أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله           

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 01-08-2011
  #1
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي مراجعة وتوبة

مراجعة وتوبة

صاحبنا الإمام الشوكاني نشأ زيديا شيعيا، ثم توسعت مداركه حتى بلغ درجة الاجتهاد. ونجده في كتاب "نيل الأوطار"، وهو شرح لكتاب "منتقى الأخبار" لابن تيمية الجد، يمشي مع التشدد في مسألة التمسح بالأضرحة والحلف بغير الله، ويندد "بالكفر الفظيع والمنكر الشنيع" و"الشرك المبين". ويستعدي العلماء والحكام قائلا: "فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟"[1].
هذا الرجل المعتدل الذي قرأنا فتواه المنظومة في الفقرة السابقة الداعية إلى الرفق خاض معارك من جملتها معركته مع الروافض. لنستمع إليه يقص قصتها فهي مليئة بالعبر. قال رحمه الله: "ولما ألفت الرسالة التي سميتها "إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي" ونقلت إجماعهم من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه، وقعت هذه الرسالة بأيدي جماعة من الرافضة الذين بصنعاء المخالفين لمذاهب أهل البيت، فجالوا وصالوا وتعصبوا وتحزبوا وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة (...). وكل من عنده أدنى معرفة يعلم أني لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون، مقتصرا على نصوص الأئمة من أهل البيت، ليكون ذلك أوقع في نفوس من يكذب عليهم وينسب إلى مذاهبهم ما هم منه برآء. ولكن كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم، فيسكتون عن العامة. وكثير منهم كان يصوبهم مداراة لهم. وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم، لأنهم يكتمون الحق. فإذا تكلم واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم أنهم على الصواب. فيتجرأون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء وهضم شأنهم. ولو تكلموا بالصواب أو نصروا من يتكلم به أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم لكانوا يدا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الفتن. فإنا لله وإنا إليه راجعون"[2].
حكمة جليلة يضع الشوكاني أصبعنا عليها. حكمة عملية سياسية اجتماعية. وهي سقوط القيادات في قبضة الجماهير بتعبير عصري. في المجتمع الشيعي يعيش الناس إسلامهم على نمط خاص: عاطفة فوارة وذاكرة تتأجج بمآسي الفتنة الكبرى ومقتل الحسين رضي الله عنه. الجماهير تنوح وتحزن وتسب وتلعن، والعلماء يخشون ثورة العامة فيصانعون ويداهنون ويسكتون. تماما كما يصانع علماء السنة الحكام ويداهنون ويسكتون مخافة بطش السلطان.
فإذا نقلنا تحليل الشوكاني، وهو الخبير بالمجتمع الشيعي، إلى عصر الثورة الإيرانية، وحسبنا الفرق بين الزيدية المعتدلين وبين الإمامية الأكثر صلابة ظهرت لنا أبعاد القضية كلها. المسلمون الشيعة في قبضة حركية تولدت من الانكسار التاريخي، وقويت واشتدت وتأزمت حتى انفجرت اليوم في وجه العالم. العامة ثائرة، والقادة لا يملكون الزمام. والمسلمون السنة في قبضة حركية تاريخية السلطان فيها هو المحرك والعامة لا تملك من أمرها شيئا، من ضمن العامة العلماء.
عاش الشوكاني معركة من موقع مريح. كان القاضي العام في اليمن تحوطه رعاية الإمام الحاكم. هدوء حياته كان لا شك عاملا مهما في صياغة شخصية كانت صاخبة متطرفة في شبابها، ثم ترزنت وتثبتت لتعطينا المفتي الرفيق. يتهمه بعضهم بأنه كان تيميا وهابيا، أي مقلدا جامدا. والحقيقة أن الرجل حر في رأيه، حر في بحثه، حر في اجتهاده. ففي مسألة من "مسائل ابن تيمية" وهي مسألة التوسل نراه يسلك مسلكا واسعا لينا. في كتابه "قطر الولي على حديث الولي" يذكر مناقب الإمام البخاري رحمه الله ويثني ويقول: "وجعل الله سبحانه كتابه (كتاب البخاري) هذا أرفع مجاميع كتب السنة المطهرة وأعلاها وأكرمها عند جميع الطوائف الإسلامية، وأجلها عند كل أهل هذه الملة. وصاروا في جميع الديار إذا دهمهم عدو أو أصيبوا بجدب يفزعون إلى قراءته في المساجد والتوسل إلى الله بالعكوف على قراءته لما جربوه قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر من حصول النصر والظفر على الأعداء بالتوسل به، واستجلاب غيث السماء، واستدفاع كل الشرور بذلك وصار هذا لديهم من أعظم الوسائل إلى الله سبحانه. وهذه مزية عظيمة ومنقبة كبيرة"[3].
توسع ورجوع وتجربة. وكذلك رجع الشوكاني عن تكفير المسلمين وأعلن توبته في صفحة مشرقة نقدمها هدية لكل عاقل لبيب من أهل الإيمان. كان أحدهم استفتاه في جماعة من الصوفية نظما، فأجابه نظما بتكفير الجميع. وأورد القصيدة بتمامها في كتابه البدر الطالع ليشطب عليها ويلغيها ويتوب مما احتوته. قال: "وقد أوضحت في تلك الرسالة (رسالة منه أصحبها فتواه المنظومة) حال كل واحد من هؤلاء، وأوردت نصوص كتبهم، وبينت أقوال العلماء في شأنهم". قال: "وكان تحرير هذا الجواب في عنفوان الشباب. وأنا الآن أتوقف في حال هؤلاء، وأتبرأ من كل ما كان من أقوالهم وأفعالهم مخالفا لهذه الشريعة البيضاء الواضحة التي ليلها كنهارها". هكذا رجع من التورط في التعيين إلى التعميم الأسلم. قال: "ولم يتعبدني الله بتكفير من كان في ظاهر أمره من أهل الإسلام. وهب أن المراد بما في كتبهم وما نقل عنهم من الكلمات المستنكرة المعنى الظاهر والمدلول العربي، وأنه قاض على قائله بالكفر البواح والضلال الصراح، فمن أين لنا أن قائله لم يتب عنه؟ ونحن لو كنا في عصره بل في مصره، بل في منزله الذي يعالج فيه سكرات الموت لم يكن لنا إلى القطع بعدم التوبة سبيل، لأنها تقع من العبد بمجرد عقد القلب ما لم يغرغر بالموت. فكيف وبيننا وبينهم من السنين عدة مئين، (...) وفي ذنوبنا التي أثقلت ظهورنا لقلوبنا أعظم شغلة. وطوبى لمن شغلته عيوبه. ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فالراحلة التي قد حملت ما لا تكاد تنوء به إذا وضع عليها زيادة عليه انقطع ظهرها وقعدت على الطريق قبل وصول المنزل. وبلا شك إن التوثب على ثلب أعراض المشكوك في إسلامهم، فضلا عن المقطوع بإسلامهم، جراءة غير محمودة. فربما كذب الظن، وبطل الحديث، وتقشعت سحائب الشكوك، وتجلت ظلمات الظنون، وطاحت الدقائق، وحقت الحقائق. وإن يوما يفر المرء من أبيه، ويشح بما معه من الحسنات على أحبابه وذويه، لحقيق بأن يحافظ فيه على الحسنات، ولا يدعها يوم القيامة نهبا بين قوم قد صاروا تحت أطباق الثرى قبل أن يخرج إلى هذا العالم بدهور. وهو غير محمود على ذلك ولا مأجور. فهذا ما لا يفعله بنفسه العاقل. وأشد من ذلك أن ينثر جراب طاعاته، وينثل كنانة حسناته على أعدائه غير مشكور بل مقهور. وهكذا يفعل عند الحضور للحسنات بين يدي الجبار بالمغتابين والنمامين والهمازين اللمازين، فإنه قد علم بالضرورة الدينية أن مظلمة العرض كمظلمة المال والدم، ومجرد التفاوت في مقدار المظلمة لا يوجب عدم إنصاف ذلك الشيء المتفاوت أو بعضه بكونه مظلمة. فكل واحدة من هذه الثلاث مظلمة لآدمي، وكل مظلمة لآدمي لا تسقط إلا بعفوه. وما لم يعف عنه باق على فاعله حتى يوافي عرصات القيامة".
ثم يقول رحمه الله مخاطبا العقلاء الأشحاء على دينهم، المشفقين من لقاء ربهم، مناشدا عندهم خشية الموقف الرهيب الذي لا ريب فيه: "فقل لي كيف يرجو من ظلم ميتا بثلب عرضه أن يعفو عنه؟ ومن ذاك الذي يعفو في هذا الموقف وهو أحوج ما كان إلى ما يقيه عن النار؟ وإذا التبس عليك هذا فانظر ما تجده من الطباع البشرية في هذه الدار، فإنه لو ألقي الواحد من هذا النوع الإنساني إلى نار من نيران هذه الدنيا وأمكنه أن يتقيها بأبيه أو أمه أو بابنه أو بحبيبه لفعل. فكيف بنار الآخرة التي ليست نار هذه الدنيا بالنسبة إليها شيئا. ومن هذه الحيثية قال بعض من نظر بعين الحقيقة: لو كنت مغتابا أحدا لاغتبت أبي وأمي، لأنهما أحق بحسناتي التي توخذ مني قسرا. وما أحسن هذا الكلام!".
قال رحمه الله: "ولا ريب أن أشد أنواع الغيبة وأضرها وأشرها وأكثرها بلاء وعقابا ما بلغ منها إلى حد التكفير واللعن. فإنه قد صح أن تكفير المؤمن كفر، ولعنه راجع على فاعله، وسبابه فسق. وهذه عقوبة من جهة الله سبحانه. وأما من وقع له التكفير واللعن والسب فمظلمته باقية على ظهر المكفر واللاعن والساب. فانظر كيف صار المكفر كافرا واللاعن ملعونا والساب فاسقا، ولم يكن ذلك حد عقوبته، بل غريمه ينتظر بعرصات المحشر ليأخذ من حسناته، أو يضع عليه من سيئاته بمقدار تلك المظلمة. ومع ذلك فلابد من شيء غير ذلك، وهو العقوبة على مخالفة النهي، لأن الله قد نهى في كتابه وعلى لسان رسوله عن الغيبة بجميع أقسامها. ومخالفة النهي فعل محرم، وفاعل المحرم معاقب عليه"[4].
انتهى كلام عالمنا الورع. كتبه بعد أن استجمع عقله وإيمانه، وترك وصيته معلمة على طريق كل باحث عن سبيل النجاة بدينه.
من كان لا يستحضر بيقين أهوال العرض على الله يوم توزن الأعمال بمثقال الذرة فهذا الكلام النير موجه لغيره. ومن كان لا يستطيع أن يعرف الحق فيعرف بالحق الرجال ومقاديرهم ومرتبة قراراتهم ومنعطفات فكرهم وحياتهم فقد بسطنا له طرفا وجيزا من مواقف الرجال ليعتبر، وعساه يهتدي إلى الحق باقتفاء آثار من سبقوه بالإيمان، يفحص تلك الآثار ويقارن ويحكم. ذلك لمن كان فيه استعداد للبحث، وطلب للحق، ووحشة من الجهل، واستنكاف عن الهينة اللينة حياة التقليد والسطحية والرضى بالدنية.
لماذا يخرج أمثال الغزالي عن الجاه العريض، والرياسة العلمية، ويترك الأهل والوطن ليلقى "متبوعا مقدما"؟ لِمَ يزحف سلطان العلماء العز بن عبد السلام أمام المشايخ وهو الذي ترتعد منه فرائص الملوك ويجثو بين يديه الأمراء والكبراء؟ من هو السيوطي الذي يشيد الطريقة الشاذلية ويتتلمذ للصوفية؟
تمر بين عيني القارئ السالي الفارغ الفؤاد راحة من طلب المعالي أمثولات الرجال فلا يتحرك فيه حس المنافسة ولا خشية أن يفوته الأمر الجلل الذي تزاحمت عليه الفحول، وتخاصمت، وتناظرت، وتسابقت.
فهل من همم عالية تسمع، وتهب، وتلتاع؟



[1] نيل الأوطار ج 3 ص 134.
[2] البدر الطالع ج 1 ص 233 - 234.
[3] ولاية الله ص 519.
[4] البدر الطالع ج 2 ص 37 - 39.
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تطبيق دوولينجو المميز لتعلم اللغات - استعراض و مراجعة سمير كمال قسم الحاسوب 0 01-11-2017 06:28 PM


الساعة الآن 07:47 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir