أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم اغفر لي ، وارحمني ،واهدني ، واجبرني، وعافني،وارزقني ، وارفعني           

إضافة رد
قديم 08-09-2008
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي بديع الزَّمان سعيد النَّوْرسي

معلم أنقذ الإيمان والحرية بالحوار وبالرجولة


بديع الزَّمان سعيد النَّوْرسي
محمد الصاوي
لخص دبلوماسيٌ عربي سيرةَ الدولة التركية خلال القرن العشرين بالقول: «جاء أتاتورك ورحل، وبقي الإسلام في تركيا» وبين المجيء والرحيل قصة لابد أن تروى، قصة الرجال الذين بهم بقي الإسلام في تركيا، من هؤلاء الرجال فتى يقال له النورسي. أنقذه الله من عدوه الذين حاولوا دس السم له سبع عشرة مرة، وحكموا عليه بالإعدام أربع مرات، فأنقذه الله منهم، لينقذ به إيمان أمة بأسرها.
بين رحيل الراحل وبقاء الإسلام هناك قصة لابد من معرفتها. إنها قصة القرآن ورجل القرآن. الرجل الذي نما إلى سمعه كلمة جلادستون:
«ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به». هذه الكلمات التي تفوه بها وزير المستعمرات البريطاني زلزلت كيان سعيد النورسي، فأعلن لمن حوله: «لأبرهنن للعالم أن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها».
في 1293هـ(1876 م) مع غروب قرن هجري ومطلع قرن جديد، وفي قرية نورس الواقعة في جنوب شرقي تركيا الحالية، ولد سعيد النورسي، فبدأت ملحمة حياته في خدمة القرآن العظيم، وإعادة الحياة والفعل للأمة المسلمة.
سئلت والدته: «ما طريقتك في تربيـة أولادك حتى حازوا هذا الذكاء النادر؟ أجابت: لم أفارق صلاة التهجد طوال حياتي إلا في الأيام المعذورة شرعًا. ولم أرضع أولادي إلا على طهر ووضوء». أما أبوه فكان يعود من حقله البعيد ببقرتين وثورين، وقد كمم أفواهها. ولما سئل أجاب: «أخشى أن تأكل من حقول الناس، فيطعم أولادي حرامًا». فأين حقوق الطفل يا سماسرة العصر؟
طالب العلوم عندما بلغ الخامسة عشرة أكمل قراءة ما يقرب من ثمانين كتابًا، وقد استوعبها وأُجيز عليها وتسلم الشهادة بإكمالها. كان يقرأ يوميًا ما يقارب مئتي صفحة أو يزيد من متون أمهات الكتب أمثال: جمع الجوامع في أصول الفقه: لتاج الدين عبدالوهاب السبكي(727 ـ 771 هـ). وشرح المواقف في علم الكلام، للعلامة عضد الدين الأيجي المتوفى (756 هـ). وكتاب «تحفـة المحتـاج في شرح المنهاج» لابن حجر الهيتمي المكي، وهـو شرح (منهاج الطالبين) للإمام النووي الشافعي. وكتاب الإظهار في النحو ( شرح على الكافية لابن الحاجب).
ولما أن ذهب إلى مدرسة الملا فتح الله أفندي في سعرد، وامتحن الشيخ مقدرته على القراءة والحفظ، قال: إن اجتماع الذكاء الخارق مع القابلية الخارقة للحفظ في شخص واحد من أندر الأمور.
وكان الملا فتح الله أول من أطلق على الملا سعيد لقب «بديع الزمان»، وصار النورسي منذئذ يلبس زي علماء الدين. ثم شرع فيما بعد في طلب العلوم الحديثة. ثم اجتهد في إجادة اللغة التركية، إذ كانت العربية هي لغته الأم.
في سنة 1314هـ (1897م) ذهب إلى مدينة «وان» وانكب فيها بعمق على دراسة كتب الرياضيات، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجيولوجيا، والفلسفة والتاريخ، حتى تعمَق فيها إلى درجة التأليف في بعضها.
لقد حصل النورسي من العلوم ما زاده من القرآن قربًا، يقول: «خصص الوالي طاهر باشا غرفة لي في الطابق العلوي من مضيفة بعض قصور الأمراء تشع بالحكمة، فكنت أبيت هناك. وقد حفظت آنذاك ما يقرب من تسعين كتابًا في الحقائق. وكنت أعيد ما حفظته في ذاكرتي ثلاث ساعات يوميًا، فأكمله كل ثلاثة أشهر. فيا إخواني إني أشكر الله كثيرًا على تكراري لتلك المحفوظات، حيث أصبحت وسيلة للعروج إلى حقائق القرآن الكريم. ثم بلغت القرآن الكريم وشاهدت أن كل آية كريمة منه تحيط بالكون إحاطة تامة، وبعد ذلك أغناني القرآن عن غيره».
الخطبة الشامية في عام 1325هـ (1907م) قدم مشروعًا إلى السلطان عبدالحميد الثاني، لإنشاء جامعة إسلامية في شرق الأناضول، أطلق عليها اسم «مدرسة الزهراء» ـ على غرار الأزهر الشريف ـ تنهض بمهمة نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية الحديثة. لكن جماعة من الحاشية أوغروا صدر السلطان على النورسي.
لما لم يجد عند السلطان مأموله، قصد إلى الشام في عام 1329هـ ( 1911 م)، والتقى رجالاتها وعلماءها. وبسبب ما لمسوا فيه من علم ونجابة، استمعوا إليه في الجامع الأموي الشهير وهو يخطب في الآلاف من المصلين خطبة حفظها لنا الزمن، واشتهرت في تراثه بـ«الخطبة الشامية». لقد كانت تلك الخطبة برنامجًا سياسيًا واجتماعيًا متكاملاً، شخّص فيها أمراض الأمة الإسلامية المادية منها والمعنوية:
أولاً: اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه.
ثانيًا: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.
ثالثًا: حب العداوة.
رابعًا: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.
خامسًا: سريان الاستبداد، سريان الأمراض المعدية المتنوعة.
سادسًا: حصر الهمة في المنفعة الشخصية.
العالم والفارس لم يؤيد النورسي دخول الدولة الحرب العالمية الأولى، ولكن باندلاع الحرب كان طبيعيًا أن يهب بديع الزمان في طليعة المجاهدين، فشكل فرقًا فدائية من طلابه، واستمات معهم في الدفاع عن حمى الوطن في جبهة القفقاس، وجرح في المعارك ضد الروس، وأُسر (1334 هـ) واقتيد شبه ميت إلى «قوصتورما» من مناطق سيبيريا في روسيا حيث قضى سنتين وأربعة أشهر. ثم هيأ له الله أثناء «الثورة البلشفية» الإفلات، فعاد إلى بلاده (19 رمضان 1336/8 يوليو 1918) واستقبل استقبالاً رائعًا من قبل الخليفة وشيخ الإسلام والقائد العام وطلبة العلوم الشرعية، ومنح وسام الحرب. وكلَفته الدولة بتسلم بعض الوظـائف، رفضها جميعًا إلا ما عينته له القيادة العسكرية من عضوية في «دار الحكمة الإسلامية»، التي كانت لا توجه إلا لكبار العلماء، فنشر في هذه الفترة أغلب مؤلفاته باللغة العربية منها: تفسيره القيم «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز»، الذي ألفه في خِضَم المعارك، و«المثنوي العربي النوري».
وبعد دخول الغزاة إلى استانبول (13/11/1919) ـ استانبول هي القسطنطينية التي فتحت ببشرى النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ـ أحس النورسي أن طعنة كبيرة وجهت إلى العالم الإسلامي، فكان حتمًا أن يقف في طليعة من يتصدى للقهر والهزيمة، فسارع إلى تحرير كتيب«الخطوات الست» حرك به همة مواطنيه، ووضع تصوره لرفع المهانة وإزالة عوامل القنوط. ست خطوات يتبعها أولياء الشيطان الغزاة للقضاء على العالم الإسلامي:
اقبلوا الهزيمة، لأنها قضاء الله العادل عليكم بما ظلمتم.
لقد تحالفتم من قبل مع الألمان، فلم ترفضون التحالف مع أمثالهم؟
أنتم متخلفون بالطبع المتأصل، فاتركونا ننهض بكم ونعلمكم وندير شؤونكم.
من يقاومنا مغرض منافق يسعى لمصلحته، ويلعب بالدين لأغراض سياسية، فلا تطيعوه ولا تثقوا به.
إن ولاة أموركم يؤيدوننا، فعليكم بطاعتهم في ذلك.
مقاومتكم لا فائدة فيها ولا جدوى منها، إنكم تلقون أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، فاتركونا نركب ظهوركم
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

استانبول المحتلة: كتب النورسي رسالة «الخطوات الست» ضد الإنجليز وأذنابهم، مما ساعد على إبطال مفعول الخطة الجهنمية للإنجليز. وما إن دخل القائد الإنجليزي استانبول حتى سُلمت له رسالة الخطوات الست، التي تـهاجمهم بعنف وتفند أباطيلهم وتشد من عزائم المسلمين، وعُرض عليه نشاط بديع الزمان الدائب في فضح سياسة المحتلين وتأليب الناس عليهم، فقرر القائد الإنجليزي إعدام النورسي،(الحكم الثالث بإعدامه) ولكن عندما أُعلم أن هذا القرار سيثيـر غضب الأمة كلها ويزيد سخطها، وسيدفعهم إلى القيام بأعمال عدائية مهما كلفهم ذلك، تخلى عن قرار الإعدام، لكن سلطات الاحتلال لم تفتر عن ملاحقة النورسي.
حينما احتل الإنجليز استانبول، ودمروا المدافع في المضيق (في استانبول) ورد في تلك الأيام ستة أسئلة من رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليزية إلى المشيخة الإسلامية، وكان النورسي حينئذٍ عضوًا في دار الحكمة الإسلامية فقالوا له: أجب عن أسئلتهم بست مئة كلمة كما يريدون. فقال: «إن جواب هذه الأسئلة ليس ست مئة كلمة ولا ست كلمات ولا كلمة واحدة، بل بصقة واحدة»، وكان النورسي يقصد أنه لا يجيب أسئلة المكر والدس والشماتة، لكنه مستعد لأن يضع الجواب لمن ينشد الحق.
السيف والذهب: أرسل مصطفى كمال برقيتين يستدعي النورسي إلى أنقرة لكي يكافئه على نشر رسالة الخطوات الست، فذهب إليها سنة 1922م، وشاهد فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلا أنه أبصرـ خلال موجة الفرح هذه ـ زندقة رهيبة تدب بخبث ومكر، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.
كان النورسي يأمل في حكومة أتاتورك خيرًا، ولكنه عندما وصل أنقرة واستقبل استقبالاً حافلاً من قبل المسؤولين والأهلين، شاهد ما لم يأمله، حيث لمس عدم الاهتمام بالدين في البرلمان وعدم اكتراثهم بشعائر الإسلام. فدعاهم ببيان إلى ضرورة العبادة؛ ولاسيما الصلاة، ووزع البيان على أعضاء المجلس وقرأه على مصطفى كمال الجنرال كاظم قره بكر، كان من تأثير هذا البيان أن استقام على إقامة الصلاة ستون نائبًا، حتى إن الغرفة التي كانوا يؤدون فيها الصلاة لم تعد تسعهم فاتخذوا غرفة أوسع منها لإقامة الصلاة.
أعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة: حاول الزعيم التركي أن يستميل النورسي، كما حكى: «عرض عليّ ـ مصطفى كمال ـ تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاث مئة ليرة في محل الشيخ السنوسي، وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية، وكذلك تعييني نائبًا في مجلس المبعوثان (المجلس النيابي)، وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في دار الحكمة الإسلامية، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة».
لكن الأمور لم تهدأ فقبض على النورسي، وفي المحكمة قال عن أتاتورك: «إننا لسنا مع زعيم أصدر بحسب هواه أوامر باسم القانون ونفذها بقوة لتحويل جامع آيا صوفيا إلى دار للأصنام، وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات، لسنا معه فكرًا ولا موضوعًا، ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية، ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا».
بعدما وافق المجلس على إلغاء الخلافة، ما كان من النورسي إلى أن غادر أنقرة في 25/ 4/ 1923م. نعم رد جميع عروض مصطفى كمال وغادر أنقرة، بعد أن بيّن وجهة نظره في الحكومة الجديدة للنواب الذين حضروا لتوديعه وألحوا عليه بالبقاء في أنقرة.
هجر النورسي أنقرة والسياسة معًا، وتفرغ لدروس القرآن في مدينته القديمة (وان)، وحرص على صيانة الدماء، فهل سلم؟ لا، لقد نفي إلى بلدة بعيدة غريبة، إلى (بوردور).
عندما ترعى الذئاب: أفصح أتاتورك عن هويته فقال : «إن الإمبراطورية العثمانية قامت على أسس الإسلام، وإن الإسلام بطبيعته ووضعه عربي، وتصوراته عربية، وهو ينظم الحياة من ولادة الإنسان إلى وفاته ويصوغها صياغة خاصة، ويخنق الطموح في نفوس أبنائه، ويقيد فيهم روح المغامرة والاقتحام، والدولة لا تزال في خطر ما دام الإسلام دينها الرسمي» كما أعلن عن برنامجه: «إنه من الأفضل لتركيا أن تكون في مؤخرة أوروبا على أن تكون في مقدمة الدول الإسلامية». وضع الرجل برنامجه موضع التنفيذ، فأُلغيت السلطنة العثمانية في (1/11/1922م) وأعقبه إلغاء الخلافة في (3/3/1924م). وفي 3/2 / 1928م كانت أول خطبة للجمعة بالتركية، وفي 1/11/ 1928م إقرار الحروف اللاتينية بدلاً من العربية المستعملة (بقانون رقم 1353)، وبموجبه بيعت أطنان من الوثائق والكتب القيمة بأزهد الأثمان وأطنان منها أرسلت إلى مصانع الورق، وفي 30/12 غلق (90) مسجدًا في استانبول. وفي 1/ 9/1929م رفعت الدروس العربية والفارسية من المدارس، ووضع الحظر على قراءة القرآن وكذا الكتب الدينية وتنفيذ القرار بشدة، وفي عام 1932م وحده حدث في 22/1 قراءة القرآن المترجم إلى التركية وفي 6/2 خطبة الجمعة بالتركية في جامع السليمانية باستانبول، وفي 18/7 فرض الأذان والإقامة بالتركية رسميًا وحظرهما بالعربية، وطبع المصحف بالتركية، وفي عام 1933م ثار الناس احتجاجًا على الأذان بالتركية، فرد على الشعب بجعل الأذان بالتركية في جميع المساجد. وكان صريحًا عندما قال في مجلس الأمة التركي: «إن تركيا لم تعد تأخذ مثالها من الغيبيات ولم تعد تأخذ قوانينها مما يظن أنه كتب جاءت من السماء». وهكذا اقترب من غايته في عام 1935م فجعل يوم الأحد عطلة الأسبوع بدلاً من الجمعة، ونفذ تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف، بعد إغلاقه مدة من الزمن وتحويل جامع الفاتح إلى مستودع، كما صدر قراره بفرش المسـاجد بالكراسي واستخدام (الأورج) فيها، حيث تتم تلاوة القرآن بمصاحبة الموسيقا، لكنه لم ينفذ، فقد عاجلته المنية في 1938م. مات بعد أن أدى دوره باقتدار، فوقعت البلاد على وثيقة الاستسلام التي سميت معاهدة لوزان.
وحدة الأمة: بسبب ما وُضع من قوانين وما اُتخذ من قرارات لقلع الإسلام من جذوره، قام الشيخ سعيد بيران (البالوي) النقشبندي (13/2/1925م) بالثورة ضد السلطة آنذاك، وطلب قائد الثورة من بديع الزمان استغلال نفوذه، لإمداد الثورة لكنه رفض المشاركة وكتب رسالة إليه جاء فيها:
«إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة، فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام، وضحت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء، فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء، لذا لا يُستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام، الأمة التركية، وأنا أيضًا لا أستلُه عليهم». وكثيرًا ما تمثل بقول الحق: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، ثم يعلق: «إن ثلاث ألفات إذا كتبت منفردة متفرقة فقيمتها ثلاث، ولكن إذا اجتمعت بالتساند العددي فقيمتها مئة وأحد عشر» وكان يردد مقالة السلطان سليم: «إن مغبة الاختلاف والتفرقة يقلقاني حتى في قبري، فسلاحنا في دفع صولة الأعداء إنما هو الاتحاد».
كثيرًا ما أشاروا إلى النورسي باسم (سعيد الكردي)، وما ذاك إلا لغرض غير مبرأ، فالأكراد ليسوا أقلية في تركيا ولم يعتبرهم أحد في البلد أقلية، حتى الأكراد أنفسهم، لأنهم مسلمون ملتزمون بشعائرهم الدينية. وبرغم هذا فإن دول الاتحاد الأوروبي تعتبر المواطنين الأكراد ضمن الأقليات.
الثورة التي قادها الشيخ سعيد بيران في شرقي الأناضول في الثلاثينيات في عهد رئاسة مصطفى كمال أتاتورك لم تستند إلى مشاعر عرقية، إنما ثار الأكراد آنذاك بعواطف دينية رافعين شعار «ضاع الدين». وبالفعل حكمت الدولة عليهم بالإعدام بذريعة أنهم يريدون إقامة دولة دينية.
ومن الخطأ الاعتقاد أن جميع المواطنين الأكراد قد خرجوا على الحكومات التركية وشاركوا في العمليات الإرهابية أو أيدوها أو أرادوا إقامة دولة كردية مستقلة في شرقي الأناضول. فأهل المنطقة قد سئموا الحرب والدمار والهجرة ولا يريدون الآن سوى الاستقرار والحرية والاستثمار وتحسن الأوضاع الاقتصادية
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

قال شاعر الإسلام محمد عاكف: «.. يا جماعة المسلمين.. أنتم لستم بعرب ولا ترك ولا بلقانيين ولا أكراد ولا قوقازيين، ولا شركس، أنتم فقط عبارة عن أفراد في أمة واحدة هي الأمة الإسلامية. وكلما حافظتم على الإسلامية لم تفقدوا قومياتكم، وحين تسقط أو تضيع قومياتكم فلن تكونوا مسلمين.».أما العلامة أحمد تيمور ـ ذو الأصل الكردي ـ فقد دعي في مصر إلى جمعية تضم الترك والجراكسة والأكراد، فقال مقالة عالم فقيه: «أنا مسلم من جامعة المسلمين».
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميــمِ
إنقاذ الإيمان: برغم ذلك لم ينجُ بديع الزمان من شرارة الفتن والاضطرابات، فنفي مع الكثيرين إلى «بوردو»، ووصل إليها في شتاء سنة 1926م. ثم نفي وحده إلى ناحية نائية وهي «بارلا» جنوب غربي الأناضول. يقول عن هذا: «صرفت كل همي ووقتي إلى تدبر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة «سعيد الجديد».. أخذتني الأقدار نفيًا من مدينة إلى أخرى.. وفي هذه الأثناء تولَدت من صميم قلبي معاني جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم.. أمليتها على مَن حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها «رسائل النور»، وسيلة لإخراج ما لا يعد ولا يحصى من الناس، من الظلمات إلى النور، وبعبارته فإنها استهدفت أولاً «إنقاذ الإيمان».
استمر الأستاذ النورسي على تأليف رسائل النور حتى سنة 1950م وهو يُنقل من سجن إلى آخر ومن محكمة إلى أخرى..هكذا طوال ربع قرن من الزمان. ولم يتوقف خلاله عن التأليف والتبليغ حتى أصبحت في أكثر من (130) رسالة، جمعت تحت عنوان «كليات رسائل النور» التي لم تتيسر لها أن ترى طريقها إلى المطابع إلا بعد سنة 1954م. وكان الأستاذ النورسي يشرف بنفسه على الطبع حتى كمل طبع الرسائل جميعها. تُرجمت هذه الرسائل إلى مختلف لغات العالم ( العربية والإنكليزية والألمانية والفرنسية والروسية ولغات بلدان آسيا الوسطى وغيرها من اللغات حتى الصينية ).
رسائل النور رسائل علمية إيمانية. هي علمية بمعنى الموثوقية المستمدة من صحيح العلم الشرعي المكين، وهي إيمانية بمعنى أنها لا تقصر غايتها على تقديم (معلومات) عن الإسلام، بل غايتها إيقاظ الإيمان الباهت، وإنقاذ الإيمان المهدد بالذبول، وتقوية اليقين بالله، وبث الأمل في مستقبل الإسلام وحاضره جميعاً. تقصد رسائل النور إلى تعميق التدين وتأكيد الممارسة العملية لشعائر الإسلام، مثلما تستهدف ضبط حركة الحياة بإيقاع الشرع القويم. وشتان بين أن تعرف (معلومات) إسلامية ـ كمن تعرف عدد شهداء أحد وأسماءهم ـ وبين أن تمضي في الحياة مجاهدًا في سبيل الفضيلة ومكارم الأخلاق.
في أجواء الاستبداد والعداء للإسلام التي فرضت على تركيا مدة ربع قرن، كتب النورسي المنفي من موطنه رسائل النور، ليُسهم في إنقاذ الإيمان المهدد في بلد الخلافة. أراد السفهاء تربية جيل يتولى بنفسه إزالة القرآن، وأراد الله أن يشرع النورسي في تربية جيل يحيا بالقرآن وللقرآن. أراد النورسي أن يربي مريديه على القرآن، فلم تكن رسائله سوى باب إلى أنوار القرآن العظيم موئل الهداية والعصمة. يقول النورسي: «إن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم وهى وثيقة الصلة به، ذلك الكتاب الجليل المرتبط بالعرش الأعظم، لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي الشخصية إلى الرسائل»
لا عجب بعد ما تقدم أن يقول النورسي عن رسائله إنها «تفسير معنوي للقرآن الكريم ومعجزة معنوية له».
شاء الله أن تذيع رسائل النور ـ برغم التضييق والنفي والتشريد والسجن ـ على أيدي تلاميذ النورسي، الذين حفظوها ونسخوها بأيديهم، في زمن عَزَ فيه وجود المطبعة التي تقبل بطباعتها. ويوم تيسرت آلات الطباعة في تركيا كانت الحروف العربية قد صارت مما يحظره النظام الأتاتوركي هنالك. لكن يأبى الله إلا أن تبلغ رسائل النور ما بلغ الليل والنهار، فقد رأيتها في زمن الإنترنت متاحة بعشرين لغة من لغات البشر، في متناول كل راغب فيها ينالها بلمسة زر. وفي مكتبة الإسكندرية قرأت نسخة كاملة في ثمانية مجلدات بالعربية، ولاحظت أنها مصنفة ضمن مجموعة كتب التصوف.
الحرية أولاً: كان النورسي قد دافع بقوة لدى انهيار الدولة العثمانية عن (المشروطية) أو الشورى الملزمة، وكافح (الاستبداد) حتى أُجبر على الإقامة بعيدًا عن موطنه لأكثر من عقدين من الزمان.
وعندما لاحت أولى نسائم الحرية خرج النورسي للإدلاء بصوته في الانتخابات 1950م. وتربع رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندرس في قلب الشعب، عندما أعاد الأذان إلى أصله باللغة العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عال إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم. ولما أنجزت الحكومة ما وعدت أرسل النورسي برقية شكر إلى رئيس الجمهورية التركي، والذي رد بدوره عليه ببرقية مماثلة.
وفي انتخابات 1954م عبر الشعب التركي عن امتنانه وتقديره لمندرس فحصل على 503 مقاعد من أصل 541 .
أحس النورسي أنه نجح في إنقاذ الإيمان في تركيا، فلبى نداء الكريم في الخامس والعشرين من رمضان سنة 1379هـ الموافق 23 آذار 1960 م ودفن في مدينة «أورفة».
بعد شهرين من وفاة النورسي وضع العسكر يدهم على الحكم صباح 27 مايو/أيار 1960م، وكان أول إنجاز لهم هدم قبر النورسي، ونقل رفاته بالطائرة إلى جهة مجهولة، بعد أن أعلنوا منع التجول في مدينة «أورفة». وحكم العسكر بالسجن مدى الحياة على رئيس الجمهورية، وبالإعدام على كل من رئيس الوزراء عدنان مندرس ووزير خارجيته فطين رشدي زورلو ووزير ماليته حسن بولاتقان بحجة اعتزامهم (قلب النظام العلماني) وتأسيس دولة دينية بديلة مكانه.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

معلم في مستشفى المجاذيب
ذهب سعيد إلى استانبول ليطلب من السلطان عبدالحميد إنقاذ المناطق الشرقية من الجهل والافتقار إلى المدارس، وهناك أرسلوه إلى مستشفى المجانين، فكتب يقول: «كنت سابقًا أحسب أن فساد الشرق نابع من تعرض عضو منه للمرض، ولكن لما شـاهدت استانبول المريضة وجسستُ نبضها، وشرحتها، أدركت أن المرض هو في القلب، وسرى منه إلى جميع الجهات، فحاولت علاجه، ولكن أُكرمت بإلصاق صفة الجنون بي! حيث إن وشاية الحاسدين والخصماء، أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبدالحميد رحمه الله رحمة واسعة».
وفي المستشفى تحدث طويلاً إلى الطبيب المكلف بفحص قواه العقلية، فكان من جملة الحديث من آرائه في تنظيم طلب العلم أن قال للطبيب: «لما قدمت استانبول شاهدت المدارس الدينية لم تتقدم كالمرافق الأخرى في البلاد، وأعزو سبب ذلك إلى إقامة الاستعداد ـ الذي هو القدرة على الاستنباط من الكتاب ـ موضع الملكة، ونشوء حالات التعطل، وفقدان الشوق، وضعف الملكة لدى الطلاب الناشئة من عدم إجراء المناظرات العلمية.
ثم إن العلوم الإلهية لا تُكسب كسائر العلوم، حيث إنها علوم مقصودة بالذات، تنتج لذة حقيقية. فلا هي كالعلوم الكونية المثيرة للحيرة والإعجاب، ولا هي كعلوم اللهو التي يقضى بها الوقت. لذا يلزم لكسب العلوم الإلهية، همة عالية، أو توغل تام، أو مسابقة بدافع مشوق، أو تنفيذ قاعدة تقسيم الأعمال. أي يتوغل كل طالب في علوم معينة بحسب استعداده، حتى يتخصص فيها ولا يظل سطحيًا عابرًا. حيث إن لكل علم من العلوم صورة حقيقية، إن فقدت الملكة يغدو بعض أجزائه ناقصة كالصورة الناقصة. أي على الطالب المسـتعد أن يتخذ علمًا من العلوم أساسًا له، ويأخذ خلاصة من كل علم من العلوم المتعلقة به، لإتمام صورة ذلك العلم. لأن كل خلاصة يمكن عدها مكملة للصورة الأساس من دون أن تشكل صورة مستقلة.
فيا طلاب العلوم الدينية الذين يسمعون صوتي! لنكن خير خلف لسلفنا الذين بلغوا أوج الكمال، ولنسع في سبيل ذلك كطلاب المدارس الحديثة الذين أصبحوا خير خلف لسلفهم الناقصين» ثم أردف: «إن الإسلام الذي يمثل الحضارة الحقة في عصر الرقي والتقدم هذا، لم يترق كالحضارة الحاضرة. وأرى أن أهم سبب في ذلك هو: تباين الأفكار وتخالف المشارب بين أهل المدارس الدينية والمدارس الحديثة والزوايا. فأهل المدرسة الدينية يتهمون أهل المدرسة الحديثة بضعف العقيدة لتأويلهم ظواهر بعض الآيات والأحاديث تأويلاً يفضي إلى غير المراد منها. وهؤلاء يعدون أولئك غير موثوق بهم لعدم إقبالهم على العلوم الحديثة، في حين ينظر أهل المدارس الحديثة إلى التكايا والزوايا كأنـهم أهل بدعة حيث يبنون رأيهم هذا على ظن باطـل لدى العوام وبعض الجهلاء الذين يعدون أعمالاً وحركات في الذكر ـ الذي هو عبادة ـ أنها من الذكر نفسه، في حين أنها موضوعة للحث وتزييد الشوق، ولا تجوز إلا إذا كانت مباحة. وقد فتح باب التساهل بتفريط هؤلاء وإفراط أولئك اختلاط بعض البدع مع الذكر.
فهذا التباين في الأفكار والتخالف في المشارب قد هز الأخلاق الإسلامية هزًا وأخرها عن ركب المدنية.
وعلاج هذا: تدريس العلوم الدينية في المدارس الحديثة تدريسًا حقيقيًا، وتحصيل بعض العلوم الحديثة في المدارس الدينية في موضع الحكمة القديمة التي أصبحت لا ضرورة لها.. وكذا وجود علماء متبحرين في التكايا..»
وعرج النورسي نزيل مستشفى المجانين على تحديث الخطاب الديني، فقال عن الوعاظ: «إنني استمعت إلى الوعاظ. فلم تؤثر في نصائحهم ووعظهم. فتأملت في السبب، فرأيت أنه فضلاً عن قساوة قلبي هناك ثلاثة أسباب:
أنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيرًا في تصوير دعاواهم محاولين تزويقها دون إيراد الأدلة الكافية التي لابد منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر ـ كان ذلك سنة 1907م ـ أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة.
أنهم عند ترغيبهم بأمر ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، أي لا يميزون بين المهم والأهم. (التمييز بين الضرورات والحاجيات والتحسينات).
أن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بد أن يكون الكلام موافقًا لحاجات العصر.لكنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.
فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محققين ليتمكنوا من الإثبات والإقناع. وأن يكونوا أيضًا مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة. وأن يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر. وعليهم أيضًا أن يَزنوا الأمور بموازين الشريعة»
كتب عنه الطبيب في تقريره: «لا يوجد بين القادمين إلى استانبول من يملك ذكاء وفطنة مثله. إنه نادرة العالم!» فصُرف من المستشفى، وأبعد من استانبول.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

المعلم الأسير: أصابتني أربع قذائف دفعة واحدة، وجُرحت وانكسرت ساقي، فبقيت في الماء والطين أربعًا وثلاثين ساعة منتظرًا الموت، ومحاصرًا من قبل العدو. فهذا الوقت يعد أحلك أوقاتي اليائسة وأشدها رهبة. والبرد الشديد يهلكنا فالثلوج تغطى كل مكان والجوع يفتك بنا ـ منذ ثلاثة أيام ـ فضلاً عن الأرق الشديد والخوف يلفنا من كل جانب.
وأُخذ البطل أسيرًا إلى سيبريا، وما أدراك ما سيبريا. وظل في الأسر سنتين ونصف السنة تقريبًا حتى تمكن من الفرار وعاد إلى إستانبول سنة 1336هـ. وكان في الأسر معلمًا لتسعين ضابطًا في الأسر معه، يقول: «وكنت أُلقي عليهم أحيانًا الدرس. وذات يوم حضـر القائد الروسي وشاهد الموقف وقال: إن هذا الكردي قائد المتطوعين قد ذبح كثيرًا من جنودنا، ويأتي الآن ويلقي دروسًا سياسية هنا، لا يمكن هذا، امنعه قطعًا، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك».
وفي معسكر الأسرى لا تنتهي المواقف التربوية ـ تذكرنا بأسد برقة عمر المختار ـ ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولا نيقولافيج المعسكر للتفتيش ـ يقوم له الأسرى احترامًا ـ وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكنًا ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به أيضًا. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:
ـ أما عرفته؟
ـ نعم أعرفه إنه نيقولا نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.
ـ فِلمَ إذًا قصد الإهانة؟
ـ كلا! معذرة. إنني لم أستهن به. وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
ـ وماذا تأمر العقيدة؟
ـ إنني عالم مسلم أحمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله، فلو أنني قد قمت له احترامًا لكنت إذًا قليل الاحترام لعقيدتي، ولهذا لم أقم له.
ـ إذًا فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فليشكل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.
وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلا أنه أجابـهم بالآتي: إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسـول الكريم (صلى الله عليه وسلم). فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة. ولا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني، وتجاه هذا الكلام يؤثر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.
وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي.لم تكن تلك المرة الأولى التي يقضى عليه بالإعدام .وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي بخمس عشرة دقيقة فقط لأؤدي واجبي، فعلها قبله غير واحد من الصحابة والتابعين.
فيقوم إلى الوضوء وفي أثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولا نيقولافيج ويخاطبه:
أرجو منك المعذرة. كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير وإعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. وأكرر رجائي مرارًا: أرجو المعذرة.
جرائم باسم الحرية: إن لم ترب الحرية بالتربية الإسلامية فستموت، ويولد مكانها الاستبداد المطلق. يا أبناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيرًا سيئًا كي لا تفلت من أيديكم، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر، ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة. وقد كان ما كان يخشاه فاستشرى الاستبداد في دار الخلافة عقودًا تحت دعوى التحديث والتجديد.
دحض النورسي الافتراءات، فقال: «إن أوروبا تظن الشريعة هي التي تمد الاستبداد بالقوة وتعينه. حاشا وكلا.. إن الجهل والتعصب المتفشـيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظنًا خاطئًا من أن الشريعة تعين الاستبداد. لذا تألمت كثيرًا من أعماق قلبي على ظنهم السيئ هذا بالشريعة، فكما أنني أكذب ظنهم فقد رحبت بالمشروطية باسم الشريعة قبل أي شخص. ولكني خشـيت من أن يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من أعماقي، وبكل ما أوتيت من قوة في خطاب أمام المبعوثيـن (النواب).. في جامع آيا صوفيا وقلت: افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقوها على أساسها، ولقنوها الآخرين على هذه الصورة، كي لا تلوثها اليد القذرة لاستبداد جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشيء الطيب المبارك ترسًا لأغراضه الشخصية، قيدوا الحرية بآداب الشرع لأن عوام الناس والجاهليـن يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد أن ظلوا أحرارًا سائبين بلا قيد وشرط».
منافقون في علمانيتهم: قال في المحكمة: إن حافظوا على حيادهم إزاء اللادينيين باسم الجمهورية العلمانية ومبادئها ولم يمسوهم بسوء، فلا ينبغي بداهة أن يتذرعوا بذرائع ليمسوا المتدينين بسوء.
إن الحكومة الجمهورية التي قبلت فصل الدين عن الدولة لا ينبغي لها أن تتعرض للمتدينين بسبب دينهم كما لا تتعرض للملحدين بسبب إلحادهم.
واعلموا أن وزير المستعمرات البريطاني قال قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا : إننا لن نستطيع أن نحكم المسلمين حقًا ما دام هذا القرآن في أيديهم، فينبغي أن نسعى لرفعه وتضييعه. إن كلام هذا الكافر العنيد حول نظري منذ ثلاثين سنة إلى فلاسفة أوروبا، فأنا أجاهدهم بعد جهاد نفسي، ولا ألتفت إلى ما في الداخل، إذ أرى النقص والتقصير في الداخل هو نتيجة ضلال أوروبا وإفسادها، لذا أحتد على فلاسفة أوروبا وألطمهم لطمات تأديب، فلله الحمد، أن رسائل النور خيبت آمال أولئك الكفار العنيدين، مثلما أسكتت تمامًا الفلاسفة الماديين والطبيعيين، ولا توجد حكومة في الدنيا، مهما كان شكلها، تمنع محصولاً مباركًا لوطنها ومنجمًا عظيمًا لقوتها المعنوية مثل هذه الرسائل، أو تحكم على ناشرها.
منافقون في تقليدهم لأوروبا: إن الحرية التي يتمتع بها الرهبان في أوروبا ترينا أن أي قانون كان لا يتابع تاركي الدنيا والعاملين بقواهم الذاتية للآخرة والإيمان.
أجزم أنه لا قانون في الدنيا يقول بمنع، أو يقدر أن يمنع، كتابة الخواطر العلمية بشأن الإيمان الذي هو مفتاح السعادة الأبدية لرجل عجوز، محكوم عليه بالتغريب مدة عشر سنوات، وممنوع عن الاختلاط بالناس والمراسلة.
ولقد كتبت مرات عديدة في رسائلي إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة، بل زمان إنقاذ الإيمان. وكثيرون جدًا يدخلون الجنة بغير طريقة، ولكن لا أحد يدخلها بغير إيمان. لذلك ينبغي العمل للإيمان.
فيم يناقض الإسلام القيم الغربية؟: سأله سائل: لِمَ ترفض الشريعة هذه المدنية؟ فأجاب: لأنها تأسست على خمسة أسس سلبية: فنقطة استنادها هي: القوة، وهذه شأنها: الاعتداء. وهدفها وقصدها: المنفعة، وهذه شأنها: التزاحم. ودستورها في الحياة: الجدال والصراع، وهذا شأنه: التنازع. والرابطة التي تربط المجموعات البشـرية هي: العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين، وهذه شأنها: التصادم، كما نراه.وخدمتها للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي: تشجيع هوى المنفعة، وإثارة النفس الأمارة، وتطميـن رغباتها وتسهيل مطالبها. وهذا الهوى شأنه: إسقاط الإنسان من درجة الملائكية إلى درك الحيوانية الكلبية. وبهذا يكون سببًا لمسخ الإنسان معنويًا. ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية إلى أحضان الشقاء وأخرجت عشرة بالمئة منها إلى سعادة مموهة زائفة. وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء وأولئك، علمًا أن السعادة تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية، بيد أن سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس. لأجل كل هذا لا يرضى القرآن الكريم بمدنية لا تضمن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

بم امتاز الإسلام عن سواه؟
ما سئل عن ذلك أجاب: أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشـاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسسًا إيجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية. نعم! إن نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة. والحق من شأنه: العدالة والتوازن. وهدفها: الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنـها: المحبة والتجاذب. وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية: الرابطة الدينية، والوطنية، والمهنية بدلاً من العنصرية. وهذه شأنها: الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الأجانب. ودستورها في الحياة: التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والاتحاد. وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكمًا على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى: رفع الإنسانية إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحدد الهوى وتحد من النـزعات النفسانية تُطمئن الروح وتشوقها إلى المعالي.
الخصوصية والعولمية: لا ينبغي أن ننخدع، بل نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: خذ ما صفا ودَع ما كدر. وفي ضوئها سنأخذ من الأجانب ـ مشكورين ـ كل ما يعين على الرقي المدني من علوم وصناعات. أما العادات والأخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيرًا لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة. فنحن لو أخذنا منهم المدنية ـ بسوء حظنا وسوء اختيارنا ـ بما يوافق الهوى والشهوات ـ كالأطفال ـ تاركين محاسنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجلات، إذ كيف إذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا ما يكون لنا أن نتجمل بمساحيق التجميل... ينبغي لنا الاقتداء باليابانيين في المدنية، لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم، وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا. وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الإسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالإسلام..». هكذا تكلم النورسي المتوفى سنة 1960م.
التلاعب بالعدالة: وإنه شيء يقلب جوهر العدل إلى ظلمٍ، ويوحي إلى الانحياز من وجهة العدل، هو التعبير الذي يطلق علي بتسميتي وفي كل مرة (سعيد الكردي) مع أن اسمي سعيد النورسي هنا وفي إسبارطة في التحقيقات وذكرهم إياي بأني كردي. وبهذا يوقظون حسًا ضدي عند إخوتي في الآخرة يتعلق بالحمية القومية، فضلاً عن أن هذا تغيير لمجرى المحكمة وماهية عدالتها تغييرًا تامًا.
قبل كل شيء أنا مسلم، وولدت في كردستان. لكني خدمت الترك، وإن تسعًا وتسعين من خدماتي النافعة حصلت للترك، وأمضيت معظم عمري بين الترك، وأخلص إخواني وأصدقهم ظهروا من الترك، وأستطيع أن أُشهد ألفًا من شباب الترك الحقيقيين الشهمين، بأني خدمت الملة التركية أكثر من ألف من هؤلاء الذين يظهرون أنفسهم محبين لقوميتهم وينعتونني بالكردي، حيث إن حب الترك وتأييدهم أكثر من الملل الأخرى هو من مقتضيات خدمتي القدسية، خدمة القرآن، لأنهم أشد أبطال الجيوش الإسلامية شجاعة.
العلم بالله يعصم من الإضرار بالناس: إن من دَرسَ رسائل النور، لن يخوض في فتن تهدر دماء أبرياء كثيرين وتضيع حقوقهم، ولن يقترب بأي وجه من فتن تكرر فشلها وضررها. وإن عشر فتن في هذه السنوات العشر، لم يشترك فيها عُشر طلاب رسائل النور، بل لم يشترك فيها واحد منهم، إنما يدل على أن الرسائل ضدها وأنها مدار تحقيق الأمن والنظام. وا عجبي! أيهما أسهل من جهة الإدارة وحفظ الأمن، ألف رجل مؤمن أم عشرة رجال بلا دين لا يضبطهم ضابط؟ نعم. إن الإيمان بفيض الخصال اللطيفة، يمنح حس الرحمة والميلَ إلى الحذر من إلحاق الضرر.
يرددون هذه الكلمة منذ ثلاثة شهور: أن سعيدًا الكردي يستغل الدين للسياسة. وأنا أقسم بجميع المقدسات أن لو كان عندي ألف سياسة لكنت فديتها للحقائق الإيمانية. فكيف أجعل الحقائق الإيمانية أداة لسياسة الدنيا؟...وأنا بدوري أتهم الظالمين الملحدين الذين يحاولون العمل ضدنا بأنهم يستغلون السياسة للإلحاد.. إن المادة القانونية التي تنص على الذين يستغلون الشعور الديني للإخلال بالأمن، لابد أن يكون لها تفسير، حيث إنها واسعة شاملة جدًا. إذ لها قيود احترازية. وإلا فهذه المادة وهذا المعنى الواسع كما يُدينني يدين جميع أهل الدين وفي مقدمتهم رئاسة الشؤون الدينية والأئمة والخطباء والوعاظ.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
حوكم النورسي بسبب رسائل النور، فتحولت مرافعاته في ساحات المحاكم إلى رسائل جديدة تضاف إلى رسائل النور. وعندما كان يزج به في السجن كان يجعل من سجنه مدرسة، ومن سجانيه طلاب علم. وعندما أريد للنورسي أن ينطوي تحت عباءة السلطة وقف في قاعة البرلمان يدعو النواب إلى المحافظة على الصلاة لوقتها. وعندما قررت الحكومة نفيه عن أهله وداره تفرغ للعبادة والتدبر وتأليف رسائل النور، وتحول المنفى إلى مدرسة، والسجن إلى معتكف. وصار فرض الإقامة الجبرية بمنزلة فرصة للخلوة الإيمانية. وعندما كانت الشرطة تفتش عن أوراقه كانوا يعثرون على رسائله المفقودة، التي كان هو نفسه يتمنى العثور على نسخة واحدة منها. وصار سجنه المتكرر فرصة للقاء طلابه الذين جمعوا من ولايات متباعدة.
في سيارة السجن: وقد سفر بديع الزمان إلى أنقرة بإحدى سيارات النقل العمومية في أواخر شهر رمضان وفي يوم شديد الحر، ولكنه وهو في الطريق لا ينسى أن يؤدي واجب التبليغ والإرشاد إذ يلتفت إلى حارسه قائلاً له: «هل يمكن الإيعاز إلى السيد السائق بأن يوقف السيارة؟ فلا إكراه في الدين ولكن عندي بعض النصائح أريد أن أسديها للركاب».
أوقف السائق السيارة والتفت بديع الزمان إلى الركاب مخاطبًا: «إن هذه الليلة ليلة القدر على أغلب الاحتمال، إن ثواب قراءة القرآن الكريم في الأيام الاعتيادية هو عشر حسنات لكل حرف من القرآن، وفي أيام رمضان ألف حسنة، أما في ليلة القدر فهو ثلاثون ألف حسنة، فلو عرض أحدهم عليكم خمس ليرات ذهبية لقاء عمل ما، أما ترغبون في الحصول عليها؟!
أجاب الركاب: «نعم.. نرغب في ذلك.».
فقال لهم: «إذًا فليقرأ كل مسلم منكم الآن سورة (الفاتحة) ثلاث مرات، وسورة (الإخلاص) مرة واحدة وآية الكرسي مرة واحدة، فإنها ستكون لكم ذخرًا في حياتكم الأبدية».
صدى من رحلة الرسول [ إلى الطائف: خرج الأستاذ أحد أيام الصيف من بيته متوجهًا إلى الجبل كعادته.. كان الجو صحوًا والشمس مشرقة وما إن وصل إلى قمة الجبل حتى تلبدت السماء بالغيوم السوداء منذرة باقتراب عاصفة.. وفعلاً ما لبثت السماء أن أرعدت وأبرقت وبدأت الأمطار تسقط بغزارة.. كان الأستاذ وحيدًا على قمة الجبل ليس له من ملجأ يتقي فيه سَيلَ المطر المُنهَمر سوى الأشجار التي لم تكن هي الأخرى كافية لتمنع عنه البَلل، وبعد مدة ليست بالقصيرة خفت شدة المطر وأخذ ينـزل رذاذًا، وانتهز الأستاذ الفرصة وقفل راجعًا إلى البلدة، وقد تبلل من رأسه إلى أخمص قدميه، وفي الطريق تمزق حذاؤه، فدخل البلدة وهو يَحملُ حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء.
وهناك بالقرب من نبع الماء كان جمع من أهالي «بارلا» مجتمعين يتحدثون، شاهدوا هذا المنظر المؤثر، منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه.. الوحيد.. المقاطع من قبل الجميع، وهو يحمل حذاءه الممزق بيده، ويغوص في الطين بجواربه، وقد تلطخت أطراف ثيابه بالطين، خيم سكون ثقيل على الجميع وتجاذبت الكثيرين عاطفتان مختلفتان، عاطفة الإسراع لمد يد المساعدة إليه، وعاطفة الخوف من عيون السلطة المترصدة لكل حركة من حركاته، وأخيرًا يندفع من بين الجمع شخص اسمه «سليمان» ويصل إليه حيث يأخذ الحذاء من يده ويغسله في الحوض ثم يرافقه حتى منـزله ويصعد معه إلى غرفته، ويصبح (سليمان كروانجي) هذا أول صديق له ويتتلمذ على يديه ويقوم بخدمته ثماني سنوات في بارلا.
يقول النورسي عن هذه الظروف: «إن نصف دنياي الخاصة قد انهد بوفاة أمي، بيد أنى رأيت أن النصف الآخر قد توفي أيضًا بوفاة عبدالرحمن ـ ابن أخيه ـ فلم تبق لي إذًا علاقة مع الدنيا... وبرغم أنني كنت أبذل الوسع لأتصبر وأتحمل ما كنت أعانيه من الآلام إلا أنه كانت هناك عاصفة قوية جدًا تعصف بأقطار روحي، فلولا ذلك السلوان النابع من نور القرآن الكريم يفيض على أحيانًا لما كان لمثلي أن يتحمل ويثبت».
وعلى ربا مدينة بارلا جعل يتدبر :«فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير». وكان من فيض الله عليه أن أملى أولى رسائل النور، ببركة التفكر في خلق الله.
ترهات بعض المتصوفة: حكى أحد طلاب النور ما دار بينه وبين النورسي:
ـ أستاذي، يقال إنه يظهر على يديكم كثير من الكرامات الغيبية، بيد أني لم أر أيًا من الأحوال الخارقة منكم، فإن كانت تلك الأحوال موجودة فعلاً، فأظهروها أمامي، ولتمش مسبحتكم هذه مثلاً.
تبسم الأستاذ، وذكر لي هذه الحكاية ليوضح الأمر:
ـ كان لأحدهم ولد يحبه كثيرًا، فهو وحيده، أخذه ـ ذات يوم ـ إلى محل المجوهرات ليشتري له بعض الهدايا الثمينة من الألماس والجواهر حسب رغبة ابنه المحبوب، تعبيرًا عن شدة حبه له. وكان صاحب المحل قد زين محله بنفاخات ملونة متنوعة على سقف المحل، ليلفت نظر الزبائن. وعندما دخل الطفل هذا المحل المزين بالنفاخات لفتت نظره ألوانها الجذابة، فقال باكيًا:
ـ أبي! أريد أن تشتري لي من هذه النفاخات.. أريد النفاخات..
ـ يا صغيري الحبيب، سأشتري لك مجوهرات ثمينة وألماسات غالية. ولكن الطفل ألح في طلب النفاخات..
وبعد أن أنهى الأستاذ هذا المثال قال:
أخي أنا لست إلا دلالاً في محل جواهر القرآن الكريم وخادمًا فيه، ولست ببائع نفاخات ملونة، فلا أبيع في محلي نفاخات، وليس في محلي وسوقي إلا الألماس الخالد للقرآن الكريم، فأنا منشغل يا أخي بإعلان نور القرآن.
بحث النورسي يومًا عن مسكن، فلم يجد سوى بيت يملكه رجل يدمن الخمر صباح مساء. وفي الصباح التالي كان المدمن يصلي الفجر خلف النورسي، ولم يذق بعدها خمرا أبدا. هكذا يكون إنقاذ الإيمان
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

معلم لغة الإسلام: نشط النورسي في تعليم اللغة العربية في المدة الواقعة بين عامي 1930م و 1950م، وهي المدة التي شهدت ركودًا كبيرًا في تعليم العربية على مستوى الجمهورية التركية. ولاسيما بعد حظر الأبجدية العربية، بل حظر كل ما له صلة بالإسلام. فعن العرب قال : «يتوقف تقدم العالم الإسلامي ورقيـه على تيقظهم وانتباههم» ثم أضاف: «إن الحمية الدينية والملية الإسلامية قد امتزجتا في الترك والعرب مزجًا لا يمكن فصلهما، وإن الحمية الإسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الأعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم».
إنني لا أذهب بعيدًا إذا قلت: ليت معلمي العربية لغير الناطقين بها ينهجون نهج النورسي، فإنه نهج يقوم على أسس، منها: صحبة التلميذ أستاذه. والربط الوثيق بين تعليم الدين وتعليم اللغة. وترتيب الدروس على مواعيد الصلوات. وتوظيف محصول الطلاب من الكتب التي يعرفونها بلغتهم الأم في دروس اللغة العربية. وممارسة النشاط اللغوي المتمثل في نسخ رسائل النور ومراجعة ما تنجزه المطبعة من ملازم، وتصحيحه على النسخ الأصلية. وحسن توظيف ما يعرفه الطلاب من الحروف العربية، ولاسيما الطلاب الناطقين بالأردية والفارسية والتركية العثمانية. كان يريد ـ بالإصرار على الكتابة بالحروف العربية ـ المحافظة عليها من الاندثار والنسيان، لأنها الحروف التي بها يكتب المصحف. وزوالها يعني استحالة كتابة المصاحف.
ومن تلك الأسس أيضًا الانغماس شبه التام في التعلم، فقد كان طلاب النورسي شبه ملازمين له، حتى في فترات سجنه ونفيه. و«اشتراك المساجد والمدارس الدينية ومعسكرات الجنود والسجون ومرافق المجتمع كافة في تعبئة عامة للتعليم». ووضوح الهدف لدى المعلم والمتعلم من عملية التعلم، وهو «استيعاب علوم القرآن وفهم النصوص الدينية المكتوبة باللغة العربية». وهو هدف يتسم بالوضوح والسمو معًا.
ومن الأسس توفير مكتبة للطالب، وقد كانت رسائل النور تمثل للطالب مكتبة مطالعة باللغة المستهدفة. أما التعلم التعاوني فقد طبقه النورسي قبل شيوع التنظيرات الأكاديمية لهذا الأسلوب في التعلم.
ومن تلك الأسس التكامل بين تعلم اللغة وتعلم المضامين المعرفية المعبر عنها بنفس اللغة. وهذا من أعمق الفلسفات في النظر إلى اللغة، ومن أشمل المداخل في تعليم اللغة وتعلمها. كان الطالب المتمكن يكلف بترجمة نصوص من اللغة المستهدفة (رسائل النور بالعربية) إلى اللغة الأم (التركية) وأحيانًا العكس، فقد كتبت بعض رسائل النور بالتركية ابتداء ونقلها الطلاب إلى العربية. التدريس المكثف اليومي من أنجع أنماط التدريس للغات. حكى تلاميذه:«كان الدرس يدوم على الأغلب ثلاث ساعات أو أربع ساعات وأحيانًا بل نادرًا يطول إلى خمس ساعات. كان يقرأ علينا باللغة العربية ويوضح ويشرح المعنى بالتركية. ولا يخفى ما للمثنوي العربي النوري من أهمية حيث يمثل منشأ «رسائل النور» وأصولها، وقد درسنا الأستاذ «المثنوي» مرتين. ودرسنا كذلك «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» العربية».
ومن تلك الأسس اتخاذ النص القرآني محورًا للتدريس، بل محورًا للحياة. يقول النورسي: «..فلم أجمّل أنا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من إظهار جمالها، وإنما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها».
وكما جعل النص القرآني محورًا للتدريس، فقد جعله أيضًا أساسًا لفن الخط العربي الجميل. ولفن الخط العربي في تركيا سُمُوٌ خاص، حتى قيل: «نزل القرآن بمكة، وقرئ بمصر، وكتب بتركيا» نعم، أنجبت تركيا أعظم الخطاطين لكنوز الخط العربي. وقد كان النورسي هو الذي أشار على تلميذه (خسـرو) بكتابة المصحف الشريف، لإبراز التوافقات العجيبة في رسم لفظ الجلالة، مما عد لونًا من ألوان الإعجاز.
وكان النورسي يخطط لتصنيف معجم عربي، لا يذكر المعاني المتعددة للكلمة الواحدة ـ كما يفعل القاموس المحيط مثلاً ـ بل يورد الكلمات المتعددة التي تدور حول معنى واحد. وقد هيأ نفسه للمهمة فحفظ من القاموس المحيط إلى حرف السين. لكن لم ينجز مشروعه المعجمي، بل تركه فكرة، فالتقطها بعض المجتهدين.
سمات المعلم: وليت معاهد التعليم تبحث لمهمة تعليم العربية عن أكثر المعلمين كفاءة وتمكًنا، مثلما لم يكن هنالك من هو أشد تمكنًا من النورسي. كما كان المعلم (النورسي) يعتبر طلابه ـ غير الملازمين ـ ضيوفًا، فكان يرى حقًا للزائر على المزور أن يعامله معاملة الضيف. ولم يقبل النورسي قط أجرًا، فضلاً عن أن يقبل هدية أو صدقة. وله في هذا الأمر تشدد بالغ وعزيمة عرفت عنه منذ صغره، فقد جرت العادة في شرق الأناضول أن يأخذ الطلاب من أموال الصدقات، لكن الصبي سعيد كان يأبى في ترفع مبالغ فيه. كانت حياة النورسي تأويلاً لعبارة: «التدريس ليس سلة خبز، فهو تبليغ كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم للناس».
وكان مع الهيبة يبذل المحبة،كان طلابه يصفونه:«لا نرى فيه غير آثار الألفة والأنس مع الهيبة والجلال، نعم كان مبتسما على الدوام، وأحيانا تظهر عليه المهابة والصرامة بحيث ينعقد لساننا عنده ولا نتفوه بشيء» كان شخصية آسرة، وبعبارة الطلاب أنفسهم : «فما كنا نشعر بسأم ولا تعب مع الأستاذ، حتى ولو كان الدرس من الصباح إلى المساء، ومشيًا على الأقدام»
أوتي الصبر على سفاهة السفيه من الغلمان: رماه الصبيان بالحجارة حينما خرج من بيته يومًا في قسطموني قاصدًا التوضؤ من النبع، ولكنه تحمل وتجمل بالصبر، ولم يحمل في صدره غير السلامة وفي قلبه غير الطهر لأولئك الصبيان، فلم يغضب ولم يحقد عليهم بل دعا لهم بالخير وقال: لقد أصبح هؤلاء سببًا لكشفي سرا من أسرار آية جليلة في سورة «يس». ثم أصبح أولئك الصبيان ـ بفضل الله وبركة الدعاء لهم ـ بعد ذلك يهرولون إلى أستاذنا أينما رأوه ويقبلون يده ويرجون منه الدعاء.
كان النورسي يرى في طلابه أولادًا صالحين يدعون له من بعد موته، فقد عوضه الله بهم عن الذرية، وهو الذي لم يتزوج قط، فكان من دعائهم: «نسأل الله سبحانه أن يحشرنا مع أستاذنا بديع الزمان وكنز العلوم والعرفان وعلامة العصر الذي نشر حقائق الإيمان والقرآن طوال وجوده في مدينتنا قسطموني، وبذل كل ما في وسعه لننال السعادة، ونسأله تعالى أن نكون معه يوم الحشر الأعظم ويأخذنا بيده الحانية المنورة الطيبة إلى حضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.. إن شاء الله»
اعتاد الخروج بالطلاب إلى الطبيعة، وربط مشاهدها بالتفكر في آيات الله ودلائل قدرته، مع استحضار ما يناسب المقام من آي القرآن العظيم. حكى الأستاذ مصطفى صونغور: «كنت أنا وزبير مع الأستاذ في غرفة في بستان على حافة بحيرة بارلا أغردير وذلك في ربيع سنة 1954م فقال الأستاذ: قبل ثلاثين سنة تقريبا وفي هذا الموسم حيث تتفتح أزاهير أشجار اللوز، كنت أتجول هنا مشيرًا إلى الأشجار والبساتين وإذا بالآية الكريمة: فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير. ترد إلى خاطري، وفتح الله علي هذه الآية في ذلك اليوم، فكنت أسير وأتجول وأتلوها بصوت عال حتى قرأتها أربعين مرة، وفي المساء ألفت رسالة الحشر، الكلمة العاشرة مع الحافظ توفيق الشامي أي أمليت عليه الرسالة وكتبها».
يذكر عبدالله جاويش أيضًا: «ذات يوم جئت إلى الأستاذ، وإذا بالحافظ علي وعدد من الطلاب عنده، بدأ الأستاذ يوزع أجزاء من القرآن الكريم عليهم ليستنسخوه مع تعليمات بكيفية الاستنساخ، ولأني أمي لا أعرف الكتابة والقراءة، قمت لأهيئ الشاي لهم كي أشاركهم الأجر، ولكن ما إن أتيت بالشاي لأوزعه عليهم حتى نهض الأستاذ وأخذ الشاي مني وبدأ هو بالتوزيع فخجلت، إذ كيف يوزع الأستاذ الشاي على طلابه! ولكني سكت أمام إلحاحه الشديد... ثم قال: إن استنساخكم أجزاء من القرآن الكريم، وسعيكم في سبيل القرآن مقبول عند الله الذي يراكم في وضعكم هذا، وملائكته الكرام يلتقطون صوركم في أوضاعكم هذه، وأنا لكوني خادمًا للقرآن الكريم ينبغي أن أقوم بخدمتكم.. فوزع عليهم الشاي وهم منهمكون بالاستنساخ».
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-09-2008
  #9
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

المعلم وضرب الأمثال: برع النورسي في سوق الأمثال إيضاحا لقوله، فمن أمثاله يعزي والدًا في فقد طفله:
«كان هناك رجل كريم في السجن. أُلحق به ولده الحبيب أيضًا. فكان يتألم كثيرًا بمشقات عجزه عن تأمين راحة ابنه فضلاً عن مقاساته آلامه الشخصية. بعث إليه الحاكم الرحيم أحدًا ليبلغه: «إن هذا الطفل وإن كان ابنك لكنه واحد من رعيتي، وأحد أفراد أمتي، سآخذه منك لأربيه في قصر جميل فخم».. بدأ الرجل بالبكاء والحسرة والتأوه، وقال: «لا. لا أعطي ولدي ولا أسلمه، إنه مدار سلواني!». انبرى له أصدقاؤه في السجن: يا هذا ! لا داعي لأحزانك ولا معنى لتألمك. إن كنت تتألم لأجل الطفل فهو سيمضي إلى قصر باذخ رحيب بدلاً من أن يبقى في هذا السجن الملوث المتعفن الضيق. وإن كنت متألمًا لذات نفسك وتبحث عن نفعك الخاص، فإن الطفل سيعاني مشقات كثيرة مع ضيق وألم شديدين فيما إذا بقي هنا لأجل أن تحصل على نفع مؤقت ومشكوك فيه! أما إذا ذهب إلى هناك فسيكون وسيلة لألف نفع وفائدة لك، ذلك لأنه سيكون سببًا لدر رحمة الحاكم لك، وسيصبح لك في حكم الشفيع. ولابد أن الحاكم سيرغب يومًا في أن يسعده باللقاء معك، ولا جرم أنه لن يرسله إليك في السجن، بل سيأخذك إليه ويخرجك من السجن ويبعثك إلى ذلك القصر لتحظى باللقاء مع الطفل، فيما إذا كنت ذا طاعة له وثقة به».
حوار مع شرطي: نفي الشيخ سنة 1926 إلى بارلا. يحكي الجندي المكلف بنقل النورسي:
«كُنتُ في مدينة «أغريدير» عندما استدعوني إلى مركز البلدية صباح أحد الأيام.. فذهبت إليه وكان هناك القائمقام وآمر الجندرمة مع أعضاء هيئة البلدية وشخص معمم في العقد الرابع من عمره يلبس جبة وله هيئة وقورة.
خاطبني آمر الجندرمة قائلاً:
ـ اسمع يابني، عليك أن تأخذ شيخنا هذا المعروف ببديع الزمان إلى بارلا. إن وظيفتك هذه مهمة جدًا، وعندما تسلمه إلى المخفر هناك دعهم يوقعوا على الأوراق الرسمية ثم أخبرنا بذلك. قلت له: حسنًا يا سيدي.
خرجت مع الشيخ وفي الطريق قلت له:
ـ يا شيخنا أنت بمنزلة والدي، وإن هذه وظيفة كلفتُ بها فأرجو أن لا تستاء مني.
ثم يستمر في وصف الرحلة بالقارب فيقول:
«كان الجو باردًا، فالفصل شتاء ومياه البحيرة متجمدة هنا وهناك وأحد جدافي القارب يكسر الثلوج بعصًا طويلة في يده ويفتح بذلك طريقًا للقارب.
بدأ الشيخ بديع الزمان بتوزيع بعض الزبيب وبعض الحلوى علينا، كنت أتفحصه بدقة فوجدته هادئًا كل الهدوء، إذ كان يتأمل في البحيرة والجبال المحيطة بنا..
ولكون النهار قصيرًا فقد أزف وقت صلاة العصر بسرعة، أراد أن يصلي واقفًا فوجهنا القارب باتجاه القبلة. سمعت صوتًا يقول:
ـ الله أكبر!.. لم أكُن قد سمعت في حياتي كلها تكبيرة بهذه الرهبة والخشوع، شعرت بأن الشعرَ في أجسادنا قد وقف. لم تكن حركاته وأطواره تشبه أطوار الشيوخ الذين عرفناهم..
كُنا نحاول جهدنا أن نبقي على القارب باتجاه القبلة وعندما أنهى الشيخ صلاته، التفتَ إلينا قائلاً:
ـ شكرًا لكم يا إخوتي، لقد أتعبتكم!
بائع الشاي: حكى تلميذه أمين عن وضع النورسي تحت المراقبة اللصيقة من شرطة قسطموني، فاخترع الأستاذ حيلة تمكنه من لقاء تلميذه كل يوم. فباع فراشه لأمين، ثم عاد فاستأجره منه، على أن يدفع له الإيجار يوميًا.
«وهكذا أصبحت بواسطة هذا الفراش أذهب إلى المركز يوميًا بحجة استلام الأجرة، فآخذ معي ما يحتاج إليه الأستاذ من ضروريات»
لقاء مختلف مع كبير الحاخامات: حاول اليهودي عمانوئيل كراصو أن يجتمع ببديع الزمان في إطار محاولات التأثير فيه، ولم يمانع في مقابلته. ولكن هذا اليهودي سرعان ما قطع الاجتماع وتركه هربًا من تأثيـر شخصية بديع الزمان، إذ قال وهو لا يكاد يصدق نفسه: «لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجني في الإسلام بحديثه» فشتان بين لقاء ولقاء.
وقال لبطريرك الروم (1953م): «من الممكن أن تكونوا من أهل النجاة إن كنت مؤمنًا بالنصرانية الحقة، بشرط الإيمان بنبوة محمد، وبالقرآن الكريم كتابًا من عند الله تعالى».
فأجابه البطريرك: «إنني أقبل وأعترف بذلك». فسأله النورسي: حسنًا.. ولكن أتعلنون هذا أمام العلماء النصارى في الدول الأخرى؟ أجاب البطريرك: «لقد قلت لهم ذلك ولكنهم لا يقبلون». هكذا حاور النورسي.

وجه الموت المليح الصبوح
هذا التعبير اللغوي لا يأتلف إلا في ذهن رجل حكم عليه بالإعدام عدة مرات. وواجه الموت عيانًا في سيبريا، مما جعله في نهاية المطاف يقول: «الموت ليس إعدامًا نهائيًا، ولا فراقًا أبديًا، وإنما مقدمة وتمهيد للحياة الأبدية وبداية لها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الحياة ووظائفها ورخصة منها وراحة وإعفاء، وهو تبديل مكان بمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الأحباب الذين ارتحلوا إلى عالم البرزخ.. وهكذا، بمثل هذه الحقائق شاهدت وجه الموت المليح الصبوح. فلا غرو لم أنظر إليه خائفًا وجلاً، وإنما نظرت إليه بشيء من الاشتياق».

إياكم والغلو في النورسي
«إن من أشد ظلم البشر إعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ، إذ توهم صدور محصل كسب الجماعة، وأثَر جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لا يمكن إلا بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت إلى درجة الإيجاد، وما تولدت آلهة اليونانيين والوثنيين إلا من أمثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية». هذا كلام النورسي بلسانه، فهل صحيح أن محبي النورسي لا يقبلون نقدًا لرسائل النور أو لشخص النورسي؟ إن كان فيهم مثل هذا فهذا شأنه، ولكن كلمات النورسي نفسه تعلن ما يقبله الرجل، قال يومًا لتلاميذه : «إن أستاذكم ليس معصومًا من الخطأ، بل من الخطأ الاعتقاد أنه لا يخطئ. اعلموا يا إخوتي ويا رفقائي في الدرس، أنني أُسر إن نبهتموني بكل صراحة لأي خطأ ترونه عندي. بل أقول: ليرضَ الله عنكم إذا قلتموه لي بشدة. إذ لا يُنظر إلى أمور أخرى بجانب الحق. إنني مستعد لقبول أية حقيقة كانت يفرضها الحق. وإن كنت أجهلها ولا أعرفها فأقبلها وأضعها على العين والرأس ولا أناقشها، وإن كانت مخالفة لأنانية النفس الأمارة».

النصب التذكارية
«مادامت رسائل النور تؤثر في القلوب العطشى إلى الإيمان، وإلى نور الحقائق، إذًا يفدى ليس (سعيد) واحد بل ألف (سعيد). وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمان وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً، أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يصموني بمختلف التهم والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد غفرت لهم ذلك، وتنازلت عن حقوقي تجاههم». ذلك تأويل: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ردًا على نصب تماثيل الأشخاص، أعلن النورسي: «..أما النصب التذكارية التي يجب على المسلمين إقامتها فهي المستشفيات والمدارس وملاجئ الأيتام والأقسام الداخلية للطلبة ودور العبادة وشق الطرق».
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 01-19-2009
  #10
صبا الجمال
عضو شرف
 الصورة الرمزية صبا الجمال
 
تاريخ التسجيل: Oct 2008
المشاركات: 915
معدل تقييم المستوى: 16
صبا الجمال is on a distinguished road
افتراضي رد: بديع الزَّمان سعيد النَّوْرسي



صبا الجمال غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الإمام سعيد النورسي بديع الزمان رضي الله عنه عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 09-05-2013 03:55 PM
اللؤلؤ والمرجان من حكم بديع الزمان عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 10-21-2012 03:55 AM
طريق الآخرة في تراث الشيخ سعيد النورسي بديع الزمان عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 05-23-2012 02:24 PM
من عجائب كرامات بديع الزمان سعيد النورسي ( قدس الله سره ) عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 01-30-2011 08:31 AM
لسيدي بديع الزمان النورسي عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 11-15-2008 08:08 AM


الساعة الآن 05:24 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir