ترجمة سيدي أبو مدين التلمساني
هو شعيب بن الحسين الأندلسي، شيخ المشايخ، وسيد العارفين، وقدوة السالكين، قال الشيخ أبو عبد الله محمّد ابن التلمساني في كتابه النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب:
كان الشيخ سيدي أبو مدين فرداً من أفراد الرجال، وصدراً من صدور الأولياء الأبدال ، جمع الله له علم الشريعة والحقيقة، وأقامه ركن الوجود هادياً وداعياً للحق، فقصد بالزيارة من جميع الأقطار، واشتهر بشيخ المشايخ.
وذكر التادلي وغيره أنّه خرج على يده ألف شيخ من الأولياء أولي الكرامات.
وقال أبو الصبر كبير مشايخ وقته: كان أبو مدين زاهداً فاضلاً عارفاً بالله تعالى، خاض بحار الأحوال، ونال أسرار المعارف ، خصوصاً مقام التوكّل، لا يشق غباره، ولا تجهل آثاره.
قال التادلي: كان مبسوطاً بالعلم ، مقبوضاً بالمراقبة، كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم له بذلك، أخبرني من شهد وفاته أنّه رآه في آخر الرمق يقول: الله الحق.
وكان من أعلام العلماء، وحفّاظ الحديث، خصوصاً جامع الترمذي، وكان يقوم عليه، ورواه عن شيوخه عن أبي ذر، وكان يلازم كتاب الإحياء ويعكف عليه، وترد عليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في الوقت ، وله مجلس وعظ يتكلّم فيه، فتجتمع عليه الناس من كل جهة، وتمر به الطيور وهو يتكلّم فتقف تسمع، وربما مات بعضها، وكثيراً ما يموت بمجلسه أصحاب الحب، تخرّج عليه
جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين وأرباب الأحوال، وكان شيخه أبو يعزى يثني عليه جميلاً،
ويخصّه بين أصحابه بالتعظيم والتبجيل.
قرأ بفاس بعد قدومه من الأندلس على الشيخ الحافظ أبي الحسن ابن حرزهم، وعلى الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن ابن غالب.
وذكر عنه أنّه قال : كنت في أوّل أمري وقراءتي على الشيوخ إذا سمعت تفسير آية أو
معنى حديث قنعت به وانصرفت لموضع خال خارج فاس أتخذه مأوى للعمل بما فتح به
عليّ، فإذا خلوت به تأتيني غزالة تأوي إليّ وتؤنسني، وكنت أمرّ في طريقي بكلاب القرى
المتصلة بفاس، فيدورون حولي، ويبصبصون لي، فبينا أنا يوماً بفاس إذا برجل من معارفي
بالأندلس سلّم علي، فقلت: وجبت ضيافته، فبعث ثوباً بعشرة دراهم، فطلبت الرجل
لأدفعها له، فلم أجده هنالك، فخليتها معي، وخرجت لخلوتي على عادتي، فمررت بقريتي،
فتعرض لي الكلاب، ومنعوني الجواز، حتى خرج من القرية من حال بيني وبينهم، ولمّا
وصلت لخلوتي جاءتني الغزالة على عادتها، فلمّا شمّتني نفرت عنّي، وأنكرت علي، فقلت:
ما أوتي علي إلاّ من أجل هذه الدراهم التي معي، فرميتها، فسكنت الغزالة، وعادت لحالها
معي، ولمّا رجعت لفاس جعلت الدراهم معي، ولقيت الأندلسي، فدفعتها إليه، ثم مررت
بالقرية في خروجي للخلوة، فدار بي كلابها وبصبصوا على عادتهم، وجاءتني الغزالة
فشمتني من مفرقي لقدمي، وأنست بي كعادتها، وبقيت كذلك مدّة، وأخبار سيدي أبي
يعزى ترد عليّ، وكراماته يتداولها الناس وتنقل إليّ، فملأ قلبي حبّه، فقصدته مع جماعة
الفقراء، فلمّا وصلنا إليه أقبل على الجماعة دوني، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل
معهم، وبقيت كذلك ثلاثة أيام، فأجهدني الجوع، وتحيرت من خواطر ترد عليّ، ثم قلت في
نفسي: إذا قام الشيخ من مكانه أمرغ وجهي في المكان، فقام، ومرغت وجهي فقمت وأنا لا
أبصر شيئاً، وبقيت طول ليلتي باكياً، فلمّا أصبح دعاني وقرّبني، فقلت له: يا سيدي، قد
عميت ولا أبصر شيئاً، فمسح بيده على عيني، فعاد بصري، ثم مسح على صدري،
فزالت عني تلك الخواطر، وفقدت ألم الجوع، وشاهدت في الوقت عجائب من بركاته، ثم
استأذنته في الانصراف بنية أداء الفريضة، فأذن لي وقال: ستلقى في طريقك الأسد فلا
يرعك فإن غلب خوفه عليك فقل له: بحرمة يدنور إلا انصرفت عني، فكان الأمر كما قال.
فتوجّه الشيخ أبو مدين للشرق وأنوار الولاية عليه ظاهرة، فأخذ عن العلماء واستفاد من
الزهاد والأولياء، وتعرّف في عرفة بالشيخ سيدي عبد القادر الكيلاني، فقرأ عليه في الحرم
الشريف كثيراً من الحديث، وألبسه خرقة الصوفية، وأودعه كثيراً من أسراره، وحلاه
بملابس أنواره، فكان أبو مدين يفتخر بصحبته، ويعدّه أفضل مشايخه الأكابر.
وعن بعض الأولياء قال: رأيت في النوم قائلاً يقول: قل لأبي مدين: بثّ العلم ولا تبالِ، ترتع
غداً مع العوالي، فإنّك في مقام آدم أبي الذراري، فقصصتها عليه فقال لي: عزمت على
الخروج للجبال والفيافي حتى أبعد عن العمران، ورؤياك هذه تعدل بي عن هذا العزم،
وتأمرني بالجلوس، فقولك ترتع غداً مع العوالي إشارة لحديث حلق الذكر مراتع أهل الجنّة،
والعوالي: أصحاب عليين، ومعنى قوله أبي الذراري أن آدم أعطي قوّة على النكاح وأمر به،
ولم يجعل له قوّة على كون ذريته مطيعين مؤمنين، وكذا نحن أعطانا الله العلم وأمرنا ببثّه
وتعليمه، ولا قدرة لنا على كون أتباعنا موفّقين.
وكان يقول: كرامات الأولياء نتائج معجزات نبينا صلى الله عليه وسلّم، وطريقتنا هذه
أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سري السقطي عن حبيب العجمي بالسند
إلى رب العزة جل جلاله.
وعن العارف عبد الرحيم المغربي قال: سمعت سيدي أبا مدين يقول: أوقفني ربي عزّ
وجل بين يديه وقال لي: يا شعيب ماذا عن يمينك؟ قلت: يا رب عطاؤك، قال: وعن
شمالك؟ قلت: يا رب قضاؤك، فقال: يا شعيب قد ضاعفت لك هذا، وغفرت لك هذا،
فطوبى لمن رآك أو رأى من رآك.
وعن سيدي أبي العباس المرسي: جلت في ملكوت الله تعالى، فرأيت سيدي أبا مدين
متعلّقاً بساق العرش وهو يومئذ أشقر أزرق، فقلت له: وما علومك؟ وما مقامك؟ فقال:
علومي أحد وسبعون علماً، وأما مقامي فرابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال.
وسئل رضي الله عنه عمّا خصّه الله تعالى به، فقال: مقامي العبودية، وعلومي الألوهية،
وصفاتي مستمدة من الصفات الربانية، ملأت علومه سرّي وجهري، وأضاء بنوره برّي
وبحري، فالمقرب من كان به عليماً، ولا يسمو إلاّ من أوتي قلباً سليماً، الذي يسلم ممّا
سواه، ولا يكون في الوعاء إلاّ مما جعل فيه مولاه، فقلب العارف يسرح في الملكوت بلا شك
"وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب" النمل: 88.
وسئل عن الحياء، فقال: أوّله دوام الذكر، وأوسطه الأنس بالمذكور، وأعلاه أن لا ترى شيئاً
سواه.
وذكر التادلي وغيره أن رجلاً جاءه ليعترض عليه، فجلس في الحلقة، فأخذ صاحب الدولة
في القراءة، فقال له أبو مدين: أمهل قليلاً، ثم التفت للرجل، وقال له: لم جئت؟ فقال: لأقتبس
من نورك، فقال له: ما الذي في كمك؟ قال له: مصحف، فقال له: افتحه واقرأ في أوّل سطر
يخرج لك، ففتحه وقرأ أوّل سطر فإذا فيه "الّذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، الذين
كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين" الأعراف: 92 فقال له أبو مدين: أما يكفيك هذا؟
فاعترف الرجل وتاب وصلح حاله.
وذكر صاحب الروض عن الشيخ الزاهد أبي محمد عبد الرزاق أحد خواص أصحابه
قال: مر شيخنا أبو مدين في بعض بلاد المغرب، فرأى أسداً افترس حماراً وهو يأكله،
وصاحبه جالس بالبعد على غاية الحاجة والفاقة، فجاء أبو مدين وأخذ بناصية الأسد،
وقال لصاحب الحمار: أمسك الأسد واستعمله في الخدمة موضع حمارك، فقال له: يا
سيدي أخاف منه، فقال: لا تخف، لا يستطيع أن يؤذيك، فمرّ الرجل يقوده والناس ينظرون
إليه، فلمّا كان آخر النهار جاء الرجل ومعه الأسد للشيخ وقال له: يا سيدي هذا الأسد
يتبعني حيث ذهبت، وأنا شديد الخوف منه، لا طاقة لي بعشرته، فقال الشيخ للأسد:
اذهب ولا تعد، ومتى آذيتم بني آدم سلطتهم عليكم.