لا تنبش
كان من عادة أحد التجار من أصحاب محالّ المواد الغذائية نصب الكمائن لعمّاله، فيضع خيطاً رفيعاً بعناية على شوال السكّر المفتوح، ثم يخرج ويعطي أي امرأة فقيرة يجدها في الشارع مبلغاً من المال ويطلب منها أن تشتري كمية من السكّر من محله، ثم يعود ويتجه فوراً إلى شوال السكّر ليتحقق من الخيط، فإن لم يجده أو وجده في غير وضعيته؛ سأل العامل عن المبيعات، فإن لم يذكر بيعه السكّر، ركله في مؤخرته وطرده من المحل.. وبقي هذا التاجر ينصب الكمائن ويركل العمّال طوال حياته، وينظر إلى الناس كلهم باعتبارهم “حرامية” إلى أن يثبت العكس.
الإنسان العاقل هو الذي يحكم على الأمور من ظاهرها، مكتفياً بما يظهر له عرضاً في علاقته بالآخرين، أي عدم النبش في أي شيء مهما كانت الشكوك فيه قوية، فبالنبش ستتأثر وتتكسّر علاقاتنا بـ99% من الأشخاص من حولنا، خصوصاً أن الأشخاص الملائكيين نادرين؛ لأنه في 99 بالمئة من الحالات يمكن للنبش والحفر والتعقّب والتنقيب أن تظهر أشياء كثيرة لم تكن لتظهر لولا تدخل المرء وإقحام أنفه في مسألة سعى صاحبها في إخفائها وستره الله عليها، لكن إن ظهر شيء ما عرضاً، فهذا يعني أن الأقدار هي التي فضحت ذلك الشخص.
كما أن النبش يظهر أشياء نحن لا نعلم سبب أو كيفية حدوثها، كأن تراقب زميلاً في العمل فتجده يتلفت فجأة في كل الاتجاهات، ثم يقرّب يده من فمه بسرعة ويفعل شيئاً غريباً، فقد تعتقد بأن زميلك هذا يبصق في يده مثلاً، بينما هو في الحقيقة يبلع أدوية ولا يريد لأحد أن يعرف المرض الذي يعانيه، وفي الوقت نفسه، أنت لا تستطيع أن تقول له: كنت أراقبك وأتجسس عليك ورأيتك تفعل كذا وكذا، فأرجو أن تفسّره لي.
ولا أظن أن زوجة يمكن أن تواصل حياتها مع زوجها وأبنائها لو اتخذت قرار النبش، فهي ستجد في النهاية في هاتفه اسماً غريباً، وفي رسائله الإلكترونية رسالة تفوح منها رائحة البخور، وفي سيارته ورقة باهتة عليها بقايا رقم هاتفه، وفي محفظته على مفتاح شقة سرية، وبين أوراقه ثلاثة عقود زواج، وعلى المقعد المجاور لمقعده في السيارة على خصلة شعر حمراء طويلة، بينما هي امرأة عجوز شعرها أبيض، هذا إن لم تكن صلعاء. لكن إن هي عثرت على تلك الأشياء عرضاً، أثناء التنظيف أو الترتيب، فيمكن لها أن تنتظره بقبقاب ذو كعب مسنّن أمام باب المنزل.
كما لا يمكن أن تستمر علاقة صداقة بين شخصين إذا كان أحدهما يسأل الأشخاص المشتركين: ماذا قال عني في ذلك اليوم؟ وما هو رأيه فيّ إجمالاً؟ ثم يستعين ببرامج في الكمبيوتر تمكّنه من معرفة إن كان صاحبه قد تسلّم الرسالة الإلكترونية من عدمه، ليواجهه إن هو أنكر تسلّمه.
وستضطر ربة المنزل إلى تغيير خادمتها بين الحين والآخر، لأنه ليست هناك خادمة كاملة، لأنه ليس هناك إنسان كامل، وبالبحث والتنقيب لا بد أن تجد ربة البيت أشياء تدين الخادمة، وقد تكون هذه الأشياء تافهة ويفعلها كل الناس، كمداعبة الأنف واختبار حرارة الأكل بترمومتر الأصابع، لكن حين يتم اكتشافها يصعب بعد ذلك تجاهلها.
والمدير الذي يتفرّغ لمراقبة موظفيه والتنقيب عن الأشياء المدفونة، فإنه سيموت من الهم والغم، كأن يباغت الموظف ويأتيه من الخلف ويراه وهو يلعب “الكوتشينه” في الكمبيوتر، أو يقعد ساعة يتمعّن في الإجازة المرضية التي قدمها الموظف لعله يكتشف أنها مزوّرة.
نصب الكمائن والبحث والتفتيش قد يكون مناسباً لرجال المباحث، ولمدة سبع ساعات في اليوم فقط، إذ ينبغي أن يترك رجل المباحث حسّه الأمني ودقة ملاحظته في درج المكتب ويغادر مقر العمل كإنسان طبيعي لا يعرف إلا ما يجري أمام عينيه ولا يصدر الأحكام إلا على الظاهر من الأمور، لئلا يعامل أهله وناسه باعتبارهم مشتبهاً بهم، وتلتهم نيران الشك حياته وتحرق أعصابه.
أحمد أميري
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا
08-08-2011
تعليمات المشاركة
العرض العادي
