((( 11 )))
و لـمَّـا بـلـغ صـلـى الـلـه عـلـيـه وسـلـم أربـعَ سِـنـيـنَ ، خـرجـت بـه أُمّـهُ إلـى الـمـديـنـة الـنـبـويـة ، ثـمَّ عـادت فـوافـتـهـا بـالأبـواء ، أو بـِشِـعْـبِ الـحَـجُـون الـوفـاة .
و حَـمَـلـتـهُ أمُّ أيـمـن الـحـبـشـيَّـة الـتـي زوَّجـهـا صـلـى الـلـه عـلـيـه وسـلـم بَـعْـدُ مـن زيـد بـن حـارثـة مـولاه ، وَأَدخـلـتـهُ عـلـى عـبـد الـمـطـلـب ، فـضـمَّـه إلـيـه وَ رَقَّ لـه و أَعَـلـَى رُقـيـّه ، و قـال : إنَّ لإبـنـي هـذا لـشـأنـاً عـظيـمـاً ، فـَبـخٍ بَـخٍ لـمـن وقـَّره وَ وَالاه .
و لـم تـَشْـكُ فـي صِـبـاه جـُوعـاً و لا عـطـشـاً قـطُّ نـَفـسُه الأبـيـَّة ، و كـثـيـراً مـا غـَدا فـَاغـْتـَذى مـاءَ زمـزم ، فـَكَفـَاه .
و لـمَّـا أُنـيـخـَت بـفـنـاء جـدِّه عـبـد الـمطـلـب مـَطـَايـا الـمـَنِـيـَّة كـفـَلـهُ عـمُّـه أبـو طـالـب شـقـيـق أبـيـه عـبـد الـلـه ، فـقـام بـِكـفـالـَتـهِ بـِعَـزمٍ قـَويٍّ وَ هِـمَّـةٍ و حَـمـيَّـة ، و قـدَّمـهُ عَـلـى الـنـَّفـس و الـبَـنِـيـنَ و ربَّـاه .
و لـمَّـا بَـلـغَ اثـنـتـي عـشـرة سَـنـة ً، رَحَـل َ بـه إلـى الـبـلاد الـشـَّامـيَّـة ، و عَـرفـَهُ الـرَّاهـب بَـحِـيـرَا بـمـا حَـازَهُ مـن وَصْـفِ الـنـبـوَّة و حَـواه .
و قـال : إنـِّي أَرَاهُ سـيـدَ الـعـالـمـيـن و رسـولَ الـلـه و نـبـيـَّه ، و قـد سَـجَـدَ لـه الـشـَّجـر و الـحَـجَـرُ ، و لا يَـسْـجُـدان إلاَّ لِـنـَبـيًّ أوَّاه ، و إنـَّا لـَنـَجـِدُ نـَعتـَهُ فـي الـكـُتـُب الـقـديـمـة الـسَّـمـاويَّة ، و بـيـن كـتـفـيـه خـَاتـَمُ الـنـُّبـوَّة ، قـد عـمَّـه الـنـُّور و عـلاه .
و أَمَـرَ عـمَّـه بـردِّه إلـى مـكـَّة تـخـوُّفـاً عـلـيـه مـن أَهـل دِينِ الـيـهـوديَّـة ، فـرجـع بـه و لـم يُـجـاوز مـن الـشـَّام الـمـقـدَّس بُـصْـرَاه .
عـطـِّر الـلـهـم قـَبْـرهُ الـكـَريـم بـعَـرْفٍ شـذِيٍّ مِـن صـَلاَةٍ و تـَسـلِـيـم
(الـلـهـم صـلِّ وسـلِّم و بـارك عـلـيـه )
و لـمَّـا بـلـغ صـلـى الـلـه عـلـيـه وسـلـم خـمـسـاً و عـشـريـن سـنـة ً، سـافـر إلـى بُـصـرى فـي تـجـارةٍ لـخـديـجـة الـفـتـيَّـة ، و مـعـه غـُلاَمُـهـا مَـيْـسـرة ُيَـخـْدِمـهُ وَ يـقـُومُ بـمـا عَـنـاه . و نـزل صـلـى الـلـه عـلـيـه وسـلـم تـحـت شـجـرةٍ لـدى صـومَـعـةِ نـَسْطـُورا راهـب الـنـَّصـرانـيَّـة ، فـَعَـرَفـهُ إذ مَـالَ إلـيـه ظِـلـُّهـا الـوَارِفُ وآواه .
و قـال : مـا نـَزَل تـحـت هـذه الـشَّـجـرة قـطُّ ، إلاَّ نـَبيٌّ ذو صِـفـَاتٍ تـَقِـيَّةٍ ، و رسـولٌ قـد خـَصَّـه الـلـه تـَعـالـى بـالـفـضـائـل و حَـبَـاه .
ثـمَّ قـال لِـمـيـسَـرة َ: أَفِـي عـيـنـيـه حُـمـرة ٌ ؟ اسـتـظـهـاراً لـلـعـلامـة الـخـَفـَيَّـة ، فـأجـابـه بـ : نـعـم ، فـَحَـقَّ لـديـه مـا ظـَنـَّهُ و تـوخـَّاه .
ثـمَّ عـاد إلـى مـكـَّة فـَرأَتـْهُ خـديـجـة مُـقـبـِلاً و هـي بـيـن نِـسـوَةٍ فـي عِـلِّـيـة ، و مـلـَكـان عـلـى رأسـهِ الـشـَّريـف مـن ضـَحِّ الـشَّـمـس قـد أظـلاَّه .
و أخـبـرهـا مَـيـسـرة ُ: بـأنـَّه رَأَى ذلـك فـي الـسَّـفـرِ كـُلـِّهِ ، و بـمـا قـالـه الـرَّاهـبُ وَ أودَعَـهُ إلـيـه مـن الـوصـيـَّة ، و ضـَاعـف الـلـه فـي تـلـك الـتـِّجـارة رِبـحَـهـا و نـَمَّـاه . فـَبَـانَ لـخـديـجـة بـمـا رأت و سـمـعـت ، أنـَّه رسـول الـلـه إلـى الـبَـريـَّة ، فـَخـَطـَبَـتـْهُ لـنـفـسـهـا الـزَّكـيـَّة لـتـشـمَّ مـن الإيـمـان بـه طِـيـب رَيـَّاه . فـَأَخـبَـرَ أَعـمـامـهُ بـمـا دَعـتـهُ إلـيـه هـذه الـبَـرَّة ُالـتـَّقـيَّـة ، فـَرغِـبُـوا فـيـهـا : لِـفـَضـْلٍ ، و دِيـنٍ ، و جَـمـالٍ ، و حَـسـبٍ ، كـُلُّ مـن الـقـَومِ يَـهـوَاه .
و خـَطـبَ أبـو طـالـب و أثـنـى عـلـيـه صـلـى الـلـه عـلـيـه وسـلـم بـعـد أن حَـمِـدَ الـلـه تـَعـالـى بـمـحـامِـدَ سـنـيَّـة ، و قـال : و هُـو والـلـه بَـعْـدُ لـه نـَبـأ ٌعـظـيـمٌ ، يُـحـمَدُ فـيـه سُـرَاه .
فـزوَّجـهـا مـنـه عـلـيـه الـصـلاة و الـسـلام أبُـوهـا ، و قـيـل : عـمُّـهـا ، و قـيـل : أخـوهـا ، لـسـابـق سـعـادتـهـا الأزلـيـَّة ، و أوْلـَدَهـا كـُلَّ أولادِه صـلى الـلـه عـلـيـه و سـلـم ، إلاً الـذي بـاسـم الـخـلـيـل سَـمَّـاه .
عـطـَّر الـلـهـم قـَبْـرَهُ الـكـَريـم بـعَـرْفٍ شـذِيٍّ مِـن صَلاَةٍ و تـَسـلـِيـم
( الـلهـم صـلِّ وسـلـِّم و بـارك عـلـيـه )
و لـمَّـا بـلـغ صـلـى الـلـه عـلـيـه و سـلـم خـمـسـاً و ثـلاثـيـن سـنـة ً، بَـنـَت قـُريـشٌ الـكـعـبـة لإنـصِـداعـِهَـا بـالسُّـيـول الأبـطـحـيـة ، و تـَنـَازَعُـوا فـي رَفِـع الـحـجـر الأسـود ، فـكـلٌّ أراد رَفـعـَهُ و رجـاه . و عَـظـُمَ الـقِـيـلُ و الـقـَالُ ، و تـحـالـفـُوا عـلـى الـقِـتـَال ، و قـَوِيَـتْ الـعـصـبـيـة .
ثـمَّ تـداعـوا إلى الإنـصـاف ، و فـوَّضـوا الأمـر إلى ذِي رَأيٍ صَـائِبٍ و أَنـَاة ، فـَحَكَم بـتـحـكـيـم أَوَّلِ دَاخـلٍ مـن بـاب السَّـدنـة الـشـَّيـبـيـَّة ، فـكـان الـنـبـيّ صـلـى الـلـه عـلـيـه و سـلـم أَوَّلَ دَاخـلٍ ، فـقـالـوا : هـذا الأمـيـن ، و كـُلـُّنـا نـَقـْبـلـهُ و نـَرْضـَاه .
فـأخـبـروه بـأنـهـم رَضـُوه أن يـكـون صَـاحِـبَ الـحُـكـْم فـي هـذا الـمُـلِـمِّ وَ وَلـيـّه ، فـوضـع الـحـجـر فـي ثـَوبٍ ، ثـم أَمَـر أَن تـَرفـَعـهُ الـقـبائـل جـمـيـعـاً إلى مُـرتـَقـاه . فـَرَفـعُـوهُ إلـى مَـقـَرّهِ مـن رُكـنِ هـاتـيـك الـبَـنـِيـَّة ، و وضـعـه صـلـى الـلـه عـلـيـه و سـلـم بـيـده الـشـريـفـة فـي مـوضـعـه الآن و بَـنـَاه .
عـطـِّر الـلـهـم قـَبـْرَهُ الـكـَريـم بـعَـرْفٍ شـذِيٍّ مـن صَـلاَةٍ و تـَسـلِـيـم
( الـلـهـم صـلِّ وسـلـِّم و بـارك عـلـيـه )
و لـمَّـا كـَمُـل لـه صـلى الـلـه عـلـيـه و سـلـم أربـعـون سَـنـة ًعـلـى أوفـق الأقـوال لـذوي الـعَـالِـمـيَّـة ، بَـعـثـَه الـلـه تـَعالـى لـلـعـالـمـيـن بـشـيـراً و نـذيـراً فـَعَـمّـهـم بـِرُحْـمَـاه . وَ بُـدِىءَ إلـى تـمـام سـتـة أشـهـر بـالـرؤيـا الـصـادقـة الـجـلـيـة ، فـكـان لا يَـرى رُؤيـا إلا جـاءت مـثـل فـَلـَقِ صُـبـحٍ ضـَاء سَـنـاه .
و إنـمـا ابـتـُدىءَ بـالـرؤيـا ، تـمـريـنـاً لـلـقـُوى الـبـشـريـة ، لـئـلا يَـفـْجَـأَهُ الـمَـلـَكُ بـِصَـريـحِ الـنـُّبـوةِ ، فـلا تـَقـْواه قـُوَاه .
وَ حُـبِّـبَ إلـيـه الـخـَلاءُ ، فـكـان يَـتـَعَـبَّـدُ بـحـراءٍ الـلـيـالـي الـعـدَدِيـة ، إلـى أن أَتـاهُ فـيـه صَـرِيـحُ الـحـقِّ و وَافـَاه ، و ذلـك يـوم الاثـنـيـن لـسـبـعَ عـشـرة َخـلـت مـن شـهـر الـلـيـلـة الـقـَدرِيـة ، و ثـَمَّ أقـوالٌ : لـسـبـعٍ ، أو لأربـع و عـشـريـن مـنـه ، أو لـثـمـانٍ مـن مـولـده الـذي بـدا فـيـه بـَدرُ مُـحَـيّـاه .
فـقـال لـه : اقـرأ ، فـقـال : مـا أنـا بـِقـَارىء ، فـَغـَطـَّهُ غـطـّةً قـَويـّة ً، ثـمّ قـال لـه : اقـرأ ، فـقـال : مـا أنـا بـِقـَارىء ، فـَغـطـَّهُ ثـانـيـة حـتـى بـلـغ مـنـه الـجَـهـد و غـَطـَّاه ، ثـمَّ قـال لـه : اقـرأ ، فـقـال : مـا أنـا بـِقـَارىء ، فـَغـَطـَّه ثـالـثـة ًلـيـتـوجَّـه إلـى مـا سَـيُـلـْقـى إلـيـه بـِجـَمْـعـيـه ، وَ يُـقـَابـلـهُ بـِجـِدٍّ و اجـتـهـادٍ و يـتـلـقـاه .
ثـمَّ فـَتـَرَ الـوحـي ثـلاث سـنـيـن ، أو ثـلاثـيـن شـهـراً ، لـيـشـتـاق إلـى انـتـشـاق هَـاتِـيـكَ الـنـَّفـَحَـاتِ الـشـَّذيـَّة ، ثـُمَّ أُنـْزِلـت عـلـيـه { يَـا أَيُّـهَـا الـمُدَّثـِّر } وَ جـاءهُ جـِبـْريـلُ بـهـا و نـَادَاه .
فـكـان لـنـبـوَّتـه فـي تـقـدُّم { اقـْرَأْ بـِاسْـمِ رَبـِّكَ } شـَاهِـدٌ عـلـى أنَّ لـهـا الـسـابـقـيـَّة ، و الـتـَّقـدُّم عـلـى رسـالـته بـالـبـشـارة و الـنـَّذارَةِ لـمـن دَعـاه .
عـطِّر الـلـهـم قـَبْـرَهُ الـكـَريـم بـعَـرْفٍ شـذِيٍّ مِـن صَـلاَةٍ و تـَسـلـِيـم
( الـلـهـم صـلِّ وسـلـِّم و بـارك عـلـيه )