أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ،والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 240

الشعاع الحادي عشر
ثـمـرة
من ثمار سجن دنيزلي
هذه الرسالة:
دفاع الايمان ترفعه "رسائل النور" لصد الزندقة والكفر المطلق، فليس لنا دفاع حقيقي عن قضيتنا - في سجننا هذا - الاّ هذا الدفاع، فنحن لانسعى الاّ للايمان.
وهي خاطرة ثمرة أثمرها سجن "دنيزلي" في يومين من ايام الجمع المباركة.
سعيد النورسي
الشعاع الحادي عشر - ص: 241
رسالة الثمرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(فَلِبثَ في السجن بضع سِنِينَ) (يوسف: 42)
نفهم من اسرار هذه الآية الكريمة ان يوسف عليه السلام هو قدوة المسجونين ورائدهم. فيصبح السجن اذاً نوعاً من "مدرسة يوسفية". وحيث ان عدداً غفيراً من طلاب النور قد دخلوا هذه المدرسة مرتين، لذا ينبغي لهم ان يتدارسوا ويدرّسوا قسماً من خلاصة المسائل الايمانية التي اثبتتها رسائل النور ولها مساس بالسجن، للاسترشاد بها ولتقويم الاخلاق والسلوك في هذه المدرسة المفتوحة لتلقي التربية. وها نحن اولاء نبيّن بضعاً من تلك الخلاصات.
سـعيد النورسي
المسألة الاولى
يمكن تلخيص هذه المسألة التي تم ايضاحها في "الكلمة الرابعة" كما يأتي:
ان رأس مال حياتنا هو هذه الساعات الاربع والعشرون التي يحملها الينا اليوم نعمةً خالصة من نِعَم خالقنا الكريم جل جلاله، لنكسب بكل ساعة من هذه الساعات ما يلزمنا، وما هو ضروري في حياتينا كلتيهما الدنيوية والاخروية.
وما لم نصرف ساعة واحدة - وهي كافية لاداء الصلوات المفروضة - لحياتنا الاخروية الخالدة، بينما نصرف ثلاثاً وعشرين ساعة في سبيل هذه الحياة الدنيا
الشعاع الحادي عشر - ص: 242
القصيرة، نكون قد ارتكبنا خطأ جسيماً لايستصوبه عقل سليم. فلا جرم اننا نعاني نتيجة هذا الخطأ الفادح غلظة القلب وقسوته، وانقباض الروح وظلمتها، المؤدية بمجموعها الى تعكير صفو الاخلاق، وتلوث نقاوة الروح.. وفوق هذا تمضي حياتنا رتيبة مملّة يائسة خاوية المعنى. فيصيبنا الضجر، فلا نكاد نفيد من دروس هذه المدرسة اليوسفية، ومن محنة الامتحان والابتلاء ما يربينا ويرقى بنا، فنخسر بهذا خسراناً مبيناً.
اما اذا صرفنا ساعة واحدة في اداء الصلوات الخمس، فكل ساعة من ساعات الابتلاء واوقات المحن تتحول الى يوم من العبادة، فكأن الساعات الفانية قد اكتسبت - ببركة هذه الساعة - صفة الخلود، واصبحت في حكم ساعات أبدية باقية.. فتنزاح عن القلب سحب اليأس ويتبدد عن الروح ظلام القنوط.. وتصبح هذه الساعة من العبادة كفّارة لبعض ما ارتُكب من اخطاء وذنوب، ربما كانت السبب في الدخول الى السجن.. وبذلك نكتشف حكمة ابتلائنا بالسجن ويغدو السجن مدرسة نتلقى فيها الدروس النافعة.. ونجد فيه مع اخوتنا في المصيبة والبلاء العزاء والسلوان.
وقد ذكر في "الكلمة الرابعة" ايضاً مثال يبين فداحة الخسارة التي تصيب مَن يلهث وراء حظه من الدنيا ويعزف عن الاخرة وهو:
هناك من يدفع خمساً او عشراً من اربع وعشرين ليرة يملكها في شراء بطاقة قمار اليانصيب - ربما يكون احتمال الفوز بها واحداً من ألف لوجود الف من المشتركين معه - بينما لايصرف واحداً من اربع وعشرين ساعة يملكها في شراء بطاقة ترّبحه كنزاً خالداً اخروياً. علماً ان احتمال الفوز بها - للمؤمنين الذين ختمت اعمالهم بالحسنى - هو بيقين تسع وتسعين وتسعمائة من ألف. كما اكد ذلك جميع الانبياء والرسل الكرام عليهم السلام، وصدّقهم كشفاً وتحقيقاً الاولياء والاصفياء الذين لايحصرهم العد.
فهذا الدرس البليغ - من رسائل النور - ينبغي ان يرتاح اليه مسؤولو السجن وكل مَن يعنيه امر البلاد وشؤونها. لانه قد ثبت بالتجربة ان ادارة ألف من المؤمنين المشفقين من عذاب سجن جهنم والمستجيرين بالله منها، هي اسهل بكثير من ادارة عشرة من تاركي الصلاة، ومن فاسدي العقيدة والاخلاق، الذين لايرتدعون الا بعقاب الدنيا وسجنها ولا يميزون الحلال عن الحرام.
الشعاع الحادي عشر - ص: 243
خلاصة المسألة الثانية
مثلما بينت رسالة "مرشد الشباب" ووضحتها ايضاحاً جميلاً من أن الموت لامفرّ منه ابداً، بل ان مجيئه أيقن من مجئ الليل لهذا النهار، ومن تعاقب الشتاء لهذا الخريف. وكما ان هذا السجن مضيف مؤقت لايكاد يفرغ حتى يملأ من جديد، فالدنيا كذلك كالفندق، وكمنزل حل وترحال مقام على طريق القوافل المسرعة.
فالموت الذي يفرغ كل مدينة من سكانها مائة مرة، ويدفع بهم الى المقابر لابد أنه يطلب شيئاً اكثر من هذه الحياة الفانية واعظم رفعة منها.
ولقد حلّت "رسائل النور" لغز هذه الحقيقة المدهشة، وكشفتها، وخلاصتها هى:
مادام الموت لايُقتل، وباب القبر لايُغلق، فان اعظم ما سيشغل بال الانسان ويشكل اكبر معضلة له هو النجاة من يد جلاد الموت هذا والخلاص من سجن القبر المنفرد.
ولقد اثبتت رسائل النور اثباتاً جازماً - بفيض من نور القرآن الكريم - ان لهذه المعضلة علاجاً وخلاصته هي:
أن الموت إما هو اعدام ابدي، وفناء تام يصيب المرء واحبته، وذوي قرباه جميعاً، او هو تسريح من العمل للذهاب الى عالم آخر أفضل، وجواز سفر للدخول الى قصور السعادة بشهادة الايمان ووثيقته.
أما القبر فهو اما سجن انفرادي مظلم وبئر سحيقة، او هو باب الى روضات خالدة ومضيف منوّر بعد السراح من سجن الدنيا.
وقد اثبتت رسالة "مرشد الشباب" هذه الحقيقة بمثال وهو:
نصبت في فناء هذا السجن اعواد مشانق تستند على جدار، خلفه دائرة عظيمة تمنح جوائز سخية يشترك فيها الناس كلهم. ونحن المساجين الخمسمائة ننتظر دورنا، لنُدعى الى ذلك الميدان، فسندعى اليه فرداً فرداً شئنا أم ابينا، فلا نجاة! فإما أنه سيُقال لكل منا: "تعال تسلّم أمر اعدامك واصعد المشنقة". او: "تسلم امر السجن
الشعاع الحادي عشر - ص: 244
الانفرادي الابدي وادخله من هذا الباب المفتوح". او يقال: "بشراك ! فقد فزت ببطاقة تربّحك ملايين الليرات الذهبية، هيا خذها".
فها نحن اولاء نشاهد اعلانات هذه الدعوة منتشرة هنا وهناك ونرى اناساً يصعدون المشانق بالتعاقب ومنهم مَن يتدلى، ومنهم مَن يتخذها درجاً وسلماً للبلوغ الى دائرة الجوائز الواقعة خلفها، وقد اصبحنا على يقين جازم بما يدور في تلك الدائرة - كأننا نراه رأي العين - استنادا الى ما يرويه كبار موظفي تلك الدائرة من روايات صادقة لاتقبل الشك.
دخلت سجننا - في هذه الاثناء - طائفتان، تحمل احداهما آلات الطرب وقناني الخمر مع حلويات، ظاهرها العسل وباطنها السموم، دستّها شياطين الانس، وهم يقدمونها الينا ويرغّبوننا في تناولها. اما الجماعة الثانية ففي ايديهم كتب تربوية ومنشورات اخلاقية مع مأكولات طيبة ومشروبات مباركة، يقدمونها هدايا لنا، ويذكرون لنا بالاتفاق والاطمئنان الكامل واليقين التام:
ان ما تقدمه الطائفة الاولى لكم من مأكولات ما هي الا للامتحان والاختبار، فاذا ما قبلتموها ورضيتم بها فسيكون مصيركم كما هو ماثل امامكم في المشانق، اما اذا رضيتم بهدايانا - التي نقدّمها اليكم باسم حاكم هذه البلاد وبأمره - وتلوتم مافي تلك الكتب من تعليمات واذكار فستنجون من الاعدام وتستلمون بطاقة الجائزة من تلك الدائرة، لتفوزوا بالربح العظيم، هدية من السلطان وكرماً منه وفضلاً. صدّقوا بما نقوله لكم واعتقدوا به اعتقاداً راسخاً كأنكم ترونه في وضح النهار.. ولكن حذار من تلك الحلوى المعسلة - المحرّمة او المريبة - فلو اكلتم منها تلوّت بطونكم بمغص شديد من أثر السموم، فتقاسون منها الالآم لحين صعودكم المشانق.
وهكذا على غرار هذا المثال، سيَهب القدر الإلهي للمؤمنين الذين قضوا حياتهم بالطاعة، وختمت اعمالهم بالحسنى خزائن أبدية لاتنضب بعد أن ينتهي أجلهم في الدنيا. أما اولئك المتمادون في الضلالة والفسق من دون ان يثوبوا الى ربهم فسيُعدمون اعداماً نهائياً - لمن لايؤمن بالآخرة - او يزجوّن في سجن انفرادي مظلم ابدي لمن يتمادى في غيّه وسفهه مع ايمانه ببقاء الروح، فهؤلاء يتسلمون قرار شقائهم
الشعاع الحادي عشر - ص: 245
الابدي بيقين يبلغ تسعاً وتسعين بالمائة. نعم يخبر بهذا الخبر الصادق مائة واربعة وعشرون الفا من الانبياء عليهم السلام 1، وبين ايديهم معجزات تصدقهم، ويخبر اكثر من مائة واربعة وعشرين مليوناً من الاولياء (قدس الله اسرارهم) المقتفين آثار الانبياء والمصدقين بما أُخبروا به كشفا وذوقا، ويخبر به كذلك مَن لايحصيهم العدّ من العلماء المحققين 2 والمجتهدين والصديقين الذين اثبتوا دعواهم وتصديقهم عقلاً وفكراً بالبراهين الدامغة والحجج القاطعة، فأخبروا يقينا ما أخبر به اولئك الافذاذ من تلكما الطائفتين. فهؤلاء الطوائف الثلاث العظيمة والجماعات الغفيرة من اهل الحق والحقيقة - وهم روّاد الانسانية وشموس البشرية واقمارها - يخبرون جميعا بتلك الحقيقة اجماعاً وتواتراً.. فياخسارة من لايهتم بأوامرهم، ولايسلك الصراط السوي المؤدي الى السعادة الابدية بارشاداتهم، ولايكترث بمصيره المؤلم - وهو بيقين يبلغ تسعا وتسعين بالمائة - في حين أنه لايسلك طريقا فيه احتمال واحد من الخطورة، واستنادا على قول مخبر واحد، بل يستبدل به طريقا آخر ولو كان أطول..
فهؤلاء أشبه بسكير او معتوه شقي يلتهي بلسع الذباب عن انقضاض وحوش كاسرة عليه، اذ قد فَقَد عقله، واضاع قلبه، وافسد روحه، ودمّر انسانيته؛ لانه رغم التبليغات الصادقة الصادرة من اولئك المخبرين الذين لايحصرهم العدّ فقد ترك الطريق الاقصر والاسهل المؤدي الى الفوز المحقق بالجنة والسعادة الابدية، واختار طريقاً اطول منه وأوعر واضيق، والذي يؤدي به الى سجن جهنم والشقاء الابدي حتما.
بينما الانسان - كما قلنا - لايلج طريقا قصيراً في الدنيا فيه احتمال واحد بالمَائة من الخطورة، او فيه سجن شهر واحد وبناء على كلام مخبر واحد، وقد يكون كاذباً. بل يفضل عليه طريقا اخر ولو كان طويلا، او من دون نفع، وذلك لمجرد خلوه من الضرر.
_____________________
1
قال ابوذر: (قلت: يارسول الله كم وفاء عدة الانبياء ؟ قال: مائة الف واربعة وعشرون الفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً) رواه الامام احمد (مشكاة المصابيح 3/122ت 5737 قال المحقق: حديث صحيح). وانظر زاد المعاد تحقيق الارناؤوط(1/43 - 44).

2
ان احد اولئك العلماء المحققين هو: رسائل النور التي ألجمت أعتى الفلاسفة الماديين، وافحمت اشد الزنادقة تمرداً، طوال العشرين سنة التي خلت، وماتزال قائمة على قدم وساق في ميدان التحدي والمبارزة، وهي في متناول الجميع، فبوسع اي واحد قراءتها دون تفنيدها. - المؤلف.

الشعاع الحادي عشر - ص: 246
فما دامت حقيقة الامر هذه، فينبغي لنا نحن معاشر المبتلين بالسجن ان نقبل بكل رضى وسرور هدايا الطائفة الثانية لنثأر لأنفسنا من مصيبة السجن؛ اذ كما ان لذة دقيقة في الانتقام، ومتعة بضع دقائق، او ساعات في السفاهة قد زجت بنا الى السجن، فيقضي فيه بعضنا خمس عشرة سنة، والبعض الآخر عشر سنوات، وآخرون خمس سنوات، او سنة او سنتين او ثلاثاً من الاحكام.. فعلينا اذن - وانف السجن راغم - ان نحوّل بقبولنا هدايا القافلة الثانية، هذه الساعات القليلة الى ايام من العبادة مثلها، ونحوّل سنتين او ثلاثاً من عقابنا الى عشرين وثلاثين سنة من العمر الخالد. ونبدل بعشرين سنة او ثلاثين سنة من مكوثنا في السجن ملايين السنوات الخالدة فتكون الاحكام الصادرة علينا وسيلة نجاة من سجن جهنم. وحينها تبتسم حياتنا الاخرى وتسر إزاء بكاء دنيانا وحزنها. ونكون بذلك قد ثأرنا لأنفسنا من تلك المحنة واظهرنا حقا ان السجن مدرسة تربوية لتقويم الاخلاق.
فليشاهد مسؤولو السجن ومن يتولون امره، أن من ظنوهم مجرمين قتلة، وحسبوهم سفهاء مخلين بالنظام، قد اصبحوا طلاب مدرسة تربوية مباركة يتعلمون فيها الادب الجميل والخلق القويم وغدوا أعضاء نافعين للبلاد والعباد.. فليشكروا ربهم اجزل شكر
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 247
المسألة الثالثة
وهي حادثة ذات عبرة، سبق ذكرها في "مرشد الشباب" مفصلاً وخلاصتها هي:
كنت في احد ايام عيد الجمهورية جالسا امام شباك سجن "اسكي شهر" الذي يطل على مدرسة اعدادية للبنات.. وكانت طالباتها اليافعات يلعبن ويرقصن في ساحة المدرسة وفنائها ببهجة وسرور، فتراءت لي فجأة على شاشة معنوية ما يؤول اليه حالهن بعد خمسين سنة: فرأيت: أن نحواً من خمسين من مجموع ما يقارب الستين طالبة يتحولن الى تراب ويعذبن في القبر. وان عشرة منهن قد تحولن الى عجائز دميمات بلغن السبعين والثمانين من العمر، شاهت وجوههن وتشوه حسنهن، يقاسين الآلام من نظرات التقزز والاستهجان من الذين كنّ يتوقعن منهم الاعجاب والحب، حيث لم يصنّ عفتهن ايام شبابهن !.. نعم رأيت هذا بيقين قاطع، فبكيت على حالهن المؤلمة بكاء ساخناً أثار انتباه البعض من زملاء السجن، فاسرعوا الىّ مستفسرين.
فقلت لهم: "دعوني الآن وحالي... انصرفوا عني".
أجل، ان ما رأيته حقيقة وليس بخيال، اذ كما سيؤول هذا الصيف والخريف الى الشتاء، فان ما خلف صيف الشباب ووراء خريف الشيب، شتاء القبر والبرزخ. فلو أمكن اظهار حوادث ما بعد خمسين سنة من المستقبل مثلما يمكن ذلك لحوادث الخمسين سنة الفائتة - بجهاز كجهاز السينما - وعرضت حوادث اهل الضلالة واحوالهم في المستقبل، اذن لتقززوا ولتألموا ولبكوا بكاء مراً على ما يفرحون منه الآن ويتلذذون به من المحرّمات في الوقت الحاضر.
وبينما كنت غارقاً في التأمل، ومنصرفاً الى مشاهد الشاشة المعنوية المعروضة امامي في سجن "اسكي شهر" اذ انتصب امامي شخص معنوي كأنه يمثل الشيطان الأنسي يدعو الى السفاهة، ويروّج للضلالة قائلاً لي:
- نحن نريد ان نستمتع بجميع لذائذ الحياة ونمتع الآخرين بها دعنا وشأننا، واليك عنا.
الشعاع الحادي عشر - ص: 248
فأجبته قائلا:
- مادمتَ ترمي بنفسك في أحضان الضلالة والسفاهة حصولا على لذة جزئية وذوق ضئيل متناسياً الموت غير آبه به، اذاً فاعلم:
ان "الماضي" كله - حسب ضلالتك - قد مات واندثر وانتهى الى العدم، فهو مقبرة عظيمة موحشة مرعبة، قد رمّت فيها الجثث وبليت فيها الآثار، لذا ان كانت لك مسكة من عقل أوكنت تملك قلبا ينبض بالحياة فان الآلام المتولدة - بمقتضى ضلالتك - من الموت الابدي، ومن انواع الفراق غير المحدود لأقاربك وأحبابك غير المعدودين تزيل تلك اللذة الجزئية المسكرة التي تتذوقها في فترة قصيرة جدا.
وكما ان الماضي معدوم بالنسبة لك، "فالمستقبل" معدوم لك كذلك. وذلك بسبب انعدام ايمانك، بل هو ساحة موحشة رهيبة مظلمة ميتة.. فما من أحد من الموجودات المسكينة يأتي ويبرز الى الوجود - ماراً بالحاضر - إلاّ ويقبضه جلاد الموت ويقذفه الى العدم، وانت لكونك مرتبطا بتلك العوالم - بحكم عقلك - فان المستقبل يصب على رأسك الملحد مطر السوء من الالام الموجعة والقلق الشديد والاضطرابات العنيفة، حتى يجعل جميع لذائذك الجزئية السفيهة أثراً بعد عين.
ولكن ما ان تنبذ طريق الضلالة وتترك سلوك السفاهة داخلا حظيرة الايمان التحقيقي، مستقيما عليه حتى ترى بنور الايمان:
ان ذلك الماضي السحيق ليس بمعدوم وليس بمقبرة تُبلي كلَّ شئ وتفنيه، بل هو عالم نوراني موجود فعلا، الذي ينقلب الى المستقبل، وهو ساحة انتظار الارواح الباقية المترقبة للبعث، دخولاً الى فردوس السعادة الابدية المعدة لهم؛ لذا يذيقك - وانت مازلت في الدنيا - لذة الجنة المعنوية حسب درجة ايمانك. كما ان المستقبل ليس مؤلماً ولامقلقاً وليس محلاً للوحشة ولاوادياً مظلماً مخيفاً، بل هو بنور الايمان منازل سعادة ابدية للرحمن الرحيم ذي الجلال والاكرام الذي وسعت رحمته كل شئ واحاط كرمه بكل شئ. فكما فرش سبحانه الربيع والخريف مائدتين مملوئتين بأنواع النِعم والمطعومات، فقد بسط سبحانه موائد ضيافته الفاخرة في تلك القصور العوالي وفتح معارض احسانه وآلائه العميمة هناك، والناس يشوقون اليها بل يساقون.
الشعاع الحادي عشر - ص: 249
نعم هكذا يراها المؤمن بالشاشة الايمانية - كل حسب درجته - وبوسعه أن يشعر شيئاً من لذائذ ذلك النعيم المقيم.
فاذاً اللذة الحقيقية الصافية التي لايكدرها ألم، انما هي في الايمان، وبالايمان وحده يمكن الفوز بها.
وهناك الوف من الثمرات اللذيذة للايمان في هذه الدنيا، وألوف من الفوائد والنتائج، الا أننا سنبين واحدة منها بمثال:
تصور - ايها الاخ - ان ابنك الوحيد الذي تحبه كثيراً جداً طريح الفراش يعاني من سكرات الموت، وانت تغوص في تفكير يائس مرير وتتألم ألماً موجعا شديدا من فراقه الابدي المؤلم.. تصور - وانت في هذه الحالة اليائسة - اذا بطبيب حاذق كالخضر او لقمان عليهما السلام - يأتي ويسقي الطفل دواء مضادا للسموم، واذا به يفتح عينيه فرحا جذلا ببهجة الحياة.. وقد نجا من قبضة الموت. كم يكون ياترى فرحك وسرورك اللذان يغمرانك؟
كذلك الحال في اولئك الملايين المدفونين في مقبرة الماضي الذين تحبهم - كهذا الطفل - حباً كثيراً وترتبط معهم بوشائج. فبينما هم على وشك ان يبادوا ويفنوا من الوجود في مقبرة الماضي - في نظرك - اذا بحقيقة الايمان تبعث من شباك القلب نوراً - كما فعل لقمان الحكيم مع ذلك الطفل - الى تلك المقبرة الواسعة التي يُظن انها مقر الاعدام. واذا الاموات قيام احياء بذلك النور - في عالم البرزخ - ينادون بلسان الحال:
"
لسنا أمواتاً.. ولن نموت ابداً.. وسنلتقي عما قريب".
نعم، مثلما يبعث شفاء الطفل فرحاً وبهجة لاحد لهما بعد اليأس والقنوط، كذلك الامر هنا مما يجعلنا نتيقن أن الايمان - ببثه هذا الفرح والسرور في دنيانا هذه - يثبت ان حقيقته بذرة تحمل من الحيوية ما لو تجسمت لنبتت عليها جنة خاصة لكل مؤمن، ولأصبحت له شجرة طوبى.
هكذا قلت لذلك الشيطان الانسي العنيد، الا انه انبرى لي قائلاً:

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 250
- دعنا نحيا ولو كالحيوان، غافلين عما يدور حولنا من هذه الامور الدقيقة، ولنمض حياتنا بلذة اللهو ونشوة اللعب.
فأجبته: انك لا تقاس بالحيوان، ولن تكون مثله. اذ ليس للحيوان ما يفكّر به من ماض ومستقبل. فلا يجد الحيوان مما مضى ألماً ولا أسفاً ولا يأتيه قلق ولاخوف من المستقبل، لذا يجد لذته كاملة فيشكر خالقه الكريم بل حتى الحيوان المعد للذبح لايحس الاّ بـألم السكين وهي تمر على حلقومه، وسرعان مايزول هذا الاحساس، فينجو من ذلك الألم.
فيا للرحمة الإلهية والشفقة الربانية ما اعظمها تجلياً في اخفاء الغيب وستر المصائب والبلايا.. ولاسيما في الحيوانات والبهائم.
ولكن ايها الانسان لقد خرج شئ من ماضيك ومستقبلك من الغيب بحكم ما تحمله من عقل، فانت محروم كليا مما تتنعم به الحيوانات من راحة واطمئنان بانسدال ستار الغيب امامها، فالحسرات والآهات الناشئة مما مضى، وانواع الفراق الأليم والمخاوف الناجمة من المستقبل تزيل لذتك الجزئية وتبيدها وتهوي بك في درجة أدنى بكثير من الحيوان من حيث اللذة. فما دامت الحقيقة هكذا فما عليك اذاً إلاّ ان تتبرأ من عقلك وترميه خارجاً وتعد نفسك حيواناً فتنجو. او تنوّر عقلك بنور الايمان وتنصت الى الصوت العذب للقرآن الكريم فتكون أرقى من الحيوان وارفع، مغتنما لذائذ نقية صافية طاهرة وانت مازلت في هذه الدنيا الفانية.
فألزمته بهذه الحجة ولكنه اعترض قائلا:
- سنعيش في الاقل مثل ملاحدة الاجانب !
فقلت له جوابا: لن تكون حتى مثل اولئك الملاحدة الاجانب، لأنهم ان انكروا نبيا واحدا فانهم يؤمنون بسائر الانبياء، وحتى اذا لم يعرفوا احدا من الانبياء، فقد يكون لهم ايمان بالله، وان لم يكن لهم هذا الايمان ايضا فلربما لهم ما يوصلهم الى الكمال من سجايا حميدة وخصال انسانية.. اما إذا انكر المسلم خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وجحد بالدين الذي لادين غيره في الحق والشمول، وفسق عن دائرة هدايته، وحل رقبته منها، فلا يرضى بنبي آخر، بل لايقبل الايمان بالله، لأنه ما عرف سائر الانبياء
الشعاع الحادي عشر - ص: 251
ولا اهتدى الى الايمان بالله الا عن طريقه صلى الله عليه وسلم وبتبليغه وارشاده وهديه.. لذا لا يبقى في قلبه شئ من اولئك دون الايمان به صلى الله عليه وسلم ومن هنا كان الناس من سائر الاديان منذ زمن سحيق يدخلون دين الاسلام افواجاً، بينما لم يحدث ان اصبح مسلم واحد قط يهوديا حقيقيا ولا مجوسيا ولا نصرانيا، وربما يصبح ملحداً فاسد الاخلاق والسجايا مضراً بالبلاد والعباد.
هكذا اقمت الحجة على ذلك العنيد من انه لايستطيع التشبه حتى بملاحدة الاجانب.. ولمّا لم يجد ما يستند اليه، خَنس وولى الى جهنم وبئس المصير.
فيا زملائي المجتمعين في هذه المدرسة اليوسفية !
مادامت الحقيقة هي هذه ورسائل النور قد نشرت نورها - ولاتزال - منذ عشرين سنة وهي تكسر عناد المتمردين وترغمهم على الايمان، فعلينا اذن التمسك بالايمان والصراط المستقيم السهل النافع السليم لدنيانا ومستقبلنا وآخرتنا وبلادنا وامتنا. وذلك بأن لانقتل اوقاتنا فيما لايعني من ترهات الخيال وسفساف الآمال، بل نحييها بتلاوة ما نعلمه من سور القرآن الكريم آناء الليل واطراف النهار، وبتعلم معانيها من اخواننا العاملين بها، وبقضاء ما فاتنا من الصلوات المكتوبة، وبكسب الاخلاق الحميدة من بعضنا البعض، فلعل الله سبحانه يجعلنا ممن يغرسون في هذا السجن الغراس لتخرج منه اشجار مثمرة نافعة. ونسعى جاهدين ليكون مسؤولو السجن أساتذة مرشدين يهيئون في هذه المدرسة اليوسفية رجالا الى الجنة، ومشرفين طيبين يتولون حسن توجيههم، وليسوا زبانية عذاب على جناة قتلة.
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 252
المسألة الرابعة
سألني يوما اخواني الذين يتولون خدمتي قائلين:
- لقد اخذت الحرب العالمية باهتمام الناس وشغلت الكرة الارضية واوقعتها في اضطراب وقلق وهي ذات علاقة بمقدرات العالم الاسلامي، الاّ اننا نراك لاتسأل عنها رغم مرور خمسين يوما على نشوبها - بل سبع سنين 1 - في الوقت الذي نرى متدينين وعلماء يَدعون الجامع والجماعة مهرعين الى استماع الراديو. فهل هناك قضية اعظم منها تشغل بالك ؟ أم أن الانشغال بها فيه خسارة وضرر ؟
فأجبتهم: ان رأس مال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كُلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز حول الانسان:
فابتداء من دائرة القلب والمعدة والجسد والبيت والمحلة والمدينة والبلاد والكرة الارضية والبشرية وانتهاء الى دائرة الاحياء قاطبة والعالم اجمع كلها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر، فكل انسان له نوع من الوظيفة في كل دائرة من تلك الدوائر. ولكن اعظم الواجبات واهمها، بل ادومها بالنسبة له هي في اصغر تلك الدوائر واقربها اليه، بينما اصغر الواجبات واقلها شأناً ودواماً هي في اعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه. فقياساً على هذا: يمكن ان تتناسب الوظائف والواجبات تناسباً عكسياً مع سعة الدائرة، اي كلما صغرت الدائرة - وقربت - عَظمت الوظيفة، وكلما كبرت الدائرة - وبَعُدت - قلت اهمية الوظيفة.. ولكن لما كانت الدائرة العظمى فاتنة جذابة، فهي تشغل الانسان بامور غير ضرورية له، وتصرف فكره الى اعمال لا تعنيه بشئ، حتى تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه، فيهدر - عندئذ - راس مال عمره، ويضيّع حياته سدى، زد على ذلك قد يميل قلبه وينحاز الى احدى الجهتين المتخاصمتين لتتبعه بلهفة اخبار الحرب الطاحنة بينهما. فلا يجد في نفسه انكاراً لمظالم تلك الجهة، بل يرتاح اليها، ويكون شريكاً لها في ظلمها.
_____________________
1
هذه الجملة المعترضة تعود الى سنة 1946م.

الشعاع الحادي عشر - ص: 253
اما الجواب عن النقطة الاولى فهو:
ان امام كل انسان - ولاسيما المسلم - مسألة مهمة، وحادثة خطيرة هي اعظم من الصراع الدائر بين الدول الكبرى لاجل السيطرة على الكرة الارضية. تلك المسألة هي من الاهمية والخطورة مالو امتلك الانسان العاقل قوة الالمان والانكليز، وثروتهما معا، لَما تردد في ان يضعها كلها لاجل كسب تلك القضية المبتغاة.
تلك القضية هي التي اعلنها مائة الف من المصطفين الاخيار، ورفع رايتها مالايحد من نجوم البشرية ومرشديها المستندين الى آلاف من مواثيق رب العالمين ومن وعوده وعهوده، بل لقد شاهدها قسم منهم عياناً، تلك القضية قضية مصيرية للانسان وهي:
ان يكسب الانسان بالايمان او يخسر دونه ملكاً عظيماً خالداً ومساكن طيبة في جنات عدن عرضها السموات والارض. فمن لم يفز بشهادة الايمان ولم يرعها حق رعايتها فسوف يضيّع حتما تلك القضية ويخسرها، وذلك هو الخسران المبين.
ولقد ضيّع الكثيرون في عصرنا هذا - ممن ابتلوا بطاعون المادية - قضيتهم هذه، حتى كشف احدهم وهو من اهل العلم والكشف وشاهد: ان افراداً قلائل فقط من كل اربعين شخصاً - في مكان ما - هم الذين نجوا بايمانهم في سكرات الموت وختمت حياتهم بالحسنى، اما الباقون فهلكوا!. تُرى لو عُوض احد هؤلاء سلطان الدنيا وملكها وزينتها بديلا عن تلك القضية العظمى، أ فيكون هذا البديل كفواً لما فاته؟ اوَ يسد مسدّه بحال من الاحوال ؟ كلا !
ولهذا فنحن معاشر طلبة النور نعلم يقينا: ان ترك خدمات عظيمة تكسب لنا تلك القضية، واهمال مهمات وكيلها الذي يصونها لتسعين بالمائة، والانشغال عنها بما لايعني من امور خارجية واهتمامات تافهة كأن الدنيا خالدة ما هو الاّ من سخافة العقل وجنونه.
فنحن على يقين تام واطمئنان كامل من هذا، لذا لو ملَكَ احدُنا عقلاً وادراكاً للامور اضعاف اضعاف ما يملكه الآن لبذله كله فيما يلزم تلك القضية وفي سبيلها.
فيا اخوتي الحديثي العهد بمصيبة السجن! انكم لم تطّلعوا بعد على رسائل النور كما اطلع عليها اخواني السابقون الذين دخلوا معنا السجن، فاني اُسمعكم قولا واُشهد عليه اولئك الاخوة جميعاً واُلوفاً من امثالهم، وقد قلته مراراً، واثبته تكراراً:
الشعاع الحادي عشر - ص: 254
ان رسائل النور قد اكسبت تسعين بالمائة منهم تلك القضية العظمى، وهي التي سلمت وثيقة الفوز وشهادته - وهي الايمان التحقيقي - لعشرين الفاً من الناس خلال عشرين سنة خلت. فلا غرو فقد نبعت من المعجزة المعنوية للقرآن الكريم واصبحت في مقدمة وكلاء القضية العظيمة والمدافعين عنها في هذا الزمان، فرغم انقضاء ثماني عشرة سنة والاعداء والزنادقة والماديون يحيكون انواعا من الدسائس والمكر الخبيث، ومازالوا يحرضون قسما من الموظفين علينا مستغفلين اياهم في سبيل ابادتنا حتى زجونا في غياهب السجون مثل هذه المرة. الاّ انهم لم يفعلوا شيئا يذكر، ولن يفعلوا باذن الله، ذلك لانهم لم يتمكنوا ان يتعرضوا لقلعة رسائل النور الفولاذية ولا ان يمسوا اعتدتها البالغة مائة وثلاثين عتاداً - رسالة - سوى رسالتين او ثلاث منها.
لذا فمن اراد ان يوكل محامياً يدافع عن قضيته يكفي ان يتحصن بها ويقتبس من نورها.
فيا ايها الاخوة! لاتخافوا، ان رسائل النور لن تُمنع عن الانظار ولن تحجب عن الرؤية. ولاترفع من الاوساط باذن الله اذ يتداول اجزاءها المهمة - ماعدا رسالتين او ثلاثة - نواب البرلمان واركان الدولة بحرية تامة.
وسيأتي ذلك اليوم الذي يوزع فيه الموظفون والمدراء المحظوظون ان شاء الله رسائل النور على المسجونين كما يوزعون عليهم الخبز والعلاج فيحولوا السجون الى مدارس ارشاد وتربية واصلاح.
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 255
المسألة الخامسة
كما فصّل في رسالة "مرشد الشباب":
ان الشباب ذاهب وآفل، وسيزول لا محالة؛ اذ كما ان الصيف يخلفه الخريف والشتاء، والنهار يعقبه المساء والليل، فالشباب كذلك سيتحول الى مشيب، والى الموت، بمثل هذه الحقيقة المحتمة.
فاذا ما بذل الشاب ما يملك من طاقة مؤقتة في سبيل الخير والصلاح، ضمن دائرة الطهر والعفة والاستقامة، فان الاوامر السماوية كلها تبشره بأنه سيغنم به شباباً باقيا لازوال له، و كما ان غضب دقيقة واحدة، قد يدفع الانسان الى ارتكاب جريمة قتل فيقضي مقاساة ملايين من الدقائق في مقاساة من عذاب السجن، كذلك نشوة الشباب وسفاهته، واذواقه العابرة - في غير ما أحل الله - تسبب له آلاما اكثر واعمق في ذات اللذة نفسها، فضلا عن العقاب الرهيب في الآخرة، والعذاب المرير في القبر، وعلاوة على معاناة الحسرات العميقة المنبعثة من زوال اللذة، والعقاب في الدنيا المترتب على الذنوب والآثام. يشهد بصدق وجود هذه الآلام في اللذة نفسها كل شاب حصيف، بما مر عليه من تجارب، فمثلا:
ان الحب المحرم، او العشق لغير وجه الحق، فيه من الآلام ما ينغّص اللذة الجزئية فيه، منها الشعور بألم الغيرة والحسد، ومنها ألم الفراق عن المعشوق، ومنها ألم عدم مقابلة المحبة بالمثل.. وغيرها كثير من المنغصات التي تجعل تلك اللذة الجزئية بحكم عسل مسموم.
فان كنت تريد أن تفهم ان سوء تصرّف الشباب واسرافهم في امرهم يسبب فيهم من الامراض مايسوقهم الى المستشفيات أو المقابر..
وان كنت تريد ان تفهم ان غرور الشباب وطيشهم يدفعهم الى السجون.
وان كنت تريد أن تفهم ان ما يصيبهم من آلام معنوية وهموم نفسية - من الخواء الروحي والجوع القلبي والفراغ - يسوقهم الى ابواب الحانات والملاهي.. نعم ان
الشعاع الحادي عشر - ص: 256
كنت تريد ان تتحقق من هذا، فاسأل المستشفيات والسجون والخمارات والمقابر، فستسمع حتما أنات وآهات، وبكاء مريراً، وحسرات الندم، واصوات الأسى والأسف، يطلقها - على الأغلب - شباب أشقياء، تلقوا الصفعات الموجعة والضربات الأليمة لخروجهم عمّا اباح الله لهم من الطيبات بدافع نزواتهم واسرافهم وسئ اعمالهم، وارتكابهم المحرمات، وانسياقهم وراء اللذات المشؤومة.
بينما اذا ما قضى الشاب عهد شبابه بما أمره الله به واتبع الصراط السوي واستقام عليه. فانه يجعله احلى نعمة إلهية وأجمل هبة رحمانية، ويتخذه سبيلاً قويماً ممهداً الى الصالحات من الاعمال، ولأثمر له كذلك شباباً ناضراً، وفتوة خالدة دائمة في الاخرة بدلاً من هذا الشباب الفاني الزائل.. ذلك ما تبشرنا به الكتب السماوية والصحف المنزلة جميعها، وفي مقدمتها القرآن الكريم بآياته المحكمة الكريمة.
فما دامت هذه هي الحقيقة.. ومادام ميدان الحلال كافياً ووافياً للأنس والمتعة والنشوة.. ومادامت اللذة الواحدة - ضمن المحرمات - تذيق صاحبها ألما يدوم سنة واحدة من عذاب السجن واحيانا عشر سنوات.. فيلزم اذن قضاء عهد الشباب بالعفة والطهر والاستقامة على الصراط السوي أداء لشكر تلك النعمة اللذيذة المهداة، بل هذا هو الألزم.
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 257
المسألة السادسة
هذه المسألة اشارة مختصرة الى برهان واحد فقط من بين ألوف البراهين الكلية حول (الايمان بالله) والذي تم ايضاحه مع حججه القاطعة في عدة مواضع من رسائل النور.
جاءني فريق من طلاب الثانوية في "قسطموني" قائلين:
"
عرّفنا بخالقنا، فإن مدرسينا لايذكرون الله لنا !".
فقلت لهم:
ان كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوما، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا الى تلك العلوم دون المدرسين..
فمثلا: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها ادوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدلياً حكيماً وكيميائياً ماهراً،كذلك صيدلية الكرة الارضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الاحياء - نباتا وحيوانا - وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها، وانتظامها، وعظمتها، قياسا على تلك الصيدلية التي في السوق، على وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.
ومثلاً: كما لو أن مصنعا خارقا عجيبا ينسج ألوفا من انواع المنسوجات المتنوعة، والاقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندسا ميكانيكيا ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الارضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات

الشعاع الحادي عشر - ص: 258
الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا - بلاشك - صانعه، ومالكه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الإلهي وعظمته قياساً على ذلك المصنع الانساني.
ومثلاً: كما ان حانوتا او مخزنا للاعاشة والارزاق، ومحلا عظيما للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع ونوع من المواد الغذائية، وميز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكا، ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للاعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة اربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من اصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها الى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الاربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الانواع من مختلف الاطعمة، يأتي بها الى الخلق المساكين الذين نفد قوتهم في الشتاء. تلك هي الكرة الارضية، السفينة السبحانية التي تضم آلاف الانواع من البضائع والاجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - على وفق مقاييس علم الاعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبه ومالكه ومتصرفه بدرجة عظمة هذا المخزن قياسا على ذلك المخزن المصنوع من قبل الانسان، ويعرّفه لنا، ويحببه الينا.
ومثلاً: لو ان جيشا عظيما يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والامم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريبه وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزودهم بالارزاق المختلفة، والاسلحة المتباينة، والالبسة المتغايرة، دون نسيان اي منها ولا التباس، ولاحيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب. فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا - بداهة - ذلك القائد الخارق، بل يحببه الينا بكل تقدير واعجاب؛ كذلك معسكر الارض، ففي كل ربيع يجند - مجددا - جيشا سبحانيا عظيما مكونا من اربعمائة ألف نوع من شعوب النباتات وامم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وارزاقه واسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، دون نسيان لأحد، ولا اختلاط، ولاتحير، وفي منتهى الكمال وغاية الانتظام.. فهذا المعسكر
الشعاع الحادي عشر - ص: 259
الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الارض يُري - لأولي الالباب والبصائر - حاكم الارض - حسب العلوم العسكرية - وربّها ومدبرها، وقائدها الاقدس الاجل، ويعرّف لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياسا الى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه - سبحانه - بالتحميد والتقديس والتسبيح.
ومثلا: هب ان ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ الا تُري باعجاب وتقدير أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائيا بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟ فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الارض وهي اكبر من الكرة الارضية نفسها بألوف المرات - حسب علم الفلك - وتسير اسرع من انطلاق القذيفة من دون ان تخل بنظامها، او تتصادم مع بعضها مطلقا ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود على وفق ما تقرأونه في علم الفلك. هذه المصابيح تشير باصابع من نور الى قدرة خالقها غير المحدودة، فشمسنا مثلا؛ وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الارضية، وأقدم منها بمليون سنة ماهي الاّ مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن. فلأجل ادامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الارض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر اضعاف اضعاف حجم الارض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الاخرى امثالها - دون وقود ولافحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، انما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لاحدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - على وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبرّه البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه الى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم الى عبادته سبحانه.
ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق، وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضها البعض، فهذا الكتاب العجيب يبين بلا شك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. اي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعريفا يضاهي وضوح النهار، ويبين كماله وقدرتَه، ويثير من الاعجاب والتقدير لدى الناظرين اليه ما
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 260
لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله سبحان الله ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه - وهي سطح الارض - ويُكتب في ملزمة واحدة منه - وهي الربيع - ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة وهي طوائف الحيوانات واجناس النباتات كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معا ومتداخلة بعضها ببعض دون اختلاط، ولاخطأ، ولانسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه - كالشجرة - قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه - كالبذرة - فهرس كتاب كامل. وان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد وراءه قلماً سيالاً يسطر. فلكم ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم - وهو العالم - الى بارئه سبحانه والى كاتبه جل وعلا، قياسا الى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناولوه بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير وبذلك تفهمون كيف يعرّف الخالق العظيم بـ"الله اكبر" وكيف يعلّم التقديس بـ"سبحان الله" وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء "الحمد لله".
وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياسا على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.
فقلت لاولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: (خلقَ السمواتِ والارض) و (ربّ السموات والارض) انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه. فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير جزاء ورضي عنك.
قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الانواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الاعداء ما لا يحد سواء الماديين او المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لاتحصر، فهو
الشعاع الحادي عشر - ص: 261
مخلوق مسكين يتجرّع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال - بالايمان والعبودية - مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمقامه لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان، الى القدير الذي لانهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته بالطاعة والشكران، يبدل الأجل والموت من الاعدام الابدي الى تذكرة مرور، ورخصة الى العالم الباقي!. فلكم ان تقدروا كم يكون - هذا الانسان - متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.
ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:
ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً: انني لا انتهي الى الفناء ولا أُعدم. بل أُسّرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد ثأرت لنفسي منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا إله إلاّ الله.
(سبحانكَ لا عِلمَ لنا إلاّ ما عَلمتنا إنكَ انت العليمُ الحكيم)
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 262
المسألة السابعة
(ثمرة اينعت في يوم جمعة من ايام سجن دنيزلي)
بسم الله الرحمن الرحيم
(وما أمرُ الساعةِ إلاّ كَلَمحِ البصر أو هو أقرب) (النحل : 77)
(ما خلقكم ولا بعثُكم إلاّ كنفسٍ واحدة) (لقمان : 28)
(فانظر إلى آثار رحمتِ الله كيفَ يُحيي الارضَ بعد موتها إن ذلكَ لَمُحيي الموتى وهو على كل شئ قدير) (الروم : 50)
كنت قد القيت ذات يوم درسا في "قسطموني" بلغة العلوم المدرسية على بعض طلبة الثانوية الذين جاؤا يسألونني: "عرّفنا بخالقنا" كما جاء في المسألة السادسة المذكورة آنفاً، واطلع عليها بعض من استطاع الاتصال معي من المسجونين في "دنيزلي" فحصل لديهم من الاطمئنان الايماني والقناعة التامة ماجعلهم يستشعرون شوقاً غامراً نحو الآخرة، فبادروا بالقول: "علمنا آخرتنا ايضاً علما كاملا، لاتضلّنا بعده انفسُنا وشياطين العصر، فتلقي بنا الى مثل هذه السجون !". ونزولاً عند طلب هؤلاء واسعافاً لحاجة طلبة رسائل النور في سجن "دنيزلي" وللرغبة الملحة من اولئك الذين طالعوا "المسألة السادسة"، فقد رأيت لزاما علىّ أن ابين خلاصة موجزة عن الركن الايماني المهم: "الآخرة". فأقول ملخصاً من رسائل النور:
كما اننا سألنا في "المسألة السادسة" الارض والسموات عن خالقنا سبحانه وتعالى فأجابتنا بلسان العلوم الحاضرة بما عرّفنا بخالقنا الكريم معرفة واضحة وضوح الشمس، فسنسأل كذلك اولاً: ربَّنا الذي عرفناه يقينا عن آخرتنا، ثم نسأل رسولنا الاعظم صلى الله عليه وسلم ثم قرآننا الكريم، ثم سائر الانبياء عليهم السلام والكتب المقدسة، ثم الملائكة، ثم الكائنات.
الشعاع الحادي عشر - ص: 263
فها نحن اولاء في اولى المراتب.. نسأل الله سبحانه وتعالى عن "الآخرة" فيخاطبنا - جل وعلا - بجميع اوامره وبجميع رسله الكرام، وبجميع اسمائه الحسنى، وبجميع صفاته الجليلة، قائلا لنا: الآخرة لاريب فيها، وانتم مساقون اليها. وحيث ان "الكلمة العاشرة" قد اثبتت الآخرة باثنتي عشرة حقيقة قاطعة ناصعة، واوضحتها بدلالة قسم من الاسماء الحسنى؛ لذا نشير هنا - اشارة مختصرة - الى تلك الدلالات، مكتفين بذلك الايضاح.
نعم! انه ليس هناك سلطان عظيم دون ان يكون له ثواب للمطيعين وعقاب للعاصين. فلابد من ان السلطان السرمدي - وهو في علياء الربوبية المطلقة - له ثواب للمنتسبين اليه بالايمان والمستسلمين لأوامره بالطاعة، وعقاب للذين انكروا عظمته وعزته بالكفر والعصيان. ولابد من أن ذلك الثواب سيكون لائقا برحمته وجماله، وذلك العقاب سيكون ملائما لعزته وجلاله.
وبهذا يجيبنا اسم "السلطان الديّان" و "رب العالمين" عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم اننا نرى باعيننا - رؤية واضحة وضوح الشمس - ان رحمة عامة ورأفة محيطة وكرما شاملا سابغا على وجه الارض؛ فما ان يحل الربيع الزاهي حتى ترى الرحمة تزيّن الاشجار والنباتات المثمرة، وتلبسها ثياباً خضراً كانها حور الجنة، وتسلّم الى ايديها انواعاً مختلفة من ثمار شتى، وتقدمها الينا قائلة: "هاكم كلوا وتفكهوا..." وتراها تطعمنا عسلا مصفى شافياً لذيذاً بأيدي حشرة سامة! وتلبسنا حريراً ناعما تنسجه حشرة بلا يد! وتدّخر في حفنة من بُذيرات وحبوب آلاف الاطنان من الغذاء وتحولها الى كنوز احتياطية لنا.. فالذي له هذه الرحمة الواسعة، وله هذه الرأفة العامة والكرم السابغ، لاريب أنه لن يُفني ولن يُعدم عباده المؤمنين المحبوبين لديه، اولئك الذين رباهم ومَنَّ عليهم، وكرّمهم الى هذه الدرجة من اللطف والرفق والعناية. بل سينهي وظيفتهم في الحياة الدنيا ليهيأهم لرحمات اوسع واعظم.
وبهذا يجيبنا اسم الله "الرحمن" و "الكريم" من الاسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة، قائلين لنا: "الجنة حق".
الشعاع الحادي عشر - ص: 264
ثم اننا نرى ان وظائف المخلوقات تنسج على منوال الحكمة وتكال بميزان العدل. وهما من الدقة والحساسية لايتصور الانسان أفضل منهما.. فترى الحكمة الازلية قد وهبت للانسان قوة حافظة - كحبة الخردل حجما - وكتبت فيها تفاصيل حياته وما يمسه من احداث لا تعد، وكأنها مكتبة وثائقية مصغرة جداً، ووضعتها في زاوية من دماغه، لتذكره دوماً بيوم الحساب، يوم تنشر مافيها من صحائف الاعمال.
وترى العدالة المطلقة تضع كل عضو من الكائن الحي في موضعه اللائق به، وتنسقه بموازين دقيقة حساسة - ابتداء من ميكروب صغير الى كركدن ضخم، ومن نحل ضعيف الى نسر مهيب، ومن زهرة لطيفة الى ربيع زاهٍ بملايين من الازهار.. وتراها تمنح كل عضو تناسقا لاعبث فيه، وموازنة لانقص فيها، وانتظاماً لاترى فيه الا الابداع، كل ذلك ضمن جمال زاهر وحسن باهر حتى تغدو المخلوقات نماذج مجسمة للابداع والاتقان والجمال.. فضلا عن انها تهب لكل ذي حياة حق الحياة؛ فتيسر له سبل الحياة، وتنصب له موازين عدالة فائقة؛ فجزاء الحسنة حسنة مثلها، وجزاء السيئة سيـئة مثلها.. وفي الوقت نفسه تُشعر قوتها وسرمديتها، بما تنزل من عذاب مدمر على الطغاة والظالمين منذ عهد آدم عليه السلام. فكما لاتكون الشمس دون نهار، فتلك الحكمة الازلية، وتلك العدالة السرمدية لن تتحققا تحققاً كلياً الا بحياة اخرى خالدة لذا لن ترضيا ابداً ولن تساعدا بحال من الاحوال على نهاية لاعدالة فيها ولاحكمة ولا احقاق حق، تلك هي الموت الذي لابعث بعده، والذي يتساوى فيه الظالمون العتاة مع المظلومين البائسين ! فلابد اذن ان تكون وراءه حياة اخرى خالدة كي تستكمل الحكمة والعدالة حقيقتهما.
وبهذا يجيبنا - اجابة قاطعة - اسم الله "الحكيم" و "الحكم" و "العدل" و "العادل" من الاسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم اننا نرى ان كل كائن حي تُوفَّر له حاجاته التي ليس في طوقه الحصول عليها، وتستجاب جميع مطاليبه التي يسألها - بنوع من دعاء - سواء بلسان حاجاته الضرورية، او بلغة استعداداته الفطرية، وتسلّم اليه في أنسب وقت وافضله من لدن يد رحيم واسع الرحمة، وسميع مطلق السمع، ورؤوفٍ شامل الرأفة.. وتُستجاب ايضاً اغلب دعوات الانسان الارادية، ولاسيما دعوات الاصفياء من الناس، وبخاصة
الشعاع الحادي عشر - ص: 265
دعوات الانبياء عليهم السلام - التي تستجاب اغلبها استجابة خارقة للعادة - فتلك الاستجابات تفهمنا يقينا ان وراء الحجاب "سميع مجيب" يسمع آهات كل ذي مصيبة وأنات كل ذي داء، ويصغي الى دعاء كل محتاج، ويرى أدنى حاجة لأصغر مخلوق ويسمع أخفى أنين لأضعف كائن فيشمله برأفته ويسعفه فعلا فيرضيه.. فما دام الامر هكذا فان دعاءً للسعادة الاخروية والبقاء والخلود - وهو افضل دعاء واعمه ويمس جميع الكائنات ويرتبط بجميع الاسماء الحسنى وبجميع الصفات الجليلة - هذا الدعاء يسأله أفضل مخلوق - وهو الانسان - ويضمه ضمن ادعيته اعظم عبد واحبه الى الله، ذلك الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم، وهو امام الانبياء عليهم السلام الذين هم شموس البشرية وروادها فيؤمّنون على دعائه هذا بل يؤمّن على دعائه بصلواته عليه يوميا كلُ مؤمن من امته عدة مرات في الاقل بل تشترك جميع المخلوقات في دعائه قائلة: "استجب ياربنا دعاءه فنحن نتوسل بك ونتضرع اليك مثله".. فمثل هذا الدعاء الشامل للخلود والسعادة الابدية، من مثل هذا الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وضمن هذه الشروط التي لاترد، لاشك مطلقاً انه وحده مبرّر كافٍ وسبب وافٍ لايجاد الجنة الخالدة وإحداث الاخرة من بين اسباب لاتعد ولاتحصى موجبة لايجادها. فضلا عن أن ايجادها سهل على قدرته سبحانه وهيّن عليها كايجاد الربيع وخلقه.
وهكذا يجيبنا اسم الله "المجيب" و "السميع" و "الرحيم" من الاسماء الحسنى عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم ان ما في تبدل المواسم من مظاهر الموت ومشاهد البعث على الارض كافة يدل دلالة واضحة - كدلالة النهار على الشمس - على ان وراء الحجاب ربّا يدير الارض الهائلة في غاية الانتظام وفي منتهى السهولة - كادارة حديقة صغيرة بل كادارة شجرة واحدة وبانتظامها - ويدير الربيع الشاسع ويزينه بسهولة ادارة زهرة واحدة وبزينتها الموزونة، ويسطر على صحيفة الارض ثلاثمائة الفٍ من طوائف النباتات والحيوانات التي هي بمثابة ثلاثمائة الف نوع من كتب تعرض نماذج الحشر وامثلة النشور.
فهذا الرب القدير الذي يكتب هذه النماذج المتداخلة دون تحير ولا لبس، ودون سهو ولاخطأ وباتقان وانتظام وبمعان بليغة رغم تشابكها وتشابهها وتماثلها، يُظهر
الشعاع الحادي عشر - ص: 266
ضمن جلال العظمة قدرة فاعلة رحيمة حكيمة، فهو سبحانه يشمل الوجود برحمته وحكمته هذه فيهب للانسان مقاماً سامياً ويسخر له الكون الضخم ويجعله مسكناً ومهداً له، ثم ينصبه خليفة في الارض ويحمّله الامانة الكبرى التي اَبت السموات والارض والجبال ان يحملنها ويفضّله على سائر المخلوقات، ويشرّفه بكلامه الرباني وبخطابه السبحاني وبموالاته اياه، فضلا عن انه قد قطع على نفسه عهداً، ووعد هذا الانسان وعداً - في جميع كتبه المنزلة - انه سيخلّده بالسعادة الابدية والبقاء الاخروي.. فلاريب انه سيفتح له ابواب سعادة دائمة، وسيحدث الحشر والقيامة حتما وهو أهون عليه من الربيع نفسه.
وبهذا يجيبنا اسم الله "المحيي" و"المميت" و"الحي" و"القيوم" و"القدير" و"العليم" عن سؤالنا حول الآخرة.
حقا ان القدرة الإلهية التي تحيي اصول الاشجار والاعشاب كافة في كل ربيع وتوجد نماذج ثلاثمائة الف نوع من حشر ونشر في الحيوانات والنباتات كافة، بل تُظهر الف مثال للحشر والنشور والف دليل عليه في ألفي ربيع 1عندما ينظر خيالا الى الف سنة من السنين التي قضاها كل من أمة محمد وموسى عليهما السلام وقوبلا معا ! فكيف يُستبعد بعثُ الاجساد والحشر الجسماني من هذه القدرة المطلقة ؟ أليس استبعاده عمى ما بعده عمى ؟
ثم ان مائة واربعة وعشرين الفاً من افضل بني آدم وهم الانبياء عليهم السلام، قد اعلنوا السعادة الابدية وخلود الآخرة، متفقين، مستندين الى آلاف الوعود والعهود التي قطعها الله سبحانه وتعالى على نفسه. واثبتوا صدقهم بمعجزاتهم الباهرة. وان ما لا يحصر له من الاولياء الصالحين يصدّقون الحقيقة نفسها بالكشف والذوق. فلابد من ان تلك الحقيقة ظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار فمَن شك فيها فقد حَرُم العقل:
لأن حكم متخصص واحد او اثنين في علم او مهنة في مسألة ضمن اختصاصه، يسقط من الاعتبار قيمة آراء وافكار ألف معارض غير متخصص في ذلك العلم او المهنة ولو كانوا أولي اختصاص في علوم اخرى. وان حكم اثنين من شهود الاثبات
_____________________
1
ان كل ربيع يقبل هو بحكم حشر للربيع السابق الذي قامت قيامته وانتهت حياته.- المؤلف.

الشعاع الحادي عشر - ص: 267
في مسألة يُرجَّح على آلافٍ من المنكرين او النافين للمسألة. كما هو في رؤية هلال رمضان في يوم الشك، او ادعاء وجود مزارع جوز الهند الشبيهة بعلب الحليب في الارض؛ ذلك لأن المثبت يكسب القضية بمجرد الاشارة اليها او ابراز جوز الهند او بيانه لمكانه. اما النافي الذي ينكر وجوده فانه لايستطيع ان يثبت دعواه الا اذا جاس وجال في انحاء العالم كله وتحرى دعواه في الامكنة كلها. وهكذا الذي يخبر عن الجنة ودار السعادة والخلود فانه يثبتها ويكسب القضية بمجرد اظهاره أثراً من آثار الجنة، او امارة من أماراتها، او ظلا من ظلالها كشفا، في حين لايستطيع من ينفي وجودها وينكرها ان يجد لانكاره مجالا - مهما كدّ - الا اذا شاهد وأشهد الاخرين جميع الاكوان وجميع الازمان من الازل الى الابد، واظهر عدم وجودها واثبت نفيها!! فلأجل هذه الحكمة ارتضى العلماء المحققون على قاعدة اساس هي: "لايمكن اثبات النفي غير المحدد مكانه - كالحقائق الايمانية الشاملة للكون قاطبة - مالم يكن الامر محالا بذاته".
فبناءً على هذه الحقيقة القاطعة ينبغي الاّ يجلب انكار آلاف الفلاسفة ومعارضتهم اية شبهة ولا وسوسة امام مخبر صادق في مثل هذه المسائل الايمانية.. فيا حماقة من يتلوث بشبهة - مهما كانت - في اركان الايمان بمجرد انكار قلة من فلاسفة ماديين تحدرت عقولهم الى عيونهم فلا يرون الا المادة بل ماتت قلوبهم فلا يشعرون بالمعنويات، بينما اتفق على تلك الاركان مائة وعشرون الفا من المثبتين اولي الاختصاص من الانبياء الصادقين عليهم السلام وممن لايحصون ولايعدون من المثبتين والمختصين من اهل الحقيقة الاولياء واصحاب التحقيق العلماء.
ثم اننا نشاهد سواء في انفسنا او فيما حولنا، رحمة عامة، وحكمة شاملة، وعناية دائمة ناشرة نورها كالنهار، ونرى كذلك آثار ربوبية مهيبة وانوار عدالة بصيرة، وتجليات اجراءات جليلة عزيزة، بل نرى "حكمة" تقلد الشجرة حكماً بعدد ازهارها واثمارها، ونرى "رحمة" تقيم على كل إنسان احساناً وعطايا بعدد حواسه وقواه واجهزته. ونرى "عدالة" ذات عزة تهلك بسوط عذابها اقواما عصاة امثال قوم نوح وهود وصالح وقوم عاد وثمود وفرعون، وهي ذات عناية كذلك تحافظ على حقوق
الشعاع الحادي عشر - ص: 268
اصغر مخلوق واضعفه. فالآية الكريمة الآتية تبين بايجاز معجز عظمة تلك الربوبية الجليلة وهيبتها المطلقة:
(ومن آياته أن تقوم السماءُ والارض بأمره ثمّ إذا دَعاكم دَعوةً من الارضِ اذا أنتم تخرجون) (الروم: 24).
اذ تبين ان السموات والارض تمتثلان الامر الإلهي كالجنود المرابطين والراقدين في معسكرين. فكما انهم يهرعون الى أخذ مواقعهم وتسلم اسلحتهم بدعوة من القائد وبنفخة من بوق، كذلك السموات والارض كمعسكرين حالما يُنادى بالاموات الراقدين فيهما بصور اسرافيل عليه السلام، اذا بهم يخرجون من الاجداث سراعاً لابسين ثياب الجسد. بل نرى هذه العظمة والطاعة في كل ربيع اذ يُحشَر ما في معسكر الارض من جنود وينشَرون بنفخة من بوق مَلَك الرعد.. فبناء على التحقيقات السابقة، لابد ان تلك الرحمة والحكمة والعناية والعدالة والسلطنة السرمدية ستحقق ابعادها وغاياتها في دار اخرى، اي انها تقتضي الحشر بالضرورة، كما اثبتتها الكلمة العاشرة؛ اذ لاشك في مجئ الآخرة، بل ان عدم مجيئها محال في الف محال، حيث ان عدمها يعني: تبدل "الرحمة" التي هي في منتهى الجمال قسوة في منتهى البشاعة، ويعني: تحول كمال "الحكمة" الى نقص العبث القاصر وغاية الاسراف، ويعني: انقلاب "العناية" التي هي في منتهى الحسن واللطف الى اهانة في منتهى القبح والمرارة ويعني: تغير "العدالة" التي هي في منتهى الانصاف والحق الى ظلمات في اشد القسوة والبطلان، زد على ذلك فان عدم مجئ الآخرة يعني ايضاً سقوط هيبة السلطنة السرمدية العزيزة وبوار أبهتها وقوتها، ويعني اتهام كمال الربوبية بالعجز والقصور.. فكل هذا باطل ومحال لايقبله عقل أي انسان مهما كان، وهو الممتنع والخارج عن دائرة الامكان؛ لأن كل ذي شعور يعلم ان الله سبحانه قد خلق هذا الانسان في احسن تقويم، ورباه احسن تربية، وزوّده من الاجهزة والاعضاء - كالعقل والقلب - ما يتطلع به الى السعادة الابدية ويسوقه نحوها، ويدرك كذلك مدى الظلم والقسوة اذا ما انتهى مصير هذا الانسان المكرم الى العدم الابدي ! ويفهم كذلك مدى البُعد عن الحكمة في عدم البعث الذي يجعل جميع الاجهزة والقوى الفطرية - التي لها آلاف المصالح والفوائد - دون جدوى ودون قيمة ! في
الشعاع الحادي عشر - ص: 269
الوقت الذي اودع سبحانه مئات من الحِكَم والفوائد في دماغه فحسب !.. ويفهم كذلك مدى العجز الظاهر والجهل التام المنافيين كليا لعظمة تلك السلطنة وكمال الربوبية في عدم الايفاء بآلاف الوعود والعهود ؟ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. قس على هذا كلا من "العناية" و "العدالة".
وهكذا يجيبنا اسم الله "الرحمن" و"الحكيم" و"العدل" و"الكريم" و"الحاكم" من الاسماء الحسنى بتلك الحقيقة المذكورة عن سؤالنا الذي سألناه حول الآخرة ويثبتها لنا اثباتا لاشبهة فيه بل واضحاً جلياً كوضوح الشمس وجلائها.
ثم اننا نرى "حفيظية" مهيبة محيطة بادية للعيان، تحكم على كل شئ حي، وتهيمن على كل حادث، تحفظ صوره الكثيرة، تسجِّّل اعمال وظيفته الفطرية، تدوّن تسبيحاته التي يؤديها - بلسان الحال - تجاه الاسماء الحسنى.. تدوّنها في لوحات مثالية، في بُذيراته ونوّياته، في قواه الحافظة - وهي نماذج مصغرة للّوح المحفوظ - ولاسيما في حافظة الانسان التي هي مكتبة عظمى مصغرة جداً موضوعة في دماغه، فتسجلها في سائر المرايا والمعاكس المادية والمعنوية. وما ان يحل الربيع - تلك الزهرة المجسمة للقدرة الإلهية - حتى تبرز لنا الحفيظية تلك الكتابات المعنوية ظاهرةً مشهودة مجسمة. وتعرض في تلك الزهرة العظمى حقيقة الحشر التي تتضمنها الآية الكريمة (واذا الصُحُفُ نُشرت) (التكوير: 10) وتعلنها بألسنة ملايين الملايين من الامثلة والدلائل، وتؤكد لنا يقيناً ان الاشياء جميعها - ولاسيما الاحياء - لم تُخلق لتنتهي الى الفناء، ولالتهوي الى العدم ولا لتمحى الى غير شئ - ولاسيما الانسان - بل خلقوا للمضي بسموهم الى البقاء، وللدخول بتزكية انفسهم الى عالم الحياة الخالدة، وللولوج بالاستعداد الفطري الى وظيفة سرمدية تنتظرهم في دار الخلود.
نعم ! ان كل شجر وجذر وكل حبّة ونواة من النباتات غير المحدودة التي ماتت في قيامة الخريف، ما ان يحين حشر الربيع الا ويتلو الآية الكريمة (واذا الصُحفُ نُشِرتْ) بلسانها الخاص ويفسر معنىً من معانيها، وذلك بقيام كل جزء من اجزائه بمثل الوظائف الفطرية التي قام بها في السنين السابقة، ويبيّن - في الوقت نفسه -
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 270
عظمة الحفيظية في اوسع مداها كما تتضمنها الآية الكريمة (هُوَ الأولُ والآخرُ والظاهِرُ والبَاطِنُ) (الحديد: 3) وترشدنا الى اربع حقائق جليلة في كل شئ وتقيم الحجة الدامغة على حتمية الحشر كحتمية مجئ الربيع ويسره.
نعم ! ان انوار هذه الاسماء الحسنى الاربعة وتجلياتها تسري وتنفذ من اصغر جزئي الى اكبر كليّ.. ولنوضح هذا بمثال:
فالبذرة التي هي اصل الشجرة تبين عظمة الحفيظية بتعرضها لأنوار اسم الله "الاول" وذلك؛ بما تحوي من خطة الشجرة دقيقة كاملة، وبما تضم من اجهزة بديعة لايجادها ونشوئها كاملة غير منقوصة، وبما تشتمل عليه من شرائط تكوين الشجرة، رغم انها علبة صغيرة جدا.
والثمرة ايضا تشهد شهادة صادقة على تلك الحفيظية بتعرضها لأنوار اسم الله "الآخر" وذلك؛ بما تحوي من فهرس جميع الوظائف الفطرية لتلك الشجرة، وبما تضم من صحائف اعمالها، وبما تنطوي عليه من قوانين حياتها الثانية، علماً انها صندوق صغير جدا.
اما ظاهر الشجرة المجسم فانه يظهر عظمة القدرة وكمال الحكمة وجمال الرحمة ضمن الحفيظية المطلقة، ويبرزها للعيان مشهودة بتعرضها لأنوار اسم الله "الظاهر" وذلك؛ بحللها البهية المزدانة بالنقوش البديعة المتنوعة والاوسمة المرصعة، كأنها ثياب الحور العين الملونة بسبعين لونا.
اما الاجهزة الداخلية لتلك الشجرة التي اصبحت كأنها مرآة تعكس انوار اسم الله "الباطن" فهي ايضا تثبت - اثباتا ساطعا كالشمس - كمال القدرة والعدالة، وجمال الرحمة والحكمة، إذ إنها مصنع خارق كامل النظام، بل مختبر كيمياء عظيم، بل مستودع اعاشة وارزاق لايدع غصناً ولاثمراً ولاورقاً إلاّ ويزوده بالغذاء الذي يحتاجه.
وكما يظهر كلٌ من البذرة، والثمرة، وظاهر الشجرة، وباطنها، تجليات الاسماء الحسنى الاربعة (الاول والآخر والظاهر والباطن) فالكرة الارضية كذلك تظهرها،
الشعاع الحادي عشر - ص: 271
وتبين بداهة ان الحفيظ ذا الجلال والاكرام انما يعمل بقدرة وعدالة وحكمة ورحمة مطلقة؛ اذ انها - اي الكرة الارضية - كالشجرة من حيث تبدل المواسم السنوية، فجميع النوى والحبوب التي اودعت في الخريف - بتجلي اسم الله "الاول" - أمانةً الى الحفيظية، ترسِلُ ما لايعد من السيقان والاغصان، وتمدها الى شتى الجهات، وتَفتَح ما لايحصى من الازهار البهيجة والاثمار الطيبة، فتلبس الارض وشاح الربيع البهيج.. ذلك لأن كلا منها تضم كراسات مصغرة سُطّرت فيها الاوامر الربانية، وتبطن صحائف مصغّرة دوّن فيها ما انجز في السنة الماضية من اعمال، بل تستوعب تلك البذور والنوى جميع ما يعود الى تركّب شجرة الارض العظيمة.
أما آخر شجرة الارض السنوية فهو مايضعه في علب متناهية في الصغر من جميع الوظائف التي قامت بها الشجرة في الخريف، وجميع التسبيحات والاذكار الفطرية التي ادتها تجاه الاسماء الحسنى، وجميع مايمكن نشره في حشر الربيع المقبل من صحائف الاعمال، ويسلّم هذا جميعا الى يد الحكمة للحفيظ ذي الجلال تالياً بهذا اسم الله "الآخر" بألسنة لاحد لها على اسماع الكائنات وانظارها.
اما ظاهر هذه الشجرة فهو: تلك الازهار الكلية المتنوعة المتباينة التي تفصح عن ثلاثمائة الف نوع من امثلة الحشر واماراته، وهو تلك الموائد المنصوبة للرحمن الرحيم والرزاق الكريم، وهو تلك الضيافات المفتوحة لذوي الحياة كافة، فكل ما في ظاهر تلك الشجرة يذكر ويتلو اسم الله "الظاهر" بألسنة ثمراتها، وازهارها، وطعومها مُظهراً حقيقة (وإذا الصُحفُ نُشرت) ساطعة كالشمس في كبد السماء.
اما باطن هذه الشجرة العظيمة فهو معمل ومصنع يحرك مالايعد ولايحصى من مكائن منتظمة ومعامل دقيقة حتى انه يعدّ طنا من الاطعمة وينضجها من درهم من المواد وتوصله الى الجائعين، وينهض باعماله في منتهى الدقة بما لايدع مجالاً لتلعب به الصدفة، فيذكر الوجه الباطن للارض اسم الله "الباطن" بل يثبته ويعلنه بمائة الف من الانماط والصور كما يعلنه قسم من الملائكة الذين يسبّحون بمائة الف لسان.
الشعاع الحادي عشر - ص: 272
وكما ان الارض من حيث حياتها السنوية كالشجرة، بينت "الحفيظية" التي في تلك الاسماء الحسنى الاربعة بوضوح، وجعلتها مفتاحاً لباب الحشر، فهي كذلك كالشجرة المتناسقة جداً من حيث حياة العصور وحياة الدهور، اذ ترسل ثمراتها - على مدى العصور والدهور - الى سوق الآخرة.
وهكذا تصبح الارض بأسرها مرآةً واسعة جدا لتجليات تلك الاسماء الاربعة، وتفتح سبيلاً واسعاً جداً الى الآخرة بحيث تظل عقولنا ولغاتنا قاصرة وعاجزة عن الاحاطة بها. لذا نكتفي بالآتي ولا نزيد:
ان عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والايام تتشابه فيما بينها، فالواحد يدل على الآخر ويذكّره، فمن يراقب حركة عقرب الثواني يضطر الى تصديق حركة التروس الاخرى. كذلك الدنيا كساعة كبرى لخالق السموات والارض، حيث تتشابه الايام التي تعد ثواني هذه الساعة الكبرى، والسنوات التي تحصي دقائقها، والعصور التي تظهر ساعاتها، والاحقاب التي تعرف ايامها فمع تشابه بعضها مع البعض الآخر فإن كلا منها يدل على الآخر ويثبته.
ومن هذه الزاوية نرى الارض تخبر بامارات لاحدّ لها عن مجئ ربيع خالد وصبح سرمدي بعد شتاء الدنيا الفانية المظلم.. تخبر عنه بحتمية مجئ الصبح لهذا الليل وبقطعية مجئ الربيع بعد هذا الشتاء. وبهذه الحقيقة يجيبنا اسم "الحفيظ" مع الاسماء الحسنى الاربعة: (الاول والآخر والظاهر والباطن) عن سؤالنا الذي سألناه حول الحشر.
وما دمنا نرى باعيننا ونفقه بعقولنا، ان الانسان هو:
خاتمة ثمرات شجرة الكون واجمع مافيها من الصفات.. وهو بذرتها الاصلية من حيث الحقيقة المحمدية.. وهو الآية الكونية الكبرى لقرآن الكون.. بل هو الآية الحاملة لتجليات الاسم الاعظم في ذلك القرآن الكوني كآية الكرسي في القرآن الكريم.. وهو اكرم ضيف في قصر الكون.. وهو انشط موظف مأذون له بالتصرف في سكنة ذلك القصر.. وهو المأمور المكلف عن حرث مزرعة الارض والناظر المسؤول عن وارداتها ومصاريفها، بما جُهز من مئات العلوم والوف المؤهلات.. وهو خليفة
الشعاع الحادي عشر - ص: 273
الارض، والمفتش الباحث في مملكة الارض والمرسل من لدن سلطان الازل والابد والعامل تحت رقابته.. وهو المتصرف في شؤون الارض مع تسجيل كامل لأعماله بجزئياتها وكلياتها.. وهو عبد كليّ، مكلف بعبادة واسعة شاملة، والحامل للأمانة الكبرى التي أبت السموات والارض والجبال ان يحملنها، فانفرجت أمامه طريقان: احداهما للاشقياء، والاخرى للسعداء.. وهو الذي يعكس كالمرآة جميع تجليات الاسماء الحسنى ويتجلى فيه اسم الله الاعظم.. وهو المخاطب المقصود للخطاب السبحاني والاكثر فهماً للكلام الرباني.. وهو الاكثر فاقة وعجزاً من بين احياء الكون.. وهو الكائن الحي العاجز الفقير بلا حدود، مع أن له اعداء ومؤذيات بلا عد ومقاصد وآلاماً بلا حد.. وهو اغنى استعداداً من بين ذوي الحياة.. وهو اشد احساسا وشعوراً بالالم - ضمن لذة الحياة - حيث تمتزج لذاته بآلام منغّصة.. وهو أشد شوقاً الى البقاء واكثر حاجة الى الخلود، بل هو الأجدر به.. وهو الذي يتوسل لأجل البقاء والخلود بأدعية غير محدودة فلو اُعطي له ما في الدنيا من متع لما شفت غليله للخلود.. وهو الذي يحب الذي أنعم عليه حباً لحد العبادة، ويحببه للآخرين، وهو المحبوب ايضاً.. وهو اعظم معجزات القدرة الصمدانية بل هو اعجوبة الخلق لما انطوى فيه العالم الاكبر ولما تشهد جميع اجهزته بأنه مخلوق للسير قدما نحو الابدية والخلود.
فهذا الانسان الذي يرتبط بمثل هذه الحقائق العشرين الكلية باسم الله "الحق" والذي هو وثيق العلاقة باسم الله "الحفيظ" الذي لايعزب عنه شئ في السموات والارض، يرى ادنى حاجة لأصغر حيّ ويسمع نداء حاجته فيغيثه فيدوّن كتبتُه الكرام جميع اعمال هذا الانسان وافعاله المتعلقة بالكائنات.. فهذا الانسان - بحكم هذه الحقائق العشرين - لابد ان يكون له حشر ونشور، ولاريب انه سيكافأ - باسم الله الحق - على ما قدّم من خدمات واعمال، وسيجازى على ماقصّر فيها، ولاشبهة أنه سيساق الى المحاسبة والاستجواب عما دوّن من اعماله - باسم الحفيظ - جزئيها وكلّيها، ولاشك ان ستفتح امامه ابواب سعادة خالدة وضيافة ابدية، او ابواب سجون رهيبة وشقاء مقيم؛ وانه لايمكن الاّ يحاسب ويتوارى عن الانظار ضابط قاد اكثر مخلوقات هذا العالم وتدخّل في شؤونها، ولايمكن ألاّ ينبه من رقدته!
الشعاع الحادي عشر - ص: 274
لانه لايعقل قط ان يُسمع دعاءٌ اخفت من طنين الذباب ويُغاث فعلا بلوازم الحياة، ثم لايُسمع أدعية لها من القوة ما يهز العرش والفرش والتي تنطلق من تلك الحقائق العشرين وتسأل البقاء والخلود. ولايعقل قط بل هو خارج عن الامكان أن تُهدر وتُضيّع كلياً تلك الحقوق الكثيرة، بل لايمكن لحكمة لاعبث فيها قط - ولو بمقدار جناح ذبابة بشهادة انتظامها واتقانها - أن تعبث كلياً باستعدادات الانسان المرتبطة بها تلك الحقائق، وتعبث بجميع آماله ورغباته الممتدة الى الخلود، وتعبث بجميع تلك الروابط وحقائق الكائنات العديدة التي تنمي تلك الاستعدادات والرغبات، لأن هذا الاحتمال ظلم فظيع وقبح مشين ترده جميع الموجودات وترفضه قائلة: ان ذلك محال في محال بمائة وجه وممتنع مستحيل بآلاف الوجوه. بل تردّه جميع الموجودات الشاهدة على الاسماء الحسنى: "الحق" و "الحفيظ" و "الحكيم" و "الجميل" و "الرحيم".
وهكذا تجيبنا هذه الاسماء الحسنى "الحق" و"الحفيظ" و"الحكيم" و"الجميل" و"الرحيم"، عن سؤالنا حول الآخرة، فتخاطبنا تلك الاسماء قائلة: "ان الحشر حق لاريب فيه، وهو حقيقة راسخة لا مراء فيها، مثلما اننا حق ومثلما تشهد لنا حقيقة ثبوت الموجودات".
ولولا ان المسألة أوضح من الشمس لزدت بياناً، ولكني اختصرت مكتفياً بالامثلة المذكورة، وقياساً على ما في الفقرات السابقة؛ فان كل اسم من الاسماء الحسنى المائة بل الالف المتوجه الى الكون، يثبت مسمّاه سبحانه بداهة بتجلياته وبمراياه التي هي الموجودات، كما يظهر الحشر والدار الآخرة ويثبته اثباتاً قاطعاً.
ومثلما يجيبنا ربنا سبحانه وتعالى جواباً قدسياً وجازماً بجميع اوامره في جميع ما أنزل من كتب، وبجميع اسمائه التي سمّى بها نفسه، عن سؤالنا الذي سألناه، حول الآخرة، كذلك يجيبنا سبحانه بألسنة ملائكته ويعرّفنا الاخرة بنمط آخر، إذ تقول الملائكة:
"
هناك امارات ودلالات لاحدّ لها على وجودنا والعالم الروحاني، وقد جرت لقاءات ومكالمات وتعارف بينكم وبيننا وبين الروحانيين منذ زمن آدم عليه السلام،

الشعاع الحادي عشر - ص: 275
وهي حوادث يقينية متواترة لاتقبل الريب، ولقد ذكرنا ودوماً نذكر مانراه خلال تجوالنا في منازل الآخرة وصالاتها الى أنبيائكم اثناء لقائنا معهم: اننا نبشركم بشارة لاريب فيها من أن هذه الأروقة الدائمة وما وراءها من قصور خالدة ومنازل معدّة انما اعدّت لاستقبال ضيوف كرام مكرمين وهُيئت لقدومهم".
وبهذا يجيبنا الملائكة الكرام عن سؤالنا حول الآخرة.
ثم ان خالقنا الكريم قد عيّن لنا اعظم معلم.. وأكمل استاذ.. واصدق قدوة.. واقوم رائد.. ألا وهو محمد الهاشمي عليه افضل الصلاة والسلام. وقد ارسله خاتما للرسل الكرام عليهم السلام. فعلينا اذن - وقبل كل شئ - أن نسأل استاذنا ماسألناه من خالقنا عزّ وجل حول الآخرة لعلنا نتكامل في معرفتنا ونترقى من مرتبة علم اليقين الى عين اليقين والى حق اليقين، لان هذا النبي الحبيب الصادق المصدّق من لدن الخالق العليم بألف من المعجزات، مثلما انه معجزة القرآن الكريم، فاثبت للعالم اجمع، أنه كتاب رب العالمين لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد اصبح القرآن الكريم ايضاً معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم ودليلاً على انه الصادق المصدّق وانه رسول رب العالمين.
فكلتا المعجزتين - احداهما لسان عالم الشهادة ومعها تصديق جميع الانبياء عليهم السلام والاولياء، والاخرى لسان عالم الغيب المتضمن جميع الكتب السماوية وجميع حقائق الكون - قد اقامتا الحجج على حقيقة الحشر والنشور راسخة واضحة وضوح الشمس والنهار. بجميع حياة المعجزة الاولى وآلاف من آيات المعجزة الثانية.
حقاً ان مسألة الحشر والآخرة من المسائل التي هي فوق طاقة العقل وحدوده، ولاتفهم الا بتعليم هذين الاستاذين المعجزين "القرآن الكريم والرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم" وإرشادهما.
أما لِمَ لمْ يُوضح الانبياء السابقون عليهم السلام مسألة الحشر لأممهم كما هو واضح في القرآن الكريم ؟ فلأن عصورهم كانت عصور طفولة البشرية وبداوة الانسانية، والإيضاح يكون وجيزاً في الدروس الابتدائية كما هو معلوم.
الشعاع الحادي عشر - ص: 276
وصفوة القول:
ما دام اكثر الاسماء الحسنى تقتضي الآخرة وتدل عليها، فلابد أن الحجج والدلائل الدالة على الاسماء الحسنى هي بدورها دلائل على ثبوت الاخرة وقيامها..
ومادام الملائكة يخبرون عما يشاهدون من منازل الاخرة وعالم البقاء فلابد ان الدلائل الشاهدة على وجود الملائكة والعالم الروحاني وعباداتهم هي بدورها دلائل اثبات على العالم الآخر..
ومادام أهم ما أعلنه محمد صلى الله عليه وسلم خلال حياته المطهرة المباركة، واساس ما دعا اليه - بعد التوحيد - هو الآخرة، فلابد ان جميع المعجزات والحجج الدالة على نبوته وصدقه صلى الله عليه وسلم هي بدورها شاهدة على حقيقة مجئ الآخرة..
وما دام ربع القرآن الكريم يبحث عن الحشر والآخرة، ويقيم الدلائل عليه بآلاف من آياته ويخبر عنه، فلابد ان الشواهد والحجج والدلائل والبراهين الدالة كلها على أحقية القرآن هي بدورها شاهدة على تحقق الآخرة ودالة عليها.
وهكذا تأملوا في هذا الركن الايماني العظيم لتقدروا مدى قطعية "الايمان بالاخرة" ومدى ثبوته ورسوخه.
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 277
خلاصة المسألة الثامنة
لقد أردنا في "المسألة السابعة" ان نستوضح مسألة الحشر من مقامات كثيرة، الا ان جواب خالقنا باسمائه الحسنى كان شافياً ووافياً جدا؛ اورث اليقين الجازم والقناعة التامة، فأغنانا عن اي استفسار آخر. فاقتصرنا هناك على ذلك الاثبات.
اما في هذه المسألة فسنلخص واحدة من مئات الثمرات والفوائد والنتائج التي يحققها "الايمان بالآخرة" منها ما يعود الى سعادة الانسان في الآخرة، ومنها ما يعود الى سعادته في الدنيا.
اما ما يعود الى السعادة الاخروية فليس بعد ايضاح القرآن الكريم ايضاح آخر، فليرجع اليه، اما مايعود الى "السعادة الدنيوية" فتوضحه "رسائل النور" وسنبين هنا - بياناً موجزاً - بضع نتائج فقط من بين المئات من النتائج التي يحققها "الايمان بالآخرة" لإسعاد الانسان في حياته الشخصية والاجتماعية.
الثمرة الاولى:
كما أن الانسان - خلافاً للحيوان - ذو علاقة مع بيته، فهو ايضاً ذو ارتباط وثيق مع الدنيا. ومثلما انه مرتبط باقاربه بروابط ووشائج، فهو كذلك ذو نسب فطري بالجنس البشري. وكما انه يحب البقاء في الدنيا الفانية فهو يتوق الى بقائه في الدار الباقية. وكما أنه يسعى دائما لتأمين حاجات معدته الى الغذاء فهو مضطر بفطرته - بل يسعى - لتأمين الاغذية لعقله وقلبه وروحه وانسانيته وتناولها من الموائد الممتدة على سعة الدنيا، بل الممتدة الى الابد، لما له من آمال ومطاليب لايشبعها سوى السعادة الابدية. فلقد حدّثتُ خيالي في عهد صباي كما اشير اليه في رسالة "الحشر":
"
اي الأمرين تفضّل ؟ قضاء عمر سعيد يدوم ألف ألف سنة مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك الى العدم، أم وجوداً باقياً مع حياة اعتيادية شاقة ؟"

الشعاع الحادي عشر - ص: 278
فرأيته يرغب في الثانية ويضجر من الاولى، قائلاً:
"
انني لا أريد العدم بل البقاء ولو كان في جهنم !".
فمادام جميع لذائذ الدنيا لاتشبع الخيال، الذي هو احد خدام الماهية الانسانية، فلابد ان حقيقة الماهية الانسانية الجامعة الشاملة جدا مرتبطة فطرة بالخلود والبقاء.
فكم يكون "الايمان بالآخرة" اذاً كنزاً عظيما كافياً ووافياً لهذا الانسان الوثيق الصلة بهذه الرغبات والآمال التي لاتنتهي، وهو لايملك سوى جزءٍ من الاختيار الجزئي، ويتقلب في الفقر المطلق! وكم يكون هذا الايمان محوراً للسعادة المطلوبة واللذة المبتغاة ! وكم يكون مرجعاً ومدار استمدادٍ وسلوة له تجاه هموم الدنيا غير المحصورة ؟ فلو ضحى هذا الانسان بكل حياته الدنيا في سبيل الفوز بهذه الثمرات والفوائد لكانت اذن زهيدة !
الثمرة الثانية المتوجهة لحياة الانسان الشخصية:
ان ما يقلق الانسان دوما وينغّص حياته، هو تفكيره الدائم في مصيره، وكيفية دخوله القبر، مثلما انتهى اليه مصير أحبته وأقاربه. فتوهم الانسان المسكين - الذي يضحي بروحه لأجل صديق عزيز - وتصوّره من أن آلافا بل ملايين الملايين من اخوانه البشر ينتهون الى العدم بالموت - ذلك الفراق الابدي الذي لا لقاء وراءه - سيذيقه هذا التصور ألما شديدا ينبئ بآلام جهنم. وحينما يتلوى هذا الانسان من ألم ذلك العذاب الأليم النابع من ذلك التفكير، يأتي "الايمان بالآخرة" فاتحا بصيرته، مزيلا الغشاوة عن عينيه، قائلا له: انظر.. فينظر بنور الايمان، فاذا به يكسب لذة روحية عميقة تنبئ بلذة الجنة، بما يشاهد من نجاة أحبته وخلاصهم جميعا من الموت النهائي والفناء والبلى والاندثار، ومن بقائهم خالدين في عالم النور الابدي منتظرين قدومه اليهم. نقتصر على هذا حيث وضحت رسائل النور هذه النتيجة مع حججها.
الثمرة الثالثة التي تعود لعلاقات الانسان:
ان مقام الانسان الراقي وتفوقه على سائر الاحياء وامتيازه عليها انما هو لسجاياه السامية، ولأستعداداته الفطرية الجامعة، ولعبوديته الكلية، ولسعة دوائر وجوده، لذا فالانسان المنحصر في الحاضر فقط المنسلخ من الماضي، المبتوت الصلة بالمستقبل -

الشعاع الحادي عشر - ص: 279
وهما معدومان ميتان مظلمان بالنسبة له - هذا الانسان يكسب سجايا المروءة والمحبة والاخوة والانسانية على اساس حاضره الضيق، وتتحدد عنده على وفق مقاييسه وموازينه المحدودة، فيولي المحبة لأبيه او اخيه او زوجته او امته، ويقوم بخدمتهم على وفق تلك المقاييس الضيقة وكأنه لايعرفهم سابقاً ولن يراهم مستقبلاً فلا يرقى أبداً الى مرتبة الصدق في الوفاء، ولا الى مكانة الاخلاص في الصداقة، ولا الى درجة الود المصفى من الشوائب في المحبة، ولا الى الاحترام المبرأ من الغرض في الخدمة؛ لأن سعة تلك السجايا والكمالات قد تضاءلت وصغرت بالنسبة نفسها، وحينها يتردى الانسان الى درك أدنى الحيوانات عقلا.
ولكن ما ان يأتي "الايمان بالآخرة" الى هذا الانسان لينقذه ويمده ويغيثه، حتى يحول ذلك الزمن الضيق - الشبيه بالقبر - الى زمان فسيح واسع جدا بحيث يستوعب الماضي والمستقبل معا، فيريه وجودا واسعا بسعة الدنيا، بل بسعة تمتد من الازل الى الابد. وعندئذٍ يقوم هذا الانسان باحترام والده وتوقيره بمقتضى الابوة الممتدة الى دار السعادة وعالم الارواح، ويساعد اخاه ويعاونه - بذلك التفكير - بالاخوة الممتدة الى الابد، ويحب زوجته ويرفق بها ويعاونها لأنها أجمل رفيقة حياة له حتى في الجنة، ولايجعل هذه الدائرة الحياتية الواسعة الفسيحة - وما فيها من علاقات وخدمات مهمة - وسيلة لأمور تافهة دنيوية ولا لأغراضها الجزئية ومنافعها الزهيدة. لذا يظفر بالصداقة التامة، والوفاء الخالص، والاخلاص الاتم، في علاقاته وخدماته، فتبدأ كمالاته وخصاله بالسمو والرقي بالنسبة نفسها، وتتعالى انسانيته، ولكل حسب درجته..
فذلك الانسان الذي ما كان له ان يرقى الى مستوى عصفور في تذوقه الحياة، اصبح الآن - بفضل الايمان بالآخرة - ضيفا مرموقاً في الدنيا، وكائنا سعيدا، ومخلوقاً ممتازا فيها، يرقى فوق جميع الحيوانات، بل يصبح احب مخلوق، وأكرم عبد عند رب الكون ومالكه.
اكتفينا بهذا القدر في بيان هذه النتيجة حيث بيّنتها رسائل النور بحجج وبراهين.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 280
الفائدة الرابعة التي تتطلع الى الحياة الاجتماعية:
وهي التي وضحها "الشعاع التاسع" وخلاصتها هي:
ان "الاطفال" الذين يمثلون ربع البشرية، لايمكنهم ان يعيشوا عيشة انسان سوي ينطوي على نوازع انسانية الا بالايمان بالآخرة. اذ لولا هذا الايمان لاضطروا ان يقضوا حياة ملؤها الوقاحة والاضطراب والهموم الأليمة. فلا يهنأون بألعابهم ولايتسلّون بلُعبهم، لان الموت الذي يصيب من حولهم من الاطفال يؤثر بالغ التأثير في نفس كل طفل، وفي شعوره المرهف الرقيق، وفي قلبه الذي سينطوي في المستقبل على آمال ورغبات كثيرة، وفي روحه التي لاتستطيع الثبات فتصاب بالقلق والحيرة، حتى تصبح حياته وعقله، وسيلتَي عذاب له، فلا يجدي ما يتستر به من لهو ولعب نفعا قبل ان يجد لتساؤله وحيرته جوابا.. الا ان ارشاد "الايمان بالآخرة" يجعله يحاور نفسه على النحو الآتي:
"
ان صديقي - او أخي - الذي توفي قد اصبح الآن طيراً من طيور الجنة، فهو اكثر منا أنساً وانطلاقاً وتجوالا. وان والدتي - وان توفيت - الا انها مضت الى الرحمة الإلهية الواسعة، وستضمني ايضا الى صدرها الحنون في الجنة، فأرى تلك الوالدة الشفيقة". وبهذا يمكنه ان يعيش هادئاً مطمئناً عيشا يليق بالانسان.
وكذا "الشيوخ" الذين يمثلون ربع البشرية، فانهم لايرون السلوان حيال انطفاء حياتهم قريبا، ودخولهم تحت التراب، وقد أوصدت الدنيا الجميلة الحلوة ابوابها في وجوههم الا بـ"الايمان بالآخرة". اذ لولا هذا الايمان لتجرع اولئك الآباء المحترمون الرحماء، وتلك الامهات الفدائيات الشفيقات الويل تلو الويل، ولباتوا في حالة نفسية تعسة جدا، وفي قلق قلبي عنيف ولأصبحت الدنيا تضيق عليهم كالسجن، ولغدت الحياة نفسها عذابا مقيما لايطاق. بينما الايمان بالآخرة يهتف بهم قائلاً:

"
لاتغتموا أيها الشيوخ ولاتبالوا كثيرا، فان لكم شبابا خالدا وهو امامكم وسيأتي حتما. وان حياة ساطعة بهيجة، وعمرا مديدا أبدياً في انتظاركم، وستلتقون اولادكم واقاربكم الذين فقدتموهم، وجميع حسناتكم محفوظة وستأخذون ثوابها.." وهكذا يمنح "الايمان بالآخرة" سلواناً وانشراحاً لهم، بحيث لو حمل احدهم اثقال مائة شيخوخة لتحملها صابرا في انتظار ما سيعقبها من حياة اخروية سعيدة.

الشعاع الحادي عشر - ص: 281
وكذا "الشباب" الذين يمثلون ثلث البشرية، قد لايصغون لصوت عقولهم الجريئة. فرغباتهم وهواهم في ثورة وجيشان، وهم مغلوبون على امر حواسهم ونوازعهم، فاذا ما فقد هؤلاء الشباب "الايمان بالآخرة" ولم يتذكروا عذاب جهنم، فان اموال الناس وأعراضهم وراحة الضعفاء وكرامة الشيوخ تصبح مهددة بالخطر، اذ قد يدمر احدهم سعادة بيت آمن هنئ لأجل لذة طارئة، ومن ثم يذوق وبال أمره عذابا لسنين عديدة في مثل هذه السجون فيتحول الى ما يشبه الحيوان الكاسر.
ولكن اذا أمده "الايمان بالآخرة" واغاثه، فسرعان ما يسترجع صوابه ويسترشد بعقله، ويخاطب نفسه قائلا:
"
على الرغم من ان شرطة الحكومة وعيونها لايمكنهم رؤيتي لكوني في خفاء عنهم، فان ملائكة السلطان الاعظم ذي الجلال الذي يملك سجن جهنم ذلك السجن الاكبر الدائم يسجلون علىّ سيئاتي.. فأنا اذن لست طليقا مفلوت الزمام، بل أنا ضيف عابر ذو مهمة.. وسأكون - لامحالة - في يوم ما ضعيفا وشيخا مثلهم". فتترشح قطرات الرحمة والرأفة والشفقة - عندئذٍ - من اعماق قلبه، ويشعر بالاحترام لاولئك الذين كان يريد ان يتعدى على حقوقهم ظلما. وحيث ان رسائل النور قد وضحت هذا المعنى، نقتصر على هذا القدر.
وكذلك "المرضى والمظلومون وامثالنا من ذوي المصائب والفقراء والمساجين" الذين حوكموا بعقوبات مشددة، كل هؤلاء يمثلون الجزء الأهم من البشرية، فان لم يُعنهمْ "الايمان بالآخرة" وان لم يتسلوا به فان الموت الذي يجدونه امامهم دائما بما عندهم من مرض، وأن الاهانة التي يرونها من الظلمة - دون ان يتمكنوا من الاقتصاص منهم ولامن انقاذ شرفهم وكرامتهم من بين مخالبهم - وان اليأس الأليم النابع مما اصاب أموالهم وأولادهم من الضياع في الكوارث، وان الضيق الشديد الناشئ من آلام السجن وعذابه لسنوات عدة نتيجة لذة طارئة لاتستغرق دقائق او ساعات.. كل ذلك يصيّر الدنيا - بلا ريب - سجنا كبيراً لهؤلاء المنكوبين ويجعل الحياة نفسها عذابا أليما لهم ! ولكن ما ان يَمدّهم الايمان بالآخرة بالعزاء والسلوان الا وينشرحون فورا، ويتنفسون الصعداء، لما يزيل عنهم من الضيق واليأس والقلق والاضطراب وسَورة الثأر ازالة كلية او جزئية كلٌ حسب درجات ايمانه.

الشعاع الحادي عشر - ص: 282
حتى يمكنني القول انه: لولا الايمان بالآخرة الذي امدّني واخواني في مصيبتنا الرهيبة ودخولنا السجن هذا - دون ذنب اقترفناه - لكان تحمّل مرارة يوم واحد من ايام العذاب كالموت نفسه، ولساقتنا هذه المصيبة الى ترك الحياة ونبذها. ولكن شكراً لله - بلا عد ولاحد - ان جعلني أتحمل آلام كثير من اخواني الذين هم أحب اليّ من نفسي وأتحمل ضياع آلاف من رسائل النور التي هي أعزّ من عيوني، واتحمل فقدان كثير من مجلداتي الزاهية الثمينة جداً.. فأتحمل كل هذا الحزن والاسى بذلك "الايمان بالآخرة" رغم انني ما كنت أتحمل أية إهانة وتحكّم من احدٍ مهما كان، فاني اقسم لكم - لتطمئنوا - ان نور الايمان بالآخرة وقوته قد منحني صبرا وجلدا وعزاء وتسلية، وصلابة وشوقا للفوز بثواب جهاد عظيم في هذا الامتحان الى حدّ بتّ أعدّ نفسي في مدرسة كلها خير وجمال. وحقٌ أن تطلق عليها "المدرسة اليوسفية" كما ذكرته في مستهل هذه الرسالة، فلولا المرض الذي كان ينتابني احيانا، ولولا الحدة الحاصلة من الكهولة لكنت اسعى بجد اكثر لأتلقى دروسي في هذه المدرسة مع ما أحمله من اطمئنان وسكينة قلب.. على كل حال فقد خرجنا عن الصدد ارجو العفو عن هذا الاستطراد.
وكذلك فان "بيت كل انسان" هو دنياه الصغيرة بل جنته المصغرة فان لم يكن "الايمان بالآخرة" حاكما ومهيمنا في سعادة هذا البيت لوجد كل فرد من افراد تلك العائلة اضطرابا اليما، وعذابا شديدا في علاقة بعضهم ببعض حسب درجات رأفته ومحبته لهم فتتحول تلك الجنة الى جحيم لايطاق، وقد يخدر عقله باللهو والسفه المؤقت فيكون مَثَلهُ في هذا كمثل النعامة اذا رأت الصياد تخفي رأسها في الرمل كيلا يراها الصياد وهي عاجزة عن الفرار والطيران، فهو كذلك يغمر رأسه في الغفلة، لئلا يراه الموت والزوال والفراق، ملغيا شعوره موقتا ببلاهة، وكأنه وجد علاجا لما يُعانيه !
فالوالدة مثلا - التي تضحي بنفسها لأجل ولدها - كلما رأت ابنها يتعرض للخطر ارتعشت هلعا وخوفا عليه. والاولاد كذلك عندما لايستطيعون انقاذ ابائهم أو اخوانهم من المصائب التي لاتنقطع، يظلون في قلق دائم ويحسون خوفا مستمرا. فقياسا على هذا فان حياة تلك العائلة، التي يُظن انها حياة سعيدة، تفقد سعادتها في هذه الدنيا المضطربة الزائلة حيث لاتعطي الرابطة بين الافراد، ولاعلاقة القربى فيما
الشعاع الحادي عشر - ص: 283
بينهم - ضمن حياة قصيرة جدا - الصداقة الحقيقية والوفاء الخالص والاخلاص الكامل، والخدمة والمحبة الصافيين، بل تتصاغر الاخلاق وتنكمش بنسبة قصر الحياة نفسها، وربما تسقط وتنعدم كليا.
ولكن ما ان يحل "الايمان بالآخرة" في ذلك البيت حتى ينور ارجاءه مباشرة ويستضئ، لان علاقة القربى والرأفة والمحبة التي تربطهم لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جدا، بل تقاس على وفق علاقات تمتد الى خلودهم وبقائهم في دار الآخرة والسعادة الابدية، فيقوم - عندئذ - كلُ فرد باحترام خالص تجاه الآخرين، ويوليهم محبة صافية، ويظهر رأفة صادقة، ويبدي صداقة وفية، صارفاً النظر عن التقصيرات. فتتعالى الاخلاق وتسمو، وتبدأ السعادة الانسانية الحقة بالتألق في ذلك البيت.
وقد بين هذا المضمون في رسائل النور. اكتفينا هنا بما سلف.
وهكذا فان كل "مدينة" هي بحد ذاتها بيت واسع لسكنتها. فان لم يكن "الايمان بالآخرة" مسيطراً على أفراد هذه العائلة الكبيرة فسيستولى عليهم الحقد والمنافع الشخصية والاحتيال والانانية والتكلف والرياء والرشوة والخداع، بدلاً من أسس الاخلاق الحميدة التي هي الاخلاص والمروءة والفضيلة والمحبة والتضحية ورضى الله والثواب الاخروي. وكانت معاني الارهاب والفوضى والوحشية حاكمة ومسيطرة تحت اسم النظام والأمن والانسانية التي يظهرونها، وحينئذ تتسمم حياة تلك المدينة، فيتصف الاطفال بالوقاحة والاهمال، والشباب بالسُكر والعربدة، والاقوياء بالظلم والتجاوز، والشيوخ بالبكاء والأنين.
وقياساً على هذا فان "البلاد" بأكملها ما هي الاّ بيت واسع جداً. والوطن بيت عائلة الامة. فاذا ما حكم "الايمان بالآخرة" هذه البيوت وسيطر، فان الفضائل تتكشف وتنبسط وتتوضح فيها فتظهر الاحترام المتبادل والرحمة الجادة، والمحبة الخالصة بلا عوض، والمعاونة مع الخدمة الحقة بلا احتيال، والمعاشرة والاحسان بلا رياء، والفضيلة والتوقير بلا استكبار، وتشيع الفضائل الاخرى جميعاً ؛ حيث يهتف الايمان بالآخرة بأولئك الاطفال قائلا لهم: "دعوا الوقاحة والاهمال فقدامكم جنة النعيم فلا تشغلوا انفسكم عنها بالألاعيب". فيمكّن الاخلاق عندهم بارشاد القرآن الكريم.
الشعاع الحادي عشر - ص: 284
ويخاطب الشباب: "ان امامكم نار جهنم فانتهوا من السكر والعربدة". ويجعلهم يثوبون الى رشدهم.
ويخاطب الظالم: "احذر فان عذابا شديداً سيحلّ بك" فيردعه عن الظلم ويجعله يرضخ للعدالة.
ويخاطب الشيوخ: "أبشروا فان امامكم شبابا خالدا ذا نضارة، وفي انتظاركم سعادة اخروية دائمة باقية، هي اسمى مما فقدتموه من انواع السعادة واعلى منها فهلموا واسعوا للفوز بها". فيحول بكاءهم الى بهجة وفرح.
وقياسا على هذا، فان "الايمان بالآخرة" يبين تأثيره الطيب ويرسل شعاع نوره الى كل طائفة، جزئيها وكلّيها عامها وخاصها قليلها وكثيرها.
فلترن آذان الاجتماعيين والاخلاقيين من المعنيين بشؤون الانسان !.
واذا قيس على ما ذكرناه آنفا من فوائد الايمان بالآخرة ما بقى من الفوائد فسيفهم بوضوح وبشكل قاطع ان محور السعادة في الدارين وفي كلتا الحياتين انما هو الايمان وحده.
* * *
ولقد جاءت في "الكلمة الثامنة والعشرين" وفي رسائل النور الاخرى اجوبة قوية جدا رداً على شبهات تافهة حول: "الحشر الجسماني" - البعث الجسدي - نكتفي بها، الا اننا نشير اليها هنا اشارة مختصرة وقصيرة جداً ، فنقول:
ان اكثر الاسماء الإلهية الحسنى تتجلّى في الجسمانية فهي اجمع مرآة لها.
وان اقصى المقاصد الإلهية من خلق الكائنات تظهر في الجسمانية، فهي أغنى مركز لتلك المقاصد واكثرها فعالية.
وان اكثر انواع الاحسانات الربانية المختلفة وآلاءها العميمة تتبين في الجسمانية.
وان اغلب بذور الادعية التي يرفعها الانسان بلسان حاجاته، واكثر اصول الشكر والحمد المقدّم منه الى خالقه الرحيم نابعة من الجسمانية.
وان ازيد النوى تنوعاً لعوالم المعنويات والروحانيات هي كذلك تكمن في الجسمانية.
الشعاع الحادي عشر - ص: 285
فقياسا على هذا:
ان الجسمانية تتمركز فيها مئات من الحقائق الكلّية، لذا فان الخالق الكريم يكثّر من الجسمانية ويزيدها على سطح الارض كي تتجلّى فيها تلك الحقائق المذكورة، فيهب للموجودات وجوداً بسرعة متناهية وبفعالية مدهشة، قافلة إثر قافلة مرسلاً اياها الى معرض العالم هذا، ثم يُنهي خدماتها ويبعث عقبها موجودات اخرى باستمرار. وهكذا يجعل ماكنة الكائنات في عمل دائب وشغل دائم، ناسجاً محاصيل جسمانية على الارض، جاعلاً الارض مزرعة الآخرة ومشتل الجنة حتى أنه سبحانه لأجل ان يُطمئن معدة الانسان (الجسمانية) ويجعلها في امتنان ورضى يَسمع دعاءها الذي ترفعه بلسان الحال، لأجل بقائها، ويستجيب له فعلاً، بما يخلق ما لايحصر ولايحصى من المطعومات اللذيذة المتقنة الصنع، وبايجاده النعم النفيسة بمئات الآلاف من الانماط والانواع، مما يظهر بداهة وبلا ريب ان اغلب انواع اللذائذ المادية المحسوسة في الجنة انما هي جسمانية. وان أهم نعم السعادة الابدية التي يطلبها الجميع ويأنس بها إنما هي في الجسمانية ايضاً.
فيا تُرى هل يمكن وهل يعقل وهل هناك احتمال قط أن يقبل القدير الرحيم والعليم الكريم دوما دعاء لسان حال المعدة البسيطة لإستبقائها، ويستجيب لها قصدا وفعلا - دونما تدخّل للمصادفة - بما يخلق لها من أغذية مادية محسوسة في منتهى الاتقان والاعجاز، فيرضى بها تلك المعدة، ثم لايقبل سبحانه أدعية عامة ودعوات غير نهائية ترفعها المعدة الانسانية الكبرى وفطرتها الاصيلة، ولاتغدق عليها لذائذ جسمانية في الآخرة، تلك التي تأنس بها وترجوها فطرةً بل تريدها في دار الخلود ؟ وهل يمكن الاّ يلبي تلك الادعية فعلا ولا ينجز الحشر الجسماني ؟! ولا يُرضي هذا الانسان الذي هو نتيجة الكائنات وخليفة الارض، والعبد المعزز المكرم رضاءً أبديا ؟ كلا.. ثم كلا!.. فهذا محال في مائة محال بل باطل كليا، اذ كيف يسمع طنين الذباب ولايسمع رعود السماء، وكيف يراعي عدّة الجندي البسيط ولايبالي بالجيش العظيم! فتعالى الله عن ذلك علوا ً كبيراً.
نعم، ان الصراحة القاطعة للآية الكريمة:
الشعاع الحادي عشر - ص: 286
(وفيها ما تَشتهيه الأنفس وتلذّ الاعين) (الزخرف:71) تبين ان اكثر ما يأنس الانسان به من اللذائذ المادية المحسوسة - والذي يتذوق نماذجها في الدنيا - سيراها ويتذوقها بصورتها اللائقة بالجنة. وان ثواب ما يؤديه اللسان والعين والاذن وسائر الاعضاء والجوارح من الشكر الخالص والعبادات الخاصة سيمنح لها بتلك اللذائذ الجسمانية المخصوصة بها. فبيان القرآن الكريم للذائذ الجسمانية صريح في غاية الصراحة، بحيث لايمكن ان يتحمل اي تأويل يصرفه عن المعنى الظاهري، بل يمتنع عدم قبول المعنى الظاهري.
وهكذا تُظهر ثمراتُ الايمان بالآخرة ونتائجُه أنه مثلما تدل حقيقة معدة الانسان وحاجاتها دلالة قاطعة على وجود الاطعمة، فان حقيقة الانسان وكمالاته وحاجاته الفطرية وآماله الابدية وحقائقه واستعداداته تتطلب النتائج والفوائد المذكورة للايمان بالآخرة، وتدل قطعا على الآخرة وعلى الجنة وعلى لذائذ مادية محسوسة باقية، وتشهد على تحققها. وان حقيقة كمالات هذا الكون ايضا وآياته التكوينية الحكيمة وجميع حقائقه المرتبطة بالحقائق الانسانية تدل دلالة قاطعة ايضا على وجود الآخرة وعلى تحققها وتشهد شهادة صادقة على مجئ الحشر وانفتاح ابواب الجنة والنار. ولما كانت رسائل النور قد أثبتت هذه المسألة بصورة رائعة وبحجج قوية جدا دون أن تترك غبارا للشبهة، ولاسيما الكلمة العاشرة والثامنة والعشرون - بمقاميها - والتاسعة والعشرون، والشعاع التاسع، ورسالة المناجاة، فاننا سنكتفي بها.
* * *
ان بيان القرآن الكريم فيما يخص جهنم واضح جلي لم يدع مجالا لأي ايضاح آخر، الا اننا سنبين باختصار شديد ما يزيل بضع شبهات تافهة في نكتتين، محيلين تفاصيلها الى رسائل النور:
النكتة الاولـى:
ان التفكير في جهنم والخوف منها لايزيل لذائذ ثمرات الايمان المذكورة ولايفوّتها، لان الرحمة الربانية الواسعة تهتف بذلك الخائف: "تعالَ اليّ فدونك باب التوبة ادخل منه". فان وجود جهنم ليس للتخويف، بل ليعّرفك لذائذ الجنة معرفة
الشعاع الحادي عشر - ص: 287
كاملة، وليذيقك اياها تذوقا كاملا، وليأخذ لك ولمخلوقات غير محدودة الثأر والانتقام ممن انتهك حقوق الجميع واعتدى عليها، وليفرحهم جميعا بهذا ويدخل السرور اليهم.
فيا غارقاً في الضلالة - وليس بمستطيع ان يخرج منها - ان وجود جهنم لهو افضل لك من العدم الابدي، إذ في وجودها نوع من الرحمة حتى للكفار انفسهم، لان الانسان - والحيوانات الولودة - يستمتع بتمتع اقاربه واولاده واحبابه ويسعد - من جهة - بسعادتهم. فيا ايها الملحد! إما انك ستسقط في هاوية العدم - باعتبار ضلالتك - او ستدخل نار جهنم. ولما كان العدم شراً محضا، فان الاعدام النهائي لاحبابك جميعا وممن تسعد بسعادتهم من أقاربك وأبائك ونسلك، سيحرق روحك ويعذب قلبك ويؤلم ماهيتك الانسانية اكثر من عذاب جهنم بألف مرّة؛ لأنه لو لم تكن جهنم لما كانت هناك جنة ايضا. فيسقط كل شئ اذن بكفرك الى العدم. ولكن اذا دخلت جهنم وبقيت ضمن دائرة الوجود، فان احبابك واقاربك اما انهم سيسعدون في الجنة او انهم يكونون ضمن دوائر وجود تحت رحمة الله سبحانه. فلا مناص لك إلاّ ان تقبل بوجود جهنم، اذ العداء لوجودها - ورفضه - يعني الانحياز الى العدم المحض، الذي هو ابادة سعادة جميع الاحبة والاصدقاء وافناؤهم!.
نعم ان جهنم دار وجود تؤدي مهمة السجن بحكمة الحكيم الجليل وعدالته، وهي موضع مرعب ومهيب ضمن دائرة الوجود الذي هو الخير المحض، زد على ذلك لها وظائف اخرى وخدمات جليلة، وحكمٌ شتى تخص عالم البقاء. فهي مسكن ذو جلال وهيبة لكثير من ذوي الحياة أمثال الزبانية.
النكتة الثانية:
ان وجود جهنم وعذابها الشديد لاينافي قطعاً الرحمة غير المحدودة، ولا العدالة الحقيقية، ولا الحكمة الموزونة التي لا اسراف فيها، بل ان الرحمة والعدالة والحكمة تتطلب وجود جهنم وتقتضيه، لأن قتل حيوان افترس مائة من الحيوانات او انزال عقاب بظالم هتك حرمات ألفٍ من الابرياء، هو رحمة بآلاف الاضعاف للمظلومين من خلال العدالة. وان اعفاء ذلك الظالم من العقاب او التجاوز عنه، وترك ذلك
الشعاع الحادي عشر - ص: 288
الحيوان الوحشي طليقا، فيه ظلم شنيع وعدم رحمةٍ لمئات المساكين بمئات الاضعاف، ازاء رحمة في غير موضعها. ومثل هذا ايضا، الكافر المطلق - الذي يدخل سجن جهنم - فانه بكفره ينكر حقوق الاسماء الإلهية الحسنى، اي يتعدى على تلك الحقوق.. وبتكذيبه لشهادة الموجودات - الشاهدة على تلك الاسماء - يتعدى على حقوقها ايضا.. وبانكاره للوظائف السامية للمخلوقات - وهي تسبيحاتها تجاه الاسماء - يتجاوز على حقوقها.. وبجحوده لانواع العبادات التي تؤديها المخلوقات تجاه تظاهر الربوبية والالوهية - وهي غاية خلقتها وسبب من اسباب وجودها وبقائها - يتعدى تعديا صارخا على حقوق جميع المخلوقات؛ لذا فالكفر جناية عظيمة وظلم شنيع تتجاوز بشاعته كل حدود العفو والمغفرة، فيحق عليه اذن تهديد الآية الكريمة (إن الله لايَغفِرُ أن يُشرَكَ به..) (النساء: 48) بل ان عدم القاء مثل هذا الشخص في جهنم رحمةً به هو أمر ينافي الرحمة منافاة كلية في حق هذه الاعداد الهائلة من المخلوقات والكائنات التي اُنتهكت حقوقها.
وهكذا مثلما يطالب اصحاب الدعاوي بوجود جهنم، فان عزة جلال الله وعظمة كماله سبحانه تطلبانها قطعا.
نعم، اذا قال سفيه او شقي عاص لحاكم عزيز للبلاد: "انك لاتستطيع ان تقذفني في السجن ولن تقدر على ذلك ابداً". متجاوزاً حده ومتعديا على عزة ذلك الحاكم وعظمته، فلابد أن ذلك الحاكم سينشئ سجنا لذلك السفيه المتعدي حتى لو لم يكن هناك سجن في البلاد. كذلك الامر في الكافر المطلق، فانه بكفره يتعدى بشدة على عزة جلاله سبحانه، وبانكاره يتحدى عظمة قدرته، وبتجاوزه يمس كمال ربوبيته، فان لم يكن هناك حتى تلك الاسباب الموجبة وتلك المبررات الكثيرة والحكم العديدة والوظائف الكثيرة لجهنم ولوجودها؛ فان خلق جهنم لمثل هؤلاء الكفار والقاءهم فيها هو من شأن تلك العزة وذلك الجلال.
ثم إن ماهية الكفر نفسها توحي بجهنم؛ اذ كما أن ماهية الايمان اذا تجسمت يمكن ان تبني بلذائذها ونعيم جمالها جنة خاصة في وجدان الانسان وقلبه، هي جنة مصغرة تومئ وتخبر عن جنة الخلد التي تنتظره في الآخرة، كذلك الكفر - ولاسيما الكفر المطلق - والنفاق والردة فيه من الآلام والاعذبة والظلمات المرعبة بحيث لو تجسمت وتأصلت في نفس صاحبها كونت له جهنمه الخاصة به تلك التي تشير الى
الشعاع الحادي عشر - ص: 289
ما سيفضي اليه في آخرته من جهنم هي اشد هولاً وأشد عذاباً. ولقد اثبتنا هذا بدلائل قاطعة في رسائل النور، واشير اليه في مستهل هذه المسألة ايضاً.
ولما كانت هذه الدنيا مزرعة الآخرة، فالحقائق الصغيرة التي فيها تثمر وتتسنبل في الآخرة، فهذه البذرة السامة (الكفر) تشير من هذه الزاوية الى شجرة الزقوم تلك، وتقول: "أنا اصل تلك الشجرة وجوهرها.. فمن يحملني في قلبه من المنكوبين سأثمر له نموذجا خاصا من تلك الشجرة الملعونة".
وما دام الكفر تعديا على حقوق غير محدودة، وتجاوزا فاضحا، فهو اذن جناية غير محدودة، لذا يجعل صاحبه مستحقا لعذاب غير محدود. فلئن كان القتل الذي يحدث في دقيقة واحدة يذيق القاتل خمس عشرة سنة من العذاب (ما يقارب ثمانية ملايين دقيقة) ويعتبر ذلك موافقا للعدالة البشرية، وعدّته موافقا للمصلحة العامة وحقوقها، فلا جرم أن دقيقة واحدة من الكفر المطلق - على اعتبار الكفر ألف قتل - تقابل إذن بعذاب يقرب من ثمانية مليارات من الدقائق، على وفق تلك العدالة الانسانية فالذي يقضي سنة كاملة من عمره في الكفر اذاً يستحق عذاب ترليونين وثمانمائة وثمانين مليارا من الدقائق، اي يكون اهلا لـ:
(خالدين فيها أبداً) (النساء: 169).
هذا وان الاسلوب المعجز للقرآن الكريم في بيانه الجنة والنار وما في رسائل النور - التي هي فيض منه وتفسيره - من حجج حول وجودهما، لم يتركا مجالا لأي ايضاح آخر. فآيات كثيرة جدا أمثال: (ويتفكّرونَ في خلقِ السّموات والأرض رَبَّنا ما خَلقتَ هذا باطلاً سُبحانكَ فقِنا عَذابَ النار) (آل عمران: 190)
(رَبَّنا اصرف عَنا عَذابَ جَهَنَّمَ ان عَذابَها كانَ غَراماً_ انَّها سَاءت مُستَقراً ومُقاما) (الفرقان: 65، 66). واغلب ما كان يردده الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم في ادعيته في كل وقت، والانبياء عليهم السلام واهل الحقيقة من:(أجرنا من النار)..(نجنا من النار).. (خلصنا من النار )... الذي حاز عندهم قطعية تامة بناء على الوحي المشهود..كل ذلك يبين لنا ان اعظم قضية للبشرية على الارض انما هي النجاة من النار، وان اعظم حقيقة وادهشها من حقائق الكائنات، بل اكثرها اهمية انما هي "جهنم" التي يشهدها
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 290
قسم من اولئك المحققين واهل الشهود والكشف، ويرى آخرون ألسنة لهيبها وظلمة سوادها، ويسمع بعضهم أزيز تضرمها وفورانها فيصرخون من هولها "اجرنا من النار".
نعم ! ان تقابل الخير والشر في هذا الكون، واللذة والألم، والنور والظلام، والحرارة والبرودة، والجمال والقبح، والهداية والضلالة، وتداخل بعضها ببعض، انما هي لحكمة كبرى، لأنه ما لم يكن هناك الشر فلا يفهم الخير، وما لم يكن هناك الالم فلا تُعرف اللذة، والضياء من دون ظلام ازاءه لايبين جماله، ودرجات الحرارة تتحقق بوجود البرودة، وتصبح حقيقة واحدة من الجمال ألفاً من الحقائق بوجود القبح، بل يكتسب آلافا من انواع الجمال ومراتب الحسن. ويختفي الكثير من لذائذ الجنة بعدم وجود جهنم. فقياسا على هذا يمكن ان يعرف كل شئ من جهة بضده، وبوجود الضد يمكن ان تثمر حقيقة واحدة حقائق عدة.
فما دامت هذه الموجودات المختلطة تسيل سيلا من دار الفناء الى دار البقاء. فلابد ان الخير واللذة والنور والجمال والايمان وامثالها تسيل الى الجنة، ويتساقط الشر والالم والظلام والقبح والكفر وامثالها من الامور المضرة الى جهنم. فتسيل سيول هذه الكائنات المتلاطمة دائما الى ذينك الحوضين وتهدأ ساكنة عندهما نهاية المطاف.
نكتفي بهذا القدر ونحيل الى ما جاء في نهاية (الكلمة التاسعة والعشرين) من نكات رمزية.
* * *
يازملاء الدراسة في هذه المدرسة اليوسفية!
ان السبيل اليسيرة للنجاة من السجن الابدي المرعب (جهنم) انما هي في اغتنامنا فرصة بقائنا في السجن الدنيوي، هذا الذي قصّر أيدينا عن كثير من الآثام فأنقذنا منها. فما علينا اذن الا الاستغفار والتوبة عما اقترفناه من ذنوب سابقة، مع أداء للفرائض، كي نحول كل ساعة من ساعات هذا السجن بحكم يوم من العبادة فهي اذن أفضل فرصة لنا للنجاة من السجن الابدي ولدخولنا الجنة النورانية. فلئن فاتتنا هذه الفرصة فسنغرق آخرتنا بالعبرات كما هي حال دنيانا، ويحق علينا قوله تعالى: (خَسرَ الدنيا والآخرة) (الحج :11).
الشعاع الحادي عشر - ص: 291
كانت اصوات تكبيرة عيد الاضحى المبارك تتعالى حينما كان هذا البحث يُكتب، فذهب بي الخيال الى أن خُمس البشرية يرددون (الله اكبر)، وأن أكثر من ثلاثمائة مليون مسلم يرددونه معا، فكأن صوت (الله اكبر) يتعالى بكبر كرة الارض وبسعتها فتُسمع الارضُ أخواتها الكواكب السيارة هذه الكلمة المقدسة في ارجاء السماوات. وهناك اكثر من عشرين ألفا من الحجاج في عرفة والعيد يرددون معا صدى ما قاله الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم قبل الف وثلاثمائة سنة مع الآل والاصحاب الكرام وأمر به. فأحسست إحساسا كاملا، بل اقتنعت قناعة تامة أن تلك الاصداء والاصوات والترديدات انما هي عبودية واسعة كلية تقابل تجلي الربوبية الإلهية الكلية بعظمة "رب الارض" "رب العالمين".
ثم سألت نفسي: تُرى ما وجه العلاقة بين الآخرة وهذه الكلمة المقدسة (الله اكبر)؟ فتذكرت فوراً أن هذه الكلمة مع الكلمات الطيبات الباقيات الصالحات (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله) وأمثالها من كلمات شعائر الاسلام تذكّر - بلا شك - بالآخرة سواء بصورة جزئية او كلية وتشير الى تحققها.
ان أحد اوجه معاني (الله اكبر) هو: ان قدرة الله وعلمه هي فوق كل شئ واكبر واعظم من كل شئ، فلن يخرج اي شئ كان من دائرة علمه، ولن يهرب من تصرفه وقدرته، ولن يفلت منها قطعا، فهو سبحانه اكبر من كل كبير نخافه ونستعظمه. أي اكبر من ايجاد الحشر - الذي نستهوله - واكبر من انقاذنا من العدم، واكبر من منحنا السعادة الابدية. فهو اكبر من اي شئ نعجب به ومن اي شئ خارج نطاق عقلنا اذ يقول سبحانه: (ما خَلقُكم ولا بعثُكم إلاّ كَنَفسٍ واحدة) (لقمان: 28). فصراحة هذه الآية الكريمة تبين ان حشر البشرية ونشرهم جميعا سهل وهيّن على القدرة الإلهية كايجاد نفس واحدة، فلاعجب ان يجري مجرى الامثال قول الانسان: (الله اكبر، الله اكبر) كلما رأى شيئا عظيما، او مصيبة كبرى، او غاية عظمى، مسلياً بها نفسه جاعلاً من هذه الكلمة العظيمة قوة عظيمة يستند اليها. نعم! ان هذه الكلمة مع قرينتها (سبحان الله والحمد لله) فهرس جميع العبادات وبذور الصلاة وخلاصتها (كما جاءت في الكلمة التاسعة) فتكرار هذه الكلمات وهي حقائق عظمى ثلاث في الصلاة وفي أذكارها انما هو لتقوية معنى الصلاة وتعميقه وترسيخه. وهي اجابة قاطعة للاسئلة التي تنشأ من التعجب واللذة والهيبة التي تأخذ بأقطار نفس الانسان
الشعاع الحادي عشر - ص: 292
حينما يشاهد الكون ويرى مايثيره ويحيره ومايسوقه الى الشكران وما هو مدار العظمة والكبرياء من أمور عجيبة وجميلة وعظيمة ووفيرة وما هو فوق ما اعتاده.
نعم! ان الجندي يدخل الى حضرة السلطان وديوانه في العيد بمثل دخول القائد العام اليه، بينما في سائر الايام يعرف سلطانه من رتبة الضابط ومن مقامه - كما جاء في ختام الكلمة السادسة والعشرون - فكل شخص في الحج كذلك يبدأ بمعرفة مولاه الحق سبحانه وتعالى باسم ( رب الارض ورب العالمين ) معرفة أشبه مايكون بمعرفة الاولياء الصالحين. فكلما تفتحت مراتب الكبرياء والعظمة الإلهية في حنايا قلبه اجاب بـ(الله اكبر) لما تستولي على روحه من اسئلة مكررة ملحة محيرة، فـ(الله اكبر) هو الجواب القاطع لدابر أهم دسائس الشيطان، كما جاء في اللمعة الثالثة عشرة.
نعم ! فكما ان هذه الكلمة (الله اكبر) تجيب عن سؤالنا حول الاخرة اجابة قصيرة وقوية في ذات الوقت، فان جملة (الحمد لله) هي الاخرى تذكّر بالحشر وتستدعيه. اذ تقول لنا: "لايتم معناي دون الآخرة" لان معناي يفيد: (كل حمد او شكر يصدر من اي حامد ويقع على اي محمود كان، ابتداءً من الازل الى الابد، هو خاص به سبحانه) ولان السعادة الابدية هي اصل جميع النعم وذروتها، وهي التي تحيل النعم نعماً حقيقية لاتزول ولاتحول، وهي التي تنقذ جميع ذوي الشعور من مصائب العدم وتخلصهم منها، لذا فهي وحدها يمكن ان تقابل معناي الكلي.
نعم ان ترديد كل مؤمن يوميا عقب الصلاة بما يأمر به الشرع بأكثر من مائة وخمسين مرة (الحمد لله) في الاقل، والتي تفيد حمداً وثناء وشكراً واسعاً جداً ممتداً من الازل الى الابد انما هو ثمن يدفعه مقدماً لنيل السعادة الابدية في الجنة، اذ لايمكن ان يحصر معنى الحمد على نِعم الدنيا القصيرة الفانية المنغصة بالآلام ولايمكن ان يكون مقتصراً عليها. بل حتى لو تأملت في تلك النعم نفسها تراها ماهي إلاّ وسائل لنعم أبدية خالدة تستحق الشكر عليها.
اما كلمة (سبحان الله) فانها تعني: تنزيه الله سبحانه وتقديسه من كل شريك
الشعاع الحادي عشر - ص: 293
وتقصير ونقص وظلم وعجز وقسوة وحاجة وحيلة، وكل مايخالف كماله وجماله وجلاله. وهذا المعنى يذكّر بالسعادة الابدية ويدل على الآخرة التي هي محور عظمته سبحانه وجلاله وكماله. ويشير ايضاً الى ما في تلك الدار من جنة نعيم ويدل عليها. والا فلو لم تكن هناك سعادة ابدية فان اصابع الاتهام تتوجه الى عظمته سبحانه وكماله وجلاله وجماله ورحمته فتشوبها بالتقصير والنقصان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
اي ان الآخرة لاريب فيها، اذ هي مقتضى سلطان الله وكماله وجلاله وجماله ورحمته سبحانه.
وهكذا فان هذه الكلمات المقدسة الثلاث مع (بسم الله) و (لا اله الاّ الله) وسائر الكلمات المباركة، كل منها بذرة من بذور الاركان الايمانية، وكل منها خلاصة لحقائق الاركان الايمانية والحقائق القرآنية.
وكما ان هذه الكلمات الثلاث هي نوى الصلاة وبذورها فهي نوى القرآن الكريم ايضا، كما تشاهد في بدء بعض السور الباهرة حيث تستفتح وكأنها جوهرة لامعة في مستهلها، وهي كنوز حقيقية واسس متينة لأجزاء من رسائل النور التي تستهل بسوانح التسبيحات، وهي ايضا اوراد الطريقة المحمدية تُذكر عقب الصلاة ضمن دائرة واسعة جدا للولاية الاحمدية والعبودية المحمدية، بحيث ان هناك عند كل صلاة اكثر من مائة مليون مؤمن في تلك الحلقة الكبرى للذكر يرددون معا ثلاثاً وثلاثين مرة "سبحان الله" و ثلاثاً وثلاثين مرة "الحمد لله" و ثلاثاً وثلاثين مرة "الله اكبر". فلابد أنك تدرك مدى اهمية قراءة تلك الكلمات المباركات الثلاث التي هي بذور القرآن والايمان والصلاة وخلاصتها، ومدى ثواب ترديدها بـثلاثٍ وثلاثين مرة عقب الصلاة ضمن تلك الحلقة الواسعة.
وهكذا فكما ان المسألة الاولى من هذه الرسالة كانت درسا قيما في الصلاة، فان اخر الرسالة هذه اصبح - دون اختياري - درساً مهماً حول اذكار الصلاة! والحمد لله على نعمائه.
(سُبحَانَكَ لا عِلمَ لَنا إلاّ ما عَلّمتَنا إنكَ اَنتَ العَليمُ الحَكيمُ).
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 294
المسـألة التاسـعة
بسم الله الرحمن الرحيم
(آمَنَ الرَسولُ بمَا اُنزِلَ إليه من رَبّه والمؤمنون كلٌ آمنَ بالله ومَلائكتِهِ وكُتُبِه ورُسُلهِ لانُفَرّقُ بَينَ أحدٍ من رُسُلهِ...) (البقرة: 285)
ان السبب الذي ادى الى ايضاح هذه الآية الجامعة السامية العظيمة ودعا الى بيانها؛ هو حالة خاصة معينة نتجت عن سؤال معنوي مثير. وعن انكشاف نعمة آلهية عظيمة، كالآتي:
فقد ورد الى الروح هذا السؤال: لِمَ يُعتبر كافراً من يُنكرُ جزءاً من حقيقة ايمانية، ولايُعد مسلما مَن لم يقبلها، مع ان نور الايمان بالله واليوم الآخر كالشمس يبدد كل ظلام ؟
ثم، لِمَ يصبح مرتدا مَن ينكر حقيقة او ركناً ايمانياً ويرديه الى الكفر المطلق، ومَن لم يقبلها يخرج من دائرة الاسلام. بينما ينبغي أن ينقذه ايمانه بالاركان الاخرى - ان وجد - من ذلك الكفر المطلق ؟
الجواب:
ان الايمان حقيقة واحدة نابعة من ستة اركان متحدة وموحدة لاتقبل التفريق، وهو كليّ لايتحمل التجزأة، وهو كلٌ لاتقبل اركانه الانقسام، ذلك لان كل ركن من تلك الاركان الايمانية - مع حججها التي تثبته - يثبت بقية الاركان، فيصبح كل ركن حجة قاطعة عظمى لكل من الاركان الاخرى. لذا فالذي لايتمكن من جرح جميع الاركان مع جميع أدلتها يعجز كليا - من وجهة الحقيقة - نفي ركن واحد منها؛ وتفنيد حقيقة واحدة من حقائقها، الا ان يغمض المنكر عينيه ويتشبث بعدم القبول او الرفض، فيدخل عندئذ الكفر العنادي، ويسوقه ذلك بمرور الزمن الى الكفر المطلق، فتنعدم انسانيته ويولى الى جحيم مادي فضلا عمّا هو فيه من جحيم معنوي.
الشعاع الحادي عشر - ص: 295
وكما قد بينا باقتضاب في مسائل "الثمرة" دلالة الاركان الايمانية على الحشر كذلك سنبين هنا باشارات مختصرة جدا ومجملة المغزى العميق العظيم لهذه الاية معتمدين على عنايته سبحانه. وذلك في ست نقاط:
النقطة الاولى:
ان (الايمان بالله) بحججه القاطعة يثبت (الايمان بالآخرة) مع اثباته سائر الاركان الايمانية الاخرى. كما وضح في "المسألة السابعة".
نعم؛ ان سلطنة الربوبية وقدرتها الازلية وقوتها الباقية وغناها المطلق وحاكمية الالوهية الابدية الدائمة التي تدير هذا الكون غير المحدود - مع جميع لوازمه وضرورياته - كادارة قصر او مدينة.. والتي تصرف جميع شؤونه ضمن نظام وميزان، وتغيره على وفق حكم كثيرة.. والتي تدير الذرات والكواكب،وتجهز الذباب والنجوم معا كالجنود المطيعين للجيش المنسق.. والتي تسوق الجميع - ضمن ارادتها وأمرها - الى استعراض هائل عام للعبودية الخالصة، من خلال مناورة سامية وابتلاء واختبار وتدريب على الوظائف وتعليم لها، بفعالية ونشاط دائم وسير وجولان مستمر.. هل يمكن، ام هل يعقل، لا بل هل هناك اي احتمال قط في الاّ يكون هناك مقر باق، ومملكة دائمة، وظهور خالد وتجل سرمدي في دار أبدية لمثل هذه السلطنة الابدية ولمثل هذه الحاكمية الباقية الدائمة؟ حاشا وكلا.. والف مرة كلا.
فسلطنة ربوبية الله جل وعلا وعظمتها اذاً، واغلب اسماء الله الحسنى -كما جاء في المسألة السابعة - وجميع دلائل وحجج وجوب وجوده سبحانه وتعالى، تشهد جميعا وتدل على (الآخرة) وتقتضيها.
فما اعظم مرتكز هذا الركن الايماني العظيم، وما أمتن نقطة استناده ! ألا فادرك ذلك، وصدق به كأنك تراه.
* * *
ثم ان (الايمان بالله) كما لايمكن ان يكون دون (الايمان بالآخرة) كذلك لايمكن ولايعقل، ان يكون (الايمان بالله) دون (الايمان بالرسل) - مثلما ذكر ملخصاً في رسالة الحشر - وذلك:
الشعاع الحادي عشر - ص: 296
ان الله تعالى الذي خلق هذا الكون اظهاراً لالوهيته ومعبوديته، على هيئة كتاب صمداني مجسم بحيث تعبّر كل صحيفة من صحائفه عن معاني كتاب، ويُظهر كل سطر من اسطره معنى صحيفة.. وخَلقه على شكل قرآن سبحاني مجسم بحيث ان كل آية من آياته التكوينية، وكل كلمة من كلماته، بل حتى كل حرف منه وكل نقطة بمثابة معجزة تقدسه وتسبحه.. وخلقه على صورة مسجد رحماني مهيب وزيّنه بما لايحد من الآيات والنقوش الحكيمة، بحيث أن في كل زاوية من زواياه طائفة منهمكة بنوع من العبادة الفطرية لخالقهم الرحمن..
فهل يمكن الاّ يرسل هذا الخالق المعبود الحق اساتذة ليدرسّوا معاني مافي ذلك الكتاب الكبير ويعلموا مافيه؟.. أم هل يمكن الاّ يبعث مفسرين ليفسروا آيات ذلك القرآن المجسم الصمداني؟.. أم هل يمكن الاّ يعيّن ائمة لذلك المسجد الاكبر ليؤموا الذين يعبدونه بانماط واشكال مختلفة من العبادات؟.. أم هل يمكن الاّ يزود اولئك الاساتذة والمفسرين والائمة بالاوامر السلطانية؟ حاش لله وكلا.. وألف مرة كلا.!
ثم ان الخالق الرحيم الكريم الذي خلق هذا الكون اظهاراً لجمال رحمته على ذوي الشعور وحسن رأفته بهم وكمال ربوبيته لهم وليحثهم على الشكر والحمد، قد خلقه على هيئة دار ضيافة فخمة، ومعرض رائع واسع، ومتنزه جميل بديع. وأعد فيه ما لا يحد من النعم اللذيذة المتنوعة المختلفة، ونظم فيه ما لايعد من خوارق الصنعة وبدائعها الرائعة..
فهل يمكن الاّ يتكلم هذا الخالق الرحيم الكريم - بواسطة رسله - مع ذوي الشعور من مخلوقاته في دار ضيافته الفاخرة هذه.. أم هل يعقل الاّ يعلمهم وظائف شكرهم وكيفية امتنانهم تجاه تلك النعم الجسيمة، ومهام عبوديتهم تجاه رحمته السابغة وتودده الظاهر؟! كلا.. ثم ألف ألف مرة كلا.!
ثم ان الخالق الذي يحب خلقه وصنعته، ويريد جلب الاعجاب والتقدير اليه، بل يطلب استحسانه وإكباره، بدلالة ايداعه الإحساس بآلاف الانواع من الاذواق في الافواه، فيعرّف نفسه سبحانه بكل مخلوق من مخلوقاته ويظهر به نوعاً من جماله المعنوي ويجعله موضع حب مخلوقاته، فزيّن هذا الكون ببدائع صنائعه ومخلوقاته.
الشعاع الحادي عشر - ص: 297
فهل يعقل الاّ يتكلم هذا الخالق البديع مع أفاضل الانسان الذي هو سيد المخلوقات؟.. وهل يمكن ألاّ يبعث من اولئك الافاضل رسلا، فتظل تلك الصنائع الجميلة دون تقدير، ويظل جمال تلك الاسماء الحسنى الخارقة دون استحسان ولا اعجاب، ويظل تعريفه وتحبيبه دون مقابل ؟! حاش لله وكلا.. ثم ألف مرة كلا.!
ثم ان المتكلم العليم الذي يستجيب - في الوقت المناسب - لدعوات جميع ذوي الحياة، ملبيا حاجاتها الفطرية، ومغيثا تضرعاتها ورغباتها المرفوعة اليه بلسان الحال، فيتكلم صراحة فعلاً وحالاً بإحساناته غير النهائية لهم وانعاماته غير المحدودة عليهم، مُظهراً القصد والاختيار والارادة. فهل يمكن وهل يعقل ان يتكلم هذا المتكلم العليم مع أصغر كائن حي فعلاً وحالاً ويسعف داءه، ويغيثه باحسانه، ويسد حاجاته، ثم لايقابل الرؤساء المعنويين للانسان الذي هو سيد اغلب المخلوقات الارضية، وهو خليفة الله في ارضه، وهو النتيجة المستخلصة من الكائنات؟.. ام هل يعقل ألاّ يتكلم معهم قولا وكلاما مثلما يتكلم مع كل ذي حياة فعلا وحالا؟.. ام هل يمكن الاّ يرسل معهم اوامره، وصحفه وكتبه المقدسة؟ حاشا لله.. ثم ألف مرة كلا.!
وهكذا يثبت "الايمان بالله" مع حججه القاطعة الثابتة الايمان (بكتبه) المقدسة (وبرسله) الكرام عليهم السلام.
* * *
ثم ان الذي جعل الكون يدوي بحقيقة القرآن ويترنم بها، والذي عرف وعرّف باكمل وجه ذلك الخالق البديع فأحبه وحببه، وأدى شكره له ودلّ الآخرين على القيام بشكره، بل جعل الارض تردد "سبحان الله والحمد لله والله اكبر" حتى اسمعت السموات العلى.. والذي قابل الربوبية الظاهرة للخالق بعبودية واسعة كلية، فقاد خمس البشرية كمية ونصفها نوعية خلال ألف وثلاثمائة سنة قيادة اهاج بها البر والبحر وملأهما شوقا ووجدا.. والذي هتف بالقرآن الكريم في اذن الكون وعلى مدى جميع العصور ازاء المقاصد الالهية، فألقى درسا عظيما، ودعاً بدعوة كريمة، مظهراً وظيفة الانسان وقيمته، ومبيناً مرتبته ومنزلته.. ذلك هو محمد الامين صلى الله عليه وسلم الصادق المصدق بألف معجزة ومعجزة.
الشعاع الحادي عشر - ص: 298
فهل يمكن ألا يكون هذا العبد العزيز المصطفى المختار اكرم رسول لذلك المعبود الحق؟.. وهل يمكن الاّ يكون أعظم نبي له ؟ حاشا وكلا.. ألف ألف مرة كلا.!
فحقيقة (اشهد ان لا إله إلا الله) مع حججها اذاً تثبت حقيقة (اشهد أن محمداً رسول الله).
* * *
ثم ان الخالق الذي جعل مخلوقاته يتبادلون الكلام بمئات الآلاف من الالسنة واللغات وهو الذي يسمع كلام الجميع ويعرفه، فهل يمكن ألاّ يتكلم هو ؟.. كلا ثم كلا ! ثم هل يعقل الاّ يعلّم مقاصده الإلهية بكتاب عظيم كالقرآن الكريم الذي يجيب عن ثلاثة اسئلة تحار العقول امامها: من اين تأتي هذه المخلوقات ؟ والى اين المصير ؟ ولماذا تتعاقب ثم لاتلبث أن تغيب ؟... كلا.
فالقرآن الكريم الذي نوّر ثلاثة عشر قرنا واضاءها..والذي يتناقله في كل ساعة مائة مليون لسان بكل اجلال وتوقير.. والذي سُطر في صدور ملايين الحفاظ بكل سمو وقداسة.. والذي أدار بقوانينه القسم الاعظم من البشرية، وربّى نفوسهم وزكّى ارواحهم، وصفى قلوبهم وأرشد عقولهم.. والذي هو معجزة خالدة كما اثبتنا اعجازه بأربعين وجها في رسائل النور، فوضح ان له اعجازاً لكل طبقة من الطبقات الاربعين للناس (كما جاء في المكتوب التاسع عشر ذات الكرامة الخارقة).. هذا القرآن العظيم استحق بحق ان يطلق عليه "كلام الله" فاصبح محمد صلى الله عليه وسلم مع آلاف من معجزاته معجزة باهرة له.
فهل يمكن ألاّ يكون هذا القرآن الكريم كلام ذلك المتكلم الازلي سبحانه ؟ وهل يمكن ألاّ يكون اوامر ذلك الخالق السرمدي جل وعلا ؟ حاش لله وكلا ألف ألف مرة كلا !
فـ"الايمان بالله" مع جميع حججه اذاً يثبت ان القرآن الكريم كلام الله عز وجل.
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 299
ثم ان السلطان ذا الجلال الذي يملأ سطح الارض بذوي الحياة باستمرار ويفرغه، معمراً دنيانا بذوي الشعور لاجل معرفته سبحانه وعبادته وتسبيحه.
هل يمكن لهذا السلطان ذي الجلال ان يترك السموات والنجوم خالية فارغة، ولايعمر تلك القصور السماوية بأهالي وسكنة تناسبها؟..
وهل يمكن ان يترك (هذا السلطان العظيم) سلطنة ربوبيته في اوسع ممالكه بلا هيبة وعظمة، وبلا موظفين مأمورين، وبلا سفراء رسل، وبلا ناظرين مشرفين، وبلا مشاهدين معجبين، وبلا عباد مكرمين، وبلا رعايا مطيعين ؟ حاش لله وكلا.. بعدد الملائكة.
ثم ان الحاكم الحكيم والعليم الرحيم الذي كتب هذا الكون بشكل كتاب، حتى سجل تاريخ حياة كل شجرة في كل بذر من بذورها، ودوّن وظائف حياة كل عشب ومهام كل زهر في جميع نواها. وكتّب جميع حوادث الحياة لكل ذي شعور في قواه الحافظة الصغيرة كحبة الخردل. واحتفظ بكل عمل في ملكه كافة وبكل حادثة في دوائر سلطنته بالتقاط صورها المتعددة، والذي خلق الجنة والنار والصراط والميزان الاكبر لاجل تجليات وتحقق العدالة والحكمة والرحمة التي هي اهم اساس للربوبية..
فهل يمكن لهذا الحاكم الحكيم ولهذا العليم الرحيم الاّ يسجل اعمال الانسان التي تتعلق بالكائنات؟..
وهل يمكن الاّ يدون افعاله للثواب والعقاب ولايكتب سيئاته وحسناته في الواح القدر ؟! حاش لله وكلا بعدد حروف ما كتب في اللوح المحفوظ للقدر.
اي ان حقيقة "الايمان بالله" مع حججها تثبت حقيقة "الايمان بالملائكة" كما تثبت حقيقة "الايمان بالقدر" ايضا اثباتا قاطعا. كالشمس التي تظهر النهار والنهار الذي يدل على الشمس.
وهكذا فالاركان الايمانية يثبت بعضها البعض الآخر.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 300
النقطة الثانية:
ان جميع ما دعت اليه الكتب والصحف السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم وجميع الدعوات التي قام بها الانبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم تدور على اسس ثابتة، واركان معينة. ولقد سعى جميعهم لاثبات الاسس وتلقينها للآخرين. لذا فجميع الحجج والدلائل التي تشهد على نبوتهم وصدقهم متوجهة معا الى تلك الاسس والاركان مما يزيدها قوة وأحقية. وما تلك الاسس الا الايمان بالله، وباليوم الآخر، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.
فلا يمكن اذن التفريق بين اركان الايمان الستة اطلاقاً، حيث أن كل ركن من الاركان يثبت الاركان عامة بل يستدعيها ويقتضيها، لذا فان الاركان الستة كلٌ لايقبل التجزأة البتة، وكلّي لا يمكن ان ينقسم ابداً. فكما ان كل غصن من اغصان الشجرة المباركة (شجرة طوبى) الممتد جذرها في السماء، وكل ثمر من ثمارها وكل ورقة من اوراقها يستند على الحياة الخالدة لتلك الشجرة، فلا يمكن لأحد ان ينكر حياة ورقة واحدة متصلة بتلك الشجرة ما لم يتمكن له إنكار حياة تلك الشجرة الظاهرة ظهوراً ساطعاً كالشمس. ولئن انكر فان تلك الشجرة تكذبه بعدد اغصانها وثمارها واوراقها وتسكته، كذلك الايمان بأركانه الستة هو بالصورة نفسها.
هذا ولقد كانت النية معقودة على بيان الاركان الايمانية الستة في ست نقاط وفي كل نقطة خمس نكات ذات مغزى، وكانت الرغبة متوجهة الى اجابة السؤال المثير الوارد في المقدمة ببيان اكثر وتوضيح أوسع، الا أن عوائق وعوارض حالت دون ذلك. بيد أنني أخال أن "النقطة الاولى" لم تدع سبيلا لايضاح اكثر لاهل الدراية، حيث انها مقياس كاف للموضوع.
وهكذا وضح تماماً انه؛ اذا ما انكر المسلم اية حقيقة ايمانية كانت فانه يتردى الى الكفر المطلق؛ اذ تسلسلت الاركان الايمانية بعضها ببعض، وفصّل الاسلام ووضح ماأجمل في الاديان الاخرى. فالمسلم الذي لايعرف محمداً صلى الله عليه وسلم ولايصدق به فلايعرف الله سبحانه (بصفاته) ولايعرف الآخرة كذلك.. فايمان المسلم قوي
الشعاع الحادي عشر - ص: 301
ورصين الى درجة لايتزعزع ابداً ولايدع مجالاً للانكار قطعاً لاستناده الى حجج كثيرة جداً، حتى كأن العقل يرضخ رضوخاً لقبول هذا الايمان.
النقطة الثالثة:
قلت ذات مرة "الحمد لله". ثم بحثت عن نعمة عظيمة جداً تقابل معناها الواسع جداً، فخطر على القلب الجملة الآتية:
[الحمد لله على الايمان بالله، وعلى وحدانيته، وعلى وجوب وجوده وعلى صفاته، واسمائه، حمداً بعدد تجليات اسمائه من الازل الى الابد].
فتأملت فيها فوجدتها مطابقة تماماً للمعنى.. وهي كالآتي 1:
.................................................. .................................................. .....
* * *
_____________________
1
انتهى النص هنا وكأن الستار اسدل امام الاستاذ فلم يستمر بالكتابة، او لعل الظروف المحيطة به حالت دون ذلك، فاكتفى بالفقرات السابقة. - المترجم.

الشعاع الحادي عشر - ص: 302
المسـألة العاشرة
زهرة اميرداغ
(رد شاف ومقنع على اعتراضات ترد حول التكرار في القرآن الكريم)
اخواني الاعزاء الاوفياء!
كنت اعاني من حالة مضطربة بائسة حينما تناولت هذه المسألة بالكتابة، لذا اكتنفها شئ من الغموض لكونها بقيت كما جاءت عفو الخاطر. ولكني ادركت ان تلك العبارات المشوشة تنطوي على اعجاز رائع. فيا اسفى لم استطع ان اوفي حق هذا الاعجاز من الاداء والتعبير. فعبارات الرسالة مهما كانت خافتة الانوار الا انها تعد - من حيث تعلقها بالقرآن الكريم - "عبادة فكرية" و صَدَفَة تضم لآلئ نفيسة سامية، فالرجاء ان تصرفوا النظر عن قشرتها وتمعنوا النظر بما فيها من لآلئ ساطعة. فان وجدتموها جديرة حقا فاجعلوها "المسألة العاشرة" - لرسالة الثمرة - والا فاقبلوها رسالة جوابية عن تهانيكم.
ولقد اضطررت الى كتابتها في غاية الاجمال والاقتضاب، لما كنت اكابد من سوء التغذية واوجاع الامراض، حتى انني ادرجت في جملة واحدة منها حقائق وحججا غزيرة، واتممتها - بفضل الله - في يومين من ايام شهر رمضان المبارك، فارجو المعذرة عما بدر مني من تقصير 1.
_____________________
1
هذه المسألة "زهرة " لطيفة وضاءة لهذا الشهر الكريم ولمدينة "اميرداغ " الحقت بـ "ثمرة " سجن "دنيزلي " على انها "المسألة العاشرة ". فهي تزيل باذن الله ماينفثه اهل الضلالة من سموم الاوهام العفنة حول ظاهرة التكرار فى القرآن، وذلك ببيانها حكمة من حكمها الكثيرة. - المؤلف.

الشعاع الحادي عشر - ص: 303
اخوتي الاوفياء الصادقين!
حينما كنت اتلو القرآن - المعجز البيان - في الشهر المبارك رمضان، تدبّرت في معاني الآيات الثلاث والثلاثين - التي وردت اشاراتها الى رسائل النور في "الشعاع الاول" - فرأيت أن كل آية منها - بل آيات تلك الصفحة في المصحف وموضوعها - كأنها تطل على رسائل النور وطلابها من جهة نيلهم غيضا من فيضها وحظا من معانيها - لاسيما آية النور "في سورة النور" فهي تشير بالاصابع العشر الى رسائل النور، كما أن الآيات التي تعقبها - وهي آية الظلمات - تطل على معارضي الرسائل واعدائها بل تعطيهم حصة اكبر، اذ لايخفى ان مقام تلك الايات وأبعادها ومراميها غير قاصرة على زمان ومكان معينين بل تشمل الأزمنة والامكنة جميعها، اي تخرج من جزئية الامكنة والازمنة الى كلّيتهما الشاملة، لذا شعرت ان رسائل النور وطلابها انما يمثلون في عصرنا هذا - حق التمثيل - فرداً واحداً من افراد تلك الكلية الشاملة.
ان خطاب القرآن الكريم قد اكتسب صفة الكلية والسعة المطلقة والرفعة السامية والاحاطة الشاملة؛ لصدوره مباشرة من المقام الواسع المطلق للربوبية العامة الشاملة للمتكلم الازلي سبحانه.. ويكتسبها من المقام الواسع العظيم لمن اُنزل عليه هذا الكتاب، ذلكم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الممثل للنوع البشري والمخاطب باسم الانسانية قاطبة، بل باسم الكائنات جميعا.. ويكتسبها ايضا من توجه الخطاب الى المقام الواسع الفسيح لطبقات البشرية كافة في العصور كافة.. ويكتسبها ايضا من المقام الرفيع المحيط النابع من البيان الشافي لقوانين الله سبحانه المتعلقة بالدنيا والآخرة، بالارض والسماء، بالازل والابد، تلك القوانين التي تخص ربوبيته وتشمل امور المخلوقات كافة.
فهذا الخطاب الجليل الذي اكتسب من السعة والسمو والاحاطة والشمول ما اكتسب، يبرز اعجازاً رائعاً وإحاطة شاملة، بحيث:
ان مراتبه الفطرية والظاهرية التي تلاطف أفهام العوام البسيطة - وهم معظم المخاطبين - تمنح في الوقت نفسه حصة وافرة لأعلى المستويات الفكرية ولأرقى الطبقات العقلية، فلايهب لمخاطبيه شيئا من ارشاداته وحدها، ولايخصهم بعبرة من
الشعاع الحادي عشر - ص: 304
حكاية تأريخية فقط، بل يخاطب ايضاً كل طبقة في كل عصر - لكونها فرداً من افراد دستور كلي - خطاباً ندياً طرياً جديداً كأنه الآن ينزل عليهم. ولاسيما كثرة تكراره: "الظالمين.. الظالمين.." وزجره العنيف لهم وانذاره الرهيب من نزول مصائب سماوية وأرضية بذنوبهم ومظالمهم، فيلفت الانظار - بهذا التكرار- الى مظالم لانظير لها في هذا العصر، بعرضه أنواعا من العذاب والمصائب النازلة بقوم عاد وثمود وفرعون. وفي الوقت نفسه يبعث السلوان والطمأنينة الى قلوب المؤمنين المظلومين، بذكره نجاة رسل كرام امثال ابراهيم وموسى عليهما السلام.
ثم ان هذا القرآن العظيم يرشد كل طبقة من كل عصر ارشاداً واضحاً باعجاز رائع مبينا:
ان "الازمنة الغابرة" والعصور المندثرة التي هي في نظر الغافلين الضالين واد من عدم سحيق موحش رهيب، ومقبرة مندرسة أليمة كئيبة، يعرضها صحيفة حية تطفح عبرا ودروسا، وعلما عجيبا ينبض بالحياة ويتدفق بالحيوية من أقصاه الى اقصاه، ومملكة ربانية ترتبط معنا بوشائج وأواصر، فيبينها - باعجازه البديع - واضحة جليلة كأنها مشهودة تعرض أمامنا على شاشة، فتارة يأتي بتلك العصور ماثلة شاخصة أمامنا، وتارة يأخذنا الى تلك العصور.
ويبين بالاعجاز نفسه "الكون" الذي يراه الغافلون فضاء موحشا بلا نهاية، وجمادات مضطربة بلا روح تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يبينه القرآن كتابا بليغا، كتبه الاحد الصمد، ومدينة منسقة عمرها الرحمن الرحيم، ومعرضا بديعا أقامه الرب الكريم لاشهار مصنوعاته. فيبعث بهذا البيان حياة في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لامداد الاخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه، كأنه يحاوره محاورة ودية صميمة، فكل شئ مسخر وكل شئ انيط به وظيفة وواجب.. وهكذا يلقي القرآن دروس الحكمة الحقيقية والعلم المنور الى الانس والجن والملك كافة فلاريب ان هذا القرآن العظيم - الذي له هذا الاعجاز في البيان - قمين بان يحوز خواص راقية عالية، وميزات مقدسة سامية، امثال:
الشعاع الحادي عشر - ص: 305
في كل حرف منه عشر حسنات، بل ألف حسنة أحيانا، بل ألوف الحسنات في احيان اخرى.. وعجز الجن والانس عن الإتيان بمثله ولو اجتمعوا له.. ومخاطبته بني آدم جميعهم بل الكائنات برمتها مخاطبة بليغة حكيمة.. وتلهف الملايين من الناس في كل عصر الى حفظه عن ظهر قلب بشوق ومتعة.. وعدم السأم من تلاوته الكثيرة رغم تكراراته.. واستقراره التام في اذهان الصغار اللطيفة البسيطة مع كثرة ما فيه من جمل ومواضع تلتبس عليهم.. وتلذذ المرضى والمحتضرين - الذين يتألمون حتى من أدنى كلام - من سماعه، وجريانه في اسماعهم عذبا طيبا.. وغيرها من الخواص السامية والمزايا المقدسة التي يحوزها القرآن الكريم، فيمنح قرّاءه وتلاميذه انواعا من سعادة الدارين.
ويظهر اعجازه الجميل ايضا في "اسلوب ارشاده البليغ" حيث راعى أحسن الرعاية أمية مبلغه الكريم صلى الله عليه وسلم باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من ان يدنو منه تكلف او تصنع او رياء - مهما كان نوعه - فجاء اسلوبه مستساغا لدى العوام الذين هم اكثرية المخاطبين، ملاطفاً بساطة اذهانهم بتنزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم.. باسطاً امامهم صحائف ظاهرة ظهورا بديهيا كالسموات والارض.. موجهاً الانظار الى معجزات القدرة الإلهية وسطور حكمته البالغة المضمرتين تحت العاديات من الامور والاشياء.
ثم ان القرآن الكريم يظهر نوعا من اعجازه البديع ايضا في "تكراره البليغ" لجملة واحدة، اولقصة واحدة، وذلك عند ارشاده طبقات متباينة من المخاطبين الى معان عدة، وعبر كثيرة في تلك الآية او القصة، فاقتضى التكرار حيث أنه: كتاب دعاء ودعوة كما انه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار، فكل ما كرر في القرآن الكريم اذاً من آية او قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة.
ويظهر اعجازه ايضا عند تناوله "حوادث جزئية" وقعت في حياة الصحابة الكرام اثناء نزوله وارسائه بناء الاسلام وقواعد الشريعة فتراه يأخذ تلك الحوادث بنظر الاهتمام البالغ، مبينا بها: أن ادق الامور لاصغر الحوادث جزئية انما هي تحت نظر رحمته سبحانه، وضمن دائرة تدبيره وإرادته، فضلا عن انه يظهر بها سننا إلهية جارية في الكون ودساتير كلية شاملة. زد على ذلك ان تلك الحوادث التي هي بمثابة
الشعاع الحادي عشر - ص: 306
النويات عند تأسيس الاسلام والشريعة ستثمر فيما يأتي من الازمان ثماراً يانعة من الاحكام والفوائد.
ان تكرر الحاجة يستلزم التكرار، هذه قاعدة ثابتة، لذا فقد اجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة، فارشد باجاباته المكررة طبقات كثيرة متباينة من المخاطبين. فهو يكرر جملا تملك ألوف النتائج، ويكرر ارشادات هي نتيجة لأدلة لاحد لها، وذلك عند ترسيخه في الاذهان وتقريره في القلوب ما سيحدث من انقلاب عظيم وتبدل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الاجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة الرائعة بدلا من هذا العالم الفاني.
ثم انه يكرر تلك الجمل والايات ايضا عند اثباته ان جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات الى النجوم انما هي في قبضة واحد أحد سبحانه وضمن تصرفه جل شأنه.
ويكررها ايضا عند بيانه الغضب الإلهي والسخط الرباني تجاه المظالم التي يرتكبها الانسان عند خرقه الغاية من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والارض والسماء والعناصر وتؤجج غضبها على مقترفيها.
لذا فان تكرار تلك الجمل والايات عند بيان امثال هذه الامور العظيمة الهائلة لايعد نقصاً في البلاغة قط، بل هو اعجاز في غاية الروعة والابداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة، وجزالة - بل فصاحة - مطابقة تطابقاً تاماً لمقتضى الحال، فعلى سبيل المثال:
ان جملة (بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم) هي آية واحدة تتكرر مائة واربع عشرة مرة في القرآن الكريم، ذلك لانها حقيقة كبرى تملأ الكون نورا وضياء وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق ــ كما بيناها في اللمعة الرابعة عشرة ــ فما من أحد الاّ وهو بحاجة ماسة الى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمى ملايين المرات، فالحاجة مازالت قائمة باقية لا ترتوي. اذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي ايضاً كالهواء والضياء الذي يُضطر اليه ويُشتاق كل دقيقة.
الشعاع الحادي عشر - ص: 307
وان الآية الكريمة (وإنَّ رَبَّكَ لَهوَ العزيزُ الرّحيم) تتكرر ثماني مرات في سورة "الشعراء". فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على الوف الحقائق في سورة تذكُر نجاة الانبياء عليهم السلام وعذاب اقوامهم، انما هو لبيان:
ان مظالم اقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض الى عظمة الربوبية المطلقة، فتقتضي العزة الربانية عذاب تلك الاقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الانبياء عليهم السلام. فلو تكررت هذه الآية الوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق اليها، فالتكرار هنا بلاغة راقيةذات اعجاز وايجاز.
وكذلك الآية الكريمة (فبِأيّ آلاءِ رَبّكما تُكذّبان) المكررة في سورة "الرحمن" والآية الكريمة (ويلٌ يَومئذٍ للمُكذبينَ) المكررة في سورة "المرسلات" تصرخ كل منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن اعلانا صريحاً في اقطار السموات والارض أن كفر الجن والانس وجحودهم بالنعم الإلهية، ومظالمهم الشنيعة، يثير غضب الكائنات ويجعل الارض والسموات في حنق وغيظ عليهم.. ويخل بحكمة خلق العالم والقصد منه.. ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها.. ويستخف بعظمة الالوهية وينكرها، لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من امثال هذه الحقائق، ولهما من الأهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا الوف المرات في خطاب عام موجه الى الجن والانس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة اليها مازالت موجودة باقية. فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة ومعجزة جميلة.
(ومثال آخر نسوقه حول حكمة التكرار في الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم) فالمناجاة النبوية المسماة بالجوشن الكبير مناجاة رائعة مطابقة لحقيقة القرآن الكريم ونموذج مستخلص منه. نرى فيها جملة "سبحانك يالاإله إلاّ انت الامان الامان خلصنا من النـــار.. اجرنا من النار.. نجّنا من النار" هذه الجمل تتكرر مائة مرة، فلو تكررت الوف المرات لما ولدت السأم، إذ انها تنطوي على أجلّ حقيقة في الكون وهي التوحيد، وأجل وظيفة من وظائف المخلوقات تجاه ربهم الجليل وهي التسبيح والتحميد والتقديس، واعظم قضية مصيرية للبشرية وهي النجاة من النار والخلاص من الشقاء الخالد، وألزم غاية للعبودية وللعجز البشري ألا وهو الدعاء.
الشعاع الحادي عشر - ص: 308
وهكذا نرى امثال هذه الاسس فيما تشتمل عليه انواع التكرار في القرآن الكريم. حتى نرى أنه يعبر اكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد - صراحة او ضمنا - في صحيفة واحدة من المصحف وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة الى الافهام، وبلاغة البيان، فيهيج بالتكرار الشوق الى تكرار التلاوة، ويمد به البلاغة قوة وسموا من دون أن يورث سأماً او مللاً.
ولقد اوضحت اجزاء رسائل النور حكمة التكرار في القرآن الكريم وبينت حججها واثبتت مدى ملاءمة التكرار وانسجامه مع البلاغة، ومدى حسنه وجماله الرائع.
اما حكمة اختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، ومن جهة الاعجاز ومن حيث التفصيل والاجمال فهي على النحو الآتي:
ان الصف الاول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش وهم اميون لا كتاب لهم، فاقتضت البلاغة اسلوبا عاليا قويا واجمالا معجزا مقنعا، وتكراراً يستلزمه التثبيت في الافهام؛ لذا بحثت اغلب السور المكية اركان الايمان ومراتب التوحيد باسلوب في غاية القوة والعلو، وبايجاز في غاية الاعجاز، وكررت الايمان بالله والمبدأ والمعاد والاخرة كثيرا، بل قد عبرت عن تلك الاركان الايمانية في كل صحيفة أو آية، او في جملة واحدة، او كلمة واحدة، بل ربما عبرت عنها في حرف واحد، في تقديم وتأخير، في تعريف وتنكير، في حذف وذكر. فاثبتت اركان الايمان في امثال تلك الحالات والهيئات البلاغية أثباتا جعل علماء البلاغة وائمتها يقفون حيارى مبهوتين امام هذا الاسلوب المعجز. ولقد وضحّت رسائل النور ولاسيما "الكلمة الخامسة والعشرون مع ذيولها" اعجاز القرآن في اربعين وجها من وجوهها، وكذلك تفسير "اشارات الاعجاز في مظان الايجاز" باللغة العربية الذي يبين بيانا رائعا اعجاز القرآن من حيث وجه النظم بين الآيات الكريمة. فاثبتت كلتا الرسالتين فعلاً علو الاسلوب البلاغي الفذ وسمو الايجاز المعجز في الآيات المكية.
اما الآيات المدنية وسورها فالصف الاول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم اهل كتاب مؤمنون بالله. فاقتضت قواعد البلاغة واساليب الارشاد واسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقا لواقع حالهم،
الشعاع الحادي عشر - ص: 309
فجاء باسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات - دون الاصول والاركان (الايمانية) - لان تلك الجزئيات هي منشأ الاحكام الفرعية والقوانين الكلية، ومدار الاختلافات في الشرائع والاحكام.. لذا فغالباً ما نجد الايات المدنية واضحة سلسة باسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم. ولكن ذكر القرآن فذلكة قوية او نتيجة ملخصة او خاتمة رصينة او حجة دامغة تعقيبا على حادثة جزئية فرعية، يجعل تلك الحادثة الجزئية قاعدة كلية عامة، ومن بعد ذلك يضمن الامتثال بها بترسيخ الايمان بالله الذي يحققه ذكر تلك الفواصل الختامية الملخصة للتوحيد والايمان والاخرة. فترى أن ذلك المقام الواضح السلس يتنور ويسمو بتلك الفواصل الختامية. (ولقد بينت "رسائل النور" واثبتت حتى للمعاندين مدى البلاغة العالية والميزات الراقية وانواع الجزالة السامية الدقيقة الرفيعة في تلك الفذلكات والفواصل وذلك في عشر مميزات ونكت في النور الثاني من الشعلة الثانية للكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن).
فان شئت فانظر الى (إن الله على كلِّ شئٍ قدير) ( إن الله بكل شئٍ عليم) ( وهو العزيز الحكيم) ( وهو العزيز الرحيم) وامثالها من الآيات التي تفيد التوحيد وتذكّر بالآخرة، والتي تنتهي بها اغلب الآيات الكريمة، تَرَ أن القرآن الكريم عند بيانه الاحكام الشرعية الفرعية والقوانين الاجتماعية يرفع نظر المخاطب الى آفاق كلية سامية، فيبدل - بهذه الفواصل الختامية - ذلك الاسلوب السهل الواضح السلس اسلوباً عالياً رفيعاً، كأنه ينقل القارئ من درس الشريعة الى درس التوحيد. فيثبت أن القرآن كتاب شريعة واحكام وحكمة كما هو كتاب عقيدة وايمان، وهو كتاب ذكر وفكر كما هو كتاب دعاء ودعوة.
وهكذا ترى أن هناك نمطا من جزالة معجزة ساطعة في الآيات المدنية هو غير بلاغة الآيات المكية، حسب اختلاف المقام وتنوع مقاصد الارشاد والتبليغ.
فقد ترى هذا النمط في كلمتين فقط: (ربك) و (رب العالمين) إذ يعلّم الاحدية بتعبير (ربك) ويعلّم الواحدية بـ (رب العالمين)، فيفيد الاحدية ضمن الواحدية.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 310
بل قد ترى ذلك النمط من البلاغة في جملة واحدة فيريك في آية واحدة مثلا نفوذ علمه في موضع الذرة في بؤبؤ العين وموقع الشمس في كبد السماء، واحاطة قدرته التي تضع بآلالة الواحدة كلاً في مكانه، جاعلة من الشمس كأنها عين السماء فيعقب (وهو عَليمٌ بذاتِ الصُدور) بعد آيات (هو الذى خلقَ السموات والارض… يُولج الليلَ في النهارِ ويُولجُ النّهار في الليل) (الحديد: 4- 6) أي يعقب نفوذ علمه سبحانه في خفايا الصدور بعد ذكره عظمة الخلق في السموات والارض وبسطها امام الانظار. فيقر في الاذهان أنه يعلم خواطر القلوب وخوافي شؤونها ضمن جلال خلاقيته للسموات والارض وتدبيره لشؤونها. فهذا التعقيب: (وهو عَليمٌ بذاتِ الصُدور) لون من البيان يحول ذلك الاسلوب السهل الواضح الفطري - القريب الى افهام العوام - الى ارشاد سام وتبليغ عام جذاب.
سؤال:
ان النظرة السطحية العابرة لاتستطيع ان ترى ما يورده القرآن الكريم من حقيقة ذات اهمية، فلاتعرف نوع المناسبة والعلاقة بين فذلكة تعبّر عن توحيد سام او تفيد دستوراً كلياً، وبين حادثة جزئية معتادة؛ لذا يتوهم البعض ان هناك شيئا من قصور في البلاغة، فمثلا: لاتظهر المناسبة البلاغية في ذكر دستور عظيم: (وفَوقَ كل ذي عِلم عَليم) (يوسف: 76) تعقيبا على حادثة جزئية وهي ايواء يوسف عليه السلام اخاه اليه بتدبير ذكي، فيرجى بيان السر في ذلك وكشف الحجاب عن حكمته ؟
الجواب: ان اغلب السور المطولة والمتوسطة - التي كل منها كأنها قرآن على حدة - لاتكتفي بمقصدين او ثلاثة من مقاصد القرآن الاربعة (وهي: التوحيد، النبوة، الحشر، العدل مع العبودية) بل القرآن بماهيته، أي كل منها: كتاب ذكر وايمان وفكر، كما أنه كتاب شريعة وحكمة وهداية، يتضمن كُتباً عدة، ويرشد الى دروس مختلفة متنوعة. فتجد ان كل مقام - بل حتى الصحيفة الواحدة - يفتح امام الانسان ابوابا للايمان ولمعرفة الله ومراتب التوحيد يحقق بها اقرار مقاصد عديدة، حيث أن القرآن يقرأ ما هو مسطور في كتاب الكون الكبير ويبينه بوضوح، فيرسخ في اعماق المؤمن احاطة ربوبيته سبحانه بكل شئ، ويريه تجلياتها المهيبة في الافاق والانفس، لذا فإن ما يبدو ظاهراً من مناسبة ضعيفة، يبنى عليها مقاصد كلية، فتتلاحق مناسبات وثيقة
الشعاع الحادي عشر - ص: 311
وعلاقات قوية بتلك المناسبة الضعيفة ظاهراً، فيكون الاسلوب مطابقا تماما لمقتضى ذلك المقام، فتتعالى مرتبته البلاغية.
سؤال آخر:
ما حكمة سَوق القرآن الوف الدلائل لاثبات امور الآخرة وتلقين التوحيد واثابة البشر ؟ وما السر في لفته الانظار الى تلك الامور صراحة وضمنا واشارة في كل سورة بل في كل صحيفة من المصحف وفي كل مقام ؟
الجواب: لان القرآن الكريم ينبه الانسان الى اعظم انقلاب يحدث ضمن المخلوقات ودائرة الممكنات في تاريخ العالم.. وهو الآخرة. ويرشده الى اعظم مسألة تخصه وهو الحامل للامانة الكبرى وخلافة الارض.. تلك هي مسألة التوحيد الذي يدور عليه سعادته وشقاوته الابديتان. وفي الوقت نفسه يزيل القرآن سيل الشبهات الواردة دون انقطاع، ويحطم اشد انواع الجحود والانكار المقيت.
لذا لو قام القرآن بتوجيه الانظار الى الايمان بتلك الانقلابات المدهشة وحمل الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة الضرورية للبشر.. نعم لو قام به آلاف المرات وكرر تلك المسائل ملايين المرات لايعدّ ذلك منه اسرافاً في البلاغة قط، كما أنه لايولد سأما ولا مللا ألبتة، بل لاتنقطع الحاجة الى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم، حيث ليس هناك اهم ولا اعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة.
فمثلاً: ان حقيقة الآية الكريمة: (انّ الذينَ آمنوا وعَملوا الصّالحات لَهُم جَناتٌ تجري من تحتها الانهارُ ذلك الفوز الكبير) (البروج: 11) هي بشرى السعادة الخالدة تزفها هذه الآية الكريمة الى الانسان المسكين الذي يلاقي حقيقة الموت كل حين، فتنقذه هذه البشرى من تصور الموت اعداما ابديا، وتنجيه - وعالمه وجميع احبته - من قبضة الفناء، بل تمنحه سلطنة ابدية، وتكسبه سعادة دائمة.. فلو تكررت هذه الآية الكريمة ملياراً من المرات لايعد من الاسراف قط، ولايمس بلاغته شئ.
وهكذا ترى أن القرآن الكريم الذي يعالج امثال هذه المسائل القيمة ويسعى لاقناع المخاطبين بها باقامة الحجج الدامغة يعمق في الاذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها امامهم سهلة واضحة كتبدل المنزل
الشعاع الحادي عشر - ص: 312
وتغير شكله. فلابد أن لفت الانظار الى امثال هذه المسائل - صراحة وضمنا واشارة - بالوف المرات تجديد لإحسانه وضروري جداً كضرورة الانسان الى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته اليها دائما.
ومثلاً: ان حكمة تكرار القرآن الكريم في: (والذين كَفروا لهُم نار جهنم) (فاطر: 36). (ان الظالمين لَهُم عَذاب أليم) (ابراهيم: 22) وامثالها من آيات الانذار والتهديد. وسوقها باسلوب في غاية الشدة والعنف، هي (كما اثبتناها في رسائل النور اثباتا قاطعا):
ان كفر الانسان انما هو تجاوز - ايّ تجاوز - على حقوق الكائنات واغلب المخلوقات، ممايثير غضب السماوات والارض، ويملأ صدور العناصر حنقا وغيظا على الكافرين، حتى تقوم تلك العناصر بصفع اولئك الظالمين بالطوفان وغيره. بل حتى الجحيم تغضب عليهم غضبا تكاد تتفجر من شدته كما هو صريح الآية الكريمة: (اذا اُلقوا فيها سمِعوا لها شهيقاً وهي تفور_ تكاد تميَّزُ من الغيظِ) (الملك: 7، 8). فلو يكرر سلطان الكون في اوامره تلك الجناية العظمى (الكفر) وعقوبتها باسلوب في غاية الزجر والشدة ألوف المرات، بل ملايين المرات، بل مليارات المرات لما عدّ ذلك اسرافا مطلقا ولانقصا في البلاغة، نظراً لضخامة تلك الجناية العامة وتجاوز الحقوق غير المحدودة، وبناء على حكمة اظهار اهمية حقوق رعيته سبحانه وابراز القبح غير المتناهي في كفر المنكرين وظلمهم الشنيع. اذ لايكرر ذلك لضآلة الانسان وحقارته بل لهول تجاوز الكافر وعظم ظلمه.
ونحن نرى ان مئات الملايين من الناس منذ الف ومئات من السنين يتلون القرآن الكريم بلهفة وشوق وبحاجة ماسة اليه دون ملل ولا سأم.
نعم، ان كل وقت وكل يوم انما هو عالمٌ يمضي وباب ينفتح لعالم جديد لذا فان تكرار " لا إله إلاّ الله " بشوق الحاجة اليها ألوف المرات لاجل اضاءة تلك العوالم السيارة كلها وانارتها بنور الايمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في استار تلك العوالم والايام. فكما أن الامر هكذا في " لاإله إلاّ الله " كذلك بتلاوة تكرارات القرآن الكريم يعرف المرء عظم جزاء الجنايات الحاصلة بالظلام المخيم على
الشعاع الحادي عشر - ص: 313
تلك الكثرة الكاثرة من المشاهد السارية، وعلى تلك العوالم السيارة المتجددة، وقبح صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الاوضاع المقبلة شهوداًًً له يوم القيامة لاشهوداً عليه، وترقّيه الى مرتبة معرفة عِظم جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النذر المخيفة لسلطان الازل والابد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوّقه الى الخلاص من طغيان النفس الامارة بالسوء.. فلأجل هذه الحكم كلها يكرر القرآن الكريم مايكرر في غاية الحكمة، مظهراً ان النذر القرآنية الكثيرة الى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطان من توهمها باطلا، ويهرب من تخيلها عبثا. نعم ان عذاب جهنم لهو عين العدالة لأولئك الكفار الذين لايعيرون للنذر سمعاً.
ومن المكررات القرآنية "قصص الانبياء" عليهم السلام، فالحكمة في تكرار قصة موسى عليه السلام - مثلاً - التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الانبياء انما هي لاثبات الرسالة الاحمدية وذلك بإظهار نبوة الانبياء جميعهم حجة على أحقية الرسالة الاحمدية وصدقها؛ حيث لايمكن أن ينكرها الا من ينكر نبوتهم جميعا. فذكرها اذن دليل على الرسالة.
ثم ان كثيراً من الناس لايستطيعون كل حين ولا يوفقون الى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما يتيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر، ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار اركان الايمان الضرورية. اي أن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه اسراف قط. زد على ذلك فان فيه تعليماً بأن حادثة ظهور محمد صلى الله عليه وسلم اعظم حادثة للبشرية واجل مسألة من مسائل الكون.
نعم! ان منح ذات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اعظم مقام واسماه في القرآن الكريم، وجعل "محمد رسول الله" - الذي يتضمن اربعة من اركان الايمان - مقروناًً بـ"لا اله الا الله" دليل - وأيّ دليل - على أن الرسالة المحمدية هي اكبر حقيقة في الكون، وان محمداً صلى الله عليه وسلم لهو اشرف المخلوقات طراً. وان الحقيقة المحمدية التي تمثل الشخصية المعنوية الكلية والمقام السامى والمرتبة الرفيعة لمحمد صلى الله عليه وسلم هي السراج المنير للعالمين كليهما، وانه صلى الله عليه وسلم اهل لهذا المقام الخارق، كما قد اثبت ذلك في اجزاء رسائل النور بحجج وبراهين عديدة اثباتا قاطعاً. نورد هنا واحداً من الف منها. وكما يأتي:
الشعاع الحادي عشر - ص: 314
ان كل ما قام به جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم من حسنات في الازمنة قاطبة يكتب مثلها في صحيفة حسناته صلى الله عليه وسلم، وذلك حسب قاعدة "السبب كالفاعل".
وان تنويره لجميع حقائق الكائنات بالنور الذي اتى به لايجعل الجن والانس والملك وذوي الحياة في امتنان ورضى وحدهم بل يجعل ايضاً الكون برمته والسماوات والارض جميعا راضية عنه محدثة بفضائله.
وان ما يبعثه صالحو الامة - الذين يبلغون المليارات - يوميا من أدعية فطرية مستجابة لاترد - بدلالة القبول الفعلي المشاهد لأدعية النباتات بلسان الاستعداد، وادعية الحيوانات بلسان حاجة الفطرة - ومن ادعية الرحمة بالصلاة والسلام عليه، وما يرسلونه بما ظفروا من مكاسب معنوية وحسنات هداياً، انما تقدم اليه اولا.
فضلا عما يدخل في دفتر حسناته صلى الله عليه وسلم من انوار لاحدود لها بما تتلوه أمته - بمجرد التلاوة - من القرآن الكريم الذي في كل حرف من حروفه - التي تزيد على ثلاثمائة الف حرف - عشر حسنات وعشر ثمار اخروية، بل مائة بل الف من الحسنات..
نعم ! ان علام الغيوب سبحانه قد سبق علمه وشاهد أن الحقيقة المحمدية التي هي الشخصية المعنوية لتلك الذات المباركة صلى الله عليه وسلم ستكون كمثال شجرة طوبى الجنة، لذا أولاه في قرآنه تلك الاهمية العظمى، حيث هو المستحق لذلك المقام الرفيع. وبيّن في اوامره بأن نيل شفاعته هو باتباعه والاقتداء بسنته الشريفة وهو اعظم مسألة من مسائل الانسان. بل أخذ بنظر الاعتبار - بين حين وآخر - اوضاعه الانسانية البشرية التي هي بمثابة بذرة شجرة طوبى الجنة.
وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملك هذه القيمة الراقية وفيها من الحكم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أن في تكراره معجزة معنوية قوية وواسعة، الامَن مرض قلبه وسقم وجدانه بطاعون المادية، فتشمله القاعدة المشهورة:
قد ينكر المرءُ ضوء الشمس من رَمَد ويُنكر الفمُ طعم الماء من سَقَم
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 315
خاتمة
هذه المسألة العاشرة في حاشيتين
الحاشية الاولى:
طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، ان زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده باقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهر قيمته؟ اي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! الى آخره من الافكار السامة. الا أن رسائل النور بفضل الله بحججها الدامغة وبانتشارها السربع في كل مكان، قد شلت تلك الفكرة وجعلتها عقيمة بائرة فاثبتت اثباتاً قاطعاً أنه:
لايمكن قطعا ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وان أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وان الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل - باي حال - محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة الى الالف، لذا لايمكن مطلقا تلاوة الترجمة بدلاً منه.
بيد ان المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نور القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لما كنت لا التقي احداً، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من اوضاع، الا أن اغلب ظني ان ما أوردته آنفا هو السبب الذي دعا الى إملاء هذه "المسألة العاشرة" على الرغم مما يحيط بي من ضيق.
الحاشية الثانية:
كنت جالسا ذات يوم في الطابق العلوي من فندق "شهر" عقب اطلاق سراحنا من سجن "دنيزلي" أتأمل فيما حوالي من اشجار الحَوَر (الصفصاف) الكثيرة في الحدائق الغناء والبساتين الجميلة، رأيتها جذلانة بحركاتها الراقصة الجذابة، تتمايل بجذوعها واغصانها، وتهتز اوراقها بادنى لمسة من نسيم. فبدت امامي بابهى صورة واحلاها، وكأنها تسبح لله في حلقات ذكر وتهليل.
الشعاع الحادي عشر - ص: 316
مسّت هذه الحركات اللطيفة أوتار قلبي المحزون من فراق إخواني، وانا مغموم لانفرادي وبقائي وحيداً.. فخطر على البال - فجأة - موسما الخريف والشتاء وانتابتني غفلة، اذ ستتناثر الاوراق وسيذهب الرواء والجمال.. وبدأت أتألم على تلك الحَوَر الجميلة، واتحسر على سائر الاحياء التي تتجلى فيها تلك النشوة الفائقة تألماً شديداً حتى اغرورقت عيناي واحتشدت على رأسي أحزان تدفقت من الزوال والفراق تملأ هذا الستار المزركش البهيج للكائنات !.
وبينما أنا في هذه الحالة المحزنة اذا بالنور الذي اتت به الحقيقة المحمدية عليه الصلاة والسلام يغيثني - مثلما يغيث كل مؤمن ويسعفه - فبدّل تلك الأحزان والغموم التي لاحدود لها مسرات وأفراحاً لاحد لها، فبتّ في امتنان أبدي ورضى دائم من الحقيقة المحمدية التي انقذني فيض واحد من فيوضات انوارها غير المحدودة، فنشر ذلك الفيض السلوان في ارجاء نفسي واعماق وجداني، وكان ذلك على النحو الآتي:
ان تلك النظرة الغافلة أظهرت تلك الاوراق الرقيقة والاشجار الفارعة الهيفاء من دون وظيفة ولامهمة، لانفع فيها ولاجدوى، وانها لاتهتز اهتزازها اللطيف من شدة الشوق والنشوة بل ترتعد من هول العدم والفراق.. فتباً لها من نظرة غافلة اصابت صميم ما هو مغروز فيّ - كما هو عند غيري - من عشق للبقاء، وحب الحياة، والافتتان بالمحاسن، والشفقة على بني الجنس.. فحولت الدنيا الى جهنم معنوية، والعقل الى عضو للشقاء والتعذيب. فبينما كنت اقاسي هذا الوضع المؤلم، اذا بالنور الذي أنار به محمد صلى الله عليه وسلم البشرية جمعاء يرفع الغطاء ويزيل الغشاوة ويبرز حِكماً ومعاني ووظائف ومهمات غزيرة جداً تبلغ عدد اوراق الحَور. وان نتائجها ليست الى العدم والعبث والإعدام والفناء.. وقد أثبتت رسائل النور ان تلك الوظائف والحكم تنقسم الى ثلاثة أقسام 1:
القسم الاول: وهو المتوجه الى الاسماء الحسنى للصانع الجليل. فكما ان صانعا ماهرا اذا ما قام بصنع ماكنة بديعة، يثني عليه الجميع ويقدرون صنعته ويباركون ابداعه، فان تلك الماكنة هي بدورها كذلك تبارك صانعها وتثني عليه بلسان حالها،
_____________________
1
اكتفى الاستاذ هنا بذكر الوظيفتين، حيث الثالثة تعود الى الشئ نفسه. - المترجم.

الشعاع الحادي عشر - ص: 317
وذلك باراءتها النتائج المقصودة منها اراءة تامة. كذلك كل حي وكل شئ مثل تلك الماكنة، يبارك صانعه بالتسبيحات.
اما القسم الثاني: فهو المتوجه الى انظار ذوي الحياة وذوي الشعور من المخلوقات اي يكون موضع مطالعة حلوة وتأمل لذيذ، فيكون كل شئ كأنه كتاب معرفة وعلم، ولايغادر هذا العالم - عالم الشهادة - الاّ بعد وضع معانيه في اذهان ذوي الشعور، وطبع صوره في حافظتهم، وانطباع صورته في الالواح المثالية وفي سجلات عالم الغيب، اي لاينسحب من عالم الشهادة الى عالم الغيب الاّ بعد دخوله ضمن دوائر وجود كثيرة ويكسب انواعاً من الوجود المعنوي والغيبي والعلمي، بدلاً عن وجود صورى ظاهرى.
نعم مادام الله موجوداً، وعلمه يحيط بكل شئ، فلابد ألاّ يكون هناك في عالم المؤمن عدم، واعدام، وانعدام، وعبث، ومحو، وفناء، من زاوية الحقيقة.. بينما دنيا الكفار زاخرة بالعدم والفراق والانعدام ومليئة بالعبث والفناء. ومما يوضح هذه الحقيقة ما يدور على الالسنة من قول مشهور هو:
"
من كان له الله كان له كل شئ، ومن لم يكن له الله لم يكن له شئ".
الخلاصة: ان الايمان مثلما ينقذ الانسان من الاعدام الابدي اثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص ايضا من ظلمات العدم والانعدام والعبث. بينما الكفر - ولاسيما ان كان مطلقا - فانه يعدم ذلك الانسان، ويعدم دنياه الخاصة به بالموت. ويلقيه في ظلمات جهنم معنوية محولا لذائذ حياته آلاما وغصصا.
فلترّن آذان الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، وليأتوا بعلاج لهذا الامر ان كانوا صادقين، او ليدخلوا حظيرة الايمان ويخلصوا انفسهم من هذه الخسارة الفادحة.

(سبحانك لا علمَ لنا إلاّ ما عَلمتَنا إنكَ انت العليمُ الحكيم)
اخوكم الراجي دعواتكم والمشتاق اليكم
سعيد النورسـي
الشعاع الحادي عشر - ص: 318
المسألة الحادية عشرة
ان الشجرة المقدسة للاركان الايمانية الكلية لها ثمرات يانعة احداها هي الجنة، والاخرى هي السعادة الابدية، والثالثة هي رؤية الله جل جلاله. ولما كانت رسائل النور قد اوضحت مئات من تلك الثمار - كلّيها وجزئيها - مع حججها الدامغة في "سراج النور" فنحيل اليها ونشير هنا الى بضعة نماذج فقط لثمرات جزئية بل الى جزء الجزئي والخاص من تلك الثمار الطيبة.
احداها: كنت ذات يوم ادعو دعاء بهذا المضمون "يارب أتوسل اليك بحرمة جبرائيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل وبشفاعتهم ان تحفظني من شرور شياطين الجن والانس.." وحالما ذكرتُ اسم عزرائيل - الذي يملأ ذكره الناس رعباً وارتجافاً - شعرتُ بحالة ذات طعم في غاية الحلاوة والسلوان، فحمدت الله قائلا: الحمد لله، وبدأت أحب عزرائيل حباً خالصاً، على أنه واحد من الملائكة الذين يعتبر الايمان بوجودهم ركناً من أركان الايمان. وسنشير بإلمامة قصيرة الى ثمرة جزئية واحدة من عديد الثمار للايمان بهذا المَلَك.
منها: ان اثمن ما عند الانسان، واعظم ما يحرص عليه ويدافع عنه ويجهد في الحفاظ عليه، هو روحه بلاشك.. فلقد أحسستُ يقيناً بفرح عميق ازاء تسليم الانسان لأعز ما يملكه في الوجود - وهو روحه - الى يد "قوي أمين" ليحفظه من العبث والضياع والفناء.
ثم تذكرت الملائكة الموكَّلين بتسجيل اعمال الانسان، فرأيت أن لهم ثمرات لذيذة جداً كهذه:
منها: ان كل انسان لأجل أن تخلد أعماله الطيبة، وتبقى كلماته القيمة، يسعى للحفاظ عليها وصيانتها من الضياع، سواء عن طريق الكتابة او الشعر، او حتى
الشعاع الحادي عشر - ص: 319
بالشريط السينمائي، وبخاصة اذا كان لتلك الاعمال ثمراتها الباقية في الجنة، فيشتاق الى حفظها اكثر..
والكرام الكاتبون واقفون على منكبي الانسان ليُظهروه في مشاهد أبدية، وليصوروا اعماله في مناظر خالدة، ليكافأ اصحابها ولينالوا الجوائز الثمينة الدائمة.. ولقد تلذذت من طعوم هذه الثمرة بلذائذ حلوة لا أستطيع أن أصفها.
وعندما جردني اهل الضلالة من اسباب الحياة الاجتماعية، وابعدوني عن كتبي وأحبتي وخدمي وكل ما كان يمنحني السلوان، وألقوني في ديار الغربة والوحشة، وكنت في ضيق وضجر من حالي الى درجة كنت أشعر أن الدنيا الفارغة ستتهدم على رأسي.. فبينما انا في هذه الحالة اذا بثمرة من ثمرات الايمان بالملائكة تأتي لأغاثتي، فتضئ ارجاء دنياي كلها، وتنور العالم من حولي، وتعمّره بالملائكة وتؤهله بالارواح الطيبة حتى دب السرور والبهجة في كل مكان 1. وأرتني كذلك كم كانت دنيا اهل الضلالة ملآى بصرخات الوحشة وحسرات العبث والظلام..
فبينما كان خيالي فرحاً جذلاً بالتمتع بلذة هذه الثمرة، اذا به يتسلم ثمرة من الثمار الوفيرة - الشبيهة بهذه - من الايمان بالرسل عليهم السلام، فذاقها فعلا، واحسست تواً أن ايماني قد توسع ونما وانبسط حتى اصبح كليا شاملا، اذ أشرقت لدىّ تلك الأزمنة الغابرة كلها واستضاءت بنور التصديق والايمان بهم، حتى كنت أشعر كأنني أعيش معهم، وبات كل نبي من الانبياء يصدق بآلاف التصديق على اركان الايمان التي جاء بها ودعا اليها، خاتمهم صلى الله عليه وسلم، مما أخرس الشيطان وأسكته..
ثم قفز الى القلب السؤال ذو الجواب الشافي الوارد في لمعة "حكمة الاستعاذة" وهو: ان اهل الايمان الذين لهم مثل هذه الثمرات للايمان، ومثل هذه الفوائد والنتائج اللذيذة ذات الطعوم غير المحدودة، ولهم النتائج الجميلة الطيبة للحسنات ومنافعها الكثيرة، ولهم العناية الدائمة من "أرحم الراحمين" وتوفيقه ورحمته.. كل ذلك يمنحهم القوة والاسناد، فلِمَ إذاً يتغلب اهل الضلالة غالباً عليهم، بل قد يتغلب عشرون من اهل الضلالة على مائة منهم، ويهلكونهم؟!.. وفي ثنايا هذا التفكير
_____________________
1
"اطت السماء وحق لها ان تئط، ما من موضع اربع اصابع الا عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى". رواه احمد (5/173) والترمذي (زهد/9) وابن ماجة (زهد/19) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #9
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 320
خطر لي: لِمَ يحشّد القرآن الكريم هذا الحشد العظيم لأهل الايمان بذكر إمداد الله إياهم بالملائكة وهم يواجهون دسائس شيطانية واهية ضعيفة؟..
وبما ان رسائل النور قد وضحت حكمة ذلك بحجج قاطعة. فسنشير هنا الى الجواب عن ذلك السؤال في غاية الايجاز:
نعم، يتولى احياناً مائة من الاشخاص المحافظة على قصر، عندما يحاول أحدُ الشريرين أو أي شخص مخرّب إلقاء النار فيه خفية لتدميره. بل قد يُلجأ الى السلطان أو الدولة للحفاظ على القصر، ذلك لأن بقاء بناء القصر يتوقف على جميع الشروط والاركان والاسباب الداعية الى البقاء. اما تخريبه وهدمه فيكون بانعدام شرط واحد فقط. فعلى غرار هذا المثال نفهم كيف ان شياطين الجن والانس يقومون بتخريب مدهش وبحريق معنوي عظيم بفعل قليل جدا، بمثل مايقوم شرير بتدمير بناءٍ فخم بالقاء عود كبريت فيه.
نعم، ان اساس وخميرة الشرور والرذائل والخطايا كلها هو العدم والهدم. وما يبدو من وجودها الظاهر يختفي تحته الافساد، والتعطل، والعدم.
واستناداً الى هذه النقطة فان شياطين الجن والانس والشريرين يتمكنون بقوة هزيلة جدا، أن يصدّوا قوة لاحد لها لاهل الحق والحقيقة ويلجئوهم الى باب الله عز وجل والسعي اليه دائماً. ولأجل هذا يضع القرآن الكريم تلك الحشود الهائلة لحمايتهم. وتسلّم الى ايديهم تسعة وتسعين اسماً من الاسماء الحسنى، ويصدر اوامر مشددة ليثبتوا تجاه اولئك الاعداء.
ومن هذا الجواب ظهر فجأة اساس مسألة مدهشة وبداية حقيقة عظيمة وهو:
كما أن الجنة تخزن محاصيل جميع عوالم الوجود ونتائجها، وتستثمر النوى المزروعة في الدنيا، فتجعلها تؤتي اُكلها كل حين. فان جهنم تحمص محاصيل العدم وتعصف بها لاجل اظهار النتائج الأليمة جدا لعوالم العدم والفناء غير المحدودة، فمصنع جهنم الرهيب - فضلا عن وظائفها العديدة - يطهّر ما في عالم الوجود من اوساخ عالم العدم وأدرانه. سنوضح هذه المسألة العظيمة فيما بعد ان شاء الله لأننا لانريد فتح بابها هنا.
الشعاع الحادي عشر - ص: 321
وكذا فان جزءاً من ثمرات الايمان بالملائكة هو الذي يعود الى المنكر والنكير 1، وهو كالآتي:
قلت ذات يوم: "انني لابد - كأي فرد كان - داخل لامحالة في القبر".. فدخلت اليه خيالا: وفيما كنت استوحش يائسا من سجن القبر الانفرادي، ومن تجردي المطلق من كل شئ، وحيداً دون معين، في ذلك المكان الضيق المظلم البارد، اذا بصديقين كريمين من طائفة "المنكر والنكير" قد برزا وجاءا اليّ وبدءا بالمناظرة معي.. وسّعا كلا من قلبي وقبري، فاستضاءا وتدفئا، وفُتحت شبابيك نوافذ مطلة على عالم الارواح.. سُررت من اعماق روحي وشكرت الله كثيرا على ما رأيت من الاوضاع التي ستتحقق حتما في المستقبل وان كنت أراها الآن خيالا.
فكما أنه عندما توفي طالب علم اثناء تعلمه الصرف والنحو، سأله المنكر والنكير في القبر: مَن ربك ؟ أجاب: مَن مبتدأ وربُك خبره.. أسألوني سؤالاً صعباً فهذا سهل!! - يحسب نفسه انه لايزال في المدرسة يتلقى الدرس - كما أن هذا الجواب أضحك الملائكة والارواح الحاضرة وذلك الولي الصالح الذي انكشف له القبر فشاهد الحادثة، بل جعل الرحمة الإلهية تبتسم؛ فأنقذه من العذاب.. كذلك فقد أجاب شهيد بطل من طلاب رسائل النور وهو (الحافظ علي) 2 وقد توفي في السجن وهو لايزال يقرأ ويكتب "رسالة الثمرة" بكمال الشوق، أجاب عن اسئلة المَلَكين في القبر - مثلما أجاب في المحكمة - بحقائق "رسالة الثمرة". وأنا كذلك وسائر طلبة رسائل النور سنجيب إن شاء الله عن تلك الاسئلة التي هي حقيقة في المستقبل، ومجاز في الوقت الحاضر. سنجيب عنها بحجج رسائل النور الساطعة وبراهينها الدامغة ونسوقهم بها الى التصديق والاستحسان والتقدير.
_____________________
1
روى الترمذي (جنائز/70) وابو داود بمعناه (2/540، 541) وابن ماجة (جنائز/65) واحمد (3/126، 4/288): «اذا قبر الميت أتاه ملكان اسودان ازرقان يقال لاحدهما المنكر وللآخر نكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبدالله ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم انك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم فيقول: ارجع الى اهلي فاخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا بوقظه الاّ احب اهله اليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وان كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثله، لا ادري. فيقولون: قد علمنا انك تقول ذلك، فيقال للارض التئمي عليه، فتختلف اضلاعه فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك». - المترجم.

2
وهو من الاوائل الذين تتلمذوا على الاستاذ النورسى، كان دؤوباً في الاستنساخ، لما انعم الله عليه من جودة الخط ومن علو الهمة، استشهد في سجن (دنيزلي) سنة 1944 رحمه الله رحمة واسعة.

الشعاع الحادي عشر - ص: 322
وكذا فان نموذجا جزئياً للايمان بالملائكة محوراً لسعادة الدنيا هو:
بينما كان طفل برئ يتلقى درسه الايماني في مبادئ الفقه، اذ يأتيه طفل آخر باكياً مولولا لوفاة أخيه البرئ فيهدئه ويسليه، قائلا: لاتبك ياأخي، بل اشكر الله؛ لأن أخاك قد ذهب مع الملائكة ومضى الى الجنة وسيتجول ويسرح هناك بحرية كاملة كالملائكة وسيجد الفرحة والهناء احسن منا، وسيطير كالملائكة ويشاهد كل مكان.. فبدّل بكاءه وصراخه وعويله ابتسامة وسروراً.
فانا كذلك مثل هذا الطفل الباكي، فقد تلقيت مع ما انا فيه من وضع أليم وفي هذا الشتاء الكئيب نبأ وفاة اثنين ونَعيَهما بأسى وألم بالغين.
احدهما: هو ابن اخي المرحوم "فؤاد" الذي أحرز الدرجة الاولى في المدارس العليا وهو الناشر لحقائق رسائل النور.
الثاني: تلك التي حجت وطافت البيت وهي تعاني سكرات الموت وسلمت روحها في الطواف، وهي المرحومة اختي العالمة "خانم".
فبينما ابكاني وفاة هذين القريبين كبكائي على "عبد الرحمن" 1 - المذكور في رسالة الشيوخ - رأيت بنور الايمان - قلباً ومعنى - صداقة الملائكة ورفاقة الحُور العين لذلك الشاب الطيب "فؤاد" ولتلك السيدة الصالحة، عوضاً عن صداقة الناس، ورأيت نجاتَهما من مهالك الدنيا وخلاصهما من خطاياها. فبدأت أشكر الله وهو أرحم الراحمين ألف شكر وشكر، بما حوّل ذلك الحزن الشديد الى الشعور بالبهجة، والاحساس بالسرور.. وبدأت أهنئهم واهنئ اخي عبدالمجيد 2 (ابا فؤاد) واهنئ نفسي كذلك. ولقد كُتب هذا وسُجل هاهنا من اجل أن ينال هذان المرحومان بركة الدعاء.
ان جميع ما في رسائل النور من موازين ومقارنات انما هو لبيان ثمار سعادة الايمان ونتائجها التي تعود للحياة الدنيا والحياة الاخرى، فتلك الثمار الكلية الضخمة تُري في
_____________________
1
هو عبد الرحمن بن عبدالله، ابن شقيق الاستاذ النورسى ولد سنة 1903 فى نورس وتوفي سنة 1928 ودفن في قرية (ذو الفضل) في انقرة. كتب تاريخ حياة الاستاذ حتى عام 1918 ونشره بكتاب طبع في استانبول. - المترجم.

2
عبد المجيد: هو اصغر اخوة الاستاذ النورسى. ترجم كثيراً من رسائله الى اللغة العربية الا انها نشرت فى وقتها فى نطاق ضيق وترجم الى التركية رسائله العربية (اشارات الاعجاز) و(المثنوى العربى). كان مدرساً للغة العربية ثم مفتياً ثم مدرساً للعلوم الاسلامية فى معهد الائمة والخطباء والمعهد الاسلامي فى قونيا. توفى سنة 1967م عن ثلاث وثمانين سنة من العمر رحمه الله رحمة واسعة. - المترجم.

الشعاع الحادي عشر - ص: 323
الدنيا سعادة الحياة وتذيق لذائذها خلال العمر، كما تخبر: أن ايمان كل مؤمن سيُكسبه في الآخرة سعادة ابدية، بل ستثمر وتتكشف وتنبسط بالصورة نفسها هناك. فمن نماذج تلك الثمار الكلية العديدة كتبت خمس ثمار منها على أنها (للمعراج) في نهاية "الكلمة الحادية والثلاثين" وخمس ثمار في "الغصن الخامس من الكلمة الرابعة والعشرين".
فكما ذكرنا آنفاً ان لكل ركن من اركان الايمان ثماراً كثيرة جداً بلا حدود، فلمجموع اركان الايمان معاً ثمرات لاحدّ لها ايضاً: احداها: الجنة العظيمة.. والاخرى: السعادة الابدية.. والثالثة: هي ألذّها وهي رؤية الله جل جلاله هناك.
وقد وضح بجلاء في المقارنة المعقودة في نهاية "الكلمة الثانية والثلاثين" بعض ثمار الايمان الذي هو محور سعادة الدارين.
هذا وان الدليل على ان "الايمان بالقدر" له ثماره النفيسة ايضاً في هذه الدنيا هو ما يدور على ألسنة الجميع، حتى غدا مضرباً للأمثال: (مَن آمن بالقدر أمِنَ من الكدر). وفي نهاية "رسالة القدر" بينت احدى ثماره الكلية بمثال هو: دخول رجلين حديقة قصر سلطاني.. حتى انني شاهدت من خلال حياتي بالاف من تجاربي وعرفت أن لاسعادة للحياة الدنيا دون الايمان بالقدر، فلولا هذا الايمان لمُحيت اذاً تلك السعادة وفنيت. بل كنت كلما نظرت الى المصائب الأليمة من زاوية الايمان بالقدر كانت تلك المصائب تخف ويقل وطؤها علىّ، فكنت أسأل بحيرة: ياترى كيف يستطيع العيش من لايؤمن بالقدر؟
وقد أشير الى احدى الثمار الكلية للركن الايماني (الايمان بالملائكة) في المقام الثاني للكلمة (الثانية والعشرين) بما يأتي:
ان عزرائيل عليه السلام قال مناجياً ربه عز وجل: ان عبادك سوف يشتكون مني ويسخطون علىّ عند ادائي وظيفة قبض الارواح. فقيل له جواباً: سأجعل الامراض والمصائب ستائر لوظيفتك لتتوجه شكاواهم الى تلك الاسباب لا اليك. ووظيفة عزرائيل نفسها هي الاخرى ستار من تلك الستائر كيلا تتوجه الشكاوى الباطلة الى الحق سبحانه وتعالى، وذلك لان الحكمة والرحمة والجمال والمصلحة الموجودة في الموت قد لايراها كل أحد؛ اذ ينظر الى ظاهر الامور ويبدأ بالاعتراض والشكوى،
الشعاع الحادي عشر - ص: 324
فلاجل هذه الحكمة - اي لئلا تتوجه الشكاوى الباطلة الى الرحيم المطلق - فقد اصبح عزرائيل عليه السلام سِتاراً.
ومثل هذا تماما ما يقوم به جميع الملائكة، وجميع الاسباب الظاهرة من واجبات ووظائف إنما ستائر لعزة الربوبية، لتبقى عزة القدرة الإلهية وقدسيتها ورحمة الله المحيطة الشاملة مصونةً في الامور والاشياء التي لاترى فيها اوجه الجمال، ولاتعلم فيها حقائق الحكمة، من دون ان تكون هدفاً للاعتراضات الباطلة. ولايشاهد عندئذ بالنظر الظاهري مباشرةُ يد القدرة في الامور الجزئية والمنافية للرحمة والاشياء التافهة. هذا وأن رسائل النور قد اثبتت بدلائلها الغزيرة جداً، انه ليس لأي سبب من الاسباب تأثير حقيقي، وليس له قابلية الايجاد اصلاً. وان سكك التوحيد واختامها غير المحدودة موضوعة على كل شئ وان الخلق والايجاد يخصه هو سبحانه وتعالى، فليست الاسباب الاّ مجرد ستائر، وليس للملائكة - وهم ذوو شعور - غير جزءٍ من الاختيار الجزئي الذي له الكسب دون الايجاد، وهو نوع من الخدمة الفطرية ونمط من العبودية العملية لا غير.
اجل ان العزة والعظمة تقتضيان وضع الاسباب الظاهرية ستائر امام نظر العقل، الا ان التوحيد والجلال يرفعان ايدي الاسباب ويردّانها عن التأثير الحقيقي.
وهكذا، فكما ان الملائكة والاسباب الظاهرية المستخدمة في امور الخير والوجود، هي وسائل للتقديس الرباني وتسبيحه، فيما لايُرى ولايُعلم جماله من الاشياء، وذلك بتنزيه القدرة الربانية وصيانتها عن التقصير والظلم، كذلك فان استخدام شياطين الجن والانس والعناصر المضرة في امور الشر والعدم، هو الآخر نوع من الخدمة للتسبيحات الربانية ووسيلة للتقديس والتنزيه والتبرئة من كل مايُظن نقصاً وتقصيراً في الكائنات وذلك لصيانة القدرة السبحانية، كيلا تكون هدفاً لإلصاق الظلم بها وتوجيه الاعتراضات الباطلة اليها، ذلك لأن جميع التقصيرات تأتي من العدم، ومن العجز، ومن الهدم، ومن اهمال الواجبات - الذي كل منه عدم - ومما ليس له وجود من الافعال العدمية. فهذه الستائر الشيطانية والشريرة قد أضحت وسائل لتقديس الحق سبحانه وتعالى لما حملت على عاتقها - باستحقاق - تلك الاعتراضات والشكاوى لكونها مرجعاً لتلك التقصيرات ومصدراً لها. اذ الاعمال الشريرة والعدمية والتخريبية
الشعاع الحادي عشر - ص: 325
لا تتطلب - اصلاً - القوة والقدرة، فالفعل القليل او القوة الجزئية بل إهمال لواجبٍ ما احياناً، يؤدي الى انواع من العدم والفساد. لذا يُظن ان القائم بتلك الافعال الشريرة هو ذو قدرة، بينما الامر في الحقيقة أنه لاتأثير له الاّ العدم ولاقوة له الاّ الكسب الجزئي. ولما كانت تلك الشرور ناشئة من العدم فان اولئك الاشرار يعدّون هم الفاعلين الحقيقيين لها؛ فان كانوا من ذوي الشعور استحقوا ان يذوقوا وبال امرهم. وهذا يعني؛ ان اولئك الاشرار الفاسدين هم فاعلون للسيئات. اما في الحسنات والخير والاعمال الصالحة فلانها وجودية، فان الاخيار ليسوا هم الفاعلين الحقيقيين لها، وانما هم اهلٌ لكي تجري الحسنات على ايديهم فيقبلوا الكرم الإلهي. وما إثابتهم على اعمالهم الاّ كرم وفيض إلهي محض. والقرآن الكريم يوضح هذا بأمره:
(ما أصابَكَ مِنْ حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما أصابَكَ مِنْ سَيّئةٍ فَمِنْ نَفسِكَ) (النساء:79)
ومجمل القول:
ان عوالم الوجود وعوالم العدم غير المحدودتين عندما تتصادمان معاً، وعندما تثمران الجنة والنار، وعندما تقول جميع عوالم الوجود: "الحمد لله، الحمد لله" وتردد جميع عوالم العدم: "سبحان الله، سبحان الله" وحتى عندما تتصارع الملائكة مع الشياطين، والخيرات مع الشرور، بل حتى عندما يدور الجدال حول القلب بين الالهام والوسوسة.. عندما يحدث كل هذا بقانون المبارزة المحيط، تتجلى ثمرة من ثمار الايمان بالملائكة فتحسم القضية وتحل المشكلة، منورةً الكائنات المظلمة مبدية لنا نوراً من أنوار: (الله نور السموات والارض) فتذيقنا من حلاوتها.. ما احلاها! وما ألذها!!.
هذا وان كلاً من الكلمة "الرابعة والعشرين"، "والكلمة التاسعة والعشرين" قد اشارتا الى ثمرة كلية اخرى واثبتتا اثباتاً ساطعاً وجود الملائكة ووظائفهم.
نعم ان ربوبية جليلة رحيمة واسعة التي عرّفت نفسها وحببتها، بما بثت من كل شئ في جنبات الكون سواء أكان كلياً ام جزئياً، يجب ان يقابَل ذلك الجلال، وتلك الرحمة، وذلك التعرّف والتحبب بعبودية واسعة محيطة شاملة شاكرة ضمن تقديس وحمد وثناء.
الشعاع الحادي عشر - ص: 326
وحيث ان الجمادات والاركان العظيمة للكون التي ليس لها شعور لايمكنها القيام بهذه العبودية العظيمة، فلايقوم بها عنهم الاّ ما لايحصى من الملائكة.. فهؤلاء هم الذين يمكنهم أن يمثلوا - بكل حكمة وجلال - أجراءات سلطنة الربوبية في كل ركن من اركان الكون، وفي كل جزء من أجزائه من الثرى الى الثريا من اعماق الارض الى اعالي الفضاء.
فمثلاً: ان ما تصوره القوانين الميتة للفلسفة من خلق الارض ووظيفتها الفطرية بشكل موحش مظلم، تحوّلها هذه الثمرة الايمانية صورةً مؤنسة مضيئة حيث المَلَكان المسمّيان بالثور والحوت، يحملان على كتفهما - اي تحت اشرافهما - الكرة الارضية، حيث قد اُحضرت من الجنة وجُلبت منها تلك المادة الأخروية، وتلك الحقيقة الاخروية المسماة بـ"الصخرة" لتصبح الحجر الاساس الباقي لهذه الكرة الارضية الفانية، اشارةً الى أن قسماً من الارض سيُفرغ ويحوّل الى الجنة الباقية، فاصبحت الصخرة نقطة استناد للمَلكين "الثور والحوت".. هكذا رويت هذه الرواية عن بعض انبياء بني اسرائيل السابقين، وهي مروية كذلك عن ابن عباس رضي الله عنه. ولكن المؤسف جداً ان يتحول هذا التشبيه اللطيف وهذا المعنى السامي بمرور الزمن الى حقيقة مادية مجسّمة عند العوام، بحيث اصبحت خارجة عن نطاق العقل؛ اذ الملائكة يستطيعون أن يصولوا ويجولوا في التراب وفي الصخور وفي مركز الارض كجولانهم في الهواء، فليسوا اذاً بحاجة أبداً - ولا الكرة الارضية نفسها بحاجة - الى صخرة مادية مجسمة ولا الى ثور وحوت ماديين مجسمين! بمعنى ان تلك الرواية ليست الا للتشبيه 1.
ومثلا: لما كانت الكرة الارضية تسبّح لله بعدد رؤوس الانواع الموجودة فيها، من حيوان ونبات وجماد. وبعدد ألسنة افراد تلك الانواع، وبمقدار اعضاء تلك الافراد،
_____________________
1
عن مالك في قوله عز وجل (وسع كرسيه السموات والارض) قال: ان الصخرة التي تحت الارض السابعة، ومنتهى الخلق، على ارجائها اربعة من الملائكة، لكل ملك منهم اربعة وجوه: وجه انسان ووجه اسد، وووجه نسر، ووجه ثور، فهم قيام عليها قد احاطو بالارض والسموات ورؤسهم تحت الكرسي والكرسي (تحت) العرش. قال: وهو واضع رجليه تبارك وتعالى على الكرسي.
أخرجه عبدالله بن الامام احمد في كتاب (السنة) برقم 589، 1/3: 3 في اسناده مجهول والمدى معروف بالوهم وبقية رجاله ثقات. وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/329 لعبد بن حميد وابو الشيخ في العظمة واخرجه ايضا البيهقي في الاسماء والصفات ص/403 وقد اخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور باختلاف في السياق 6/261 من كلام وهب بن منبه وهو ثقة كثير النقل من كتب الاسرائيليات (انظر الميزان 4/352).

الشعاع الحادي عشر - ص: 327
وبعدد اوراقها واثمارها، فان تقديم هذه العبودية الفطرية غير الشعورية العظيمة جداً، وتمثيلها، وعرضها بعلم وشعور، على الحضرة الإلهية المقدسة، يتطلب حتماً مَلكاً موكلاً له اربعون ألف رأس، وفي كل رأس اربعون ألف لسان يسبح بكل لسان اربعين ألف تسبيحة، مثلما أخبر المخبر الصادق بهذه الحقيقة نفسها. نعم إنه من مقتضيات جلال الربوبية وعظمتها وسلطانها أن يكون جبرائيل عليه السلام على ماهية عجيبة وهو المؤهل لتبليغ العلاقات الربانية للانسان الذي هو اهم نتيجة لخلق الكون. وأن يكون إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام على ماهية عجيبة ايضاً، وهما يمثلان - مجرد تمثيل - الاجراءات الإلهية الخاصة للخالق سبحانه، ويشرفان بعبودية خالصة على أعظم شئ في عالم الاحياء، وهو البعث والموت. وأن يكون ميكائيل عليه السلام على ماهية عجيبة ايضاً، اذ يمثل بشعور كامل أنواع الشكر غير الشعورية على الاحسانات الرحمانية في الرزق الذي هو أجمع دائرة من دوائر الحياة وأوسعها للرحمة واكثرها تذوقاً، فضلاً عن اشرافه عليها.
نعم، انه من مقتضيات جلال الربوبية وأبهتها، بقاء الروح، ووجود امثال هؤلاء الملائكة على ماهية عجيبة جداً، اذ إن وجود هؤلاء، ووجود كل طائفة خاصة منهم، قطعي الثبوت ولاريب فيه مطلقاً، فهو ثابت بدرجة تليق بثبوت وجود الجلال والسلطنة الظاهرة في الكون كالشمس. وليقس على هذا المواد الاخرى التي تخص الملائكة.
نعم، ان الذي يخلق في الكرة الارضية اربعمائة الف نوع من الاحياء، بل يخلق من ابسط المواد ومن العفونات، ذوات أرواح بكثرة هائلة، ويعمّر بهم أرجاء الارض ويجعلهم ينطقون بلسانهم اعجاباً: "ماشاء الله، بارك الله، سبحان الله" امام معجزات صنعته سبحانه، والذي جعل حتى الحيوانات الدقيقة تنطق بـ "الحمد لله والشكر لله والله اكبر" حيال احسانات الرحمة الواسعة وآلائها. ان هذا القدير ذا الجلال والجمال قد خلق بلاريب ولاشبهة سكنةً روحانيين تناسب السموات الشاسعة، ممن لايعصون أمره، ويعبدونه دوماً، فيعمّر بهم السموات دون أن يدعها خالية مقفرة. فأوجد أنواعاً كثيرة جداً من الملائكة هي اكثر بكثير من انواع الاحياء وطوائفها، فقسم منهم صغير جداً يمتطون قطرات الامطار وبلورات الثلوج، ويباركون
الشعاع الحادي عشر - ص: 328
الصنعة الإلهية مهللين لرحمتها الواسعة بلسانهم الخاص، وقسم منهم يمتطون ظهور الكواكب السيارة فيسيحون في فضاء الكون معلنين للعالم أجمع عبوديتهم بالتكبير والتهليل امام عظمة الربوبية وعزتها وجلالها 1.
نعم، ان اتفاق كل الكتب السماوية، وجميع الاديان، منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام على وجود الملائكة وعلى عبوديتهم، وان ما روي من الروايات الكثيرة المتواترة من التحدث مع الملائكة والمحاورة معهم خلال جميع العصور، اثبت اثباتاً قاطعاً وجود الملائكة وعلاقتهم معنا، بدرجة ثبوت وجود الناس الذين لم نرهم في امريكا..
والآن انظر بنور الايمان الى هذه الثمرة الكلية الثانية وذقها لترى كيف أنها ابهجت الكائنات من أولها الى آخرها وعمرّتها وزيّنتها وحوّلتها الى مسجد اكبر ومعبد اعظم، فالكون المظلم البارد الذي ليس فيه حياة - كما تصوره مادية العلم والفلسفة - يصبح بالايمان، كوناً ذا حياة وشعور، ومنوراً ومؤنساً ولذيذاً، فتذيق هذه الثمرة أهل الايمان شعاعاً من لذة الحياة الباقية وهم لايزالون في الدنيا كلٌ حسب درجته.
تتمــة:
كما ان بسر الوحدة والاحدية، توجَد القُدرة نفسها، والاسمُ نفسهُ، والحكمةُ نفسها والابداع نفسه، في كل جهة من جهات الكون، فيعلن كلُ مصنوع - كلياً أم جزئياً - بلسان حاله: وحدانيةَ الخالق سبحانه وتصرفه وايجاده وربوبيته وخلاّقيته وقدسيته، كذلك فانه سبحانه يخلق ملائكة في ارجاء الكون كله ليقوموا - بألسنتهم الذاكرة الحامدة - بتسبيحات يؤديها كل مخلوق بلسان حاله بلا شعور منه. فالملائكة لايعصون الله ما يأمرهم. وليس لهم الاّ العبودية الخالصة، وليس لهم اي ايجاد كان، ولا دخل لهم دون إذن، ولا تكون لهم شفاعة دون إذن منه سبحانه، لذا نالوا شرف:
(بل عبادٌ مكرَمون) (الانبياء: 26) (وَيفعلون ما يُؤمرون) (التحريم: 6).
* * *
_____________________
1
روى ابو داود بسند صحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: اُذن لي ان اتحدث عن ملَك من حملة العرش رجلاه في الارض السفلى وعلى قرنه العرش، ومن شحمة اذنه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام فيقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت. - المترجم.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشعاعات - الشعاع الثالث عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 5 04-06-2011 03:41 PM
الشعاعات - الشعاع التاسع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 03:15 PM
الشعاعات - الشعاع السابع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 8 04-06-2011 03:13 PM
الشعاعات - الشعاع السادس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:55 PM
الشعاعات - الشعاع الخامس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:51 PM


الساعة الآن 02:30 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir