أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعملت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-02-2011
  #1
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي الكلمات

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.



أيها الأخ!

لقد سألتني بعض النصائح، فها أنذا أسدي اليك بضع حقائق ضمن ثماني حكايات قصيرة، فاستمع اليها مع نفسي التي أراها احوج ما تكون الى النصيحة، وسأوردها لك بأمثلة عسكرية لكونك جندياً، فلقد خاطبتُ بها نفسي يوماً خطاباً مسهباً، في ثماني (كلمات) أفدتها من ثماني آيات كريمات، اذكرها الان لنفسي ذكراً مقتضباً، وبلسان العوام، فمن يجد في نفسه الرغبة فليُلق السمع معنا.

الكلمة الأولى

((بسم الله)) رأس كل خير وبدء كل أمر ذي بال، فنحن أيضاً نستهل بها.

فيا نفسي إعلمي! ان هذه الكلمة الطيبة المباركة كما أنها شعار الإسلام، فهي ذكر جميع الموجودات بألسنة أحوالها.

فان كنت راغبة في إدراك مدى ما في ((بسم الله)) من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

ان البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابد له أن ينتمي الى رئيس قبيلة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الاشقياء، وينجز اشغاله ويتدارك حاجاته، وإلاّ فسيبقى وحده حائراً مضطرباً أمام كثرة من الاعداء، ولا حد لها من الحاجات.

وهكذا.. فقد توافق ان قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان احدهما متواضعاً، والآخر مغروراً، فالمتواضع انتسب الى رئيس، بينما المغرور رفض الانتساب. فتجولا في هذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له: ((إنني اتجول باسم ذلك الرئيس)).. فيتخلى عنه الشقي. اما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، اذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسوّل مستديم، فأذلّ نفسه واهانها.

فيا نفسي المغرورة! إعلمي!.. انك انتِ ذلك السائح البدوي. وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وان ((فقرك)) و ((عجزك)) لاحد لهما، كما ان اعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما. فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجي من ذُلّ التسول امام الكائنات، ومهانة الخوف امام الحادثات.

نعم! ان هذه الكلمة الطيبة ((بسم الله)) كنز عظيم لا يفنى ابداً، اذ بها يرتبط((فقرك)) برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق ((عجزك)) بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات الى المجرات، حتى انه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال.

ان الذي يتحرك ويسكن ويصبح ويمسي بهذه الكلمة ((بسم الله)) كمن انخرط في الجندية؛ يتصرف باسم الدولة ولا يخاف أحداً، حيث انه يتكلم باسم القانون وباسم الدولة، فينجز الاعمال ويثبت امام كل شئ.

وقد ذكرنا في البداية: ان جميع الموجودات تذكر بلسان حالها اسم الله، اي انها تقول: ((بسم الله)).. أهو كذلك؟

نعم! فكما لو رأيت ان أحداً يسوق الناس الى صعيد واحد، ويرغمهم على القيام بأعمال مختلفة، فانك تتيقن ان هذا الشخص لا يمثل نفسه ولا يسوق الناس باسمه وبقوته، وانما هو جندي يتصرف باسم الدولة، ويستند الى قوة سلطان.

فالموجودات ايضاً تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغرتحمل فوق رؤوسها باسم الله اشجاراً ضخمة واثقالاً هائلة. أي ان كل شجرة تقول: ((بسم الله)) وتملأ ايديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها الينا.. وكل بستان يقول: ((بسم الله)) فيغدو مطبخاً للقدرة الإلهية تنضج فيه انواع من الاطعمة اللذيذة.. وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع ـ كالابل والمعزى والبقر ـ يقول: ((بسم الله)) فيصبح ينبوعاً دفاقاً للّبن السائغ، فيقدم الينا باسم الرزاق ألطف مغذّ وانظفه.. وجذور كل نبات وعشب تقول ((بسم الله)) وتشق الصخور الصلدة باسم الله وتثقبها بشعيراتها الحريرية الرقيقة فيُسخَّر أمامها باسم الله وباسم الرحمن كل أمر صعب وكل شئ صلد!.

نعم، ان انتشار الاغصان في الهواء وحملها للأثمار، وتشعب الجذور في الصخور الصماء، وخزنها للغذاء في ظلمات التراب.. وكذا تحمّل الاوراق الخضراء شدة الحرارة ولفحاتها، وبقاءها طرية ندية.. كل ذلك وغيره صفعة قوية على افواه الماديين عَبَدة الاسباب، وصرخة مدوية في وجوههم، تقول لهم: ان ما تتباهون به من صلابة وحرارة ايضاً لا تعملان بنفسيهما، بل تـؤديان وظائفـهما بأمر آمر واحد، بحيث يجعل تلك العروق الدقيقة الرقيقة كــأنها عصا موســى تشق الصخـور وتمتثـل أمر} فَقُلنا اضـرب بعصاك الحَجَر{ (البقرة:60) ويجعل تلك الاوراق الطرية الندية كأنها اعضاء ابراهيم عليه السلام تقرأ تجاه لفحة الحرارة: } يا نارُ كوني برداً وسلاماً....{ (الانبياء:69).

فما دام كل شئ في الوجود يقول معنىً ((بسم الله)) ويجلب نِعَم الله باسم الله ويقدمّها الينا، فعلينا ان نقول ايضاً ((بسم الله)) ونعطي باسم الله ونأخذ باسم الله. وعلينا ايضاً ان نردّ أيدي الغافلين الذين لم يعطوا باسم الله.

سؤال: اننا نبدي احتراماً وتوقيراً لمن يكون سبباً لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منا ربنُّا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟

الجواب: ان ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة امور ثمناً لتلك النعم الغالية:

الاول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر..

فـ ((بسم الله)) بدءاً هي ذكرٌ، و ((الحمد لله)) ختاماً هي شكرٌ، وما يتوسطهما هو ((فكر)) اي التأمل في هذه النعم البديعة، والادراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصمد وهدايا رحمته الواسعة... فهذا التأمل هو الفكر.

ولكن أليس الذي يقبّل أقدام الجندي الخادم الذي يقدّم هدية السلطان يرتكب حماقة فظيعة وبلاهة مشينة؟ اذن فما بال مَن يُثني على الاسباب المادية الجالبة للنعم، ويخصصها بالحب والود، دون المنعم الحقيقي! ألا يكون مقترفاً بلاهة أشد منها الف مرة؟

فيا نفس!! ان كنت تأبين أن تكوني مثل الاحمق الابله،

فاعطي باسم الله..

وخذي باسم الله..

وابدأي باسم الله..

واعملي باسم الله..

والسـلام.



ملاحظة : وضع الاستاذ المؤلف ((المقام الثاني من اللمعة الرابعة عشرة)) عقب هذه الكلمة الاولى ، لمناسبة المقام حبث يضم ستة من اسرار ((بسم الله الرحمن الرحيم)). وسيجده القارئ الكريم في موضعه من كتاب ((اللمعات)) فليراجع . ـ المترجم .
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

] الذين يُؤمنون بالغَيب[

ان كنت تريد ان تعرف مدى ما في الايمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع الى هذه الحكاية القصيرة:

خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى احدهما وكان انانياً شقياً الى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد الى جهة ثانية.

فالاناني المغرور الذي كان متشائماً لقي بلداً في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءاً وفاقاً على تشاؤمه، حتى انه كان يرى - أينما اتجه - عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات ايدي رجال طغاة قساة ومن اعمالهم المدمّرة. فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من اماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجاً لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من اهل هذه المملكة يتراءى له عدواً يتربص به، واجنبياً يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءاً يائساً مريراً.

أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.

فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سـروراً، وفي كل زاويـة حبـوراً، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقاً صدوقاً وقريباً حبيباً له. ثم يرى ان المملكة كلها تعلن - في حفل التسريح العام - هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضاً أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون الى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجل الاول المتشائم منشغلاً بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسروراً مع سرور الناس كلهم فرحاً مع فرحهم. فضلاً عن انه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.

ولدى عودته الى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له:

ــ ((يا هذا لقد جننتَ! فان ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح واجازة نهب وسلب. عُد الى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وان مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك… لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور)).

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع الى صوابه رويداً رويداً، ويفكر بعقله ويقول متندماً:

ــ نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد انقذتني من جحيم الشقاء.

فيا نفسي!

اعلمي ان الرجل الاول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الاحيـاء ايتام يبكون تألماً من ضــربات الزوال وصفعات الفراق..

أما الانسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته..

وأما الموجودات الضخام ـ كالجبال والبحار ـ فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة..

وامثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الانسان وضلالته تذيق صاحبها عذاباً معنوياً مريراً.

أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الانس والجان..

أما الوفيات كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي اعفاء من الوظائف، وانهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنوياً، حيث انهم ينقلون الى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعاً لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم..

اما المواليد كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن انما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع.. .

وأما الاصوات المنبعثة والاصداء المرتدة من ارجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل ايذاناً بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته..

فالموجودات كلها ـ في نظر هذا المؤمن ـ خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من ايمانه كثير جداً من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق.

فالايمان اذن يضم حقاً بذرة معنوية منشقة من طوبى الجنة..

اما الكفر فانه يخفي بذرة معنوية قد نفثته زقوم جهنم.

فالسلامة والأمان اذن لا وجود لهما إلاّ في الاسلام والايمان.

فعلينا ان نردد دائماً:

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الايمان.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #3
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثالثة



بسم الله الرحمن الرحيم
] يا أيها الناس اعبدوا..[ (البقرة: 21)

ان كنت تريد ان تفهم كيف ان العبادة تجارة عظمى وسعادة كبرى، وان الفسق والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقق، فانظر الى هـذه الحكاية التـمثيليـة وانصت اليها:

تسلَّم جنديان اثنان ـ ذات يوم ـ أمراً بالذهاب الى مدينة بعيدة، فسافرا معاً، الى أن وصلا مفرق طريقين، فوجدا هناك رجلاً يقول لهما:

ـ ان هذا الطريق الايمن، مع عدم وجود الـضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسلكونه الراحة والاطمئنان والربح مضموناً بنسبة تسعة من عشرة. أما الطريق الايسر، فمع كونه عديم النفع يتضرر تسعة من عشرة من عابريه. علماً ان كليهما في الطول سواء، مع فرق واحد فقط، هو ان المسافر المتجه نحو الطريق الايسر ـ غير المرتبط بنظامٍ وحكومة ـ يمضي بلا حقيبة متاع ولا سلاح، فيجد في نفسه خفَّة ظاهرة وراحة موهومة. غير أن المسافر المتجه نحو الطريق الايمن ـ المنتظم تحت شرف الجندية ـ مضطر لحمل حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع اوقيات وسلاحاً حكومياً يزن اوقيتين يستطيع أن يغلب به كل عدو.

وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الايمن، ومضى في دربه حاملاً على ظهره وكتفه رطلاً من الاثقال الا ان قلبه وروحه قد تخلّصا من آلاف الارطال من ثقل المنَّة والخوف.

بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الارطال من المنَّ والاذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد. فمضى في سبيله مستجدياً كل شخص، وجلاً مرتعشاً من كل شئ، خائفاً من كل حادثة، الى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه.

أما المسافر المتوجه نحو الطريق الايمن ـ ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه ـ فقد سار منطلقاً مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت الى منَّة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد.. الى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابَه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى.

فيا أيتها النفس السادرة السارحة!

اعلمي أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للاهواء..

وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الارواح ويمر من القبر المؤدي الى عالم الآخرة..

وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهراً إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لان العابد يقول في صلاته: ] لا إله إلا الله[ أي لا خالق ولا رازق إلاّ هو، النفع والـضر بيده، وانه حكيم لا يعمل عبثاً كما أنه رحيم واسع الرحمة والاحسان.

فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئ باباً ينفتح الى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء اليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستنداً الى التوكل، فيمنحه ايمانه هذا الامان التام والاطمئنان الكامل.

نعم! أن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الايمان والعبودية، وأن منبع الجبُن ككل السيئات هو الضلالة والسفاهة.

فلو أصبحت الكرة الارضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابداً لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها باعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفاً ـ ممن يُعدّ ذا عقل راجح ـ اذا رأى في الفضاء نجماً مذنباً يعتوره الخوف ويرتعش هلعاً ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الاوهام (لقد ارتعد الامريكان يوماً من نجم مذنب ظهر في السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل).

نعم! رغم أن حاجات الانسان تمتد الى ما لا نهاية له من الاشياء، فرأس ماله في حُكم المعدوم. ورغم أنه معرَّض الى ما لانهاية له من المصائب فاقتداره كذلك في حكم لا شئ، اذ ان مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل اليه يده، بينما دوائر آماله ورغائبه وآلامه وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال.

فما أحوج روح البشر العاجزة الـضعيفة الفقيرة الى حقائق العبادة والتوكل، والى التوحيد والاستسلام! وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة! فمن لم يفقد بصره كلياً يرى ذلك ويدركه. اذ من المعلوم أن الطريق غير الـضار يُرجَّح على الطريق الـضار حتى لو كان النفع فيه احتمالاً واحداً من عشرة احتمالات. علماً أن مسألتنا هذه، طريق العبادة، فمع كونه عديم الـضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فانه يعطينا كنزاً للسعادة الابدية، بينما طريق الفسق والسفاهة ـ باعتراف الفاسق نفسه ـ فمع كونه عديم النفع فانه سبب الشقاء والهلاك الابديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة من عشرة... وهذا الامر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (اهل الاختصاص والاثبات) بدرجة التواتر والاجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف.

نحصل من هذا:

أن سعادة الدنيا أيضاً ـ كالآخرة ـ هي في العبادة وفي الجندية الخالصة لله.

فعلينا اذن أن نردد دائماً:

الحمد لله على الطاعة والتوفيق..

وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #4
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الرابعة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

((الصلاة عماد الدين))(1)

ان كنت تريد ان تعرف أهمية الصلاة وقيمتها، وكم هو يسير نيلها وزهيد كسبها، وان من لا يقيمها ولا يؤدي حقها أبله خاسر.. نعم! ان كنت تريد ان تعرف ذلك كله بيقين تام ـ كحاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً ـ فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

يُرسل حاكمٌ عـظيم ـ ذات يوم ـ إثنين من خَدَمه الى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كلاً منهما أربعاً وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول الى المزرعة التي هي على بُعد شهرين.. ويأمرهما: أنفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، واقتنيا ما يلزمكما هناك من لوزام السكن والاقامة.. هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد، توجد فيها جميع انواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار.. ولكلٍ ثمنه.

يخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر.. كان أحدهما سعيداً محظوظاً، اذ صرف شيئاً يسيراً مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيدُه، فارتفع رأس ماله من الواحد الى الالف.

اما الخادم الآخر، فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثاً وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة..

خاطبه صاحبه:

ـ يا هذا.. اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيّعها كذلك، فسيدُنا كريمٌ رحيمٌ، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معاً محل اقامتنا في يوم واحد. فان لم تفعل ما اقوله لك فستضطر الى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشياً على الاقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وانت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة.

تُرى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلاً من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنزٍ له. ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقاً.. ألا يُدرك هذا أغبى انسان؟

فيا من لا يؤدي الصلاة! ويا نفسي المتضايقة منها!

ان ذلك الحاكم هو ربُّنا وخالقنا جلّ وعلا..

أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتديّن الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل التارك للصلاة..

وأما تلك الليرات الذهبية الاربعة والعشرون فهي الاربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر..

وأما ذلك البستان الخاص فهو الجنة..

وأما تلك المحطة فهي القبر..

وأما تلك السياحة والسفر الطويل فهي رحلة البشر السائرة نحو القبر والماضية الى الحشر والمنطلقة الى دار الخلود. فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة، كلٌ حسب عمله ومدى تقواه، فقسم من المتقين يقطعون في يوم واحد مسافة ألف سنة كأنهم البرق، وقسم منهم يقطعون في يوم واحد مسافة خمسين ألف سنة كأنهم الخيال. وقد أشار القرآن العظيم الى هذه الحقيقة في آيتين كريمتين..

أما تلك التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمسُ صلوات مع وضوئها اكثر من ساعة!

فيا خسارة مَن يصرف ثلاثاً وعشرين من ساعاته على هذه الحياة الدنيا القصيرة ولا يصرف ساعةً واحدة على تلك الحياة الابدية المديدة!. ويا له من ظالم لنفسه مبين! ويا له من احمق ابله!

لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمناً لقمار اليانصيب ـ الذي يشترك فيه اكثر من الف شخص ـ يعدّ أمراً معقولاً، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحدٍ من اربعة وعشرين مما يملكه، في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، بأحتمال تسع وتسعين من مائة.. ألا يُعدّ هذا العمل خلافاً للعقل، ومجانباً للحكمة.. ألا يدرك ذلك كلُّ من يعدّ نفسه عاقلاً؟

ان الصلاة بذاتها راحة كبرى للروح والقلب والعقل معاً. فضلاً عن أنها ليست عملاً مرهقاً للجسم. وفوق ذلك فان سائر اعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله، وذلك بالنية الصالحة.. فيستطيع اذن ان يحوّل المصلي جميع رأس مال عمره الى الآخرة، فيكسب عمراً خالداً بعمره الفاني.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #5
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الله مَعَ الذينَ اتّقوا والذينَ هُمْ مُحْسِنون[ (النحل:128)
اذا أردت أن ترى ان اقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالانسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته.. فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة واستمع اليها:

كان في الحرب العالمية الاولى، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه. والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه. كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله باوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث أنه ادرك يقيناً ان اعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد بل حتى مداواته اذا تمرض بل حتى وضع اللقمة ــ اذا احتاج الأمر ــ في فمه، انما هو من واجب الدولة. واما واجبه الاساس فهو التدّرب على امور الجهاد ليس إلاّ، مع علمه ان هذا لا يمنع من ان يقوم بشؤون التجهيز وبعض اعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الاثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما اقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعاً، ولا يجيب: انني اسعى لأجل كسب لوازم العيش.

اما الجندي الآخر، الجاهل بواجباته فلم يكن ليبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب. فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بامور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يَدَع الفوج ليزاول البيع والشراء في الاسواق.

قال له صديقه المجدّ ذات يوم:

ـ يا اخي!! إن مهمتك الأصلية هي التدرّب والاستعداد للحرب، وقد جئ بك الى هنا من أجل ذلك؛ فاعتمد على السلطان واطمئن اليه في أمر معاشك، فلن يَدَعَك جائعاً، فذلك واجبُه ووظيفته. ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدير أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدّونك عاصياً لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة.

نعم؛ ان وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا:

احداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه باعاشتنا. ونحن قد نُستخدم مجاناً في انجاز تلك الوظيفة.

واُخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي: التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدّم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة.

فيا اخي تأمل لو لم يُعِر الجندي المهمِل سمعاً لكلام ذلك المجاهد المدرَّب كم يكون خاسراً ومتعرضاً للأخطار والتهلكة؟!

فيا نفسي الكسول!!

ان تلك الساحة التي تمور موراً بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة.. وأمّا ذلك الجيش المقسم الى الافواج فهو الأجيال البشرية.. وأمّا ذلك الفوج نفسه فهو المجتمع المسلم المعاصر.. وأمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الانسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والأنس، إنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك الأبدي والخسران المبين.

وأما تانك الوظيفتان الاثنتان؛ فاحداهما منح الحياة ورعايتها. والاخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه والتوكل عليه والأطمئنان اليه.

أجل! ان الذي وهب الحياة؛ وأنشأها صنعةً صمدانية معجزة تتلمع، وجعلها حكمةً ربانية خارقة تتألق، هو الذي يربيـها، وهو وحـده الـذي يرعاها ويديمـها بالرزق.

أوَ تريد الدليل؟!

إن أضعف حيوان وأبلده ليُرزَق بأفضل رزق وأجوده (كالاسماك وديدان الفواكه). وان أعجز مخلوق وأرقه ليأكل أحسن رزق وأطيبه (كالاطفال والصغار).

ولكي تفهم ان وسيلة الرزق الحلال ليست الاقتدار والاختيار، بل هي العجز والـضعف، يكفيك ان تعقد مقارنه بين الأسماك البليدة والثعالب، وبين الصغار الذين لا قوة لهم والوحوش الكاسرة، وبين الاشجار المنتصبة والحيوانات اللاهثة.

فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسوّل متسكعاً في الاسواق. بينما الذي يقيم الصلاة دون ان ينسى نصيبه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضاً.

ثم إن فطرة الانسان وما أودع الله فيه من أجهزة معنوية تدلاّن على أنه مخلوق للعبادة؛ لان ما اُودع فيه من قدرات وما يؤديه من عمل لحياته الدنيا لا تبلغه مرتبة أدنى عصفور ـ الذي يتمتع بالحياة اكثر منه وافضل ـ بينما يكون الانسان سلطان الكائنات وسيد المخلوقات من حيث حياته المعنوية والاخروية بما اودع الله فيه من علم به وافتقار اليه وقيام بعبادته.

فيا نفسي!

إن كنت تجعلين الحياة الدنيا غاية المقصد وافرغت في سبيلها جهدك فسوف تكونين في حكم أصغر عصفور.

اما ان كنت تجعلين الحياة الاخرى غاية المنى وتتخذين هذه الحياة الدنيا وسيلة لها ومزرعة، وسعيتِ لها سعيها.. فسوف تكونين في حكم سيد الاحياء والعبد العزيز لدى خالقه الكريم وستصبحين الـضيف المكرم الفاضل في هذه الدنيا.

فدونك طريقان اثنان، فاختاري أيّما تشائين.

واسألي الرب الرحيم الهداية و التوفيق.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #6
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السادسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفُسَهم وأموالَهم بأنّ لَهم الجنة[ (التوبة: 111)

اذا أردت أن تعلم ان بيع النفس والمال الى الله تعالى، والعبودية له، والجندية في سبيله أربح تجارة واشرفها! فانصت الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وضع سلطان ـ ذات يوم ـ لدى اثنين من رعاياه وديعةً وامانةً، لكل منهما مزرعة واسعة، فيها كل ما تتطلبه من مكائن وآلات وأسلحة وحيوانات وغيرها.. وتوافق ان كان الوقت آنذاك وقت حرب طاحنة، لا يقرّ قرار لشئ؛ فإما ان تبدّله الحرب وتغيّره أو تجعله أثراً بعد عين. فأرسل السلطان رحمةً منه وفضلاً أحدَ رجاله المقربين مصحوباً بأمره الكريم ليقول لهما:

((بيعوا لي ما لديكم من أمانتي لأحفظها لكم، فلا تذهب هباء في هذا الوقت العصيب، وسأردّها لكم حالما تضع الحرب أوزارها.. وسأوفي ثمنها لكم غالياً، كأن تلك الامانة ملككم.. وستُشغل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وبأسمي وعهدتي.. وسترتفع اثمانها من الواحد الى الالف، فضلاً عن أن جميع الارباح ستعود اليكم ايضاً.. وسأتعهد عنكم بجميع تكاليفها ومصاريفها، حيث انكم عاجزون فقراء لا تتحملون مصاريف تلك المكائن.. وسأرد لكم جميع ارداتها ومنافعها، علماً اني سأبقيها عندكم لتستفيدوا منها وتتمتعوا بها الى أن يحين وقت أخذها.

فلكم خمس مراتب من الارباح في صفقة واحدة.

وان لم تبيعوها لي فسيزول حتماً كل ما لديكم، حيث ترون أن أحداً لا يستطيع أن يمسك بما عنده.. وستحرمون من تلك الاثمان الغالية.. وستهمل تلك الآلات الدقيقة النفيسة والموازين الحساسة والمعادن الثمينة، وتفقد قيمتها كلياً، وذلك لعدم استعمالها في اعمال راقية.. وستتحملون وحدكم ادارتها وتكاليفها وسترون جزاء خيانتكم للامانة.. فتلك خمس خسائر في صفقة واحدة. وفوق هذا كله ان هذا البيع يعني ان البائع يصبح جندياً حراً أبياً خاصاً بي، يتصرف باسمي ولا يبقى اسيراً عادياً وشخصاً سائباً..)).

أنصت الرجلان ملياً الى هذا الكلام الجميل والامر السلطاني الكريم. فقال العاقل الرزين منهما:

سمعاً وطاعة لأمر السلطان، رضيت بالبيع بكل فخر وشكر.

أما الآخر المغرور المتفرعن الغافل فقد ظن أن مزرعته لا تبيد أبداً، ولا تصيبها تقلبات الدهر واضطرابات الدنيا، فقال:

((لا!.. ومَن السلطان؟ لا ابيع ملكي ولا أفسد نشوتي!)).

ودارت الايام.. فاصبح الرجل الأول في مقام يغبطه الناس جميعاً، اذ اضحى يعيش في بحبوحة قصر السلطان، يتنعم بألطافه ويتقلب على ارائك افضاله. أما الآخر فقد ابتلي شرّ بلاء حتى رثى لحاله الناس كلهم، رغم انهم قالوا: انه يستحقها! اذ هو الذي ورّط نفسه في مرارة العذاب جزاء ما ارتكب من خطأ، فلا دامت له نشوته ولا دام له ملكه.

فيا نفسي المغرورة!

انظري من خلال منظار هذه الحكاية الى وجه الحقيقة الناصعة. فالسلطان هو سلطان الازل والأبد وهو ربك وخالقك. وتلك المزرعة والمكائن والآلات والموازين هي ما تملكينه في الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب، وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، اي جميع الحواس الظاهرة والباطنة. وأما الرسول الكريم فهو سيدنا محمد e . وأما الأمر السلطاني المحكم فهو القرآن الكريم الذي يعلن هذا البيع والتجارة الرابحة في هذه الآية الكريمة: ] إنَّ الله اشترى من المؤمنينَ أنفُسَهم وأموالَهُم بأنَّ لَهم الجنّةَ[ وأما الميدان المضطرب والحرب المدمّرة فهي احوال هذه الدنيا، اذ لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الانسان بهذا السؤال:

((ان جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في ايدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن ان يحل البقاء بهذا الفناء؟!)).

وبينما الانسان غارق في هذا التفكير، إذا به يسمع صدى القرآن السماوي يدوّي في الآفاق ويقول له بتلك الآية الكريمة: نعم! ان هناك علاجاً لهذا الداء، بل هو علاج لطيف فيه ربح عظيم في خمس مراتب.

سؤال: وما العلاج؟

الجواب: بيعُ الامانة الى مالكها الحقيقي، في هذا البيع خمس درجات من الربح في صفقة واحدة.

الربح الاول: المال الفاني يجد البقاء، لأن العمر الزائل الذي يوهب للحي القيوم الباقي، ويبذل في سبيله سبحانه، ينقلب عمراً ابدياً باقياً. عندئذٍ تثمر دقائق العمر ثماراً يانعة وازاهير سعادة وضاءة في عالم البقاء مثلما تفنى البذور ظاهراً وتنشق عنها الازهار والسنابل.

الربح الثاني: الثمن هو الجنة.

الربح الثالث: يرتفع ثمن كل عضو وحاسة ويغلو من الواحدة الى الألف.

فمثلاً: العقل عضو وآلة، إن لم تبعه ـ يا اخي ـ لله ولم تستعمله في سبيله، بل جعلته في سبيل الهوى والنفس، فانه يتحول الى عضو مشؤوم مزعج وعاجز، اذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ الى درك آلة ضارة مشؤومة، ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر انقاذاً لنفسه من ازعاجات عقله؟ ولكن اذا بيع العقل الى الله، واُستُعمل في سبيله ولأجله، فانه يكون مفتاحاً رائعاً بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية فاينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شئ، وكل موجود، وكل حادثة. ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا الى مرتبة مرشدٍ رباني يهئ صاحبه للسعادة الخالدة.

ومثلاً: العين حاسة، تطل الروح منها على هذا العالم، فان لم تستعملها في سبيل الله، واستعملتها لأجل النفس والهوى، فانها بمشاهدتها بعض المناظر الجميلة المؤقتة الزائلة تصبح في درك الخادمة والسمسارة الدنيئة لإثارة شهوات النفس والهوى. ولكن إن بعتها الى خالقها البصير واستعملتها فيما يرضيه، عندئذٍ تكون العين مطالِعة لكتاب الكون الكبير هذا وقارئة له، ومشاهِدة لمعجزات الصنعة الربانية في الوجود، وكأنها نحلة بين ازاهير الرحمة الإلهية في بستان الارض، فتقطّر من شَهْد العبرة والمعرفة والمحبة نور الشهادة الى القلب المؤمن.

ومثلاً: ان لم تبع حاسة الذوق ـ التي في اللسان ـ الى فاطرها الحكيم، واستعملتها لأجل المعدة والنفس، فحينئذٍ تهوي الى درك بوّاب معمل المعدة واصطبلها، فتهبط قيمتها. ولكن ان بعتَها الى الرزاق الكريم، فانها ترقى الى درجة ناظر ماهر لخزائن الرحمة الإلهية، ومفتش شاكر لمطابخ القدرة الصمدانية.

فيا ايها العقل! أفق، اين الآلة المشؤومة من مفتاح كنوز الكائنات؟

ويا ايتها العين! ابصري جيداً، اين السمسرة الدنيئة من الامعان في المكتبة الإلهية؟

-ويا أيها اللسان! ذق بحلاوة اين بواب المعمل والاصطبل من ناظر خزينة الرحمة الإلهية؟.

فان شئت ـ يا اخي ـ فقس بقية الاعضاء والحواس على هذا، وعندها تفهم ان المؤمن يكسب حقاً خاصية تليق بالجنة، كما ان الكافر يكتسب ماهية توافق جهنم. فما جوزي كل منهما بهذا الجزاء العادل إلاّ لأن المؤمن يستعمل بايمانه أمانة خالقه سبحانه بأسمه وضمن دائرة مرضاته، وان الكافر يخون الأمانة فيستعملها لهواه ولنفسه الأمارة بالسوء.

الربح الرابع: ان الانسان ضعيف بينما مصائبه كثيرة، وهو فقير ولكن حاجته في ازدياد، وعاجز إلاّ أن تكاليف عيشه مرهقة، فإن لم يتوكل هذا الانسان على العلي القدير ولم يستند اليه، وان لم يسلّم الأمر اليه ولم يطمئن به، فسيظل يقاسي في وجدانه آلاماً دائمة، وتخنقه حسراته وكدحه العقيم، فإما يحوله الى مجرم قذر أو سكير عابث.

الربح الخامس: انه من المتفق عليه اجماعاً بين أهل الاختصاص والشهود والذوق والكشف أن العبادات والاذكار والتسبيحات التي تقوم بها الاعضاء عندما تعمل ضمن مرضاته سبحانه تتحول الى ثمار طيبة لذيذة من ثمار الجنة، وتقدّم اليك في وقت انت في أمس الحاجة اليها.

وهكذا.. ففي هذه التجارة ربح عظيم فيه خمس مراتب من الارباح، فان لم تقم بها فستحرم من ارباحها جميعها، فضلاً عن خسرانك خمس خسارات اخرى هي:

الخسارة الاولى: ان ما تحبه من مال وأولاد، وما تعشقه من هوى النفس وما تعجب به من حياة وشباب، سيضيع كله ويزول، مخلفاً آثامه وآلامه مثقل بها ظهرك.

الخسارة الثانية: ستنال عقاب من يخون الأمانة. لأنك باستعمالك اثمن الآلات والاعضاء في أخس الاعمال قد ظلمت نفسك.

الخسارة الثالثة: لقد افتريت وجنيت على الحكمة الإلهية، اذ اسقطت جميع تلك الاجهزة الانسانية الراقية الى دركات الأنعام بل أضل.

الخسارة الرابعة: ستدعو بالويل والثبور دائماً، وستئن من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي ارهقت بها كاهلك الـضعيف مع أن فقرك قائم وعجزك دائم.

الخسارة الخامسة: ان هدايا الرحمن الجميلة ـ كالعقل والقلب والعين وما شابهها ـ ما وُهبت لك إلاّ لتهيئك لفتح ابواب السعادة الابدية، فما اعظمها خسارة أن تتحول تلك الهدايا الى صورة مؤلمة تفتح لك ابواب جهنم!.

والآن.. سننظر الى البيع نفسه. أهو ثقيل متعب حقاً بحيث يهرب منه الكثيرون؟.

ـ كلا، ثم كلا.. فلا تعب فيه ولا ثقل ابداً. لأن دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام.

أما ما افترضهَّ الله علينا فهو كذلك خفيف وضئيل، وان العبودية لله بحد ذاتها شرف عظيم اذ هي جندية في سبيله سبحانه وفيها من اللذة وراحة الوجدان ما لا يوصف.

أما الواجب فهو ان تكون ذلك الجندي، فتبدأ باسم الله، وتعمل باسم الله، وتأخذ وتعطي في سبيله ولأجله، وتتحرك وتسكن ضمن دائرة مرضاته وأوامره، وان كان هناك تقصير فدونك باب الاستغفار، فتضرع اليه وقل:

اللّهم اغفر لنا خطايانا، واقبلنا في عبادك، واجعلنا امناء على ما أمّنته عندنا الى يوم لقائك ... آمـين.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #7
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السابعة

آمنت بالله وباليوم الاخر

ان كنت ترغب ان تفهم كيف ان الايمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان امامها باب السعادة والهناء.. وكيف ان توكّل الانسان على خالقه صابراً، والرجاء من رزّاقه شاكراً، أنفع علاجين ناجعين.. وان الإنصات الى القرآن الكريم، والانقياد لحكمه، وأداء الصلوات وترك الكبائر، اغلى زاد للآخرة، واسطع نور للقبر، وأيسر تذكرة مرور في رحلة الخلود.. أجل! ان كنت تريد ان تفهم هذه الامور كلها فأنصت معي الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وقع جندي ـ في الحرب العالمية ـ في مأزق عصيب ووضع محيّر، اذ أصبح جريحاً بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله. وخلفه أسد هصور يوشك ان ينقضّ عليه. وامامه مشنقة تبيد جميع أحبته وتنتظره ايضاً، زد على ذلك كانت امامه رحلة نفي شاقة طويلة رغم وضعه الفظيع المؤلم!.. وبينما كان هذا المسكين المبتلى مستغرقاً في تفكير يائس من واقعه المفجع هذا، اذا برجل خيّرٍ كأنه الخضر عليه السلام يتلألأ وجهه نوراً يظهر عن يمينه ويخاطبه:

ـ لا تيأس ولا تقنط. سأعلمك طلسمين اثنين، ان أحسنتَ استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرساً اميناً مسخراً لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة ارجوحة مريحة لطيفة تأنس بها.. وسأناولك دواءين اثنين، إن احسنت استعمالهما يصيّران جرحيك المنتنين زهرتين شذّيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها ان تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد كأنك تطير!! وإن لم تصدّق بما اقول فجرّبه مرة، وتيقنّ من صحته وصدقه... فجرَّب الجندي شيئاً منه، فرآه صدقاً وصواباً.

نعم، وانا كذلك ـ هذا المسكين سعيد ـ أصدّقه، لانني جربته قليلاً، فرأيته صدقاً وحقاً خالصاً.

ثم، على حين غرة رأى رجلاً لعوباً دساساً ـ كأنه الشيطان ـ يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة، وصور جذابة، ومُسْكرات مغرية، ووقف قبالته يدعوه:

ـ اليّ اليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهُ معاً ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الاغاني ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة.. ولكن يا هذا! ما هذه التمتمة التي ترددها؟!

ـ انه طلسم ولغز!

ـ دع عنك هذا الشئ الغامض، فلا تعكّر صفو لذتنا، واُنسَ نشوتنا الحاضرة.. يا هذا... وما ذلك بيدك؟

ـ انه دواء!

ـ إرمه بعيداً، انك سالم صحيح ما بك شئ، ونحن في ساعة طرب وانس ومتعة. وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟

ـ انها تذكرة سفر، وأمر اداري للتوظيف!

ـ مزّقها، فلسنا بحاجة الى سفر في هذا الربيع الزاهي!

وهكذا حاول بكل مكر وخديعة ان يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئاً قليلاً الى كلامه.

نعم، إن الانسان ينخدع، ولقد خُدعت انا كذلك لمثل هذا الماكر!

وفجأة دوّى صوت كالرعد عن يمينه يحذّره:

ـ اياك ان تنخدع.. قل لذلك الماكر الخبيث:

ان كنت تستطيع قتل الاسد الرابـض خلفي، وان ترفع اعواد المشنقة من امامي، وان تبرأني من جرحيّ الغائرين في يميني وشمالي، وان تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة.. نعم إن كنت تقدر على ايجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك ان تدعوني الى اللهو والطرب، وإلاّ فاسكت ايها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي ــ الشبيه بالخضر ــ ليقول ما يروم.

فيا نفسي الباكية على ما ضحكتْ أيام شبابها. اعلمي! ان ذلك الجندي المسكين المتورط هــو أنــتِ، وهو الانســان.. وان ذلك الاســد هـو الأجـل.. وان اعواد المشنقة تلك هي الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس.. ألا تَرَين كيف يفارقنا كل حبيب اِثر حبيب ويودعنا ليل نهار.. اما الجرحان العميقان، فأحدهما: العجز البشري المزعج الذي لا حدّ له. والآخر: هو الفقر الانساني المؤلم الذي لا نهاية له.. اما ذلك النفي والسفر المديد فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الانسان، التي تنطلق من عالم الارواح مارةً من رحم الأم ومن الطفولة والصبا ثم من الشيخوخة ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ ومن الحشر والصراط.. واما الطلسمان فهما الايمان بالله وباليوم الآخر. نعم ان الموت بهذا الطلسم القدسي يلبس صورة فرس مسخّر بدلاً عن الاسد، بل يتخذ صورة بُراق يُخرج الانسان المؤمن من سجن الدنيا الى روضة الجنان، الى روضة الرحمن ذي الجلال. ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبّون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته. ثم ان سير الزمان ومروره على كل شئ ونفوذ الزوال والفراق والموت والوفاة فيه يتخذ بهذا الطلسم الايماني صورةً وضّاءة حيث تحفِـز الانسان الى رؤية الجِدَّة بتجدد كل شئ، بل يكون مبعث التأمل في الوان مختلفة متنوعة وانواع متباينة لمعجزات إبداع الخالق ذي الجلال وخوارق قدرته، وتجليات رحمته سبحانه ومشاهدتها باستمتاع وبهجة كاملين. بمثل ما يضفي تبدل المرايا العاكسة لألوان نور الشمس، وتغيّر الصور في شاشة السينما من جمال وروعة الى تكون المناظر الجذابة وتشكلها.

أما ذانك العلاجان.

فاحدهما: التوكل على الله والتحلي بالصبر، اي الاستناد الى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته سبحانه.

ـ أهو كذلك؟

نعم، ان من يعتمد بهوية "عجزه" على سلطان الكون الذي بيده أمر ] كن فيكون[ كيف يجزع ويضطرب؟ بل يثبت أمام أشد المصائب، واثقاً بالله ربه، مطمئن البال مرتاح القلب وهو يردد: ] إنّا لله وإنّا اليه راجعون[ .

نعم، ان العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقاً ان في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما اطيـب حالاتك وألـذها؟ فربما يكـون جــوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علماً ان رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي الاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة.

ومن هنا وجد الذين كَمُل ايمانُهم لذة تفوق اية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى انهم تبرأوا الى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم اليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل.

أما العلاج الآخر فهو: الدعاء والسؤال ثم القناعة بالعطاء، والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الرحيم.

ـ أهو هكذا؟

نعم! ان من كان ضيفاً لدى الذي فَرَش له وجه الارض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة انيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، ان مَن كان ضيفاً عند هذا الجواد الكريم جل وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلماً وثقيلاً؟. بل يتخذ فقره وفاقته اليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم. فيسعى الى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر الى الله تعالى.. (واياك ان تظن خلاف ما نقصد بالفقر؛ انه استشعار الانسان بالفقر اليه سبحانه والتضرع اليه وحده والسؤال منه، وليس المقصود اظهار الفقر الى الناس والتذلل لهم والسؤال منهم بالتسول والاستجداء!).

أما ذلك المستند أو الأمر الاداري أو البطاقة فهو أداء الفرائض وفي مقدمتها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر.

ــ أهو هكذا؟

نعم! ان جميع اهل الاختصاص والشهود وجميع اهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والاولياء الصالحين متفقون على ان زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه،والاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئاً في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الاضواء عند باب القبر.

فيا نفسي الكسول!

ما اخف اداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها امام عِظَم فوائدها وثمراتها وضرورتها! ان كنتِ فطنة تفهمين ذلك. ألا قولي لمن يدعوكِ الى الفسق واللهو والسفاهة، والى ذلك الشيطان الخبيث الماكر:

لو كانت لديك وسيلة لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر الى الابد، فهاتها اذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فان القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت اليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطباً بذكره وتلاوته.

نعم! ان الكلام كلامه. فهو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة.

اللّهم نوِّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن. اللهم اَغنِنا بالافتقار اليك ولا تُفقِرنا بالإستغناء عنك، تبرأنا اليك مِن حولنا وقوتنا والتجأنا الى حولك وقوتك فاجعلنا من المتوكلين عليك ولا تكِلْنا الى أنفسنا واحفظنا بحفظك وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

وصلِّ وسلم على سيّدنا محمد عبدك ونبيك وصفيك وخليلك وجمال ملكك ومليك صنعك وعين عنايتك وشمس هدايتك ولسان محبتك ومثال رحمتك ونور خلقك وشرف موجوداتك وسراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك وكاشف طلسم كائناتك ودلاّل سلطنة ربوبيتك ومبلّغ مرضياتك ومعرّف كنوز أسمائك ومعلم عبادك وترجمان آياتك ومرآة جمال ربوبيتك ومدار شهودك واشهادك وحبيبك ورسولك الذي أرسلته رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ملائكتك المقربين وعلى عبادك الصالحين... آمين .(
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالرزاق ; 02-02-2011 الساعة 02:41 AM
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #8
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

] الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم[ (البقرة:255)

] اِنّ الدينَ عند الله الاسلام[ (آل عمران: 19)

اذا اردت ان تفهم ما الدنيا وما دور الروح الانسانية فيها، وما قيمة الدين عند الانسان وكيف أنه لولا الدين الحق لتحولت الدنيا الى سجن رهيب، وأن الشخص الملحد هو أشقى المخلوقات، وأن الذي يحل طلسم العالم ولغزه المحير وينقذ الروح البشرية من الظلمات اِن هو إلا يا الله... لا إله إلا الله.. أجل اذا كنت تريد أن تفهم كل ذلك فانصت الى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة وتفكر فيها ملياً:

كان شقيقان في قديم الزمان يذهبان معاً الى سياحة طويلة، فواصلا سيرهما سوية الى أن وصلا الى مفرق طريقين، فرأيا هناك رجلاً وقوراً فسألاه: أيّ الطريقين أفضل؟.

فأجابهما: في الطريق اليمين التزام اجباري للقانون والنظام، إلاّ أن في ثنايا ذلك التكليف ثمة أمان وسعادة. أما طريق الشمال ففيه الحرية والتحرر الا أن في ثنايا تلك الحرية تهلكة وشقاء. والآن لكم الخيار في سلوك أيهما.

وبعد الاستماع الى هذا الكلام سلك الأخ ذو الطبع الطيب طريق اليمين قائلاً: توكلت على الله. وانطلق راضياً عن طيب نفس باتباع النظام والانتظام. أما الأخ الآخر الغاوي، فقد رجّح طريق الشمال لمجرد هوى التحرر الذي فيه.

والآن فلنتابع خيالاً هذا الرجل السائر في طريق ظاهره السهولة والخفة وباطنه من قبله الثقـل والعــناء. فمـا أن عبر الوديـان العمـيقة والمــرتـفعـات العاليـة الوعرة حتى دخل وسط مفازة خالية وصحراء موحشة؛ فسمع صوتاً مخيفاً، ورأى أن أسداً ضخماً غضوباً قد انطلق من الأحراش نحوه؛ ففر منه فراراً وهو يرتعد خوفاً وهلعاً، فصادف بئراً معطلة على عمق ستين ذراعاً فألقى نفسه فيها طلباً للنجاة، وفي أثناء السقوط لقَيت يداه شجرةً فتشبث بها. وكان لهذه الشجرة جذران نبتا على جدار البئر وقد سلّط عليهما فأران، أبيض وأسود. وهما يقضمان ذينك الجذرين بأسنانهما الحادة. فنظر الى الأعلى فرأى الأسد واقفاً كالحارس على فوهة البئر، ونظر الى الأسفل فرأى ثعباناً كبيراً جداً قد رفع رأسه يريد الاقتراب منه وهو على مسافة ثلاثين ذراعاً، وله فم واسع سعة البئر نفسها. ورأى ثمة حشرات مؤذية لاسعة تحيط به. نظر الى أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، الا أنها تثمر بصورة خارقة أنواعاً مختلفة وكثيرة من فواكه الأشجار ابتداء من الجوز وانتهاء الى الرمان.

لم يكن هذا الرجل ليفهم ـ لسوء ادراكه وحماقته ـ بأن هذا الأمر ليس اعتيادياً، ولا يمكن أن تأتي كل هذه الأشياء مصادفةً ومن دون قصد. ولم يكن يفهم أن في هذه الشؤون العجيبة أسراراً غريبة، وأن هناك وراء كل ذلك من يدبّر هذه الأمور ويسيّرها.

فبينما يبكي قلب هذا الرجل وتصرخ روحه ويحار عقله من اوضاعه الاليمة اذا بنفسه الأمارة بالسوء أخذت تلتهم فواكه تلك الشجرة متجاهلة عما حولها وكأن شيئاً لم يحدث؛ سادّة أذنيها عن صرخات القلب وهواتف الروح، خادعة نفسها بنفسها رغم أن قسماً من تلك الفواكه كانت مسمومة ومضرة.

وهكذا نرى أن هذا الرجل الشقي قد عومل بمثل ما جاء في الحديث القدسي ((أنا عند ظن عبدي بي))(1) أي: أنا أعامل عبدي مثلما يعرفني هو. فلقد عومل هكذا، وسيعامل مثلها ايضاً، بل لابد أن يرى مثل هذه المعاملة جزاء تلقيه كل ما يشاهده أمراً عادياً بلا قصد ولا حكمة وكأنه الحق بعينه، وذلك لسوء ظنه وبلاهته الخرقاء؛ فصار يتقلب في نار العذاب ولا يستطيع أن يموت لينجو ولا يقدر على العيش الكريم.

ونحن بدورنا سنرجع تاركين وراءنا ذلك المشؤوم يتلوى في عذابه؛ لنعرف ما جرى للأخ الآخر من أحوال.

فهذا الرجل المبارك ذو العقل الرشيد ما يزال يقطع الطريق دون أن يعاني الضيق كأخيه، ذلك لأنه لا يفكر الا في الأشياء الجميلة ـ لما له من جمال الخُلق ـ ولا يأخذ بعنان الخيال الا بما هو جميل ولطيف، لذا كان يستأنس بنفسه ولا يلاقي الصعوبة والمشقة كأخيه. ذلك لأنه يعرف النظام، ويعمل بمقتضى الولاء والاتباع. فيرى الأمور تسهل له، ويمضي حراً منطلقاً مستظلاً بالأمان والاستقرار. وهكذا مضى حتى وجد بستاناً فيه أزهار جميلة وفواكه لطيفة مع ثمة جثث حيوانات وأشياء منتنة مبعثرة هنا وهناك بسبب اهمال النظافة. كان أخوه الشقي قد دخل ــ من قبل ــ في مثل هذا البستان أيضاً غير أنه انشغل بمشاهدة الجيف الميتة وانعام النظر فيها مما أشعره بالغثيان والدوار. فغادره دون أن يأخذ قسطاً من الراحة لمواصلة السير. أما هذا الأخ فعملاً بقاعدة ((انظر الى الأحسن من كل شي)) فقد أهمل الجيف ولم يلتفت اليها مطلقاً، بل استفاد مما في البستان من الأشياء والفواكه. وبعدما استراح فيه الراحة التامة مضى الى سبيله.

ودخل ــ هو أيضاً كأخيه ــ في صحراء عظيمة ومفازة واسعة. وفجأة سمع صوت أسد يهجم عليه فخاف الاّ انه دون خوف أخيه، حيث فكّر بحُسن ظنه وجمال تفكيره قائلاً: لابد أن لهذه الصحراء حاكماً، فهذا الأسد اذن يحتمل أن يكون خادماً أميناً تحت أمرته.. فوجد في ذلك اطمئناناً، غير أنه فرّ كذلك حتى وصل وجهاً لوجه الى بئر معطلة بعمق ستين ذراعاً فألقى نفسه فيها وأمسك ــ كصاحبه ــ بشجرة في منتصف الطريق من البئر.. وبقي معلقاً بها، فرأى حيوانين اثنين يقطعان جذري تلك الشجرة رويداً رويداً.. فنظر الى الأعلى فرأى الأسد، ونظر الى الأسفل فرأى ثعباناً ضخماً، ونظر الى نفسه فوجدها ــ كأخيه تماماً ــ في وضع عجيب غريب. فدهش من الأمر هو كذلك إلا انه دون دهشة أخيه بألف مرة، لما منحه الله من حُسن الخلق وحُسن التفكير والفكر الجميل الذي لا يريه الا الجهة الجميلة من الأشياء. ولهذا السبب فقد فكّر هكذا: أن هذه الأمور العجيبة ذات علاقات مترابطة بعضها ببعض، وأنها لتظهر كأن آمراً واحداً يحركها؛ فلابد اذن أن يكون في هذه الأعمال المحيرة سرّ مغلق وطلسم غير مكشوف.

أجل! ان كل هذا يرجع الى أوامر حاكم خفي، فأنا اذن لست وحيداً، بل ان ذلك الحاكم الخفي ينظر اليّ ويرعاني ويختبرني، ولحكمة مقصودة يسوقني الى مكان، ويدعونني اليه. فنشأ لديه من هذا التفكير الجميل والخوف اللذيذ شوقٌ أثار هذا السؤال: مَن يكون يا ترى هذا الذي يجرّبني ويريد أن يعرّفني نفسه؟ ومَن هذا الذي يسوقني في هذا الطريق العجيب الى غاية هادفة؟ ثم نشأ من الشوق الى التعرف محبة صاحب الطلسم، ونمت من تلك المحبة رغبة حل الطلسم، ومن تلك الرغبة انبثقت رغبة اتخاذ وضع جميل وحالة مقبولة لدى صاحب الطلسم حسب ما يحبه ويرضاه.

ثم نظر أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، غير أن في نهاية أغصانها آلاف الأنواع من الأثمار والفواكه، وعندها ذهب خوفه وزال نهائياً، لأنه علم علماً قاطعاً بأن شجرة التين هذه انما هي فهرس ومعرض، حيث قلد الحاكم الخفي نماذخ ما في بستانه وجناته بشكل معجز عليها وزيّنها بها، اشارةً لما أعدّه من أطعمة ولذائذ لضيوفه.. وإلا فان شجرة واحدة لن تعطي أثمار آلاف الأشجار. فلم يرَ أمامه الاّ الدعاء والتضرع، فألح متوسلاً بانكسار الى أن اُلهم مفتاح الطلسم فهتف قائلاً:

((يا حاكم هذه الديار والآفاق! التجئ اليك وأتوسل وأتـضرع، فانا لك خادم، أريد رضاك وأنا أطلبك وأبحث عنك))..

فانشق جدار البئر فجأة بعد هذا الدعاء، عن باب يفتح الى بستان فاخر طاهر جميل، وربما انقلب فم ذلك الثعبان الى ذلك الباب واتخذ كل من الأسد والثعبان صورة الخادم وهيأته.. فأخذا يدعوانه الى البستان حتى أن ذلك الأسد تقمص شكل حصان مسخّر بين يديه.

فيا نفسي الكسلى! ويا صاحبي في الخيال..

تعالا لنوازن بين أوضاع هذين الأخوين كي نعلم كيف أن الحسنة تجلب الحسنة وأن السيئة تأتي بالسيئة.

ان المسافر الشقي الى جهة الشمال معرّض في كل آن أن يلج في فم الثعبان فهو يرتجف خوفاً وهلعاً. بينما هذا السعيد يُدعى الى بستان أنيق بهيج مثمر بفواكه شتى.. وان قلب ذلك الشقي يتمزق في خوف عظيم ورعب أليم بينما هذا السعيد يرى غرائب الأشياء وينظر اليها بعبرة حلوة وخوف لذيذ ومعرفة محبوبة.. وان ذلك الشقي المسكين ليعاني من الوحشة واليأس واليتم عذاباً وأي عذاب! بينما هذا السعيد يتلذذ في الأنس ويترفل في الأمل والشوق.. ثم ان ذلك المنكود يرى نفسه محكوماً عليه ـ كالسجين ـ بهجمات الحشرات المؤذية، بينما هذا السعيد المحظوظ يتمتع متعة ضيف عزيز. وكيف لا وهو ضيف عند مضيّف كريم، فيستأنس مع عجائب خدمه. ثم أن ذلك السئ الحظ ليعجّل عذابه في النار بأكله مأكولات لذيذة الطعم ظاهراً ومسمومة حقيقةً ومعنىً، اذ ان تلك الفواكه ما هي الاّ نماذج، قد اُذن للتذوق منها فحسب ليكون طالباً لحقائقها وأُصولها ويكون شاريها الأصيل وإلاّ فلاسماح للشراهة منها كالحيوان. أما هذا السعيد المحمود فانه يتذوق منها اذ يعي الأمر، مؤخِّراً أكلها وملتذاً بالانتظار.. ثم ان ذلك الشقي يكون قد ظلم نفسه بنفسه؛ جاراً عليها وضعاً مظلماً وأوهاماً ذات ظلمات حتى كأنه في جحيم، بانعدام بصيرته عن حقائق ساطعة كالنهار وأوضاع جميلة باهرة، فلا هو مستحق للشفقة ولا له حق الشكوى، مَثَله في هذا مثل رجل وسط أحبائه في موسم الصيف وفي حديقة جميلة بهيجة في وليمة طيبة للأفراح، فلعدم قناعته بها راح يرتشف كؤوس الخمر ـ أم الخبائث ـ حتى أصبح سكيراً ثملاً؛ فشرع بالصراخ والعويل، وبدأ بالبكاء، ظاناً نفسه أنه في قلب الشتاء القارس، ومتصوراً أنه جائع وعار وسط وحوش مفترسة. فمثلما أن هذا الرجل لا يستحق الشفقة والرأفة، اذ ظلم نفسه بنفسه متوهماً أصدقاءه وحوشاً، محتقراً لهم.. فكذلك هذا المشؤوم.

ولكنما ذلك السعيد يبصر الحقيقة، والحقيقة بذاتها جميلة، ومع ادراك جمال الحقيقة فانه يحترم كمال صاحب الحقيقة ويوقّره فيستحق رحمته.

فاعلم اذن سراً من أسرار: ] ما أصَابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِن الله وما أصَابَك مِن سَيئةٍ فَمِن نَفسِكَ[ (النساء:79)

فلو وازنت سائر هذه الفروق وأمثالها لعلمت أن النفس الأمارة للأول قد أحضرت له جهنم معنوية، بينما الآخر قد نال ــ بحسن نيته وحسن ظنه وحسن خصلته وحسن فكره ــ الفيض والسعادة والاحسان العميم.

فيا نفسي. ويا أيها الرجل المنصت معي الى هذه الحكاية!

اذا كنت تريد أن لا تكون مثل ذلك الأخ المشؤوم وترغب في أن تكون كالأخ السعيد فاستمع الى القرآن الكريم وأرضخ لحكمه واعتصم به واعمل بأحكامه.

واذا كنت قد وعيت ما في هذه الأقصوصة التمثيلية من حقائق؛ فانك تستطيع أن تطبق عليها الحقيقة الدينية والدنيوية والانسانية والايمانية كلها. وسأقول لك الأسس، واستخرج بنفسك الدقائق!

فالاخوان الاثنان: أحدهما روح المؤمن وقلب الصالح، والآخر روح الكافر وقلب الفاسق.. أما اليمين من تلكما الطريقين فهو طريق القرآن وطريق الايمان وأما الشمال فطريق العصيان والكفران.. وأما ذلك البستان في الطريق فهو الحياة الاجتماعية المؤقتة للمجمتع البشري والحضارة الانسانية التي يوجد فيها الخير والشر والطيب والخبيث والطاهر والقذر معاً. فالعاقل هو مَن يعمل على قاعدة: ((خذ ما صفا.. دع ما كدر)) فيسير مع سلامة القلب واطمئنان الوجدان.

وأما تلك الصحراء فهي هذه الدنيا وهذه الارض.. وأما ذلك الأسد فهو الأجل والموت.. وأما تلك البئر فهي جسد الانسان وزمان الحياة. وأما ذلك العمق البالغ ستين ذراعاً فهو اشارة الى العمر الغالب، وهو معدل العمر ستون سنة.. وأما تلك الشجرة فهي مدة العمر ومادة الحياة.. وأما الحيوانان الاثنان، الأسود والابيض فهما الليل والنهار.. وأما ذلك الثعبان فهو فم القبر المفتوح الى طريق البرزخ ورواق الآخرة، الا أن ذلك الفم هو للمؤمن باب يفتح من السجن الى البستان.. وأما تلك الحشرات المضرة فهي المصائب الدنيوية، الا أنها للمؤمن في حكم الايقاظات الإلهية الحلوة والالتفاتات الرحمانية لئلا يغفل.. وأما مطعومات تلك الشجرة فهي النعم الدنيوية التي صنعها ربّ العزة الكريم لكي تكون فهرساً للنعم الأخروية ومذكِّرة بها، بمشابهتها لها، وقد خلقها البارئ الحكيم على هيئة نماذج لدعوة الزبائن الى فواكه الجنة، وان اعطاء تلك الشجرة على وحدتها الفواكه المختلفة المتباينة اشارة الى آية الصمدانية وختم الربوبية الآلهية وطغراء سلطنة الألوهية. ذلك لأن ((صنع كل شئ من شئ واحد)) أي صنع جميع النباتات وأثمارها من تراب واحد، وخلق جميع الحيوانات من ماء واحد، وابداع جميع الأجهزة الحيوانية من طعام بسيط. وكذا ((صنع الشئ الواحد من كل شئ)) كبناء لحم معين وجلد بسيط لذي حياة من مطعومات مختلفة الأجناس.. انما هي الآية الخاصة للذات الأحدية الصمدية والختم المخصوص للسلطان الازلي الابدي وطغراؤه التي لا يمكن تقليدها أبداً.

نعم ان خلق شئ من كل شئ وخلق كل شئ من شئ، انما هو خاصية تعود الى خالق كل شئ.. وعلامة مخصوصة للقادر على كل شئ. وأما ذلك الطلسم فهو سر حكمة الخلق الذي يُفتح بسر الايمان.

واما ذلك المفتاح فهو ] الله لا إله الا هو الحي القيوم[ و ((يا الله)) و ] لاإله إلا الله..[

وأما انقلاب فم ذلك الثعبان الى باب البستان فهو رمز الى أن القبر هو سجن الوحشة والنسيان والاهمال والـضيق، فهو كبطن الثعبان لأهل الـضلالة والطغيان. ولكنه لأهل الايمان والقرآن باب مفتوح على مصراعيه من سجن الدنيا الى بستان البقاء، ومن ميدان الامتحان الى روضة الجنان، ومن زحمة الحياة الى رحمة الرحمن.. وأما انقلاب ذلك الأسد المفترس الى حصان مسخر والى خادم مؤنس فهو اشارة الى أن الموت لأهل الـضلال فراق أبدي أليم من جميع الاحبة، وخروج من جنة دنيوية كاذبة الى وحشة سجن انفرادي للقبر، وضياع في تيه سحيق، بينما هو لأهل الهداية وأهل القرآن رحلة الى العالم الآخر، ووسيلة الى ملاقاة الأحبة والأصدقاء القدامى، وواسطة الى دخول الوطن الحقيقي ومنازل السعادة الأبدية، ودعوة كريمة من سجن الدنيا الى بساتين الجنان، وانتظار لأخذ الأجرة للخدمات تفضلاً من الرحمن الرحيم، وتسريح من تكاليف الحياة واجازة من وظيفتها، واعلان الانتهاء من واجبات العبودية وامتحانات التعليم والتعليمات.

نحصل من هذا كله:

أن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقةً ومعنىً، حتى لو كان يتقلب ظاهراً في بحبوحة النعيم.

وان كل من كان متوجهاً الى الحياة الباقية ويسعى لها بجد واخلاص فهو فائز بسعادة الدارين وأهل لهما معاً حتى لو كانت دنياه سيئة وضيقة، الا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها وهو يخوض غمار الصبر.

اللهم اجعلنا من أهل السعادة والسلامة والقرآن والايمان .. آمين.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعدد جميع الحروفات المتشكلة في جميع الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان.

وارحمنا ووالدينا وارحم المؤمنين والمؤمنات بعددها برحمتك يا أرحم الراحمين آمين .. والحمد لله رب العالمين.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #9
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة التاسعة



بسم الله الرحمن الرحيم

] فَسُبْحانَ الله حينَ تُمسونَ وحين تُصبِحُون ^ وَلَه الحَمدُ في السَموات والارضِ وَعَشِيّا وحين تُظهِرون[ (الروم: 17 ـ 18)

أيها الأخ! تسألني عن حكمة تخصيص الصلاة في هذه الاوقات الخمسة المعينة، فسنشير الى حكمة واحدة فقط من بين حِكمها الوفيرة.

نعم، كما ان وقت كل صلاة، بداية انقلابٍ زمني عظيم ومهم، فهو كذلك مرآة لتصرف إلهي عظيم، تعكس الآلاء الإلهية الكلية في ذلك الوقت. لهذا فقد اُمر في تلك الاوقات بالصلاة ، أي الزيادة من التسبيح والتعظيم للقدير ذي الجلال، والاكثار من الحمد والشكر لنعمه التي لا تحصى والتي تجمعت بين الوقتين. ولأجل فهم بعضٍ من هذا المعنى العميق الدقيق، ينبغي الاصغاء ــ مع نفسي ــ الى خمس نكات(1).

C النكتة الاولى:

ان معنى الصلاة هو التسبيح والتعظيم والشكر لله تعالى. اي تقديسُه جل وعلا تجاه جلاله قولاً وفعلاً بقول: سبحان الله.. وتعظيمه تجاه كماله لفظاً وعملاً بقول: الله اكبر.. وشكره تجاه جماله قلباً ولساناً وجسماً بقول: الحمد لله.

اي أن التسبيح والتكبير والتحميد هو بمثابة نوى الصلاة وبذورها، فوُجِدت هذه الثلاثة في جميع حركات الصلاة واذكارها. ولهذا ايضاً تُكرّر هذه الكلمات

الطيبة الثلاث ثلاثاً وثلاثين مرة عقب الصلاة، وذلك للتأكيد على معنى الصلاة وترسيخه، اذ بهذه الكلمات الموجزة المجملة يؤكد معنى الصلاة ومغزاها.

C النكتة الثانية:

ان معنى العبادة هو سجودُ العبد بمحبة خالصة وبتقدير واعجاب في الحضرة الإلهية وامام كمال الربوبية والقدرة الصمدانية والرحمة الإلهية مشاهداً في نفسه تقصيرَه وعجزَه وفقرَه.

نعم، كما ان سلطنة الربوبية تتطلب العبودية والطاعة، فان قدسيتَها ونزاهتها تتطلب ايضاً أن يُعلن العبدُ ــ مع استغفاره برؤية تقصيره ـ أن ربّه منزّهٌ عن اي نقص، وانه مُتعالٍ على جميع أفكار أهل الـضلالة الباطلة، وانه مقدّس من جميع تقصيرات الكائنات ونقائصها. اي يعلن ذلك كله بتسبيحه، بقوله: سبحان الله.

وكذا قدرة الربوبية الكاملة تطلب من العبد ايضاً أن يلتجىء اليها، ويتوكل عليها لرؤيته ضعفَ نفسه الشديد وعجزَ المخلوقات قائلاً: الله اكبر باعجاب وتقدير واستحسان تجاه عظمة آثار القدرة الصمدانية، ماضياً الى الركوع بكل خضوع وخشوع.

وكذا رحمة الربوبية الواسعة تتطلب ايضاً ان يُظهر العبدُ حاجاته الخاصة وحاجات جميع المخلوقات وفقرها بلسان السؤال والدعاء، وان يعلن احسان ربه وألاءه العميمة بالشكر والثناء والحمد بقوله: الحمد لله.

أي أن افعال واقوال الصلاة تتضمن هذه المعاني. ولأجل هذه المعاني فُرضت الصلاة من لدنه سبحانه وتعالى.

C النكتة الثالثة:

كما أن الانسان هو مثالٌ مصغّر لهذا العالم الكبير، وان سورة الفاتحة مثالٌ منوّر للقرآن العظيم، فالصلاة كذلك فهرس نوراني شامل لجميع العبادات، وخريطة سامية تشير الى أنماط عبادات المخلوقات جميعاً.

C النكتة الرابعة:

ان عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والايام، كلٌ منها يناظر الآخر، ويمثّل الآخر، ويأخذ كلٌ منها حكم الآخر.

كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعة إلهية كبرى، فان دوران الليل والنهار الذي هو بحكم الثواني للساعة، والسنوات التي تعدّ الدقائق، وطبقات عمر الانسان التي تعد الساعات، وأدوار عمر العالم التي تعد الأيام، كل منها يناظر الآخر، ويتشابه معه، ويماثله، ويذكّر كل منها الآخر، ويأخذ حكمه.

فمثلاً:

وقت الفجر الى طلوع الشمس: يشبه ويذكّر ببداية الربيع وأوله، وبأوان سقوط الانسان في رحم الأم، وباليوم الأول من الأيام الستة في خلق السموات والارض، فينبّه الانسان الى ما في تلك الاوقات من الشؤون الإلهية العظيمة.

اما وقت الظهر: فهو يشبه ويشير الى منتصف الصيف، والى عنفوان الشباب، والى فترة خلق الانسان في عمر الدنيا، ويذكّر ما في ذلك كله من تجليات الرحمة وفيوضات النعمة.

أما وقت العصر: فهو يشبه موسم الخريف، وزمن الشيخوخة، وعصر السعادة الذي هو عصر خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، ويذكّر ما في ذلك كله من الشؤون الإلهية والآلاء الرحمانية.

أما وقت المغرب: فأنه يذكّر بغروب أغلب المخلوقات واُفولها نهاية الخريف، ويذكّر أيضاً بوفاة الانسان، وبدمار الدنيا عند قيام الساعة، ومع ذلك فهو يعلّم التجليات الجلالية، ويوقظ الانسان من نوم الغفلة وينبهه.

أما وقت العشاء: فيذكّر بغشيان عالم الظلام وستره آثار عالم النهار بكفنه الاسود، ويذكّر ايضاً بتغطية الكفن الابيض للشتاء وجه الارض الميتة، وبوفاة حتى آثار الانسان المتوفى ودخولها تحت ستار النسيان، وبانسداد أبواب دار امتحان الدنيا نهائياً، ويعلن في ذلك كله تصرفات جلالية للقهار ذي الجلال.

اما وقت الليل: فانه يذكّر بالشتاء، وبالقبر، وبعالم البرزخ، فضلاً عن انه يذكّر روح الانسان بمدى حاجتها الى رحمة الرحمن.

أما التهجد في الليل: فانه يذكّر بـضرورته ضياء لليل القبر، ولظلمات عالم البرزخ، وينبّه ويذكّر بنعم غير متناهية للمنعم الحقيقي عبر هذه الانقلابات، ويعلن ايضاً عن مدى أهلية المنعم الحقيقي للحمد والثناء.

أما الصباح الثاني: فانه يذكّر بصباح الحشر. نعم، كما ان مجئ الصبح لهذا الليل، ومجئ الربيع لهذا الشتاء معقول وضروري وحتمي، فان مجئ صباح الحشر وربيع البرزخ هما بالقطعية والثبوت نفسيهما.

فكل وقت اذن ـ من هذه الاوقات الخمسة ـ بداية انقلاب عظيم، ويذكّر بانقلابات اخرى عظيمة، فهو يذكّر ايضاً بمعجزات القدرة الصمدانية وهدايا الرحمة الإلهية سواء منها السنوية أو العصرية أو الدهرية، باشارات تصرفاتها اليومية العظيمة.

أي ان الصلاة المفروضة التي هي وظيفة الفطرة واساس العبودية والدَّين المفروض، لائقة جداً ومناسبة جداً في ان تكون في هذه الاوقات حقاً.

C النكتة الخامسة:

ان الانسان بفطرته ضعيف جداً، ومع ذلك فما اكثر المنغصات التي تورثه الحزن والألم، وهو في الوقت نفسه عاجز جداً، مع ان اعداءه ومصائبه كثيرة جداً، وهو فقير جداً مع ان حاجاته كثيرة وشديدة، وهو كسول وبلا اقتدار مع ان تكاليف الحياة ثقيلة عليه، وانسانيته جعلته يرتبط بالكون جميعاً مع ان فراقَ ما يحبه وزوال ما يستأنس به يؤلمانه، وعقله يريه مقاصد سامية وثماراً باقية، مع ان يده قصيرة، وعمره قصير، وقدرته محدودة وصبره محدود.

فروح الانسان في هذه الحالة (في وقت الفجر) احوج ما تكون الى أن تطرق ـ بالدعاء والصلاة ـ باب القدير ذي الجلال، وباب الرحيم ذي الجمال، عارضةً حالها أمامه، سائلة التوفيق والعون منه سبحانه، وما اشد افتقار تلك الروح الى نقطة استناد كي تتحمل ما سيأتي امامها من اعمال، وما ستحمل على كاهلها من وظائف في عالم النهار الذي يعقبه. الا يُفهم ذلك بداهةً؟

(وعند وقت الظهر) ذلك الوقت الذي هو ذروة كمال النهار وميلانه الى الزوال، وهو أوان تكامل الاعمال اليومية، وفترة استراحة موقتة من عناء المشاغل، وهو وقت حاجة الروح الى التنفس والاسترواح مما تعطيه هذه الدنيا الفانية والاشغال المرهقة الموقتة من غفلةٍ وحيرةٍ واضطراب فضلاً عن انه أوان تظاهر الآلاء الإلهية.

فخلاصُ روح الانسان من تلك المضايقات، وانسلالها من تلك الغفلة والحيرة، وخروجها من تلك الأمور التافهة الزائلة، لا يكون إلاّ بالالتجاء الى باب القيوم الباقي ـ وهو المنعم الحقيقي ـ بالتضرع والتوسل امامه مكتوف اليدين شاكراً حامداً لمحصّلة نِعَمه المتجمعة، مستعيناً به وحده، مع اظهار العجز امام جلاله وعظمته بالركوع، واعلان الذل والخضوع ـ باعجاب وتعظيم وهيام ـ بالسجود امام كماله الذي لا يزول، وأمام جماله الذي لا يحول.. وهذا هو اداء صلاة الظهر، فما اجملها، وما ألذَّها، وما أجدرها، وما أعظم ضرورتها!. ومن ثم فلا يحسبنّ الانسان نفسه انساناً إن كان لا يفهم هذا.

(وعند وقت العصر): الذي يذكّر بالموسم الحزين للخريف، وبالحالة المحزنة للشيخوخة، وبالايام الأليمة لآخر الزمان، وبوقت ظهور نتائج الاعمال اليومية. فهو فترة حصول المجموع الكلي الهائل للنعم الإلهية، أمثال التمتع بالصحة والتنعم بالعافية، والقيام بخدمات طيبة. وهو كذلك وقت الاعلان بان الانسان ضيف مأمور، وبأن كل شئ يزول وهو بلا ثبات ولا قرار، وذلك بما يشير اليه انحناء الشمس الـضخمة الى الاُفول.

نعم ان روح الانسان التي تنشد الابدية والخلود، وهي التي خُلقت للبقاء والابد، وتعشق الاحسان، وتتألم من الفراق، تُنهض بهذا الانسان ليقوم وقت العصر ويسبغ الوضوء لاداء صلاة العصر، ليناجي متضرعاً امام باب الحضرة الصمدانية للقديم الباقي وللقيوم السرمدي، وليلتجئ الى فضل رحمته الواسعة، وليقدم الشكر والحمد على نعمه التي لا تحصى، فيركع بكل ذلٍّ وخضوع أمام عزة ربوبيته سبحانه ويهوي الى السجود بكل تواضع وفناء امام سرمدية الوهيته، ويجد السلوان الحقيقي والراحة التامة لروحه بوقوفه بعبودية تامة وباستعداد كامل امام عظمة كبريائه جل وعلا. فما اسماها من وظيفةٍ تأديةُ صلاة العصر بهذا المعنى! وما أليقها من خدمة! بل ما احقّه من وقتٍ لقضاء دَين الفطرة، وما اعظمه من فوزٍ للسعادة في منتهى اللذة! فمن كان انساناً حقاً فسيفهم هذا.

(وعند وقت المغرب) الذي يذكّر بوقت غروب المخلوقات اللطيفة الجميلة لعالم الصيف والخريف في خزينة الودائع منذ ابتداء الشتاء، ويذكّر بوقت دخول الانسان القبر عند وفاته وفراقه الأليم لجميع أحبته، وبوفاة الدنيا كلها بزلزلة سكراتها وانتقال ساكنيها جميعاً الى عوالم اخرى. ويذكّر كذلك بانطفاء مصباح دار الامتحان هذه. فهو وقت ايقاظٍ قوي وانذارٍ شديد لاولئك الذين يعشقون لحد العبادة المحبوبات التي تغرب وراء اُفق الزوال. لذا فالانسان الذي يملك روحاً صافية كالمرآة المجلوة المشتاقة فطرةً الى تجليات الجمال الباقي، لأجل اداء صلاة المغرب في مثل هذا الوقت يولّي وجهه الى عرش عظمة مَن هو قديم لم يزل، ومن هو باقٍ لا يزال، ومَن هو يدبر أمر هذه العوالم الجسيمة ويبدّلها، فيدّوي بصوته قائلاً: (الله اكبر) فوق رؤوس هذه المخلوقات الفانية، مُطلقاً يده منها، مكتوفاً في خدمة مولاه الحق منتصباً قائماً عند مَن هو دائمٌ باقٍ جل وعلا ليقول: ((الحمد لله)) أمام كماله الذي لا نقص فيه، وامام جماله الذي لا مثيل له، واقفاً أمام مُثنياً رحمته الواسعة ليقول: ] اياك نعبد واياك نستعين[ . ليعرض عبوديته واستعانته تجاه ربوبية مولاه التي لا معين لها وتجاه الوهيته التي لا شريك لها، وتجاه سلطنته التي لا وزير لها. فيركع اظهاراً لعجزه وضعفه وفقره مع الكائنات جميعاً أمام كبريائه سبحانه التي لا منتهى لها، وامام قدرته التي لا حدّ لها، وامام عزته التي لا عجز فيها، مسبحاً ربّه العظيم قائلاً: ( سبحان ربي العظيم). ثم يهوي الى السجود امام جمال ذاته الذي لا يزول، وامام صفاته المقدسة التي لا تتغير، وامام كمال سرمديته الذي لا يتبدل، مُعلناً بذلك حبَّه وعبوديته في اعجاب وفناء وذلٍ، تاركاً ما سواه سبحانه قائلاً: (سبحان ربي الأعلى) واجداً جميلاً باقياً ورحيماً سرمدياً بدلاً من كل فانٍ. فيقدس ربَّه الاعلى المنزَّه عن الزوال المبرأ من التقصير ويجلس للتشهد، فيقدّم التحيات والصلوات الطيبات لجميع المخلوقات هديةً باسمه الى ذلك الجميل الذي لم يزل والى ذلك الجليل الذي لا يزال، مجدداً بيعتَه مع رسوله الاكرم بالسلام عليه مُظهراً بها طاعته لأوامره، فيرى الانتظام الحكيم لقصر الكائنات هذا، ويُشهِدُه على وحدانية الصانع ذي الجلال، فيجدّد ايمانه وينوّره، ثم يشهد على دلاّل الربوبية ومبلّغ مرضياتها وترجمان آيات كتاب الكون الكبير ألا وهو محمد العربي e . فما ألطفَ وما أنزه أداء صلاة المغرب وما أجلّها من مهمة ـ بهذا المضمون ـ وما أعزّها واحلاها من وظيفة، وما أجملها وألذّها من عبودية، وما أعظمها من حقيقة اصيلة! وهكذا نرى كيف انها صُحبة كريمة وجلسة مباركة وسعادة خالدة في مثل هذه الـضيافة الفانية.. أفيحسب مَن لم يفهم هذا نفسه أنساناً؟.

(وعند وقت العشاء) ذلك الوقت الذي تغيب في الأفق حتى تلك البقية الباقية من آثار النهار، ويخيّم الليلُ فيه على العالم، فيذكّر بالتصرفات الربانية لـ(مقلب الليل والنهار) وهو القدير ذو الجلال في قلبه تلك الصحيفة البيضاء الى هذه الصحيفة السوداء.. ويذكّر كذلك بالاجراءات الإلهية لـ(مسخر الشمس والقمر) وهو الحكيم ذو الكمال في قلبه الصحيفة الخضراء المزيِّنة للصيف الى الصحيفة البيضاء الباردة للشتاء.. ويذكّر كذلك بالشؤون الإلهية لـ(خالق الموت والحياة) بانقطاع الآثار الباقية ــ بمرور الزمن ــ لأهل القبور من هذه الدنيا وانتقالها كلياً الى عالم آخر. فهو وقت يذكّر بالتصرفات الجلالية، وبالتجليات الجمالية لخالق الارض والسموات، وبانكشاف عالم الآخرة الواسع الفسيح الخالد العظيم، وبموت الدنيا الضيقة الفانية الحقيرة، ودمارها دماراً تاماً بسكراتها الهائلة. انها فترة ـ أو حالة ـ تُثبت أن المالك الحقيقي لهذا الكون بل المعبود الحقيقي والمحبوب الحقيقي فيه لا يمكن ان يكون إلاّ مَن يستطيع ان يقلّب الليل والنهار والشتاء والصيف والدنيا والآخرة بسهولة كسهولة تقليب صفحات الكتاب، فيكتب ويثبت ويمحو ويبدل، وليس هذا إلاّ شأن القدير المطلق النافذ حكمه على الجميع جلّ جلاله.

وهكذا فروح البشر التي هي في منتهى العجز وفي غاية الفقر والحاجة، والتي هي في حيرة من ظلمات المستقبل وفي وَجَل مما تخفيه الايام والليالي.. تدفع الانسان عند ادائه لصلاة العشاء ـ بهذا المضمون ـ ان لا يتردد في أن يردد على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام ] لا أحبُّ الآفلين[ . فيلتجئ بالصلاة الى باب مَن هو المعبود الذي لم يزل ومَن هو المحبوب الذي لا يزال، مناجياً ذلك الباقي السرمدي في هذه الدنيا الفانية، وفي هذا العالم الفاني، وفي هذه الحياة المظلمة والمستقبل المظلم، لينشر على ارجاء دنياه النور من خلال صحبة خاطفةٍ ومناجاة موقتة، ولينّور مستقبله ويضمد جراح الزوال والفراق عما يحبّه من أشياء وموجودات ومن اشخاص واصدقاء وأحباب، بمشاهدة توجّه رحمةِ الرحمن الرحيم، وطلب نور هدايته، فينسى ـ بدوره ـ تلك الدنيا التي أنسته، والتي اختفت وراء العشاء، فيسكب عبرات قلبه، ولوعة صدره، على عتبة باب تلك الرحمة، ليقوم بوظيفة عبوديته النهائية قبل الدخول فيما هو مجهول العاقبة، ولا يعرف ما يُفعل به بعده، من نوم شبيه بالموت، وليختم دفتر اعماله اليومية بحسن الخاتمة. ولأجل ذلك كله يقوم بأداء الصلاة، فيتشرف بالمثول امام مَن هو المعبود المحبوب الباقي بدلاً من المحبوبات الفانية، وينتصب قائماً امام مَن هو القدير الكريم بدلاً من جميع العجزة المتسولين، وليسمو بالمثول في حضرة مَن هو الحفيظ الرحيم لينجو من شر من يرتعد منهم من المخلوقات الـضارة. فيستهلّ الصلاة بالفاتحة، أي بالمدح والثناء لرب العالمين الكريم الرحيم الذي هو الكامل المطلق والغني المطلق، بدلاً من مدح مخلوقات لا طائل وراءها وغير جديرة بالمدح وهي ناقصة وفقيرة وبدلاً من البقاء تحت ذلّ المنّة والأذى، فيرقى الى مقام الـضيف الكريم في هذا الكون، والى مقام الموظف المرموق فيه رغم انه ضئيل وصغير بل هو معدوم، وذلك بسموه الى مرتبة خطاب ] اياك نعبد[ أي انتسابه لمالك يوم الدين ولسلطان الازل والابد. فيقدّم بقوله: ] اياك نعبد واياك نستعين[ عبادات واستعانات الجماعة الكبرى والمجتمع الاعظم لجميع المخلوقات طالباً الهداية الى الصراط المستقيم الذي هو طريقه المنوّر الموصل الى السعادة الابدية عبر ظلمات المستقبل بقوله: ] اهدنا الصراط المستقيم[ ويتفكر في كبريائه سبحانه وتعالى ويتأمل في أن هذه الشموس المستترة ـ التي هي كالنباتات والحيوانات النائمة الآن ـ وهذه النجوم المنتبهة، جنود مطيعة مسخّرة لأمره جل وعلا، وان كل واحد منها ما هو إلا مصباح في دار ضيافته هذه، وكل واحد منها خادم عامل، فيكبّر قائلاً ] الله اكبر[ ليبلُغَ الركوع. ثم يتأمل بالسجدة الكبرى لجميع المخلوقات كيف أن انواع الموجودات في كل سنة، وفي كل عصر ـ كالمخلوقات النائمة في هذا الليل ــ بل حتى الارض نفسها وحتى العالم كله، انما هي كالجيش المنظم، بل كالجندي المطيع، عندما تسرّح من وظيفتها الدنيوية بأمر: ] كن فيكون[ أي عندما تُرسل الى عالم الغيب تسجد في منتهى النظام في الزوال على سجادة الغروب مكبّرة (الله اكبر). وهي تُبعث وتُحشر كذلك في الربيع بنفسها أو بمثلها، بصيحة احياء وايقاظٍ صادر من أمر ] كن فيكون[ فيتأهب الجميع في خضوع وخشوع لأمر مولاهم الحق. فهذا الانسان الـضعيف اقتداء بتلك المخلوقات، يهوي الى السجود امام ديوان الرحمن ذي الكمال والرحيم ذي الجمال قائلاً: (الله اكبر) في حبٍ غامرٍ بالأعجاب وفي فنائيةٍ مفعمة بالبقاء وفي ذلّ مكللٍ بالعز.

فلا شك يا أخي قد فهمت ان اداء صلاة العشاء سموٌ وصعودٌ فيما يشبه المعراج، وما أجملها من وظيفةٍ وما احلاها من واجبٍ وما اسماها من خدمةٍ وما اعزّها وألذّها من عبودية وما أليقها من حقيقة اصيلة!

اي ان كل وقت من هذه الاوقات اشارات لانقلاب زمني عظيم، وأمارات لاجراءات ربانية جسيمة، وعلامات لإنعامات إلهية كلية، لذا فان تخصيص صلاة الفرض ـ التي هي دَين الفطرة ـ في تلك الاوقات هو منتهى الحكمة.



] سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنآ اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا اِنِّكَ اَنْتَ العَليمُ الحَكيمُ[

اللّهم صل وسلم على مَن ارسلته معلّماً لعبادك، ليعلّمهم كيفية معرفتك والعبودية لك،

ومعرّفاً لكنوز اسمائك،

وترجماناً لايات كتاب كائناتك،

ومرآةً بعبوديته لجمال ربوبيتك،

وعلى آله وصحبه اجمعين.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

آمين برحمتك يا ارحم الراحمين.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #10
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 15
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة العاشرة



مبحث الحشر





تنبيه

ان سبب ايرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني الى الأذهان من ناحية، واظهار مدى معقولية الحقائق الاسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية اخرى، فمغزى الحكايات انما هو الحقائق التي تنتهي اليها، والتي تدل عليها كنايةً. فهي اذن ليست حكايات خيالية وانما حقائق صادقة.













بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَانْظُرْ اِلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيىِ اْلاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذَلِكَ لَـمُحْيىِ اْلـمَوْتىَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ[ (الروم: 50)

يا أخي!

إِن رمتَ ايضاح أمر الحشر وبعضَ شؤون الآخرة على وجهٍ يُلائم فهمَ عامة الناس، فاستمع معي الى هذه الحكاية القصيرة.

ذهب اثنان معاً الى مملكة رائعة الجمال كالجنة (التشبيه هنا للدنيا) واذا بهما يَريان ان أهلها قد تركوا ابواب بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها.. فالاموال والنقود في متناول الايدي دون ان يحميها أحد. بدأ أحدهما - بما سوّلت له نفسه - يسرق حيناً ويغصب حيناً آخر مرتكباً كل انواع الظلم والسفاهة، والاهلون لا يبالون به كثيراً.

فقال له صديقه:

- ويحك ماذا تفعل؟ انك ستنال عقابك، وستلقيني في بلايا ومصائب. فهذه الاموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد اصبحوا - بعوائلهم واطفالهم - جنود الدولة أو موظفيها، ويُستخدمون في هذه الوظائف ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يُبالوا بك كثيراً. إعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان. أسرع يا صاحبي بالاعتذار وبادر الى التوسل.

ولكن صاحبه الأبله عاند قائلاً:

- دعني يا صاحبي، فهذه الاموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة، لا مالك لها. يستطيع كل واحد ان يتصرف فيها كما يشاء. فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الاشياء الجميلة المنثورة امامي. واعلم اني لا اصدّق بما لا تراه عيناي...

وبدأ يتفلسف ويتفوه بما هو من قبيل السفسطة(1). وهنا بدأت المناقشة الجادّة بينهما. وأخذ الحوار يشتد اذ سأل المغفل:

- وما السلطان؟ فانا لا اعرفه. فردّ عليه صاحبه:

- انك بلاشك تعلم انه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة، بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب. فكيف يسوغ لك القول: انه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطاراً مشحوناً بالارزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب(1)! أوَ لا ترى في أرجاء هذه المملكة اعلانات السلطان وبياناته، واعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الاموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟.. يبدو انك تعلمت شيئاً من لغة الافرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الاسلامية ولا ترغب ان تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال اذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والاوامر الصادرة من السلطان.. فقاطعه ذلك المعاند قائلاً:

- لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن ان تضره وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي منها؟ ثم اني لا أرى هنا عقاباً من سجن أو ما يشبهه!

أجابه صاحبه:

- يا هذا، ان هذه المملكة التي نراها ما هي الاّ ميدان اِمتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جداً.. ألا ترى ان قافلة تأتي يومياً وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، انها تملأ وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائياً وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل اليها الناس جميعاً فيثاب أو يُعاقب كلٌ حسب عمله.

ومرة اخرى تمرّد صديقه الخائن الحائر قائلاً:

- أنا لا أؤمن ولا اصدق! فهل يمكن ان تُباد هذه المملكة العامرة، ويرحل عنها أهلُها الى مملكة اخرى؟ وعندها قال له صديقه الناصح الامين:

- يا صاحبي ما دمتَ تعاند هكذا وتصرّ، فتعال أبين لك دلائل لا تعد ولا تحصى مجملةً في اثنتي عشرة صورة تؤكد لك ان هناك محكمة كبرى حقاً، وداراً للثواب والاحسان، واخرى للعقاب والسجن، وانه كما تفرغ هذه المملكة من أهلها يوماً بعد يوم، فسيأتي يوم تفرغ فيه منهم نهائياً وتباد كليّاً.

C الصورة الأولى

أمن الممكن لسلطنةٍ - ولاسيما كهذه السلطنة العظمى - أن لا يكون فيها ثوابٌ للمطيعين ولا عقاب للعاصين؟.. ولما كان العقاب والثواب في حكم المعدوم في هذه الدار..

فلابد اذن من محكمةٍ كبرى في دارٍ اخرى.

C الصورة الثانية

تأمل سير الاحداث والاجراءات في هذه المملكة، كيف يوزَّع الرزقُ رغداً حتى على أضعف كائن فيها وأفقره، وكيف ان الرعاية تامة والمواساة دائمة لجميع المرضى الذين لا معيل لهم. وانظر الى الاطعمة الفاخرة والاواني الجميلة والأوسمة المرصعة والملابس المزركشة.. فالموائد العامرة مبثوثة في كل مكان.. وانظر! الجميع يتقنون واجباتهم ووظائفهم اِلا أنت وأمثالك من البلهاء، فلا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، فأعظم شخص يؤدي ما أنيط به من واجب بكل تواضع، وفي غاية الطاعة، تحت ظل جلال الهيبة والرهبة. اذن فمالِكُ هذه السلطنة ومليكها ذو كرم عظيم، وذو رحمة واسعة، وذو عزة شامخة، وذو غيرة جليلة ظاهرة، وذو شرف سامٍ. ومن المعلوم ان الكرم يستوجب اِنعاماً، والرحمة لا تحصل دون احسان، والعزة تقتضي الغيرة، والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين، بينما لا يتحقق في هذه المملكة جزء واحد من ألفٍ مما يليق بتلك الرحمة ولا بذلك الشرف. فيرحل الظالم في عزته وجبروته ويرحل المظلوم في ذله وخنوعه.

فالقـضية اذن مؤجلة الى محكمة كبرى.

C الصورة الثالثة

انظر، كيف تُنجز الاعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمل كيف يُنظر الى المعاملات بمنظار عدالةٍ حقة وميزانٍ صائب. ومن المعلوم ان حكمة الحكومة وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتكريمهم. والعدالة المحضة تتطلب رعاية حقوق الرعية، لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة.. غير انه لا يبدو هنا اِلا جزءٌ ضئيلٌ من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة، وبتلك العدالة. فأمثالك من الغافلين سيغادرون هذه المملكة دون أن يرى اغلبهم عقاباً.

فالقـضية اذن مؤجلة بلا ريب الى محكمة كبرى.

C الصورة الرابعة

انظر الى ما لا يعد ولا يحصى من الجواهر النادرة المعروضة في هذه المعارض، والاطعمة الفريدة اللذيذة المزيّنة بها الموائد، مما يُبرز لنا أن لسلطان هذه المملكة سخاءً غير محدود، وخزائن ملأى لا تنضب.. ولكن مثل هذا السخاء الدائم، ومثل هذه الخزائن التي لا تنفد، يتطلبان حتماً دار ضيافة خالدة أبدية، فيها ما تشتهيه الانفس. ويقتضيان كذلك خلود المتنعمين المتلذذين فيها، من غير ان يذوقوا ألم الفراق والزوال؛ اذ كما ان زوال الألم لذة فزوال اللذة ألم كذلك.. وانظر الى هذه المعارض، ودقق النظر في تلك الاعلانات، واصغ جيداً الى هؤلاء المنادين الدعاة الذين يصفون عجائب مصنوعات السلطان - ذي المعجزات - ويعلنون عنها، ويظهرون كماله، ويفصحون عن جماله المعنوي الذي لا نظير له، ويذكرون لطائف حسنه المستتر.

فلهذا السلطان اذن كمال باهر، وجمال معنوي زاهر، يبعثان على الاعجاب. ولاشك ان الكمال المستتر الذي لا نقص فيه يقتضي اعلانه على رؤوس الاشهاد من المعجبين المستحسنين، ويتطلب اعلانه امام انظار المقدّرين لقيمته. أما الجمال الخفي الذي لا نظير له، فيستلزم الرؤية والاظهار، أي رؤية جماله بوجهين.

احدهما: رؤيته بذاته جمالَه في كل ما يعكس هذا الجمال من المرايا المختلفة.

ثانيهما: رؤيته بنظر المشاهدين المشتاقين والمعجبين المستحسنين له. وهذا يعني ان الجمال الخالد يستدعي رؤية وظهوراً، مع مشاهدةٍ دائمةٍ، وشهودٍ أبدي.. وهذا يتطلب حتماً خلودَ المشاهدين المشتاقين المقدّرين لذلك الجمال، لأن الجمال الخالد لا يرضى بالمشتاق الزائل. ولأن المشاهد المحكوم عليه بالزوال يبدل تصور الزوال محبته عداءً، واعجابه استخفافاً، وتوقيره اهانةً، اذ الانسان عدو لما يجهل ولما يقصر عنه.. ولما كان الجميع يغادرون دور الضيافة هذه بسرعة ويغيبون عنها بلا ارتواء من نور ذلك الجمال والكمال، بل قد لا يرون اِلا ظلالاً خافتة منه عبر لمحات سريعة..

فالرحلة اذن منطلقة الى مشهد دائم خالد.

C الصورة الخامسة

تأمل، كيف ان لهذا السلطان - الذي لا نظير له - رأفة عظيمة تتجلى في خضم هذه الأحداث والامور، اذ يغيث الملهوف المستغيث، ويستجيب للداعي المستجير، واذا ما رأى أدنى حاجة لأبسط فرد من رعاياه فانه يقضيها بكل رأفة وشفقة، حتى انه يرسل دواءً او يهيئ بيطاراً لإسعاف قدم نعجة من النعاج.

هيا بنا يا صاحبي لنذهب معاً الى تلك الجزيرة، حيث تضم جمعاً غفيراً من الناس. فجميع اشراف المملكة مجتمعون فيها.. انظر فها هو ذا مبعوث كريم للسلطان متقلّد اعظم الأوسمة وأعلاها يرتجل خطبة يطلب فيها من مليكه الرؤوف أموراً، وجميع الذين معه يوافقونه ويصدّقونه ويطلبون ما يطلبه.

أنصت لما يقول حبيب الملك العظيم، انه يدعو بأدبٍ جم وتضرّع ويقول:

يا من اسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا سلطاننا، أرنا منابع واصولَ ما أريتَه لنا من نماذج وظلال.. خذ بنا الى مقر سلطنتك ولا تهلكنا بالـضياع في هذه الفلاة.. أقبلنا وارفعنا الى ديوان حـضورك.. ارحمنا... اطعمنا هناك لذائذ ما أذقتنا اياه هنا، ولا تعذبنا بألم التنائي والطرد عنك.. فهاهم اولاء رعيتك المشتاقون الشاكرون المطيعون لك، لا تتركهم تائهين ضائعين، ولا تفنِهم بموت لا رجعة بعده..

أسمعت يا صاحبي ما يقول؟. تُرى أمن الممكن لمن يملك كل هذه القدرة الفائقة، وكل هذه الرأفة الشاملة، ان لا يعطي مبعوثه الكريم ما يرغب به، ولا يستجيب لأسمى الغايات وانبل المقاصد؟ وهو الذي يقضي بكل اهتمامٍ أدنى رغبة لأصغر فرد من رعاياه؟ مع أن ما يطلبه هذا المبعوث الكريم تحقيق لرغبات الجميع ومقاصدهم، وهو من مقتضيات عدالته ورحمته ومرضاته. ثم انه يسير عليه وهيّن، فليس هو بأصعب مما عرضه من نماذج في متنزهات هذه المملكة ومعارضها.. فما دام قد انفق نفقات باهظة وأنشأ هذه المملكة لعرض نماذجه عرضاً مؤقتاً، فلابد أنه سيَعرِض في مقر سلطنته من خزائنه الحقيقية ومن كمالاته وعجائبه ما يبهر العقول. اذن فهؤلاء الذين هم في دار الامتحان هذه ليسوا عبثاً، وليسوا سدى، بل تنتظرهم قصورُ السعادة السرمدية الخالدة، او غياهب السجون الابدية الرهيبة.

C الصورة السادسة

تعال، وانظر الى هذه القاطرات الضخمة، والى هذه الطائرات المشحونة، والى هذه المخازن الهائلة المملوءة، والى هذه المعارض الانيقة الجذابة.. وتأمل في الاجراءات وسير الامور.. انها جميعاً تبيّن ان هناك سلطنة عظيمة حقاً(1) تحكم من وراء ستار. فمثل هذه السلطنة تقتضي حتماً رعايا يليقون بها. بينما تشاهد انهم قد اجتمعوا في هذا المضيف - مضيف الدنيا - والمضيف يودّع يومياً صنوفاً منهم ويستقبل صنوفاً. وهم قد حضروا في ميدان الامتحان والاختبار هذا، غير أن الميدان يُبدّل كل ساعة، وهم يلبثون قليلاً في هذا المعرض العظيم، يتفرجون على نماذج آلاء المليك الثمينة وعجائب صنعته البديعة، غير ان المعرض نفسه يحوّل كل دقيقة، فالراحل لا يرجع والقابل يرحل كذلك.. فهذه الامور تبين بشكل قاطع ان وراء هذا المضيف الفاني، ووراء هذه الميادين المتبدلة، ووراء هذه المعارض المتحولة، قصور دائمة خالدة، ومساكن طيبة ابدية وجنائنُ مملوءة بحقائق هذه النماذج، وخزائن مشحونة باصولها.

فالاعمال والافعال هنا اذن ما هي الا لأجل ما اُعدّ هنالك من جزاء. فالملك القدير يكلف هنا ويجازي هناك، فلكل فردٍ لون من السعادة حسب استعداده وما اقدم عليه من خير.

C الصورة السابعة

تعال، لنتنزه قليلاً بين المدنيين من الناس لنلاحظ احوالهم، وما تجري حولهم من امور. انظر، فها قد نُصبَت في كل زاوية آلاتُ تصوير عديدة تلتقط الصور، وفي كل مكان كتّاب كثيرون يسجلون كل شئ، حتى أهون الامور.

هيا انظر الى ذاك الجبل الشاهق فقد نصبت عليه آلة تصوير ضخمة تخص السلطان نفسه(1) تلتقط صور كل ما يجري في هذه المملكة. فلقد اصدر السلطان أوامره لتسجيل الامور كلها، أو تدوين المعاملات في مملكته. وهذا يعني ان السلطان المعظم هو الذي يملي الحوادث جميعها، ويأمر بتصويرها.. فهذا الاهتمام البالغ، وهذا الحفظ الدقيق للأمور، وراءه محاسبة بلا شك، اذ هل يمكن لحاكمٍ حفيظ - لا يهمل أدنى معاملة لأبسط رعاياه - أن لا يحفظ ولا يدوّن الاعمال العظيمة لكبار رعاياه، ولا يحاسبهم ولا يجازيهم على ما صنعوا مع انهم يُقدمون على اعمال تمسّ الملك العزيز، وتتعرض لكبريائه، وتأباه رحمته الواسعة؟.. وحيث انهم لا ينالون عقاباً هنا..

فلابد انه مؤجل الى محكمة كبرى.

C الصورة الثامنة

تعال، لأتلو عليك هذه الأوامر الصادرة من السلطان. انظر، انه يكرر وعده ووعيده قائلاً: لآتينّ بكم الى مقر سلطنتي، ولأسعدنّ المطيعين منكم، ولأزجنّ العصاة في السجن، ولأدمرنّ ذلك المكان الموقت، ولأنشأن مملكة اخرى فيها قصور خالدة وسجون دائمة.. علماً ان ما قطعه على نفسه من وعد، هين عليه تنفيذه، وهو بالغ الأهمية لرعاياه. أما اِخلاف الوعد فهو منافٍ كلياً لعزته وقدرته.

فانظر ايها الغافل: اِنك تصدق اكاذيب أوهامك، وهذيان عقلك، وخداع نفسِك، ولا تصدّق مَن لا يحتاج الى مخالفة الوعد قطعاً، ومَن لا تليق المخالفة بغيرته وعزته اصلاً، ومَن تشهد الامور كافة على صدقه.. انك تستحق العقاب العظيم بلاشك، اذ إن مَثلكَ في هذا مثل المسافر الذي يغمض عينيه عن ضوء الشمس، ويسترشد بخياله، ويريد ان ينير طريقه المخيف ببصيص عقله الذي لا يضئ الا كضياء اليراعة (ذباب الليل).

وحيث انه قد وعد، فسيفي بوعده حتماً، لأن وفاءه سهل عليه وهين، وهو من مقتضيات سلطنته، وهو ضروري جداً، لنا ولكل شئ.

اذن هناك محكمة كبرى وسعادة عظمى.

C الصورة التاسعة

تعال، لننظر الى رؤساء(1) من هذه الدوائر، قسم منهم يمكنهم الاتصال بالسلطان العظيم مباشرة، بهاتف خاص. بل لقد ارتقى قسم آخر وسما الى ديوان قدسه.. تأمل ماذا يقول هؤلاء؟ انهم يخبروننا جميعاً ان السلطان قد أعدّ مكاناً فخماً رائعاً لمكافأة المحسنين وآخر رهيباً لمعاقبة المسيئين. وانه يَعِد وعداً قوياً ويُوعِد وعيداً شديداً، وهو أجلّ وأعزّ من أن يذلّ الى خلاف ما وعد وتوعد. علماً بأن اخبار المخبرين قد وصلت من الكثرة الى حد التواتر ومن القوة الى درجة الاتفاق والاجماع فهم يبلغوننا جميعاً: بأن مقر هذه السلطنة العظيمة التي نرى آثارها وملامحها هنا، انما هو في مملكة اخرى بعيدة. وان العمارات في ميدان الامتحان هذا بنايات وقتية، وستُبدّل الى قصور دائمة، فتبدل هذه الارض بغيرها. لأن هذه السلطنة الجليلة الخالدة - التي تُعرف عظمتُها من آثارها - لا يمكن ان تقتصر هيمنتُها على مثل هذه الامور الزائلة التي لا بقاء لها ولا دوام ولا كمال ولا قرار ولا قيمة ولا ثبات. بل تستقر على ما يليق بها وبعظمتها من امور تتّسم بالديمومة والكمال والعظمة.

فاذن هناك دار اخرى.. ولابد ان يكون الرحيل الى ذلك المقر.

C الصورة العاشرة

تعال يا صاحبي، فاليوم يوم عيد ملكي عظيم(2).. ستحدث تبدلات وتغيرات وستبرز أمور عجيبة.. فلنذهب معاً للنزهة، في هذا اليوم البهيج من ايام الربيع الى تلك الفلاة المزدانة بالازهار الجميلة.. انظر! هاهم الناس متوجهون الى هناك.. انظر! هاهنا امر غريب عجيب، فالعمارات كلها تنهار وتتخذ شكلاً آخر! حقاً انه شئ معجز! اذ العمارات التي انهارت قد أعيد بناؤها هنا فوراً، وانقلبت هذه الفلاة الخالية الى مدينة عامرة! انظر.. انها تريك كل ساعة مشهداً جديداً وتتخذ شكلاً غير شكلها السابق - كشاشة السينما - لاحظ الأمر بدقة لترى روعة هذا النظام المتقن في هذه الشاشة التي تختلط فيها المشاهد بكثرة وتتغير بسرعة فهي مشاهد حقيقية يأخذ كل شئ مكانه الحقيقي في غاية الدقة والانسجام، حتى المشاهد الخيالية لا تبلغ هذا الحد من الانتظام والروعة والاتقان، بل لا يستطيع ملايين الساحرين البارعين من القيام بمثل هذه الاعمال البديعة.. اذن فللسلطان العظيم المستور عنا الشئ الكثير من الامور الخارقة.

فيا أيها المغفل! انك تقول: كيف يمكن ان تدمّر هذه المملكة العظيمة وتعمّر من جديد في مكان آخر؟.

فها هو ذا أمامك ما لا يقبله عقلك من تقلبات كثيرة وتبدلات مذهلة، فهذه السرعة في الاجتماع والافتراق، وهذا التبدل والتغير، وهذا البناء والهدم.. كلها تنبىء عن مقصد، وتنطوي على غاية، اذ يُصرف لأجل اجتماع في ساعة واحدة ما ينفق لعشر سنوات ! فهذه الاوضاع اذن ليست مقصودة لذاتها، بل هي أمثلة ونماذج للعرض هنا. فالسلطان يُنهي اعماله على وجه الاعجاز، كي تؤخذ صورها، وتُحفظ نتائجها وتُسجل كما تُسجل وتُحفظ كل ما في ميدان المناورات العسكرية. فالأمور والمعاملات اذن ستجري في الاجتماع الاكبر وتستمر وفق ما كانت هنا. وستعرض تلك الامور عرضاً مستمراً في المشهد الاعظم والمعرض الاكبر. أي ان هذه الاوضاع الزائلة تنتج ثماراً باقية وتولّد صوراً خالدة هناك.

فالمقصود من هذه الاحتفالات اذن هو بلوغ سعادة عظمى، ومحكمة كبرى، وغايات سامية مستورة عنا.

C الصورة الحادية عشرة

تعال أيها الصديق المعاند، لنركب طائرة أو قطاراً، لنذهب الى الشرق او الى الغرب - أي الى الماضي أو الى المستقبل - لنشاهد ما اظهره السلطان من معجزات متنوعة في سائر الاماكن. فما رأيناه هنا في المعرض، أو في الميدان، أو في القصر، من الأمور العجيبة له نماذج في كل مكان، اِلاّ انه يختلف من حيث الشكل والتركيب. فيا صاحبي، أنعم النظر في هذا، لترى مدى ظهور اِنتظام الحكمة، ومبلغ وضوح اشارات العناية، ومقدار بروز امارات العدالة، ودرجة ظهور ثمرات الرحمة الواسعة، في تلك القصور المتبدلة، وفي تلك الميادين الفانية، وفي تلك المعارض الزائلة. فَمَن لم يفقد بصيرته يفهم يقيناً أنه لن تكون - بل لا يمكن تصور - حكمة أكملَ من حكمة ذلك السلطان ولا عناية اجملَ من عنايته، ولا رحمة أشمل من رحمته، ولا عدالة أجلّ من عدالته.. ولكن لما كانت هذه المملكة - كما هو معلوم - قاصرةً عن اظهار حقائق هذه الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، ولو لم تكن هناك في مقر مملكته - كما توهمت - قصور دائمة، وأماكن مرموقة ثابتة، ومساكن طيبة خالدة، ومواطنون مقيمون، ورعايا سعداء تحقق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، يلزم عندئذٍ اِنكار ما نبصره من حكمة، وانكار ما نشاهده من عناية، وانكار ما نراه من رحمة، وانكار هذه الامارات والاشارات للعدالة الظاهرة البينة.. انكار كل ذلك بحماقة فاضحة كحماقة من يرى ضوء الشمس وينكر الشمس نفسَها في رابعة النهار! ويلزم أيضاً القول بأن القائم بما نراه من اجراءات تتسم بالحكمة وافعالٍ ذات غايات كريمة وحسنات ملؤها الرحمة انما يلهو ويعبث ويغدر - حاشاه ثم حاشاه - وما هذا الا قلب الحقائق الى أضدادها، وهو المحال باتفاق جميع ذوي العقول غير السوفسطائي الابله الذي يُنكِر وجودَ الاشياء، حتى وجودَ نفسه.

فهناك اذن ديار غير هذه الديار، فيها محكمة كبرى ، ودار عدالة عليا، ومقرَّ كرم عظيم، لتظهر فيها هذه الرحمة وهذه الحكمة وهذه العناية وهذه العدالة بوضوح وجلاء.

C الصورة الثانية عشرة

تعال فلنرجع الآن يا صاحبي، لنلتقي ضباطَ هذه الجماعات ورؤساءها، انظر الى معدّاتهم.. أزوّدوا بها لقضاء فترة قصيرة من الزمن في ميدان التدريب هذا، أم انها وُهبَت لهم ليقضوا حياة سعيدة مديدة في مكان آخر؟ ولما كنا لا نستطيع لقاء كل واحد منهم، ولا نتمكن الاطلاع على جميع لوازمهم وتجهيزاتهم، لذا نحاول الاطلاع على هوية وسجل أعمال واحد منهم كنموذج ومثال. ففي الهوية نجد رتبة الضابط، ومرتّبه، ومهمته، وامتيازاته، ومجال اعماله، وكل ما يتعلق بأحواله.. لاحظ، ان هذه الرتبة ليست لأيام معدودة بل لمدة مديدة.. ولقد كتب في هويته انه يتسلّم مرتّبه من الخزينة الخاصة بتاريخ كذا.. غير أن هذا التاريخ بعيد جداً، ولا يأتي الا بعد انهاء مهام التدريب في هذا الميدان.. أما هذه الوظيفة فلا توافق هذا الميدان الموقت ولا تنسجم معه، بل هي للفوز بسعادة دائمة في مكان سامٍ عند الملك القدير.. أما الواجبات فهي كذلك لا يمكن ان تكون لقضاء ايام معدودة في دار الضيافة هذه، وانما هي لحياة أخرى سعيدة أبدية.. يتضح من الهوية بجلاء، ان صاحبها مهيأ لمكان أخر، بل يسعى نحو عالم آخر.

انظر الى هذه السجلات التي حدّدت فيها كيفية استعمال المعدّات والمسؤوليات المترتبة عليها، فان لم تكن هناك منزلة رفيعة خالدة غير هذا الميدان، فلا معنى لهذه الهوية المتقنة، ولا لهذا السجل المنتظم، ولسقط الضابط المحترم والقائد المكرم والرئيس الموقر الى درك هابط ولقي الشقاء والذلة والمهانة والنكبة والضعف والفقر.. وقس على هذا، فأينما انعمت النظر متأملاً قادك النظر والتدبر الى أن هناك بقاء بعد هذا الفناء..

فيا صديقي! ان هذه المملكة المؤقتة ما هي إلا بمثابة مزرعة، وميدان تعليم، وسُوق تجاري، فلابد ان تأتي بعدها محكمة كبرى وسعادة عظمى. فاذا انكرتَ هذا، فسوف تضطر الى انكار كل الهويات والسجلات التي يمتلكها الضابط، وكل تلك العُدد والاعتدة والتعليمات، بل تضطر الى انكار جميع الأنظمة في هذه المملكة، بل اِنكار وجود الدولة نفسها، وينبغي عند ذلك أن تكذّب جميع الاجراءات الحادثة. وعنده لا يمكن ان يُقال لك انك انسان له شعور. بل تكون اذ ذاك أشد حماقة من السوفسطائيين.

وإياك اِياك أن تظـن أن دلائـل واشـارات تبـديل المملكة منحصـرة في((اثنتي عشرة)) صورة التي أوردناها، اذ ان هناك ما لايعد ولا يحصى من الامارات والادلة على أن هذه المملكة المتغيرة الزائلة تتحول الى اخرى مستقرة باقية، وهناك الكثير الكثير من الاشارات والعلامات تدل على أن هؤلاء الناس سينقلون من دار الضيافة المؤقتة الزائلة الى مقر السلطنة الدائمة الخالدة.

يا صاحبي! تعال لأقرر لك برهاناً اكثر قوة ووضوحاً من تلك البراهين الاثنى عشر التي انبأت عنها تلك الصور المتقدمة. تعال، فانظر الى المبعوث الكريم، صاحب الأوسمة الرفيعة الذي شاهدناه في الجزيرة - من قبل - انه يبلّغ أمراً الى الحشود الغفيرة التي تتراءى لنا على بُعد. فهيّا نذهب ونصغيِ اليه.. انتبه! فها هو يُفسّر للملأ البلاغ السلطاني الرفيع ويوضحه قائلاً لهم:

تهيأوا! سترحلون الى مملكة اخرى خالدة، ما اعظمها من مملكة رائعة! ان مملكتنا هذه تعدّ كالسجن بالنسبة لها. فاذا ما اصغيتم الى هذا الامر بامعان، ونفّذتموه باتقان ستكونون اهلاً لرحمة سلطاننا واحسانِه في مستقره الذي تتجهون اليه، والا فالزنزانات الرهيبة مثواكم جزاء عصيانكم الأمر وعدم اكتراثكم به..

انه يذكّر الحاضرين بهذا البلاغ، وانت ترى على ذلك البلاغ العظيم ختمَ السلطان الذي لا يُقلّد. والجميع يدركون يقيناً - إلا أمثالك من العميان - ان ذلك المبعوث المجلل بالأوسمة الرفيعة هو مبلِّغ أمين لأوامر السلطان، بمجرد النظر الى تلك الأوسمة.

فيا ترى هل يمكن الاعتراض على مسألة تبديل هذه المملكة التي يدعو اليها ذلك المبعوث الكريم بكل ما أوتي من قوة، ويتضمنه البلاغ الملكي السامي؟ كلا.. لا يمكن ذلك أبداً، اِلا اذا انكرتَ جميع ما تراه من أمور وحوادث.

فالآن ايها الصديق! لك أن تقول ما تشاء.

ماذا عساي أن أقول؟ وهل بقي مزيد من قول لقائل امام هذه الحقائق! وهل يقال للشمس وهي في كبد السماء، اين هي؟. ان كل ما أريد أن أقوله هو: الحمد لله، وألف شكر وشكر، فقد نجوت من قبضة الأوهام والاهواء، وتحررت من أسار النفس والسجن الابدي، فآمنت بأن هناك دار سعادة عند السلطان المعظم، ونحن مهيأون لها بعد هذه الدار الفانية المضطربة.

وهكذا تمت الحكاية التي كانت كناية عن الحشر والقيامة. والآن ننتقل بتوفيق العلي القدير الى الحقائق العليا، فسنبينها في (اثنتي عشرة حقيقة) وهي متسانده مترابطة مقابل الصور الاثنتي عشرة، بعد ان نمهد لها بمقدمة.















المقدمة

نشير اشارات فحسب الى بعض المسائل التي أوضحناها في اماكن اخرى، أي في الكلمات الثانية والعشرين، والتاسعة عشرة، والسادسة والعشرين.

` الاشارة الأولى

هناك ثلاث حقائق للمغفل ولصديقه الناصح الأمين المذكورَين في الحكاية:

الاولى: هي نفسي الامارة وقلبي.

الثانية: متعلمو الفلسفة وتلاميذ القرآن الكريم.

الثالثة: ملة الكفر والامة الاسلامية.

ان عدم معرفة الله سبحانه وتعالى هو الذي أوقع متعلمي الفلسفة وملة الكفر والنفس الامارة في الضلالة الرهيبة. فمثلما قال الناصح الامين - في الحكاية - انه لا يمكن ان يكون حرف بلا كاتب، ولا قانون بلا حاكم، كذلك نقول:

انه محال ان يكون كتاب بلا كاتب، ولا سيما كتاب كهذا الذي تتضمن كل كلمة من كلماته كتاباً خُطّ بقلم دقيق، والذي تحت كل حرف من حروفه قصيدة دُبجت بقلم رفيع. وكذلك من أمحل المحال أن يكون هذا الكون من غير مبدع، حيث ان هذا الكون كتاب على نحو عظيم تتضمن كل صحيفة فيه كتباً كثيرة، لا بل كل كلمة منها كتاباً، وكل حرف منها قصيدةً.. فوجه الارض صحيفة، وما اكثر ما فيها من كتب! والشجرة كلمة واحدة، وما اكثر ما فيها من صحائف! والثمرة حرف، والبذرة نقطة.. وفي هذه النقطة فهرس الشجرة الباسقة وخطة عملها. فكتاب كهذا ما يكون الا من ابداع قلم صاحب قدرة متصف بالجمال والجلال والحكمة المطلقة. أي أن مجرد النظر الى العالَم ومشاهدته يستلزم هذا الايمان، الاّ مَنْ أسكَرته الضلالة!.

ومثلما لا يمكن ان تكون دار بلا بنّاء، لاسيما هذه الدار التي زيّنت بأبدع زينة، ونقشت بأروع نقوش وأعجبها وشيّدت بصنعة خارقة، حتى ان كل حجر من أحجارها يتجسم فيه فن ما في البناء كله. فلا يقبل عـاقل أن تكـون دار مثل هذه الدار بلا بنّاء ماهر، وبخاصة أنه يشيِّد في هذا الديوان - في كل ساعة - مساكنَ حقيقية في غاية الانتظـام والتنـاسـق، ويغيّرها بانتـظـام وسهـولة كاملين - كسهولة تبديل الملابـس - بل انه ينـشئ فـي كل ركن غـرفـاً صغيـرة عدة في كـل مشهد حقيقي.

فلابد لهذا الكون العظيم من خالق حكيم عليم قدير مطلق، لأن هذا الكون انما هو كالقصر البديع؛ الشمسُ والقمر مصابيحه، والنجوم شموعه وقناديله، والزمن شريط يعلق عليه الخالق ذو الجلال - في كل سنة - عالماً آخر يبرُزه للوجود، مجدّداً فيه صوراً منتظمة في ثلاثمائة وستين شكلاً وطرازاً، مبدلاً اِياه بانتظام تام، وحكمة كاملة، جاعلاً سطح الارض مائدة نِعَمٍ، يزيّنها في كل ربيع بثلاثمائة ألف نوع من أنواع مخلوقاته، ويملؤها بما لا يعد ولا يحصى من آلائه، مع تمييز كلٍ منها تمييزاً كاملاً، على الرغم من تداخلها وتشـابكها.. وقس على هذه الاشياء الامور الاخرى.. فكيف يمكن التغافل عن صانع مثل هذا القصر المنيف؟

ثم، ما اعظم بلاهة من ينكر الشمس في رابعة النهار، وفي صحوة السماء! في الوقت الذي يُرى تلألؤ أشعتها، وانعكاس ضوئها، على زَبَد البحر وحَبابه، وعلى مواد البر اللامعة وعلى بلورات الثلج الناصعة، لأن انكار الشمس الواحدة ورفضها - في هذه الحالة - يستلزم قبول شُميسات حقيقية اصيلة، بعدد قطرات البحر وبعدد الزَبَد والحباب وبعدد بلورات الثلج! ومثلما يكون قبول وجود شمسٍ عظيمة في كل جزيئة - وهي تسع ذرة واحدة - بلاهةً، فان عدم الايمان بالخالق ذي الجلال، ورفض التصديق بأوصاف كماله سبحانه - مع رؤية هذه الكائنات المنتظمة المتبدلة والمتعاقبة بحكمة في كل آن والمتجددة بتناسق وانتظام في كل وقت - ضلالة ادهى ولاشك، بل هذيان وجنون.. لأنه يلزم اذ ذاك قبول ألوهية مطلقة في كل شئ حتى في كل ذرة!.

لأن كل ذرة من ذرات الهواء - مثلاً - تستطيع أن تدخل في كل زهرة، وفي كل ثمرة، وفي كل ورقة، وتتمكن ان تؤدي دورها هناك. فلو لم تكن هذه الذرة مأمورةً ومسخرةً للزم أن تكون على علمٍ باشكال ما تمكنت من الدخول فيه، وبصورته وتركيبه، وهيئته، أي يجب ان تكون ذات علم محيط، وذات قدرة شاملة كي تستطيع القيام بذلك!!

وكل ذرة من ذرات التراب - مثلاً - يمكـن ان تكون سـبباً لنشـوء البـذور ونمو أنواعها جميعاً. فلو لم تكـن مأمورة ومسـخّرة للزم أن تحـتوي آلات وأجهزة معنوية بعدد انواع الاعشاب والاشجار، أو يجب منحها قدرة ومهارة بحيث تعلم جميع اشكال تراكيبها، فتصنعها، وتعرف جميع صورها، فتنسجها.. وقس على هذا سائر الموجودات، حتى تفهم أن للوحدانية دلائل واضحة باهرة في كل شئ.

نعم، ان خلق كل شئ من شئ واحد، وخلق شئ واحد من كل شئ، انما هو عمل يخصّ خالق كل شئ. فتدبر وتأمل في قوله تعالى ] وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ[ . واعلم ان عدم الاعتقاد بالإله الواحد الأحد يستلزم الاعتقاد بآلهة عدة بعدد الموجودات!

` الاشارة الثانية:

لقد جاء في الحكاية ذكر مبعوث كريم، وذُكر أن من لم يكن أعمى يفهم من رؤية أوسمته: أنه شخص عظيم، لا يأتمر الاّ بأمر السلطان، فهو عامله الخاص.. فهذا المبعوث انما هو رسولنا الاعظم e .

نعم، يلزم ان يكون لمثل هذا الكون البديع ولصانعه القدوس، مثل هذا الرسول الكريم، كلزوم الضوء للشمس. لانه كما لا يمكن للشمس الاّ ان تشع ضياءً كذلك لا يمكن للألوهية إلاّ ان تظهر نفسها بارسال الرسل الكرام عليهم السلام.

فهل يمكن ان لا يرغب جمالٌ في غاية الكمال في اظهار نفسه بوسيلة ودليل يعرّفه؟

ام هل يمكن ان لا يطلب كمالٌ في غاية الجمال الاعلانَ عنه بوساطة يلفت الانظار اليه؟

أم هل يمكن ان لا تطلب سلطنةٌ كلية لربوبية عامة شاملة اعلان وحدانيتها وصمدانيتها على مختلف الطبقات بوساطة مبعوث ذي جناحين؟ أي ذي صفتين: صفة العبودية الكلية، فهو ممثل طبقات المخلوقات عند الحضرة الربانية. وصفة الرسالة والقرب اليه، فهو مُرسل من لدنه سبحانه الى العالمين كافة.

ام هل يمكن لصاحب جمال مطلق ان لا يروم ان يشهد هو ويُشهِد خلقه محاسن جماله ولطائف حسنه في مرايا تعكس هذا الجمال؟ أي بوساطة رسول حبيب؛ فهو حبيب لتودده الى الله سبحانه بعبوديته الخالصة، وهو رسول حبيب لأنه يحبب الله سبحانه الى الخلق باظهار جمال اسمائه الحسنى.

أم هل يمكن ان لا يريد مَن يملك خزائن مشحونة بأغلى الاشياء واعجبها وبما يدهش العقول، اظهارَ كماله المستتر. وان لا يطلب عرضه على انظار الخلق اجمعين، وكشفَه على مرأى منهم، بوساطة معرّف حاذق ومعلن وصّاف؟

أم هل يمكن لِمَن زيّن هذا الكون بمخلوقات معبّرة عن كمال اسمائه الحسنى، وجعله قصراً رائعاً، وجمّله ببدائع صنعته المذهلة، وعرضه على الأنظار، ثم لا يكل أمر ايضاحه الى مرشد معلم رائد؟.

أم هل يمكن ان لا يبيّن مالك هذا الكون بوساطة رسول: ما الغاية من تحولات هذا الكون وما القصد من هذا الطلسم المغلق؟ وان لا يجيب بوساطته عن ألغاز الاسئلة الثلاثة المستعصية في الموجودات، وهي: من أين؟ والى أين؟ ومن تكون؟

ام هل يمكن للخالق ذي الجلال الذي عرّف نفسه الى ذوي الشعور بهذه المخلوقات الجميلة، وحبّبها اليهم بنعمه الغالية، أن لا يبيّن لهم بوساطة رسول ما يريد منهم وما يرضيه ازاء هذه النعم السابغة؟

ام هل يمكن للخالق الذي ابتلى النوع الانساني باختلاف المشاعر والاتجاهات، وهيأ استعداده للعبودية التامة الكلية، أن لا يطلب توجيه انظار هذا النوع من الكثرة الى التوحيد بوساطة مرشد مرسل؟

وهكذا فان هناك دلائل اخرى زيادة على ما تقدم، كلها براهين قاطعة تبين: ((وظائف النبوة ومهامها))، وتوضّح: ان الالوهية لا تكون بلا رسالة.

والآن، فهل ظهر في العالم مَن هو اكثر اهلية، واجمع لتلك الاوصاف والوظائف التي ذكرت، من محمد الهاشمي e ؟ ام هل هناك احد أليق منه e لمنصب الرسالة ومهمة التبليغ؟ وهل اظهر الزمان احداً اعظم أهلية منه؟ كلا. ثم كلا.. فهو امام جميع المرسلين، وقرة عين كل الاصفياء، وسلطان جميع المرشدين، وزبدة كل المختارين والمقربين، صاحب الوف المعجزات كشق القمر، ونبعان الماء من بين اصابعه الشريفة، مما عدا دلائل نبوته واماراتها التي لا تحصى، مما هو محل اجماع اهل الفضل والعلم، وعدا القرآن العظيم الذي هو بحر الحقائق والمعجزة الكبرى، اذ انه كالشمس الساطعة دليل قاطع على صدق رسالته.. ولقد اثبتنا اعجاز القرآن بما يقرب من أربعين وجهاً من وجوه الاعجاز في ((رسائل النور)) ولاسيما في ((الكلمة الخامسة والعشرين)).



` الاشارة الثالثة

لا يخطرنّ على بال أحد ويقول: ما أهمية هذا الانسان الصغير وما قيمته حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة وتفتح دنيا اخرى لمحاسبته على اعماله!

لأن هذا الانسان، هو سيد الموجودات رغم انه صغير جداً، لما يملك من فطرة جامعة شاملة.. فهو قائد الموجودات،و الداعي الى سلطان الوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة ومظهرها، لذا فان له اهمية عظمى.

ولا يخطرن على البال كذلك: كيف يكون هذا الانسان محكوماً بعذاب أبدي، مع أن له عمراً قصيراً جداً؟.

لأن الكفر جريمة كبرى، وجناية لا حدود لها، حيث انه يهبط بقيمة الكائنات ودرجتها - التي توازي قيمة مكاتيب صمدانية ودرجتها - الى هاوية العبث، ويوهم عدم وجود الغاية من ايجادها.. انه تحقير بيّن للكائنات كلها وانكارٌ لما يشاهد من انوار الاسماء الحسنى كلها، وانكار آثارها في هذه الموجودات، ومن ثم فانه تكذيب ما لا يحصى من الادلة الدالة على حقيقة وجود ذات الحق سبحانه وتعالى، وكل هذا جناية لا حدود لها، والجناية التي لا حدود لها توجب عذاباً غير محدد بحدود.

` الاشارة الرابعة

لقد رأينا في الحكاية بصورها الاثنتي عشرة:

انه لا يمكن بوجه من الوجوه أن تكون لسلطان عظيم مملكة مؤقتة - كأنها دار ضيافة - ثم لا تكون له مملكة اخرى دائمة مستقرة، ولائقة لأبهته وعظمته ومقام سلطنته السامية.

كذلك لا يمكن بوجه من الوجوه أن لا ينشئ الخالق الباقي سبحانه عالماً باقياً بعد أن أوجد هذا العالم الفاني.

ولا يمكن ايضاً ان يخلق الصانع السرمدي هذه الكائنات البديعة الزائلة، ولا ينشئ كائنات أخرى دائمة مستقرة.

ولا يمكن ايضاً ان يخلق الفاطر الحكيم القدير الرحيم هذا العالم الذي هو بحكم المعرض العام وميدان الامتحان والمزرعة الوقتية ثم لا يخلق الدار الآخرة التي تكشف عن غاياته وتظهر اهدافه!

ان هذه الحقيقة يتم الدخول فيها من ((اثنى عشر باباً)). وتفتح تلك الابواب بـ (اثنتي عشرة حقيقة)، نبدأ بأقصرها وأبسطها.



الحقيقة الأولى

باب الربوبية والسلطنة

وهو تجلي اسم ((الرَّب))

أمن الممكن لـمَن له شأن الربوبية وسلطنة الالوهية، فأوجد كوناً بديعاً كهذا الكون؛ لغايات سامية ولمقاصد جليلة، اظهاراً لكماله،ثم لا يكون لديه ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد بالايمان والعبودية، ولا يعاقِب أهل الضلالة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض والاستخفاف..؟!



الحقيقة الثانية

باب الكرم والرحمة

وهو تجلي اسم ((الكريم والرَّحيم))

أمن الممكن لربّ هذا العالم ومالكه الذي أظهر بآثاره كرماً بلا نهاية، ورحمة بلا نهاية، وعزة بلا نهاية، وغيرة بلا نهاية، ان لا يقدّر مثوبة تليق بكرمه ورحمته للمحسنين، ولا يقرر عقوبة تناسب عزته وغيرته للمسيئين؟.. فلو أنعم الانسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزاً (1) وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد ان كل كائن يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، بل يَمنح سبحانه أضعفَهم وأشدّهم عجزاً ألطف الارزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه.. وهكذا يجد كل ذي حاجة حاجته من حيث لا يحتسب.. فهذه الضيافة الفاخرة الكريمة، والاغداق المستمر، والكرم السامي، تدلّنا بداهة، ان يداً كريمة خالدة هي التي تعمل وتدير الامور.

فمثلاً: ان اكــساء الأشجــار جمـيعاً بحلل شبيـهة بالسـندس الخـضر - كأنها حور الجنة - وتزيينَها بمرصعات الازهار الجميلة والثمار اللطيفة، وتسخيرَها لخدمتنا بانتاجها ألطف الاثمار المتنوعة وألذها في نهايات اغصانها التي هي أيديها اللطيفة.. وتمكيننا من جني العسل اللذيذ - الذي فيه شفاء للناس - من حشرة سامة.. واِلباسَنا أجمل ثياب وألينها مما تحوكه حشرة بلا يد.. وادّخار خزينة رحمة عظيمة لنا في بذرة صغيرة جداً.. كل ذلك يرينا بداهةً كرماً في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.

وكذا، ان سعي جميع المخلوقات، صغيرها وكبيرها - عدا الانسان والوحوش الكاسرة - لإنجاز وظائفها بانتظام تام ودقة كاملة، ابتداءً من الشمس والقمر والارض الى اصغر مخلوق، بشكل لا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، ضمن الطاعة التامة والانقياد الكامل المحفوفَين بهيبة عظيمة، يظهر لنا ان هذه المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن الا بأمر العظيم ذي العزة والجلال.

وكذا، ان عناية الامهات بأولادهن الضعاف العاجزين - سواء في النبات أو الحيوان أو البشر - عناية ملؤها الرأفة والرحمة(1)، وتغذيتها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تريك عظمة التجليات، وسعة الرحمة المطلقة.

فما دام رب هذا العالم ومدبّره له هذا الكرم الواسع، وهذه الرحمة التي لا منتهى لها، وله الجلال والعزة المطلقان، وان العزة والجلال المطلقين يقتضيان تأديب المستخفين، والكرم الواسع المطلق يتطلب اِكراماً غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شئ تستدعي احساناً يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير الا جزء ضئيل جداً هو كقطرة من بحر.

فلابد ان تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. والا يلزم جحود هذه الرحمة المشهودة، بما هو كانكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهارَ، لأن الزوال الذي لا رجعة بعده يستلزم انتفاء حقيقة الرحمة من الوجود، بتبديله الشفقة مصيبةً، والمحبة حرقةً، والنعمة نقمةً واللذة ألماً، والعقل المحمود عضواً مشؤوماً.

وعليه فلابد من دار جزاء تناسب ذلك الجلال والعزة وتنسجم معها. لأنه غالباً ما يظل الظالمُ في عزته، والمظلومُ في ذلته وخنوعه، ثم يرحلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب.

فالامر اذن ليس اِهمالاً قط، وِان اُمهلَت الى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّل العقوبة في الدنيا. فانزال العذاب في القرون الغابرة بأقوام عصت وتمردت يبين لنا ان الانسان ليس متروكاً زمامه، يسرح وفق ما يملى عليه هواه، بل هو معرّض دائماً لصفعات ذي العزة والجلال.

نعم، ان هذا الانسان الذي انيط به - من بين جميع المخلوقات - مهام عظيمة، وزود باستعدادات فطرية كاملة، اِن لم يعرف ربه ((بالايمان)) بعد ان عرّف سبحانه نفسَه اليه بمخلوقاته البديعة المنتظمة.. وان لم ينل محبته بالتقرب اليه بـ ((العبادة)) بعد أن تحبب اليه سبحانه بنفسه وعرّفها اليه بما خلق له من الثمار المتنوعة الجميلة الدالة على رحمته الواسعة.. وان لم يقم بالتوقير والاجلال اللائقين به ((بالشكر والحمد)) بعد ان اظهر سبحانه محبته له ورحمته عليه بنعمه الكثيرة... نعم، اِن لم يعرف هذا الانسان ربه هكذا، فكيف يُترك سدى دون جزاء، ودون ان يعدّ له ذو العزة والجلال داراً للعقاب؟

وهل من الممكن ان لا يمنح ذلك الرب الرحيم دار ثوابٍ وسعادة ابدية، لأولئك المؤمنين الذين قابلوا تعريفَ ذاته سبحانه لهم بمعرفتهم اياه بـ ((الايمان)) ومحبته لهم، بالحب والتحبب له بـ ((العبادة))، ورحمته لهم بالاجلال والتوقير له بـ ((الشكر))؟

















الحقيقة الثالثة

باب الحكمة والعدالة

وهو تجلي اسم ((الحكيم والعادل))

أمن الممكن(1) لخالق ذي جلال أظهر سلطان ربوبيته بتدبير قانون الوجود ابتداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنظام وبمنتهى العدالة والميزان.. ان لا يعامل بالاحسان من احتموا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وان لا يجازي اولئك الذين عصوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمة والعدالة؟.

بينما الانسان لا يلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة الا نادراً، بل يؤخر، اذ يرحل اغلب أهل الضلالة دون ان يلقوا عقابهم، ويذهب اكثر اهل الهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فلابد ان تناط القضية بمحكمة عادلة، وبلقاءٍ آيل الى سعادة عظمى.

نعم، انه لواضح ان الذي يتصرف في هذا الكون انما يتصرف فيه بحكمة مطلقة. أفتطلب برهاناً على هذا؟.. فانظر الى رعايته سبحانه للمصالح والفوائد في كل شئ!.. ألا ترى ان اعضاء الانسان جميعاً سواء العظام منها أو العروق وحتى خلاياه الجسمية وكل جزء منه ومكان، قد روعيت فيه فوائد وحكم شتى، بل ان في اعضاء جسمه من الفوائد والاسرار بقدر ما تنتجه الشجرة الواحدة من الثمار، مما يدل على ان يد حكمة مطلقة تدير الامور. فضلاً عن التناسق البديع في صنعة كل شئ والانتظام الكامل فيها اللذان يدلان على ان الامور تؤدى بحكمة مطلقة.

نعم، ان تضمين الخطة الدقيقة لزهرة جميلة في بُذيرتها الصغيرة، وكتابة صحيفة اعمال شجـرة ضخمة وتاريخ حياتها وفهرس اجهـزتها، في نويّتـها بقلم القَدَر المعنوي.. يرينا بوضوح ان قلم حكمةٍ مطلقة هو الذي يتصرف في الأمر.. وكذا، وجود روعة الصنعة الجميلة وغاية حُسنها في خلقة كل شئ، يُظهر ان صانعاً حكيماً مطلقاً هو صاحب هذا الابداع وهذه النقوش..

نعم، ان ادراج فهرس الكائنات جميعاً، ومفاتيح خزائن الرحمة كافة ومرايا الاسماء الحسنى كلها، في هذا الجسم الصغير للانسان، لمما يدل على الحكمة البليغة في الصنعة البديعة.. فهل من الممكن لمثل هذه الحكمة المهيمنة على مثل هذه الاجراءات والشؤون الربانية ان لا تحسن معاملة أولئك الذين استظلوا بظلها وانقادوا لها بالايمان، وان لا تثيبهم اثابة أبدية خالدة؟.

وهل تريد برهاناً على انجاز الاعمال بالعدل والميزان؟

ان منح كل شئ وجوداً بموازين حساسة، وبمقاييس خاصة، وإلباسَه صورة معينة، ووضعَه في موضع ملائم.. يبيّن بوضوح ان الامور تسير وفق عدالة وميزان مطلقين.

وكذا، اعطاء كل ذي حق حقه وفق استعداده ومواهبه، أي اعطاء كل ما يلزم، وما هو ضروري لوجوده، وتوفير جميع ما يحتاج الى بقائه في افضل وضع، يدلّ على أن يد عدالة مطلقة هي التي تُسيّر الامور.

وكذا، الاستجابة المستمرة والدائمة لما يُسأل بلسان الاستعداد او الحاجة الفطرية، أو بلسان الاضطرار، تُظهر ان عدالةً مطلقة، وحكمة مطلقة هما اللتان تُجريان عجلة الوجود.

فالآن، هل من الممكن أن تهمل هذه العدالة وهذه الحكمة تلك الحاجة العظمى، حاجة البقاء لأسمى مخلوق وهو الانسان؟ في حين انهما تستجيبان لأدنى حاجة لأضعف مخلوق؟ فهل من الممكن ان تردّا أهم ما يرجوه الانسان واعظم ما يتمناه، وألاّ تصونا حشمة الربوبية وتتخلفا عن الاجابة لحقوق العباد؟.

غير ان الانسان الذي يقضي حياة قصيرة في هذه الدنيا الفانية لا ينال ولن ينال حقيقة مثل هذه العدالة. وانما تؤخّر الى محكمة كبرى. حيث تقتضي العدالة الحقة أن يلاقي هذا الانسان الصغير ثوابَه وعقابه لا على اساس صغره، بل على اساس ضخامة جنايته، وعلى اساس أهمية ماهيته، وعلى اساس عظمة مهمته.. وحيث ان هذه الدنيا العابرة بعيدة كل البعد عن أن تكون محلاً لمثل هذه العدالة والحكمة بما يخص هذا الانسان - المخلوق لحياة ابدية - فلابد من جنة أبدية، ومن جهنم دائمة للعادل الجليل ذي الجمال وللحكيم الجميل ذي الجلال.





الحقيقة الرابعة

باب الجود والجمال

وهو تجلي اسم ((الجواد والجميل))

أمن الممكن لجود وسخاء مطلقين، وثروة لا تنضب، وخزائن لا تنفد، وجمال سرمدي لا مثيل له، وكمال ابدي لا نقص فيه، ان لا يطلب دار سعادةٍ ومحل ضيافةٍ، يخلد فيه المحتاجون للجود، الشاكرون له، والمشتاقون الى الجمال، المعجبون به؟

ان تزيين وجه العالم بهذه المصنوعات الجميلة اللطيفة، وجعل الشمس سراجاً، والقمر نوراً، وسطح الارض مائدة للنعم، وملأها بألذ الأطعمة الشهية المتنوعة، وجعل الاشجار أواني وصحافاً تتجدد مراراً كل موسم.. كل ذلك يظهر سخاءً وجوداً لا حد لهما. فلابد ان يكون لمثل هذا الجود والسخاء المطلقين، ولمثل هذه الخزائن التي لا تنفد، ولمثل هذه الرحمة التي وسعت كل شئ، دارَ ضيافة دائمة، ومحل سعادة خالدة يحوي ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين وتستدعي قطعاً ان يخلد المتلذذون في تلك الدار، ويظلوا ملازمين لتلك السعادة ليبتعدوا عن الزوال والفراق، اذ كما ان زوال اللذة ألم فزوال الألم لذة كذلك، فمثل هذا السخاء يأبى الايذاء قطعاً.

أي ان الامر يقتضي وجود جنة أبدية، وخلود المحتاجين فيها؛ لأن الجود والسخاء المطلقين يتطلبان احساناً وانعاماً مطلقين، والاحسان والانعام غير المتناهيين يتطلبان تنعماً وامتناناً غير متناهيين، وهذا يقتضي خلود انعام مَن يستحق الاحسان اليه، كي يظهر شكره وامتنانه بتنعمه الدائم ازاء ذلك الانعام الدائم.. وإلا فاللذة اليسيرة - التي ينغّصها الزوال والفراق - في هذه الفترة الوجيزة لا يمكن أن تنسجم ومقتضى هذا الجود والسخاء.

ثم انظر الى معارض اقطار العالم التي هي مشهد من مشاهد الصنعة الإلهية، وتدبّر في ما تحمله النباتات والحيوانات على وجه الارض من اعلانات ربانية(1) وانصت الى الداعين الادلاء الى محاسن الربوبية وهم الانبياء عليهم السلام والاولياء الصالحون، كيف انهم يرشدون جميعاً الناس لمشاهدة كمال صنعة الصانع ذي الجلال بتشهيرهم صنعته البديعة ويلفتون انظارهم اليها.

اذن، فلصانع هذا العالم كمال فائق عظيم مثير للاعجاب، خفي مستتر، فهو يريد اظهاره بهذه المصنوعات البديعة، لأن الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الاعلان عنه على رؤوس اشهادٍ مقدّرين مستحسنين معجبين به. وان الكمال الدائم يقتضي ظهوراً دائماً، وهذا بدوره يستدعى دوام المستحسنين المعجبين، اذ المعجب الذي لا يدوم بقاؤه تسقط في نظره قيمة الكمال(2).

ثم ان هذه الموجودات العجيبة البديعة الدقيقة الرائعة المنتشرة في هذا الكون تدل بوضوح - كدلالة ضوء النهار على وجود الشمس - على محاسن الجمال المعنوي الذي لا مثيل له، وتريك كذلك لطائف الحسن الخفي الذي لا نظير له(3). وان تجلي ذلك الحُسن الباهر المنزّه، وذلك الجمال الزاهر المقدس يشير الى كنوز كثيرة خفية موجودة في الاسماء الحسنى، بل في كل اسم منها.

ومثلما يطلب هذا الجمال الخفي السامي الذي لا مثيل له، أن يرى محاسنه في مرآة عاكسة ويشهد قِيَم حُسنه ومقاييس جماله في مرآة ذات مشاعر وأشواق اليه، فانه يريد الظهور والتجلي ليرى جماله المحبوب ايضاً بأنظار الآخرين. أي أن النظر الى جمال ذاته يستدعي أن يكون من جهتين:



الاولى: مشاهدة الجمال بالذات في المرايا المختلفة المتعددة الالوان.

والاخرى: مشاهدة الجمال بنظر المشاهدين المشتاقين المعجبين المستحسنين.

أي أن الجمال والحسن يقتضيان الشهود والإشهاد (الرؤية والاراءة) وهذا الشهود والإشهاد يستلزمان وجود المشاهدين المشتاقين والمستحسنين المعجبين.. ولما كان الجمال والحسن خالدَين سرمديين فانهما يقتضيان خلود المشتاقين وديمومتهم. لأن الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل. لذا فالمشاهد الذي يشعر بالزوال - وقضى على نفسه بعدم العودة الى الحياة - تتحول بمجرد تصوره الزوال محبته عداءً، واعجابه استخفافاً، واحترامه اهانةً، لأن الشخص الاناني مثلما يعادي مايجهله يعادي ما لا تصل اليه يده ايضاً، فيضمر عداءً وحقداً وانكاراً لذلك الجمال الذي ينبغي ان يقابَل بما يستحقه من محبة بلا نهاية وشوق بلا غاية واِعجاب بلا حدّ. ومن هذا يُفهم سرّ كون الكافر عدواً لله سبحانه وتعالى.

ولما كان ذلك الجود في العطاء غير المحدود، وذلك الحسن في الجمال الذي لا مثيل له، وذلك الكمال الذي لا نقص فيه.. يقتضي خلود الشاكرين، وبقاء المشتاقين المستحسنين، ونحن نشاهد رحلة كل شخص واختفاءه بسرعة في دار ضيافة الدنيا هذه، دون أن يستمتع باحسان ذلك السخاء اِلا نزراً يسيراً بما يفتح شهيته فقط، ودون أن يرى من نور ذلك الجمال والكمال اِلاّ لمحة خاطفة. اذن الرحلة منطلقة نحو متنزهات خالدة ومَشاهدَ أبدية.

الخلاصة: مثلما أن هذا العالم يدل بموجوداته دلالة قاطعة يقيناً على صانعه الكريم ذي الجلال، فصفاته المقدسة سبحانه واسماؤه الحسنى تدل كذلك على الدار الآخرة بلا ريب وتظهرها، بل تقتضيها.





الحقيقة الخامسة

باب الشفقة وعبودية محمدe

وهو تجلي اسم ((المجيب والرَّحيم))

أمن الممكن لرب ذي رحمة واسعة وشفقة غير متناهية يبصر أخفى حاجة لأدنى مخلوق، ويسعفه من حيث لا يحتسب برأفة غير متناهية ورحمة سابغة، ويسمع أخفت صوت لأخفى مخلوق فيغيثه، ويجيب كل داعٍ بلسان الحال والمقال، أمن الممكن الا يقضى هذا الرب المجيب الرحيم أهم حاجة لأعظم عباده(1) وأحب خلقه اليه، ولا يسعفه بما يرجوه منه؟

فحُسن تربية صغار الحيوانات وضعافها، واعاشتها بسهولة ولطف ظاهريين ترياننا ان مالك هذه الكائنات يسيّرها بربوبية لا حدّ لرحمتها. فهل يعقل لهذه الربوبية المتصفة بكمال الشفقة والرأفة الاّ تستجيب لأجمل دعاء لأفضل مخلوق؟..

وكما بينتُ هذه الحقيقة في ((الكلمة التاسعة عشرة)) أعيد بيانها هنا:

فيا صديقي الذي يسمعني مع نفسي! لقد ذكرنا في الحكاية: ان هناك اجتماعاً في جزيرة، وان مبعوثاً كريماً يرتجل خطبة هناك، فحقيقة ما أشارت اليه الحكاية هي ما يأتي:

تعال! لنتجرد من قيود الزمان، ولنذهب بأفكارنا الى عصر النبوة، وبخيالنا الى تلك الجزيرة العربية كي نحظى بزيارته e ، وهو يزاول وظيفته بكامل عبوديته. انظر! كيف انه سبب السعادة بما اتى به من رسالة وهداية، فانه e هو الداعي لايجاد تلك السعادة وخلق الجنة بدعائه وبعبوديته.

انظر الى هذا النبي الكريم إلامَ يدعو.. انه يدعو الى السعادة الابدية في صلاة كبرى شاملة، وفي عبادة رفيعة مسـتغرقة، حتى أن الجـزيرة العـربيـة، بل الارض برمّتها، كأنها تصلي مع صلاته، وتبتهل الى الله بابتهاله الجميل، ذلك لأن عبوديتهe تتضمن عبودية جميع أمته الذين اتبعوه، كما تتضمن - بسـر الموافـقة في الاصـول - سرّ العبودية لجميع الانبياء عليهم السـلام. فهو يؤم صلاة كبــرى - ايّما صلاة - ويتضرع بدعاء - ويا له من تضــرع رقيق - فــي خـلـق عظـيـم، كـأن الـذين تنوروا بنور الايمان - من لدن آدم عليه السلام الى الآن والى يوم القيامة - اقتدوا به، وأمّنوا على دعائه(1).

انظر! كيف يدعو الله حاجة عامة كحاجة البقاء والخلود!. هذه الدعوة التي لا يشترك فيها معه أهل الارض وحدهم، بل أهل السموات ايضاً، لا بل الموجودات كافة. فتقول بلسان الحال: ((آمين اللهم آمين استجب يا ربنا دعاءه، فنحن نتوسل بك ونتضرع اليك مثله)).

ثم انظر! انه يسأل تلك السعادة والخلود بكل رقة وحزن، وبكل حب وود، وبكل شوق والحاح، وبكل تضرع ورجاء، يُحزن الكون جميعاً ويبكيه فيُسهمه في الدعاء.

ثم انظر وتأمل! انه يدعو طالباً السعادة لقصد عظيم، ولغاية سامية.. يطلبها لينقذ الانسان والمخلوقات جميعاً من التردي الى هاوية أسفل سافلين وهو الفناء المطلق والضياع والعبث، ويرفعه الى أعلى عليين وهو الرفعة والبقاء وتقلّد الواجبات وتسلّم المسؤوليات، ليكون أهلاً لها ويرقى الى مرتبة مكاتيب صمدانية.

انظر! كيف انه يطلب الاستعانة مستغيثاً ببكاء، متضرعاً راجياً من الاعماق، متوسلاً بإلحاح.. حتى كأنه يُسمع الموجودات جميعاً، بل السموات، بل العرش، فيهزّهم وجداً وشوقاً الى دعائه ويجعلهم يرددون: آمين اللّهم آمين(2).

وانظر! انه يسأل السعادة والبقاء الابدي، ويرجوهما من قدير سميع كريم، ومن عليم بصير رحيم يرى ويسمع أخفى حاجة لأضعف مخلوق فيتداركه برحمته، ويستجيب له، حتى إن كان دعاءً بلسان الحال.

نعم، انه يستجيب له ببصيرة ورحمة ويغيثه بحكمة، مما ينقي أية شبهةٌ بأن تلك الرعاية الفائقة ليست الاّ من لدن سميع بصير، وان ذلك التدبير الدقيق ليس اِلاّ من عند كريم رحيم.

نعم، ان الذي يقود جميع بنى آدم على هذه الارض متوجهاً الى العرش الاعظم، رافعاً يديه، داعياً بدعاء شامل لحقيقة العبودية الأحمدية التي هي خلاصة عبودية البشرية.. تُرى ماذا يريد؟ ماذا يريد شرف الانسانية، وفخر الكائنات، وفريد الازمان والاكوان؟!. لننصت اليه.. انه يسأل السعادة الابدية لنفسه ولأمته، انه يسأل الخلود في دار البقاء، انه يسأل الجنة ونعيمها.. نعم، يسألها ويرجوها مع تلك الاسماء الإلهية المتجلية بجمالها في مرآة الموجودات.. انه يستشفع تلك الاسماء الحسنى كما ترى.

أرأيت ان لم يكن شئ من اسباب موجبة لا تعد ولا تحصى للآخرة ولا شئ من دلائل وجودها، أليس دعاء واحد من هذا النبي الكريم e سبباً كافياً لايجاد الجنة(1) التي هي سهلة على قدرة خالقنا الرحيم، كسهولة اعادة الحياة الى الارض في ايام الربيع؟.

نعم، ان الذي جعل سطح الارض في الربيع مثالاً للحشر، فاوجد فيه مائة نموذج من نماذجه بقدرته المطلقة، كيف يصعب عليه ايجاد الجنة؟.. اذن فكما كانت رسالته e سبباً لايجاد دار الامتحان هذه، وصارت بياناً وايضاحاً لسر ((لَوْلاَك لَوْلاَكَ لَمَا خَلَقْتُ الافْلاَكَ))(2) فان عبوديته كذلك اصبحت سبباً لخلق تلك الدار السعيدة الابدية.

فهل من الممكن يا ترى لانتظام العالم البديع الذي حيّر العقول والصنعة المتقنة وجمال الربوبية الشاملة في اطار رحمته الواسعة، ان يقبل قبحاً فظيعاً وظلماً شنيعاً وفوضى ضاربة اطنابها، بعدم استجابة ذلك الدعاء أي أن لا يراعي ولا يسمع ولا ينجز اكثر الرغبات اهمية، واشدها ضرورة في حين انه يراعي باهتمام بالغ ابسط الرغبات وأصغرها، ويسمع أخفت الاصوات وادقها ويقضي لكل ذي حاجة حاجته! كلا ثم كلا الف ألف مرة، ان مثل هذا الجمال يأبى التشوه ولن يكون قبيحاً(1).

فالرسول e اذن يفتح بعبوديته باب الآخرة مثلما فتح برسالته باب الدنيا.

عليه صلوات الرحمن ملء الدنيا ودار الجنان.

اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك، ذلك الحبيب الذي هو سيد الكونين، وفخر العالمين، وحياة الدارين، ووسيلة السعادتين، وذو الجناحين، ورسول الثقلين وعلى آله وصحبه اجمعين، وعلى اخوانه من النبيين والمرسلين. آمين.





الحقيقة السادسة

باب العظمة والسرمدية

وهو تجلي اسم ((الجليل والباقي))

أمن الممكن لرب جليل يدير الموجودات ويسخّرها من الشموس الى الاشجار والى الذرات والى ما هو اصغر منها، كأنها جنود مجندة، أن يقصر نشر سلطانه على مساكين فانين يقضون حياة مؤقتة في دار ضيافة الدنيا هذه ولا ينشئ مقراً سامياً سرمدياً ومدار ربوبية جليلة باقية له؟!

ان ما نشاهده في هذا الكون من الاجراءات الجليلة الضخمة امثال تبدل المواسم.. ومن التصرفات العظيمة امثال تسيير النجوم.. ومن التسخيرات المدهشة امثال جعل الارض مهاداً والشمس سراجاً.. ومن التحولات الواسعة امثال اِحياء الأرض وتزيينها بعد جفافها وموتها.. ليبيّن لنا بجلاء ان وراء الحجاب ربوبية جليلة عظيمة تحكم وتُهيمن بسلطانها الجليل. فمثل هذه السلطنة الربانية تستدعي رعايا يليقون بها، ومظاهر تناسبها. بينما ترى ان مَن لهم افضل المزايا وأجمعها من الرعايا والعباد قد اجتمعوا مؤقتاً منهوكين في مضيف الدنيا، والمضيف نفسه يملأ ويفرغ يومياً، والرعايا لا يلبثون فيه اِلاّ بمقدار أداء تجربة مهماتهم في ميدان الاختبار هذا. والميدان نفسه يتبدل كل ساعة. فالرعايا يقفون دقائق معدودة لرؤية ما في معارض سوق العالم من نماذج الآلاء الثمينة للخالق ذي الجلال، ومشاهدين - لأجل التجارة - بدائع صنعه سبحانه في هذا المعرض الهائل، ومن ثم يغيبون، والمعرض نفسه يتبدل ويتغير كل دقيقة!. فمَن يرحل فلا عودةََ له، والقابل راحل. فهذا الوضع يبين بوضوح وبشكل قاطع ان وراء هذا المضيف الفاني، وخلف هذا الميدان المتغير، وبعد هذا المعرض المتبدل، قصوراً دائمة تليق بالسلطنة السرمدية، ومساكن ابدية ذات جنان، وخزائن ملأى بالأصول الخالصة الراقية للنماذج التي نراها في الدنيا؛ لذا فالدأب والسعي هنا انما هو للتطلع الى ما هناك.. والاستخدام هنا لقبض الاجرة هناك. فلكلٍ حسب استعداده واجتهاده سعادة وافرة ان لم يفقدها.

نعم، انه محال ان تظل مثل هذه السلطنة السرمدية مقصورة على هؤلاء الفانين الاذلاء..

فانظر الى هذه الحقيقة من خلال منظار هذا المثال:

هب انك تسير في طريق، وتشاهد أن عليها (فندقاً فخماً) بناه ملك عظيم لضيوفه، وهو ينفق مبالغ طائلة لتزيينه وتجميله كي يُدخل البهجة في قلوب ضيوفه، ويعتبروا بما يرون. بيد أن اولئك الضيوف لا يتفرجون الا على أقل القليل من تلك التزيينات، ولا يذوقون الا أقل القليل من تلك النعم، حيث لا يلبثون الا قليلاً ومن ثم يغادرون الفندق دون ان يرتووا ويشبعوا. سوى ما يلتقطون من صور أشياء في الفندق بما يملكون من آلة تصــوير وكـذلك يفـعل عمال صاحب الفندق وخدامه حيث يلتقطون حركات هؤلاء النــزلاء وسكنــاتهم بكل دقة وأمــانة ويســجلونها. فهــا أنت ذا ترى ان الملك يهدّم يومياً اغلب تلك التزيينات النفيسة، مجدداً اِياها بأخرى جديدة للضيوف الجدد. أفبعد هذا يبقى لديك شك في مَن بنى هذا الفـندق على قارعة هذه الطريق يملك قصوراً دائمة عالية، وله خزائن زاخرة ثمينة لا تنفد، وهو ذو سخاء دائم لا ينقطع. وان ما يبديه من الكرم في هذا الفندق هو لإثارة شهية ضيوفه الى ما عنده من اشياء، ولتنبيه رغباتهم وتحريكها لما أعدّ لهم من هدايا؟.

فان تأملت من خلال هذا المثال في أحوال فندق الدنيا هذه، وانعمت النظر فيها بوعي تام فستفهم الاسس التسعة الآتية:



الاساس الاول:

انك ستفهم ان هذه الدنيا - الشبيهة بذلك الفندق - ليست لذاتها. فمحال أن تتخذ لنفسها بنفسها هذه الصورة والهيئة. وانما هي دار ضيافة تملأ وتفرغ، ومنزل حلّ وترحال، أنشئت بحكمة لقافلة الموجودات والمخلوقات.



الأساس الثاني:

وستفهم ان ساكني هذا الفندق هم ضيوف مسافرون، وان ربهم الكريم يدعوهم الى دار السلام.



الاساس الثالث:

وستفهم ان التزيينات في هذه الدنيا ليست لأجل التلذذ والتمتع فحسب، اذ لو اذاقتك اللذة ساعة، اذاقتك الالم بفراقها ساعات وساعات، فهي تذيقك مثيرة شهيتك دون ان تشبعك، لقصر عمرها أو لقصر عمرك، اذ لا يكفي للشبع.

اذن فهذه الزينة الغالية الثمن والقصيرة العمر هي للعبرة(1)، وللشكر، وللحض على الوصول الى تناول اصولها الدائمة، ولغايات اخرى سامية.

الاساس الرابع:

وستفهم ان هذه الزينة في الدنيا(1) بمثابة صور ونماذج للنعم المدّخرة لدى الرحمة الإلهية في الجنة للمؤمنين.

الاساس الخامس:

وستفهم ان هذه المصنوعات الفانية ليست للفناء، ولم تخلق لتشاهَد حيناً ثم تذهب هباءً، وانما اجتمعت هنا، واخذت مكانها المطلوب لفترة قصيرة كي تُلتقط صورها، وتُفهم معانيها، وتُدوّن نتائجها، ولتُنسج لأهل الخلود مناظر أبدية دائمة ولتكون مداراً لغايات اخرى في عالم البقاء.

ويفهم من المثال الآتي، كيف ان هذه الاشياء لم تخلق للفناء بل للبقاء، بل ان فناءها الظاهري ليس اِلاّ اطلاقاً لسراحها بعدما انهت مهامّها، وكيف أن الشئ يفنى من جهة الا انه يبقى من جهات كثيرة:

تأمل في هذه الزهرة - وهي كلمة من كلمات القدرة الإلهية - انها تنظر الينا مبتسمة لنا لفترة قصيرة، ثم تختفي وراء ستار الفناء. فهي كالكلمة التي نتفوه بها، التي تودع آلافاً من مثيلاتها في الآذان وتبقى معانيها بعدد العقول المنصتة لها، وتمضي بعد أن أدت وظيفتها، وهي افادة المعنى. فالزهرة ايضاً ترحل بعد أن تودع في ذاكرة كل من شاهدها صورتها الظاهرة، وبعد ان تودع في بذيراتها ماهيتها المعنوية، فكأن كل ذاكرة وكل بذرة، بمثابة صور فوتوغرافية لحفظ جمالها وصورتها وزينتها، ومحل اِدامة بقائها.

فلئن كان المصنوع وهو في أدنى مراتب الحياة يعامل مثل هذه المعاملة للبقاء، فما بالك بالانسان الذي هو في أسمى طبقات الحياة، والذي يملك روحاً باقية، ألا يكون مرتبطاً بالبقاء والخلود؟ ولئن كانت صورة النبات المزهر المثمر، وقانون تركيبه – الشبيه جزئياً بالروح – باقية ومحفوظة في بُذيراتها بكل انتظام، في خضم التقلبات الكثيرة، أفلا يُفهم كم تكون روح الانسان باقية، وكم تكون مشدودة مع الخلود، علماً انها قانون أمري، وذات شعور نوراني، تملك ماهية راقية، وذات حياة، وذات خصائص جامعة شاملة، وقد اُلبست وجوداً خارجياً؟!



الاساس السادس:

وستفهم ان الانسان لم يترك حبله على غاربه، ولم يترك طليقاً ليرتع اينما يريد، بل تُسجّل جميع اعماله وتُلتقط صورها، وتدوّن جميع أفعاله ليحاسب عليها.



الاساس السابع:

وستفهم أن الموت والاندثار الذي يصيب في الخريف مخلوقات الربيع والصيف الجميلة، ليس فناءً نهائياً، واعداماً أبدياً، وانما هو اعفاء من وظائفها بعد اكمالها وإيفائها، وتسريح منها(1)، وهو افساح مجالٍ وتخليةُ مكانٍ لما سيأتي في الربيع الجديد من مخلوقات جديدة. فهو تهيؤ وتهيأة لما سيحل من الموجودات المأمورة الجديدة.

وهو تنبيه رباني لذوي المشاعر الذين أنسَتهم الغفلة مهامهم، ومنعهم السُكر عن الشكر.



الاساس الثامن:

وستفهم ان الصانع السرمدي لهذا العالم الفاني له عالم غير هذا، وهو عالم باقٍ خالد، ويشوّق عباده اليه، ويسوقهم اليه.



الاساس التاسع:

وستفهم ان الرحمن الرحيم جل جلاله سوف يكرم في ذلك العالم الفسيح عباده المخلصين بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. آمنا.



الحقيقة السابعة

باب الحفظ والحفيظية

وهو تجلي اسم ((الحفيظ والرَّقيب))

أمن الممكن لحفيظ ورقيب يحفظ بانتظام وميزان ما في السماء والارض، وما في البر والبحر، من رطب ويابس فلا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً الا احصاها، ان لا يحافظ ولا يراقب اعمال الانسان الذي يملك فطرة سامية، ويشغل رتبة الخلافة في الارض، ويحمل مهمة الامانة الكبرى؟. فهل يمكن ان لا يحافظ على افعاله التي تمس الربوبية؟ ولا يفرزها بالمحاسبة؟ ولا يزنها بميزان العدالة؟ ولا يجازي فاعلها بما

نعم، ان الذي يدير امر هذا الكون هو الذي يحافظ على كل شئ فيه ضمن نظام وميزان. والنظام والميزان هما مظهران من مظاهر العلم والحكمة مع الارادة والقدرة، لاننا نُشاهد أن أيّ مصنوع كان لم يُخلق ولا يُخلق اِلاّ في غاية الانتظام والميزان، وان الصور التي يغيّرها طوال حياته في انتظام دقيق كما أن مجموعها ايضاً ضمن نظام متقن محكم. ونرى ايضاً ان الحفيظ ذا الجلال يحفظ صور كل شئ حالما يختم عمره مع انتهاء وظيفته ويرحل من عالم الشهادة، يحفظها سبحانه في الاذهان التي هي أشبه ما تكون بالالواح المحفوظة(1) وفي ما تشبه بمرايا مثالية، فيكتب معظم تاريخ حياته في بذوره وينقشه نقشاً في ثماره، فيديم حياته ويحفظها في مرايا ظاهرة وباطنة..فذاكرة البشر، وثمر الشجر، ونواة الثمر، وبذر الزهر.. كل ذلك يبين عظمة احاطة الحفيظية.

ألا ترى كيف يُحافَظ على كل شئ مزهر ومثمر في الربيع الشاسع العظيم، وكيف يُحافظ على جميع صحائف اعماله الخاصة به، وعلى جميع قوانين تركيبه ونماذج صوره، كتابةً في عدد محدود من البُذيرات. حتى اذا ما أقبل الربيع تُنشر تلك الصحائف وفق حساب دقيق يناسبها فيخرج الى الوجود ربيعاً هائلاً في غاية الانتظام والحكمة؟ ألا يبين هذا مدى نفوذ الحفظ والرقابة، ومدى قوة احاطتهما الشاملة؟ فلئن كان الحفظ الى هذا الحد من الاتقان والاحاطة فيما لا أهمية له وفي أشياء مؤقتة عادية، فهل يُعقل عدم الاحتفاظ بأعمال البشر، التي لها ثمار مهمة في عالم الغيب وعالم الآخرة وعالم الأرواح، ولدى الربوبية المطلقة؟! فهل يمكن اهمالها وعدم تدوينها؟ حاش لله...

نعم، يفهم من تجلي هذه الحفيظية، وعلى هذه الصورة الواضحة، ان لمالك هذه الموجودات عناية بالغة لتسجيل كل شئ وحفظه، وضبطِ كل ما يجري في ملكه، وله منتهى الرعاية في حاكميته، ومنتهى العناية في سلطنة ربوبيته، بحيث انه يكتب ويستكتب أدنى حادثة وأهون عمل محتفظاً بصور كل ما يجري في ملكه في محافظَ كثيرة. فهذه المحافظة الواسعة الدقيقة تدل على انه سيُفتح بلاشك سجلٌ لمحاسبة الاعمال، ولاسيما لهذا المخلوق المكرّم والمعزّز والمفطور على مزايا عظيمة، ألا وهو الانسان. فلابدّ ان تدخل اعماله التي هي عظيمة، وافعاله التي هي مهمة ضمن ميزان حساس ومحاسبة دقيقة، ولابد ان تُنشر صحائف اعماله.

فيا ترى هل يقبل عقل بأن يُترك هذا الانسان الذي أصبح مكرّماً بالخلافة والامانة، والذي ارتقى الى مرتبة القائد والشاهد على المخلوقات، بتدخله في شؤون عبادة أغلب المخلوقات وتسبيحاته باعلانه الوحدانية في ميادين المخلوقات الكثيرة وشهوده شؤون الربوبية الكلية.. فهل يمكن ان يُترك هذا الانسان، يذهب الى القبر لينام هادئاً دون أن ينبّه ليُسأل عن كل صغيرة وكبيرة من اعماله، ودون ان يُساق الى المحشر ليحاكم في المحكمة الكبرى؟ كلاّ ثم كلاّ!.

وكيف يمكن ان يذهب هذا الانسان الى العدم، وكيف يمكن ان يتوارى في التراب فيفلت من يد القدير ذي الجلال الذي تشهد جميع الوقائع التي هي معجزات قدرته في الازمنة الغابرة على قدرته العظيمة لما سيحدث من الممكنات في الازمنة(1) الآتية. تلك القدرة التي تحدث الشتاء والربيع الشبيهين بالقيامة والحشر؟ ولما كان الانسان لا يحاسَب في هذه الدنيا حساباً يستحقه، فلابدّ انه سيذهب يوماً الى محكمة كبرى وسعادة عظمى.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عاتب نفسك بهذه الكلمات هبة الله المواضيع الاسلامية 5 09-01-2010 11:05 PM
عاتب نفسك بهذه الكلمات عبدالرحمن الحسيني السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 1 06-21-2010 01:11 PM
كلمات فوق الكلمات عبدالقادر حمود القسم العام 8 01-09-2009 01:58 PM
كلمات ليست كا الكلمات بنت الاسلام القسم العام 11 10-27-2008 10:48 AM


الساعة الآن 10:05 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir