:26 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir