منطق الطير
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين, الذي تنزه عن الأشباه والنظائر وحارت دون إدراك جلاله الأحداق ودهشت في مجلى جماله النواظر....
اللّهمّ صل وسلم وبارك وأنعم وتكرم على حبيبنا ونبينا وقدوتنا ووسيلتنا إلى ربنّا سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد...

الشهيد الصوفي الكبير والأديب الفارسي الجهبذ مولانا فريد الدين العطار, صاحب المنظومة الشهيرة المعروفة بمنطق الطير, وصاحب ملحمة "إلهي نامة".
اختلف في تاريخ ولادته ووفاته, لكن أرجح الأقوال أنه ولد سنة 513 هـ وتوفي سنة 623 هـ.
قال الجامي في كتابه الماتع "نفحات الأنس من رياض القدس" وحضرة الشيخ استشهد في 627 هـ على يد الكفار وسنه المبارك في ذلك الوقت لكما يقولون 114 سنة" اهـ
وذكرته كثير من مصادر الترجمة لكنها تباينت في تحديد تاريخ ولادته ووفاته.

كيف سلك العطار طريق الصوفية؟
اختلف المؤرخون في كيفية سلوك العطار لطريق الصوفية.
فروى الجامي في نفحات الأنس أن العطار كان ذات يوم في دكان عطارته فمر به فقير وقال له عدة مرات: أعطني شيئا لله. فلم يأبه العطار بالفقير. فقال الفقير: أيها السيد كيف تموت؟ فقال العطار: كما ستموت أنت. فقال الفقير: أيمكنك أن تموت مثلي؟ فقال العطار: نعم. فوضع الفقير قطعة حطب كانت معه تحت رأسه وقال: الله. وأسلم الروح. فعند ذلك تغير حال العطار وتخلص من متجره توا, وسلك طريق القوم.

وآخرون قالوا أن العطار كان مولعا بالتصوف من صغره وأنه كان من تلاميذ الشيخ الكبير نجم الدين كبرى.

العطار فارسي من إيران فهل كان شيعيا؟

لا يختلف اثنان أن مولانا فريد الدين العطار كان من أعمدة الأدب الفارسي في بلاد إيران, مما حدا البعض إلى رميه بالتشيع, إلا أن منظومة منطق الطير تشهد بالعكس, وسيمر معنا ذلك, وعمد بعض الغلاة من الشيعة إلى حذف مقاطع من المنظومة في سبيل إثبات تشيع العطار.

منطق الطير
منظومة في حوالي الأربعة آلاف وستمائة وخمسين بيتا أخذ العطار اسمها من قوله تعالى:
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ
تحكي المنظومة قصة اجتماع الطيور إلى طائر الهدهد الذي يدعوهم إلى السفر إلى جبل قاف والبحث عن سيد الطيور وهو طائر السيمرغ الأسطوري أو ما يسمى بالعنقاء.
وتبدأ الرحلة التي خاض غمارها آلاف الطيور ليعبروا تلك الوديان والأنهار من أجل بلوغ جبل (قاف) ومقابلة ملك الطيور الا أن بعض الطيور بدأ بالتراجع والتخلف مبديا أعذارا مختلفة كالبطة التي آثرت البقاء في بحيرتها والبلبل الذي لا يستطيع الاستغناء عن وردته الحمراء. في المقابل واصلت بقية الطيور بقيادة الهدهد رحلتها الشاقة والخطرة لتواجه العديد من المخاطر والأهوال التي أهلكت عددا كبيرا منها وقتلت آلافا اخرى ليبقى في نهاية هذه الرحلة 30 طائرا صمدت أمام تلك الأهوال وبلغت جبل (قاف) بعد أن تحطمت قلوبها وسقمت أجسادها. وعند بلوغها هذا الجبل بحثت عن ملكها العظيم (العنقاء) أو (السيمورغ) – معناه بالفارسية " الثلاثون طائراً - بين سفوحه ووديانه لكنها لم تعثر عليه ليخبرها الهدهد بأن الملك العظيم موجود في أنفسها مختتما هذا العرض بهذه المقولة أن "السيمورغ كالمرآة الساطعة وكل من يقبل عليها يرى نفسه فيها..اذن انتم السيمورغ".
وهذه القصة هي رمز عن سلوك المريدين وصولا إلى الله من خلال هذه القصة الرمزية, يشير فيها المؤلف إلى ما يواجه المريد من أهوال في طريق العشق والتوحيد حتى يظفر بمطالعة الذات الإلهية.
ولقائل أن يقول: من الواضح أن الشاعر رمز بالسيمرغ إلى الذات الإلهية فكيف يستقيم ذلك والله منزه عن الظنون والأوهام؟
نقول: إن الشاعر استخدم لغة أدبية في ضرب المثل لتقريب أفكاره للقراء, ولا يعني هذا بالضرورة أن الله طائر أوأنه جسم وله مكان.
وهذا مأخوذ من القرآن الكريم في سورة النور عندما شبه الله نوره بالمشكاة لضرب المثل وتقريب المفهوم إلى الأذهان.
فالصورة هنا "مَثَل" بالفتح كما في قوله تعالى: "مثل نوره كمشكاة". وليست "مِثْل" بكسر فسكون لأنه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"
يبدأ الشاعر المنظومة بمدح سيدنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثم بمدح سيدنا أبو بكر الصديق فمر الفروق ثم ذو النورين عثمان ثم علي الكرار, ثم في ذم التعصب بين الشيعة والسنة ثم يحدث عن شفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته وينشأ بعدها في منظومته.
هذه مقتطفات من المنظومة.
يا من تكترث ،
هذا الكلام ليس لك
[ لقد طاف العطار بمدن العشق السبع ، ومازلنا نحن في منعطف جادة واحدة ]
يا خفياً في الروح وأنت خارجها ، إن كل ما أقوله ليس أنت ، وهو أنت أيضاً .
ما تقوله ، ما تعرفه ، كله نابع منك ، اعرف نفسك فقط ، لأن هذا الأمر أكبر مائة مرة منك .
انثروا الأرواح وسيروا في الطريق. وامضوا قدماً نحو تلك
الأعتاب ، فلنا ملك بلا ريب يقيم خلف جبل اسمه قاف . إنه » السيمرغ « ملك الطيور . بعيدون عنه وهو قريب
***
إذا كانت الوردة العديدة الوريقات محبوبتي ، فليكن الفقر وشاحي .
من يحضن البحر يملك القطرة . البحر فقط، والباقي هوس وخيال .
لماذا تركض نحو القطرة ، وأنت في طريق البحر ؟
الفلك طست مقلوب ، والطست يفيض كل ليلة بدم الشفق فاذا مرت الشمس بسيوف أشعتها تساقطت كل الرؤوس المدببة في طستها .
ينفطر القلب شوقاً للماء . الحسرة تحتويني فما العمل ؟
لست - ويا للعجب - من أهل البحر . إنني أموت - صادي الشفتين ، على شاطئ البحر . لا قطرة ماء أرتشفها ، مهما أرغى البحر وأزبد ، وإن تناقصت قطرة من ماء البحر أحرقت الغيرة القلب . كفاني أن أعشق البحر ، فالعشق بلغ المنتهى ، ولم يبق في الدنيا إلا هموم البحر .
اشتعلت أرواحنا ، واشتعلت النار ، والفراشة لا تنفر من النار ، إنها لا تعيش مع النار .
لا روح تسلو دون الأحبة . إن كنت رجلاً . لا تدع روحك بلا أحبة .
كفاني : أنني عاشقة الحجر . أطوف فوق الجوهر ، عشق الجوهر يؤجج النار في الصدر . الدم يتجمد في عروقي كحبات الحصى حين ينبعث الشرر . الجمر يحمر كالدم حين تنطلق ألسنة اللهب .
عشق الكنز وعشق الذهب ضربٌ من الكفر .
إن كنت قد ثملت من قطرة خمر واحدة ، فكيف تستطيع منادمة الأبطال في معاقرة الصهباء .
أين محراب تلك الفاتنة ، لئلا أشغل بغير الصلاة .

الوردة كاشفة أسراري . وعشق الوردة أفقدني حياتي
كفاني : ما يكمن بالرأس من عشق الوردة .
كفاني : أن تكون معشوقتي هذه الوردة .
البلبل لا يستطيع إدراك » السيمرغ « انه يكتفي بعشق الوردة .
بكومة ذهب تصادق الخلق ، وبهذه الكومة تكون لصاً بكتفٍ موسوم .
إن تعط مقدار حبة ذهباً إلى صوفي ، فإما أنك تقتله بذلك ، وإما أنك تقتل بذلك نفسك.
عشقت الذهب ، حتى صار هذا العشق جحيماً في جسدي ،

وعندما لا تكون في يدي وردة الذهب . فإنني لا أستقر مثل

وردة متفتحة . فعشق الدنيا وذهبها جعلاني مفعماً بالإدعاء ، وبلا معنى .
العمل هو تصديق الأمر .
إذا لم يكن ممكناً البقاء طويلاً في هذا السجن ، فعليك

بتخليص نفسك في الكل .
يا من تجدين سعادتك في الماء . الماء يحيط بروحك كما تحيط النار بالماء . يا من تهنأين بالنوم على الماء . قطرة
*****
تكثر الجلوس أمام الباب المغلق . فسيفتحه شخصٌ ما بدون أدنى شك.
يا للحسرة على ما تحملناه من آلام الطريق . لقد قطعنا الأمل من أنفسنا ، ولكن لم نقطع من الهدف المنشود .
ليس سلطاناً من لم تنفذ أفعاله في كل الأقاليم . والسلطان هو من لا شبيه له .
إن هؤلاء الفجرة الفسقة ، سائرون في طريق المعنى .

أيها الجهلة ، متى كان العشق مستساغاً من سيئ الطوية ؟
*****
أيها الثرثار لقد تكلمت كثيراً ، أصمت ، وابحث عن الأسرار .
يا عطار ، ألا تتكلم ؟
» منطق الطير «

نسأل الله تعالى أن يوفقنا أن نتصف بصفات عباده الصالحين, وأن نتخلق بأخلاق سيد المرسلين سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم. آمين. والحمد لله ربّ العالمين, ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم, وصلى الله وسلم على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.