مشكلة بين العلماء
من المعروف أن نسل الرسول صلى الله عليه وسلم مطهر من المشركين فكيف يتأتى أن يكون والد إبراهيم هو "آزر" الذي ينتهي إليه النسب الشريف ؟
هناك مشكلة بين العلماء حول قوله تعالى : (
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ) - الأنعام : 74 –
فهل أبو إبراهيم هو "آزر" أم "تارح" ؟ وإذا كان "آزر" فكيف يتفق مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم : وما زلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ؟! فقد أخبر أنه من سلسلة نسب موحد لا يمكن أن يكون للشرك فيه مجال .
والحق يقول : (
إنما المشركون نجس ) - التوبة : 28 - ولو كان "آزر" أبّا حقيقا لإبراهيم لكان من ذريته "محمد" وهذا محال , لأن النسب الشريف مطهر من جهة الآباء والأمهات من الشرك , فكيف نفسر قول الحق (
لأبيه آزر ) ؟
نأخذ اللغة واستعمالات القرآن في معنى الأبوة .
والقرآن صريح في أن الأبوة كما تطلق على الأب الحقيقي تطلق على "أخو" الوالد أو عمه . والدليل أن القرآن الذي قال : (
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) - البقرة : 133
إذن فإبراهيم أب وإسماعيل أب ويعقوب أب . هؤلاء الآباء المذكورون في هذه الآية . صحيح أن إبراهيم أب , لأنه جد , ولكن إسحاق ليس أبّا , لأنه أخو يعقوب مع إسماعيل , إذن فالعم أب أيضا .
وحين تُطلق كلمة الأب حتى في أعرافنا إذا جاء شخص إلى آخر وقال له أبوك موجود , انصرف هذا إلى أبيه الحقيقي دون ذكر اسمه . ولكن لو قال له : أبوك محمد , فهو يعني عمه . ولو قال الحق : (
وإذ قال إبراهيم لأبيه ) - الأنعام : 74 - وسكت , يصح أن يكون المقصود هو أباه الحقيقي , ولكنه قال :(
لأبيه آزر) تمييزا له ليخرج الأب الحقيقي من كلمة أب .
ولكن لماذا يطلب الله من الرسول أن يذكر :(
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) ؟
- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل , وجاء في الأمة المواجهة للدعوة , أمة العرب , إلا أن إبراهيم يعيش في عقائد هؤلاء القوم , فهو الذي رفع قواعد الكعبة , ولولا الكعبة لكانت قريش كسائر القبائل , فبالكعبة تحققت لقريش السيادة والمهابة والسلطان .. ينتقلون بتجارتهم شمالا وجنوبا , فلا يتعرض لهم أحد , لأن من سيتعرض لهم سيأتي في العام القادم للحج إلى الكعبة .
ولذلك قلنا عندما تعرضنا لقوله تعالى : (
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) وجاءت بعدها الآيات (
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ) إنه لو تعرض البيت للهدم في حادثة الفيل لانتهت سيادة قريش , ولكن الله حفظه لهم . لماذا ؟ (
فليعبدوا رب هذا البيت ) الذي رفع قواعده إبراهيم , وإن كانوا يعبدون الأصنام , إلا أن لهم صلة عقدية بإبراهيم , فأراد الحق أن يدخل إليهم من خلاله , ليرقق قلوبهم بشأن المسألة العقدية لمواجهة الأصنام , وإبراهيم الذي رفع قواعد البيت حارب في قومه الأصنام وكما أن لإبراهيم مكانته عند الكفار , فله مكانته أيضا عند اليهود والنصارى , فكل منهم يدّعيه لنفسه , بدليل قوله تعالى : (
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ) - البقرة : 140 -
ثم يوضح الحق لهم أن إبراهيم مسلم , وإذا كنتم تعتزون به فيجب أن تكونوا مسلمين مثله وتتبعوا محمدا ودينه الذي أحيا ملة إبراهيم , فيقول الحق : (
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) - آل عمران : 67 : 68
ويؤكد الحق أن إبراهيم الذي له مكانة لديهم استنكر عبادة الأصنام فقال لعمه : (
أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) - الأنعام : 74 وكما اهتدى إبراهيم إلى أن ألأصنام ضلال , فقد أراد الحق أن يبين له أسرار ملكوته , فقال : (
وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكن من الموقنين ) - الأنعام : 75 - لهذا عندما جاء إبراهيم يتحدث عن الشركاء قال : (
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) - الشعراء : 77 (
الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحين ) - الشعراء : 78 : 81 فإبراهيم أسند كل شيء إلى الله خالقه , وإن كانت الظواهر تدل على أن للناس دخلا في المسألة , ولكن لو سلسلت كل المسائل والظواهر لوجدتها في النهاية تصل إلى المسبب الأعلى وهو الله . ولذلك قفز إبراهيم من الحلقات الظاهرية إلى الحقيقة , عرف الحقيقة (
وإذا مرضت فهو يشفين ) - الشعراء : 80 -
فالأطباء يعالجون , لكن الله هو الشافي , وهكذا عرف إبراهيم الحقيقة . ولذلك أخذ سلطانا كبيرا في العقيدة معترفا به من كل الأنبياء , لذلك قال الله عنه : (
وإبراهيم الذي وفى ) - النجم : 37 - أوفى بما أمره الله به أن يفعله . يقول الحق : (
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ) - البقرة : 124 - أي اجعل من ذريتي أئمة , فقال الحق : لا ليست المسألة وراثة دم , إنما يأخذ الإمامة من يستحقها , لذا لما جاء إبراهيم وزوجه هاجر وابنهما إسماعيل في مكان صحراوي لا شيء فيه من ضرورات الحياة وهو الماء قال إبراهيم : (
رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) - البقرة : 126 -
تنبه إبراهيم إلى حكاية الإمامة التي لا ينالها من ذريته إلا من قد آمن , فدعا الله ألا يرزق أيضا إلا من قد آمن , فلم يفرق إبراهيم بين عهد الإمامة وعهد الرزق , فأوضح له الحق بأنه في مسألة الرزق يرزق الكافر أيضا , لأن الطعام من عطاءات الربوبية , إنما المناهج من عطاءات الألوهية , فهو رب كل الناس استدعاهم للوجود ويرزقهم , لأنها عطاءات الربوبية , أما من يلتحق بذات الإله لأنه إله فقط وإن أفقره ويخلص الارتباط بخالقه , فإن الله يعطيه عطاءات من أسرار كونه . ولذا يقول الحق : (
واتقوا الله ويعلمكم الله ) - البقرة : 282 -
فحين تتقى تلتحم بالحق , فتكون في دائرة فيوضات الحق , ولذلك في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر وهو في الغار للرسول : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا - مشيرا بذلك إلى الكفار , ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليه أن هذا صحيح ظاهريا , وينقله إلى ملكوت آخر قائلا : ما بالك باثنين الله ثالثهما ؟ يعنى اطمئن لا أحد يرانا , لأننا في معية الله الذي هو ثالثنا , والله لا تدركه الأبصار , فلن تدركنا أبصار الكفار وهكذا فعالم الملكوت هو الشيء الذي يغيب عنا وراء الأسباب , ولأن إبراهيم أوفى ما أمره الله به , فقد أطلعه الله على أسرار الملكوت , وكلما يأتي له شيء جديد يتيقن , إبراهيم كان حقا من الموقنين في كل أدوار حياته , لأن الله أعلمه ما وراء مظاهر الملك والأشياء , وأراه عواقبها , مثلا لما أخذوه لطرحه في النار , طبعا الواحد في مثل هذه الظروف يريد من يمد يده إليه لينجيه , فجاء جبريل يسأل إبراهيم : أليس ليك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا فقد علم أن النار حارقة بالذي خلقها وهو الذي يستطيع ألا يجعلها حارقة , فهذا يقين , لذالم يكن الحظ السعيد أن ينجو إبراهيم من النار , وكان من الممكن ألا يمكنهم الله منه ولكنه مكنهم منه , حتى لا يقولوا هرب منّا , وكان من الممكن أن يرسل الله مطرا يطفئ النار , ولكنه لم يفعل حتى لا يقولوا : لو لم تنطفئ النار لأحرقناه , - ولكن إبراهيم لم يهرب ولم تُطفأ النار , ليشاهد القوم الحقيقة التي عرفها إبراهيم مسبقا فكانت النار بردا وسلاما على إبراهيم وكما ابتلى إبراهيم في أول حياته بإلقائه في النار , فقد ابتلى في نهاية حياته بتعريض ابنه الوحيد للذبح , والذي لم يأته إلا بعد أن كبرت به السن , وكان من الممكن أن يأمر الله غير إبراهيم بقتل ابنه , ولكن لا , بل هو الذي يذبحه بأمر الله ووحيه , وكان من الممكن ألا يستجيب إبراهيم عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل , ولكنه يعلم أن رؤيا الأنبياء حق , ورضى بالقضاء فرفع عنه , لذلك لو رأيت أحدا طال عليه القضاء , فذلك لأنه لم يرض به , لأن الله لا يرفع قضاءه عن إنسان حتى يرضى به بقلبه لا بلسانه , لأن احدا لا يستطيع أن يلوي إرادة خالقه . لذلك رضي إبراهيم بقضاء ربه في ذبح أبنه إسماعيل , ولم يرو أن إسماعيل عبر عن سخطه على أبيه فيحرم من الجزاء , وإنما قال (
قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) - الصافات : 102 - لم يقل له افعل ما تريد , بل قال (
افعل ما تؤمر ) ويكمل الحق ما حدث فيقول : (
فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرءيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم ) - الصافات : 103 : 107
من كتاب الشعراوي في رحاب الكعبة / ابراهيم عبد العزيز