أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً طيباً ، وعملاً متقبلاً           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 02-02-2011
  #31
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الثلاثون

من المكتوب الحادي والثلاثين، وثمرة من ثمار سجن ((اسكي شهر)) وذيل الذيل للكلمة الثلاثين. وهي عبارة عن ست نكات.

هذا الدرس القيّم ثمرةٌ من ثمار سجن ((اسكي شهر )) وحصيلة مدرستها اليوسفية، مثلما كانت رسالة (( الثمرة )) ثمرة أينعها سجن (( دنيزلي )) وكما كانت رسالة ((الحجة الزهراء)) درساً بليغاً أزهر في سجن ((آفيون)).

تضم هذه الرسالة - وهي اللمعة الثلاثون - نكاتٍ دقيقة لستةٍ من الاسماء الحسنى التي هي الاسم الاعظم.

في القسم الذي يخص اسم الله (( الحي)) و (( القيوم )) من الاسم الاعظم مسائل عميقة وواسعة جداً قد لايستطيع كل أحد أن يستوعبها كلها ويتذوقها جميعاً، الاّ انه لا يبقى أحدٌ دون نصيب منها وفائدة يغنمها ".

النكتة الاولى

تخص احدى نكات اسم الله

القدوس

بسم الله الرحمن الرحيم

} والارضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُون { (الذاريات: 48)

لقد تجلت لي نكتة من نكات هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله ((القدوس )) وهو الاسم الاعظم أو أحد انوراه الستة، وانا نزيل سجن ((اسكي شهر)) أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: الوجود الإلهي بوضوح تام، وكشف لي: الوحدانية الربانية بجلاء، كما يأتي:

لقد تراءى لي هذا الكون وهذه الكرة الارضية كمعمل عظيم دائب الحركة، وشبيهة بفندق واسع، او دار ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع علماً ان دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والانقاض، ويصيب كل شئ بالتلوث، وتضيق فيها اسبابُ الحياة. فان لم تعمل يد التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً ادّت تلك الاوساخ الى اختناق الانسان واستحالة عيشه...

بيد اننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الارضية هذه أثراً للنفايات، كما انه لا توجد في أية زاوية من زاواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو اُلقِيَتْ عبثاً، حتى ان ظهرت مادةٌ كهذه سرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها الى مادة نظيفة...

فهذا الامر الدائب يدلنا على: ان الذي يراقب هذا المعمل انما يراقبه بكل عناية واتقان، وان مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه - رغم ضخامته - أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسبةً مع كُبر المعمل وضخامته. فالمراعاة بالتطهير اذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعمل وسعته، لأن الانسان الفرد إن لم يستحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!

اذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو الاّ نابع من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم.. فلولا هذه المراقبة المستديمة للنظافة، والعناية المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الارض - باجوائها الموبوءة - مئاتُ الآلاف من الاحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبة الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرّضة للموت والاندثار، لكانت انقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطم رؤوسَنا ورؤوس الاحياء الاخرى، بل رأس الدنيا! ولكانت تمطر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي - نتيجة الاندثار - سوى بضعة نيازك، ولم تُصب احداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر! ولولا التنظيف الدائب والتطهير الدائم في سطح الارض، لكانت الانقاض والاوساخ والاشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الالوف من أمم الاحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارة تصل الى حد ينفر كلُّ من له شعور ان ينظر الى وجه الارض الدميم، بل كان يسوقه الى الفرار منها الى الموت والعدم ناهيك عن حبه وعشقه.

نعم، مثلما ينظف الطيرُ اجنحته بسهولة تامة أو يطهـِّر الكاتب صحائف كتابه بيُسر كامل، فان اجنحة هذه الارض الطائرة – مع الطيور السماوية في الفضاء – وصحائف هذا الكتاب العظيم – أعني الكون – ينظـِّفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل ان تطهير سطح الارض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الاتقان ما يجعل الذين لا يرون - بايمانهم - جمال الآخرة يعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!

اذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظَيا بتجلٍ من تجليات اسم الله ((القدوس)) عليهما، حتى انه عندما تصدر الاوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها ايضاً أنواع الديدان والنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الاوامر التنظيفية حتى الكريات الحمراء والبيضاء الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الاجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف اجنحته دائماً..

ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الاوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها ايضاً الرياح الهوج والسحاب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الارض من النفايات، والاخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملة ادواتها ليعود الجمالُ الساطع الى وجه السماء صافياً متلألئاً.

ومثلما تستمع لتلك الاوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجوم، والعناصر، والمعادن، والنباتات باشكالها وانواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى انها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للالباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل لو تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة الى أخذ أطهر الاوضاع وانظفها وأسطعها واصفاها، وأخذ أجمل الصور وانقاها وألطفها.

وهكذا فان فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبِّر عن حقيقة واحدة هوتجلٍّ اعظم من تجليات اسم ((القدوس)) الاعظم،يُرى ذلك التجلي الاعظم حتى في أعظم دوائر الكون واوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع اسمائها الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيون النافذة النظر.

وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب اجزاء (رسائل النور): ان فعل التنظيم والنظام الذي هو تجلٍ من تجليات اسم الحَكَم والحكيم، وان فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم العدل والعادل، وان فعل التزيين والاحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الجميل والكريم، وان فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الرب الرحيم.. كل فعل من هذه الافعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله، فكل منها يشير الى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء.

كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم ((القدوس)) يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار..

وكما ان الافعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وامثالها من الافعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في اوسع الآفاق الكونية، كذلك اكثر الاسماء الحسنى، بل كل اسم من الف اسم واسم من الاسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في اوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الاحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.

نعم، ان الحكمة العامة التي تُخضع كل شئ الى قانونها ونظامها، والعناية الشاملة التي تجمّل كل شئ وتزيّنه، والرحمة الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شئ وتجعله في حمدٍ دائم، والرزق العام الذي يعتاش عليه كلُ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياة والإحياء التي تربط كل شئ بالاشياء الأخرى، وتجعل الشئ ينتفع من كل شئ كأنه مالك للاشياء..

هذه الحقائق وامثالها، المشهودة بالبداهة، والمتسمة بالوحدة، والجاعلة وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهل بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي، كما يدل الضوءُ على الشمس. ولله المثل الاعلى.

فكل فعل من هذه الافعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد الى (الواحد الاحد) سبحانه لنتجت اذاً مئات المحالات بمئات من الأوجه.

فمثلاً: انه ليست الافعال كلها كالحكمة والعناية والرحمة والاعاشة والإحياء والاماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعل التطهير لو لم يُسند الى رب العالمين للزم - في طريق الكفر والضلالة -ان يكون كلُّ شئ له علاقةٌ بالتنظيف ابتداءً من الذرات، الى الحشرات، الى العناصر، الى النجوم، على علمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينه وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الامور وفقها، ويقدِر على التحرك.

أو يلزم ان يتصف كلٌ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!

أو يلزم ان يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وان يشكــِّل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!..

وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر الى مئات من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهر التزيين المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الارجاء كافة. اي لاينشأ محال واحد بل مئات الالوف من المحالات.

نعم، ان لم يسند ضوء النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شئ على سطح الارض، الى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على انها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجود شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوء الذي يعم الوجود!!

وهكذا؛

فالحكمة ضياءٌ، والرحمة الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌ منها ضياء شامل محيط وشعاع من اشعة ذلك النور الازلي سبحانه.

فانظر الآن بنور هذا الايمان لترى كيف يسقط أهل الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقة أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً:

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الايمان.

نعم، ان هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصر العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍ من تجليات اسم ((القدوس)) ومقتضىً من مقتضياته.

وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعها الى اسم ((القدوس)) وترنو اليه، كذلك يستدعي اسم ((القدوس)) نظافة تلك المخلوقات وطهارتها(1) حتى عدّ الحديث الشريف ((النظافة من الايمان)) الطهور نوراً من انواره(2) لارتباطه القدسي هذا، واظهرت الآية الكريمة ان الطُهر مدعاة الى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى:

} انَّ الله يحبّ التوابينَ ويحبّ المتطهرين { (البقرة:222).

النكتة الثانية

تخص احدى نكات اسم الله

العدل

} وإنْ مِن شيءٍ إلاّ عِندَنا خزائِنهُ وَمَا نُنَزِّلـُه الاَّ بِقَدَرٍ مَعْلوُم { (الحجر:21)

لقد تراءت لي نكتة لطيفةٌ من لطائف هذه الآية الكريمة، ونور من انوار تجليات اسم الله: ((العدل)) الذي هو اسم الله الاعظم، أو هو نور من أنواره الستة.

تراءى لي ذلك النور من بعيد - كما هو الحال في النكتة الاولى - وانا نزيل سجن ((اسكي شهر)) ولأجل تقريبه الى الافهام نسلك أيضاً طريق ضرب الامثال. فنقول:

هذا الكون قصر بديع يضم مدينة واسعة تتداولها عوامل التخريب والتعمير، وفي تلك المدينة مملكة واسعة تغلي باستمرار من شدة مظاهر الحرب والهجرة، وبين جوانح تلك المملكة عالم عظيم يسبَح كل حين في خضم الموت والحياة.. ولكن على الرغم من كل مظاهر الاضطراب، فان موازنةً عامة وميزاناً حساساً، وعملية وزنٍ دقيق تسيطر في كل جوانب القصر ونواحي المدينة وتسود في كل ارجاء المملكة واطراف العالم، وتهيمن عليها هيمنة، بحيث تدل بداهة:

ان ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العدّ من تحولات، وما يلجُ فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون الاّ بعملية وزنٍ وكَيْلٍ، وميزان مَن يرى انحاء الوجود كلها في آن واحد، ومن تجري الموجوداتُ جميعُها أمامَ نظر مراقبته في كل حين... ذلكم الواحد الأحد سبحانه.

والاّ فلو كانت الاسباب الساعية الى اختلال التوزان، سائبة أو مفوضة الى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة البلهاء، لكانت بويضات سمكةٍ واحدة التي تزيد على الالوف تخل بتلك الموزانة، بل بذيرات زهرةٍ واحدة - كالخشخاش - التي تزيد على العشرين ألف تخل بها، ناهيك عن تدفق العناصرالجارية كالسيل، والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في ارجاء الكون.. كل منها لو كان سائباً لكان قميناً أن يخل بتلك الموزانة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات، ويفسد التوزان الكامل بين اجزاء الكائنات خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد. ولكنت ترى العالم وقد حلّ فيه الهرجُ والمرج وتعرّض للاضطرابات والفساد..

فالبحار تمتلئ بالانقاض والجثث، وتتعفن.

والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة، ويفسد.

والارض تصبح مزبلة ومسلخة، وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.

فان شئت فأنعم النظر، في الموجودات كلها، ابتداء من حجيرات الجسم الى الكريات الحمراء والبيضاء في الدم، ومن تحولات الذرات الى التناسب والانسجام بين اجهزة الجسم، ومن واردات البحار ومصاريفها الى موارد المياه الجوفية وصرفياتها، ومن تولدات الحيوانات والنباتات ووفياتها الى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر وحركات النجوم الى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام الى تعارض الحرارة والبرودة.. وما شابهها من أمور، كي ترى ان الكل: يوزَن ويُقدَّر بميزان خارق الحساسية، وان الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقلُ الانسان ان يرى اسرافاً حقيقياً في مكان وعبثاً في جزء.. بل يلمس علمُ الانسان ويشاهد اكملَ نظامٍ واتقنَه في كل شئ فيحاول أن يُريَه، ويرى اروَع توازنٍ وابدعه في كل موجود فيسعى لإبرازه.

فما العلوم التي توصَّل اليها الانسان الاّ ترجمة لذلك النظام البديع وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.

فتأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الاثنتى عشرة التي كل منها مختلفة عن الاخرى، الا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس نفسها على الله سبحانه الذي هو ((العدل القدير))؟

ثم تأمل في الارض – وهي احدى الكواكب السيارة – هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء التي تجول في سنة واحدة مسافة يقدَّر طولها باربع وعشرين الف سنة. ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر المواد المنسقة على سطحها ولا تضطرب بها ولا تطلقها الى الفضاء.. فلو زيد شئٌ قليل في سرعتها أو أنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها الى الفضاء، ولو أخلّت بموازنتها لدقيقة - بل لثانية واحدة - لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة.

ثم تأمل في تولدات ووفيات النباتات والحيوانات واعاشتهما وحياتهما على الارض والتي يزيد عدد انواعها على الاربعمائة الف نوع، ترى موازنة رائعة ذات رحمة، تدلك دلالة قاطعة على ((الخالق العادل الرحيم)) جلّ جلالُه، كدلالة الضياء على الشمس.

ثم تأمل في اعضاء كائن حي من الاحياء التي لاتعد ولا تحصى، ودقق في اجهزته وفي حواسه.. تَرَ فيها من الانسجام التام والتناسق الكامل والموازنة الدقيقة ما يدلّك بداهة على الصانع الذي هو ((العدل الحكيم)).

ثم تأمل في حجيرات جسم كائن حي وفي اوعية الدم، وفي الكريات السابحة في الدم، وفي ذرات تلك الكريات، تجد من الموزانة الخارقة البديعة ما يثبت لك اثباتاً قاطعاً انه لا تحصل هذه الموازنة الرائعة ولا ادارتها الشاملة، ولا تربيتها الحكيمة الاّ بميزان حساسٍ وبقانونٍ نافذ وبنظام صارم للخالق الواحد الاحد ((العدل الحكيم)) الذي بيده ناصية كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ. لايحجب عنه شئ ولايعزب، ويدير كل شئ بسهولة ادارة شئ واحد.

ان الذي لا يعتقد ان اعمال الجن والانس يوم الحشر الاكبر توزن بميزان العدل الإلهي، ويستغرب منها ويستبعدها ولا يؤمن بها، أقول لو تمكّن ان يتأمل فيما هو ظاهر مشاهدَ من انواع الموازنة الكبرى امامه في هذه الدنيا لزال استبعاده واستنكاره حتماً.

ايها الانسان المسرف الظالم الوسخ.!

اعلم، ان الاقتصاد والطهر والعدالة سنن الهية جارية في الكون، ودساتير الهية شاملة تدور رحى الموجودات عليها لايفلت منها شئ الاّ انت ايها الشقي، وانت بمخالفتك الموجودات كلها في سيرها وفق هذه السنن الشاملة تلقى النفرة منها والغضب عليك وانت تستحقها..

فعلامَ تستند وتثير غضبَ الموجودات كلها عليك فتقترف الظلم والاسراف ولاتكترث للموازنة والنظافة؟

نعم، ان الحكمة العامة المهيمنة في الكون والتي هي تجلٍ أعظم لاسم (الحكيم ) انما تدور حول محور الاقتصاد وعدم الاسراف، بل تأمر بالاقتصاد.

وان العدالة العامة الجارية في الكون النابعة من التجلي الاعظم لاسم (العدل) انما تدير موازنة عموم الاشياء، وتأمر البشرية باقامة العدل.

وان ذكر الميزان اربع مرات في (سورة الرحمن) اشارة الى اربعة انواع من الموازين في اربع مراتب وبيان لأهمية الميزان البالغة ولقيمته العظمى في الكون. وذلك في قوله تعالى: } والسماء رفَعها وَوَضَع الميزان ` الاَّ تَطْغَوا في الميزان` وَاقِيمُوا الوزْنَ بالقِسْطِ ولا تُخْسِروا الميزانَ { (الرحمن: 7- 9).

نعم، فكما لا اسراف في شئ، فلا ظلم كذلك ظلماً حقيقياً في شئ، ولا بخسَ في الميزان قط، بل ان التطهير والطهر الصادر من التجلي الاعظم لاسم (القدوس) يعرض الموجودات بأبهى صورتها وابدع زينتها، فلا ترى ثمة قذارة في موجود، ولا تجد قبحاً اصيلاً في شئ ما لم تمسّه يد البشر الوسخة.

فاعلم من هذا ان (العدالة والاقتصاد والطهر) التي هي من حقائق القرآن ودساتير الاسلام، ما أشدها ايغالاً في اعماق الحياة الاجتماعية، وما اشدها عراقة واصالة. وأدرك من هذا مدى قوة ارتباط احكام القرآن بالكون، وكيف انها مدّت جذوراً عميقة في اغوار الكون فأحاطته بعرىً وثيقة لا انفصام لها. ثم افهم منها ان افساد تلك الحقائق ممتنعٌ كامتناع افساد نظام الكون والاخلال به وتشويه صورته.

ومثلما تستلزم هذه الحقائق المحيطة بالكون، وهذه الانوار العظيمة الثلاثة (العدالة والاقتصاد والطهر) الحشرَ والآخرة فهناك حقائق محيطة معها: كالرحمة والعناية والرقابة، وامثالها مئات من الحقائق المحيطة والانوار العظيمة تستلزم الحشر وتقتضي الحياة الآخرة، اذ هل يمكن ان تنقلب مثل هذه الحقائق المهيمنة على الموجودات والمحيطة بالكون الى اضدادها بعدم مجئ الحشر وبعدم اقامة الآخرة، أي ان تنقلب الرحمةُ الى ضدها وهو الظلم، وتنقلب الحكمةُ او الاقتصاد الى ضدهما وهو العبث والاسراف، وينقلب الطُهر الى ضده وهو العبث والفساد. حاشَ لله..

ان الرحمة الإلهية، والحكمة الربانية اللتين تحافظان على حق حياة بعوضةٍ ضعيفة محافظةً تتسم بالرحمة الواسعة، لا يمكن ان تضيّعا - بعدم اقامة الحشر - حقوق جميع ذوي الشعور غير المحدودين وتهضما حقوقاً غير متناهية لموجودات غير محصورة..

وان عظمة الربوبية التي تُظهر دقة متناهية وحساسية فائقة - اذا جاز التعبير - في الرحمة والشفقة والعدالة والحكمة، وكذا الالوهية الباسطة سلطانها على الوجود كله والتي تريد اظهار كمالاتها وتعريف نفسها وتحبيبها بتزييناتها الكائنات ببدائع صنائعها وبما أسبغت عليها من نِعَمٍ هل يمكن ان تسمح - هذه الربوبية العظيمة والالوهية الجليلة - بعدم اقامة الحشر الذي يسبب الحطّ من قيمة جميع كمالاتها ومن قيمة مخلوقاتها قاطبة؟.

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فمثل هذا الجمال المطلق لا يرضى - بالبداهة - بمثل هذا القبح المطلق.

فالذي يريد ان ينكر الآخرة عليه ان ينكر وجود هذا الكون اولاً بجميع ما فيه من حقائق. والاّ فالكائنات مع حقائقها المتأصلة فيها تكذِّبه بالوفٍ من الألسنة، وتثبت له انه الكذّاب الأشر.

وقد أثبتت ((رسالة الحشر)) بدلائل قاطعة: ان وجود الآخرة ثابت وقاطع لاريب فيه كوجود هذه الدنيا.

النكتة الثالثة

تشيرالى النور الثالث من الانوار الستة للاسم الاعظم :

الحكم

} ادعُ الى سَبيل ربك بالحِكْمةِ{ (النحل:125)

لقد تراءت لي نكتة من النكات الدقيقة لهذه الآية الكريمة، ونور من أنوار تجليات اسم الله (الحَكَم) الذي هو اسم الله الاعظم، أو أحد أنواره. في شهر رمضان المبارك. فكُتبت هذه النكتة المشتملة على خمس نقاط على عجل، فأثبتّها على حالها في المسودة دون تنقيح أو تغيير.

النقطة الاولى:

مثلما ذكرنا في ((الكلمة العاشرة)) ان التجلي الاعظم لاسم (الحَكَم) جعل هذا الكون بمثابة كتاب عظيم كُتبتْ في كل صحيفة من صحائفه مئات الكتب، واُدرجت في كل سطر منه مئات الصفحات، وخُطَّتْ في كل كلمة منه مئات الاسطر، وتُقرأ تحت كل حرف فيه مئات الكلمات، وحُفِظَ في كل نقطة من نقاطه فهرسٌ مختصر صغير يلخص محتويات الكتاب كله.. فهذا الكتاب بصفحاته وأسطره بل بنقاطه يدل دلالة واضحة ساطعة - بمئات الأوجه - على مصوِّرِه وكاتبه، حتى أن مشاهدة الكتاب الكوني العظيم هذا وحدَها كافية للدلالة على وجود كاتبه، بل تسوقنا الى معرفة وجوده ووحدانيته بما يفوق دلالة الكتاب على نفسه اضعافاً مضاعفة.

اذ بينما يدل الحرفُ الواحد على وجوده ويعبّر عن نفسه بمقدار حرف فأنه يعبّر عن أوصاف كاتبه بمقدار سطر..

نعم! ان سطح الارض ((صحيفة)) من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والاتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً الى جنب، في آن واحد.

والبستان ((سطر)) من هذه الصحيفة، نشاهد فيه قصائد منظومة وهي تُكتب أمام أعيننا بعدد الازهار والاشجار والنباتات، كتابةً متداخلة، جنباً الى جنب، من دون خطأ.

والشجرة النامية الزاهية أوراقُها، المفتحة أزهارُها، وقد أوشكت أن تخرج أثمارُها من اكمامها، هذه الشجرة ((كلمةٌ)) من ذلك السطر، فهذه الكلمة تمثل فقرةً كاملة ذات مغزى تعبّر تعبيراً بليغاً عن ثنائها وحمدها ودلالتها على ((الحكم)) ذي الجمال، بعدد أوراقها المنتظمة وأزهارها المزينة وأثمارها الموزونة، حتى لكأن تلك الشجرة المفتحة الازهار قصيدةٌ عصماء تتغنى بالمدح والثناء على آلاء بارئها المصور الجليل.

وكأن ((الحكيم)) ذا الجلال يريد أن ينظر عباده الى ما عَرَضه من بدائع آثاره وعجائب مخلوقاته في معرض الارض البديع بألوف من العيون.

وكأن تلك الهدايا الثمينة والأوسمة الغالية والشارات اللطيفة التي منحها الله تعالى لتلك الشجرة قد أعطتها من الشكل الجميل المزيَّن، والهيأة الموزونة المنتظمة، والابانة الحكيمة البليغة ما يهيؤها للعرض أمام أنظار الملِك العظيم في يوم عيده البهيج وعرضه العام للمخلوقات.. في الربيع الزاهي.. فتنطلق بالشهادة على وجود البارئ المصور، والدلالة على أسمائه الحسنى ألسنةٌ عديدة ووجوهٌ كثيرة متداخلة؛ من كل زهرة من أزهار الشجرة، ومن كل ثمرة من ثمارها.

فمثلاً: ان كل ما في الزهرة والثمرة موزونٌ بميزان دقيق، وذلك الميزان مقدّر وفق تناسق بديع، وذلك التناسق يسير منسجماً مع تنظيم وموازنةٍ يتجددان، وذلك التنظيم والموازنة يجريان في ثنايا زينة فاخرة وصنعة متقنة، وتلك الزينة والاتقان يظهران بروائح ذات مغزى وبمذاقات ذات حكمة.. وهكذا تشير كل زهرة الى ((الحكم)) ذي الجلال اشاراتٍ، وتدل عليه دلالات، بعدد أزهار تلك الشجرة.

والشجرة التي هي بمثابة كلمة، وثمارها التي هي بحكم حروف تلك الكلمة، وبذور الثمر كأنها نقاط تلك الحروف التي تضم فهرس الشجرة كاملاً وتحمل خطة اعمالها. هذه الشجرة اذا اخذناها مثالاً وقسنا عليها كتاب الكون الكبير، نرى سطورَه وصحائفه قد صارت بتجلى انوار اسم ((الحكيم الحَكَم)) معجزة باهرة، بل غدت كل صحيفة منه، وكل سطر منه، وكل كلمة، وكل حرف، وكل نقطة معجزة تبلغ من العظمة ما لو اجتمعت الاسباب المادية كلها على أن تأتي بمثل تلك النقطة - أي البذرة - أو بنظيرها لا تأتي بمثلها. بل تعجز الاسباب جميعُها عجزاً مطلقاً عن معارضتها.

نعم، ان كل آية كونية من آيات قرآن الكون العظيم المنظور تُعرِض للانظار معجزاتٍ نيّرات هي بعدد نقاطها وحروفها، فلا جرم أن المصادفة العشواء والقوة العمياء، والطبيعة الصماء البلهاء التي لا هدف لها ولا ميزان، لا يمكنها ان تتدخل - في أية جهة كانت - في هذا الميزان المتقن الخاص، وفي هذا الانتظام الدقيق البديع المتّسمين بالحكمة والبصيرة. فلو اُفترض تدخلها - جدلاً - لظهر أثر التدخل، بينما لا يشاهَد في أي مكان تفاوتاً ولا خللاً قط.

النقطة الثانية:

وهي مسألتان:

l المسألة الاولى: مثلما وضح في ((الكلمة العاشرة)) أنه من القواعد الاساسية الرصينة:

ان الجمال الذي هو في منتهى الكمال لابد أن يَشهَد ويُشهِدَ جمالَه.

وان الكمال الذي هو في منتهى الجمال لابد أن يَشهَد ويُشهِد كمالَه.

فبناء على هذا الدستور العام فان البارئ المصور سبحانه الذي أبدع كتاب الكون العظيم هذا يعرِّف جمالَ كمالِه ويحبّبه بألسنةِ مخلوقاته - ابتداءً من أصغر جزئي الى أكبر كلي - فيعرِّف سبحانه ذاتَه المقدسَّة، ويفهّم كمالَه السامي، ويُظهر جمالَه البديع: بهذا الكون الرائع، وبكل صحيفة فيه، وبكل سطر فيه، وبكل كلمة فيه، بل حتى بكل حرف وبكل نقطة من كتابه العظيم هذا.

فيا أيها الغافل! ان هذا ((الحكيم الحَكمَ الحاكم)) ذا الجلال والجمال، اذ يعرّف نفسَه لك ويحبّبها اليك بكل مخلوقٍ من مخلوقاته، وبهذه الصورة الرائعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الوسائل البديعة، اِن لم تقابِل تعريفَه هذا بالايمان به ولم تعرِفه، وإن لم تقابِل تحبيبه هذا بالعبادة له ولم تحبّب نفسَك اليه، فما أعظم جهلك اذن، وما أفدح خسارتك!. أحذر!. أنتبه!.. وأفِق من غفلتك!.

l المسألة الثانية: انه لا مكان للشرك قط في هذا الكون الشاسع العظيم الذي أبدعه الصانع القدير الحكيم بقدرته وحكمته؛ لأن وجود منتهى النظام في كل شئ لن يسمح بالشرك ابداً، فلو تدخلت أيدٍ متعددة في خلق شئٍ ما لبان التفاوت والاختلال في ذلك الشئ، مثلما تختلط الامور اذا ما وجد سلطانان في بلاد، ومسؤولان في مدينة، ومديران في قصبة، ومثلما يرفض أبسط موظف تدخل أحدٍ في شأن من شؤونه التي تخص وظيفته..

كل ذلك دلالة على ان الخاصة الاساسية للحاكمية انما هي: ((الاستقلال)) و((الانفراد)) فالانتظام يقتضي الوحدة كما ان الحاكمية تقتضي الانفراد.

فاذا كان ظلٌ باهت زائل للحاكمية لدى هذا الانسان العاجز الفقير يردّ المداخلة بقوة، فكيف بالحاكمية الحقيقية التي هي في مرتبة الربوبية المطلقة لدى القدير المطلق سبحانه؟ ألا تردّ الشرك وترفضه رفضاً باتاً؟.

فلو اُفترض التدخل - ولو بمقدار ذرة - لاختلط الانتظام والتناسق واختل النظام والميزان!. مع العلم ان هذا الكون قد أبدع ابداعاً رائعاً الى حد يلزم لخَلْق بذرة واحدة قدرة قادرة على خلق شجرة كاملة، ويلزم لخلق شجرة واحدة قدرة قادرة لإبداع الكون كله. واذا ما افتُرض وجود شريك في الكون كله وَجَب أن يظهر نصيبهُ في التدخل لخلقِ أصغر بذرة مثلاً - اذ البذرة نموذج الكائنات - وعندئذ يلزم استقرار ربوبيتين - لا يسَعهما الكونُ العظيم - في بذرة صغيرة، بل في ذرة!! وهذا من أسخف المحالات والخيالات الباطلة وأبعدها عن المنطق والعقل.

فاعلم من هذا! ما أتفه الشرك والكفر من خرافة! وما اكذبهما من كلمة! وما أفظعهما من افتراء! اذ يقتضيان عجز القدير المطلق الذي يمسك السموات والارض أن تزولا، والذي بيده مقاليد السموات والارض يديرهما بميزان عدله ونظام حكمته.. يقتضيان عجزه سبحانه حتى في بذرة صغيرة!!

واعلم! ما أصوبَ التوحيد من حق وحقيقة! وما أعدله من صدق وصواب! ادرك هذا وذاك وقل: الحمد لله على الايمان.

النقطة الثالثة:

ان الصانع القدير باسمه ((الحَكَم والحكيم)) قد أدرج في هذا العالم ألوف العوالم المنتظمة البديعة، وبوأ الانسانَ - الذي هو اكثر من يمثل الحِكَم المقصودة في الكون وأفضل مَن يظهرها - موقعَ الصدارة، وجعله بمثابة مركز تلك العوالم ومحورها؛ اذ يتطلع ما فيها من حِكَم ومصالح الى الانسان. وجعل الرزق بمثابة المركز في دائرة حياة الانسان؛ فتجد ان معظم الحِكَم والغايات وأغلب المصالح والفوائد – ضمن عالم الانسان – تتوجه الى ذلك الرزق وتتضح به؛ لذا فان تجليات اسم ((الحكيم)) تبدو واضحة بأبهر صورها واسطعها من خلال مشاعر الانسان، ومن تضاعيف مذاقات الرزق، حتى غدا كل علم - من مئات العلوم التي توصّل الانسان الى كشفها بما يملك من شعور - يعرِّف تجلياً واحداً من تجليات اسم ((الحَكَم)) في نوع من الأنواع.

فمثلا:

لو سُئل علم الطب: ما هذه الكائنات؟

لأجاب: انها صيدلية كبرى اُحضرت فيها باتقان جميع الادوية وأدّخرَت.

واذا ما سُئل علم الكيمياء: ما هذه الكرة الارضية؟

لأجاب: انها مختبر كيمياء منتظم بديع كامل.

على حين يجيب علم المكائن: انها معمل منسَّق كامل لا ترى فيه نقصاً.

كما يجيب علم الزراعة: انها حديقة غنَّاء ومزرعة معطاء، تستنبت فيها انواع المحاصيل، كلٌ في أوانه.

ولأجاب علم التجارة: انها معرض تجاري فخم، وسوق في غاية الروعة والنظام، ومحل تجاري يحوي أنفس البضائع المصنوعة وأجودها.

ولأجاب علم الاعاشة: انها مستودع ضخم يضم الأرزاق كلها بأنواعها وأصنافها.

ولأجاب علم التغذية: انها مطبخ رباني تطبخ فيه مئات الالوف من الاطعمة الشهيَّة اللذيذة جنباً الى جنب بنظام في غاية الاتقان والكمال.

ولو سئل علم العسكرية عن الارض!

لأجاب: انها معسكر مهيب يُساق اليه في كل ربيع جنودٌ مسلحون جُدد يؤلفون أمماً مختلفة من النباتات والحيوانات يبلغ تعدادها اكثر من اربعمائة ألف أمة، فتُنصَب خِيَمُهم في ارجاء سطح الارض. وعلى الرغم من أن ارزاق كل أمَّة تختلف عن الاخرى، وملابسها متغايرة واسلحتها متباينة، وتعليماتها مختلفة، ورُخَصها متفاوتة، الا ان أمور الجميع تسير بانتظام رائع، ولوازم الجميع تُهيأ دون نسيان ولا التباس، وذلك بأمر من الله تعالى وبفضل رحمته السابغة صادراً من خزينته الواسعة.

واذا ما سئل علم الكهرباء!

لأجاب: ان سقف قصر الكون البديع هذا قد زُيِّن بمصابيح متلألئة لاحدَّ لكثرتها ولا منتهى لروعتها وتناسقها، حتى ان النظام البديع والتناسق الرائع الذي فيه يحولان دون انفجار تلك المصابيح السماوية المتوهجة دوماً - وهي تكبر الارض الف مرة وفي مقدمتها الشمس - ودون انتقاص توازنها او نشوب حريق فيما بينها..

تُرى من أي مصدرٍ تُغذّى تلك المصابيح التي لا يحد ولا ينفد استهلاكها؟. ولِمَ لا يختل توازن الاحتراق؟ علماً ان مصباحاً زيتياً صغيراً إن لم يُراعَ ويُعتنَ به باستمرار ينطفئ نورُه ويخبُ.. فسبحانه من قدير حكيم ذي جلال كيف أوقد الشمس - التي هي أضخم من الارض بمليون مرة ومضى على عمرها أكثر من مليون سنة - حسب ما توصل اليه علم الفلك - دون ان تنطفئ ومن دون وقود أو زيت ..(1)

تأمل في هذا وسبّح باسم ربك العظيم وقل: ما شاء الله، تبارك الله، لا اله الا الله.. قلها بعدد الثواني التي مرت على عمر الشمس.. فلاشك ان نظاماً بديعاً صارماً هو الذي يهيمن على هذه المصابيح السماوية المتلألئة ولابد أن رعايتها، ومراقبتها دقيقة، حتى كأن مصدر الحرارة - والمرجل البخاري - لتلك الكتل النارية التي هي في منتهى الضخامة وفي غاية الكثرة، انما هي جهنم لا تنفد حرارتُها وترسلها الى الكل مظلمة قاتمة بلا نور. وكأن ماكنة تلك المصابيح المنورة والقناديل المضيئة التي لاتعد ولا تحصى هي جنة دائمة ترسل اليها النور والضياء فيستمر اشتعالها المنتظم بالتجلي الاعظم لاسم ((الحكم والحكيم)).

وهكذا قياساً على هذه الامثلة، فان كل علمٍ من مئات العلوم يشهد قطعاً: ان هذا الكون قد زُيِّن بحِكَمٍ ومصالح شتى ضمن انتظام كامل لا نقص فيه، وان تلك الانظمة البديعة والحِكَم السامية النابعة من تلك الحكمة المعجزة المحيطة بالكون قد أدرجت بمقياس اصغر، حتى في اصغر كائن حي وفي أصغر بذرة..

ومن المعلوم بداهة ان تتبع الغايات وارداف الحِكَم والفوائد بانتظام لايحصل الا بالارادة والاختيار والقصد والمشيئة، والاّ فلا. فكما ان هذا العمل البديع ليس هو من شأن الاسباب والطبيعة - اللتين لا تملكان ارادةً ولا اختياراً ولا قصداً ولا شعوراً - فلن يكون لهما تدخلٌ فيه كذلك؛ لذا فما أجهل مَن لايعرف أولا يؤمن بالفاعل المختار وبالصانع الحكيم الذي تدل عليه هذه الانظمةُ البديعة والحِكَم الرفيعة التي لاحدَّ لها وهي مبثوثة في موجودات الكون قاطبة.

نعم! ان كان هناك شئٌ يُستَغرب منه ويُثير عند الانسان العَجب في هذه الدنيا انما هو: انكار وجوده سبحانه؛ لأن الانتظام بأنواعه البديعة التي لا تعد والحِكَم بأشكالها السامية التي لا تحصى والمندرجة في كل موجود في الكون شواهد صادقة على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته.. فبعداً لعمىً ما بعده عمى! وسحقاً لجهلٍ ما بعده جهل لمن لايرى هذا ((الرب الحكيم)) سبحانه! حتى يمكنني القول: أن السوفسطائيين الذين يُعَدّون حمقى لأنكارهم وجود الكون، هم أعقلُ أهل الكفر؛ لأن الاعتقاد بوجود الكون ومن بعده انكار خالقه - وهو الله سبحانه - غير ممكن قطعاً، ولا يُقبل اصلاً، لذا بدأوا بانكار الكون وأنكروا وجودهم أيضاً، وقالوا لاشئ موجود على الاطلاق. فأبطلوا عقولهم، وانقذوا أنفسهم بأقترابهم شيئاً الى العقل من متاهة الحماقة المتناهية للمنكرين الجاحدين الحمقى المتسترين تحت ستار العقل!

النقطة الرابعة:

مثلما أشير في ((الكلمة العاشرة)) الى أنه: اذا ما شيَّد معماري بارع حكيم قصراً منيفاً، وأودع في كل حجر من احجاره مئات الحِكَم والمصالح والفوائد، فلا يتصور مَن له شعور ان لايبني له سقفاً يحفظه من البلى والفساد؛ لان هذا يعني تعريض البناء الى العدم والتلف وضياع تلك الفوائد والحكم التي كان يرعاها ويتولاها، وهذا ما لايرضى به ذو شعور. أو أن حكيماً مطلقاً يُنشئ من درهم من البذور مئات الاطنان من الفوائد والحكم والغايات، ويتعقبها ويديرها، لا يمكن ان يَـتَصور مَن له عقل صدور العبث والاسراف المنافيين كلياً للحكمة المطلقة من ذلك ((الحكيم المطلق)) فيقلّد الشجرة الضخمة فائدة جزئية، وغاية تافهة وثمرة قليلة، علماً أنه ينفق لإنشائها واثمارها الكثير!..

نعم، فكما لا يمكن ان يتصور هذا أو ذاك عاقلٌ قط، كذلك لا يمكن ان يتصور مَن له مسكةُ عقل أن يصدُر من ((الصانع الحكيم)) العبثُ والاسراف بعدم اتيان الآخرة وبعدم اقامته الحشر والقيامة بعد أن قلَّد كل موجود في قصر الكون هذا مئاتٍ من الحكم والمصالح وجهزه بمئاتِ الوظائف - حتى انه قلَّد كل شجرة حكماً بعدد ثمارها ووظائف بعدد ازهارها - فلا يمكن ان يتوارد على خاطر عاقل ان يضيّع هذا ((الحكيمُ الجليل)) جميعَ هذه الحِكم والمقاصد وجميع هذه الوظائف بعدم اقامته القيامة والآخرة.

اذ يعني هذا اسناد العجز التام الى قدرة القدير المطلق، وتنسيب العبث والضياع الى الحكمة البالغة للحكيم المطلق، وارجاع القبح المطلق الى جمال رحمة الرحيم المطلق، واسناد الظلم المطلق الى العدالة التامة للعادل المطلق، أي انكار كل من الحكمة والرحمة والعدالة الظاهرة المشاهدة، انكارها كلياً من الوجود! وهذا من أعجب المحالات واشدها سخفاً واكثرها بطلاناً!.

فليأت أهلُ الضلالة، ولينظروا الى ضلالتهم كيف انها مظلمة مليئة بالعقارب والحيات كقبورهم التي سيصيرون اليها! وليدركوا ان طريق الايمان بالآخرة منوَّرٌ جميل كالجنة فليسلكوه ولينعَموا بالايمان.

النقطة الخامسة:

وهي مسألتان:

l المسألة الاولى: ان تعقب الصانع الجليل - بمقتضى اسم ((الحكيم)) لألطف صورة في كل شئ واقصر طريق، وأسهل طراز، وأنفع شكل.. يدل دلالة واضحة على ان الفطرة لا إسراف فيها قط ولا عبث، فما من شئ الاّ وفيه نفعه وجدواه، وإن الاسراف مثلما ينافي اسم ((الحكيم)) فالاقتصاد لازمُه ومقتضاه ودستوره الاساس.

فيا ايها المسرف المبذر! اعلم مدى مجانبتك الحقيقة بقعودك عن تطبيق أعظم دستور للكون المبني على الاقتصاد. وتدبّر الآية الكريمة } وكُلوا واشربوا ولاتُسرفوا{ (الاعراف: 31) لتعلم مدى رسوخ الدستور الواسع الشامل الذي ترشد اليه.

l المسألة الثانية: يصح ان يقال: ان اسم الله ((الحكم)) و((الحكيم)) يقتضيان بداهة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، ويدلان عليها ويستلزمانها.

نعم! مادام الكتاب البليغ بمعانيه ومراميه، يقتضي بالضرورة معلماً بارعاً لتدريسه.. والجمال الفائق يقتضي مراةً يتراءى فيها، ويُري بها جمالَه وحُسنه.. والصنعةُ البديعة تستدعي منادياً داعياً اليها..

فلابد ان يوجد بين بني البشر الذي هو موضع خطاب كتاب الكون الكبير المتضمن مئات المعاني البليغة والحِكَم الدقيقة في كل حرف من حروفه، اقول:

لابد ان يوجد رائدٌ اكمل، ومعلمٌ اكبر، ليرشد الناس الى ما في ذلك الكتاب الكبير من حِكم مقدسة حقيقية.. وليعلّم وجود الحِكَم المبثوثة في ارجائه ويدل علىها.. وليكون مبعث ظهور المقاصد الربانية في خلق الكون، بل السبب في حصولها.. وليرشد الى مايريد الخالق اظهارَه من كمال صنعته البديعة، وجمال اسمائه الحسنى، فيكون كالمرآة الصافية لذلك الكمال البديع والجمال الفائق.. ولينهض بعبودية واسعة - باسم المخلوقات قاطبة - تجاه مظاهر الربوبية الواسعة، مثيراً الشوقَ وناثراً الوجدَ في الآفاق براً وبحراً ملفتاً انظار الجميع الى الصانع الجليل بدعوةٍ ودعاء، وتهليل وتسبيح وتقديس، ترنّ به ارجاء السماوات والارض.. وليقرع اسماع جميع ارباب العقول بما يلقّنه من دروس مقدسة سامية وارشادات حكيمة من القرآن الحكيم.. وليبين بأجمل صورة واجلاها بالقرآن العظيم المقاصد الإلهية لذلك الصانع ((الحكم الحكيم)).. وليستقبل بأكمل مقابلة وأتمها مظاهر الحكمة البالغة والجمال والجلال المتجلية في الآفاق. فانسانٌ هذه مهمته، انسان ضروري وجوده،بل يستلزمه هذا الكون،كضرورة الشمس ولزومها له.

فالذي يؤدي هذه المهمات، وينجز هذه الوظائف على اتم صورة ليس الا الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم كما هو مشاهد؛ لذا فكما تستلزم الشمس الضوء، ويستلزم الضوء النهار، فالحِكَم المبثوثة في آفاق الكون وجنباته تستلزم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

نعم! مثلما يقتضي التجلي الاعظم لاسم ((الحكم والحكيم)) - في اوسع مداه - الرسالة الاحمدية، فان اغلب الاسماء الحسنى؛ ((الله، الرحمن، الرحيم، الودود، المنعم، الكريم، الجميل، الرب)) وامثالها، تستلزم الرسالة الاحمدية في اعظم تجلياتها واحاطتها بالكون كله، استلزاماً قاطعاً لا ريب فيه.

فمثلاً:

ان الرحمة الواسعة التي هي تجلي اسم ((الرحيم)) تظهر بوضوح بمَن هو ((رحمة للعالمين))..

وان التحبب الإلهي، والتعرف الرباني - اللذين هما من تجليات اسم ((الودود)) - يفضيان الى نتيجتهما ويجدان المقابلة بــ((حبيب رب العالمين))..

وان جميع انواع الجمال: من جمال الذات الى جمال الاسماء، وجمال الصنعة والاتقان، وجمال المصنوعات، والمخلوقات، كل انواع الجمال – التي هي تجلٍ من تجليات اسم ((الجميل)) - تشاهَد في تلك المرآة الاحمدية، وتُشهد بها..

بل حتى تجليات عظمة الربوبية، وهيمنة سلطنة الالوهية انما تُعرف برسالة هذا الداعية العظيم الى سلطان الربوبية وتتبين بها، وتُفهم عنها، وتؤخذ منها وتُصدّق بها..

وهكذا فأغلب الاسماء الحسنى انما هي برهان باهر على الرسالة الاحمدية كما مر آنفاً..

نحصل مما سبق:

ما دام الكون موجوداً بالفعل ولا يمكن انكاره، فلا يمكن ان يُنكَر كذلك ما هو بمثابة ألوانِه وزينته، وضيائه واتقانه، وانواع حياته، واشكال روابطه من الحقائق المشهودة، كالحكمة، والعناية، والرحمة، والجمال، والنظام، والميزان، والزينة، وامثالها من الحقائق..

فمادام لا يمكن انكار هذه الصفات والافعال، فلا يمكن انكار موصوف تلك الصفات، ولا يمكن انكار فاعل تلك الافعال ونور شمس تلك الاضواء، اعني ذات ((الله)) الاقدس جلّ جلالُه ((الواجب الوجود))، الذي هو الحكيم، الرحيم، الجميل، الحكم، العدل..

وكذا لا يمكن انكار مَن هو مدارٌ لظهور تلك الصفات والافعال، بل مَن هو مدارٌ لعرض كمالاتها، بل تحقق تجلياتها، ذلكم الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الرائد الاكبر، والمعلم الاكمل، والداعية الاعظم، وكشاف طلسم الكائنات، والمرآة الصمدانية، وحبيب الرحمن.. فلا يمكن انكار رسالته قطعاً، لأنها اسطع نور في هذا الكون كسطوع ضياء عالم الحقيقة ونور حقيقة الكائنات .

عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام بعدد عاشرات الايام وذرات الأنام.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ {



النكتة الرابعة

تخص اسم الله

الفرد

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

} قـُلْ هُوَ اللهُ اَحـَدٌ{

بينما انا نزيل سجن ((اسكي شهر)) في شهر شوال اذ تراءت لي نكتة دقيقة من النكات اللطيفة لهذه الآية الجليلة، ولاح لي قبس من انوار اسم الله الاعظم: ((الفرد)) - او هو أحد انواره الستة - الذي يتضمن اسمي ((الواحد والأحد)) من الاسماء الإلهية الحسنى.

سنبين هنا باختصار شديد التوحيد الحقيقي الذي يُظهره ذلك التجلي الاعظم. وذلك في سبع اشارات موجزة.

الاشارة الاولى:

لقد وضع اسم الله الاعظم: ((الفرد)) بتجليه الاعظم على الكون كله بصمات التوحيد المميز، واختامَ الوحدانية الواضحة، على مجموع الكون، وعلى كل نوعٍ فيه، وعلى كل فردٍ فيه.

ولما كانت ((الكلمة الثانية والعشرون)) و((المكتوب الثالث والثلاثون)) قد تناولا بيان ذلك التجلي بشئ من التفصيل، نكتفي بالاشارة فقط الى ثلاث بصماتٍ واختام منها دالّة على التوحيد:

الختم الأول

ان التجلي الاعظم للفردية قد طبع على وجه ((الكون)) كله طابعاً مميزاً للتوحيد، وختماً واضحاً للوحدانية وضوحاً حوّل الكون كلَّه بحكم ((الكل)) الذي لايقبل التجزئة مطلقاً بحيث:

ان مَن لايقْدِر على أن يتصرف في الكون كلـِّه لا يمكن أن يكون مالكاً مُلكاً حقيقياً لأي جزء منه.

ولنوضح هذا الختم المميز:

ان موجودات الكون، بانواعها المختلفة، تتعاون فيما بينها تعاوناً وثيقاً، ويسعى كلٌّ جزء منها لتكملة مهمة الآخر وكأنها تمثل بمجموعها واجزائها تروس معمل بديع ودواليبه - الذي يشاهد فيه هذا التعاون بوضوح - فهذا التساند، وهذا التعاون بين الأجزاء، وهذه الاستجابة في اسعاف كلٍ منها لطلب الآخر، وامداد كلِ جزء للجزء الآخر، بل هذا التعانق والاندماج بين الأجزاء، يجعل من اجزاء الكون كله وحدةً متحدة تتعصَّى على الانقسام والانفكاك. يشبه في هذا وحدةَ أجزاء جسم الانسان الذي لا يمكن فكّ بعضها عن البعض الآخر.

نفهم من هذا ان الذي يمسك زمام عنصر واحد في الوجود، ان لم يكن زمام جميع العناصر بيده لا يستطيع أن يسيطر على ذلك العنصر الواحد أيضاً.

اذاً فـ ((التعاون)) و((التساند)) و((التجاوب)) و((التعانق)) الواضحة على وجه الكون، انما هي أختام كبرى وبصمات ساطعة للتوحيد.

الختم الثاني:

ان التجلي الباهر لاسم الله ((الفرد)) يجعلنا نُشاهد - على وجه الارض ولا سيما في الربيع - ختماً لامعاً للأحدية، وآية جلية للوحدانية بحيث:

ان من لايدير جميع الأحياء على وجه الارض كلها بافرادها واحوالها وشؤونها كافة، والذي لايرى ولايخلق ولايعلم جميعها معاً، لا يمكن أن يكون له تدخل في أي شئ من حيث الايجاد.

فلنوضح هذا الختم:

تأمل في هذه البُسُط المفروشة على الارض التي لحمتُها وسُداها مئتا ألف طائفة ونوع من أنواع الحيوانات وطوائف النباتات بأفرادها المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى والتي تضفي الزينة وتنثر البهجة على نسيج الحياة على سطح الارض - وبخاصة في الربيع - تأمّلها جيداً وأدِم النظر فيها، فانها مع اختلاف اشكالها، وتباين وظائفها، واختلاف ارزاقها وتنوع اجهزتها، وامتزاجها بعضها مع البعض الآخر تشاهد: ان رزق كل ذي حياة يأتيه رغداً من كل مكان ومن حيث لا يحتسب، بلاسهو ولا نسيان، بلا انشغال ولا ارتباك، بلا خطأ ولا التباس.. فيعُطى بميزان دقيق حساس كل ما يحتاجه الفرد، في وقته المناسب، من دون تكلف ولا تكليف، مع تمييز لكلٍ منها، وهو يموج في هذا الامتزاج الهائل وفي هذا الخضم من الموجودات المتداخلة، فضلاً عما يُخْبئ باطنُ الارض من آيات التوحيد الرائعة المتلمعة من انتظام المعادن والعناصر الجامدة.

لذا فان هذا ((التدبير والادارة)) المشاهد في هذا الأمر الدائب على وجه الارض وباطنها انما هو آيةٌ ساطعة للأحدية، وختمٌ واضح للوحدانية، بحيث:

ان مَن لم يكن خالقاً لجميع تلك الموجودات من العدم، ومدبّراً لجميع شؤونها في آن واحد، لا يقدر على التدخل - من حيث الربوبية والايجاد - في شئ منها، لأنه لو تدخل لأفسد تلك الادارة المتوازنة الواسعة. الاّ ما يؤديه الانسان من وظيفة ظاهرية - بإذن إلهي ايضاً - لكشف تلك القوانين الربانية وحُسن سيرها.

الختم الثالث: في وجه الانسان

ان شعار التوحيد وختمه واضح وضوحاً بيناً لكل مَن يتأمل وجه أي أنسان كان، وذلك:

ان لكل انسان علامة فارقة في وجهه تُميِّزه عن غيره. فالذي لايستطيع ان يضع تلك العلامات في كل وجه، ولا يكون مطّلعاً على جميع الوجوه السابقة واللاحقة منذ آدم عليه السلام الى يوم القيامة، لا يمكنه ان يمد يده من حيث الخلق والايجاد ليضع تلك الفوارق المميزة الهائلة في ذلك الوجه الصغير لإنسان واحد.

نعم، ان الذي وضع في وجه الانسان ذلك الطابع المميز وتلك الآية الجلية بتلك العلامات الفارقة، لابد أن أفراد البشر كافة هم تحت نظره وشهوده، وضمن دائرة علمه حتى يضع ذلك الختم للتوحيد في ذلك الوجه. بحيث إنه مع التشابه الظاهر بين الاعضاء الاساس - كالعيون والانوف وغيرها من الاعضاء - لا تتشابه تشابهاً تاماً، بسبب علامات فارقة في كلٍ منها.

وكما أن تشابه الأعضاء - من عيون وأنوف - في وجوه البشر كافة دليل قاطع على وحدانية خالق البشر سبحانه وتعالى، كذلك فان العلامات الفارقة الموضوعة على كل وجه - لصيانة حقوق كل فرد في المجتمع، ولمنع الالتباس، وللتمييز، ولحِكَم أخرى كثيرة - هي الأخرى دليل واضح على الارادة المطلقة والمشيئة الكاملة لذلك الخالق الواحد سبحانه وتعالى، وآية بديعة جلية ايضاً للأحدية، بحيث:

ان الذي لا يَقدر على خلق جميع البشر والحيوانات والنباتات بل جميع الكون لا يمكنه ان يضع تلك السمة المميزة في أحد.

الاشارة الثانية:

ان عوالم الكائنات المختلفة وانواعها المتنوعة وعناصرها المتباينة قد اندمجت اندماجاً كلياً وتداخل بعضُها مع البعض الآخر، بحيث:

ان مَن لم يكن مالكاً لجميع الكون لا يمكنه ان يتصرف بنوعٍ منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً، لأن تجلي نور التوحيد لاسم الله ((الفرد)) قد اضاء ارجاء الكون كله، فضمّ اجزاءها كافة في وحدة متحدة، وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية.

فمثلاً: كما ان كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات يشير الى أن الكائنات بأجمعها ملكٌ لواحد، فان كون الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كلها.. وكون النار ناراً واحدة توقد بها الحاجات كلها.. وكون السحاب واحداً يسقي الارض.. وكون الامطار واحدة تأتي لأغاثة الاحياء كافة.. وانتشار أغلب الاحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في ارجاء الارض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها.. كل ذلك اشارات قاطعة وشهادات صادقة أن: تلك الموجودات ومساكنها ومواضعها انما هي ملكٌ لمالك واحدٍ أحد.

ففي ضوء هذا وقياساً عليه نرى: ان تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعَها بمثابة ((كل)) واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الايجاد. فالذي لا يستطيع ان يُنفِّذ حكمَه على جميع الكون لا يمكنه - من حيث الخلق والربوبية - أن يُخضِع لربوبيته أي شئ فيه، حتى لو كان ذلك الشئ ذرة أو أصغر منها.

الاشارة الثالثة:

لقد تحول الكون كله - بالتجلي الاعظم لاسم الله ((الفرد)) - الى ما يشبه رسائل صمدانية ومكاتيب ربانية متداخلة بعضها في البعض الآخر، تزخر كلُ رسالة منها بآيات الوحدانية واختام التوحيد، وتحمل كل رسالة بصمات الأحدية بعدد كلماتها، بل ان كل كلمة فيها تُفصح عن وحدانية كاتبها؛ اذ كما يدل الختمُ أو التوقيع في الرسالة على كاتبها، فان كل زهرة وكل ثمرة، وكل عشب، وكل حيوان، وكل شجر، انما يمثل ختم الأحدية وطغراء الصمدانية وكأنها أختام لمواضعها التي تتخذ هيئة الرسائل فتبين كاتبها.

فزهرة صفراء - مثلاً - في حديقةٍ ما. هذه الزهرة هي بمثابة ختم يدل بوضوح على مصور الحديقة، فمن كان مالكاً لذلك الختم - الزهرة - فهو مالكٌ لجميع أنواع تلك الزهرة ومثيلاتها المبثوثة على الارض كافة، ويدل ايضاً على ان تلك الحديقة كتابته.

اي ان كل شئ يُسند جميع الاشياء الى خالقها ويشير الى تجلٍ باهر عظيم لوحدانيته سبحانه.

الاشارة الرابعة:

لقد أوضحت رسائل النور في أجزائها الكثيرة ببراهين متعددة أن التجلي الاعظم لاسم الله ((الفرد)) مع أنه واضح وضوح الشمس، فهو مقبول في الاعماق الى حد السهولة المطلقة، وهو مستساغ عقلاً ومنطقاً الى حد الوجوب والبداهة. وبعكسه ((الشرك)) المنافي لذلك التجلي، فهو معقد الى أقصى حدود التعقيد، وغير منطقي اطلاقاً، وهو بعيد جداً عن المعقول الى حد المحال والامتناع.

سنبين هنا ((ثلاث نقاط)) من تلك الأدلة فقط، ونحيل تفاصيلها الى الرسائل الاخرى.

النقطة الاولى:

لقد أثبتنا ببراهين قاطعة في ختام ((الكلمة العاشرة)) وفي ((الكلمة التاسعة والعشرين)) اثباتاً مجملاً، وفي ختام ((المكتوب العشرين)) مفصلاً أنه:

من السهولة واليسر على قدرة ((الأحد الفرد)) سبحانه، خلقُ أعظم جِرم، وخلقُ أصغرِ شئ على حدّ سواء، فهو سبحانه يخلق الربيع الشاسع بيُسرِ خلقِ زهرةٍ واحدة، ويُحدِث في كل ربيع بسهولة بالغة آلافاً من نماذج الحشر والنشور - كما هو مشاهَد - ويُراعي شجرة ضخمة باسقة بيُسر مراعاته فاكهة صغيرة.

فلو أسنِد أيٌ من ذلك الى الأسباب المتعددة، لأصبح خلقُ كلِّ زهرةٍ فيه من المشكلات ما للربيع الشاسع، وخلقُ كل ثمرةٍ فيه من الصعوبات ما للشجرة الباسقة.

نعم، ان كان تجهيز الجيش بأكمله بالمؤن والعتاد بأمر صادر من قائد واحد، من مصدر واحد، سهلاً وبسيطاً كتجهيز جندي واحد، يكون صعباً بل ممتنعاً ان كان كل جندي يتجهز من معامل متفرقة ويتلقى الاوامر من ادارات متعددة كثيرة، اذ عندئذٍ يحتاج كل جندي الى معامل بقدر افراد الجيش باكمله!!

فكما ان الأمر يسهل بالوحدة ويصعب بالكثرة هكذا، كذلك اذا أسنِد الخلقُ والايجادُ الى ((الفرد الأحد)) جل وعلا، فان خلقَ افرادٍ غير محدودة لنوعٍ واحد يكون سهلاً كخلق فرد واحد، بينما لو اُسنِد الى الأسباب، فان خلقَ كلَّ فردٍ يكون مُعضلاً وصعباً كخلق النوع الواسع الكثير.

اجل! ان الوحدانية والتفرد تجعل كل شئ منتسباً ومستنداً الى الذات الإلهية الواحدة، ويصبح هذا الانتساب والاستناد قوة لاحدّ لها لذلك الشئ، حتى يمكنه ان يُنجز من الاعمال الجسيمة، ويولّد من النتائج العظيمة ما يفوق قوته الذاتية الوفَ المرات معتمداً على سر ذلك الاستناد والانتساب.

أما الذي لا يستند ولا ينتسب الى صاحب تلك القوة العظمى ومالكها ((الفرد الأحد)) فسينجز من الاعمال ما تتحمله قوتُه الذاتية المحدودة جداً، وتنحسر نتائجُها تبعاً لذلك.

فمثلاً:

ان الذي انتسب الى قائد عظيم واستند اليه بصفة الجندية، يصبح له هذا الانتساب والاستناد بمثابة قوة ممدّة لا تنفد، فلا يضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، لذا قد يَقْدِم على أسر قائد جيش العدو المغلوب مع آلاف ممن معه، بينما السائب الذي لم ينخرط في الجندية، مضطر الى حمل ذخيرته وعتاده معه، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع ان يقاوم بتلك القوة الاّ بضعة افراد من العدو، وقد لا يثبت امامهم الاّ لفترة قليلة.

ومن هنا نرى أن قوة الاستناد والانتساب - التي في الفردية والوحدانية - تجعل النملة الصغيرة تقدم على اهلاك فرعون عنيد، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر باغياً اثيماً.. كما تمدّ البذرة الصغيرة لتحمِل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة شاهقة.. كل ذلك باسم ذلك الانتساب وبسر ذلك الاستناد.

نعم، ان قائداً عظيماً شهماً يستطيع ان يستنفر جميع جنوده ويحشّدهم لانقاذ جندي واحد وامداده، والجندي بدوره يستشعر كأن جيشاً جراراً يسنده ويمدّه بقوة معنوية عالية حتى تمكّنه من ان ينهض باعمال جسام باسم القائد.

فالله سبحانه وتعالى (وله المثل الاعلى) لانه فرد واحد أحد، فلا حاجة في اية جهة الى أحدٍ غيره، واذا افترضت الحاجة في جهة ما، فانه يستنفر الموجودات كلها لأمداد ذلك الشئ واسناده، فيحشر سبحانه الكون كله لأجله.

وهكذا يستند كلُّ شئ الى قوة عظيمة هائلة تملك مقاليد الكون بأسره.. وهكذا يستمد كل شئ في الوجود قوته من تلك القوة الإلهية العظيمة المطلقة.. من ذلك ((الفرد الأحد)) جلّ وعلا.

فلولا الفردية.. لفقَد كل شئ هذه القوة الجبارة، ولسقط الى العدم وتلاشت نتائجه.

فما تراه من ظهور نتائج عظيمة هائلة من اشياء بسيطة تافهة، ترشدنا بالبداهة الى ((الفردية)) و ((الأحدية)). ولولاها لبقيت نتائج كل شئ وثماره منحصرة في قوته ومادته الضئيلة، وتصغر عندئذٍ النتائج بل تزول. الا ترى الاشياء الثمينة النفيسة كالفواكه والخضر وغيرها مبذولة ومتوافرة امامنا. ما ذلك الاّ بسر الوحدانية والانتساب وحشر جميع القوى، فلولا الفردية لما كنا نحصل بآلاف الدراهم ما نحصله اليوم من بطيخ او رمان بدراهم معدودة. فكل ما نشاهده من بساطة الامور والاشـيـاء وسهـولـتـها ورخصـها وتوفــرها انمـا هـي من نتائج الوحـدانية وتشهد بالفردية.

النقطة الثانية:

ان الموجودات تُخلق وتظهر الى الوجود بوجهين:

الاول: الخلق من العدم، وهو ما يعبَّر عنه بـ ((الابداع والاختراع)).

الثاني: انشاؤها من عناصر موجودة، وتركيبها ومنح الوجود لها من أشياء حاضرة، أي بــ((التركيب والانشاء)).

فاذا نظرنا الى الموجودات من زاوية سر الاحدية وتجلي الفردية، نرى ان خلقها وايجادَها يكون سهلاً وهيّناً الى حد الوجوب والبداهة، بينما ان لم يُفوَّض امرُ الخلق والايجاد الى الفردية والوحدانية، فستتعقد الامور وتتشابك، وتظهر امورٌ غير معقولة وغير منطقية الى حد المحال والامتناع. وحيث اننا نرى الموجودات قاطبة تظهر الى الوجود من دون صعوبة وتكلف، ومن غير عناء، وعلى اتم صورة وكيفية، يثبت لنا بداهة اذاً تجلي الفردية، ويتبين لنا: أن كل شئ في الوجود انما هو من ابداع الاحد الفرد ذي الجلال والاكرام.

نعم، ان اسند أمر الخلق الى ((الفرد الواحد الاحد)) يخلق كل شئ من العدم في لمح البصر وبكل سهولة ويسر، وبقدرته المطلقة العظيمة بآثارها المشهودة. ويقدّر لكل شئ بعلمه المحيط المطلق ما يشبه قوالب معنوية وتصاميم غيبية.. فكل شئ عنده بمقدار.

فكما ان الجنود المطيعين في الجيش المنظم يساقون لأخذ مواضعهم بامر من القائد وحسب خطته الموضوعة في علمه، كذلك الذرات المطيعة للاوامر الربانية فانها تساق بالقدرة الربانية - بكل سهولة ويسر - لتأخذ مواقعها وتحافظ عليها حسب تصميمٍ موجود، وصورة موجودة، في مرآة العلم الإلهي الازلي. حتى لو لزم جمع الذرات من الانحاء المختلفة، فان جميع الذرات المرتبطة بقانون العلم الإلهي المحيط، والموثوقة الصلة بدساتير القدرة الإلهية، تصبح بمثابة الجنود المنقادين في الجيش المنظم، فتأتي مسرعة بذلك القانون وبسَوق القدرة لأخذ مواقعها في ذلك القالب العلمي والمقدار القدري المحيطين بوجود ذلك الشئ.

بل كما تظهر الصورةُ المثالية المتمثلة في المرآة على الورقة الحساسة في آله التصوير وتلبس وجوداً محسوساً خارجياً، وكما تظهر وتشاهَد الكتابة المخفية السرية بامرار مادة كيمياوية عليها، كذلك الأمر في صورة جميع الموجودات، وماهية جميع الاشياء الموجودة في مرآة العلم الإلهي الفرد الاحد، فان القدرة الإلهية المطلقة تُلبسها - بكل سهولة ويسر - وجوداً خارجياً محسوساً، فتظهر للعيان في عالم الشهادة، بعد ان كانت في عالم المعنى والغيب.

ولكن ان لم يُسند أمرُ الخلق الى ((الفرد الاحد)) فعندئذٍ يلزم لخلق ذبابة واحدة مسح وتفتيش سطح الارض وغربلة عناصرها جميعاً وذراتها المعينة لوجود معين ثم وزنها بميزان دقيق حساس، لوضع كل ذرة في موضعها المخصص لها، حسب قوالب مادية بعدد اجهزتها واعضائها المتقنة، وذلك لكي يأخذ كل شئ مكانه اللائق به، فضلاً عن جلب المشاعر والاحاسيس الروحية الدقيقة واللطائف المعنوية من العوالم المعنوية والروحية بعد وزنها ايضاً بميزان دقيق حسب حاجة الذبابة!!

ألا يكون - بهذا الاعتبار - خلق ذبابة واحدة صعباً ممتنعاً كايجاد جميع الكائنات؟! أليس فيه الصعوبات تلو الصعوبات والمحالات ضمن المحالات؟!

لذا اتفق جميع اهل الايمان والعلم: انه لا يخلق من العدم الاّ الخالق ((الفرد)) سبحانه وتعالى.ولهذا لوفوّض الأمر الى الاسباب والطبيعة يستلزم لوجود شئ واحد الجمع من اكثر الاشياء.

النقطة الثالثة:

لقد اوردنا امثلة كثيرة في رسائل شتى تشير الى: ان اسناد الخلق الى الفرد الواحد الاحد يجعل خلق جميع الاشياء سهلاً كالشئ الواحد، وبعكسه اذا اُسنِد الى الطبيعة والاسباب فخلق الشئ الواحد يكون صعباً ممتنعاً كخلق جميع الاشياء..

نقتصر منها هنا على ثلاثة أمثلة فقط:

المثال الاول:

اذا اُحيلت ادارة الف جندي الى ضابط واحد، واُحيلت ادارةُ جندي واحد الى عشرة ضباط، فان ادارة هذا الجندي تكون ذات مشكلات وصعوبات بمقدار عشرة اضعاف ادارة تلك الفرقة من الجنود وذلك:

لأن الأمراء العديدين سيعادي بعضُهم بعضاً، وستتعارض اوامرُهم حتماً، فلا يجد ذلك الجندي راحة بين منازعة امرائه. بعكسه تماماً ذلك الضابط الذي يدير باوامره فرقة كاملة من الجنود وكأنه يدير جندياً واحداً، وينفّذ خطته وما يريده من الفرقة بتدبيره كل شئ بسهولة ويسر، علماً انه يتعذر الوصول الى هذه النتيجة اذا ترك الامر الى جنود سائبين.

المثال الثاني:

اذا سُلّم أمر بناء قبة جامع ((أيا صوفيا)) الى بنّاء ماهر، فانه يقوم به بكل سهولة ويسر، بينما اذا سُلم بناؤها الى احجارها، للزم ان يكون كل حجرٍ حاكماً مطلقاً على سائر الاحجار، ومحكوماً لها في الوقت نفسه كي تأخذ القبة المعلقة الشامخة شكلها! فبينما كان البنّاء الماهر يصرف جهداً قليلاً - لسهولة الأمر لديه - تصرف الآن مئات من البنّائين - الاحجار - اضعاف اضعاف ذلك الجهد من دون الحصول على نتيجة!!.

المثال الثالث:

ان الكرة الارضية مأمورة وموظفة من لدن ((الفرد الواحد)) سبحانه، وهي كالجندي المطيع لله الواحد الأحد، فحينما تستلم الأمر الواحد، الصادر من آمرها الأحد، تهبّ منتشية بأمر مولاها وتنغمر في جذبات وظيفتها في شوق عارم، وتدور كالمريد المولوي العاشق - عند قيامه للسماع - فتكون وسيلة لحصول المواسم الاربعة، واختلاف الليل والنهار وظهور الحركات الرفيعة العظيمة، والكشف عن مناظر خلابة لقبة السماء المهيبة وتبديلها باستمرار كتبدل المشاهد السينمائية.. ويكون سبباً لحصول امثال هذه النتائج الجليلة، حتى لكأن الارض هي القائد لتلك المناورة العسكرية المهيبة بين نجوم الكون.

ولكن ان لم يُسند الأمر الى ((الفرد الأحد)) الذي احاط بحاكمية ألوهيته وسلطان ربوبيته الكون كله، والذي ينفذ حكمه وأمره في كل صغيرة وكبيرة في الوجود، فعندئذٍ يلزم وجود ملايين النجوم التي تكبر الارض بالوف المرات، ولابد من ان تسير هذه النجوم في مدار اكبر واوسع بملايين المرات من مدار الارض كي تظهر تلك المناورة السماوية والارضية وتلك النتائج نفسها التي تتولد من حركتي الارض السنوية واليومية بكل سهولة ويسر.

وهكذا فان حصول هذه النتائج الجليلة الناشئة من حركتي الارض حول محورها ومدارها - حركة تشبه حركات المولوي العاشق - يظهر لنا مدى السهولة والفطرية والبساطة في الأحدية والفردية، ويبين لنا في الوقت نفسه كم هي مملوءة طريق الشرك والكفر بالمحالات التي لا حد لها وبالامور الباطلة غير المعقولة.

وبعد..

فلاحظ الآن بمنظار هذا المثال الآتي جهل المتشدقين بالطبيعة وعبّاد الاسباب، لتعلم في أي دَرَك من وحل الحماقة يتمرغون وفي اي بيداء وهمٍ يتيهون، وقس عليه مدى بُعدهم كل البعد عن ميدان المنطق والعقل السليم:

معمل عظيم.. كتاب رائع.. قصر مشيد.. ساعة دقيقة.. لاشك ان الذي صنع كلاً من هذه قد نظمه ونسقه بدقة وعناية، ويجيد ادارته ويرعاه، ولاشك انه أراد في صنع كل منها اظهار محاسن صنعته وابراز بدائع عمله.

فان احال احدُهم ادارة المعمل العظيم الى دواليب المعمل نفسه، وفوّض بناء القصر المنيف الى احجار القصر نفسه، واسند معاني الكتاب الجميلة الى الحروف نفسها، فكأنه قد جعل كل جزء من أجزاء المعمل ذا قدرة عظيمة لتنظيم نفسه وغيره! وجعل كل حرف من حروف الكتاب بل الورق والقلم شيئاً خارقاً يبدع الكتاب نفسه! اي انه يحيل روعة الانتظام في المعمل الى دواليب المعمل، ويسند جمال المعنى في الكتاب الى توافق الحروف من تلقاء نفسها!!

ايّ هذرٍ هذا! وايّ وَهْم! أليس الذي يتفوه به بعيداً كل البعد عن سلامة العقل؟ فالذين يحيلون أمر الخلق والايجاد في هذا الكون البديع الى الاسباب والى الطبيعة يهوون في جهل مركب سحيق كهذا. وذلك لأن مظاهر الابداع واضحة على الاسباب والطبيعة نفسها، فهي مخلوقة كسائر المخلوقات. فالذي خلقها – على هذه الصورة البديعة – هو الذي يخلق آثارها ونتائجها ايضاً، ويظهرها معاً.. فالذي خلق البذرة هو الذي أنشأ عليها شجرتها، وهو الذي يخرج اثمارها وازهارها من اكمامها..

بينما ان لم يُسند خلق الاسباب والطبيعة مع اثارهما الى الواحد الأحد، يلزم لوجود انواع الاسباب وانماط الطبيعة المختلفة، انواع من الاسباب والطبيعة المنتظمة المنسقة المختلفة . وهكذا تستمر سلسلة موهومة ممتنعة لا معنى لها ولا نهاية!

وهذا من أعجب عجائب الجهل واتعسه!!

الاشارة الخامسة:

لقد أثبتنا في مواضع متعددة من الرسائل وببراهين دامغة: ان الاستقلال والانفراد من أخص خصائص الحاكمية، حتى ان هذا الانسان الذي هو عاجز عجزاً شديداً، ولا يملك من الحاكمية سوى ظل باهت، نراه يردّ بكل قوة اي فضول كان من الآخرين، ويرفض بكل شدة اي تدخل كان منهم في شؤونه، صوناً منه لاستقلاله وانفراده في الأمر. بل ذُكِر في التاريخ ان كثيراً من السلاطين قد سفكوا دماءً زكية لأبنائهم الأبرياء واخوانهم الطيبين حينما شعروا بتدخل منهم في شؤونهم.

اذن فالاستقلال والانفراد ورفض مداخلة الآخرين هو من أخصّ خصائص الحاكمية الحقة، لا فكاك لها عنه. بل هو لازمها ومقتضاها الدائم.

فالحاكمية الإلهية التي هي في ربوبية مطلقة تردّ بكل شدة الشرك والاشتراك مهما كان نوعه، ولا تقبل تدخلاً ما من سواها قط، ومن هنا نرى القرآن الكريم يفيض في بيان التوحيد الخالص ويردّ الشرك والمشاركة باسلوب شديد وبتهديد مروّع..

فكما اقتضت الحاكمية الإلهية - التي هي في الربوبية المطلقة - التوحيد والوحدانية بقطعية تامة، واظهرت مقتضى شديداً وداعياً قوياً لها، كذلك النظام المتقن والانسجام البديع المشاهدان في الكون - ابتداء من النجوم والنباتات والحيوانات والأرض والمعادن وانتهاء بالجزئيات والافراد والذرات - كل منهما شاهدُ عدلٍ، وبرهان باهر على تلك الوحدانية والفردية، فلا يسمح قط لريبة أو لشبهة، إذ لو كان هناك تدخل مما سوى الواحد الأحد، لفسد هذا النظام البديع الرصين، واختل هذا التـوزان المحـكم المــشـاهَد في جميـع اجـزاء الكون، فصـدق الله العـظيم الذي قال:

} لو كانَ فيهما آلِهةٌ إلاّ الله لَفَسَدتا { (الانبياء: 22)

نعم، لو كان هناك اي تدخل مهما كان لظهرت آثارُه باديةً، الاّ أن الدعوة الصريحة في الاية الكريمة: } فارجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ{ (الملك:3) تريك هذا النظام البديع بكل وضوح وجلاء حتى لا ترى ثغرة ولا لبساً ولا نقصاً في جهة من الجهات ابتداءً من الذرات الى المجرات.

اذاً فالنظام الرصين في الكون، والانتظام الرائع في المخلوقات كافة، والموازنة الدقيقة بين الموجودات.. يظهر لنا التجلي الاعظم لاسم ((الفرد)) ويشهد شهادة واضحة على الوحدانية.

ثم ان اي مخلوق مهما كان صغيراً، انما هو مثال مصغر للكون كله ونموذجه، وفهرسه المختصر، بمقتضى تجلي الأحدية. فلا يكون مالكاً لذلك المخلوق الحي الصغير الاّ مَن كان بيده زمام الكون كله وله الأمر جميعاً. وحيث ان كل بذرة متناهية في الصغر ليست بأقل ابداعاً في الخلق من شجرة ضخمة، وأن كل شجرة باسقة تضاهي في خلقها خلق الكائنات، وكل كائن حي صغير انما هو بحكم عالم مصغّر، وكون صغير فان تجلي الأحدية هذا يجعل الشرك والاشتراك محالاً ممتنعاً.

ثم ان في هذا الكون في ضوء هذا السر - سر الأحدية - ليس كلاً يستعصي على التجزئة وحدها بل ايضاً هو كلّي من حيث الماهية، لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وتدخل الايدي المتعددة قط، فإن كل جزء فيه بحكم جزئي وفرد منه وكل الكون هو بحكم الكلي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت.

فهذا التجلي الاعظم لأسم ((الفرد)) يثبت حقيقة التوحيد بهذا السر للأحدية، بدرجة البداهة.

نعم، ان اندماج انواع الكائنات واندغامها فيما بينها، وتوجه وظيفة كل منها الى عموم الكائنات مثلما يجعل الكون كلاً واحداً يستعصي على التجزئة قطعاً – من حيث الخلق والربوبية - كذلك الافعال العمومية المحيطة بالكائنات والتي تظهر أثارها وفعالياتها في الكائنات عموماً تجعل الكون ايضاً كلاً واحداً - من حيث تداخلها ببعضها - حتى يرفض التجزئة ويردّها ردّاً قوياً. ولتوضيح ذلك نسوق المثال الآتي:

حالما توهب الحياة للكائن يظهر فعل الاعاشة والإرزاق فيه مباشرة. وضمن افعال الاعاشة والإحياء هذه، يشاهَد مباشرةً فعلُ تنظيمِ جسد ذلك الكائن وتنسيق اعضائه، وتجهيزه بما يحتاج ويلزم. وحينما تظهر افعالُ الاعاشة والإحياء والتنظيم والتجهيز يفعل التصويرُ والتربية والتدبير فعلَه في الوقت نفسه.. وهكذا.

فتداخل امثال هذه الافعال المحيطة العامة بعضها بالبعض الآخر، واتحادها ببعضها، وامتزاجها كامتزاج الالوان السبعة في الطيف الشمسي، ثم احاطة كل فعل من تلك الافعال وشموله - مع وحدته من حيث الماهية - للموجودات كلها في وحدة واحدة، وكون كل فعلٍ منها فعلاً وحدانياً.. يدل دلالة واضحة على أن فاعلَه واحدٌ أحد فرد..

وكما أن استيلاء كل فعل - من تلك الافعال - وهيمنته على الكائنات قاطبة، واتحاده مع سائر الافعال في تعاون وثيق، يجعل الكون كلاً غير قابل للتجزئة.. كذلك فان كل مخلوق حي من حيث كونه بمثابة بذرة الكون وفهرسه ونموذجه يجعل الكون كلياً غير قابل للانقسام والتجزئة - من حيث الربوبية - بل يجعل انقسامه محالاً وخارجاً عن الامكان، أي أن الكون بهذا هو كلٌّ لا يتجزأ، فلا يكون اذاً ربُّ الجزء الاّ من كان رباً للكل. وهو كلي ايضاً بحيث يكون كل جزء منه بحكم فرد، فلا يكون رباً للفرد الواحد الاّ من كان زمام ذلك الكلي بيده.

الاشارة السادسة:

كما ان انفراد الله سبحانه وتعالى بالربوبية،وتوحيده بالالوهية هو اساس جميع الكمالات(1) ومنشأ المقاصد السامية، ومنبع الحِكَم المودَعة في خلق الكون، كذلك

هو الغاية القصوى، والبلسم الشافي، لتطمين رغبات كل ذي شعور وذي عقل ولاسيما الانسان، فلولا الفردية لانطفأت شعلةُ رغباته ومطالبه كلها وتنمحي جميعُ الحِكَم المودَعة في خلق الكون، وتتلاشى اكثرُ الكمالات الموجودة والثابتة وتنعدم.

فمثلا: ان رغبة ((حب البقاء)) بل عشقه، عميقة في الانسان.. هذه الرغبة العريقة لايحققها ولا يسكّنها ويُطمئنُها الاّ مَن هو مالك لمقاليد الكون، الذي يفتح باب البقاء السرمدي أمام الانسان بالآخرة، بعد أن يُنهي هذه الدنيا الفانية ويغلق ابوابها كسهولة غلق غرفة وفتح اخرى.

وهناك رغبات اخرى كثيرة جدا ًللانسان امثال هذه الرغبة، كلها ممتدة الى غير نهاية معلومة ومتشعبة في ثنايا الكائنات جميعاً.. فهذه الرغبات جميعها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقيقة التوحيد، ومشدودة مع سر الفردية. فلولا ذلك السرّ لبقيت هذه الرغبات عقيمة دون نتائج، قاصرة عن بلوغ مداها، مبتورة منكمشة. ولولا تصرف الواحد الأحد في الكون كله لما اطمأنت ولا حصلت تلك الرغبات ولو حصلت حصلت مبتورة.

فالايمان بالوحدانية، وبقدرة ((الفرد الواحد الأحد)) المطلقة اذاً هو وحده الكفيل باحلال الطمأنينة والسكون في تلك الرغبات المتأججة لدى الانسان.

من اجل هذا السر العظيم نرى القرآن الكريم يذكر التوحيد والوحدانية بكل حرارة وشوق، ويكررها بكل حلاوة وذوق، وان الانبياء - عليهم السلام - والاصفياء والعلماء والاولياء الصالحين يجدون بغيتهم وذوقهم السامي، بل منتهى سعادتهم في افضل ما قالوه: ((لا إله إلاّ هو)).

الاشارة السابعة:

ان هذا التوحيد الحقيقي، بجميع مراتبه، وبأتم صورته الكاملة، قد أثبته واعلنه وفهّمه وبلّغه محمد e ، فلابد ان رسالته ثابتة وقاطعة كقطعية ثبوت التوحيد نفسه؛ لانه: لما كان التوحيد هو اعظم حقيقة في عالم الوجود، وان الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى تبليغه وتعليمه بجميع حقائقه، فلابد ان جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تكون بدورها براهين لاثبات رسالته وادلة على صدق نبوته واحقية دعوته e ، فرسالة كهذه الرسالة العظمى التي تضم الوفاً من امثال هذه الحقائق السامية وتكشف عن حقيقة التوحيد وترشد اليه وتلقنه، لا شك انها رسالة يقتضيها ذلك التوحيد وتلك الفردية.

فمَن ذا غير محمد e الذي أدىّ الأمانة على افضل وجه وبلّغ الرسالة على اجمل صورة؟.

سنذكر ثلاثة نماذج، مثالاً لتلك الادلة الكثيرة والاسباب العديدة التي تشهد بعظمة الشخصية المعنوية لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتدل على علو منزلته الرفيعة، وتبيّن انه السراج المنير لهذه الكائنات وشمسها الساطعة.

الدليل الاول:

ان ثواب جميع الحسنات التي ينالها جميع افراد الامة، وعلى مدى جميع العصور مكتوبٌ مثلُه في صحيفة حسناته صلى الله عليه وسلم، اذ هو السبب في نيل كل ثواب تناله امتُه الى يوم القيامة، حيث ((السبب كالفاعل))..

تأمل في هذا ثم فكّر في المقام المعظم اللائق الذي يقتضيه مجموع الادعية غير المحدودة من الصلوات المقبولة المرفوعة يومياً من الأمة كافة.. تدرك عندئذٍ، درجته العالية الرفيعة وتفهم ان شخصيته المعنوية شمس الكائنات والسراج المنير للخلق اجمعين.

الدليل الثاني:

ان بذرة الشجرة الوارفة للاسلام، ومنشأها، وحياتها، ومنبعها انما هي حقيقة الماهية المحمدية، بما تملك من فطرة سامية، وخلقة كاملة. فتذكّر هذا ثم فكّر في الرقي الروحي لهذا الرسول الحبيب e النابع من استشعاره الكامل الأتم لجميع معاني ومراتب عبادته، واذكاره، وكلماته الشريفة، والذي يمثل بمجموعه روح الاسلام وحقيقته. لتعلم مدى علو مرتبة ولاية عبوديته صلى الله عليه وسلم الى الدرجة الرفيعة، درجة الحبيبية. وافهم مبلغ سموّها.

ولقد فتح الله عليّ يوماً في سجدةٍ في صلاةٍ، بعض المعاني والانوار المشعة من كلمة (سبحان ربي الاعلى) بما يقرب من فهم الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين من هذه الكلمة المقدسة. فتبين لي يقيناً انها خير من عبادة شهر، فادركتُ بها المنزلة العظيمة والدرجة العالية التي يحظى بها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين.

نعم، ان الانوار التي تشعها الكلمات المقدسة، وفيوضاتها في بدء الاسلام لها مزايا خاصة، وذلك لجدّتها، ولها من اللطافة والطراوة واللذة ما تتناقص بمرور الزمن وتتستر تحت ستار الغفلة.

والآن، وفي ضوء ما سبق تأمل مكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تناول الكلام المقدس، ورَشَفَه من المنبع الأقدس، واستوعب انواره بالوحي الإلهي بكامل جدّته وطراوته ولطافته. مع ما فُطر عليه من استعداد كامل.. فالانوار والفيوضات الكامنة في تسبيحةٍ واحدة منه صلى الله عليه وسلم هي خيرٌ وأعم من جميع الانوار التي تملأ ارجاء عبادة سنة كاملة عند غيره.!.

قس على هذا المنوال، كي تعلم كم بلغ رسولنا الحبيب e من درجات الكمال التي لا حد لها ولا نهاية.

الدليل الثالث:

ان الانسان يمثل اعظم مقصد من المقاصد الإلهية في الكون، وهو المؤهَّل لإدراك الخطاب الرباني. وقد اختاره سبحانه من بين مخلوقاته، واصطفى من بين الانسان المكرّم مَن هو اكمل وأفضل واعظم انسان بأعماله وآثاره الكاملة، ليكون موضع خطابه الجليل باسم النوع الانساني كافة، بل باسم الكائنات جميعاً.

فلا ريب ان الله سبحانه الفرد الجليل الذي هيأ رسوله الحبيب e لهذه المرتبة اللائقة به قد منحه من الانوار والكمالات ما لا يحد بحدود.

وهكذا وبمثل هذه الدلائل الثلاثة ودلائل اخرى كثيرة يَثبت لدينا يقيناً:

ان الشخصية المعنوية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، شمس معنوية ساطعة للكائنات. وسراج منير لامع لها، كما انها الآية العظمى من قرآن الكون، والاسم الاعظم للفرقان الاعظم، ومرآة صافية للتجلي الاعظم لانوار اسم ((الفرد)) عزّوجل.

فاللّهم يا أحدُ، يا فردُ، ياصمدُ، أنزِل من بركات خزينة رحمتك التي لا تنفد صلواتٍ وسلاماً على تلك الذات النبوية الشريفة، بعدد ذرات الكون مضروباً بعدد عاشرات جميع ازمنة الكون.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الألعاب التراثية القديمة.. من ذاكرة الريف السوري عبدالقادر حمود ركن وادي الفرات 0 06-05-2010 11:15 AM
برنامج DirectX 11 for Windows XP and VISTA لزيادة توافق الألعاب والبرامج الجديدة احمد قسم الحاسوب 3 08-04-2009 01:01 PM


الساعة الآن 12:29 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir