أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ِ وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ


المثنوي العربي النوري - ص: 385
الرسالة الحادية عشرة
شُعْلَةٌ
من أنوار شمس القرآن
1


_____________________
1 طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة "نجم استقبال" باستانبول سنة 1342هـ (1923م).




المثنوي العربي النوري - ص: 386
اعلم! ان الفاطر الحكيم انما ركّب في وجودك هذه الحواس، والحسيات، والجهازات لإحساس انواع نِعَمه. ولإذاقة اقسام تجليات أسمائه.
فما غايات حياتك، وما حقوقها؛ الا اظهارك لآثار تجليات اسمائه، وتشهير غرائبها لدى انظار المخلوقات..
وما انسانيتك؛ الا شعورك بهذه الوظيفة.
وما اسلاميتك؛ الا اذعانك بهذه المظهرية.


المثنوي العربي النوري - ص: 387
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد من الله.. وبالله.. وعلى الله.. لله.. كما يليق بالله.. الحمد لله على "الحمد لله" بدور يدور بأنابيب في تسلسل وبتسلسل يتسلسل في دور دائرٍ بلا نهاية.
اللّهم انا نقدم اليك بين يَدي كل نعمةٍ ورحمةٍ، وبين يدي كلِّ عنايةٍ وحكمةٍ، وبين يدي كلِّ حياة ومماتٍ، وبين يدي كلِّ حيوانٍ ونباتٍ، وبين يدي كلِّ زهرةٍ وثمرةٍ، وبين يدي كلِّ صنعةٍ وصبغةٍ، وبين يدي كلِّ نظامٍ وميزانٍ، وبين يدي كلِّ سكونٍ وحركة في ذرات العالم ومركباتها شهادةً نشهد ان لا اله الاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، بيده الخير، وهو على كلِّ شئ قدير.. ونشهد انّ محمداً عبده ونبيه وحبيبه ورسوله أرسله رحمةً للعالمين.
اللهمَّ صلِّ على محمد بحر انوارك، ومعدن اسرارك، وشمس هدايتك، وعين عنايتك، ولسان حجّتكَ، ومليك صنع قدرتك، ومثال محبتك، وتمثال رحمتك، واحبّ الخلق اليك، وعلى سائر الانبياء و المرسلين، وعلى آل كلٍ وصحبِ كلٍ اجمعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى عبادك الصالحين من اهل السموات والارضين، برحمتك يا ارحم الراحمين.
سبحانك يا مَن يُسبح بحمدك هذا العالم بلسان محمد عليه افضل صلواتك واتم تسليماتك.
سبحانك يامن تسبح لك الدنيا بآثار محمد عليه أنمى بركاتك.
سبحانك يامن تسبح بحمدك الارض ساجدةً تحت عرش عظمتك بلسان محمدها عليه ازكى تحياتك.
سبحانك يامن يُسبح لك المؤمنون والمؤمنات بلسان محمدهم عليه صلواتك ابدا سرمدا.
سبحانك اسبّحك بلسان حبيبك محمد عليه اكمل صلاتك واجمل سلامك، فتقبل مني برحمتك كما تقبلته منه.


المثنوي العربي النوري - ص: 388
اعلم! ان عظمة وسعةِ عموم آية (تُسَبّحُ لَهُ السَّمــواتُ السَّبْعُ والأرضُ ومَن فيهِنَّ وانْ من شَىءٍ الاّ يُسبّحُ بحَمْده) 1 اقتضتْ تفسيراً، فتوجهتُ اليها فترشحتْ متقطرةً منها في قلبي كلماتٌ مفسرات لها، وسلّم مرقاةٍ للصعود اليها. فهي منها واليها. فان احببت ان ترشُف تلك القطرات المفسّرات المترشحات من عمان تلك الآية، والنازلات من سموات عظمتها، فاستمع بقلب شهيد ما سيأتي واقرأ معي هذا:
سبحانك ما عرفناك - نحن معاشر البشر - حقَّ معرفتك يا معروفُ، بمعجزات جميع مصنوعاتك وبتوصيفات جميع مخلوقاتك، وبتعريفات جميع موجوداتك..
سبحانك ما اعظمَ سلطانَك واوضحَ برهانَك!.
سبحانك ما ذكرناك حق ذكرَك يامذكورُ، بألسنة جميع مخلوقاتك، وبذوات جميع مصنوعاتك، وبأنفس جميع كلمات كتاب كائناتك..
سبحانك ما أجلّ ذكرك!.
سبحانك ما شكرناك حقّ شكرك يا مشكورُ، بأثنية جميع احساناتك على أنظار ذوي البصائر، وباعلانات جميع نِعَمك في سوق الكائنات على رؤس الاشهاد، وبشهادات نشائد جميع ثمرات رحمتك المُفْرغة تلك الثمرات في قوالب النظام والميزان..
سبحانك ما اوسعَ رحمتَك!.
سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا معبودَ جميع ملائكتك وجميع مخلوقاتك بجميع انواع العبادات واصناف التمجيدات.
سبحانك ما سبّحناك حق تسبيحك يا مَن
(تُسَبّحُ لَهُ السَمــوات السَبْعُ والأرضُ ومَن فيهن وانْ مِنْ شَئ الاَّيُسَبّحُ بحمده).. آمنا.. نعم..
سبحانك يامن تُسبّحُ لك الملائكة باجناسها المتفاوتة، بألسنتها المختلفة، بأذكارها المتنوعة.
_____________________
1 الاسراء : 44



المثنوي العربي النوري - ص: 389
سبحانك يامن تُسبح لك هذه الكائناتُ بافواه عوالمها، واركان عوالمها، واعضاء اركانها، واجزاء اعضائها، وجزئيات انواعها، وحجيرات جزئياتها، وبفويهات ذراتها واثير ذراتها؛ بألسنة نظاماتها الحكيمة، وموازينها العالية، واحوالها المنظومة، وكيفياتها الموزونة بصُنعك الحكيم.
سبحانك يامن تُسبِّح بحمدك الجنة بافواه بساتينها بنشائد هي: حورُها وقصائد قصورها، ومنظومات اشجارها، ومتشابهات ثمراتها الموزونة.. كما تسبح لك اشباهُها هنا في ضرّتها.
سبحانك يامن يقلّب الليل والنهار وسخر الشمس والقمر، تسبح لك هذه السموات، بمنظومات بروجها، بافواه شموسها بكلمات نجومها، بلسان نظامها في ميزانها، وانتظامها في زينتها، وتلألئها في حشمتها، وانقيادها في مسخريتها، وسكونتها في سكوتها، وحكمتها في حركاتها.
سبحانك يا من تُسبِّح لك طبقاتُ الجو بافواه رعودها وبروقها ورياحها وسحابها وشهابها وامطارها، بكلمات لمعاتها وقطراتها، بلسان نظامها في ميزانها في غاياتها وثمراتها.
سبحانك يا مَنْ تُسبِّح لك الارضُ ساجدة لعظمة قدرتك بمحمدها وقرآنها، بافواه بحورها وجبالها وانهارها واشجارها، وباصوات واهتزازات صوتية - هما حيواناتها ونباتاتها - وبكلمات نورانية وحروف نورية - هما أنبياؤها وأولياؤها - بلسان نظامها وميزانها وحياتها ومماتها، وفقرها ويبسها، وتبرجها وتزينها بأذنك الكريم وصُنعك الحكيم.
سبحانك يا من تسبح لك البحورُ بكلمات - هي: عجائبُ مخلوقاتها.. وبمنظومات نغماتها بلسان نظامها وميزانها وحكمتها وغاياتها.
سبحانك يامَن جعل الارض مهاداً والجبال أوتادا. تسبح لك الجبال بافواه عيونها وانهارها واشجارها، بلسان نظاماتها وموازينها وغاياتها ومخازنها.
سبحانك يامن جعل من الماء كل شئ حي. ويامن تسبح لك الحيوانات بافواه حواسها وحسياتها وجهازاتها واعضائها وصنعتها وصبغتها وعقولها وقلوبها، بألسنة


المثنوي العربي النوري - ص: 390
نظاماتها وموازينها، وبأسئلة استعداداتها واحتياجاتها ودعواتها وتنعماتها، في اوطارها، وتقلباتها في اطوارها وحياتها ومماتها.
سبحانك يا مَن تسبح بحمدك الهوامُ في الهواء عند دورانها بزمزمة هَزَجاتها بشكرك، والطيورُ في اوكارها مع افراخها بسجعاتها ونغماتها شكراً لك، بلسان نظامهما وميزانهما، وصنعتهما ونقوشهما وزينتهما كما تناديان على إحسانك، وتصيحان على نعمتك بأظهار شكرك في وقت تلذذاتهما بثمرات نعمتك، وتنعماتهما بآثار رحمتك.. كما تسبح بحمدك الحشرات في قرارها بدمدمتها، والوحوش في قفارها بغمغمتها بألسنة نظاماتهما وموازينهما وصورهما واشكالهما وتنعماتهما الكريمة وتقلباتهما الحكيمة..
سبحانك ما الطف صنعَك وما انفذ حكمك!
سبحانك يا مَنْ تُسبح لك الاشجارُ صريحاً بغاية الوضوح عند انفتاح اكمامها، وتزايد اوراقها، وتكامل ثمارها، ورقص بناتها على ايادي اغصانها؛ بافواه اوراقها الخضرة، وازهارها المتبسمة، واثمارها الضاحكة بلسان نظاماتها وميزانها وطعومها اللذيذة، والوانها الجميلة، وروائحها اللطيفة، ونقوشها المستحسنة، وزينتها المستملحة.. كما تمجّدك وتنادي على كمال رأفتك، وتصف تجليات صفاتك، وتُعرّف جلوات اسمائك، وتفسر تحببك، وسياستك لمصنوعاتك؛ بما يترشح من شفاه ثمارها من قطرات لمعات جلوات تحبُّبك وتعهّدك لمخلوقاتك..
سبحانك ما ألطف برهانك في احسانك، وازين لُطفك في توددك!.
سبحانك يا من تسبح لك النباتاتُ بكمال الوضوح والبيان عند تنوّر ازهارها، وتبسّم بناتها، وانكشاف اكمامها واشتداد حبوبها، بافواه ازاهيرها وسنابلها بكلمات حباتها المنظومة وبذورها الموزونة بلسان نظامها الارق وميزانها الادق.. كما تمجّدك وتعرّفك وتشفّ عن وجه تحببك، وتصف صفاتك وتذكر اسماءك وتفسر توددك وتعرفك الى عبادك؛ بما يتقطر من عيون ازاهيرها واسنان سنابلها، من رشحات جلوات توددك وتعرفك الى مخلوقاتك..
سبحانك ما الطف برهانك وما اَنوَرَه وما احلاه وما ازينه!.


المثنوي العربي النوري - ص: 391
سبحانك يا من اَنْزَل الحَديد فيه بَأس شَديد ومَنافع للناس، تسبِّح لك المعادنُ بانواعها واجناسها واشكالها وخواصها وخاصياتها وفوائدها ونقوشها وتزييناتها، بلسان نظاماتها المرصوصة وموازينها المخصوصة.
سبحانك يا من تسبح لك العناصرُ باجتماعاتها المنتظمة بامرك وقدرتك، وتركباتها الموزونة باذنك وصنعك الحكيم.
سبحانك يا من تسبح لك الذراتُ بفويهات تعيناتها ووظائفها بألسنة نظاماتها وموازينها، وعجزها المطلق في ذاتها مع حملها - بحولك - وظائف عظيمة، كما تشهد كلُ ذرة منها على وجوب وجودك بلسان عجزها بنفسها عن تحمل ما لاتطيق هي على حملها من وظائفها العالية العجيبة في دقائق نظام الكون. حتى ان كلاً منها كمثل نحلة نحيلة حملت عليها نخلةً طويلةَ، كما تشير كل ذرة منها الى وحدتِك بنظر وظائفها وتوجه حركاتها الى النظام العام المحيط الدال بالقطع على وحدة الناظم. ففي كل ذرة لك شاهدان؛ على انك واجب واحد. وفي كل شأن لك آيتان؛ على انك احد صمد، بل وفي كل شئ لك شواهد وآيات على انك واجب واحد احد، صمد جل جلالُك، ولااله غيرُك، وحدك لاشريك لك.


المثنوي العربي النوري - ص: 392
اعلم ! ان وجودك وحواسك وجوارحك انما تنظر اولا وبالذات الى صانعها الذي يربيها ويدبرها ووجوهها متوجهةٌ اليه سبحانه، ولا تنظر اليك الا وظيفة وبمقدار مالكيتك الموهومة.
فان اشارت - لاجل حسن تعهدك لها - الى لمعةِ شعورك بكيفية حاصلة من كسبك، فبالمشاهدة تصرّح بِعلمِ بارئها بما لايحد من كيفياتها المنتظمة واحوالها المتقنة.. وهكذا تفصح بسائر اسمائه وصفاته المتجلية عليها.
وإن خَدَمَتْكَ بجهة في دقيقة، خَدَمَتْ صانعَها بكل الوجوه في كل آن.. ومن خدمتها تشهيرها لغرائب آثار صنعة فاطرها الحكيم.. وكذا امتثال الوظائف الفطرية المؤذنة بكمال الموازنة في سر التعاون المادي على لطائف رحمته تعالى، ولفائف حكمته سبحانه. وكذا اعلاناتها بلسان فهرستيتها لغرائب الصنعة لمحاسن جلوات فاطرها الحكيم .
وإن نَظرتْ اليك بدرجة ما يصل اليها نظرُك السطحي، وبمقدار ما يحيط بها علمك الاجمالي؛ نظرتْ الى صانعها بجميع ذراتها ومركباتها وكيفياتها واحوالها، فما ميزان مالكيتك الموهومة الا درجة نظرك وتصرفك فيها، وما هو الا كقطرة من بحر، فاعرف حدك ولا تجاوز طورَك.
فوجودُك وتوابعه له وجهان:
فبالوجه الناظر الى الحق سبحانه له قيمة عالية غالية.
وبالوجه الناظر الى الخلق لا قيمة له لفنائه وزواله.
اذ الوجه الاول يقول لك وللناظر: انك صنعةٌ لطيفةٌ، واثرٌ نظيف نزيه لمن فطر السموات والارض. فحسبُك من الوجود وكمالِه ولذتِه وقيمته علمُك بانك صنعةٌ للصانع الذي زيّن السماء بهذه النجوم والشموس حتى صِرتَ اخاً عزيزاً صغيراً لهذا العالم يخدمك اخوك الكبير..
والوجه الثاني يقول لك ناعيا باليُتم: انك مجموعُ عناصر ترافقت باتفاقية عمياء، وعن قريب تتفرق بفراق اليم ومفارقة صماء.


المثنوي العربي النوري - ص: 393
فلا تظلِم وجودك بالتملك ولا تَبْخَسْ حقَّه بقطعه عن الحق المؤدي لإسقاطه من القيمة. فلا يقام له الوزن حينئذ؛ اذ قيمة ملايين سنة والوف قنطار من هذا الوجود الابتر المكفهر لا تساوي قيمة ذرة وآن سيال لذلك الوجود المظهر المطهر.. ألا ترى انك ما أقتطعك بارئُك اقتطاعاً من مواد حاضرة، ولا اخذك اخذاً من صُبْرة الكون، ولا اغترفك اغترافا من بحر الوجود، كيفما اتفق؟ هل ترى في سوق عالم الكون والفساد دكانا يُشترى منه العيون او مخزنا أدخر فيه الادمغة والالسنة، او ماكينة تصنع القلوب وتنسج الجلود؟ كلا ثم كلا! بل أنشأك بارئُك، واخترعك فاطرُك بصورة بديعة جامعة، وخلقك من شئ كلاشئ، او من كل شئ، حتى لا يطمع شئ من الاشياء ولو اعظم الاشياء الممكنة في خلق شئ من الاشياء ولو اصغر الاشياء، وحتى لايتطاول الى دعوى خلق ذبابة مثلا، من لا يقتدر على خلق السماوات.
فمن لا يقتدر على خلق كل شئ، لا يقتدر على خلق ِ شئ ما من الاشياء.
اعلم ! ان المادة التي يتصرف فيها الصانع الماهر فيُظهر فيها صنعةً عجيبة قد لا تساوي قيمةُ تلك المادة عُشر مِعشار قيمة "الصنعة". كالزجاج الذي صُنع منه المرآة الاسكندرية مثلا. وقد تتوازن قيمةُ المادة و الصنعة كالبقلواء 1 النفيسة من يد طابخ حاذق، وقد تزيد عليها. وان لكل من المادة، وما فيها من الصنعة غايات وثمرات تغاير غايات الآخر.
واما مصنوعات الصانع الازلي فاكثرها، بل كلها من القسم الاول حتى كأن المصنوعَ صنعةٌ متجسمة، لاسيما ذوي الحياة، ولاسيما صغارها التي تضاءلت فيها المادة وتلاشت في كثافة دقائق الصنعة، وقد يصير شئ واحد غايةً لهما، لكن بجهتين كالرزق مثلا..
فمن جهة المادة والحياة ما هو الاّ تغذٍ بتلذذ جزئي زائل لحفظ الحياة وبقائها.
واما من جهة الصنعة المعلنة المثمِرة لآثار جلواتِ الصانع، فالرزق كنزٌ عجيب لطيف، وخزينةٌ غريبة نظيفة، اذ في الرزق حينئذ التحسس باحساس جميع النِعَم والشعور بها، والتذوق عند اذاقة اقسام تجليات اسماء الرزاق الكريم، والتشرف بها
_____________________
1 نوع من الحلويات والمعجنات المعروفة .




المثنوي العربي النوري - ص: 394
والتنوّر بفَهمها. فان شئت فانظر الى لسانك الذي هو واحد من الوف آلات الارتزاق بالرزق المادي والمعنوي، كيف اشتمل هذا الجرم الصغير على جهازات ذائقاتٍ بعدد طعوم المذوقات. فان انتبه وشَعَر ذو اللسان شكر هذا اللسانُ بهذه الالسنة الدقيقات في جهازه، لطائفَ نِعَم مَن اذاقه برحمته هذه النعم اللذيذات..
نعم، ومن شُكرِِ النعمةِ بل ألذّ من النعمة الشعورُ بالانعام، ودركُ التفات المنعِم.
اعلم ! انه ما من مصنوع الا وهو منظوم، وما من مخلوق الا وهو موزون، قد انشأه بارئه صحيحا صريحا، وانشده فاطرهُ واضحا فصيحا. وان ما يُرى في هذه الاشياء الدنيوية وما في اثاثات هذا البيت الفاني من "التنظيم" بحساب معدود وبنظام مسرود، ومن "التوزين" بموازين حساسة، والموازنة بمقاييس جساسة يرمزان بل يُفصحان بعظمة الحساب في الحشر وتحقق وجوده فيه، والى هيبة الميزان في عرصات القيامة، ووقوعه ووضعه فيها، إذ ما يشاهد هنا، ما هو الا بذور، واساسات، ومباد، ومبشرات وشواهد وعلامات لما يتسنبل في الآخرة.
وان كل ما نشاهد في هذا الكون ما هو الا مصنوع، واثرُ الصنعةِ عليه ظاهرٌ جلي، يكاد ان ينطق. ولا يُشاهد صانعُه، وما يُتوهم من جنس الممكنات انه صانعُ شئ، فهو اضعفُ واعجز بمراتب غير محدودة من ان يكون صانعه حقيقة. اذ لابد لتصنيع كل شئ وانشائه لاسيما من جنس النباتات والحيوانات من آلات مختلفة، وتجهيزات متنوعة، وموازين حساسة كالموازين المستعملة في تركيب الادوية والمعجونات. وليست فليس.. 1 مع ان عند كل مصنوع ومعه وفوقه وفيه وتحته وقبله وآخره شئ. ومع ذلك الشئ كلُ ما يلزم للمصنوع وجوداً وبقاء، وما ذلك الشئ الا من لمعات وتجليات انوار قدرةِ من خزائنه بين الكاف والنون.
لكن ! انّ من الاسماء ما يقبل توسط الوسائط الظاهرية، فيتجلى ذلك الاسم في خلال الحُجُب، وخلفَ السرادقات: كالمتكلم، والرّزاق، والوهاب، وامثالها. وبعضها لا يقبل التوسيط ولو ظاهريا: كالخالق، والموجِد، والمحيي، وامثالها. كمثل السلطان مع النفر؛ ففي نفس ارزاقه وسلاحه ولباسه لا واسطة، وفي تحريكه وتعليمه وتوظيفه وتلطيفه تتوسط الوسائط، لكن باذن السلطان. الا ان التوسط هنا لعجز سلطان البشر وضعفه. وهناك لعزة سلطان الازل وعظمته..
_____________________
1 اي انه ليست للمصنوع تلك الآلآت المذكورة . فليس له ان يصنع شيئاَ قط.




المثنوي العربي النوري - ص: 395
اعلم! اني رأيت على رأس شجيرة نابتة في صخرة، نوعين من الثمرات، فتحيرت منه! 1 فتحرّيتها: فاذا أحد النوعين؛ ثمرتُها الخاصة بها يقال لها بالكردي (كزوان) 2. والنوع الثاني كالباقلة بمقدار الاصابع، او اصغر او اكبر، مقوسة مجوفة كالمنزل المعد للمسافرين. فاخذت من الثمرة الثانية واحدةً، واذ فتحتها تسارعت الى الطيران في الهواء طويرات، كالذر في الصغر، وهي التي تراها صافاتٍ كاخواتها من طويرات النمل والذباب، قبيل الغروب وهي ترقص في الضياء بجذبةِ الذكر - فلا تظنن انهن لاهيات لاعبات؛ بل ماهن الا مجذوبات ذاكرات للرحمن الذي يمسكهن في الهواء - وهى شبان وتجعل لهن - وهي اجنة - هذه الباقلة التي كما انها لا تناسبهن لمخالفة الجنس ولاتناسب الشجيرة لمخالفة النوع، اوكاراً كالارحام لطيفةً حصينةً من احسن الاوكار، فيها ارزاق نظيفة لذيذة.
فهذه الحالة تصرح بان هذه المعاملة انما تصدر مِن نظرٍ وتدبير فوق نظر هذا الجامد وهذه البهيمة؛ اذ لما لم يصلحا لهذا التدبير الحكيم ؛ لزمتْ حوالة 3 هذا التدبير على خارجٍ عليمٍ، وهذا الخارج المتصرف لابد من اول الامر البتة ان يحيط بكل افراد هذين النوعين في جميع اقطار الارض. وكذا بما يتعلق بهما، وكذا بمهدهما بالضرورة القطعية. ولايكون هكذا الا مَن هو عليمٌ بكل شئ، وقدير على كل شئ.
اسألك يامن يجوِّز تصرف غير الله في ملك الله! ويامن يقبل امكان وجود التصادف في بعض لطائف صنع الله! كيف تسمع، ام كيف تفهم، ام كيف تعلم هذه الشجيرةُ لسانَ الذبابة التي باضت على رأس غصنها، مودعة بيضاتها في يد حمايتها، حتى تشرع الشجيرة في ذلك الآن تتخذ بألطف شفقة اوكاراً امينة كأرحام الامهات، او اَرحاماً كالاوكار رفيعةً، ومهاداً مهتزةً في الهواء. فتأخذ الشجيرة من خزينة الرحمة رزقا كافيا، وافيا، لذيذا، عزيزا. فتدخره في تلك الاوكار في سبيل الله لمن ليس من ابناء جنسها، ولا من جنس بناتها، بل لمسافرين هم وديعة الله. فما هذا "التجاوب" بين هؤلاء المصنوعات الاّ آية شاهدة بانّ كليهما، بل الكل، بل كلّ ما في الكون خدام سيد واحد، وتحت تدبير مربٍ واحد، وفي تربية مدبرٍ واحد، احد صمد. آمنا..
_____________________
1 اي: تحيرت مما رأيت .
2 وهي الحبة الخضراء .
3 بمعنى إحالة.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ

المثنوي العربي النوري - ص: 396
اعلم ! ان النظر الى الهوام الذاكرات لفاطرها في جو الهواء بألسنة احوالها واطوارها ونقوشها المنظومة واجسامها الموزونة المكتوبة كالكلمات المنقوشة كما تذكُر الله وتفهِّم ذكرها لك، وإن لم تفهم هي بنفسها بألسنتها المخصوصة واصواتها الملفوظة. كأن كل طويرة منها كلمةٌ ناطقة بلسانها عين ما تنطق به ذاتها.. وكذا النظر الى الحشرات المسبحات لخالقها في جوف الغبراء بألسنة نقوشها وتزيناتها المكتوبة بقلم القدرة، كما تسبّح بكلامها الملفوظ المخصوص بها، لابد ان يفيدك اموراً اربعة: فأولا: اطمئنان النفس، بانك في مأمن حصين وحصن أمين محاط من كل وجه بمولودات واطفال وطفيلات تربيها شفقةُ عليم، وتدبرها تربيةُ حكيم، وتزينها عناية كريم، وتحُسن اليها رحمة رحيم . فانت تحت نظر هذا العليم الحكيم الكريم الرحيم دائما.. وثانيا: لابد ان يفيدك ذلك النظر قناعة النفس، بانك لستَ سدى مهملا، غاربك على عنقك تسرح كما تشاء، وان لست موكولا مفوَّضاً الى نفسك العاجزة عن ادنى حاجاتك الغير المحدودة حتى تقعد ملوما محسورا، متوحشا عن عجزك المطلق وحاجاتك الغير المحصورة. لاجل انك ترى في تلك الصغار نظاما تاما خاصا في عموميته، عاما في خصوصيته. وميزاناً حساسا في وسعته، وجساسا بالاقتصاد والامساك في عين سماحته..
ايها الغافل! الا تتلو عليك هذه الحواشي الدقيقة، والكتب الرقيقة الموجودة في بعض الحروف الكبيرة انك موزون بين موازين.. فَتَنَبَّهْ وأقِمْ الوزن بالقسط.. والحال انك تلهو كمجنون بين مجانين، فتتبله وتخسر الميزان بالسقط 1. وثالثاً: لابد ان تلقنك هذه الرؤية التوكل والاعتماد بان من ترجوه لكل شئ وتخافه دائماً، في نهاية القرب اليك في عينِ نهايةِ بعدك عنه. يتصرف فيك وفيما حواليك بقدرته التي يتساوى بالنسبة اليها الاصغرُ والاكبر، والاقل والاكثر، والاقرب والابعد؛ لاتكلُّفَ ولامعالجة، ولامباشرة اختلاطٍ في افاعيلها بالحدس الشهودي. افلا تقرأ عليك هذه الحقيقة ان: لاتخف ولاتحزن ولاتتوحش؛ اذ اينما كنتَ فهناك
_____________________
1 اي بالخطأ.




المثنوي العربي النوري - ص: 397
مُلكُه، واينما توجهتَ فَثَمَّ وجهُه، وانت في وطنك، ولو في بطن الارض. وانت تحت نظره، ولو فيجوف العدم. تأخذك بأذنه وامره الأيادي الرحيمة الكريمة الحكيمة من حال الى حال، وطور الى طور. لا تخرج من يد الا وتسابقَ لأخذك يدٌ اخرى بالانتظام، ولاتصادف في سفرك غَول التصادف اصلا. ولاتُظلَم بالعدم ولايظلمك الفناء بالاعدام. وكم من عدم ترى خلفه - ان اقتحمته - او تحته او فيه خزينةً من خزائن الرحمة مشحونة مما " هو يبقى " من جنس ما "هو يفنى" في هذا الوجود. ورابعا: لابد ان تفيدك رؤية صغار الهوام وضوح برهان المخلوقية التامة، والمصنوعية العامة في كل شئ للصانع الواحد. وتُكْبِرَ في نظرك هذا البرهان بدرجة صغرها 1، وتُظهر بدرجة خفاها 2؛ اذ من المحال ان يخرج المحاطُ من دائرة تصرف خالق المحيط، فخالقُهُ هو خالقُه بالضرورة القطعية. إلا ان الصنعة فيها ابتلعت المادة وغمرتها، خلافا للمصنوعات الكبيرة.
اعلم ! ايها الغافل ان اكثر وسوستك انما تنشا من امور اربعة:
فاولا: من نسيانك نفسَك الى درجة تنقلب شعرةُ الانانية حبلاً غليظاً؛ لانك لما نسيت الله بالهوى، فأنساك نفسك، تغلظتْ انانيتك فتفسّقت مِن قشرها المتشقق بكبرها.
وثانيا: من قياس كل ذي حيـاة على نفسك. . مثلا: اذا رأيت حيــوانــــا فمع ان المشهود حيوان معصوم، مأمون، ممنون؛ تفرضه انساناً متفكراً محزوناً متشتت الخواطر.. فتظن رقصه في فرح ؛ اضطراباً في ترح.
وثالثاً: من قِصَر نظرك على تجلّي اسم الظاهر فقط، حتى تتوهم ان ما خرج عن دائرة هذا الاسم لا يرجع الى دائرة مسماه. كلا ان المسمى الذي له الاسماء الحسنى، كما انه هو فوق الفوق، فهو في ابطن البطون فهو الاول والآخر و الظاهر والباطن.
ورابعاً: مِن طلب تجلي الاحدية التي هي اعلى التجليات، وابعدها واخفاها، وابسطها في اوسع واكثر وارق ما انبسطت اليها الكثرة وانتشرت ؛ اذ تنظر الى
_____________________
1 اي صغر المصنوعية والمخلوقية.
2 اي رغم خفائها.



المثنوي العربي النوري - ص: 398
حيوان مثلا: فتفنى فيه بالقياس النفسي المار آنفاً، فتدخل معك فيه انواع حسياتك. مثلا: تتصوره مثلك حزينا لفراق أليفهِ او وطنهِ، ومغموما بالتفكير في عاقبته ورزقه. فتتألم لمرض الشفقة من آلامه الموهومة، مع انك لو دخلت في عالمه بالتحقيق لما رأيت شيئا مما توهمته حينما دخلت فيه بالفرض من طريق القياس النفسي.
وكما أخطأت بهذا القياس قد تخطئ اعظم خطأ بقياس آخر، وهو انك ترى النحلة مثلا، مصنوعة فتقيس بلا شعور صانعها الواجب الواحد الحكيم الذي لاكلفة ولا معالجة ولا مباشرة بالاختلاط ولاتَعَمُّلَ في افاعيله ؛ قياساً على الممكن المسكين الكثير الكثيف المقيد المحدود الذي افاعيله لا تكون الا بالمباشرة والمخالطة والكلفة والمعالجة؛ فتتوهم من هذا القياس قربَك وقربَ تلك المصنوعة التي يجول قلم الصانع عليها الآن بل دائما، من صانعها المتقدس المتنزه المتعالى. نعم هو جل شأنه من جانبه سبحانه قريب.. لا اقربَ منه، اقربُ من كل قريب، واقربُ من حبل الوريد.. لكن انت ، وهذا المصنوع، من جهتكما بعيدان ببعدٍ لا نهاية له، كمثل الزجاجة التي تمثلت فيها الشمسُ بالتجلي فتلألأت بشعاعها، وتنورت بضيائها، وتزينت بأنكسار الالوان السبعة التي في ضيائها، وانفتح من ملكوت قلب الزجاجة الى ذات الشمس منفذٌ وسبيل فيرى من ظاهر مُلكها تمثالَ الشمس مع لوازمه في بطن وجه تلك الزجاجة بالقرب من يدك. لكن ان مددت يَدَك ما وصلتَ الى شئ، ولو مُد يدك بسبعين بل بسبعمائة مثل قطر الارض. حتى ان من في عقله بلاهة وفي قلبه محبة للشمس، قد يريد ان يصل الى محبوبته الشمس في كل ما تلألأت فيه، مستنداً بهذا الوهم السطحي، والرؤية الظاهرة.
وكذا قد يَطلب من كل ما تمثل فيه الشمس تمام ما سمعَه او عرفَه من اوصاف ذات الشمس ، ولوازماتها التي لايسعها الا مجموع عالم منظومتها، فان لم يجد الاوصاف في المثال في شئ، يشرع ينكر وجود الشمس في ذلك الشئ . بل قد ينكرها مطلقا.
والقلب مرآة الاحد الصمد، لكن له شعور احتساس بما تجلّى فيه، وعلاقةُ مفتونيةٍ بما تمَثل فيه، خلافا لسائر المرآيا. كما بيّنه الامام الربّاني رضي الله عنه. وبهذه الخاصية يستعد القلب لسعادات لاتعد.


المثنوي العربي النوري - ص: 399
فان قلت: ما السر في اقتران فعاليةٍ خارقة في مصنوع ذي حياة، مع سكونةِ ما حوله كأنه لاشئ هناك، ومع عدم ترشح هذه الفعالية المدهشة من ارق لفائفه الى الخارج، ولو بمقدار ذرة ؟
قيل لك، كما قيل لي في قلبي: لو كانت الفعالية للاسباب الامكانية، ومن انفَس الاشياء؛ لَلَزم ان يكون في كل حيوان فاعل مستقل له علم محيط، وفي كل ثمرة صانع قدير له قدرة مطلقة تامة بحيث لايتعسر على تلك القدرة خلقَ الارض بما فيها، فحينئذ يكون الترشح والتفشي والانتشار والطغيان من الضروريات، ولكن هذا الامن والامان المشهودان في الكون والمكان، وهذا السكون والسكوت المرئيان في غير عالم الانسان، وهذا الانقياد والسلم والسلام في هذا العالم في كل زمان.. ما هو الا لأن هذه الصنعة الموزونة، والصبغة المنظومة صنعة وصبغة لمن
(انَّمَا امْرُهُ اذَا ارَادَ شَيْئاً انْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 1 ولمن يقول (وانْ مِنْ شَئٍ الاَّ عِنْدنا خَزَائِنُهُ ومَا نُنزِّلُهُ الاَّبِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) 2. فنسبة فعلك بيدك الى فعلكَ باسرع الخيال، كنسبة الفعل بالخيال - لو امكنَ - الى فعلِ قدرة الباري بل لا مناسبة..
اعلم ! ايها السعيد المسكين المغرور! انه ليس اليك منك من الوف حاجاتك الا واحد او اقل. والباقي بالتمام مفوضٌ باليقين الى فاطرك الذي خلقك اولا كالفطير 3 بقدرته، ثم فتح صورتَك في الماء بلطيف صنعه، لتصير مرآة اسمائه.. وشق سمعك وبصرك برحمته، لتسمع الحق وتعتبر بالخلق فتعرف الخالق.. وعلّق في كهف وجهك بعنايته لسانا لتذْكُره.. وأدرج في رأسك عقلا لتَعرفَه.. واودع في صدرك جَنانا لتحبَّه.. ولطف بك في ظلمات الاحشاء، وتصرف فيك بربوبيته كيف يشاء، وركّب في وجودك بحكمته هذه الحواسَ بانواعها، وهاتيك الاعضاء باقسامها؛ لاجل احساس جميع انواع ثمرات نِعَمِهِ، ولاذاقة اقسام تجليات اسمائه.
فيا ايها الغافل المغرور! الى كم تتهمه، وهو هذا وقد لطف بك هكذا. وتعتمد على ذرة اقتدارك الجزئي، فيفوضك حينئذ الى نفسك بسبب سوء اختيارك فتصير ظالما لنفسك لتحميلها ما لا طاقة لها به. وما بالك وما منعك ان تتوكل على مَن
_____________________
1 يس:82
2 الحجر: 21
3 العجين الذي لم يتم تخميره بعد.




المثنوي العربي النوري - ص: 400
ناصيتُك بيده، وحاجاتُك راجعة اليه حتى تلقى بالتسليم له ما اليك، على ما اليه. وتُلقى بالتوكلِ عليه نفسك في سفينته الجارية بين طوفان الشؤون فتقول (بِسْمِ الله مَجْريـــها وَمُرْسيـــها) 1 حتى تستوي على الجودي الاسلامي، وتستريح في ساحل السلامة. الا ترى ان شمس الحياة قد اقترب ان تغترب! وان قمر الوجود قد انخسف بالشَيب، واكفهرّ ببياض الهرم. وان لا فائدة فيما سواه تعالى، بل كما انه لا فائدة فيما سواه ان لم يأذن به ففيه ضررٌ عظيم. فان كان بدونه فكل شئ ضررٌ وعدو. وان كان به فهو مغنٍ عن كل شئ، فلابد من التَرْكِ على الحالين:
أما في حال، فلكونه ضرراً محضاً.
وأما في حال، فلتفويت طلب الغير غاية الغايات مع فوات نفسه.
نعم، وبدونـه الالم ازيد من اللذة في كل لذة، بل اللذة بدونه المٌ مموّه…
(ففروا الى الله) 2 فان عنده من كل شئ - يفنى عندكم - ما هو يبقى من نوع ذلك الشئ، فما يزول هنا ولايدوم بدونه، يستمر هناك ويدوم به. مع ان الوقت ضيق.. الا ترى انك في سكراتِ الموت، اذ تمام عمرك سُكر في سَكرات.. وسَفَر في سقطات. فارفع رأسك من الدنيا، كي ترى عند بارئك نعمةً ابدية، ورحمة سرمدية، ومحبة ازلية.
اعلم! ايها المتفكر المتحير المتحري ! اذا انتهى علمك الى شئ، او رأيت في شيء جهةً من عدم التناهي، فسبّح بحمده تعالى على قربك الى الحق ؛ اذ المجهولية واللاتناهية عنوانان وعلامتان نصبتا على حدود تصرّف ربوبيته المطلقة جل جلاله..
اعلم! ايها الوهّام ! اذا تهاجمت عليك الاوهام، فانظر يمينا لترى دوائر تصرف الخلاقية تتناظر متضايقةً، من دائرة المجرّة ومدار السيارات؛ متسلسلة الى دائرة الجوهر الفرد ومدار الذرات. ومن خلق السموات مسردةً، الى خلق الثمرات. ومن انشاء الارض، الى ايجاد الارَضَة الآكلة للشجرة بتناظر، وتشابه، وتساند. تدل على اتحاد القَلَم، ووحدةِ السكّة، وانت في وسط مخروط الكائنات قائمٌ، حامل للامانة، مقلَّد بالخلافة.
_____________________
1 هود:41
2 الذاريات: 50




المثنوي العربي النوري - ص: 401
ثم انظر شمالا لترى النظام العام يأمر بالعدل في كل شئ.
وترى الميزان التام ينهى عن الميل في كل شئ.
ففي ذاك؛ ما هو كالبرق يطيِّر الاوهامَ. وفي هذا ؛ ما هو كالرعد يطردُ الاحلامَ..
ثم انظر اليك، لترى نفسَك وجسمك مصنوعين من الرأس الى القدم، من اصغر حجيرة، الى تمام بدنك الذي هو ايضا حجيرة كبرى..
ثم انظر في قلبك، الى فوقك، لترى بايمانك انوار نور الانوار.. الذي خلق النور.. ونوّر النور.. وصوّر النور.. ونفذ انوار تجلياته في كل شئ جل جلاله.
اعلم! ان استعمال اسم التفضيل في بعض اسماء الله وصفاته وافعاله كـ "أرحم الراحمين واحسن الخالقين، والله اكبر" وغير ذلك لاينافي محض التوحيد. اذ المراد تفضيل الموصوف بالحقيقة وبالذات، على الموصوف بالوهم وبالنظر الظاهري الاسبابي او بالامكانات العقلية. وكذا لاينافي عزة الواحد القهار؛ اذ ليس المراد منه الموازنة بين صفاته او فعله في نفس الامر، وبين صفات المخلوقين وافعالهم؛ لان مجموع ما في المصنوعات من الكمال ظل مُفاضٌ بالنسبة الى كماله سبحانه. فلا حقَّ للمجموع - من حيث المجموع - ان تكون له نسبةُ موازنة معه، حتى يصير مفضَّلا عليه.. بل المراد الموازنةُ بين اثرِه الخاص على مفعولٍ خاص، وتأثّر المفعول من تأثيره الحقيقي فيه على درجة استعداده الخاص.. وبين اثر الوسائط الظاهرية في ذلك الشئ الخاص وتأثره منها. كما يُقال لنفر لا يعظّم اِلاّ جاوِشَه 1 ويحصُر شكرَه وحرمته عليه: يا هذا !. السلطان اعظمُوارحم من جاوشك.. وليس المراد المفاضلة بين الجاوش والسلطان في نفس الامر ؛ اذ هو هزلٌ، ما هو بالجد. بل المراد المفاضلة بالنسبة الى ذلك النفر، باعتبار درجة مربوطيته بالسلطان حقيقةً، وبالجاوش تبعاً مع إذن السلطان.
واما ارأف من كل رؤف، واكرم من كل كريم، واعز من كل عزيز وامثالها؛ فالمراد ان لو اجتمع جميع رأفات جميع الكرماء على شخص، ما ساوت ما اصاب ذلك الشخص من بحر رحمته التي لانهاية لها.

_____________________
1 رتبة عسكرية تقابل العريف.



المثنوي العربي النوري - ص: 402
ففيها تفضيلٌ من اربعة اوجه: اذ المفضّل حقيقي، وواحد، وفي واحد، وبواحد. والمفضَّل عليه اعتباري، وجماعة، وبجميع ما في ايديهم، لا يساوي حصة واحدة، في شـخص واحـد مما لايـتـنـاهى مـن فيض الاحـد الصـمـد.. وكما قـــال تـعـالى (انَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دون الله لَنْ يَخْلُقُوا ذبَاباً ولو اجْتَمَعوا لَهُ) 1.
اعلم! ان لفظ "الله" يدل بالدلالة الالتزامية، على معاني كل الاسماء الحسنى وعلى جميع الاوصاف الكمالية. خلافا لسائر الاعلام الدالة على ذوات المسميات فقط.. بسرّ ان صفات سائر الذوات ليست بلازمة للذوات، فلا يدل اسم الذات على صفتها، لا مطابقةً، ولا تضمنا، ولا التزاما. واما الذات الاقدس؛ فلوجود اللزوم البيّن، بينَه وبين صفاته واسمائه.. وكذا لاستلزام الالوهية لها، يدل اسمه العَلَمي على جميع صفاته بالدلالة الالتزامية.. وكذا لفظ الإله، في سياق النفي. 2
اذا علمت هذا ؛ فاعلم ان "لا اله الا الله" يتضمن من التوحيد، ومن احكام التوحيد عدد الاسماء الحسنى..
فهذا الكلام الواحد يشتمل على الوف كلام، كل كلام مثل هذا الكلام مركب من نفي واثبات. ولاجل ان النفي يتوجه الى فردٍ فرد بالاستغراق الفردي؛ يكون في الاثبات، اثبات مجموع ما نفي عن الغير، بالقاعدة المقررة في المنطق. فكأنه قيل: "لا خالق، ولارازق، ولا قيوم، ولا مالك، ولا فاطر، ولا قهار، الا الله".. وهكذا، فيمكن ان ينبسط هذا الكلام للذاكر المترقي في الاطوار والمراتب، على كل مراتبه واحواله. فيكون التكرار كالتأكيد بالتأسيس..
اعلم! انك اذا عرفتَ ان الكلَّ منه تعالى، واذعنتَ به، لابد ان ترضى بما سرّ او ضر. وان لم ترض، اضطررت الى الغفلة. ومن هذا السر، وضعت الاسباب الظاهرية، وغُطيت الاعين بالغفلة؛ اذ ما من احد الا وما يخالف هَوَسَه، وهواه، ومشتهاه، ومناه - من حادثات الكائنات - ازيد اكثر مما يوافقها.. اذ ما بنيت الكائنات على هندسة هَوَس ذي الاماني، بل تجري الرياح بما لا تشتهي السُفن. فلو لم ير المرءُ ذو الهوى هذه الاسباب، ولم يغفل عن مسبِّب الاسباب لتوجّه اعتراضه الباطل،
_____________________
1 الحج: 73
2 اي في: لا اله الاّ الله




المثنوي العربي النوري - ص: 403
وكراهتُه، ونفرته، وحدته وغيظه الواهية الى الفاطر الحكيم والمالك الكريم. فاذا رمى الغافلُ سهم اعتراضه اصاب الفلك 1، او الشيطان، او انعكس الى رأسه ونفسه..
اعلم! انك اذا امعنت النظر، تفطنت ان ُبعدَ "الممكن" عن درجة الايجاد، بمراتبَ غير متناهية، بالنسبة الى مقدار ما يُشاهد في ذلك المصنوع المستند الى ذلك الاقتدار الغير المتناهي..
اعلم! ان الدعاء على ثلاثة افسام:
الاول: دعاء الانسان، بهذا اللسان بالقول. وكذا الحيوانات الصائحات بالسنتها المخصوصة، في الحاجات المشعورة لهم.
والثاني: الدعاء بلسان الاحتياج، كدعاء جميع النباتات، والاشجار "لا سيما في الربيع". وكذا في كل الحيوانات في الحاجات الضرورية الغير المشعورة..
والثالث: الدعاء بلسان الاستعداد، كدعاء كل ما فيه نشوء ونماء، وتحوّل وتكمل. فكما ان:
(وانْ من شئٍ الاَّ يُسبحُ بِحَمْدِهِ) 2 كذلك إن من شئٍٍ الا ويدعوه، ويشكره بذاته وحاله دائما، كما قد يدعو بلسانه.
اعلم! ان النواة قبل ان تتشجر.. والنطفة قبل ان تتبشر.. والبيضة قبل ان تتطير.. والحبة قبل ان تتسنبل، لابد ان تكون تحت تدبير علمٍ تام نافذ وتربيةٍ، لتساقَ مِن بين ما لايُحَدّ من الطرق العقيمة المعوجة، الى الصراط المستقيم المنتجَة. فما هو الا علمُ علام الغيوب الذي يصوِّر في الارحام كيف يشاء، عالم الغيب: "غيب الماضي، والمستقبل، والشهادة، شهادة الحال الحاضر". فكأن كلاً من النواة والنطفة والبيضة والحبة تذكرةٌ مختصرة، استنسخت من الكتاب المبين من كتب القُدرة.. او فهرستةٌ، أستخرجت من الامام المبين من كُتب العلم الازلي ومكتوباته.. او دساتيرٌ، أستنبطت من ام الكتاب من كُتب القَدَر الازلي، لا سيما من باب الميزان والنظام.. او فذلكةُ اوامرٍ متمثلة متمركزة ممتزجة، تنزَّلتْ من ربوبية القدير على كل شئ، العليم بكل شئ. جل جلاله.
_____________________
1 الدهر : المقدرات الالهية : القدر
2 الاسراء: 44



المثنوي العربي النوري - ص: 404
اعلم! ان نظر المؤمن الى المصنوعات حرفيٌ ؛ انما ينظر اليها لتدل على معنى في غيرها..
واما نظر الكافر اليها، فقصدي اسمىٌ؛ لتدل على معنى في نفسها.
ففي كل مصنوع وجهان: وجه، ينظر الى ذاته وصفاته الذاتية. ووجه، ينظر الى صانعه، والى ما تجلى اليه من اسماء فاطره..
والوجه الثاني؛ اوسع مجالا، واكملُ مالا، اذ كما ان كل حرف من كتاب، يدل على نفسه بمقدار حرف، وبوجهٍ واحد. ويدل على كاتبه بوجوه كثيرة، ويعرّف كاتبه، ويصفه للناظر بمقدار كلمات كثيرة.. كذلك ان كل مصنوع الذي هو حرفٌ من كتاب القُدرة، يدلّ على وجوده ونفسه بمقدار جِرمه، ونفسِه، وبوجهٍ واحد، وهو وجوده الصُوري. لكن يدل على نقاشه الازلي بوجوه متنوعة كثيرة، وينشد من اسمائه المتجلية على ذلك المصنوع، بمقدار قصيدة طويلة.
ثم ان من المقرر ان المعنى الحرفي، لا يُحكَم عليه بالاحكام القصدية، تصديقاً وتكذيباً. ولا يستتبع اللوازم، 1 الاّ بنظر ثانوي. فلهذا لا يتغلغل ذهنُ ناظره في دقائقه، الا اذا نظر قصداً، فحينئذ يصير الحرفُ اسماً. بخلاف المعنى الاسمي 2.
فمن هذا السر ترى كتب الفلاسفة، احكم فيما يعود الى الكائنات في انفسها، مع انها اوهن من بيت العنكبوت فيما يعود اليها، بالنسبة الى صانعها 3. وكلام المتكلمين مثلا، لا ينظر الى المسائل الفلسفية والعلوم الكونية، الاّ بالمعنى الحرفي التبعي و الاستطرادي، وللاستدلال فقط.. حتى انه يكفي لهم ان تكون الشمس سراجاً، والارض مهاداً، والليل لباساً، والنهار معاشا، والقمر نورا، والجبال اوتادا. اي بمشاطيتها للهواء، ومخزنيتها للماء والمعادن، وحمايتها للتراب عن التوحل، وتسكين غضب الارض المتزلزلة بتنفسها فيها ـ ولا يكفي للفلسفي الا ان تكون
_____________________
1 اي لا يكون محكوماً عليه بالاحكام القصدية ولا يستتبع لوازم الحكم.
2 اي يكون محل حكم تصديقاً وتكذيباً (ت: 216)
3 ان الاحكام التي تخص الكائنات بذاتها تبدو في كتب الفلاسفة قوية في الظاهر إلاّ ان حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت (ت : 216)



المثنوي العربي النوري - ص: 405
الشمس مركز عالم منظومتها، وناراً عظيمة بدرجة تتطاير السيارات مع ارضنا حولها كالفراش المبثوث. وهكذا، حتى لو لم يطابق رأيُ المتكلمين الواقعَ، مع مطابقة الحس العمومي، والتعارف العام لما ضرَّهم، ولا استحقوا التكذيب 1.. فلهذا يُرى آراؤهم بادي الرأي ؛ اضعف وادنى طبقةً في المسائل الفلسفية، واقوى من الحديد في اساسات المسائل الالهية..
ومن هذا السر ايضا تصير الغلبةُ في الاكثر في الاوائل في الاولى لاهل الضلال، فيما يعود الى الدنيا، والى ظاهر هذه الحياة. اذ هم بجميع لطائفهم الساقطة الى درجــة نفوســــــهم، متـوجهـون قصــدا وبالذات الى الدنيـــا قـائـلون بـأعمالهم:
(ان هي الا حياتنا الدنيا) 2 ولكن العاقبة للمتقين الذين قيل لهم ولسيدهم: (وللآخرةُ خَيْرٌ لَكَ مِن الاولى) 3 (وما الحَيَاةُ الدنيا الا لَعِبٌ ولَهْوٌ ولَلَدارُ الاخِرةُ خَيْرٌ لِلَّذين يَتَّقُونَ افلا تعقلون) 4 (وانَّ الدَّار الآخِرةَ لَهِيَ الحَيوانُ لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) 5 فحسبنا الله ونعم الوكيل، فنعم المولى ونعم النصير..
اعلم! ان عفوه تعالى فضل، وعذابه عدل؛ اذ كما ان من اكل سمًّا، فهو مستحق للمرض بحكم عادة الله المستمرة. فان لم يمَْرض، فهو فضل وكرامة من الله بخرق العادة.
نعم، مناسبة المعصية للعذاب قويةٌ بدرجة من القوة، حتى ضلّت فيها المعتزلة فاسندوا الشرَّ الى غيره تعالى، واوجبوا الجزاء عليه. واستلزام الشر للعذاب، بسر النظام العام لا ينافي كمال الرحمة ؛ اذ هذا الضرر الجزئي متصلٌ بانبوب في سلسلة نظام محيط، تدلت منه كالعناقيد خيراتٌ كثيرة. مع ان ترك هذه الخيرات الكثيرة لمنع هذا الضرر الجزئي والشر القليل، ضررٌ كلي، وشر كثير. وهو ينافي حكمةَ عدالة العدل، الحكيم، الكريم.
_____________________
1 لانهم لم يذكروا الرأي إلاّ للاستدلال والاستطراد .
2 الانعام: 29
3 الضحى: 4
4 الانعام: 32
5 العنكبوت: 64



المثنوي العربي النوري - ص: 406
ايها الانسان الظلوم الجهول! اتق الشر ما استطعت. والا استحققت جزاءَ تركك 1 مع جزاء تفويتك لنتيجة سائر الاسباب السابقة عليك، في سلسلة مبادي وجود النتيجة. اذ الشرُّ عدمٌ. وبعدم الجزء الآخر من العلة ينعدم المعلول. فيعود على الجزء الآخر، كل ضرر عدم المعلول. الا ان ثمرات الوجود لا تعود اليه الا بمقدار حصته، اذ وجود الجزء ليس علة لوجود الكل. فمن هنا يُرى كمال عفوه تعالى، وكمال فضله؛ اذ يجزي بالشر مثلَه، وبالخير عشرةَ امثاله. مع اقتضاء الاستحقاق الواقعي عكسه 2. وكذا يُرى ظلم البشر بحكمهم بعكس الواقع..
اعلم ! ان الانسان مبتلىً بالنسيان، واسوأ النسيان نسيانَ نفسه. الا ان نسيان النفس ان كان في المعاملة، والخدمة، والسعي، والتفكر فهو الضلال. وان كان في النتائج والغايات فهو الكمال. فاهل الضلال، واهل الهدى متعاكسان في النسيان والتذكر. اما الضال ؛ فينسى نفسه عند النظر للعمل، و تطبيق دساتير الوظيفة، بل يمدّ نظرَه الى الآفاق لتطمين الانانية المتفرعنة، وغرورَه المنبسط الذي تضيق عنه النفس. لكن يتذكر نفسه في كل شئ من الغايات فتيلاً او نقيراً. حتى لا غاية عنده، الا ما يعود الى نفسه. وان غاية الغايات في نظره، حب ذاته.
واما من زكّاها فيتذكر نفسَه قبل كل شئ عند السعي، والسلوك في الحركة، او التفكر، فكأن نفسه واحد قياسي، ومبدأ مركزي لكل عملٍ وتفكر. لكن ينسَى نفسه في النتائج، والاعراض، والفوائد، والمقاصد. حتى كأن نفسه فانية، وداخلة في لا شئ، او مملوكة خدمت سيدها بلذة الاخلاص، في وظيفة عائدة من كل وجه الى السيد. فلا حق لها في مقاضاة شئ، فما اعطى سيدُها لها، تراه النفس من محض الفضل..
اعلم ! ان سر تساند المؤمنين في عباداتهم، ودعواتهم في جماعاتهم سر عظيم، وامر جسيم، له شأن فخيم ؛ اذ يصير به كلُ فرد كالحجر المجصوص، في البناء
_____________________
1 جزاء تركك الخير .
2 حيث الحسنات لانها ايجابية ووجودية فلا تتعدد مادياً ولا تحصل بايجاد العبد، فالمفروض ان تكتب حسنة واحدة بعكس السيئات التي تتعدد وتتجاوز، فالمفروض ان تكتب الف سيئة. راجع ان شئت رسالة »حكمة الاستعاذة« اللمعة الثالثة عشرة، ففيها التفصيل الشافي.




المثنوي العربي النوري - ص: 407
المرصوص. يستفيد من اخوانه في الايمان، بالوف الف الف ما يستفيد من عملِ نفسه. (فاذا نظمهم سلكُ الايمان) يصير كلٌ لكلٍ، وللكل شفيعا، وداعيا، ومسترحما، وراجيا، ومادحا، ومزكيا. لاسيما لرئيسهم، ورأسهم 1. فيتلذذ كلُ فرد بسعادات سائر اخوانه كتنعم الام الجائعة، بلذة ولدها. والاخ الشفيق بسعادة شقيقه. حتى يصير هذا الانسان المسكين الفاني مستعداً لعبودية خلاّق الكائنات، وقبول السعادة الابدية.
فانظر الى النبي عليه الصلاة والسلام فاذا تراه، وهو يدعو بـ "يا ارحم الراحمين"!. ترى الامة كلهم يقولون: اللهم صل وسلم على عبدك وحبيبك محمد بحر انوارك، ومعدن اسرارك، وناشر ذكرك وشكرك، ودلال محاسن سلطنة ربوبيتك. فيزكونه عند ربهم. ويحببونه الى مَن ارسله رحمة لهم. ويؤيدون شفاعته. وكذا ينادون بلسان عجزهم المطلق، وفقرهم المطلق، غناءه سبحانه المطلق، في استغنائه الاكمل. وينادون جوده المطلق، في عزته الاجلّ. وينادون بلسان عبوديتهم المطلقة، ربوبيتَه المطلقة. وبهذا التعاون العلوي المعنوي يترقى الانسان، من اسفل سافلي الحقارة والصغر والعجز؛ الى اعلى عليي الخلافة، وحمل الامانة وقابلية المكّرمية بتسخير السموات والارض له.
اعلم ! ان من بَعُدَ عن شئ لا يرى، كما يراه القريب منه. ولو كان البعيد اشد ذكاء واحدّ بصراً. فاذا تعارضا ترجّح القريب مطلقا. فالفلاسفة الاوروبائية المتغلغلون في المادية، تباعدوا بمراتب عديدة، ومسافات طويلة عن مقام الاسلام والايمان والقرآن. فاعظم فلاسفتهم لا يساوي عاميًا يفهم بالاجمال مآل القرآن فقط.
هكذا شاهدتُ وهو الواقع. فلا تقل: من كشف خواص البرق والبخار، كيف لا يفهم اسرار الحق، وانوار القرآن ؟ نعم، ليس له، اذ عقلُه في عينه 2، والعينُ لا ترى ما يراه القلب والروح. لا سيما مع البعد، ولاسيما عند موت القلب بانقلاب الغفلة الى الطبيعة.
(طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمِ وسَمْعِهِمْ وابصْارهِمْ) 3
_____________________
1 المقصود : الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم (ت: 217)
2 اي لا يفهم ولا يصّدق الاّ ما يرى.
3 النحل: 108



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ


المثنوي العربي النوري - ص: 408
اعلم ! ان من اعظم كفران النعم، ومن اشد تكذيب الالآء، عدم الشكر على ما عَمَّه وغيره ؛ كالسمع والبصر. أو دام واستمر، كالنور والنار. او احاط وطم كالهواء و الماء؛ بل انما يشكر الله على مايخصه من دون الناس، او يتجدد عليه، او يندر لندر الحاجة. مع ان الاعمَ الدائم الادوم، هو النعمة الاعظم الاتم. العموم يدل على كمال اهميتها، والدوام على غلو قيمتها..
اعلم ! ان من آياتِ أنه تعالى
(واحصْى كُلَّ شَئٍ عَدداً) 1 التساوي، والتوازن، والانتظام بين اعداد المتجاورات، والمتقابلات، والمتشابهات كالاصابع في الايادي، والحبات في السنابل، والنواة في الثمرات، والاوراق في الازهار.. فسبحان من احصى كل شئ عدداً واحاط بكل شئٍ علما.
اعلم ! ان التلقيح والتولد مع التربية الشفيقة ؛ وظيفتان عامتان نافذتان ساريتان الى اصغر الاشياء. لهما مكافاة عاجلة هي اللذة المودعة فيهما. فعموم جود المحسن الكريم، مع شدة شوق كل الاشياء (المزدوجة) في ايفاء هاتين الوظيفتين بالمشاهدة؛ يدلان على ان النباتات، والاشجار، والمعادن، بل الجامدات ايضا لها حصة من هذه النعمة واللذة بوجه يليق بها. فمراعاة المكافاة، والرحمة، والعدل بهذه الدرجة، وسر
(ورحمتي وسعت كل شئ) 2 وكثرة الروايات المؤيدات للمكافأة، والقصاص في الحيوانات في الحشر ؛ تشير الى بقاء ارواح الحيوانات، ومكافاتها على وظائفها التي امتثلوها بكمال الاطاعة والانقياد 3. واما المنقلب ترابا بعد الحشر؛ فهو اجسادُهم. الا انه يجوز ان يجتمع تمام نوع منه "مجتمعا، او فرداً فرداً" في جسد شخص مبارك، كالناقة المذكورة في القرآن والكبش، والكلب، والهدهد، والنملة وغيرها..
_____________________
1 الجن: 28
2 الاعراف: 156
3 عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لتؤدُّن الحقوق الى اهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" : رواه مسلم برقم 2582 والترمذي 2535 (تحفة الاحوذي) وقال : في الباب عن ابي ذر وعبدالله بن انيس . (ومعنى الجلحاء : اي التي لا قرن لها).



المثنوي العربي النوري - ص: 409
اعلم ! ايها السعيد المسكين الحريص على بقاء الوجود، في هذه الدنيا الفانية، فرغمًا على انفك تفنى، الاّ ما ابقاه الباقي. ويزول وجودك، الا ما توجه الى جهته سبحانه. وتنطفئ حياتُك، الا ما افنيته في سبيله.
فما دام هذا هكذا.. فقل: حسبي من البقاء، ان الله المالك الباقي.. وحسبي من لذة البقاء، علمي بانه معبودي الباقي.. وحسبي من غاية البقاء، معرفتي بانه ربي الباقي.. وحسبي من البقاء وكماله، ايماني بانه موجدي الباقي.. حسبي من الوجود، كوني اثر واجب الوجود.. حسبي من قيمة الوجود، اني صنعة من فطر السموات والارض.. حسبي من غاية الوجود، علمي باني صبغة من زيّن السماء بمصابيح، والارض بازاهير.. حسبي من لذة الوجود، علمي باني مصنوعه ومخلوقُه وهو ربي وموجدي.. حسبي من الحياة، مظهريتي لتجليات اسماء خالق الموت والحياة.. حسبي من الحياة وحقوقها وغاياتها، اظهاري على رؤس الاشهاد، وتشهيري بين ذوي الادراك من اخواني الكائنات، واعلاني في سوق العالم بسر جامعية وجودي لغرائب آثار تجليات اسماء خالق السموات والارض.. حسبي من غاية الحياة، كوني انموذجا وفهرستةً لآثار تجليات اسمائه الحسنى.. حسبي من الحياة وكمالها، اظهاري بلسان احوالي لتجليات اسماء من قامت السمــوات بامره، واستقرت الارض باذنه.. حسبي من لذة الحياة، علمي باني مملوكُه ومصنوعُه ومخلوقه وعبده وفقيره، وهو خالقي والهي وربي وفاطري ومالكي ورحيمٌ بي ومنعِمٌ عليّ.. حسبي من الكمال، الايمان بالله.. وحسبي من كل شئ "الله"..
اعلم ! ان في التوحيد، واسناد الاشياء الى الواحد سهولة بلا نهاية، الى درجة الوجوب، وقيمة غالية بلا نهاية. وان في الشرك، واسناد المصنوعات الى الكثرة صعوبة بلا نهاية الى درجة الامتناع. وسقوط قيمة، وذلة نازلة بلا غاية، كما مر مراراً. الا ترى كيف يتعاظم ما في يد الجندي مما يُنسب الى السلطان ويعزّ منه ما هو في امر السلطان. ويغلو كلامه الذي هو بحساب السلطان قيمةً وأهميةً. ويتيسر بكمال السهولة "تدارك كل لوازمات الحياة" من خزائن الملك وماكيناته. وكيف يتساقط ما ذُكر، هباء منثورا ؛ ان انقطع الربط بعصيان الجندي!


المثنوي العربي النوري - ص: 410
اعلم ! ان الضر كالنفع منه.. وكذا الشر كالخير منه.. والموت كالحياة بقدرته وقدره؛ اذ في موت شئ، حياة آخر او مبدؤها. او هو، هي. وكذا الشر والضر.
اعلم ! ان في روح الانسان قابليةً بوجهين: لِلَذّات غير متناهية، وآلام غير محصورة من جهة جامعية ماهيته، وكثرة جهازاته بلا حد. ومن جهة تلذذه بتنعمات اولاده واخوانه من ابناء نوعه او جنسه او اخوانه من اجزاء الكائنات، وتألمه بتألماتها..
اعلم ! اني قد شاهدتُ ان النظر الى الغير مع نسيان النفس، يقلب الحقائق. كالنظر في الماء يريك الاشياء المعنوية، معكوسة منتكسة. فمع انك تجهل، تعتقد أنك تعلم..
اعلم ! ان ما اقتضى " تكرار بعض اجزاء القرآن " ما اقتضى تكرار الأذكار والأدعية. اذ القرآن كما انه كتاب حقيقة وشريعة، وكتاب معرفة وحكمة، كذلك هو كتاب ذكر ودعاء ودعوة.. والذكر يردَّد، والدعاء يُكرر، والدعوة تؤكّد..
اعلم ! ان من مزيّات علو القرآن ؛ ايرادُ مذكّرات الوحدة، خلفَ مباحث الكثرة. والاجمالُ عقيب التفصيل. وترديف بحث الجزئيات، بدساتير الربوبية المطلقة. ونواميس الصفات الكمالية العامة الشاملة، بذكر فذلكات كالنتائج. او كالتعليلات في اُخريات الآيات. لاجل ان لا يتغلغل ذهن السامع في ذلك الجزء الكوني المذكور، فينسى "عظمة مرتبة الالوهية المطلقة". حتى يخل بلوازم آداب العبودية الفكرية، لذى العظمة والهيبة والكبرياء . وكذا ليبسط ذهنك من ذلك الجزئي، الى امثاله واشباهه.. وكذا يريك القرآن بهذا الاسلوب، ويفهّمك ان في كل جزئي ولو حقيرا وزائلا سبيلا واضحا ، وصراطا مستقيما، ومحجةً بيضاء الى معرفة سلطان الازل والابد، والى شهود جلوات اسماء الاحد الصمد.
مَثلُ القرآن في هذا الاسلوب؛ كمثل من يريك قطرة ماء فيها شُميسة، او زهرةً فيها تجلي الوان ضياء الشمس. فيريك بلا مهلة "الشمس" في رابعة النهار بحشمتها. ويرفع رأسك اليها، لئلا تتشوش عليك الحال، فتتصاغر عندك الشمس فتصير تنكر لوازم عظمتها.


المثنوي العربي النوري - ص: 411
مثلا في سورة يوسف: (وفَوْقَ كُلّ ذي عِلْمٍ عَليم) 1 خلف امر جزئي 2.. وكذا في سورة الحج: (مَا قدروا الله حَقَّ قَدْرِهِ) 3 وفي سورة النور: (واذا بَلَغَ الاطْفاَلُ) الى (والله عَليم حَكيم) 4. وفي سورة العنكبوت: (وانَّ اوهَنَ البُيُوتِ) الى (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) 5 وامثالها..
اعلم ! ان همة الاولياء ومدَدَهم، وافاعليهم المعنويةبالافاضات نوعٌ من الدعاء، حالي او فعلي. والهادي هو الله وهو المغيث المعين. ولقد تلمّع لي شئ، لكن ما تشخص واضحاً؛ وهو ان في الانسان لطيفة وحالة، اذا دعا الانسان - ولو كان فاسقا - بلسانها استجيب له قطعا. نعم هي لطيفة اذا اقسمت على الله ابرّها .
اعلم ! يا مَن يتيقن الماضي، ويشك في الآتي!.. اذهب بنفسك الى عصرين من قبل، وافرض نفسَك جدّك الذي هو في وسط شجرة نَسَبك. ثم انظر الى اجدادك الذين هم موجودات ماضوية. ثم الى اولادك المتسلسلين منك اليك، الذين هم ممكنات استقبالية، هل ترى تفاوتا بين الجناحين؟ كلا لاترى، لا في الانتظام، ولا في شئ يوهم وجود التصادف. بل كما ان الاول مصنوع بعلم واتقان يراه صانعُه. كذا الثاني ؛ سيُصنَع كذلك وهو مشهودٌ لصانعه قبل كونه. فاعادة اجدادك، ليست بأغرب من ايجاد اولادك. بل هو اهون منه. كما قال سبحانه
(وهُوَ اهْوَنُ عَلَيْه) 6. فقس على هذا الجزء الجزئي، الكل الكلي. لترى كل الوقوعات الماضية معجزات، تشهد على ان صانَعها قدير على كل الممكنات الاستقبالية. وعليمٌ بتفاصيلها، ومحيطٌ وبصير بها .
نعم، كما ان هذه الموجودات الجلية، والاجرام العلوية، في بستان الكائنات: معجزات تشهد وتنادي على ان خلاقها على كل شئ قدير، وبكل شئ عليم. كذلك هذه النباتات المتلونة المتزهرة المنثـورة، وهـذه الحيوانات المتنوعة المتزينة
_____________________
1 يوسف: 76
2 المقصود : الكيد الذي دُبّر لابقاء الاخ الحقيقي لسيدنا يوسف عليه السلام.
3 الحج : 74
4 النور: 59
5 العنكبوت: 41
6 الروم: 27



المثنوي العربي النوري - ص: 412
المنشورة في حديقة الارض، خوارقُ صنعةٍ ؛ تشهد بأعلى صوتها على ان صانعها على كل شئ قدير، وبكل شئ عليم. تتساوى بالنسبة الى قدرته الذراتُ والشموس، ونشرُ اثمار الشجر، وحشرُ ابناء البشر.. نعم ليس انشاء ازهار شجرة منشورة على اغصانها الرقيقة الدقيقة، بأهونَ من انشاء ابناء نوع الانسان على عظامهم الرميمة المتفرقة..
اعلم ! انه كم من نعمة كقطرة معصورة بنظام رقيق، وميزان دقيق من كل الكون كالثمرة من الشجرة. فان كانت معصورة محلوبة على الحقيقة مع غاية البعد، فما المنعِم الاّ مَن في قبضته كل الكون يعصره كيف يشاء، كما هو الظاهر الحق المشهود. فما المُنعِم الاّ الذي خزائنهُ بين الكاف والنون. فما من نعمة الا مِن الذي صيّر "كن" مصدر الكون. وما المنة والشكر الاّ له سبحانه.
اعلم ! ان مما افيض على قلبي من فيض القرآن من كثرة ذكره احياء الارض، وجلبه انظار البشر الى التراب؛ ان الارضَ قلبُ العالم. والترابَ، قلبُ الارض. وان اقرب السبل الى المقصود يذهب في التراب، من باب التواضع والمحوية والفناء. بل هو اقرب من اعلى السموات الى خالق السموات؛ اذ لا يُرى في الكائنات شئ يساوي التراب في تجلي الربوبية عليها، وفعالية القدرة فيها، وظهورِ الخلاقية منها، والمظهرية لجلوات اسمَي الحي القيوم.
وهكذا، فكما ان "عرش الرحمة" على الماء، كذلك ان "عرش الحياة والاحياء" على التراب، والتراب اجمع المرايا واتمها. اذ مرآة الكثيف كلما كان الطفَ واشفّ؛ تريك صورةَ الكثيف اوضحَ واظهر واتم. لكن مرآة اللطيف النوراني كلما كان اكثفَ؛ كان التجلي بالاسماء عليها اتم. ألا ترى الهواء لا يأخذ من فيض الشمس الا ضياءً ضعيفا. والماء وان اراك الشمس بضيائها، لكن لا يفصل الوانه. مع ان التراب يريك بازاهيره مفصل كل ما اندمج في ضيائها من الالوان السبعة ومركباتها. مع ان هذه الشمس قطرةٌ متلمعة كثيفة؛ بالنسبة الى نور شمس الازل. وتزين التراب وتبرّجه في الربيع؛ بما لا يحد ولا يعد من لطيفات الازاهير، وجميلات الحيوانات المنادية على كمال ربوبيته، شاهدٌ مشهود. فان شئت فانظر الى هذه الواحدة، المسماة


المثنوي العربي النوري - ص: 413
بالتركي (هرجائي منكشه) 1 كيف تتصرف يدُ الصانع الحكيم في تلويناتها وتزييناتها وهي واحدة. لكن تظهر وتنظر اليك متبسمة، لا بل متعبسة في عشرين صورة.
فسبحان من يتعرف الينا بلطيف صنعه. ويعرِّف الخلائق في قدرته بعجائب تصرفه في التراب. ومما يرمز الى هذا السر حديث (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد). 2
فان كان هذا هكذا؛ فلا تتوحش من التراب وذهابك فيه، ولا تتدهش من القبر وسكونك فيه..
اعلم ! ان عقلي قد يرافق قلبي في سيره فيعطي القلبُ مشهودَه الذوقي ليد العقل؛ فيبرزه العقلُ على عادته في صورة المبرهَن التمثيلي. ومن تلك الحقائق ان الفاطر الحكيم كما انه بعيد بلا نهاية، كذلك قريب بلا غاية. وكما انه في اَبطن البطون، كذلك فوق الفوق. وكما انه ليس داخلا، كذلك ليس خارجاً.
فان شئت فانظر الى آثار رحمته المنثورة على سطح كرة الارض، والى معمولات قدرته المنشورة في دوائر صحائف الارض لتشاهد هذا السر متلمعاً من سطورها: اذ لابد لصانع ذرتين، او زهرتين، او ثمرتين، او نحلتين في مكانين في آن واحد، من بُعْدٍ ازيد من البعد بينهما. واذا كانتا: في الكرة والدائرة، 3 مع تخلل اعظم القوس بينهما، فحينئذٍ لابد للمقابلة التامة - على التساوي الضرورية المشهودة - من بُعدٍ بلا حد. هذا في وجه الظاهر، وفي جانب المُلك. واما في وجه الباطن وفي جهة الملكوت؛ فلابد لتساوي المقابلة - بلاكيفية - المشهودة، في كمال سهولة الايجاد وسرعته، مع الجود المطلق، في الاتقان المطلق من قرب بلا نهاية. لا كقرب المركز لتفاوت نسبِ نقاط الدوائر المتداخلة بالنسبة الى المركز. مع انه لاتفاوت بالنسبة الى "الموجد" الذي اتقن كل شئ صنعاً. واحسن كل شئ خلقه.
نعم هذا السر من خصائص دائرة الوجوب والتجرد، ومن خواص الاطلاق، ومن خصوصيات تجلي الاحدية في الوحدة، ومن لوازم مباينة ماهية الفاعل الاصلي للمنفعل الظلي.

_____________________
1 نوع من الاقحوان من نباتات الظل.
2 تكملة الحديث : "فاكثروا الدعاء ": اخرجه مسلم برقم 482 وابو داود برقم 875 والنسائي 2 / 226 عن ابي هريرة ( وانظر كشف الخفاء للعجلوني 1 / 160)
3 اى احداهما في الكرة الارضية والاخرى في مدارها.



المثنوي العربي النوري - ص: 414
مثلا: "ولله المثل الاعلى": ان لذات الشمس قرباً بلا حد؛ من تماثيلها في المرايا والازاهير. اذ ذات الشمس قيوم التماثيل، واقرب اليها من لصيقها، بل من انفسها. وكذا لها بُعد بلا حد من تلك الظلال؛ اذ لايتيسر، بل لايمكن قطع المسافة المتخللة بين الظل المتمكن في مرآتك، وبين الاصل.
فسبحان من تقدس عن الاشباه ذاتُه، وتنزهتْ عن مشابهة الامثال صفاتُه. هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم..
اللّهم ياعدل. يا حكم. يا عليم. ياحكيم. انه ليس في الرياح مَرّةٌ، ولا في السحاب قطرة، ولا في الرعود زجرة، ولا في البروق لمعة، ولا في الرياض زهرة، ولا في الجنان ثمرة، ولا في الهواء نحلة، ولا في النبات صبغة، ولا في الحيوان صنعة، ولا في الوجود زينة، ولا في الكون ذرة، ولا في الخلق نظام، ولا في الفطرة ميزان، ولا في العرش شئ، ولا في الكرسي شأن، ولا في السماء نجم، ولا في الارض آية: الا وهي لك ادلة شهدت، وآيات تشهد على انك واجب، واحد، احد، صمد. وبراهين نيرة شاهدات على انك انت الله، وانت علام الغيوب مخرج الحبوب، مسخر القلوب. جميع الخلق مقهورون تحت قدرتك، قلوبهم في قبضتك، نواصّيهم بيدك، مقاليدهم لديك. لا تتحرك ذرة الا باذنك.
يا اله الأولين والآخرين. يارب محمّد عليه الصلاة والسلام وابراهيم وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! اسألك باسمك العظيم، وبنور وجهك الكريم، وبدينك القويم، وبصراطك المستقيم، وبالسبع المثاني، وبالقرآن العظيم، وبالف الف " قُلْ هُوَ الله احَدُ " وبالف الف فاتحة الكتاب، وباسمائك الحسنى، وباسمك الاعظم، وبالحجر الاسود، وببيتك المكرم، وبليلة القدر، وبرمضان المعظم، وبانبيائك المكرمين، وبحبيبك الاكرم صلى الله عليه وسلم؛ ان ترحم امة محمد، واشرح صدورهم للايمان والاسلام، وسلّمنا من شر الملاحدة وسلّم ديننا، ونوّر برهان القرآن، وعظّم شريعة الاسلام.
آمين يا ارحم الراحمين..
***
[ بارك الله فيكم الف الف مرة ووفقكم الله] 1

_____________________
1 كتب الاستاذ النورسي هذه الجملة الطيبة بالتركية في المخطوط بخط يده.



المثنوي العربي النوري - ص: 415
ذيل الشعلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة على نبيه
اعلم ! انه لا يتستر عن النور المحض المحيط شئ من الاشياء، وكذا لا يخرج امر من الامور عن دائرة القدرة الغير المتناهية؛ والا لزم تناهي غير المتناهي بالتحديد بالمتناهي، وهو محال بوجوه..
وكذا ان الحكمة تعطي كل شئ، الفيض بقدره كما يقال: [كلّ بقدره].. وان بقدر الظرف يغترف من البحر، وان المقدر القدير الحكيم لا يشغله صغير عن كبير، ولا خطير عن حقير. وان المحيط الظاهر الباطن المجرد عن المادة لا يواري الاكبرُ عنه الاصغر. ولا النوعُ الفردَ. وان الصغير مادةً قد يكون كبيراً من جهة الصنعة. وان نوع الصغير، عظيم كثير كبير. وان العظمة المطلقة لا تقبل الشركة اصلا ولا تتحملها.


المثنوي العربي النوري - ص: 416
وان ما يشاهد من الجود المطلق في السهولة المطلقة، في السرعة المطلقة، في الاتقان المطلق، مع ارادة التعرف التام.. مع محبة ذي الجمال مشاهدةَ جماله المطلق وكماله المطلق، وتشهيرهما.. ومع الرحمة المطلقة، والغناء المطلق بشهادة الآيات التكوينية.. ومع وجود مالا يحد ولا يعد من الناظرين المتفكرين المشاهدين المعتبرين.. يقتضي - بهذه الاسباب - بلاشك وجود انواع الحوينات والطويرات ايضا، بل اَولى، اذ الصغيرُ الادق اقربُ الى الوجود.. والى القدرة النورانية..
اعلم ! يا (انا) اذا كان نفسك احب اليك، لانها اقرب اليك من كل شئ؛ فلابد ان يكون ربك احب اليك منك؛ اذ هو اقرب اليك من نفسك. الا ترى ان ما لا يصل اختيارُك وخيالك اليه من اسرار ما رُكّب فيك، هو حاضر مشاهَد لربك..
اعلم ! انه لا تصادف؛ فانظر الى الرياض واستمع كيف تقرأ على الناظر بنهاية الانتظام في غاية الاختلاط، وكمال الامتياز في كمال امتزاج اشتاتِ الاشياء.. آيات حكمة الصانع العليم المحيط..
اعلم ! انك ان لم تُوَحِّدْ بنسبة كل شئ الى الواحد، تضطر الى فرض وجود آلهة بعدد تجليات الله على جميع افراد الانواع في العالم. كما اذا اغمضت عينيك عن الشمس، وتغافلت عنها، وقطعت عنها نسبةَ الشُميسات المتلمعات في قطرات وجه البحر بتجليها، اضطررت الى قبول وجود شموس بالاصالة فيها بعدد تلك القطرات. مع ان القطرة لا تسع اصغر مصباح، فكيف بسراج العالم!!
اعلم ! انه يشاهد للمدقق؛ ان طوائف المخلوقات واصناف المصنوعات تتسابق بالرقابة والاشتياق الى التبرّج والتزين، للعرض والظهور، لنظر شاهد جليل يشاهدها كلها، ودائما، وبجميع دقائق محاسنها؛ اذ المصنوعات تظهر بالمشاهدة هيئة تتضمن مالا يتناهى من لطائف اتقان الصنعة الجالبة لنظر الدقة، والاستحسان والحيرة.. فما هذا التهالك بالمسابقة للظهور، متزينةً الاّ لاجل العرض لنظر لايتناهى. وما هو الا نظر الشاهد الازلي الذي خَلَقَ الخلق ليشاهد في مرايا اطوارها جلوات انوار جماله وجلاله وكماله.. ثم يستشهد عليها شهداء تعرّف اليهم، باراءة ذلك الكنز الخفي.


المثنوي العربي النوري - ص: 417
فاعلى غايات وجود الشئ واغلى حقوق حياة الحي ؛ هو المشهودية والظهور لنظر فاطره، بمظهريته لآثار اسمائه. والذّ لذائذ هذه الحياة، هو الشعور بهذا الشهود..
واما الظهور لانظار اخوانه من المخلوقات، فهو ايضا غاية. لكن نسبتها الى الغاية الاولى، كنسبة المتناهي الى غير المتناهي..
واما ما اشتهر بين الناس من "حق الحياة" وهو حفظ الحياة مع نوع راحة ؛ فاقل واصغر وادنى واحقر من ان يكون جزءاً من ملايين اجزاء "حق الحياة" تلك الحياة التي هي من أعلى واغلى واعجب واغرب والطف واشرف معجزات قدرة الحي القيوم الاحد الصمد. بل ماهو الا وسيلة وانما يتشرف ما بقي وسيلةً. فاذا ترقى الى المقصدية، سقط بالزوال هباءً منثوراً..
اتظن ايها الغافل! ان غاية عجيب صنعة الرمانة مثلا، هي اكلُك ومضغك في دقيقة بغفلة.. كلا، بل انما هي كلمة افادت معناها للمكوّن سبحانه، وللكون؛ فوفّت فتوفّت فدفنت مِن فيكَ فيك، ويكفي من الزمان والبقاء لهذه الغاية آن سيال، فلا عبثية.
وكذا فاعلم ان من له جمال فائق، فلذته الحقيقية في المشاهدة لجماله شهوداً بالذات، وشهوداً باراءة مصنوعاته لمخلوقاته فيشهدونها.. فيشهد ايضا في شهودهم بشهودهم..
واما لذة التفوق بملاحظة الغير فغيرذاتية، بل عرضية ضعيفة، ومشوبة مخصوصة بالامور النسبية..
واما ذو الكمال الذاتي والجمال الحقيقي المجرد السرمدي، المحبوب لذاته، لذاته الذي له المثل الاعلى، فقد اخبرنا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام؛ "انه خلق الخلق ليُعرف" 1.. أي صوّر مرايا ليشاهد فيها تجليات جماله المحبوب لذاته بذاته..

_____________________
1 وهذا مقارب بالمعنى ماورد (كنت كنزاً لا اعرف فاحببت ان اعرف فخلقت خلقاً فعرفتهم لي فعرفوني): لا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف الاّ ان على القاري قال : ولكن معناه صحيح مستفاد من قوله تعالى(وما خلقت الجن والانس الاّ ليعبدون) اي ليعرفوني كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما . (كشف الخفاء 2 / 132 باختصار)



المثنوي العربي النوري - ص: 418
اعلم ! ايها الفاني كفاك بقاءً، انك مشهوده في علمه ومعلومه في شهوده بعد فنائك من بعض الوجوه. (ياهو) اعط كل شئ لصاحبه الحقيقي وانسبه اليه. وخذه باسمه. ثم استرح، والا اضطررت الى قبول آلهة بعدد تجليات الله كما مر آنفاً. بل بعدد ذرات الكائنات كما مر مراراً ايضا. وكذا بعدد اجزاء التراب.. اذ اي جزء من التراب تراه يصلح لحصول ما لا يعد من المصنوعات المنتظمة المتنوعة.
فسبحان من تنزّه عن الاشباه ذاته.
وتقدست عن مشابهة الامثال صفاتُه.
ودلّت على وحدانيته مصنوعاته.
وشهِدت بربوبيته آياته.
واحاط بكل شئ علمُه وقدرته.
جل جلاله. ولا اله الاهو ..

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM
المثنوي العربي النوري - لمعات عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 07:27 PM


الساعة الآن 10:26 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir