أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم أهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 07-09-2011
  #1
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، وبعد
المستقيل عن شان المؤمنين العام ، المستغرق في مواهبه و لطائفه و أسراره ، أمره خاص.
و المشارك في هموم أمته ، متبع للحبيب ، في امره الخاص و العام.
فمن هو الكامل في أتباعه ؟
القاعد أم القائم ؟.
المستقيل عن أمر المسلمين العام ، أم الحامل لأمرها الدعوي و السياسي و التربوي و التعليمي؟
ومن الأحق في الإتباع و الإقتداء؟
يتحمل بعض الصوفية و ليس جلهم السبب الرئيسي في أعراض بعض المريدين عن خذمة أمة الحبيب صلى الله عليه وو سلم.ذالك أن الخذمة أقتصرت في مفهومهم الخاص ، خذمة الشيخ و أبناء الشيخ و أحفاذ الشيخ و طينة الشيخ ، في حين أن الخذمة و الفتوة و حمل الرسالة و الذوذ عنها ، أكبر من مصطلح التصوف نفسه.
فهي من خصال المؤمنين الحملة الفعلة الدعاة حاملي مشكاة النبوة ، بالدعوة و الموعظة الحسنة ، لا بالقعود عن المهام الجسام التي تنتظرها الأمة ، من مجاهدي الأمة المنصورين عند الله ، القائمين بالقسط ، بالتؤدة و التريث و الأناة و الحزم ، والتصورالكامل في كليات الدين لا في جزئياته.
ما معنى خذمتي للحبيب ؟.
ما وظيفتي الحالية ؟ وما مهامي الخاصة و العامة ؟.
أن كان التصوف قعود ، فأن الأمير المجاهد الملك صلاح الدين الأيوبي لم يكن قاعدا، و قد ذاق من كلام القوم معنى وفعلا لا قعودا ، فكان جهاده رحمة و رفق ، وشدة و غلظة ، في حكمة و علم قل نظيرها بشهادة العدو و الصديق.
و عليه ، فأن الشأن الخاص المفضي الى القعود نوع من الفضل و ليس الفضل كله ، كما أن الجهاد في الشأن العام قمة الفضائل ، لكنه يصير وثنا أن كان المجاهد تحكمه الساحة ، لامنازلة النفس تتحكم فيه الحماسة لا التربية ، و الأندفاع و الشرة لا الفعل السني الدقيق في الخلوة و الجلوة.
فالنتيجة معادلة متناقضة ، كيف أجمع بين النقيضين ، الجهاد و التربية.؟
و هل يستحيل الجمع بين الأمرين أم أنه ممكن؟.
تعال ، نقرأ و نبحث عبر المسيرة التاريخية عن نماذج حملت الدعوة و التربية و الجهاد.
نسال الله التوفيق.
1.في النقل والعقل و الإرادة:
أ.في النقل:
لكل أمة نص تحتكم أليه ن تتوارثه عبر الأجيال، وله في قلبها و روحها قدسية تامة كاملة، فالنصارى يحتكمون إلى أناجيلهم،و اليهود إلى تلمودهم ، و المسلمون الى القرآن و السنة.
ما من أمة ألا و أنتجت في تفاعلها مع النص أجتهادا و حكما و حقيقة ،وعلى قدر حقائقها تكون في عزة و منعة ، وقد يكون سببا في أندحارها ، إن عاشت على أطلال ماضيها لا تنظر إلى أجتهادها بعين فاحصة.
من مميزات النقول التي بين أيدينا ، أنها وصلتنا بالسند و الرواية كابرا عن كابر، أجتهد علمائنا ممن سبقونا في فحصها خصوصا السنة النبوية ، فميزوا ضعيفها عن صحيحها ، والمكذوب فيها ، بعلم الدراية والرواية و الجرح و التعديل ، فأجتمعت الأمة على صحاح الكتب ،لايراودها الشك فيها ،أما القرآن فهو حبل ممدود لم يتغير منه حرف ، ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى الشيعة الشيعه منهم خصوصا، ولم يكن الزيدية إلا استثناءا فيهم.
لإان كان النقل بين ايدينا ربانيا و نبويا في التبليغ، لم لم نرقى به اإلى ذرى المنعة كما كا الرعيل الأول من تربى على يد الحبيب ؟.
ب.في العقل:
كل أمة تتفاعل مع نصها ، و باجتهادها تحيى و تموت ، فأما يكون أجتهادها على بصيرة وهدى ، فتحتكم إلى منهاج يحدد كليات الدين في فقه جامع يجمع المقاصد والمطالب ، فتعرف علاقة الدعوة مع الدولةة ،ومهام رجال الدعوة في مراقبتهم للدولة، في أجتهاد جماعي و فردي ، تحت جناح أمام مصحوب لا تنفك وظيفته التربوية عن مهاماته الجهادية ، تنقاد أليه الأمة و تصاحبه في رحمة و طاعة أو هدى، فتصب العقول و الجهود على حفظ الأمة من الضياع.
وأما تتفاعل مع النص في هوى جانح و عصبية جاهلية و تقاليد في السلطان ، فيكون انقلاب الدولة على الدولة فتكمم الأفواه و يغلق باب الإجتهاد ، و تنفرط عرى الأسلام عروة عروة ، كما عاشته الأمة في صدمتها الأولى بالأنقلاب الأموي على الحكم ، وتقويض البناء من الخلافة الى الحكم الوراثي.
ج.في الإرادة:
أرادة الأمم رهينة بأرادة ابنائها ، فبأي أرادة تطبق النص و بأي عقل تجتهد فيه؟
أجتهد علمائنا فيما سبق ، فأورثونا مكاسبا ثمينة ، في التربية و الفقه و الأصول و العلوم و الحديث النبوي.
أجتهدوا في عصرهم بتفاعلهم مع معطيات زمانهم، فهل ما وصلنا من الإجتهادات وهي نصوص بشرية أجتهدت في تدبر النصوص القرآنية ، مقدسة؟.
أم ينقصنا ذالك المفتاح الجامع لتلك الإجتهادات ، وذاك الفقه المنهاجي ، لتلك الإرادات ، فينير عقولنا إلى منبع الداء من أين ابتدأ ؟ ومتى انحرف المجتمع الأسلامي في حركيته و تفاعله؟ ومتى استفحل التفتت ؟ و أغلق باب الإجتهاد؟ ومتى كانت الفتنة فتنة و الجاهلية جاهلية ؟ و لم تقاعس رجال الدعوة وهربوا من الميدان لما تسلط الحاكم على رقاب المسلمين ؟
فهل نحاكم تلك الإرادات أم نفهم لم تصرفت بتلك الطريقة ، ومن يتحمل عواقب الإرث التاريخي و السياسي؟
و كيف نحدد اجتهادنا و طريقنا في الأصلاح؟
بالقعود في التربية و العرفان وحده، أم بالتربية و الجهاد؟.
د.خلاصة أولية :
يخلص القارئ الى نتائج بمجرد ما يضع النص و العقل و الإرادة في معادلة مترابطة متجانسة ، بمجرد ماأقرأ النص يتولد عن التدبرفهما ، ثم عملا و سلوكا.ومن ثم يستنتج عند دراسته لمسيرة المسلمين ، أن النص الخاذم لهوى القلب كان سلطانا ، وحاكما على سلوك الأقدمين ، الصالح منهم و الطالح ، الصوفي و السلفي و الحنبلي و غيره.
فكيف نتجاوز هوى القلب ، وحب المشرب ، لنرقى الى المشرب المحمدي الصافي الكامل ؟
نسال الله التوفيق.
2. صدمتان قاسيتان:
أ.في رحاب النبوة والخلافة:
نشا المسلمون في المسجد في كنف التربية النبوية ، بتوجيه الوحي الرباني فكان الوحي غضا طريا تتلقه القلوب بفطرة سليمة و فقه تام للسان العربي المبين.عرف حينها الرعيل الأول معنى التربية و الجهاد و الوحدة وسمو الدعوة على الدولة ، ومعنى الرحمة و التريث في البناء ،
فكانوا كما وصفهم القرآن رحماء بينهم اشداء على من عاداهم.
وقبض الحبيب و اختار الرفيق الأعلى ، فكانت الصدمة و المصيبة ، أنقطع حبل الأرض بالسماء و انتهى الوحي.
ثم كانت الوراثة و النيابة و الخلافة عن الله و رسوله في أبي بكر ثم عمر رضي الله عنه ،ثم كسر باب العدل بموته رضي الله عنه ، ثم كانت الفتنة مع عثمان ذي النورين رضي الله عنه ، ثم استفحلت بمقتله وولاية مولانا علي ابن ابي طالب عليه السلام ،
ثم كان الأنقلاب الأموي.
وصلتنا التربية النبوية بالسند الروحي أو بالسلسلة النورانية ، وقد تفوق فيها أهل الله الصوفية.
كما نبغ أهل الحديث في حفظهم للهدي النبوي ، فوصلنا عن الطريق السند الصحيح، ومتى اجتمع السند القلبي الروحي و السند العلمي ، كان صاحبه مرشحا بل كاملا في الأتباع.
ب.صدمتان قاسيتان:
اشار الشيخ عبد السلام ياسين الى هتين الصدمتين في كتابه الحواري ، الإسلام و القومية العلمانية قائلا :
(تاريخ المسلمين حافل، ربما أكثر من تاريخ أي أمة، بالاصطدامات والحروب الداخلية والنكبات : ثورات داخلية، احتلال صليبي دام مائة عام، غزو التتار والمقاتل الهائلة، الانحسار من الأندلس... الخ.
لكن صدمتان في تاريخنا كان لهما ولا يزال الأثر البالغ في نفوس المسلمين توارثته الأجيال، والأثر البالغ في وجهة المسلمين، إنهما أعظم التحديات في تاريخنا.
أما الصدمة الأولى فانكسار الوحدة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وما نتج عن تلك الفتنة المؤلمة من قتال بين الصحابة، وما تلا ذلك من تمزق الجماعة، إذ ظهرت الخوارج وتسلسلت إلى طوائف شغلت بحروبها المسلمين قرونا، وظهرت مطالبات آل البيت عليهم السلام وقوماتهم منذ قيام الإمام الحسين عليه السلام. ولم يكن مقتله الفاجع أقل وجوه تلك الفتنة قتامة، فتميزت الشيعة وتسلسلت مذاهبهم ومقاومتهم. كان أهم نتيجة لهذه الفتنة تحول نظام الحكم من خلافة على منهاج النبوة إلى ملك عاض. ولم يكن تاريخنا بعدئذ إلا معجزة عظيمة من معجزات التاريخ، نقول بلسان الإيمان : حفظا إلهيا وعناية، إذ استمرت الأمة في الوجود، واستمر الإسلام في انتشار، رغم هذه الشجة المردية في الرأس : ألا وهي فساد الحكم.
لكن هذه الصدمة على فداحتها واستفحال نتائجها على العصور إلى الآن ما لبثت أن استوعبها عقل المسلمين واستساغها وعيهم، فعايش العلماء من أهل السنة والجماعة فساد الحكام باعتبار أن النبي أخبر بوقوع التحول من الخلافة إلى الملك العاض، وسكتوا عن كثير مما كان ينبغي أن يقاوموه تهمما منهم وحفاظا على "بيضة الإسلام" وشوكته وقوته ووحدته أن تنكسر، مهما كانت هذه الشوكة وهذه الوحدة. وعايش الأئمة وشيعتهم نتائج تلك الفتنة في التقية والاستخفاء أو في الانتفاضات بحق كالزيدية، وخاض الأدعياء في الماء العكر مثل المختار الثقفي ودولة الباطل العبيدية.
تلك الفتنة كانت أم الفتن لتبكيرها وهولها. أما الصدمة الثانية التي غطت على الأولى وأيقظت ذكرها في نفس الوقت فهي الاستعمار الغربي، واحتلال الكفار أراضي المسلمين، ذلك الاحتلال الذي بدأ في الجزائر والهند منذ نحو مائة وخمسين سنة وبلغ مداه وأوج فلكه مع قيام دولة اليهود في فلسطين. ).
كتاب الأسلام و القومية العلمانية ، فصل الثراث و التجديد ،
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #2
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

.دراسات في التصوف، في الشأن العام و الخاص تحديد المفاهيم)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه، وبعد
تختلف أرادات النا س بأختلاف سابقتهم ، هذه قاعدة أساسية ، تجدها عند كل الروافد العلمية و التربوية على السواء.و التميز في التفكير و الإبداع و الأبتكار ثم النظام ، تتفاوت قابلية الناس فيه. ولكي يكون المجموع أي الفضائل المرجوة من تربية معينة على منهاج معين و طريقة واضحة ذا ثمرة و فاعلية ، لاتنتج لك جمع من الناس على مقام واحد كامل في الأخلاق والمراتب، ولنا في الشرع و النموذج النبوي خير عبرة.
كان أبوبكر الصديق أرحم بأمة الحبيب صلى الله عليه و سلم ، و الفاروق أشد في أمرها ، و أمينها عبيدة بن الجراح ، و أعلمها بالقرآن العباس ، و اشدها حياءا عثمان رضي الله عنه ، وباب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مولانا أبي طالب عليه السلام.
ألم يكن الرعيل الأول في أختلاف قابلياته و فضائله متكاملا ؟ أم لا.
ألم تكن الفضائل كلها تصب في رافد كامل يمتزج فيه الخاص و العام أم لا؟
1.في تحديد المفاهيم :
أ.في مسألة الوراثة :
نجد عند أهل الله مفهوما خاصا لمسألة الوراثة.
فالوراثة بحسب ماجاء في كتاب مذكرات في منازل الربانيين و الصديقين للداعية سعيد حوى ، أن يكون الولي وارثا للحبيب صلى الله عليه وسلم وراثة كاملة في الأخلاق و التربية و التعليم و الإرشاد و التزكية عالما بخبايا النفس، وارثا له صلى الله عليه وسلم في حاله وايمانه و روحانياته ألا النبوة و الرسالة و ما كانت من خصوصياته.
يسميه بالمرشد الكامل ، وهو اصطلاح موجود في غالبية كتب أهل الله.
نرفق بأنفسنا ، ونقرأ ما جاء في كتاب الفتوحات المكية ، نصا بديعا حول هذا المرشد الكامل ، غير أن ابن عربي قدس الله سره سماه بالعارف :"
وأما صفة العارف عندنا من الموطن الإلهي الذي يشهده العارفون من الحق في وجودهم وهو شهود عزيز ، وذالك أن يكون العارف إذا حصلت له المعرفة قائما بالحق في جمعيته نافذ الهمة مؤثرا في الوجود على الإطلاق من غير تقييد ، لكن على الميزان المعلوم عند أهل الله مجهول النعت و الصفة عند الغير من جميع العالم من بشر و جن وملك و حيوان لا يعرف فيحد و لايفارق العادة فيميز حامل الذكر مستور الحال عام الشفقة على عباد الله) ص ، 313 ، باب في معرفة مقام المعرفة ، م/2 من كتاب الفتوحات للشيخ الأكبر ابن عربي قدس الله سره.
كيف تكون سيدي و اخي عند المعرفة بالله قائما بالحق في جمعيتك نافذ الهمة مؤثرا في الوجود على الإطلاق من غير تقييد.
نجد عند قرائتنا لمثل هذا الكلام نوراني أبعادا في الفهم ، وسعة في التصور ، فالعارف بالله خامل في ذكره في جلوته ، في رحمة الله يتقلب ، لكنه ذو فعل كوني سني دون تقييد بالجهة والمكان و الزمان طيا و سبحا في تصاريف الله الكونية.
فالعارف بالله ذو نورانية خاصة وتاثير ألهي ، وهي تزايل ما يسميه حمقى المصطلحات carisma، أو القائد الملهم ، أو المنقذ المنتظر.
العارف بالله غير هذا ، فهو مرشد كامل منتسب لدوحة مباركة سنية ، ينتقل مددها الفائض عبر الأجيال.منهم من أذن له في تربية الخلق ، ومنهم من لا مريد له، وهنا كان الفضل في السابقة ، في فضيلة القعود ، وسمت الحامل لرسالة التجديد.
يمكن أن نقول كما قال ابن عربي رضي الله عنه نافذ الهمة مؤثرا في الوجود على الإطلاق من دون تقييد).
فأن كان العارف بالله مفهوم خاص في شأنه خاص ، لخصوصية مرتبته عند الله ، فما هي وظيفته في الشأن العام؟، يقول ابن عربي قدس الله سره في نفس الصفحة يفرق في رحمته بين أمر برحمته حتى يجعل له خصوص وصف عارف بإرادة الحق في عباده قبل وقوع المراد، فيريد بإرادة الحق لا ينازع و لايقاوم و لايقع في الوجود ما لايريده و إن وقع ما لايرضى وقوعه بل يكرهه شديد في لين ، يعلم مكارم الأخلاق في سفاسفها فينزلها منازلها مع أهلها تنزيل حكيم ، بريء مما تبر أ الله منه محسن أليه مع البراءة منه ، مصدق بكل خبر في العالم كما يعلم عند الغير أنه كذب فهو عنده صدق مؤمن عباد الله من غوائله مشاهد تسبيح المخلوقات على تنوع أذكارها ، لاتظهر إلا لعارف مثله ،.....) ص 313 من نفس المصدر.
فأن كانت الوراثة في مفهومها الخاص عرفان بالله تعالى ، وتقلب في فضله و رحمته ، فأنها في مفهومها العام و ارتباطها بشأن المسلمين ، وظيفة التطهير و الصيدلة و التعليم و التربية بمفهومها المعاصر.
ننتقل الى معنى آخر نجده عند مولاي عبد العزيز الدباغ في كتاب الإبريز ، عن مشاركة الولي لهموم الناس الفردية ومنها أن بني بزتاسن القبيلة المعروفة لما وقع بينهم و بين السلطان ما وقع و ظفر بمن ظفر منهم أراد بعض الكتاب من أهل تازة أن تنقل نارهم إلى أهل تازة فزور كتابا على أهلها ذكر فيه أنهم بعثوا إلى بني بزتاسن و قالوا لهم إنا معكم يد واحدة و ذهب بها إلى السلطان نصره الله و قرأها عليه فغضب نصره الله و أراد أن يبعث لهم من ينتقم منهم ، ثم بدا له نصره الله فحبسه و سمع بذلك أهل تازة فمر منهم من مر على الشيخ رضي الله عنه وشاوره في الهرب و الجلاء عن بلادهم لأنهم خافوا من السلطان ، فقال رضي الله عنه : " أن كنتم تفعلون ماأقول لكم فأنا أقول "، فقالوا:" قل ياسيدي ما جئنا ألا لنهتدي بنصيحتك !" ، فقال : " ليكن هذا وجهكم إالى السلطان نصره الله و اسبقوا عند الوزير "، ففعلوا ما أمرهم به و ذهب بهم الوزير إلى السلطان و اثنى عليهم خيرا و برأهم مما رماهم به الكاتب ، فما زاد نصره الله على أن أمر بذبحه و كان ذالك عاقبة أمره) ، ص 51، كتاب الأبريز للشيخ أحمد بن المبارك.
والسؤال ، ما الذي جعل هؤلاء القوم يجدون ملجأهم في نصيحة ولي من أولياء الله ؟
ولم لم يعرض عنهم الولي الكامل رضي الله عنه ، بل وقام بمهام نصيحة خلق الله تعالى ، و إرشادهم للخير و النجاة؟.
تختلط عند القارئ الصوفي المفاهيم ، كيف يكون خيرة القوم قائمين بخذمة الخلق ، رغم ما كان في قلوبهم من الأسرار و المشاهدة؟ لنقل أمر الأتباع.
أو بمعنى أدق يجد الوارث في خصوصيته أنه مجرد خاذم للحضرة النبوية بالتعبير التربوي ، وفي معناها السياسي القيام بالقسط بجميع الوسائل والحكمة في مختلف النوازل حضورا و شهادة و درءا للمفاسد. مشاركة و أي مشاكة ؟ حضور في الذكر و في الساحة.
فالوراثة الكاملة هي جمع بين فضلين الخذمة العامة المفضية للخذمة الخاصة ، والترقي في مقامات العرفان ، بالرفق بعيال الله تعالى و خلقه.
لكن كيف يقرأ المعاصرون هذه الحكايات كما يسمونها المفرطة في الخيال ، ولي ينصح و رعاع القوم تتبع ؟ أي حمق هذا؟.
نجد عبد الله العروي في كتابه عن تاريخ المغرب المجمل ، يضع على مثل هذه الروايات خطا أحمرا ، فيصف علة التاريخ الأسلامي الشخصانية ، ثم الأساطير ، ثم يدعو الى مراجعة جميع المصادر التاريخية حول المغرب الأقصى ، لشكه العلمي.
بل لتوجسه من الأكاذيب التاريخية ، حول الشخصيات و العظماء و الملهمين.
غياب المؤسسات سمة ثانية لتاريخنا ، بأعتبار أن الشعوب كانتى تنقاد لأسر حاكمة مستبدة نشرت مبادئها و سياياتها بالسيف فسمة الأستبداد سمة الشعوب العربية بأمتياز.
لكنه يترحم في حمق علمي على كاهنة و كسيلة كيف لا وهما من واجها التعنت العروبي الأسلامي.؟
نسأل الله العافية.
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #3
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

.دراسات في التصوف، في الشأن العام و الخاص:( في تحديد المفاهيم)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه ، وبعد
يمنع العقل المعاشي صاحبه من التدبر، ذالك أن سمة هذا التفكير هو المادة و علاقة الحواس بها، وللعقل معاشي معرفة دقيقة استطاع بها أن يعرف السنن التي تتحكم في الشعوب في مسيرتها التاريخية ، والكون و القوانين الألهية التي تدبرها ، ورغم ذالك يظل عاجزا على معرفة كنه النفس البشرية ، بل معنى الروح و الغيب و الله لولا الوحي.
ماهو الوحي؟ وما علاقته بالأنسان عبر التاريخ؟و كيف ينظر أهل الله الى هذه الكلمة العظيمة في قاموس الدنيا ، بل في الناموس الإلهي؟
لا شك ، أن الوحي حدث كبير في حياة الرسول المختار من عند الله ، كما أن الإشارة و المواهب و العلوم فيض من معين الوحي النبوي عبر الأجيال ، ظل فيها الوحي النبوي حاضرا ينير لأهل الله الطريق.ما يسميه أهل الله خصوصا بالإجتماع بالحبيب صلى الله عليه وسلم يقظة.
3.في الأجتماع بالحبيب صلى الله عليه وسلم يقظة:
نسرد أن شاء الله شهادات لأهل الله حول هذا الأمر ثم نناقشه بما ينعم الله علينا ، في أعلامهم أن الأولياء الله تعالى يرون الحبيب صلى الله عليه وسلم يقظة ، وأنه يحضر كل مجلس أومكان أراد بجسده و روحه وأنه يتصرف و يسير حيث شاء في أقطار الدنيا و في الملكوت وهو بهيبته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء ، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم ، فإذا أراد الله أن يراه عبد رفع عنه الحجاب فيراه على هيئته التي كان عليها هو الآن.
-قال الشعراني في لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية : " فأن أكثرت من الصلاة و التسليم عليه صلى الله عليه وسلم فربما تصل إلى مقام مشاهدته صلى الله عليه وسلم ، وهو طريق الشيخ نور الدين الشنواني والشيخ أحمد الزواوي،والشيخ محمد بن داوود المنزلاني، و جماعة من مشايخ العصر ، فلا يزال أحدهم يصلي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم و يكثر منها و يتطهر من كل الذنوب حتى يجتمع به يقظة في أي وقت شاء ، ومن لم يحصل له الإجتماع فهو إلى الآن لم يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الإكثار المطلوب ليحصل له هذا المقام).
و أخبرني الشيخ محمد الزواوي أنه لما لم يحصل له الإجتماع بالنبي صلى الله عليه و سلم يقظة و اظب على النبي صلى الله عليه وسلم سنة كاملة ، يصلي عليه في كل يوم خمسين ألف مرة.و كذلك أخبرني الشيخ نور الدين الشنواني أنه واظب على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، يصلي كل يوم ثلاثين ألف صلاة ، قال : سمعت عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : " لايكمل عبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة و مشافهة ، وممن يراه يقظة من السلف أبومدين المغربي ، شيخ الجماعة ، و الشيخ عبد الرحيم القناوي ، و الشيخ موسى الزواوي ، و الشيخ أبو الحسن الشاذلي ، و الشيخ أبو العباس المرسي ، والشيخ أبو السعود أبو العشائر ، و سيدي أبراهيم المتبولي و الشيخ جلال الدين السيوطي" ، وكان يقول :"رايت النبي صلى الله عليه وسلم و أجتمعت به يقظة نيفا و سبعين مرة ، و أما سيدي أبراهيم المتبولي فلا يحصي أجتماعه به لأنه يجتمع به في أحواله كلها ، و يقول : و يقول ليس لي شيخ إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وكان أبو العباس المرسي يقول :" لو أحتجب عني رسول الله الله عليه وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين.".) ص 453، من كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم ، لمِؤلفه :الشيخ سيدي عمر بن سعيد الفوتي الطوري الكدوري.
يعد هذا الكتاب درة ثمينة في معرفة مقام الأولياء و الأدب معهم ، وتحقيق دقيق في معارفهم و علومهم ، وقد عدده أحد المحققين بدستور الأولياء ، في معرفتهم و التحقق من بركتهم ، ومن قرأه رزقه الله المعرفة و الفرقان بين أولياء الرحمان و أولياء الشيطان.
ثم نجد الشخ جلال الدين السيوطي رضي الله عنه يحقق في المسألة جواز رؤيته صلى الله عليه وسلم بأدلتها الشرعية في كتابه ،تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي و الملك : " قد كثر السؤال عن رؤية أرباب الأحوال للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن طائفة من أهل العصر ممن لا قدم له في العلم بالغوا في إنكار ذالك و أدعوا أنه مستحيل .فألفت هذه الكراسة في ذالك و نبدأ بالحديث الصحيح الوارد في ذالك ، أخرج البخاري و مسلم و أبو داوود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من رآني في المنام فسيراني في اليقظة و لا يثمثل بي الشيطان" .و أخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله ومن حديث أبي بكرة ، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة ، قال العلماء : " أختلف في قوله : فسيراني في اليقظة ، فقيل : معناه فسيراني في القيامة و تعقب بأنه لا فائدة في التخصيص ، لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم ومن لم يره ، و قيل المراد من آمن به في حياته و لم يره لكونه حينئذ غائبا فيكون مبشرا له ، أنه لابد أن يراه في اليقظة قبل موته ، وقال قوم : هو على ظاهره فمن رآه في النوم فلا بد أن يراه في اليقظة بعيني رأسه ، قيل : بعين في قلبه ، حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي .
وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي أنتقاها من البخاري : " هذا الحديث يدل على أن من رآه صلى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة ، وهل هذا على عمومه في حياته و بعد مماته ؟ أو هذا كان في حياته ؟ وهل كذالك لكل من رآه مطلقا ؟ أو خاض بمن فيه الأهلية أو الإتباع لسنته عليه السلام ،اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص بغير مخصص منه صلى الله عليه وسلم فمتعسف ، و قال : وقد وقع من بعض الناس عدم التصديق بعمومه ، وقال : على ما أعطاه عقله ، و كيف يكون من مات يراه الحي في عالم المشاهدة ، قال :وفي هذا القول المحذور وجهان خطران و هما :
1.عدم التصديق بقول الصادق صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى.
2. الجهل بقدرة القادر و تعجيزهما لم يسمع في سورة البقرة قصة البقرة كيف قال الله تعالى : "فقلنا اضربوه ببعضها" ، البقرة آ 73 ، و قصة أبراهيم عليه السلام في الأربع من الطير ،و قصة العزيز ،فالذي جعل ضرب الميت ببعض البقرة سببا في حياته ، وجعل دعاء أبراهيم عليه السلام سببا لإحياء الطيةر ، وجعل تعجب العزيز سببا لموته وموت حماره ثم لإحيائهما بعد مأئة سنة ، قادر أن يجعل رؤيته صلى الله عليه وسلم سببا لرؤيته في اليقظة.
وقد ذكر عن بعض الصحابة وأظنه العباس رضي الله تعالى عنهما :أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فتذكر هذا الحديث و بقي متفكرا فيه ، ثم دخل على بعض ازواج النبي صلى الله عليه وسلم ، أظنها ميمونة ، فقص عليها قصته فقامت و أخرجت له مرآته صلى الله عليه وسلم ، قال رضي الله تعالى عنه : "فنظرت في المرآة فرايت صورة للنبي صلى الله عليه وسلم و لم أرى لنفسي صورة ، قال : " وقد ذكر السلف و الخلف و هلم جرا ، عن جماعة ممن رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم و كانوا ممن يصدقون بالحديث ، فرآه بعد ذالك في اليقظة و سألوه عن أشياء كانوا متشوشين ، فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجه الذي يكون منه فرجها فجاء الأمر كذالك بلا زيادة و لانقص، قال : والمنكر لهذا لا يخلو أما يصدق بكرامات الأولياء أو يكذب بها ، فأن كان ممن يكذب بها فقط سقط البحث معه فأنه يكذب بما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة ، وأن كان مصدقا بها فهذه من ذالك القبيل لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن اشياء عديدة في العالمين العلوي و السلفي فلا ينكرها مع التصديق بذالك.)كتاب تنوير الحلك في أمكان رؤية النبي والملك.
يستأثر القلب بمعارف ، وهي في دلالاتها مجموعة من أشارات آتية من الحضرة الرحيمية ، لتتخذ من الروح عرشا، فسبحان من خلق الجبال و البحار و الأراضي و السموات ، فلم تسعه ووسعه قلب عبده العارف!.
أجمع أهل الله أن للمريد الطالب لوجه الله سعادتين في الدنيا: لقاء شيخه، ولقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما ، وهي عندهم من علامات سعادة المريد.
لكن في النعمة طي من البلاء ، وأختبار ، وألوان من الإستدراج أن لم يتسلح المريد الطالب لوجه الله تعالى بالعلم.
ذالك أن الكرامة و خرق العادة ، امرخاص بالنسبة للمؤمن لاشأن للأمة فيه ، فهو أعلام غيبي و أنذار رباني على خصوصية العبد ، لكنها تظل في نسبيتها فردية مجرد أخبار ، بأنك على الطريق و في نفس الوقت لاتمنحك حقا على أحد ، بل تستوجب منك الشكر ثم العمل.
وتقع الأمة في شراك المستبدين من أهل التربية ، أن أعتقدت بمجرد ما يلوح على أحدهم سمة الولاية ان له حق عليها ، كواجب الخذمة و التذلل و الطاعة على غير بينة ، وأهدار للوقت و الجهد في خذمة الشيخ و أولاد الشيخ و أحفاد أحفاد الشيخ.
أ.في بيان الشأن الخاص ، حول مسألة رؤيا الحبيب صلى الله عليه وسلم:
يرى أهل الله أن القلب هو النور الأزلي و السر العلي المنزل في عين الأكوان لينظر به الله تعالى إلى الإنسان ، و عبر عنه في كتاب الله بروح الله المنفوخ في روح آدم عليه السلام حيث قال ونفخت فيه من روحي) ويسمى هذا النور بالقلب بمعان : أنه لبابة المخلوقات و زبدة الموجودات جميعها أعليها و أدانيها ، فسمي بهذا الإسم لأن قلب الشيء خلاصته و زبدته، ومنها :أنه سريع التقل و ذالك لأنه نقطة يدور عليها محيط الأسماء والصفات فإذا فابلت اسما أو صفة بشرط المواجهة انطبعت بحكم ذالك الأسم و الصفة . وفي هذا الشأن يقول الإمام عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل ....وقولي بشرط المواجهة تقييد لأن القلب في نفسه لايزال مقابلا بالذات لجميع اسماء الله تعالى و صفاته، لكن يقابله في التوجه شيء ثان ، هو أن يكون القلب متوجها لقبول أثر ذالك الشيء في نفسه فينطبع به، فيكون الحكم عليه لذلك الإسم ولو كانت السماء جميعها تحكم عليه فأنها تكون في ذلك الوقت مستترة الحكم تحت سلطان الإسم أو السماء الحاكمة ، فيكون الوقت وقت ذلك الإسم فيتصرف في القلب بما يقتضيه) ص 161، من كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر و الأوائل.
استشراف العلم وطلبه من واجبات الطريق ، و الإسم الألهي الجامع لكليات العلم هو الله ، وفي طلب الله توجه خاص لحبيبه صلى الله عليه وسلم بشرط المحبة ، فأن كان القلب يشغفه طلب الله تعالى فلا مناص من تلقيه العلم النبوي شفاها من الحبيب صلى الله عليه وسلم.وهنا يضحك الحداثي ، ويستغرب السلفي ، وربما حتى الحركي كيف يتلقى الحي لالعلم من الغائب الميت ؟ نستغفر الله ، فهو صلى الله عليه وسلم في وجوده البرزخي أرفع مكانا ، وأسمى رفعة مما كان عليه صلى الله عليه وسلم ، نسأل الله تعالى أن ينير قلوبنا بمشاهدته. لا تسع حويصلة الباحثين ما للغيب من الشأن عند من نهلوا من المعين النبوي ، كما أن قابلية التربية و الأستمداد ثم الأمتداد و المعرفة العلم تتفاوت بين السالكين أنفسهم ، ناهيك عمن سواهم.
ومن ثم نجد أن المعرفة ليس بالأمر الهين ، والإدعاء الجميل ، بل هي مسئولية و تكليف ، بل مهام و شأن رباني بأذن نبوي.
ذلك أن رؤية الحبيب صلى الله عليه سلم شأن خاص بالمريد لخصوصية مقامه العرفاني ، يقول ابن عربي رضي الله عنه عن العارف: ( وأن العارف أخرس منقطع مقتطع منقمع عاجز عن الثناء عن معروفه، وأنه خائف متبرم بالبقاء في هذا الهيكل وإن منورا لما عرفه الشارع أن في الموت لقاء الله فتنغصت عليه الحياة الدنيا شوقا إلى ذلك اللقاء ، فهو صافي العيش كدر طيب الحياة في نفس الأمر لا في نفسه.)ص312، من كتاب الفتوحات المكية ، م/2.
فلخصوصية أمر العارف ، وشان السالك ، فأن مثل هذه المنازلات و المرائي تحتاج الى الكتمان ÷، تأدبا مع الله تعالى ، وتعظيما للجناب النبوي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتاب الإحسان، فقرة عين القلب :" القلب المومن حاسة دقيقة جامعة تصبح آلة لتلقي العلم واستبصار المعلومات واستشفاف المغيَّبات على غاية من اللطف بعد أن يبرأ القلب من أمراضه في مِصحة التربية، وبعد أن تعنى به يدُ الصحبة، ويصقُله الذكر ويكشف الله عز وجل عنه غطاءه، ليجد ما وُعد الصادقون بإخلاص النية من قدم الصدق المكتوبة في سابقة علم الله تعالى.
ما كل المومنين يُعطاهم من الفتح القلبي بمقدار ما تنكشف الحجبُ للعين القلبية. وقد يكون طلب الفتح والتعلق به والتماسه بالدعاء والتضرع والأذكار الخاصة حجابا عن الله عز وجل وفتنة. فإن طلب المزيد من العلم، وإن كان مشروعا محمودا ومأمورا به في القرآن في قوله تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: )وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً( (سورة طه، الآية: 114)، قد يصرفُ طالب الحق مريد الله عن وجهته، فإذا هو قد زاغ عن قبلة الطلب، وهي وجه الله، إلى الحظوظ النفسية والمتاهات الكونية، فيكون من الهالكين.
وإن من أعداء الله عز وجل ومن كافة المشركين من يفتح الله سبحانه عليهم عوالمَه الكونية فيطَّلعون على ما شاء ابتلاؤه وكيدُه ومكرُه منها، فيغرقون في مشاهدة حقائقها، ويُصرفون عن طلب الحق وعن عالم النور إلى عالم الظلمات الكونية. هؤلاء هم أصحاب الرياضات من يوكيين وغيرهم. ويسمَّى الفتح عليهم فتحا ظلمانيا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة له عنوانها "الظاهر والباطن". "طوائف كثيرة آل الأمر بهم إلى مشاهدة الحقيقة الكونية القَدَرية، وظنوا أن من شهدها سقط عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهذا هو دين المشركين"[1].
أما أحباب الله، ممن شاء الله أن يكشف عنهم الغطاء، فإن عناية المولى الكريم سبحانه تسلكُ بهم فِجاج مشاهدة "الحقيقة الكونية القدرية" ويتجاوزون مخاطرها وإغراءها، لا يقفون مع شيء دون الله عز وجل. شعارُهم دائما كما يقول الشيخ عبد القادر: وإنك لتعلم ما نريد.
لنسمع إلى أهل الفن في الموضوع لكيلا يتوهم المتوهم أن الفتح والكشف وعجائب القلب حديثُ خرافة، أو أن مبالغة الصوفية ومجازهم وكنايتهم ولغتهم الغامضة سَبْحُ خيالٍ. وقد استَدْعَيتُ للشهادة في الموضوع إماما يحظى بالثقة لأنه هو نفسه لا ينتمي إلى الصوفية وإن كان يعترف ويفتخر ويتحمَّد "بالقدر المشترك" بينه وبينهم. وسترى أن صاحب "القدر المشترك" أبلَغُ بيانا وأشدُّ حرصا وأثبت كلمة في التأكيد على وقائع الفتح، وعلى طَوْرِ ما وراء الحسِّ والعقل. نستمع أولا إلى إمام صوفي، وبعده إلى الإمام المشارك ابن القيم.
قال الإمام الغزالي: "الإيمان بالنبوة أن يقِرَّ بإثبات طور ما وراء العقل، تنفتح فيه عينٌ يدرك بها مدرَكات خاصة. والعقل معزول عنها كعزل السمع عن إدراك الألوان، والبصر عن إدراك الأصوات، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات"[2].
وقال: "ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب، وما سيكون في المستقبل، وأمورا أخرى العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز"[3].
يقول الغزالي هذا في إثبات النبوة والفتح الخاص بالأنبياء عليهم السلام. وله في "الإحياء" حديث طويل عن فتح الأولياء وما يُعطاهم من العلم اللدنيِّ القلبي قامت عليه بسببه قيامة المكذبين منذ تسعة قرون. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فرغم نقده للغزالي في مسائل عقلية ونقلية فإنه يتفق معه اتفاقا تاما أو يكاد في أصول المسائل القلبية. ويقول: "أنكر عليه (على الغزالي) طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق، وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم. وأخطأوا أيضا في هذا النفي. بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم"[4].
وقال شيخ الإسلام ابن القيم: "فإذا صارت صفات ربه (أي الولي المتقرب بالفرض والنفل حتى يحبه الله) وأسماؤه مشهدا لقلبه أنسته ذكر غَيره، وشغلته عن حب ما سواه(...). فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي كما أخبر عن نفسه بلسان رسوله. ومن غَلُظَ حجابه، وكثُفَ طبعُه، وصَلُب عوده، فهو عن فهم هذا بمعزل(...). وبالجملة فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشا للمثل الأعلى، أي عرشا لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه. وناهيك بقلب هذا شأنه! فيا له من قلب من ربه ما أدناه! ومن قُربه ما أحظاه! فهو ينـزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن إلى غيره. فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش، وأبدانُهم على فرشهم كما قال أبو الدرداء: إذا نام العبد المومن عُرِجَ بروحه حتى تسجد تحت العرش"[5].
وقال رحمه الله: "ينجذب (المريد) إليها (الآخرة) بالكلية، ويزهد في التعلقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة(...). فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه. فإذا صدق في ذلك رُزِق محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستولت روحانيته على قلبه(...). فإذا رسخ في ذلك فُتِح له في فهم الوحي المنزل(...) فإذا تمكن من ذلك انفتح في قلبه عينٌ أخرى، يشاهد بها صفات الرب جل جلاله، حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه. فيشهد عُلُوَّ الرب سبحانه فوق خلقه، واستواءه على عرشه، ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته، وتكليمه بالوحي، وتكليمه لعبده جبريل به، وإرساله إلى من يشاء بما يشاء، وصعود الأمور إليه، وعرضها عليه"[6].
وقال رحمه الله: "إن الله سبحانه جعل في العين قوة باصرة، كما جعل في الأذن قوة سامعة، وفي الأنف قوة شامة، وفي اللسان قوة ناطقة وقوة ذائقة(...). وأما معاينة القلب فهي انكشاف صورة المعلوم له، بحيث تكون نسبتهُ إلى القلب كنسبة المرئي إلى العين. وقد جعل الله سبحـانه القلب يُبصر ويَعْمَى. قال تعالى: )فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ( (سورة الحج، الآية: 44). فالقلب يرى ويسمع، ويعمى ويَصِمُّ، وعماه وصممُه أبلغ من عمى البصر وصممِه"[7].
وقال رحمه الله: "المعاينة نوعان معاينةُ بصر ومعاينة بصيرة. فمعاينة البصر وقوعُه على نفس المرئي أوْ مثالِه الخارجي كرؤية مثال الصورة في المرآة والماء. ومعاينة البصيرة وقوع القوة العاقلة على المثال العلمي المطابق للخارجي. فيكون إدراكه له بمنزلة إدراك العين للصورة الخارجية. وقد يقْوَى سلطان هذا الإدراك الباطن بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضاره القوة العاقلة لمدركها بحيث يستغرق فيه، فيغلب حكم القلب على حكم الحس والمشاهدة. فيستولي على السمع والبصر بحيث يراه ويسمع خطابه في الخارج وهو في النفس والذهن. لكن لغلبة الشهود وقوة الاستحضار وتمكُّنِ حكم القلب واستيلائه على القوى صار كأنه مرئيٌّ بالعين، مسموع بالأذن. بحيث لا يشك المدرك ولا يرتاب في ذلك البتَّةَ، ولا يقبل عذلا"[8].
وقال رحمه الله: "فمن فتح الله بصيرة قلبه وإيمانه حتى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل فقد أوتي خيرا كثيرا، ولا يخاف عليه إلا من ضَعف همته. فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية فذاك السابق حقا، واحدُ النّاس بزمانه، لا يُلحق شَأْوُهُ، ولا يُشَقُّ غبارهُ. فشتان ما بين من يتلقى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم (قلت: يعني شتان ما بين أرباب الصدور والمتصفحين للسطور!) أو عن مجرد ذَوْقِه وَوَجده، إذا استحسن شيئا قال: هذا هو الحق!
"فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عجَب، وفتحه عجب. صاحبه قد سبقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعبٍ ولا مكدود، ولا مشتّت عن وطنه، ولا مشرد عن سكنه"[9].
هذه كلمات قوم سلكوا الطريق وتركوا وصفا للمَشاهِدِ عسى يكون من بعدهم من يصدق الله ورسوله في وعد الله ورسوله لأولياء الله، ابتداء من مطالعة ما مَنَّ به الملك الوهاب على العباد.
يقول الطود الشامخ في أرض الولاية وسمائها الإمام عبد القادر قدس الله سره: "يا غلام! ليكن الخرَسُ دأبك، والخمولُ لباسَك، والهرب من الخلق كلَّ مقصودك. وإن قدرت أن تنقب في الأرض سِرْبا تَخْفى فيه فافعل. يكون هذا دأبَك إلى أن يترعرع إيمانُك، ويقوى قدمُ إيقانك، ويتريَّشُ جناحُ صدقك، وتنفتح عينا قلبك فتُرفَع من أرض بيتك، وتطير إلى جو علم الله. تطوف المشرق والمغرب، البَر والبحر، والسهل والجبل. تطوف السماوات والأرضين وأنت مع الدليل الخفير الرفيق. فحينئذ أَطلِق لسانك في الكلام، واخلع لباس الخمول، واترك الهرب من الخلق، واخرج من سِرْبِك إليهم، فإنك دواء لهم غير مُسْتَضَرٍّ في نفسك. لا تبالِ بقلتهم وكثرتهم، وإقبالهم وإدبارهم، وحمدهم وذمِّهم. أين سقطتَ لَقَطْتَ، أنت مع ربك عز وجل"[10].
وقال رحمه الله: "الصدِّيق إذا فرغ من تعلم العلم المشترك (علم السطور) أدْخِل في العلم الخاص، علم القلوب والأسرار. فإذا تمكن في هذا العلم صار سلطان دين الله عز وجل، يأمر وينهى، ويعطي ويمنع بإذن مُسلطنِه".
وقلت: وهذا معنى التصريف والفعل بالهمة. وقد مر كلام ابن تيمية الخبير بالموضوع. ومعنى الخلافة في الأرض في حق الكمل من الأولياء. وهذا لا يدركه إلا "واحد الناس بزمانه" كما مرت عبارة ابن القيم.
قال: "يصير سلطانا في الخلق، يأمر بأمر الله عز وجل، وينهى بنهيه(...). العارف واقف بباب الحق عز وجل وقد سلم إليه علم المعرفة والاطلاع على أمور لم يطلع غيره عَليها"[11].
وقال رحمه الله: "العارف المقرَّب يُعطَى أيضا نورا يَرى به قربه من ربه عز وجل. ويرى قرب ربه عز وجل من قلبه. يرى أرواح الملائكة والنبيئين وقلوب الصديقين وأرواحهم. يرى أحوالهم ومقاماتهم. كل هذا في سويداء قلبه، وصفاء سره. هو أبدا في فرحه مع ربه عز وجل. هو واسطة يأخذ منه ويفرق على الخلق. منهم من يكون عليم اللسان والقلب، ومنهم من يكون عليم القلب ألْكَنَ اللسان. وأما المنافق فهو عليم اللسان ألْكَنُ القلب"[12].
وقال رحمه الله: "اسمعوا هذا الكلام فإنه لب علم الله عز وجل، لب إرادته من خلقه وفي خلقه، وهو حال الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين. يا عباد الدنيا ويا عباد الآخرة! أنتم جهال بالله عز وجل وبدنياه وبآخرته! أنتم حيطان! أنت صنمك الدنيا! وأنت صنمك الآخرة! وأنت صنمك الخلق! وأنت صنمك الشهوات واللذات! وأنت صنمك الحمد والثناءُ وقبول الخلق لك! ما سوى الله عز وجل صنم. القوم يريدون وجه الله. الدنيا والآخرة موكَلَتان على باب الحق عز وجل، موكلتان في دار الطبيب، يأخذ منهما ما يريد ويطعم المريض. يا منافقون! ما عندكم من هذا خبر! المنافق لا يقدر يسمع حرفا من هذا،لأنه لا يقدر على سماع الحق. كلامي حق، وأنا على الحق.كلامي من الله عز وجل لا مني، من الشرع لا من الهوَس. ولكن آفة فهمك السقيم!
"ويحك تعلمت وما عملت بعلمك، فكيف ينفعك علمُك! ما خدمت الشيوخَ في حال شبابك، فكيفَ تُخدم في حال كبرك!"[13].
قال محب مشتاق للقاء ربه وهو سمنون المحب:
أنت الحبيب الذي لا شك في خَلـَدي منـه، فـإن فقـدتـك النفـسُ لم تَـعِـشِ
يـا معطـشي بـوصـالٍ أنـت واهـبُــه هل لي إلى راحة إن صحتُ:واعطشي!

وقال رحمه الله:
أمسـى بخـدّي للدمـوع رســوم أسفـا عليـك وفي الفـؤاد كُـلـوم
والصبر يَحْسُنُ في المصـائب كلِّها إلا عـلـيـك فـإنــه مــذمــوم

وقال رحمه الله:
كـان لي قلـب أعيـش به ضـاع مني في تـقـلُّـبـه
ربِّ فـاردده عليَّ فـقـد ضاق صـدري في تطلـبـه
وأغِـثْ مـادام بي رَمَـق يا غِيَـاثَ المسـتغيث بِه

وقلت:
مِنْ نَدَاكَ كَـانَ لِي طَلَبٌ عَــينُ قَلــْبي تُـفَــتِّـحُـهَــا
ربِّ والنصــرُ تـُعْجِـلُــهُ وَأُمُــورِيَ تـُنْـجِـحُـهَــا
وَصُــدُورُ أَحِـبَّـتِــنَــا رَبِّ لـلْبِـرِّ تـَشْـرَحُــهَــا ) كتاب الإحسان ، طبعة 1998.

ب.شهادات حية من موقع الأستاذ عبد السلام ياسين ، باب لهم البشرى:
. خالد ب، مدينة طنجة (1411هـ):
رأيت فيما يرى النائم دارا محاطة برواق أخضر تتصاعد منه الأبخرة، ويفوح منه طيب المسك، وإذا بي أدخل فأبصر رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يتصفح المنهاج النبوي([1]) ويقول: "نعم المصحوب ونعمة الصحبة، نعم الذَّاكر ونعم الذِّكر..." حتى أكمل بقية الخصال العشر([2])، ثم وضع سيفا داخل المنهاج النبوي.
2. خالد ب، مدينة طنجة (1411هـ):


3. علي ت، مدينة القنيطرة (1411هـ):

رأيت فيما يرى النائم أننا -أي الإخوة المرابطون([4])- راكبون كلنا على جمل أبيض اللون-حوالي 39 أخا- وكان أصغرنا قامة (حوالي 110 سنتم) هو الراكب على رأس هذه الراحلة مستدلا على ذلك أنه خفيف الوزن، ونظرا لما أحس به الجمل من ظمأ سار بنا متجها نحو حوض ليشرب، ولعله حوض من حياض الجنة. فما أن أحنت الراحلة رأسها لتشرب حتى سقطنا جميعا في ذلك الحوض العذب المثلج، وكان الأخ الصغير والقصير القامة هو السابق إلى الماء.

وبعد أن اغتسلنا جميعا في الحوض، تغير بنا المقام إلى ساحة فسيحة يصعب على العين وصفها، وفيها وجدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ومعه عشرات من الصحابة والصالحين، أذكر الذين تأكدت من معرفتهم: سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سيدي عبد السلام حفظه الله، وبعد أن جلسنا-أي الإخوة المرابطون- في اتجاه هؤلاء الرجال قام سيدي عبد السلام يبحث عن أمير الرباط، فأشرت إليه بالأصبع أنه أنا بعد تردد واستحياء، فطلب مني اختيار بعض الوعاظ من الإخوان الجالسين، لكن لم يستطع أحد منهم -أي الإخوة نظرا لاستحيائهم من الرسول صلّى الله عليه و سلّم والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم- أن يتقدم للوعظ وبعد ذلك خروا جميعا يبكون.

ثم شرع سيدنا عمر بن عبد العزيز في إلقاء كلمة متواضعة مفادها أنه قام بجرد نبذة عن حياته في البلاط الأموي وكيف أصبح خامس الخلفاء الراشدين وأثناء الإلقاء بكى بكاء مرّاً، وكان آنذاك سيدي عبد السلام يشير تارة إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز وتارة أمامه كأنه بذلك يريد القول: "أيمكن لي أن أقدم هذا الرجل الصالح إلى ملك المغرب كي يسمع بأم أذنيه إن لم يرد أن يستنصح([5]) بالكلام الذي وجهه إليه".

وبعد أن أنهى سيدنا عمر بن عبد العزيز كلامه طلب النبي صلّى الله عليه و سلّم من سيدي عبد السلام ختم المجلس فأشار بأصبعه في استحياء وبكاء أنه لا يستطيع، وفي الأخير ختم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، واستيقظت.
4. محمد س، مدينة فاس (1412هـ):

رأيت فيما يرى النائم يوم فاتح يناير بعد الشروق أني في رحلة مع سيدي عبد الله الشيباني، وسيدي عبد الحميد قابوش، وسيدي عمر التلمساني، وإخوان آخرين لم أتذكر أسماءهم، وركبنا سيارتين سيارة سيدي عبد الله الشيباني وسيارة أخرى من نفس الحجم، حتى وصلنا إلى مكان شديد الازدحام بالسيارات حيث لم نجد مكانا نترك فيه سيارتينا، وإذا بسيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام يمثلان أمامنا ويحيِّياننا، ثم أخذا السيارتين وأخذا يطويانهما حتى أصبحتا على شكل ورقتين ملفوفتين، فأدخلا إحداهما بداخل الأخرى، ثم سلماهما لي، فرأيتني أحمل ورقة ملفوفة. ثم أخذانا معهما إلى بيتهما فجلسنا معهما وتكلما معنا كلاما لم أتذكره. ثم خرجنا من عندهما حتى دخلنا بيتا آخر وجدنا فيه سيد الأنبياء وإمام المرسلين ونور الله الأعظم سيدنا محمدا صلّى الله عليه و سلّم، فرحب بنا وتكلم معنا كلاما لم أتذكره، ورأيت سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام ينتقل من عند الحبيب المصطفى إلى سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام ثم يرجع، ثم يذهب عندهما ثم يرجع، وذلك بسرعة البرق حيث نشعر بتحرك الهواء المهول أثناء ذهابه وأثناء رجوعه.
5. عبد الوهاب ب رحمه الله، سجن وجدة (1413هـ):

رأيت الرسول صلّى الله عليه و سلّم في درجة "الوسيلة"([6]) يأكل الزيتون, ثم رأيت الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يأكلون من أعلى درجة في الجنة, ولكن دون الوسيلة، وقرأت: "السابقون السابقون، إولائك المقربون". ثم بقيت أنظر من أين سوف نأكل نحن؟ أمن الدرجة الثانية أم الثالثة؟ فإذا نحن نأكل مما أكل منه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين, وفهمت أن ذلك أساسه نهجنا لما نهجوه رضي الله عنهم.
6. عبد الوهاب ب رحمه الله، سجن وجدة (1413هـ):

بينما كانت تحدثني نفسي بأحداث الإخوة الفلسطينيين فإذا بي أرى في هذه الأجواء طريقا بيضاء لامعة تبدو في أول الأمر كأنها كأداء ثم تستقيم بعدها، ومكتوب بخط كبير"يا أيها الذين آمنوا" فقلت في نفسي: هذا هو الطريق الذي رسمه الرسول صلّى الله عليه و سلّم للمؤمنين ليسلكوه، ثم رأيت سيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم واقفا بجانب هذه الطريق مشيرا بأصبعه الأيمن السبابة إلى الحوض، وكأني مغطى بغشاء وهو قريب مني جدا، فقلت في نفسي: يكفي المؤمن أن يسلك هذه الطريق المرسومة لينال من الحوض. ثم بعد ذلك سمعت صوت سيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم في أُذني يقول: "أنتم الذين سوف يعطيكم الله تعالى الحي, ويوفقكم لما يحبه ويرضاه".
7. عبد الوهاب ب رحمه الله، سجن وجدة (1413هـ):

رأيت الرسول صلّى الله عليه و سلّم واقفا ومجموعة من الصحابة رضوان الله عليهم جالسين، أذكر منهم سيدنا معاذا وسيدنا المقداد رضي الله عنهما, ثم امرأة تسير في الهواء ترتدي الأبيض.
8. مشيش ع (1415هـ):

رأيت بفضل الله تعالى الفردوس الأعلى والناس يدخلون إليها وجاء دور الأخ "ع.أ" فقال الناس: هذا الرجل كان يستحق في الدنيا أن يكون من أفراد مجلس الإرشاد؛ فهتف هاتف من عند الله تعالى: إن كان هذا الرجل يستحق تلك المكانة في الدنيا، فإنه هنا في الآخرة سيكون مع الصفوة من الأنبياء والمقربين. ثم أخذ النبي صلّى الله عليه و سلّم بيده وأدخله الجنة، واستقبله فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه قائلا: هذا رجل من آل البيت، وهو من المختصين بمحبتنا.
9. رأيت سيدي عبد السلام ياسين (1416هـ):

في بيته ومعه سيدي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، وسيدنا علي كرم الله وجهه، ومعهما ملكان يحملان كتابا أخذه سيدنا علي رضي الله عنه وسلمه لسيدي عبد السلام، وقال له: "كان بعضه لأسلافك وكله لك". ثم رأيت بعد ذلك سيدي عبد السلام في جمع من الإخوة وفي يده كتاب بعنوان: "كشف الآحاد لأنوار الله الصمد". وقال للإخوة: هذا الكتاب لم يكتب أبدا. ثم فتحه فكانت صفحاته بيضاء فأخذ يقرأ فيه والإخوة ينصتون ويبكون بكاء شديدا.
10. جمال ش (1417هـ):

رأيت فيما يرى النائم أني في صحراء تنتابني حيرة وكان الوقت ضحى، فإذا برسول الله صلّى الله عليه و سلّم يأتي ممتطيا فرسا أبيض، فنزل ثم أخذ بيد سيدي عبد السلام, ثم أركبه الفرس وقال له: "انطلق", ثم انطلق, ثم نظر إلي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم, ثم سألته عن هذا الذي حدث فقال لي: "هذا هو الذي يكمل الطريق من بعدي".
11. فتاة في الخامسة عشرة من عمرها (1417هـ):

رأت كأنها مع أختها الصغرى وجدتها في غرفتها، فدخل رجل ولعب مع أختها ودخل آخر ولعب معهما وقتا طويلا ثم قال كلاما لجدتها ثم انصرف. فسألت الفتاة جدتها عن هوية الرجلين، وعن الكلام الذي دار بينها وبين الرجل الثاني، فأجابت الجدة: الأول هو سيدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه والثاني هو سيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم وقال لي: "هاتان الفتاتان هما جيل الخلافة على منهاج النبوة([7])".
12. عمر غ (1417هـ):

رأيت فيما يرى النائم أن الأمكنة كلها مظلمة باستثناء مكان ينبعث منه ضوء شديد القوة، فإذا بهذا المكان يجلس فيه مجلس الإرشاد مع الأخ المرشد سيدي عبد السلام ياسين، فجاء رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، ووضع يده الشريفة على رأس كل أخ من مجلس الإرشاد وهو يقول: "إنكم من أبناء الحسين". وعندما وصل إلى الأخ المرشد نزع بردته (سلهام) وألبسها إياه.
13. عمر غ (1417هـ):

رأيت أن كل الطرق التي تؤدي إلى بيت سيدي عبد السلام مملوءة عن آخرها بالإخوة وهم يرتدون ثيابا بيضاء، وفجأة نظر إلينا سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم من السماء فأضاء بنور وجهه على الإخوة، فسأله الصحابة الكرام: من هؤلاء يا رسول الله؟ فقال لهم: "هؤلاء أتباع عبد السلام ياسين، وأتباعه أتباعي".
14. محمد ب، مدينة الدار البيضاء (1418هـ):

رأيت أنني ومجموعة من الإخوان في قاعة كبيرة للتداريب الرياضية، وهؤلاء الإخوة جميعا يبدو عليهم أثر القوة الجسمية، والمشرف على هذه التداريب هو رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، بحيث أنه جالس أمام المتدربين ينظر إليهم. وبعد عدد كبير من الحصص التدريبية كانت الحصة الأخيرة، والتي عند انتهائها نهض رسول الله صلّى الله عليه و سلّم وأخذ قلما كبيرا وبدأ يكتب في الدفتر الذهبي، فجئت إلى جانبه الأيمن لأرى ما يكتب فإذا بالكتابة خطوط من ذهب، كلما خط رسول الله صلّى الله عليه و سلّم خطا ظهر عليه نور وبدأ يكبر (الخطوط تشبه الخطوط التي في الكتابة الصينية). ولم أفهم ما يكتب، وعندما انتهى عرفت أن ما كتبه رسول الله صلّى الله عليه و سلّم هو التالي: "أوصي بهذا الأمر إلى عبد السلام ياسين".
15. العربي ع، مدينة سطات (1418هـ):

رأيت فيما يرى النائم أني وأخي "محمد.م" في زيارة للديار المقدسة، وأثناءها صعدنا جبلا ولاحظنا أن بعض الزائرين يتزحلقون كأنهم فوق الثلوج، ثم مررنا قرب بيت الله الحرام فرأيت مياها رقراقة يظهر من سطحها قعر المجرى، فقلت لصاحبي: انظر سبحان الله، كل هذه الأمة تأخذ والمياه دافقة.

ثم تعلقنا بالبيت وبكينا وعندها تساءل صاحبي عن بعض المؤمنات توضأن ولم يخرجن إلى الزيارة، ربما منعوهن حتى الليل لأنهن يلبسن الحجاب العصري، فقلت له: المهم أن يستترن ولو باللباس العصري وسيتركونهن يخرجن، ثم توجهنا لزيارة سيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم فدخلنا وأنا أقول: من جاء للزيارة وهو يحسب أن سيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم ميت فـ... وأرددها ولا أكمل الجملة. ثم طفت حواليه أبحث أين أجلس، كان هناك بعض الشباب أحدهما أشار برجله إلى المضجع الشريف يعد حجيرات فوقه فوجدها بضعا وستين، لكني نهيته بشدة أن يمسك رجله ثم استغفرت الله.

جلست إلى يمين سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم في حال من الخوف والبكاء، سلمت عليه وقلت: قد جئتك صادقا غير منافق، والله ورسوله أعلم بذلك، يا حبيبي يا محمد إنك تعلم أن سيدي عبد السلام ياسين قد جمع الأمة على ما جمعتها عليه، فاشتد بي البكاء حتى أحست بي زوجي وأيقظتني والدموع على خدي.
16. العربي ع، مدينة سطات (1418هـ):

رأيت فيما يرى النائم أني في بستان كبير أشجاره مثمرة وأرضه رطبة من المسك، أحسست بجوع كبير وخطر لي أن آكل من ثمار البستان، لكني تراجعت وعزمت ألا أفعل حتى ألقى حبيبي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، واكتفيت بتسريح نظري فيما خلق الله عز وجل في ذاك البستان، والكل هناك يسبح بإذن الله تعالى (الأشجار، الأرض.. كل ما في البستان). وإذ الحال كذلك فجأة أَهَلَّ موكب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، فاقتربت في لهفة وشوق إليه صلّى الله عليه و سلّم. ولما رأيت ابتسامته البلسم صلّى الله عليه و سلّم هَدَّأَتْ من روع خاطري وطاب قلبي، لكن كانت تنقصني الجرعة الشافية من الدواء، لم أحس بل ولم أفكر حتى وجدت نفسي أسأله صلّى الله عليه و سلّم بقولي له: "دلني على الله عز وجل"، زادت ابتسامته صلّى الله عليه و سلّم ولم يَردَّ علَيَّ بشيء، بل أشار إلي بيده الكريمة إلى الجانب الأيمن، ففهمت أنه علي أن ألتفت إلى اليمين، نظرت فوجدت خيمة يحفها نور قوي، دققت النظر فيمن يوجد داخل الخيمة فوجدت سيدي عبد السلام ياسين حفظه الله وهو يجمع الدُوم ويلصقها بريقه، فسمعته صلّى الله عليه و سلّم يقول لي: "اسأله هو يدلك" -يعني سيدي عبد السلام-. ففهمت وأنا في موقفي ذاك أنه يلزمني أخذ تلك الجرعة الشافية من سيدي عبد السلام ياسين كما أمرني رسول الله صلّى الله عليه و سلّم".
17. أحمد ع، مدينة الرباط (1419هـ):

رأيت فيما يرى النائم سيدي عبد السلام ياسين إلى جانب سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم وبينهما نور، وسيدي عبد السلام ياسين يرى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، فقلت الحمد لله، نحن مع من رأى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم([8]). ثم ظهر لي بأن سيدي عبد السلام عاش جنبا إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ورآه، ولم يكن هناك سلسلة من رأى من رأى من رأى...، فأردت أن أسأل سيدي عبد السلام وأطلب إليه أن يحكي لنا عن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، ويحدثنا عن شمائله ويصفه لنا. فاستحييت. فجاء عندنا سيدي عبد السلام وقال لنا: إن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أوصاني أن أبلغكم بأن تحافظوا على الفطرة، والفطرة هي الدين، ومن حافظ عليها دخل الجنة.
18. حسن م (1422هـ):

رأيت فيما يرى النائم أن الله عز وجل قد بعث من في القبور، والخلائق لا حد لهم في زحام شديد، حتى أنه لا تظهر إلا الرؤوس كأنها نقط سوداء لكثرة الزحام، ورأيت أن جبريل عليه السلام يُرِي سيدنا محمدا صلّى الله عليه و سلّم ويقول: "اُنظر إن الله قد بعث إخوان العدل والإحسان مع الصحابة رضوان الله عليهم".

استيقظت في جوف الليل، ثم عدت للنوم فرأيتها ثانية كما في الأول. استيقظت ثم نمت، فرأيتها ثالثة أني أحكيها لسيدي محمد العلوي -بعدما ترددت خوفا-، وأنا أحكيها له يجيبني ويشير بيمينه ويقول: "وعندي الدليل على ذلك" ويؤكدها، وأخي سيدي عبد الواحد المتوكل([9]) واقف على يمينه. وكل الإخوة في هيأتهم الطبيعية: سيدي عبد الهادي بلخيلية، سيدي عبد الكريم العلمي... وآخرون لا أذكر أسماءهم، في حين أن باقي الخلق قصار القامة. وبعد أسبوع أو نحو ذلك رأيتها رابعة أنني أحكيها لسيدي عبد السلام ياسين حفظه الله، فقال لي: "احكِها لسيدي محمد العبادي يحتفظ بها في كراسة". هكذا قال: الكراسة.
19. حسن م (1422هـ):

رأيت فيما يرى النائم أني ذهبت إلى الروضة الشريفة كي أزور الحبيب محمدا صلّى الله عليه و سلّم، وعند وصولي إلى باب الروضة الشريفة رأيت أولياء الله أجمعين متحلقين في جلسة أمام باب الروضة الشريفة ليسألوا نبي الله صلّى الله عليه و سلّم عن صاحب طريق الفلاح والفوز، وفي تلك اللحظة أخبرت في قلبي بأنه صلّى الله عليه و سلّم صعد عند ربه ليأتي لهم بخبر صاحب طريق الفلاح والفوز، وعند نزوله من عند ربه خرج صلّى الله عليه و سلّم من باب الروضة الشريفة، وأتى للجلسة عندهم، وقال: "أولياء الله التكلف التكلف" -قالها مرتين- ثم قال: "إياكم والتكلف([10])"، فأخبرهم بأن رجلا من أمته يأتي إلى إخوان بالمغرب ويجمعهم على قلب واحد، فعرفت بأن الرجل سيدي عبد السلام ياسين، ثم قال: "لا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يلزمهم التكلف، فذاك هو صاحب طريق الفلاح والفوز".
20. حسن م (1422هـ):

رأيت فيما يرى النائم أن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال لي: "بشر المؤمنين الذين يجمعون التبرعات من أجل أضاحي العيد بأن لهم الجنة".
21. رضوان المعروفي، سيدي سليمان (1423هـ):

أخذتني سنة من النوم في جلسة الشروق فرأيت سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم جالسا معنا يدعو الله لنا رافعا يديه وهو يقول: "اللهم اجعل قرة أعينهم في الصلاة". ثم رأيت أن كل أخ له آنية يملأها بكلمة لا إله إلا الله.
22. نور الدين س، الخنيشات (1424 هـ):

رأيت فيما يرى النائم الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين حفظه الله يصحح التفسير على مِقرَأة، ورأيت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم رفع كتاب التفسير وقبله من جهتين ثم وضعه وانصرف.
23. نور الدين س، الخنيشات (1424 هـ):

رأيت فيما يرى النائم أني في زحام شديد لا يكاد يتحرك الإنسان فيه، فدافعت حتى أفضى بي الأمر إلى فضاء وجدته هو الحرم المكي، والكعبة في نور عظيم. وفي المحراب جلس سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم وعلى يمينه المرشد الحبيب عبد السلام ياسين، وإذا بذلك الزحام ينفرج لجماعة من الناس يسلكون فيه بسهولة، ويمضي الواحد بعد الآخر ليسلم على سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم وعلى الأستاذ المرشد الذي أخذ يقدمهم لرسول الله صلّى الله عليه و سلّم واحدا واحدا، ويقول: هؤلاء رجال التعليم في جماعة العدل والإحسان.
24. محمد أ:

شاهدت أثناء دعاء الرابطة، أن الرسول صلّى الله عليه و سلّم هو أيضا يدعو بدعاء الرابطة.
25. علي أ:

شاهدت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ومعه سيدي عبد السلام ياسين حفظه الله، ومجلس الإرشاد. ثم بدا المسجد الأقصى فدخلوه. فتوضأ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، ثم توضأ سيدي عبد السلام ومجلس الإرشاد. وصلى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ركعتين فصلى سيدي عبد السلام وصلى مجلس الإرشاد ركعتين، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم القرآن فقرأوا القرآن ثم بدأ يذكر الله فذكروا الله.
26. علي أ:

رأيت فيما يرى النائم أننا كنا جالسين في المكان الذي نحن فيه، إذ طلعت علينا مئات من الملائكة لا أستطيع وصف ذلك النور الذي ألهمهم الله إياه. فقبل دخول الملائكة البيت أحاطت المنزل كله بخندق، والفرح ملأ وجوههم خاصة وأن الله عز وجل سهل عليها عملية الحفر بهذا المطر الغزير. فبعد دخول الملائكة إلى البيت أخذت تصف المؤمنين واحدا تلو الآخر -وتبين لي أن ذلك الترتيب محكم بالميزان العمري والله أعلم-. وبعد ذلك تقدم قليل من الملائكة وهم متميزون عن الباقي إلى الحمام لغسل قلوب الإخوة واحدا تلو الآخر. وكانت عملية الغسل سريعة.

بعد هذا طلع علينا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم في بردة بيضاء ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة رضوان الله عليهم جميعا، وسيدنا بلال رضي الله عنه، وسيدي عبد السلام حفظه الله، وإخوتنا المعتقلون ([11]) كلهم. جلس رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أمامنا وهو باسط بردته، تفضلت الملائكة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وسيدنا بلال رضي الله عنه ومجلس الإرشاد جميعا حفظهم الله، والإخوة السجناء إلى الشق الأيمن لرسول الله صلّى الله عليه و سلّم داخل البردة، وباقي الإخوان إلى الشق الأيسر لرسول الله صلّى الله عليه و سلّم داخل البردة. افتتح سيدنا أبو بكر رضي الله عنه المجلس في حضن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم -حمد الله وأثنى عليه- وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي ألقى الكلمة. فقبل حديث سيدنا عمر رضي الله عنه، كبر سيدنا بلال رضي الله عنه: الله أكبر، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم الآية الكريمة: "إن الله يامر بالعدل والإحسان"

بدأ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلامه بالآية الكريمة: "محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" وأصبح رضي الله عنه يتحدث عن جماعة رسول الله صلّى الله عليه و سلّم -المهاجرين والأنصار- وعن صفات رجالها وأخلاقهم، ليصل إلى الحديث عن رجال جماعتنا المباركة، خاصة القيادة، وما تعرضت إليه من ابتلاء وتمحيص في سبيل الله سبحانه، إذ ذاك كبر سيدنا بلال رضي الله عنه ثانية، فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: "والذي نفسي بيده لأنتم أحب الناس إلي من بعد أصحابي". استمر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديثه -وكان طويلا- يبسط فيه المنهاج النبوي ليصل رضي الله عنه في الأخير إلى الخلافة على منهاج النبوة إن شاء الله تعالى، إذ ذاك كبر سيدنا بلال رضي الله عنه ثالثة، فتلا مرة أخرى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قول الحق سبحانه وتعالى: "إن الله يامر بالعدل والإحسان".
27. اليزيد ف، مدينة سيدي يحيى:

رأيت فيما يرى النائم كأن أخا من الإخوة يسأل الرسول صلّى الله عليه و سلّم عن الجماعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: "إنها ضوء".
28. جمال ز:

رأيت فيما يرى النائم أن الإخوان مرابطون في بيت الله الحرام، ومنهم من يلبس لباس الإحرام، ومنهم من لا يلبسه، وكان وقت الاستغفار، وكان مقام الحجر الأسود فارغا. فقلت أذهب إليه وأدعوا فيه الله، وأقول في دعائي: يا ربي اعط لسيدي عبد السلام ياسين أعلى مقام لم يصل له وَلِيٌّ من قبل ولا من بعد. فإذا بسيدنا محمد صلّى الله عليه و سلّم يقول لي: "انظر إلى مقام سيدي عبد السلام ياسين، لقد نال الدرجات العلى".
29. سالم ت (من سجن وجدة):

رأيت في غرفتنا سيدي عبد السلام ياسين يذكر الله ويرتدي لباسا أخضر، وهممت بالاقتراب منه لأسأله عن موضوع "الصحبة" وكيفية الحصول عليها والتحقق منها. إلا أن سيدي (فتحي.ص) اقترب منه وتحدث إليه. وتركتهما وذهبت إلى مكان الوضوء، وشرعت في الوضوء، وعلمت أن الرسول صلّى الله عليه و سلّم هو الجالس في المكان الذي كان يجلس فيه سيدي عبد السلام، وقام الرسول صلّى الله عليه و سلّم يعانق الإخوة واحدا واحدا. إلا أن منهم من في قلبه مرض فإنه يصيح عند معانقة الرسول صلّى الله عليه و سلّم. واستغرب الإخوة من مجيء الرسول صلّى الله عليه و سلّم، وقال سيدي "محمد.ج" في غرابة: كيف يأتي الرسول صلّى الله عليه و سلّم في هذا الوقت ليعرض صحبته على مثلهم؟ ثم جاء أحد الإخوة يخبرني بأن الرسول صلّى الله عليه و سلّم جاء ليعرض عليك صحبته فأسرع في الوضوء، ثم أخذت الإناء وأتممت وضوئي فوق فراش لي وأنا مستقبل القبلة، والرسول صلّى الله عليه و سلّم ينتظرني في مكاني ويذكر الله، وعند انتهائي من الوضوء استقبلت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم".
30. محمد د:

رأيت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يشير إلى قصر عظيم ويقول لي: "هذا القصر للأستاذ المرشد عبد السلام ياسين ولجماعة العدل والإحسان، ولكن يصبروا "إن الله مع الصابرين"
31. هشام ق، مدينة الرباط:

رأيت فيما يرى النائم أني كنت واقفا أمام ثقب محاط بصخور، ثم مد لي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يده الشريفة فأخرجني، وكان لابسا جلبابا مغربيا أبيض.
32. هشام ق، مدينة الرباط:

رأيت فيما يرى النائم أن جميع أعضاء الجماعة كنا في الحج، وكان في الصف الأمامي سيدي عبد السلام ياسين حفظه الله إلى جوار رسول الله صلّى الله عليه و سلّم وأبي بكر رضي الله عنه، فقام سيدنا أبو بكر فوعظنا موعظة بليغة أوصانا فيها بالسمع والطاعة وقال: "أوصيكم أن تحسنوا معاشرة مرشدكم وأن تحسنوا التلمذة عليه، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، واتقوا الله في أمتكم، واتقوا الله في جماعتكم". ثم دعا الله أن يوفقنا لما فيه خير وأن يظهرنا على أعداء الإسلام، ولما انتهى قام رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فصلى بنا ركعتين قرأ فيهما بسورة السجدة والنجم، ولاحظت خلال الصلاة أن ثغرة كانت مفتوحة في الصف الأخير حاولت ملائكة الرحمان إغلاقها ولكنها لم تغلق.
33. هشام ق، مدينة الرباط:

رأيت وكأن سيدي عبد السلام في بيته ينتظر زيارة ما. فجاءه رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، ومعه سيدنا أبوبكر، جلسا يتحدثان معه ساعة، ثم سأله الرسول صلّى الله عليه و سلّم عن أحوال الجماعة والإخوة، فأخبره سيدي عبد السلام بأن الجماعة والإخوة بخير والحمد لله.
34. هشام ق، مدينة الرباط:

رأيت الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أتى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، فقال له: هل سيدي عبد السلام ياسين على سنتك؟ فقال له سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: "سيدي عبد السلام ياسين لا يرضى بأقل من سنتي".
35. هشام ق، مدينة الرباط:

رأيت سيدي عبد السلام ياسين واقفا، فجاء رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فأصبحت أرى ظاهرا سيدي عبد السلام وباطنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، فأمرني بالقراءة فقرأت له آيات من القرآن وسورة الضحى مرتين، فأطربته القراءة.
36. هشام ق، مدينة الرباط:

شاهدت أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكل جيش وقد انقسم إلى قسمين بينهما خط واضح، ووقف أمام جبل كبير لا يجد ما يفعل، والجبل ذو ميلان حاد (حوالي °90 مع السطح). ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يجري وقال: "يالاَّهُو" (أي هيا نذهب). وأخد يتسلق الجبل والأمة كلها تمسك في ثيابه حتى انكشف عن ظهره الشريف صلّى الله عليه و سلّم وهو ماض يتسلق الجبل.
37. أخت حاملة لكتاب الله:

رأيت فيما يرى النائم أني آخذ بثياب الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين حفظه الله، وهو يأخذ بثياب سيدنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم.
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #4
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

. دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص : ( في تحديد المفاهيم :الخليفة و الولي )

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي و على آله و صحبه ، وبعد
لا أحد ينكر كما تطرقنا سابقا ، في الموضوع السابق ، عن رؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ونقلنا شهادات حية في عصرنا لهذه الكرامة.وهي تعد شأنا خاصا في حياة المسافر إلى الله ، أجتماعه بالحضرة العلية في عالمه القلبي ، بعيدا عن الحواس و العالم المرئي ، وضوضاء الحياة اليومية.
الإنسان خليفة الله في أرضه بوجه عام ، وولي لله تعالى بوجه خاص ، وعندما تجتمع الخلافة كتدبير لشئون الأرض مع الفقه القلبي لأوامر الشرع ، يقف الإنسان حينها على شاطئ الأمان : الكمال العلمي العملي ، والفقه التدبري القلبي النوراني ، مااصطلح عليه عند العلماء الكمال في الإتباع.
الخليفة والولي ، و أخبارهما تعج في كتب التاريخ ، وفي مذكرات أهل الله التربوية.
فالخليفة يرعى شئون الخلق ، والولي يباشر تربية الأرواح ، وتنقية الأفكار ، لكي يكون العقل تابعا للقلب و ليس العكس.
1.الولي الكامل كالنبي في أمته :
أجمع أهل الله تعال أن الشيخ وهو الولي الكامل في قومه كالنبي في أمته وأن مبايعته كمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم ، لكونه نائبا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والنيابة هنا يعني الخلافة ن لكن الخلافة بمعناها التربوي فقط ، ما يسميه أهل الله بالإذن في التربية كابرا عن كابر ، إلى أن يصل التلقي في منبعه برسول الله صلى الله عليه وسلم، سندا متصلا مشهودا بالصحة و المعاصرة و المشافهة و المخاللة.
و لايشترط في معرفة كيفية وقوع هذا الإذن ، بقدر ما يطلب من السالك أن يعلم سند شيخه التربوي ، حتى لايقع في براثن أدعياء السوء.
يقول ابن عربي في الفتوحات المكية ص 243الولاية نعت إلهي وهو للعبد خلق لا تخلق ، وتعلقه في الطرفين عام ، و لكن لا يشعر بتعلقه عموما من الجناب الإلهي ، وعموم تعلقه من الكون أظهر عند الجميع ، فأن الولاية نصر الولي أي نصر الناصر ، فقد تقع لله و قد تقع حمية و عصبية ، فلذلك هو عام التعلق .
ولما كان هذا النعت للإله كان عام التعلق ، وهذا كل نعت إلهي لا بد أن يكون عام التعلق ، وإن لم يكن كذلك فليس بنعت إلهي ، لكن بعض النعوت مثل نعت الولاية لا ينسبه الله لنفسه إلا بتعلق خاص للمؤمنين خاصة و الصالحين من عباده وهو ذو النصر العام في كل منصور.
ولما كان نعتا إلهيا هذا النصر المعبر عنه بالولاية و تسمى به سبحانه وهو إسمه الولي و أكثر ما ياتي مقيدا كقوله تعالى : " الله ولي الذين آمنوا" البقرة آ 257.) كتاب الفتوحات ص 243،244.
الولاية إذن بحسب ابن عربي رضي الله عنه خلق و تعلق ، و نسبة سرت من الجناب الإلهي الى الإنسان لطفا منه و توددا و إحسانا و نعمة وهي نصرة بتأييد رباني بعبده على الهوى و النفس و الدنيا و الشيطان ، حتى يكون العبد لله تعالى في قبضته يتقلب.
ثم نجد ابن عربي رضي الله عنه يتحدث عن مقام الولاية البشرية فيقول : ( فاعلم أن الولاية البشرية على قسمين : خاصة و عامة.
فالعامة توليهم بعضهم بعضا بما في قوتهم من إعطاء المصالح المعلومة في الكون فهم مسخرون بعضهم لبعض ، الأعلى للأدنى و الأدنى للأعلى ، وهذا لا ينكره عاقل فإنه الواقع، فإن أعلى مراتب الملك ، فالملك مسخر في مصالح الرعايا و السوقة ، و الرعايا و السوقة مسخرون للملك ، فتسخير الملك للرعايا ليس من أمر الرعايا ، ولكن لما تقتضيه المصلحة لنفسه و تنفع الرعايا بحكم اللأتباع لا أنهم المقصودون بذلك الإنتفاع الذي يعود عليهم بالتسخير ..........
وأما القسم الخاص فهو ما لهم من الولاية التي هي النصرة في قبول الأحكام الأسماء الإلهية على غيرها من الأسماء الأخر بمجرد أفعالهم وما يظهر من أكوانهم لكونهم قابلين لآثار السماء فيهم ، فينزلون في هذه الولاية منازل الحقائق الإلهية ، فيكون الحكم لهم مثل ماهو الحكم للأسماء بما هو عليهم من الإستعداد، وهذه الولاية في أصحاب الأحوال أظهر في العامة من ظهورها في أصحاب المقامات ، وهي في أصحاب المقامات في الخصوص أظهر من ظهورها في أصحاب الأحوال ولكن مدركها عسير، فأن صاحب هذا المقام على العادة المستمرة وهو متغير في كل زمان مع كل نفس لأنه في كل نفس في شأن إلهي لا علم لكل أحد به مع قيامه من حيث لا يشعر فلا يحمد عليه ، وهذا الخاص يحمد عليه و صاحب الخال خارق للعادة فتحيد إليه الأبصار و تقبل عليه النفوس وهو ثابث مدة طويلة على حالة واحدة لا يشعر لتغيرها عليه و يحجبه عن معرفة ذالك حبه لسلطنته التي أعطاها الحال فهو على النفيض من صاحب المقام ، ولو استشعر بنقصه في مرتبته لما رغب في الحال فأنه يدل على جهله.
و لصاحب هذا المقام أحوال مختلفة :منها حال الأمانة،وحال الدنو، وحال القرب،وحال الكشف،وحال الجمع، وحال اللطف ، وحال القوة ، وحال الحماسة ، وحال الطيب ، وحال اللين ، وحال النظافة ، وحال الأدب ، فأذا تجلى في السلطنة ارتاض و قيل فيه سلطان ، و إذا تجلى في الجلال تأدب فهو أديب ، و في تجلي الجمال نظيف ، و في تجلي العظمة طاهر زكي قدوس ، و إذا تجلى في الطيب عطر عرفه ، و في الهيبة جعله سيدا ، و في اللطف ذوبه ، و في الحسن عشقه فروحنه ، فللأولياء التفريع و الإقبال ، ولهم الستور و الحجاب ف‘ذا قربهم صانهم و سترهم و خباهم فجهلوا ، و إذا عاقبهم و ليسوا بأنبياء أظهر عليهم خرق العوائد فعرفوا فحجبوا الخلق عن الله وهم مأمورون بدعوتهم إلى الله ، فالحق لأصحاب المقامات من الأولياء مطيع و لكلامهم سميع ، لهم جميع المقامات و الأحوال ، وهم الذكران الرجال لا يلحقهم العيب و لايقوم بهم فيما هم فيه ريب ، لهم الآخرة مخلصة كماهي ، ولهم الدنيا ممتزجة كما هي لسيدهم ، فهم بصفات الحق ظاهرون و لذلك جهلوا.) كتاب الفتوحات المكية ص 246.
ليس بعد هذا الوصف من وصف يضاف ، و قد أشار ابن عربي رضي الله عنه في هذا الفصل عن أحوال الولي،وهي أحوال راسخة مهيبة ، تضع العبد الحائر الباحث عن الخير و أهله كيف أكون مثل ما قال ابن عربي رضي الله عنه.
اتسم أولياء الله بالأمانةدائما وهم ينقلون إلينا منازلاتهم التربوية ، فكانت شهاداتهم حية عبر الأجيال ،توقظ الهمة و الإرادة و العزم للسير إلى الله ، فجازوا قدم السبق في السيادة و الريادة ، بالأدب الرفيع ، والرحمة الجامعة لصفوف المسلمين ، والدنو العام و الخاص من شأن المؤمنين ، وتركوا لنا نصائح غالية ، حول الصحبة و الذكر و فضائل العلم و العمل ، فكانوا بمثابة العقد الفريد الذي تجتمع عليه الأمة في حوالك الليالي.
يقول ابن عربي رضي الله عنه في نفس المصدر ص 359 ......الشيوخ نواب الحق في العالم كالرسل عليهم السلام في زمانهم ، بل هم ورثة الذين ورثوا علم الشرائع عن الأنبياء عليهم السلام غير أنهم لا يشرعون ، فلهم رضي الله عنهم حفظ الشريعة في العموم مالهم التشريع ، ولهم حفظ القلوب ومراعاة الآداب في الخصوص ، هم من العلماء بالله بمنزلة الطبيب من العالم بعلم الطبيعة ، فالطبيب لا يعرف الطبعة إلا بما هي مدبرة للبدن الإنساني خاصة و العالم بعلم الطبيعة يعرفها مطلقا وأن لم يكن طبيبا ، وقد يجمع الشيخ بين الأمرين ، ولكن حظ الشيخوخة من العلم بالله أن يعرف من الناس موارد حركاتهم ومصادرها ، والعلم بالخواطر مذمومها و محمودها ، وموضع اللبس الداخل فيها من ظهور الخاطر المذموم في صورة المحمود ، و يعرف الأنفاس و النظرة و يعرف ما لهما وما يحويان عليه من الخير الذي يرضي الله ومن الشر الذي يسخط الله ، ويعرف العلل و الأدوية ، و يعرف الأزمنة و السن و الأمكنة و الأغذية وما يصلح المزاج و يفسده ، و الفرق بين الكشف الحقيقي و الكشف الخيالي ، ويعلم التجلي الإلهي ، و يعلم التربية ومتى إنتقال المريد من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة ، و يعلم متى يترك التحكم في طبيعة المريد و يتحكم في عقله ، و متى يصدق المريد خواطره ، و يعلم ما للنفس من الأحكام و ما للشيطان من الأحكام ، وما تحت قدرة الشيطان ، ويعلم الحجب التي تعصم الإنسان من إلقاء الشياطين في قلبه ، و يعلم ما تكنه نفس المريد مما لايشعر به المريد ، و يفرق للمريد إذا فتح عليه في باطنه بين الفتح الروحاني و بين الفتح الألهي، و يعلم بالشم أهل الطريق الذين يصلحون له من الذين لا يصلحون ، و يعلم بالتحلية التي يتحلى بها نفوس المريدين الذين هم عرائس الحق وهم له كالماشطة للعروس تزينها ، فهم أدباء الله عالمون بآداب الحضرة و ما تستحقه من حرمة). الباب الأحد و الثمانون و المأئة ، في معرفة مقام أحترام الشيوخ.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتاب الأحسان حول الصحبة : ( لا يهم من احترق فؤادُه حسرة على ضياع عمره بعد أن "أُسمع" أن لله أولياء أن يكون الشيخ الدال على الله بمثابة إمام الصلاة أو حاضنة ترضع أو طبيبا يناول القاصد تَرياقا. همُّه المقيم أن يعثر على من يحدثُه عن الله وعن الطريق إلى الله. هذا المريد اليائس من كل شيء دون الله، المنقطعُ للبحث عن الدليل صنفٌ نادر. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "مريدو الدنيا فيهم كثرة، ومريدو الآخرة فيهم قلة، ومريدو الحق عز وجل الصادقون في إرادته أقل من كل قليل. هم في القلة والعدم كالكبريت الأحمر. هُم آحاد أفراد في الشُّذوذِ والندور"[1]. وكذلك المشايخ الكمل قلة من قِلة من قِلة. قال الشيخ رحمه الله: "من صحت تبعيته للرسول صلى الله عليه وسلم ألبسه دِرعا وخَوْذَة، وقلّده بسيفه، ونَحَلَه من أدبه وشمائله وأخلاقه، وخلع عليه من خِلَعِه، واشتد فرحُه به كيف هو من أمته، ويشكر الله ربه عز وجل على ذلك. ثم يجعله نائبا له في أمته، ودليلا وداعيا لهم إلى باب الحق عز وجل(...) وهم آحاد أفراد، من كل ألفِ ألفٍ إلى انقطاع النفس واحدٌ"[2].
إن وجد الطالبُ الغريبُ الفريد، الصادق في طلبه، فكيف لقاؤه مع ذلك الوارث الكامل المتحقق بتبعيته الشاملة للرسول صلى الله عليه وسلم، النادر حتّى لا تجد إلاّ واحدا في الخلق بعد أن تصعد الحساب إلى آلاف الآلاف تعدها حتى ينقطع نَفَسُك؟
تلتفت إلى مصدر الهداية والنّور والدلالة على الله وهو الرسول المكرم صلى الله عليه وسلم فيخبرك أن: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"[3]. انظر وابحث وتحرَّ لئلا تسقط على أول خطيب يسحرك ببيانه، أو أول واعظ رقَّقَ قلبك فأبكاك وأبكى الناس، أو أول ذي رئاسة في العلم الظاهر حوله هالة وتلامذة، أو أول متشايخ من أبناء الفقراء له في الطريقة نسب عريق، أو حتى أول مُبَهْرِج نصّاب مرتزق، بل أول شيطانيٍّ عراف يُخبرك أخبار بيتك ويُمخرق وتزدحم العامة الذبابية على بابه.
رتبة المشيخة الحقيقية عالية نادرة عزيزة الوجود، فكيف السبيل إلى معرفة صاحب الأهلية وأنت قاصر؟ قال الإمام أبو النجيب السهروردي: "رتبة المشيخة من أعلى الرتب في طريق الصوفية ونيابة النبوة في الدعاء إلى الله". ولقب "شيخ" لقب ذائع شائع حتى ليطلقه عامة العامة وعامة القُراء على كل من يفتح الكتابَ ويُنَسِّق بعض العبارات ويتصدّى للفتوى وفصل الأحكام.
أمامك إحدى ثلاث طرائق للنظر والبحث فيمن تخالل. فالأمر موكولٌ إليك.
أول طريقة أن تعتمد على موازينك المسكينة وتزن بها من يُشار عليك بصحبته. تجيء بمواصفات مسبقة وَقَرَتْ في فهمك، فربَّما تتصور هذا الوارثَ الكامل النائبَ في مقام الدعوة إلى الله على صورة ما يشبه الملائكة، فكن على ثقة أنك لن تعثر على شيء ولو انقطعت أنفاسك مرات في عد الآلاف، ولو انقطع عمرك في السياحة شرقا وغرباً تحمل معك تلك الموازين المسكينة. ذلك أن أولياء الله أصنافٌ ومراتبٌ وألوانٌ، منهم الوسيم الجميل الفصيح البليغ الجامع بين علم الظاهر وعلم الباطن، ومنهم الأشعث الأغبر، الذي لا يكاد يُبين. وربما يفوتُك الفَوْت حين تتخطّى رجلا عاديا في مظهره لا يُؤبَهُ له، وهو من هو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: "رُبَّ أشعث أغبرَ مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه".
ويعقد نفس الإمام مسلم في كتاب "فضائل الصحابة" بابا لذكر نموذج الولي الأشعث الأغبر: "بابٌ من فضائل أُوَيْسٍ القَرنِيِّ رضي الله عنه". روى في هذا الباب أن وفدا من أهل الكوفة وفدوا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمان خلافته، وفيهم رجل ممن كان يسخر بأُوَيْس. فقال عمر: "هل ههنا أحد من القَرَنِيِّينَ؟" فجاء ذلك الرجل فقال عمر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أُويس. لا يدع باليمن غير أم له. قد كان به بياضٌ فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضعَ الدينار أو الدرهم. فمن لقيه منكم فليستغفر لكم".
الصحابة ذوو القدر العالي عند الله ورسوله يُنصحون بالتماس بركة رجل ما هو من الصحابة ولا ممن يؤبه بهم، دعاؤه مستجاب. فأين تقع موازينك من معرفة الرجال؟
الطريقة الثانية أن تجرِّب ثم تجرب حتى تعرف من نفسك هل عثرت على من: "ينهض بك حاله ويدلك على الله مقاله". وهنا أيضا إن اعتمدت على يقظتك وفطنتك ستقضي عمرا طويلا في بلاد التيه لأنك لا تستطيع تُميز بين"النهضة" التي يحدثها فيك مقال الواعظ الصادق الذي يسمعه العاصي فيتوب إلى الله على يديه، وبين "نهضة" القلب الذي تنتزعه صحبة العارف الوارث من لصوقه بالدنيا، وتحلق به في سماء طلب وجه الله. ثم إنك قد تجرِّب على المطلوب الحقيقي فتجده على غير ما كنت ترجو. وقد يصدر منه السلوك البشريُّ العاديُّ فتنكره، فلا تستطيع معه صبراً كما لم يستطع موسى صبراً مع الخضر عليهما السلام. نعم، لا يكون أحد من الصالحين، بَلْهَ أن يكون من الأولياء المتبوعين وهو مرتكب للكبائر مصر على الصغائر. ميزان الشرع معك هو وحده عاصمك. لكن ما زاد عليه مما هو من مثاليات معاييرك المسبقة فأوهام لا تنفع.
كنتُ حين استوحشت من الدنيا عِفْتُ نفسي وطار لُبّي في طلب الحق عز وجل. اخْشَوْشَنْتُ وانقبضت وانصرفت للعبادة والتلاوة والذكر آناء الليل وأطراف النهار. فلما منّ علي الحنان المنان له الحمد والثناء والشكر بلقاء شيخي رحمه الله وجدت أنْساً ورحمة وطلاقة وبشرا وفرحا بالله. ما كنت أتصور مدة انقباضي و"أزمتي" وبحثي أن من شأن مريد صادق أن يضحك، ولا أن يلتذ بطعام وشراب، ولا أن يستقرّ به فراش وينعم بنوم.
دعك من الاعتماد على غير الله، وابحث واحمِلْ معك ميزان الشرع، لكن لا مخرجَ لك من البحث التائه إلى أن تقف على باب الملك الوهاب الهادي. استخره واستعنه وتوكل عليه ولن تعدُوَ قدرك ومقدورك وسابقتك على كل حال. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "إذا أشكل عليك الأمر ولم تفرق بين الصالح والمنافق فقم من الليل وصل ركعتين ثم قل: يا رب دلَّني على الصالحين من خلقك، دلني على من يدلني عليك، ويطعمني من طعامك، ويسقيني من شرابك، ويكحل عين قلبي بنور قربك، ويخبرني بما رأى عيانا لا تقليدا"[4]. وقال: "إذا أردت أن تصحب أحدا في الله عز وجل، فأسبغ الوضوء عند سكون الهمم ونوم العيون، ثم أقبل على صلاتك تفتح باب الصلاة بطُهورك، وباب ربِّك بصلاتك. ثم اسأله بعد فراغك: من أصحب؟ من الدليل؟ من المخبر عنك؟ من المفرِّدُ؟ من الخليفة؟ من النائب؟ هو كريم لا يخيِّبُ ظنَّك. لا شك يُلهم قلبك، يوحي إلى سرِّك، يفتح الأبواب، يضيء لك الطريق. من طلب وجدَّ وجد"[5].
من علامات صدق طلبك أن تُديم الوقوف بباب الملك الوهاب، وأن تديم التوسل إليه والضراعة والاستغفار والاستخارة. ثم توكل عليه بعد أن يطمئن قلبك، ولا تلتفت إلى وراء. فإن حَسْبَك الله.
يقول المعترض الخليُّ من هم الله وهمِّ نفسه وعُمْرِه: ما بالنا وبال الشيخ! الشيخ، الشيخ! القصد معروف، وطريق الآخرة واضحة، والكتاب والسنة بين أيدينا. يقول ذلك وهو في دار الغفلة راقد، طاب له المأكل وهَنَأَ بالمشرب. مجنون بالدنيا وبنفسه، مغرور بهما. لمثل هذا أحملُ رسالة من الشيخ عبد القادر رحمه الله يقول فيها: "تعلّق برجال الحق. أنتم مجانين غَرْقى في بحر الدنيا. رجال الحق يداوون المرضى، وينجون الغرقى، ويرحمون أهل العذاب. كن عنده إذا عرفته، فإن لم تعرفه فابك على نفسك!"[6].
ابك على نفسك إن كنت خاليا من الإرادة العليّة، بارد الهمة، نزّاعا إلى الأرض، مخلداً إليها، راضيا بالحياة الدنيا. وإلا فابك على الله عز وجل أن يتداركك بمن يحملك ويحمل عنك. من فاته الله فاته كل شيء.
يا بارد يا شاردُ! اسمع مقالة الشيخ الرفاعي: "من فاته الله فاته كل شيء. بالله عليك هذه المعرفة تمر! هيهاتَ هيهاتَ! من خرج عن نفسه وغيره، وصفع أبَّهَة طبعه، تخلّص من الجهل. جُبَّة صوف وتاج وثوب قصير! جبة حزن وتاج صدق وثوب توكل! وقد عرفتم! العارف لا يخلو ظاهره من بوارق الشريعة وباطنه من نيران المحبة. يقف مع الأمر، ولا ينحرف عن الطريق وقلبُه يتقلب على جمر الوَجد"[7].
يا هذا! ما معرفة الله عبارات تلوكها الألسنة وتُسطَّرُ جملا مرصوفةً على القرطاس. ما هي بضاعة يمر بها التاجر في الشارع، سهلة المتناول رخيصة الثمن. الجبة من الصوف، والتاج من عمامة الفقراء، والثوب القصير شعار الزهاد، كانت براهينَ صدق المريدين زمان الخلوة والانزواء والانطواء. ذهب ذلك الزمان وبقي نداء أهله الصادقُ المُرَدِّد لوصية النبوة بالحزن على ما فات، والصدق في طلب الحق، والتوكل على الله عز وجل في اقتحام العقبة. والطريق مُشْرَعَةٌ إلى الله عز وجل إلى يوم القيامة في وجه من طلب، وجدَّ، وصبر، ووجد الدليل والرفيق، ووجد من يغسله وينقيه ويغذوه ويكسوه ويُجَمِّله حتى يصلح لتلك الحضرة.
الشيخ بمثابة الماشطة، وهي العجوز الخبيرة التي يوكل إليها تزيين العروس ليوم جلوتها. قال الشيخ عبد القادر رحمه الله: "يا غلام! العمل بالقرآن يوقِفك على منزِّلِه، والعمل بالسنّة يوقفك على الرسول نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم. لا تَبْرَحْ بقلبك وهمتك من حول قلوب القوم. الشيخ هو المستفتِح باب القرب لها. هو الماشطة. هو السفير بين القلوب والأسرار وبين ربها عز وجل(...). لو ملكت الدنيا كلّها ولم يكن قلبك كقلوبهم كنت لا تملك ذرة.(...) ويحك! اعرف قدْرك! إيش أنت بالإضافة إليهم؟ أنت كل همك الأكل والشرب واللبس والنكاح وجمع الدنيا والحرص عليها. عَمَّالٌ في أمور الدنيا، بطّالٌ في أمور الآخرة. تعبِّئ لحمك، وتهدفه للدود وحشرات الأرض"[8].
وقال: "إنك عبد مَنْ زِمامُكَ بيده. إن كان زمامك بيد الدنيا فأنت عبد لها. وإن كان زمامك بيد الأخرى فأنت عبد لها. وإن كان زمامك بيد الحق عز وجل فأنت عبد له. وإن كان زمامك بيد نفسك فأنت عبد لها(...). منكم من يريد الدنيا، والقليل منكم من يريد وجه رب الدنيا والآخرة)

نسأل الله ان يرحمنا آمين
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #5
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، وبعد
2.في الولي العارف:
لايسع القلب أمران ، فإما أن تكون في رياض أهل الله ذاكرا منيبا منقطعا عن الدنيا و أهلها ، و إما أن تكون في الساحة تفكر بمنطقها و شروطها ، هذا ما رسخه أهل الله ممن أهتموا بالشأن الخاص ، و استقالوا من تدبير مع المؤمنين القائمين بالحق شئون الناس.
وتكون المهمة شاقة بل مستحيلة إن جاء أحد ممن تشرب من منبع أهل الله ثم جدد في فهمه معنى الكمال في الإتباع ، مستشرفا أفقا عظيما ، ليكون على قدم النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، في أمر الدعوة و الدولة ، والشأن الخاص المفضي لنصرة الله في الشأن العام.
و تصطدم الإرادات ، إن كاهذا المجدد يضع نصب عينيه مسألة التنظيم و الزحف الأرضي لنصرة الله تعالى.
لا يتقبل أهل الطرق و الزوايا و الشيوخ هذا الأمر ، فالأمر العام لامعنى له ، و قد أراد المنقطع أن يفوز بلقاء ربه في جنة الدنيا رياض الذكر ، ثم جنة الآخرة وهو النظر إلى وجهه الكريم.
وتنعدم جسور الحوار و تتعقد ، و تلغلى لمجرد ما يضع الأول و الثاني أدلته الشرعية في فهم مسألته ، الأول يرى الدين دعوة و دولة و مشاركة في الساحة و تربية للشعب و تنظيم للجهود ، و استعداد لمستقبل الإسلام الأغر.
والثاني لا يرى إلا الذكر و الحضرة و الأذواق والمعارف و الأسرار ، لا وقت له للنصيحة العامة ومخالطة الخلق و الصبر على أذاهم.
نسأل الله العافية.
يقول ابن عربي قدس الله سره في وصف الولي العارف : ( وأن العارف أخرس منقطع متقطع منقمع عاجز عن الثناء على معروفه ، وأنه خائف متبرم بالبقاء في هذا الهيكل و إن كان منورا لما عرفه الشارع أن في الموت لقاء الله فتنغصت عليه الحياة الدنيا شوقا إلى ذالك اللقاء ، فهو صافي العيش كدر طيب الحياة في نفس الأمر لا في نفسه ، قد ذهب عنه كل مخلوق وهابه كل ناظر إذا رأى ذكر الله وأنه ذو أنس بالله ، وأن يكون مع الله بلا فصل و لاوصل ، حيي في قلبه ، تعظيم قلبه مرآة للحق ، حليم محتمل فارغ من الدنيا و الآخرة ذو دهش و حيرة ، يأخذ أعماله عن الله و يرجع فيها إلى الله ، بطنه جائع و بدنه عار ، لا ياسف على شيء إذ لا يرى غير الله طيار ، تبكي عينه و يضحك قلبه ، فهو كالأرض يطأها البر و الفاجر ، وكالسحاب يظل كل شيء و كالمطر يسقي ما يحب ومن لا يحب ، لا تمييز عنده ، و لايقضي وطره من شيء ، بكاؤه على نفسه و ثناؤه على ربه ، يضيع ماله ويقف مع ما للحق لا يشتغل عنه طرفة عين ، عرف ربه بربه مهدي في أحواله ، لا يلحظه الأغيار ، و لايتكلم بغير كلام الله ، مستوحش من الخلق ذو فقر وذلة و يورث غنى و عزة ، معرفته طلوع حق على الأسرار ومواصلة الأنوار ، حاله فوق ما يقول أستوت عنده الحالات في الفتح فيفتح له على فراشه كما يفتح له في صلاته و أن أختلفت الواردات بحسب المواطن ، دائم الذكر ذو لوامع يسقط التمييز لا يكدره شيء ، و يصفو به كل شيء تضيء له أنواع العلم فيبصر بها عجائب الغيب ، مستهلك في بحار التحقيق ، صاحب أمواج تغط فترفع و تحط صاحب وقت و استيفاء حقوق المو اسيم الإلهية على التمام ، نعته في تحوله من صفة إلى صفة دائم لا يتعمل و لايجتلب أحيد الوقت يسع الشياء و لاتسعه ، يرجو و لا يرجى ، رحيم مؤنس مشاهد جلال الحق و جمال الحضرة أمعة مع كل وارد ، يصادف الأمور من غير قصد له وجود في عين فقد ، ذو قهر في لطف و لطف في قهر ، حق بلا خلق مشاهد قيام الله على كل شيء ، فأن عنه به باق معه به غائب عن التكوين حاضر مع المكون ، صاح بغيره سكران بحبه جامع للتجلي ، لايفوته ما مضى بماهو فيه ، ثابث المواصلة محكم للعبادة في العادة مع إزالة العلل ، طائع بذاته قابل أمر ربه منزه عن الشبيه ، تجري عليه أحكام الشرع في عين الحقيقة ذوروح و ريحان، قلبه طريق مطرقة لكل صاحب دليل كشف و شهود يكرم الوارد و يتأدب مع الشاهد ، بريء من العلل صاحب إلقاء و تلق ، مضنون به مستور بولهه ، محبوس في الموقف ذاهب تحت القهر ، رجوعه سلوك و حجابه شهود ، سره لا يعلم به زره ، كلما ظهر له وجه علم أنه بطن عنه ، وجه منفرد بلا أنفراد ، متواتر الأحوال بحكم الأسماء ، أمين بالفهم قابل للزيادة موحد بالكثرة صاحب حديث قديم ، يعلم ما وراء الحجب من غير رفع حجاب ، ذو نور طامس ، شعاعاته محرقة ، وفجآت وارداته مقلقة يرد عليه ما لا يعرف ، متمكن في تلوينه لكون خالقه كل يوم في شأن ، مجرد بكله عن السوى ، واقف بالحق في موطنه ، مريد لكل ما يراد منه ذو عناية ألهية تجذبه ، سالك في سلوك مقيم في سفره صاحب نظرة و نظر يجد ما لا تسعه العبارة من دقائق الفهم عن الله من غير سبب ، مهذب الأخلاق غير قائل بالإتحاد ، ذاهب في كل مذهب بغير ذهاب ، مقدس الروح عن رعونات النفوس ، معلوم المراتب في البساط مؤمن بالناطق في سره مصغ إليه راغب فيما يرد به مشفق مما في باطنه مظهر خلاف ما يخفي لمصلحة و قته ولهه لا يحكم عليه غريب في الأعلى و الأسفل ، ذو همة فعالة مقيدة غير مطلقة ، غيور على الأسرار أن تذاع ، لا يسترقه شيء يطالع بالكوائن على طريق المشورة بإستجلاء في ذالك يجده منعه ذلك من الإنزعاج لأنه لا يقتضيه مقام الكون له جماع الخير يتحكم بالمشيئة لا بالإسم ، قد استوت طرفاه فأزله مثل أبده تدور عليه المقامات و لايدور عليها ، له يدان يقبض بهما و يبسط في عالم الغيب و الشهادة من أمر الحق و لاية و خلافة ، حمال أعباء المملكة يستخرج من غيابات الأمور و ينشء خواطره أشخاصا على صورته محفوظ الأربعة فريد من النظر آله في الملكوت وقائع مشهودة و نعوت العارف أكثر من أن تحصى) كتاب الفتوحات ص 312.
فبحسب ابن عربي رضي فهذه بعض إشارات الطائفة في حقيقة الولي العارف و معرفته.
و يطرح السؤال هنا : لم غاب ذكر الشأن العام هنا صراحة ، أغفل عنه الولي المربي ، أم غفل عنه أهل الله عموما. ؟
ذهب أحد الدارسين لثراث التصوف ، أن غياب ذكر الشأن العام في كتب أهل الله راجع إلى أستغراقهم في أرساء اسس الطريق الله ، بل لسمة أراد الله لهم ، أن يحفظ هذا الخير النبوي في قلوبهم و في سلوكهم إلى أن يجتمع في شخص مجدد يجمع ما في العلوم الإسلامية من التخصص ، ويؤسس النموذج الكامل في أتباع النبوة.
يقول علي ميشيل سودكيفتش ، عن ابن عربي رضي الله عنه: "(إن من شأن تعقيد مذهبٍ يحيط في تأليف مذهل بميادين العلوم النقلية كافة، من الاجتهاد الفقهي وصولاً إلى الإلهيات، والصياغات الملتبسة والملغَّزة التي كثيرًا ما يُلبِسها إياها الشيخُ الأكبر، ناهيكم أخيرًا عن ضخامة مؤلَّفات تشتمل على عشرات آلاف الصفحات، أن يثبط همة الساعي إلى نشر التعاليم الأكبرية. لكن ليت صيت هذه المصنفات الهائلة يقتصر على رميها بالغموض! فهي كذلك، في الإسلام، مرارًا ما تُرمى بالزندقة، وذلك منذ أكثر من سبعة قرون؛ وهذه السِّجالات تتواصل في يوم الناس هذا بنفس الحدة التي كانت عليها أيام ابن تيمية. وحتى عند مشايخ الصوفية، فإن التنبيهات تتواتر. والمريدون في ابتداء أمرهم غالبًا ما يحذَّرون من قراءة الفصوص والفتوحات، وذلك لأسباب نستشف طبيعتها من ملاحظات ابن حجر. يبدو، إذن، وكأن الشروط كلَّها اجتمعت لحَصْر معرفة أفكار ابن عربي في أوساط ضيقة من المتعلِّمين الذين لا تُرهِبهم لا صعوبة التصانيف ولا إدانات الفقهاء؛ لكن الأمر ليس على هذا النحو.
لاحظ العديد من الباحثين اتساع المدى الجغرافي – من المغرب إلى الشرق الأقصى – لتأثير ابن عربي. لكن الأهم من ذلك هو قياس عمق هذا التأثير وفهمه: إن سمة التعليم الأكبري لم تنطبع في الصوفية "العقلية" وحسب؛ إذ يمكن تحسُّسها أيضًا وسط نطاق من الطُّرُق التي تتداخل فيها جميع الطبقات الاجتماعية ومختلف المستويات الثقافية. فـ"العارفون" الذين يخصُّهم ابن حجر بقراءة ابن عربي ليسوا دومًا بين أصحاب العلم المعترَف بهم؛ وعلى العكس، فإن "الجهَّال" ممَّن يرون في قراءة الفصوص والفتوحات "سُمًّا زعافًا" مرارًا ما يتجنَّدون في عِداد رجال الدين.) ، مقال: بحر بلا ساحل ، ابن عربي و الكتاب و الشرع .
ثم يخلص في نفس المقال إلى نتيجة تالية : ( نستخلص مما سبق نتيجة عملية، ألا وهي أنه لكي يستنبط الطالب في النصوص – سواء كانت شهيرة أو مغمورة – تأثيرًا قد يكون إما غير واعٍ وإما مغيَّب تغييبًا إراديًّا وإما حتى منكَرًا بقوة، فإن معرفةً بأفكار ابن عربي لا تكفي؛ إذ ينبغي أن تُضاف إليها ألفة تامة بمفرداته وبخصائص أسلوبه، وببعض العبارات الخاصة به التي يدل تكرارُها في كتاباته على مبلغ أهميتها. إن هذه الألفة بالاصطلاحات وبالأساليب البيانية وبالمباحث المتكررة لتصانيف الشيخ الأكبر هي، إلى ذلك، أمور لا غنى عنها للتمييز، في مؤلَّفات كاتب ما، بين ما يخص التراث المشترك للتصوف وما يشكل خصوصيةإبداع ابن عربي: فأصالته القوية يجب ألا تُنسينا بأنه، في الواقع، وريثٌ وناقلٌ لموروث سابق غني أيضًا؛ إذ يمكن، بالتالي، تعليل ما نجد من تشابهات مع فكره بالعودة المباشرة إلى الينابيع التي استقى منها. لكن ورود بعض المصطلحات – "النَّفَس الرحماني"، "الفيض الأقدس"، "الفيض المقدس"، "ختم الأولياء"، "تجديد الخلق"، إلخ – في كتابٍ ما هو عادة مؤشر لا يخدع: حتى إنْ ظهر بعض هذه العبارات أحيانًا ظهورًا طارئًا في نصوص سابقة لابن عربي، فإن مؤلَّفاته هي التي منحتْها استعمالاً دقيقًا وضَمِنَتْ لها البقاء في لغة الصوفية. وأحيل هنا بهذا الصدد، على سبيل المثال، إلى ما سبق لي أن عرضت له في غير مكان بخصوص عقيدة الولاية، وبخاصة مفهوم " ختم الوَلاية" – الذي ظهر، كما هو معلوم، عند الحكيم الترمذي في القرن الثالث للهجرة، إنما الذي تبسَّط ابن عربي في شرحه في مذهبه بما جعله بعدئذٍ واحدًا من العناصر الأساسية لكتب طبقات الأولياء اللاحقة). من نفس المصدر.
نسأل الله الرحمة و الهداية آمين
2.بحر الولاية الوارثة:
تقف أقدامُنا على شواطئ بِحار الولاية؛ يطول بها مقامُ التردُّد بين المجاهدة والمسالمة؛ ولا يلبث أن يحبسها عن الذهاب خوفُ الفناء والذهاب، وما تسمع عن الغرق في لُجَج التوحيد؛ فتسترخي متعبة على رمال السلامة، ونرضى من العلم بما يلوح عن بُعد. تتلامح في الأفق البعيد أطيافٌ؛ نحدِّق بجهدِ مشتاقٍ، علَّنا نجد وجهًا يعرفنا، وجهًا يُطمئننا على مصير السالكين، وعسانا نعبر – بفضل الله – مسافات الأهوال والقواطع، على طريق النداء المستقيم الواصل من عينيه إلينا.
هذه الوجوه التي تتلامح في آفاق الأزمنة والأمكنة، والتي تُساكِننا، وعيونُها غيابٌ وحضور، وطَرْفُها أحنتْه أثقالُ شهودٍ تخطَّى الوجود، وعلى أبدانها تنطق خِلَعُ الولاية – نراها بالعرفان متنعِّمة ونحن جميعًا بها حيارى. من هو "الولي"؟ ما وظيفته في الكون؟ ولماذا بعد أن خَتَمَ الله – عزَّ وجلَّ – النبوة أوْجَدَ الأولياء؟ ألا يكفي وجود النبي صلى الله عليه وسلم في حياة الإنسان المسلم؟ فما ضرورة وجود الولي؟ كلُّ هذه الأسئلة يطرحها وجود الولي في مجتمعنا وجمعنا المسلم، ونحن فيها حيارى. نمد أيدينا إلى المكتبة الإسلامية عامة، والصوفية خاصة، ونأمل أن نحظى بجواب يُطَمْئِنُ العقل الحائر والوجدان السائل – ولكن عبثًا! وأسباب ذلك كثيرة. ويمكن تلخيص واقع الولاية بعوالم ثلاثة، نتوقف عندها فيما سيأتي.
إن الولي الذي تبدَّلت أرضُه غير الأرض، واستمر يعيش حياته معنا كأنه هو، صَمَتَ منه اللسان، فكَتَمَ سرَّ ولايته عن الآخرين. فالولاية عنده ليست استعراضية؛ والولي، على عكس الساحر، لا يقدِّم للمشاهد فنون الكرامة. ولكن للقُرب الإلهي وللعطاء الرباني علامات، إنْ كتَمَها اللسان فضحها الوجهُ والبدن. فالأولياء سيماهم في وجوههم، تشهد أيديهم وأرجلهم بما يكتمون من القُرب شهاداتٍ يراها الرفيق والصاحب والعشير. باختصار، الولي باطنُه عبودية وعجز تام كامل، ومظهرُه قدرة تشوِّش الناظرين.
وقد نتج عن سكوت الولي وامتناعه عن تأكيد ولايته – التي هي هويته الروحية بين أهل الله – أن امتنعتْ معرفةُ الولاية من داخل، وأنها محض عبودية. ولكن، حيث إن المراقب والصاحب والسالك لم يمنعه سكوتُ الولي عن ولايته من السؤال، تكاثرت الأسئلة عن الولاية ومعناها وعن الولي وهويته؛ ونظرًا لما يكنُّه الناس من احترام للأولياء، فلم يطرح أحد من الناس على أحد من الأولياء سؤالاً مباشرًا. مثلاً لم يقلْ أحدٌ لولي: هل أنت من أولياء الله؟ واستمر الناس على عقيدتهم في الأولياء، "يولُّون" مَن تتلامح على ظاهره علاماتُ القُرب، ويربطون بين الولاية وبين هذه الوجوه من خارج من المظهر. وأخذت تتكون النظريات من نُتَفِ جُمَلٍ التقطها السائل. ولكن الأهم منها هو كتابات الصوفيين، الذين تكرَّسوا أولياء في نظر محيطهم، عن مشاهداتهم وفتوحاتهم.
وهنا أيضًا تصادفنا مشكلة أخرى: فبالإضافة إلى أن الصوفي يحتاج دائمًا إلى ترجمان ينقل نصَّه من لغة الوجدان إلى لغة الناس، فمفهوم "الولاية" نفسه تعرَّض للذبذبة التي تعرَّض لها مفهوم "الصوفي": فكما عرَّف كلُّ صوفي التصوف بحسب علمه وتجربته، كذلك يعرِّف كلُّ معرِّف الوليَّ والولاية بحسب موقعه ومرتبته.
ذلك كلُّه جعل الولاية الصوفية مشروخة بين ثلاثة عوالم: عالم أهل الله – وهو عالم الأولياء الذين يعيشون الولاية ويُشفِقون من أحمالها؛ وعالم الباحثين والمؤلِّفين والكتبة الحافظين الذين يتتبَّعون مظاهر الولاية في النصوص والأشخاص، ليرسموا منها نظرية يتوافق فيها الفقه والتصوف والعقل الإنساني؛ وعالم العامة الذين علَّقوا عيونهم على وجوه الصالحين وتتبَّعوا أقوالهم وأفعالهم، يرصدون ظهور علامات الولاية عليهم.
وتظل الولاية سرًّا بين الوليِّ وبين مَن ولاَّه – سبحانه: يحتفظ الأولياء بسرِّ الولاية، يعيشون عبوديتهم الخالصة، يضنُّون بهذه المعرفة على غير أهلها؛ ويحتفظ الباحثون بمظاهرها، يلملمون النصوص التي تُثبِت شرعية الخوارق والكرامات والعلوم اللدُنِّية الإلهامية وعقليَّتها، ويتحول الكتَّاب إلى محاولة إقناع بالولاية وبوجود أولياء لله مقرَّبين من دون الكون؛ ويحتفظ العامة بكلِّ الخرافات والأوهام والحقائق التي تزيِّنها لهم عقولُهم عن عالم غيبيٍّ مغيَّب، عالم رجال خوارق تقطع مسافات، تمشي في الهواء وعلى الماء، تنفعل لها الأشياء وتطيعها الحيوانات." اسئلة تطرحها الباحثة سعاد الحكيم في أحدى مقالاتها عن ابن عربي رضي الله.




عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #6
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، وبعد
يمنع أهل الله أحيانا في مذكراتهم التربوية الحديث عن شئون الحكم.و يظلون في معزل عن النصيحة العامة المأمور بها ، اللهم إن كان أمرا من الحاكم و طلبا منه كما تذكره بعض الروايات التاريخية ، في عبرة الحاكم التلقائية بسماع الموعظة الحسنة من فم ولي ناصح مرب.وقد كثر في أدبيات الدعاة إلى الله ، نوع من التذكير بمثل هذه المواقف.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين ، في فقرة رجال صدقوا في كتابه رجال القومة و الإصلاح رجال صدقوا
في كل عصور الإسلام وَفَى لله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ولم تنقطع سلسلة الإرشاد والتربية ومقاومة السلطان الجائر، وإن تعددت المدارس، واختلفت الأساليب. من الإمام الحسين إلى الإمام الخميني عرفت الشيعة أئمة وعلماء حافظوا على جذوة الإيمان ورفض الظلم حية في ضمير الأمة. ومن الحسن البصري إلى حسن البنا عرف أهل السنة مربين ومقاومين مجاهدين جددوا الإيمان وحاربوا الطغيان.
منهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام. كان شَجىً في حلق الحكام، غضب على سلطان دمشق المُسَمَّى الصالحَ بن إسماعيل حين استنجد بالإفرنج على المَلِكِ نجم الدين أيوب سلطانِ مصر، فأسقط اسمه من الخطبة وخرج مهاجرا. فتبعته الحاشية وقالوا : "ما بينك وبين أن تعود إلى ما كنت عليه من الحظوة إلا أن تعود، فتنخشع للملك، وتُقَبِّلَ يده". فقال : "يا مساكين ! أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي !".
ذهب العز إلى مصر فاحتفى به نجـمُ الدين، وكان شديد البأس لا يجسُرُ أحد أن يخاطبَه ابتداء. ففي محفَله ناداه عز الدين : يا أيوب ! ونهاه عن منكر. فسألوه بعد ذلك عن جُـرأته فقال : "يا بُنَيَّ، استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقِط،(...) فلا عظمة ولا سلطان، ولا بقاء ولا دنيا. بل هو (أي الملك) لا شيء في صورة شيء".
وطغى الأمراء المماليك واشتدت وَطْأتَهم على الأمة فأفتى الشيخُ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء، ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصح لهم شيء من هذا حتى يُباعوا ويرد ثمنُهم إلى بيت مال المسلمين. فغضب عليه الملك، فخرج مهاجرا وتبعه الناس لم يتخلف عنه رجل ولا امرأة ولا صبي ولا عالم ولا محترف. ففزع الملك وخرج يسترضيه[1].
ومنهم عبد الله بن ياسين. عالِمٌ مرب عاش في المغرب أواسِطَ القرن الخامس. وكان عصرا انتشرت فيه ردة قوم يُسَمَّوْن البُرْغْوَاطِيِّينَ. فانحاز بجماعة من الشباب في جزيرة يربيهم حتى اكتملت له العُدَّةُ. فزحف على الكفر، ولم شَعَثَ الأمة، وحمل السيف والدعوة حتى أسس دولة ترأسها من بعده الملكُ الصالح يوسفُ بن تاشفين. تُسَمَّى هذه الدولةُ دولة المُرابطين باسم رباط التربية والجهاد الذي خرج منه تلامذة عبد الله بن ياسين.
وكان يوسف بن تاشفين قائدَ جند الله في معركة الزلاّقة الشهيرة التي انتصر فيها المسلمون على جحافل الإسبان في الأندلس. فمَدّوا بذلك عُمْرَ الإسلام بتلك البلاد أربعة قرون. يوسف بن تاشفين الملك الصالح الذي لم يُغْوه السلطانُ فبقي على بَسَاطَةِ البدوي الصحراوي تُحْلَبُ له ناقةٌ منها طعامُهُ، ويدُه مبسوطةٌ على جزْءٍ مهم من شمال إفريقيا والأندلس. يُرْوَى أن الإمام الغزاليَّ هاجر إليه لما سمع من عدله، فلم تتم الهجرة لموت الملك الصالح.
ومنهم نورُ الدين بن زنكي الملكُ الصالحُ التقيُّ، نعُدُّهُ من البناة. وهو الذي هيأ لصلاح الدين الأيوبي قواعدَ الوحدة وأسَّسَ القوة التي اعتمد عليها لتجنيد الأمة في جهادها ضد الصليبية. كانا أميرين من حَمَلَةِ السيف، لكن جهادهما وصفاءهما وسَطَ الكَدَرِ، وإنجازهما التاريخيَّ، ترفعهما في ذاكرة الأمة وعند الله إن شاء الله إلى المراتب العليا. ولا نزكي على الله أحدا. رحمهم الله.
ومنهم في القرن الحادي عشر في المغرب الشيخ الحسنُ اليوسيُّ. قاوم الظلم ونشر العلم، وعاش مشردا طول حياته. ورسائله لإسماعيل مَلِكِ المغرب تشهد أنه ممن وَفَوْا لله حقّ النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.
ومنهم الشيخ الإمام أحمد بن عرفان الشهيدُ في الهند. ربى الرجال، وجند المومنين لقتال الكافرين منذ قرن ونصف.
ومنهم بعدَه المهديُّ السودانيُّ من أهل الطريق أهل المصحف والسيف. حارب الإنجليز في وقت كان فيه العالم الإسلامي منبهرا أمام قوة الاستعمار الهاجم. كان سلاحه أمام بنادق العدو ومدافعه رماح بسيطة وإيمان غلاب.
ومنهم قبله في الجزائر الإمام عبد القادر شيخ الطريق وأمير الجهاد وأستاذ المنبر. قاوم الاحتلال الفرنسي ست عشرة سنة. فكان مفخرة من مفاخر الإسلام.
ومنهم المشايخ السنوسية في ليبيا. أسسوا المدارس ونشروا الإسلام في إفريقيا. ولا يزال اسم الإمام أحمد السنوسي واسم عمر المختار وهو ثمرة تربية الجماعة السنوسية يجلجلان في أسماع التاريخ لجهادهما الاحتلال الإيطالي الوحشي الهمجي.
ومنهم محمد بن عبد الكريم الخطابي بالمغرب. عالم مجاهد، جمعَ القبائل، وواجه جيوش إسبانيا وفرنسا مجتمعين. فنصره الله نصرا مؤزرا. وكان ماوتسي تونغ الزعيم الصيني معجبا به. ولا يزال اليساريون والثوريون من كل جنس ومِلة يتحدثون عن جهاده ويعُدُّونه مخترع حرب العصابات الحديثة.
ومنهم عِز الدين القسامُ أب المقاومة ضد اليهود في فلسطين. عالِمٌ مِنَّا جاهد باسم الإسلام لا باسم القومية.
ومنهم علماء مسلمون شاركوا في حروب التحرير من الاستعمار، لكنهم رأوا جهادهم تمتصه الحزبية والوطنية لما تحالفوا مع غير جنسهم من هذه الأجيال التي قاومت الاستعمار استنادا إلى الدم والأرض والتاريخ لا إلى الدين. )رجال القومة و الإصلاح.
1.الحسن البصري
التابعي الجليل. تربى في حجر أُم سَلَمة أمِّ المومنين، فكانت تُلهيه وهو رضيع بثديها. فلمسته نفحة نبوية. ورباه الصحابة الكرام حتى غدا بحراً دافقا من العلم، ومثالا للتقوى والتواضع، وأسدا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم. كانت برزت في بعض العلماء على عهده لَوْثَةٌ هي اليومَ فينا مُستَفْحِلَةٌ، وهي التشاغُل بتوافه المسائل عن مصير الأمة. فحارب الحسن علماءَ الخمول وعلماءَ الخلاف والتفاهات قبل حربه الظلمة. سأله وكيعٌ بن أبي الأسود : "يا أبا سعيد ! ما تقول في دَمِ البراغيث يصيبُ الثوب، أيُصَلَّى فيه ؟" فيُجيبه : "يا عجبا ممن يَلِغُ في دماء المسلمين كأنه كلب، ثم يسأل عن دم البراغيث !"[1]. حمَّلَ الإمام الحَسنُ وِزرَ الدماءِ الزكية التي سفحها غِلْمةُ قريش المفسدون العلماءَ الساكتين عن مقتل الحسين، ثم يسأل بعضهم عن دم البرغوث !
استدعاه عمر بن هبيرة، عامل يزيد بن عبد الملك على العراق، واستدعى معه الشعبيّ. فقال عمر : "إنَّ يزيد بن عبد الملك عبد أخَذ الله ميثاقَه، وانتجبه لخلافته. وقد أخذ بِنواصينا، وأعطيناه عهودَنا ومواثيقنا وصفْقَةَ أيدينا. فوجب علينا السمع والطاعة. وإنه بعثني إلى عراقكم غير سائل إيَّاه. إلا أنه لا يزال يبعث إلينا في القوم نقتُلهم، وفي الضِّياعِ نقْبِضُها، أو في الدُّور نهدمُها. فَنُوَلِّيه من ذلك ما ولاه الله ! فما تريان ؟".
وَالٍ يتنازعه عامل الوفاء لبيعةٍ هي رِبقة مفروضة لا تصح شرعا وعامل الغضب على ما يستعمله فيه يزيد من سفك الدماء وهتك الحُرَمِ. فيريد أن يتنصل من المأزق بدفع المسؤولية عنه وتحميلها مَن ولاّه.
أجابه الإمام الحسنُ قال : "يا عمر ! إني أنهاك عن الله أن تتعرض له. فإن الله مانعُك من يزيد، ولا يمنعك يزيدٌ من الله(...). إن هذا السلطان إنما جُعل ناصراً لدين الله، فلا تركَبوا دينَ الله وعباد الله بسلطان الله تذلونهم به. فإنه لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق جل وعز".
قاطع غِلْمَةَ قريش، ولذعهم بلسانه، وأفشى في العامة كراهيتهم. فلما ولِيَ الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز صحبه. فمن مواعظه له قال : "يا أمير المومنين، كن للمِثْلِ من المسلمين أخا، وللكبير ابنا،وللصغير أباً.وعاقب كل واحـد منهم بذنبه على قدر جُرْمِهِ، ولا تضربَنَّ لِغضبك سوطا واحدا فتدخلَ النار"[2].
ومِثلُ الحَسَنِ من ينصح الصالحين أمثالَ ابن عبد العزيز. قال عنه الغزالي : "ولقد كانَ الحسن البصـريُّ رحمه الله أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربَهم هَديا من الصحابة رضي الله عنهم. اتفقت الكلمة في حقه على ذلك"[3].
2.الفضيل بن عياض
ذكر ابن الجوزي أنَّ هارون الرشيد طاف في حجهِ على العلماء والصالحين يلتمس منهم أنْ يعظوه. حتى انتهى هو والفضل بن الربيع وزيرُه فقرعا الباب على الفضيل رحمه الله. فإذا هو قائم يصلي بآية يرددها. ثم أجاب الوزيرَ سائلا : "من هذا ؟" قال ابن الربيع : "فقلت : أجبْ أمير المومنين ! فقال : ما لي ولأمير المومنين ؟ فقلت : سبحـان الله ! أما عليك طاعة ؟ (...). فنـزل ففتح الباب، ثم ارتقى الغرفة فأطفأ المصباح. ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت.
"فدخلنا. فجعلنا نجول عليه بأيدينا. فسبقت كفُّ هارون قبلي إليه. فقال : يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل ! (...) فقال : "إن عمر بن عبد العزيز لما ولِي الخلافةَ دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القُرَظِيَّ، ورجاءَ بن حَيْوَة، فقال لهم : إني قد ابتُليتُ بهذا البلاء فأشيروا علي. فعد الخلافة بلاء وعددتها أنتَ وأصحابك نعمة. فقال له سالم بن عبد الله : إن أردتَ النجاة غدا من عذاب الله فليكن كبيرُ المسلمين عندك أبا، وأوسطُهم عندك أخا، وأصغرُهم عندك ولدا.
"وقال له رجاء بن حيوة : إن أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت !
"وإني أقول لك : إني أخاف عليك أشد الخوف يوما تزل فيه الأقدام ! فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا ؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غُشِيَ عليه. فقلت له : ارفق بأمير المومنين ؟ فقال : يا ابن الربيع ! تقتله أنت وأصحابُك وأرفُـقُ به أنا !"[1].
من علمائنا وصالحينا من انقبضوا عن السلطان انقباض الفضيل إذْ أطفأ مصباحه وترك الزائرين عند الباب يُشعِرُهما بهوانهما عليه. ومن الملوك من خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فيبكي إذا وُعظ، ثم ينصرف إلى الدنيا وبسطتها. يُفسدُ النظامُ الرجالَ، فأنى يُفلتُ من رِبقته إلاَّ أمثال عمر بن عبد العزيز ! وتبقى الأمة بعد مرور زيد وعمر من الناس في الربقة، ما منها من خلاص.
3.الإمام أحمد بن حنبل
لم يدرك إمامُ أهل الحديث رحمه الله قومة النفس الزكية وقومة يحيى، فلم يشارك في الخروج على الطغاة مثلما شارك أبو حنيفة ومالك والشافعي. لكن قولته المشهورة في الخروج ومشروعيته تحمل روح القومة لو وجد إليها سبيلا.
نذكر بهذه القولة البليغة التي رواها عنه القاضي أبو يعلى الحنبلي : "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّيَ أميرَ المومنين، فلا يحل لأحد يومن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، بَرّاً كان أو فاجرا"[1].
ولا شك أن شدة كراهته لمنكر المامون والمعتصم دفعه أن يأمل الخير في قائم "عليهم" بالسيف "بَرا كان أو فاجرا". وكأنه رحمه الله لشدة فجور المتسلطين يرى في مجرد الاستبدال خيرا. هذا تفسير آخر لهذه الكلمة، يخالف تفسير بعض الفقهاء الذين يستندون إلى مثل هذا النص ليُفتوا بجواز "ولاية الاستيلاء".
كانت له رحمه الله مكانة عظيمة في نفوس الأمة، أشْرَبَ الله قلوبَ الناس حُبَّه ومهابَته بعد أن أغدق عليه نِعمة العلم ومِنة التقوى. قال أحدُ معاصريه : "دخلت على إسحق بن إبراهيم (نائب بغداد) وفلان وفلان من السلاطين. فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل. صِرتُ إليه أكلمه في شيء، فوقعَتْ عَلَيَّ الرِّعْدَةُ حين رأيته من هيبته"[2].
لا يحب الملوك والسلاطين من يزاحمهم على الرئاسة، ولا من تُجِلُّهم الأمة وتسمع نداءهم، سيما إن كانوا مثلَ ابن حنبل لا تلين لهم قناة في الحق. لهذا امتحنوه وعذبوه.
أصْدر المامون العباسيُّ أمره، بعد أن اعتنق بدعة القول بخلق القرآن، أن يُجْمَع العلماء والقضاة ويُمتحنوا في القول بمذهبه. فعزَل من خالفه، وأسقط شهادتَهم. ثم شدد الامتحان فتخلى الكل عن المقاومة إلا أربعة منهم الإمام أحمد. فسيق أحمد بن حنبل إلى بغداد مقيدا، وسُجن في سجن العامة ثلاثين شهرا. واستدعاه المعتصم، بعد وفاة المامون، إلى بَلاطه، وجمع له العلماء المُدَجَّنين لِيُناظروه.
قال ابن دُؤَادَ في ذلك المجلس : "يا أمير المومنين ! لئن أجابك لَهُوَ أحبُّ إليَّ من مائة ألف دينار، فيَعُدَّ من ذلك ما شاء الله أنْ يعد". فقال المعتصم : "والله لئن أجابني لأطلِقَنَّ عنه (يعني القيد) بيدي، ولأرْكَبَنَّ إليه بِجُندي، ولأطأن عَقِبَه (يعني يسير خلفه باحترام وتعظيم) !". وطال الإغراء وطالت المساومة. وما ظنُّك برجل لا يثمن عقيدته بمآت آلاف الدنانير، بمتاع قليل كما يثمن وزراء الجور.
قال الإمام أحمد : "وجلس المعتصم على كرسي ثم قال : العقَّابين والسياط ! فجيء بالعقابين (وهم الجلادون) فمُدَّت يدايَ. فقال بعض مَن حضر خلفي : خُذْ نَأْيَ الخشبتين بيديك، وشد عليهما ! فلم أفْهَمْ ما قال، فتخَلَّعَتْ يدايَ".
إذن فقد كان حتى في البلاط قومٌ يتعاطفون مع الإمام، فيُسِرّون إليه النصيحة ليخِفّ عنه العذاب.
قال الإمام : "ولما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال : ائتوني بغيرها !" خليفةٌ جلاد ! "ثم قال للجلادين تقدموا ! فجعل يتقدم إليَّ الرجلُ منهم فيضربني سوطين، فيقول له : شُدَّ ! قطع الله يدك ! فلما ضُرِبْتُ تسعة عشر سوطا قام إليَّ (أيْ المعتصم) وقال : يا أحمد ! علام تَقتُلُ نفسك ! إني واللهِ عليك لشفيق ! قال : فجعل عُجَيْفٌ (جلاد) يَنْخَسُنِي بقائِمةِ سيفه.
"وقال : أتريد أن تغلب هؤلاء كلَّهم ! (يعني علماءَ القصر الكُثْرَ المتألِّبِين على الإمام). وجعل بعضهم يقول : ويلكَ ! الخليفةُ على رأسك قائم ! وقال بعضهم : يا أمير المومنين ! دمُه في عنقي ! اقتُله ! وجعلوا يقولون : يا أميرَ المومنين ! أنت صائم ! وأنت في الشمس قائم ! فقال لي : ويحك يا أحمد ! ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقولُ به. فرجع وجلس وقال للجلاد : تقدم وارجع، قطع الله يدك ! ثم قام الثانية، فجعل يقول : ويحك يا أحمد ! أجبني ! فجعلوا يُقْبِلُون عليَّ ويقولون : يا أحمد ! إمامُك على رأسك قائم"[3].
وأُغمي على الإمام، فطرحوه على وجهه وداسوه بنعالهم. وكان صائما فما أفطر. قال بعض معاصريه : "أُدْخِلَ الكير فخرج ذهبا أحمر". ما وهَنَ في سبيل الله. رحمه الله ورضي عنه.
هكذا نرى كيف كان بِساط الملك مَرْتعا لعلماء القصور عَبَدَةِ الطاغوت وأعوانِه، وكيف كان بساط الملوك نُطْعاً جُلدت عليه الأبشار، وسُفكت فيه دماء الأحرار. وإنها لمأساة في تاريخنا أن يَجِدَ الظلَمَةُ والطغاة من المنتسبين إلى العلم خداما خانِعين. والمأساة في عصرنا أشدُّ ما كانت عليه. رحم الله سيد قطب والإمام البنا والإمام باقر الصدر وسائر العلماء العاملين. حشرنا الله في زمرتهم.

4.شيخ الإسلام يُدافع عن الطريق
اشتهر بين أنصـار السنة من أهل الحديث شيخ الإسـلام ابن تيمية. عاش رحمه الله أواخر القرن السـابع وأوائل الثـامن (661-728) عصرا مضطربا. قال الشوكاني : "وقد وقع له من أهل عصره قلاقلُ وزلازلُ ، وامتُحن مرة بعد أخرى وحُبس حَبْسا بعد حبس". كان مثالا للزهد وعلو الهمة. قال تلميذه البزار : "ما رأيناه يذكر شيئا من ملاذِّ الدنيا ونعيمها. ولا كان يخوض في شيء من حديثها، ولا يسأل عن شيء من معيشتها. بل جُلُّ هِمته وحديثِه في طلب الآخرة وما يُقرِّب إلى الله تعالى".
حارب رحمه الله الطوائف الضالة ومن جملتهم فسادا وإفسادا القائلون بالحلول والوحدة المطلقة وما إلى ذلك من الكفريات نعوذ بالله. لا تهمنا تلك المعارك ولا نقلد في ديننا رجلا كائنا من كان دون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإن أوردنا من كلام شيخ الإسلام ما يثبت احترامه وتعظيمه وتسليمه للعارفين بالله، فإنما نفعل لعل بعض المقلدة من كسالى الفكر،ومتحجري العقل، ممن يلف في جراب بؤسه المعنوي أقوالَ العلماء، ليحارب بها الأمة، يرجع ليبحث عن الحق كما بحث الرجال.
كانت أيام شيخ الإسلام جهادا متواصلا، قال كلمة الحق عند سلاطين الجور، وإن لم يُفْت بجواز الخروج عليهم. وحارب التتار، وحث الناس على جهادهم، وأصْلَتَ سيفه على المارقين والضالين، فأصابت ضرباتُه بعض أهل الله. هي معركة يغفر الله فيها إن شاء الله.
سأله الحافظ عُمَرُ البزار تلميذُه عن سبب اقتصاره في التأليف على مُحاربة الفِرَقِ الضالة فأجابه قائلا : "الفروعُ أمرها قريبٌ. فإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء المجتهدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه. وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية، والكلابية، والسلمية، وغيرهم من أهل البدع، قد تجاذبوا فيها أزمة الضلال. وبان لي أن كثيرا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية"[1].
جيش عرمرم من الطوائف. ورجل من علماء الأمة يدافع عن "الشريعة المقدسة المحمدية" فهل طريق التربية الصوفية مخالفة للشريعة ؟
كتب شيخ الإسلام لأحد مشايخ الطريق، وهو الشيخ نصر المنبجي، يقول : "إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر، فتح الله على ظاهره وباطنه ما فتح به على قلوب أوليائه(...)، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته(...). أما بعد فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ وأنعم به نعمة باطنة وظـاهرة في الدين والدنيا.وجعـل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا (قلت : يعني الصوفية الذين كان المنبجي أحد كبارهم) منـزلة علية، ومودة إلهية،لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد. فإنَّ العلم والإرادة أصل لطريق الهدى والعبادة"[2].
إلى أن يقول : "والله تعالى يعلم، وكفى به عليما، لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء (يعني الأدعياء في الطريق الصوفي) عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات، وهو شبيه بدفع التتار عن المومنين، لم يكن للمومنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تُكْشَفَ أسرارُ الطريق وتهتك أستَارُها"[3].
يقصد رحمه الله بأسرار الطريق وأستارها هذه الأذواق القلبية والأحوال الشريفة والمقامات العلية التي يكون الحديث عنها فتنة لمن ليس له استعداد أن ينفض يده من كل هم غير هَمِّ الله، ومن كل خطرة غير ذكر الله، ومن كل حركة غير عبادة الله والجهاد في سبيل الله. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
عن هذه الأذواق والإلهامات القلبية يقول شيخ الإسلام : "لا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا (يعني للشريعة)، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق(...). وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثونَ. فإن يكن في أمتي فعمرُ منهم"[4].
فالرجل لا ينكر عجائب القلب، ولا الإلهام، ولا الكرامات، ولا اختصاص الله بعض عباده بالولاية الخاصة، وهي غير ولاية المومنين المتقين العامة.
والرجل يعظم المشايخ ويستشهد بهم، مشايخ الطريق أهل الولاية. يتحدث عن بعض من خاصمهم في الطريق فيقول : "فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين"[5].
هؤلاء الذين ذكرهم هم صفوة الأمة، سمَّوهم صوفية. تبَنَّى الدفاعَ عنهم، وسماهم مشايخ أهل الكتاب والسنة. ولا يمَلُّ يكيلُ لهم الثناء، ويُظْهِرُ تبجيله لهم، خاصة الإمام عبد القادر الجيلي رحمه الله.
قوم من المقلِدة رفعوا عِلْمَ هذا الإمام رايةً ليُكَفروا المسلمين. ليتهم على الأقل فهموه، وليتهم يفهمون !
إن معركة أهل السطوح مع أهل الله قائمةٌ أشَدَّ ما كانت. راجع كتاب الشيخ سعيد حوى "تربيتنا الروحية" وراجع كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله وهو تلميذ ابن تيمية النجيب. وأبُثُّكَ هنا كلمة : إن فاتك البحث عن الطريق إلى الله فابك على نفسك، والسلام ! فاز والله من سلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء الناهجة ! .
5.الشيخ عبد القادر الجيلاني
من هؤلاء الكُمَّل رجلٌ أجمعت الأمة على صلاحه وولايته. كان قمةً في علوم عصره، قمة في التقوى والزهد، قمة في الجهر بالحق، قمة في التربية والحنُوِّ على الأمة. كانت الاستقامة على السنة النبوية مذهبَه، وكان الحثُّ عليها دَيْدَنَهُ.
قال رحمه الله : "اتبع الشرع في كل ما ينـزل بك إن كنت في التقوى التي هي القدم الأول (يعني في الطريق إلى الله). واتبع الأمر (أي أمر الشرع) في حالة الولاية ووجود الهوى (مادام يغلبك هوى نفسك) ولا تتجاوزه وهي القدم الثانية. وارض بالفعل (فعل الله)، ووافق، وَافْنَ، في حالة البَدَلِيَّةِ والعينية والصديقية (وهي مقامات أهل الله) وهي المنتهى. تَنَحَّ عن الطريق القَذِرِ، خلِّ عن سبيله. رُدَّ نفسك وهواكَ".
قال ابن تيمية بعد أن أورد هذا الكلام : "فقد بين الشيخ عبد القادر رضي الله عنه أن لزوم الأمر والنهي لا بد منه في كل مقام.(...) وقد بين أن صاحب الحقيقة (العارف بالله) عليه أن يلزم الأمر دائما؛ الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن. وبيَّن أن الأمر الباطنَ إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم. وأن مثل هذا يُنْتَظَرُ فيه الأمر الخاصُّ حتى يفعله بحكم الأمر"[1].
إذن هنالك أذواق قلبية هي من قبيل الإلهام والتحديث الذي ورد في الحديث الصحيح. وابن تيمية إذ يشرح كلام الشيخ يتحدث حديث الخبير. ويورد كلام الإمام الجيلي ليرد على الطوائف الزائغة الكافرة القائلة بأن السالك يصل إلى مقام يرتفع فيه عنه تكليف الشرع. نعوذ بالله من الخذلان !
هؤلاء المحدَّثون الكمل أمثال الشيخ عبد القادر هم مستودعُ أسرار الله بين خلقه، هم حَمَلَة القرآن حقا، وأهلُ الاصطفاء صدقا. تأثيرُهم في الأمة لا يقارَنُ بتأثير الواعظ الفصيح الذي يهُزُّكَ هزا ثم تنفصل عنه بقلب ما لاَنَ، ولا بتأثير الفقيه يفتيك في النازلة بالدليل والبرهان ويتركك وشأنك.
قال السيد الجليل أبو الحسن الندوي رحمه الله يصف المربيَ النموذجيَّ الشيخ عبد القادر : "وانتهى الأمر إلى القرن السادس، وقد تباعد الزمان عن النبوة وآثارِها وبركاتها. واتسعت الدنيا، وكثرت أسبابُ الغفلة واللهو، وطال على المسلمين الأمَدُ فقست قلوبُهم. هنالك نهض في بغداد، دار السلام وقلبِ عالَم الإسلام، رجلٌ قوي الشخصية، قويُّ الإيمان، قويُّ العلم، قويُّ الدعوة، قويُّ التأثير. فجدد دعوة الإيمان والإسلام الحقيقي، والعبودية الخالصة، وأخلاقِ المومنين المخلصين. وحارب النفاق الذي اجتمع في المجتمع الإسلامي بقوة منقطعة النظير في تاريخ الإصلاح والتجديد. وفتح باب البيعة والتوبة (بيعة التوبة لا بيعة الإمارة) على مصراعيه، يدخل فيه المسلمون من كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، يجددون العهد والميثاق مع الله(...).
قال رحمه الله : "وظل الشيخ يربيهم ويحاسبهم ويشرف عليهم وعلى تقدُّمهم. وأصبح هؤلاء التلاميذ الروحيون يشعرون بالمسؤولية بعد البيعة والتوبة وتجديد الإيمان على يد عبد مخلص وعالم رباني شعورا جديدا. وظل بينهم وبين الشيخ رباطٌ وثيق عميق أقوى من رباط التلاميذ بالأساتذة والشيوخ، ومن رباط الجند بالقائد، ومن رباط الرعية بالراعي(...).
"وقد كان لخلفائه وتلاميذه ولمن سار سيرتهم في الدعوة وتهذيب النفوس، من أعلام الدعوة وأئمة التربية في القرون التي تلته، فضلٌ كبيرٌ في المحافظة على روح الإسلام، وشُعلة الإيمان، وحماسة الدعوة والجهاد، وقوة التمرد على الشهوات والسلطات. ولولاهم لابتلعت المادة التي كانت تسير في ركاب الحكومات والمدنيات هذه الأمة"[2].







عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #7
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

راسات في التصوف، في الشأن العام و الخاص :في الولي و الخليفة

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، وبعد
يقيم الله العبد فيما أراد ، فإذا سلم له فيما أراد أقامه الله فيما يريده العبد من مقامات القربة.و للزمان و المكان و الوقت و الشأن و السابقة أمر عظيم بها يعرف العبد ما له و ماعليه ، و أين ومتى و كيف و حين ولما ؟
"كن" كما يقول ابن عربي رضي الله عنه حضرة الأمكان و الوجوب و التقييد و المجمل و المفصل ، فأن عرف العبد كيف يستمد من هذه الحضرة القوة الربانية كان سعيدا مرحوما ببركة التسليم و الإنقياد.
يقول ابن عربي قدس الله سره : " ثم إن الزمان و المكان من لواحق الأجسام الطبيعية أيضا ، غير أن الزمان أمر متوهم لا وجود له تظهره حركات الأفلاك أو حركات التحيزات إذا اقترن السؤال بمتى ، فالحيز و المكان لا وجود له في العين أيضا ، و إنما الوجود لذوات المتحركات و الساكنات. و أما المكان ما تستقر عليه المتمكنات لا فيه ، فإن كانت فيه فتلك الأحياز لا المكان ، فالمكان أيضا أمر نسبي في عين موجودة يستقر عليها المتمكن أو يقطعه بالانتقالات حالا بعد حال فذلك التتابع و التتالي من غير أن يتخللها فترة ، فإن دخل بعضها على بعض و لم يفصل الداخل بيت المتصلين فذلك الالتحام ، فما دخل في الوجود منه وصف بالتناهي ، وما لم يدخل قيل فيه إنه لا يتناهى إن فرض متتاليا أبدا ، و إن أعطت هذه الأنتقالات استحالة كان الكون و الفساد، فانتقال الشيء من العدم إلى الوجود يكون كونا ، و إزالة ما ظهر عنه من صورة الكون يسمى فسادا ، فإذا انتقل من وجود إلى وجود يسمى متحركا ، وأما ما يلحق هذه الأجسام من الألوان و الأشكال و الخفة و الثقل و اللطف و الكثافة و الكدورة و الصفا و اللين و الصلابة وما أشبه ذلك من لواحقه فإنه يرجع إلى أسباب مختلفة" ، باب في معرفة النفس ، الفصل 36 : في الأسم المميت، ص 449 من كتاب الفتوحات.
و لسعة علم الشيخ الأكبر قدس الله سره ، وضع في هذه الفقرة أصولا عظيمة في السير إلى الله تعالى و معرفة ، ففساد الكون محتمل لفساد سلوك ساكنيه ، ومتى كان السلوك معلولا أعتل و أختل الكون ، لغياب النورانية الفاعلة في حضرة الكون ، ذلك أن أختلاف الألوان راجع إلى إختلاف المشارب و الأذواق ، والشكل لتنوع الأولياء في سائر المراتب و المقامات ، وما الخفة و الثقل و اللطف و الكثافة و الكدورة استعدادات و مواهب ، فمتى كان المريد خفبف الحاذ ، كان سائرا إلى الله بخطى سريعة لا تكدره شئونه الحياتية ؟.
يقول ابن عربي رضي الله عنه في نفس الفصل ص 446 : " وجعل هذه الأرض سبع أقليم ، واصطفى من عباده المؤمنين سبعة سماهم الأبدال لكل بدل إقليم يمسك الله وجود ذلك الإقليم به ، فالإقليم الأول : ينزل الأمر إليه من السماء الأولى من هناك و تنظر إليه روحانية كوكبه ، و البدل الذي يحفظه على قلب الخليل عليه السلام.و الإقليم الثاني : ينزل أليه الأمر من السماء الثانية و تنظر إليه روحانية كوكبها و البدل الذي يحفظه على قلب موسى عليه السلام .و الإقليم الثالث : ينزل إليه الأمر الإلهي من السماء الثالثة وتنظر إليه كوكبها و البدل الذي يحفظه على قلب هارون و يحيى عليه السلام بتأييد محمد عليه الصلاة و السلام .و الإقليم الرابع : ينزل إليه الأمر من قلب الأفلاك كلها و تنظر إليه روحانية كوكبها الأعظم و البدل الذي يحفظه على قدم إدريس عليه السلام و هو القطب الذي لم يمت إلى الآن و الأقطاب فينا نوابه.و الإقليم الخامس : ينزل الأمر إليه من السماء الخامسة و تنظر إليه روحانية كوكبها و البدل الذي يحفظ الله به ذلك الإقليم على قلب يوسف عليه السلام و يؤيده محمد صلى الله عليه وسلم.و الإقليم السادس : ينزل إليه الأمر من السماء السادسة و تنظر إليه روحانية كوكبها و البدل الذي يحفظه على قلب عيسى روح الله و يحيى عليهما السلام.و الأقليم السابع : ينزل إليه الأمر من السماء الدنيا و ينظر إليه روحانية كوكبها و البدل الذي يحفظه على قلب آدم عليه السلام." ص 446، 447، من كتاب الفتوحات المكية.
و لأهمية الزمان و المكان ، وأثرها في العبد ، فقد طرح ابن عربي رضي الله عنه فهوما أسنى و أجمل و أرفع في معنى الإنسان الفرد و التي سندرسها في الفقرة اللاحقة.
أ.في تعريف الإنسان الفرد:
تملأ كتب التصوف الفلسفية كما يحلو للبعض مفهوم الإنسان الكامل ، يتقبله منذاق المعرفة النورانية و يستحسنه بل و يؤمن به ، في حين يظل الكثير من العلماء و الفقهاء يستهجنون هذا المفهوم و يربطونه بمشكلة الإتحاد و الحلول .و في طلب الكمال و البحث عنه ، أفرد بعض أهل الله كتبا و مواعظ و إشارات ، منهم عبد الكريم الجيلي في كتابيه ، الإنسان الكامل ، و الكمالات الإلهية ، ويرى هذا الأخير أن الإنسان في سلوكه يرقى من الكمال و الأكمل ، وأن من يستحق هذا اللقب و المقام مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأولياء الكمل تابعون له ، فهو ورثته صلى الله عليه وسلم.
يشترط في الكمال عند بعض أهل الله مايلي :
- ولاية الرحمة.
- ولاية العلم.
- ولاية الإرادة و العزم.
- ولاية الصدق .
-ولاية صحة الإتباع ثم حسن الإبداع.
- تلقي الإشارة من عين الرحمة النبوية.
-عدم الإشتغال بالوقائع الكونية.
- الكينونة و المعية مع الولي المربي ، ونفي الشرك عنه وبه وعنه.
-الجهاد والبناء.
1.ولاية الرحمة :
ماهي الرحمة في مدلولها الخاص ؟ وما معناها العام؟
تكون رحمة قلبية خاصة إن إكتفى الولي بها وحدها كشأن خاص فردي ، ينعزل عن العالم مستقيلا عن الشأن العام ، لكن بولوجه معمعة التغيير ، تكون و لاية رحمة بمفهومها العام و هي الخذمة ، كهم جماعي ، و مشروع للبناء ، وهو التصدي للتربية و تحمل مشاق التوجيه و المتابعة.
هذه الرحمة تحتاج لحكمة عقلية ، يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتابه مقدمات في المنهاج : " فأقصد بالرحمة العلاقة القلبية للعبد بربه، وأقصد بالحكمة تصرف العقل، عقل المؤمن المرحوم، أثناء فهمه لشريعة الله عز وجل، وأثناء صياغتها صياغة قابلة للتطبيق، وأثناء السهر على تنفيذ أوامرها والامتناع والزجر عن نواهيها.
الرحمة ما جاء من الله تعالى للعبد هداية كبعث الرسل إليه، والرحمة تعلق القلب بتلك الهداية، والاستمساك بعروتها حتى تنور كيانه ويتمكن في محبة الله عز وجل، تلك المحبة التي تؤدي للعمل والجهاد : ﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يات الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المومنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم﴾ [1]
أقصد بالحكمة "معرفة الدين والعمل به" كما فسر الكلمة الإمام مالك رحمه الله. قال ابن قتيبة : "الحكمة عند العرب العلم والعمل". والعلم والعمل آلتهما العقل. فإما عقل مصدر معرفته التجربة البشرية والتخمين الفلسفي وذاك عقل مشترك بين البشر. وإما عقل يتلقى عن القلب رحمة الإيمان وهداية الوحي، ثم ينصرف إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى في الكون، لا غنى له عن التجربة والفحص، فذاك عقل الحكمة.
الرحمة قلبية، والحكمة عقلية راجعة في معرفة الأهداف والغاية إلى الوحي، آخذة بالتجربة التي تمكن الإنسان من ضبط حركة الكون والسيطرة على تفاعلاته ليتسنى له تطبيق الشرع.) كتاب مقدمات في المنهاج.
و لغياب فقه الرحمة في عقول المتصدين للتزكية ، و للأنعدامها في صفوف الحركة الإسلامية المعاصرة ، أنتجت تلك النبرات في الغلو و التطرف.و يعزو الشيخ القرضاوي في هذه المسألة عدم تلقي التربية علما و طريقة من أفواه الرجال و الإكتفاء ببطون الكتب.
ومن هنا كانت الحكمة العقلية في ترتيب العلم و تبويبه ، و الرحمة القلبية في توجيه العقل بنور الله ، كي لا يتنكب بعيدا عن القصد.
سأل الله العافية
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #8
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( في الولي و الخليفة)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، وبعد
يستنير العقل بالحكمة ، و القلب بالرحمة فتترجح كفتا الميزان ، و بحضور كلمة الله الجامعة لمعاني الرحمة و اللطف و البركة و اليمن ، تستقر في الجنان حركات طوعية طاعة ومحبة و خذمة ، ومتى كانت هذه الرحمة في القلب فاض مددها و خيرها على سائر الجسد، فتحاصر حظ الشيطان في الذات ، و تتحرر الروح من قيود الجسد و الحس و المحسوس ، والعقل من الخيال و الوهم ، و تتوطن المعرفة في ذات و عقل الأنسان فإذا هو سميع بصير .
تلك هي حقائق الولي ، و ليس بين الولي الخليفة و الخليفة الملك إلا هذا الفرقان في التوجه و الإستمداد .
2.في ولاية العلم :
للولي فهم خاص لكلمة العلم ، فالعلم علمان :فقه الظاهر أي الشريعة و فقه الباطن أي الحقيقة، وللشريعة و الحقيقة و المعرفة معنى خاص لأهل الله. يتوجه العارف الولي إلى ربه باسمه الجامع ، فتستقر في جنانه ثمراث الذكر .لكن بعض العلماء لا يجدون هذه الاصطلاحات إلا في أوهام المتصوفة ، فالعلم عندهم ما تواتر بالرواية و الدراية ، وما فقهه أهل القرون الثلاثة الأولى ، وكفى.سرعان ما ينكرون هذه الإستنباطات ، لعدم ورودها في النقل ، كمصطلح الحقيقة أو التصوف ، أو الري أو الشرب.
يقول القشيري رحمه الله في رسالته : ( الشريعة أمر بالتزام العبودية ، و الحقيقة مشاهدة الربوبية ، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة غير مقبول ، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فأمرها غير محصول.و الشريعة جاءت بتكليف من الخالق ،والحقيقة لإنباء عن تصريف الحق ، فالشريعة أن تعبده ، و الحقيقة شهود لما قضى و قدر و أخفى و أظهر.سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول : " إياك نعبد" حفظ للشريعة ، و " إياك نستعين" إقرار بالحقيقة.) كتاب الرسالة القشيرية في علم التصوف ص 82، 83.
يرى المخالف أن الإسلام كتاب و سنة وما عداه من النقول من استنباط و اجتهاد في التزكية و التربية مجرد بدع و ضلالات.
بل منهم من ينكرون وجود نقل قرآني أو حديث نبوي يدل على السير إلى الله.
يقول الكاتب إحسان إلهي ظهير : ( .....وأما قضية المصطلحات التي روجوها بين الناس ، و استعملوها فيما بينهم فلا يشك أحد في كونها أجنبية في السلام و في لغة الإسلام العربية ، و مقتبسة مأخوذة من المسيحية بحروفها و ألفاظها ، معانيها و مدلولاتها مثل : " ناموس ، رحموت ، رهبوت ، لاهوت ، جبروت ، رباني ، روحاني ، شعشعاني ، وجدانية ، فردانية ، رهبانية ، عبودية ، ربوبية ، ألوهية ، كيفوية"
....أما فيما يتعلق بها من حيث هي مذاهب تصور منازع أصحابها الفلسفية و اتجاهاتهم الروحية و الفلسفية معا : فأن هناك طائفة من القصص و الأقوال التي تروى عن المسيح مما ورد في الكتب الصوفية أنفسهم ، و يمكن أن يؤخذ على أنه مصدر لبعض المذاهب الصوفية الإسلامية ......." من كتاب التصوف المنشأ و المصادر.ص 102، 104.
بين القشيري رحمه الله تعالى و أحسان إلهي ظهير ، بون شاسع.
فالأول يقر بأن الحقيقة و معارفها أنباء عن تصريف الحق ، وثمرة العبودية و اتباع الشريعةن ومن كانت حقيقته منبعها الهوى و العقل و الهذيان الفلسفي ، فحقيقته لا تعدو أن تكون مجرد تساؤلات فارغة من المعنى ، بعيدة عن أدب الأولياء ، ليس للقرآن و مدده و بركته فيها نصيب إ ن سمها إن شئت خيال شيطاني.
أما إحسان إلهي ظهير ، رحمه الله ، فلا يرى في التصوف إلا ما قرأه عن المستشرقين أمثال بروكلمان ، وكرومر ، و أنا ماري شيميل ، أو ما تكتبه بعض الأقلام المأجورة على السلفية.
ولن نجد أحسن جوابا من ، نص فريد في كتاب اللمع لأبي سراج الطوسي يقول ....باب ذكر الصوفية ، وطبقاتهم و ترسموا به من العلم و العمل ، و ما خصوا به من الفضائل ، وحسن الشمائل:
قال الشيخ أبو نصر رحمه الله : ثم إن طبقات الصوفية أيضا اتفقوا مع الفقهاء و أصحاب الحديث في معتقداتهم و قبلوا علومهم ، و لم يخالفوهم في معانيهم و رسومهم ، إذا كان ذلك مجانبا للهوى و اتباع البدع ، ومنوطا بالأسوة و الإقتداء ، و شاركوهم بالقبول و الموافقة في جميع علومهم.
ومن لم يبلغ من الصوفية مراتب الفقهاء و أصحاب الحديث في الدراية و الفهم ، و لم يحط بما أحاطوا به علما فأنهم راجعون إليهم في الوقت الذي يشكل عليهم حكم من الأحكام الشرعية أو حد من حدود الدين ، فإذا اجتمعوا في جملتهم فيما اجتمعوا عليه ، فإن اختلفوا فاستحباب الصوفية في مذهبهم الأخذ بالأحسن و الأولى و الأتم احتياطا للدين و تعظيما لما أمر الله به عبادة و اجتنابا لما نهاهم الله عنه.
وليس من مذهبهم النزول على الرخص و طلب التأويلات ، والميل إلى الترفه و السعات و ركوب الشبهات ، لأن ذلك تهاون بالدين و تخلف عن الإحتياط و أنما مذهبهم التمسك بالولى و الأتم في أمر الدين ، فهذا الذي عرفنا من مذاهب الصوفية و رسومهم في استعمال العلوم الظاهرة المبذولة المتداولة بين طبقات الفقهاء و أصحاب الحديث.
ثم إنهم من بعد ذلك ارتقوا إلى درجات عالية ، و تعلقوا بأحوال شريفة و منازل رفيعة من أنواع العبادات و حقائق الطاعات و الأخلاق الجميلة ، ولهم في معاني ذلك تخصيص لغيرهم من العلماء و الفقهاء و أصحاب الحديث و شرح ذلك يطول ، غير أنى أبين لك من كل شيء طرفا حتى تستدل بما أذكره على ما لا أذكره إن شاء الله تعالى). كتاب اللمع ص 28.
كيف لا يقبل العقل السليم تقرير ضمني صريح باستقامة أهل الله تعالى مع الفقهاء و أصحاب الحديث؟ ام هناك خلل في الفهم ، و سوء نية مسبقة.
أ. المحدثون و الصوفية :
والمحدث ما شرطه لكي يكافىء الصوفي؟ ماذا ذهب السيوطي يفعل عند الشاذلية يشيد طريقتهم ويشيد بها؟ أليس هو العلم البارز في عصره الجامع لشتات العلوم، المشارك المحدث الذي حقق المشروع الضخم أو كاد، مشروع جمع الحديث وتخريجه؟
مازال بين أهل الحديث على مر العصور حوار ووصال منذ العهد الأول مع من تسموا بالصوفية. وما نقرأ عنه من خصام عنيف عند أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المحدث الناطق عن نفسه وعن طائفة من أهل الحديث الحنابلة، ما كان يستهدف الصوفية الصادقين، بل كان موجها لمن اعتبرهم أهل الحديث المتأخرون أدعياء منحرفين.
في العهود الأولى كان احترام متبادل وتعاون على البر والتقوى. كان من الصوفية من تخرجوا في علم الرواية، وكان من المحدثين من تصوفوا على يد مشايخ متصوفين. لم تكن هناك قطيعة ولا سوء ظن. ومن أئمة الحديث، أولياء الله إن كان لله ولي، من جلس في مجالس القوم ومن آخى مشايخ القوم، مع التسليم والمصافاة.
نقل تاج الدين ابن السبكي في "طبقات الشافعية" عن الحافظ الكبير أبي عبد الله الحاكم قصة الإمام أحمد ابن حنبل مع الشيخ الحارث المحاسبي. قال الحاكم بسنده المتصل إلى إسماعيل بن إسحاق السراج، قال إسماعيل: "قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك (يكثر من الحضور في بيتك) فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأستمع كلامه. فقصدت الحارث وسألته أن يحضر تلك الليلة وأن يحضر أصحابه. فقال: فيهم كثرة، فلا تزدهم على الكسب (الخبز) والتمر، فأتيت أبا عبد الله (ابن حنبل) فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في ورده. وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا. ثم صلوا العتمة (العشاء) ولم يصلوا بعدها. وقعدوا بين يدي الحارث لا ينطقون إلى قريب نصف الليل. ثم ابتدأ رجل منهم فسأل مسألة، فأخذ الحارث في الكلام، وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير. فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق وهو في كلامه. فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله، فوجدته قد بكى حتى غشي عليه. فانصرفت إليهم. ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا وذهبوا. فصعدت إلى أبي عبد الله فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل. ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم. ثم قام فخرج". وفي رواية أخرى أن أحمد قال: "لا أنكر من هذا شيئا". قال ابن السبكي: "قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم لقصوره عن مقامهم. فإنهم في مقام ضيق لا يسلكه كل أحد، فيخاف على سالكه. وإلا فأحمد قد بكى وشكر الحارث هذا الشكر. ولكل رأي واجتهاد، حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم"[1]. وأضيف بضراعة المقصرين الراجين عفوه تعالى: اللهم آمين.
ماذا ذهب شيخ المحدثين يفعل عند البكائين؟ وهل يغشى عليه من وعظهم لو لم يكن أبكى منهم وأخشع؟ له ورده يجتهد فيه كما لهم أوراد. ويزيد عليهم بخدمة العلم.
إن أهل الحديث رضي الله عنهم هم أهل الإحسان بالمعاني المتعددة للكلمة: إحسان في العبادة، وإتقان لصناعتهم الجليلة، وإحسان للخلق كافة بما حفظوا عليهم من هذا الدين. صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة خدمة واتباع ومحبة. خدموه بأبدانهم يرحلون الرحلات الشاقة البعيدة لسماع حديث أو تحقيق كلمة. وخدموه بعقولهم في تصحيح إسناد ونقد رجال وإثبات تاريخ وتقويم متن. وخدموه بقلوبهم غيرة على حديث خير البرية أن يزور أو يحرف. لا جرم يعم فضلهم الأمة ويوصي ابن حنبل صاحب الدار، ولعله كان تلميذا له، أن يترك حلق الذكر الخاصة الخاص نفعها ليتفرغ للعلم الذي يعم نفعه كل طائفة وكل مكان وكل جيل.
ما كل من حمل الحديث بمنزلة الإمام أحمد ولا كل من تسمى صوفيا بمعزل عن اللوم. أمثال أحمد الذين تشربوا حب المصطفى صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإكبار أمره وأفنوا أعمارهم في خدمته قليل. هم أئمة الهدى. يقول الإمام الشافعي متحدثا عن الجناب الشريف: "فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحدا من أمته بصلاته عليه. والسلام عليه ورحمته وبركاته. وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلا عن من أرسل إليه. فإنه أنقذنا من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظا في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها"[2].
كان حب الله ورسوله رابطة جامعة بين كل طوائف السلف الصالح. وكانت نسبة الإيمان واصلة، ونسبة الإحسان سارية يشيم ومضها بعضهم من بعض ويشتم عبيرها بعضهم من بعض. لما امتحن الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن وأعلن المامون ومن بعده المعتصم تحيزهما لجانب الفكر الدخيل خنس كثير من الفقهاء والقراء، وتمالأ على الإمام قضاة القصر وبغاته، وبقي هو رضي الله عنه صامدا كالجبل ينافح عن صفاء العقيدة وحرمة القرآن. في تلك الأثناء كتب إليه الشافعي رسالة تشجيع وتضامن. قال الربيع بن سليمان صاحب الإمام الشافعي: "فدخلت بغداد ومعي الكتاب. فصادفت أحمد بن حنبل في صلاة الصبح. فلما انفتل من المحراب سلمت إليه الكتاب وقلت: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر. فقال لي أحمد: نظرت فيه؟ فقلت: لا، فكسر الختم وقرأ، وتغرغرت عيناه. فقلت له إيش فيه أبا عبد الله؟ فقال: يذكر فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله فاقرأ عليه السلام، وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن فلا تجبهم، فيرفع الله لك علما إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلت له: البشارة يا أبا عبد الله. فخلع أحد قميصيه الذي يلي جلده فأعطانيه. فأخذت الجواب وخرجت إلى مصر. وسلمته إلى الشافعي. فقال: إيش الذي أعطاك؟ فقلت: قميصه. فقال الشافعي: ليس نفجعك به. ولكن بله وارفع إلي الماء لأتبرك به"[3]. من لا تتسع حويصلته أن يسمع عن أئمة الدين كيف كانوا يتكاتبون بالرؤى الصادقة وكيف كانوا يعتزون بصلتهم القلبية بالمخدوم الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا يتبركون بآثار النبي الطاهر وبآثار بعضهم فليبحث عن تاريخ مفلسف منقح مادي "غير غيبي" في تاريخ غير تاريخ المسلمين الموثق بالأسانيد المتصلة.
كان الشافعي رضي الله عنه صاحب قلب ونورانية وفراسة عرف بها أولياء الله وخصوا. سواء منهم من حمل اسم صوفي أو فقيه أو محدث، لا يغير مظهر اللقب من جوهر الملقب. روى نفس الصاحب الربيع بن سليمان قال: "دخلنا على الشافعي رضي الله عنه عند وفاته أنا والبوطي والمزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم. قال: فنظر إلينا الشافعي ساعة فأطال. ثم التفت إلينا فقال: أما أنت يا أبا يعقوب فستموت في حديدك، وأما أنت يا مزني فسيكون لك بمصر هيآت وهنات، ولتدركن زمانا تكون أقيس أهل ذلك الزمان. وأما أنت يا محمد فسترجع إلى مذهب أبيك. وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب. قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة (أي حلقة التعليم التي كان يجلس فيها الشافعي). قال الربيع: فكان كما قال"[4].
كانت لوائح الولاية لائحة على الإمام البخاري. كانت له كرامات ودعوات مستجابات. وما له لا يكون من أصحاب الاستجابة والتجلي وهو السابق بالخيرات المجلي، والرب كريم، نواله عظيم. كان رضي الله عنه قواما صواما تاليا لكتاب الله معظما لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبا له خادما. روى عنه صاحبه الفربري أنه كان لا يكتب في صحيحه حديثا إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين. وكذلك كان الإمام مالك رضي الله عنه من قبله، لا يجلس للحديث إلا بعد أن يغتسل ويتطيب. ولا يركب دابة في المدينة على كبر سنه، ويقول: "لا أركب في بلد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مدفون". بذلك نالوا عند الله جل وعلا الدرجات.
قال محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا عبد الله (البخاري) يقول: "ما ينبغي للمسلم أن يكون بحالة إذا دعا لم يستجب له". قال: "وسمعته يقول: خرجت إلى آدم بن إياس، فتخلفت عني نفقتي، حتى جعلت أتناول الحشيش ولا أخبر بذلك أحدا. فلما كان اليوم الثالث أتاني آت لم أعرفه، فناولني صرة دنانير وقال: أنفق على نفسك"[5].
كأني بقائل من العقلانيين يستلقي على قفاه ضحكا وسخرية من "الخرافات" التي تمتلئ بها كتب المسلمين. إن من لا يومن بمعجزات الأنبياء وكرامة الله عز وجل لأوليائه عن طريق الأسباب أو بخرق العادة لمدخول العقيدة. ولنا عودة للموضوع إن شاء الله. وطائفة يقرأون مثل خبر الدنانير الآتية من الغيب فينصرفون عن عبادة الله المجردة القصد، ويتركون السعي الذي شرعه الله لكسب الرزق، ويعيشون في وهم سابح. هذه الذهنية هي الخرافية بعينها، وهي الخطر المحدق. وقد عاشت طوائف من المسلمين بهذه الذهنية ولا تزال. والناقدون الساخرون من الديـن و"الغيبية" لا يستطيعون أن يميزوا بين الشعوذة والسحر والأحلام وبين الكرامة التي يظهرها المولى عز وجل على يد أفراد كالبخاري وعلى يد جماعات مجاهدة كالصحابة رضي الله عنهم وكالمجاهدين في أفغانستان في زماننا[6]. كان البخاري رحمه الله يقوم في الليل أكثر من عشر مرات ليدون حديثا أو فائدة، لا يترك له الاهتمام بالعلم نوما. والصحابة رضي الله عنهم ومجاهدو أفغانستان لا يألون جهدا في إعداد القوة كما أمر الله، يبارك الله العلي القدير تلك الوسائل على ضآلتها فتأتي بنتائج لا تخطر على البال.
كان إمام المحدثين البخاري عبقا بعطر الصلاح حيا وميتا. مرض واشتد به المرض فدعا الله ربه قائلا بعد أن فرغ من صلاة الليـل: "اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك". قال الراوي: "فما تم الشهر حتى قبضه الله عز وجل"[7]. فلما حضرته الوفاة دعا بدعوات ثم اضطجع فقضى رحمه الله. قال الراوي: "فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية (الغالية نوع من الطيب الفاخر). فدام على ذلك أياما. ثم علت سوار بيض في السماء مستطيلة بحذاء قبره فجعل الناس يختلفون (أي يأتون الجماعة بعد الأخرى) ويتعجبون"[8].
تسمع أخي المؤمن في زماننا هذا أخبارا مستفيضة عن شهداء أفغانستان وما يفوح من أجسادهم المطهرة من عطر، وما يظهر في سمائهم من علامات، فليزدك هذا الخبر عن رجل صالح من القرون الفاضلة يقينا أن ولاية الله لاتنال بالقعود والتأمل، وإنما تنال بالجهاد والمجاهدة فيما يطهر القلب وينفع الناس في الأرض.
كان من أهل الحديث من يبحث عن دليل يسلك به إلى الله، يتخذه شيخا مربيا يلزمه، بعد أن رقت الكثافة الإيمانية الإحسانية التي كانت شائعة سارية في الجو في مجتمع القرون الفاضلة. في تلك القرون كانت الصحبة والاقتباس الروحي عملية فطرية، يجذب القلب الكبير القلوب الظمأى إليه في يسر وصداقة ورحمة. كانت الوشيجة الرابطة بين المحدثين حبهم المشترك لله ورسوله وبحثهم المشترك عن العلم. كان الشافعي يقول لابن حنبل رضي الله عنهما: "أنت أعلم بالحديث مني، فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه، شاميا كان أو كوفيا أو بصريا".
كان بين عبد الله بن المبارك وبين الفضيل بن عياض صداقة وأخوة في الله. فضيل يعده الصوفية منهم، وابن المبارك من مشايخ مشايخ البخاري. قال ابن تيمية شيخ الإسلام: "قال سيد المسلمين في وقته الفضيل بن عياض في قوله تعالى: )ليبلوكم أيكم أحسن عملا(. قال: أخلصه وأصوبه. قيل له: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل. وإن كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"[9]. شهد ابن المبارك في أخيه الفضيل قال: "ما بقي على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض"[10]. وقال الفضيل: "ورب هذا البيت، ما رأت عيناي مثل ابن المبارك"[11]. كان ابن المبارك محدثا عالما فارسا عابدا كريما كثير النفقة في سبيل الله، يحج عاما ويغزو عاما. وكان شاعرا. كان أمة وحده. وكان الفضيل زاهدا ذاكرا ورعا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. كانا نموذجين متكاملين لأهل الخير. ولم تمنع أخوتهما الصادقة وإكبار كل منهما لصاحبه من المصارحة والمناصحة. كتب ابن المبارك إلى أخيه الفضيل هذه الرسالة الشعرية التي تستحق أن نطرق بها في زماننا باب كل ناسك منزو في خلوته، وأن نسمعها كل عالم يخشى الله ويشركه في الخشية الناس فينكص عن ميادين الجهاد مكتفيا بأوراده يتمتمها. قال الفارس العالم:
"يا عابد الحرمين لو أبصـرتنا لعلمت أنك في العبـادة تلعـب
من كان يخضب خده بدموعـه فنحــورنا بدمـائنـا تتخـضـب
أو كان يتعب خيله في باطــل فخيـولنا يوم الكريهـة تتعـب
ريح العبير لكم ونحن عبيــرنا رهج السنابك والغبـار الأطيـب
ولقد أتـانا عن مقـال نبيـنـا قول صحيـح صـادق لا يكـذب
لا يستوي وغبـار خيـل الله في أنف امرئ دخـان نار تلهـب
هذا كتـاب الله ينطـق بيننـا ليس الشهيد بميت لا يكذب"[12].

اتخذ إمام الأئمة في الحديث ابن خزيمة موقفا معظما من أحد صوفية عصره هو أبو علي الثقفي[13]. ولما حج الخطيب البغدادي شرب من ماء زمزم عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له"، وطلب من الله تعالى ثلاث حاجات: أن يحدث بتاريخ بغداد، وأن يملي بجامع المنصور، وأن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي، وقد استجاب الله دعاءه في الثلاث الحاجات[14]. وبشر الحافي من أكابر الزهاد الصوفية. فلا تعجب من بغية محدث بارز في الدنيا أن يدفن مع مثل بشر رجاء أن يحشر في صفه. وصحب أبو عبد الله الحاكم المحدث الكبير مؤلف "المستدرك" الشيخ الصوفي أبا عمرو بن محمد بن جعفر الخلدي والشيخ أبا عثمان المغربي وجماعة[15].
أما الإمام النووي شارح صحيح مسلم وأحد أعلام هذه الأمة، فقد أخذ طريق القوم عن شيخه الشيخ ياسين ابن يوسف الزركشي[16]. وصحب شيخا آخر قال عنه: "الفقيه الإمام الحافظ المتقي الضابط الزاهد الورع الذي لم تر عيني في وقتي مثله. كان رحمه الله بارعا في معرفة الحديث وعلومه وتحقيق ألفاظه، لا سيما الصحيحات، ذا عناية باللغة والنحو والفقه ومعارف الصوفية حسن المذاكرة فيها. وكان عندي من كبار المسلكين في طريق الحقائق، حسن التعليم. صحبته نحو عشر سنين لم أر منه شيئا يكره. وكان من السماحة بمحل عال على قدر وجده، وأما الشفقة على المسلمين ونصيحتهم فقل نظيره فيهما"[17].
تعج كتب الطبقات، سواء منها طبقات الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، بذكر العلماء العاملين المبرزين في علوم الحديث المشاركين في الفقه المتميزين أيضا في ميدان التصوف. الحنابلة لا يحبون اسم "الصوفي"، فتجدهم يستعملون ألفاظ "الصلاح" و"التقوى" و"الخيرة". وكل كانوا صادقين، رحمهم الله ورحمنا أجمعين. آمين.
ب.الفقهاء تلامذة الصوفية :
الفقهاء تلامذة الصوفية
وكذلك من أعيان الفقهاء من جميع المذاهب تجد الفقيه بعد استكمال طلبه للعلم أو أثناء الطلب يلتمس وليا مرشدا يصقل قلبه بالإحسان. هذا الإمام السيوطي جامع علوم عصره المتبحر المتفنن الذي نازع معاصريه الزعامة وقارعهم بعناده واعتداده بنفسه يلجأ إلى المشايخ الشاذلية يتخذهم قدوة وأدلة. كتب في "حسن المحاضرة" دعواه، وهو جدير بها رحمه الله: "رزقت التبحر في سبعة علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم الستة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها منها، لم يصل إليه ولا وقف عليه شخص من الأشخاص. فضلا عمن هو دونهم.
وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني. وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله. وقد كملت عندي آلات الاجتهاد"[1].
ما بال مثل هذا الرجل المعتز بعلمه، المنفرد في عصره بالاطلاع الواسع، المؤلف المرموق، المقرب إلى "خليفة" عصره المتوكل على الله العباسي، المحسود من طرف فقهاء مصر، خاضوا ضده معارك حامية، يذهب إلى المشايخ أهل الطريق يخضع لهم ويتتلمذ ؟ ألم يكفه ما في بطون الكتب من علم غزير؟ عبرة لك يا سيدي يا أخي يا حبيبي يا من ترشد الناس لقراءة كتب الصوفية. "تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية"، هذا عنوان كتاب السيوطي، وهو مطبوع. فابحث عنه عله يكون آخر ورقات تبحث فيها عن التربية الإحسانية، ولن تجد فيه إلا شهادة رجل صادق خشى كما تخشى أن يكتم شهادته، )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( (سورة البقرة، الآية:140). تتلمذ خلق لا يكادون يحصون من الفقهاء في كل العصور للمشايخ من رجال الطريق. وتحدثوا عن مشايخهم، وقارنوا بين الفقهاء والصوفية وفاضلوا. استمع معي إلى حكم محدث بارز يقارن ويقوم، محدث تتلمذ للمشايخ الشاذلية كما تتلمذ السيوطي. إنه ابن حجر الهيثمي. قال: "فمستنبطو الفروع هم خيار سلف الأمة وعلماؤهم وعدولهم وأهل الفقه والمعرفة فيهم. فهم قوم غذوا بالتقوى وربوا بالهدى. أفنوا أعمارهم في استنباطها وتحقيقها بعد أن ميزوا صحيح الأحاديث من سقيمها وناسخها من منسوخها. فأصلوا أصولها ومهدوا فروعها. فجزاهم الله عن المسلمين خيرا وأحسن جزاءهم، كما جعلهم ورثة أنبيائه وحفاظ شرعه، ألحقنا الله بهم وجعلنا من تابعيهم بإحسان"[2].
ويكتب عن العارفين الصوفية: "العارفون بالله الذين وفقهم الله لأفضل الأعمال، وحفظهم من سائر المخالفات في كل الأحوال. ثم كشف لهم الغطاء فعبدوه كأنهم يرونه، واشتغلوا بمحبته عما سواه. وأطلعهم على عجائب ملكه، وغرائب حكمه، وقربهم من حضرة قدسه، وأجلسهم على بساط أنسه، وملأ قلوبهم بصفات جماله وجلاله، وجعلها مطالع أنواره، ومعادن أسراره، وخزائن معارفه، وكنوز لطائفه. وأحيى بهم الدين، ونفع بهم المريدين، وأغاث بهم العباد، وأصلح بهم البلاد"[3].
ثم يتحدث عن الفقهاء ليعقد المقارنة فيقول: "علماء الظاهر الذين عرفوا رسوم العلوم الكسبية، وعويصات الوقائع الفعلية والقولية، وغرائب البراهين العقلية والنقلية، حتى حفظوا سياج الشرع من أن يلم به طارق، أو يخرقه مبتدع مارق. فالأولون (أي العارفون) أفضل، وإن كان للآخرين (الفقهاء حماة الشريعة) فضل عظيم، بل ربما كانوا أفضل من حيثية لا مطلقا"[4].
الشهادة القولية الصادرة عن الفحول من علماء الأمة وأئمتها لها وزنها. والعبرة بالشهادة الفعلية أقوى وأبلغ. انقياد الفقهاء للمشايخ المربين، وانصياعهم لأمرهم، وتلقيهم بالتسليم والموافقة لتوجيهاتهم، ثم تعظيمهم لهم ومحبتهم إياهم واعترافهم بفضلهم تقرأ هذا في أثباتهم وفهارسهم، وفي كتب التاريخ والطبقات. فهل هي ظاهرة تدل على صبيانية رجال الإسلام أم هناك مادة نورانية لا توخذ من الكتب بل من قلوب أهل الصفاء والوفاء؟
إن من لا حرقة في نفسه إلى معرفة الله لا يبحث، وإن بحث فلمجرد الاطلاع وإرضاء الفضول.
باحث عن الحق صارم ترك لنا بمجموع تاريخه وثروة فكره وثمين مؤلفاته شهادة بليغة كانت لأجيال المسلمين منذ تسعة قرون معينا لا ينضب من الفهم والاقتداء والانتقاد والأخذ والرد أيضا. إنه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه، الجبل الراسخ الذي لايسع المفكر ولا العالم ولا الفقيه ولا الصوفي ولا السياسي ولا الباحث عن أسرار النفس البشرية ولا المؤرخ للفكر الإسلامي والإنساني أن يمروا به مر الكرام. بعضهم يقرأ نقدا لهذه الفكرة أو تلك النظرة من نظرات الغزالي وفكره فيسد عليه النقد الهدام بأنقاضه منافذ التمييز. إن أخطأ الغزالي في جزئية فالبشر معدن الخطأ. ويكون ماذا إن انتقده فلان أو علان؟ أنت ماذا جنت يداك، ماذا فعلت بحياتك يا من يلهو بقراءة جدل الرجال؟
أبو حامد بحث واستقصى، ثم اضطر آخر الأمر لرجل يعلمه دينه. فماذا قال أبو حامد، وما يفيدني أنا ما شهد به أبو حامد في قضيتي مع ربي؟
كتاب "المنقذ من الضلال" كتاب عظيم الفائدة على صغر حجمه. لخص فيه حجة الإسلام مسيرته وحيرته وأخطاءه وسلوكه. قال: "ثم إني لما فرغت من هذه العلوم (العلوم النقلية والعقلية في عصره قتلها دراسة ونقاشا) أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم لا تتم إلا بعلم وعمل. وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله، وتحليته بذكر الله. ( … ) فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يوما (الأحوال التي كان فيها هي منصبه المرموق مدرسا في "النظامية" أكبر "جامعة" في بغداد وسمعته كفقيه تشد لفتواه الرحال). قال: وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا وتحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترسها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل! وبين يديك السفر الطويل! وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل. فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهروب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال. فإذا أعرضت عنها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة".
ومرض الرجل مرضا شديدا، انعكس الصراع النفسي المحتدم في جوفه على جسمه فأرداه، كذلك الهمم العالية تنوء بحملها الأجسام. ويئس الأطباء فلم يبق ملجأ إلا الله الرؤوف الرحيم. وبرأ أبو حامد من أمراض جسمه ومن تردده، فأوصى لعياله، ثم غادر بغداد متخففا يبحث عن رجل من لحم ودم يدله على الله بعد أن أعياه البحث عن الحق في بطون الكتب، وزحمه هم الآخرة وهم الله.
لقي شيخا مربيا فصحبه وشاوره وائتمر بأمره. ويتحدث عن "المتبوع المقدم" (كأنه ينظر إلى قول موسى للخضر عليهما السلام: هل أتبعك) فيقول: "فمن كان لله كان الله له. حتى إنه في الوقت الذي صدقت فيه رغبتي لسلوك هذه الطريق شاورت متبوعا مقدما من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن. فمنعني وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية. بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية، تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مقبلا بذكرك على الله تعالى. وذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول الله الله، مع حضور القلب وإدراكه، إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك، لكثرة اعتياده. ثم تصير مواظبا عليه إلى أن ينمحي أثر اللسان، فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على الذكر من غير حركة اللسان. ثم تواظب إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ وهيآت الكلمة، بل يبقى المعنى المجرد حاضرا في قلبك على اللزوم والدوام"[5].
كيف يقبل العقل أن يمنع مؤمن مؤمنا من قراءة القرآن والمواظبة على التلاوة؟ أم كيف نفهم قَبول حجة الإسلام عالم بغداد توجيها من هذا القبيل؟ أم كيف نعقل بادئ الأمر أن يسأل أمثال أبي حامد هذه المسألة: هل أواظب على التلاوة؟
إن إسلاس القياد لولي مرشد يدلك على الطريق شرط في السلوك. وما كان لولي أن يأمر إلا بحق. وما منعه من المواظبة على التلاوة إلا بغية أن يهيئه بتصفية القلب بالذكر، حين يعم قلبه الإيمان ويعقل قلبه القرآن، لمرحلة تكون فيها المواظبة على التلاوة عبادة كاملة. وهاك الدليل. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلبك حشي الإيمان، وإن الإيمان يعطى العبد قبل القرآن". ثم إن الذكر بالاسم المفرد أنكره ابن تيمية رحمه الله وأجمع الصوفية إجماعا على أن الذكر به من أعظم الذكر. فلا جدال.
ثم إن العبرة عندنا هنا في انصياع عالم فقيه من أعلام الملة لشيخ "متبوع مقدم"، يطيعه فيما يأمر بلا نقاش. السؤال الدائم: لماذا يضطر الفقهاء الصادقون لصحبة المشايخ؟ والجواب الدائم أنها الولاية التي لا تكسب بالدراسة والاطلاع، بل بنور يقذفه الله جل وعلا في قلوب أصفيائه، فيأتي من شاء الله له خيرا يقتبس من ذلك النور. والنفوس الصغيرة لا تقبل أن تعترف بمزية عليها لأحد، إنما يعترف بفضل أولي الفضل من كان أهلا لفضل الله الذي يوتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ويمضي أبو حامد يطبق الإرشادات إلى أن فتح الله له كما يفتح الفتاح العليم لأحبابه. كتب رحمه الله في "المنقذ من الضلال": "ثم دخلت الشام وأقمت بها قريبا من سنتين، لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب بذكر الله تعالى كما حصلته من علم الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي (...)، ودمت على ذلك مقدار عشر سنين. وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها. والقدر الذي أذكره ينتفع به".
ويؤدي الرجل بأمانة وصدق وبساطة شهادته أمام الله تعالى ليقرأها من بعده الصادقون. ما كان يبالي أن يعترض معترض أو يسخر ساخر. ما حاول أن يعلل ويفلسف ويعقلن تنازلا عند من يشققون الكلام. بل أفضى بذات قلبه إلينا في كلمات مباشرة ساذجة سذاجة الحق وبساطته. فمن أزرى بعقل كبير مثل عقل أبي حامد، أو اتهم سكرات القلوب المعروفة عند المجانين والمجاذيب، فما عليه إلا أن يتخطى شهادة الرجل ويطوي هذا الكتاب ويرتبه في الرف. وقد انتهى الأمر وما يغني الحديث. والسلام.
يؤدي الغزالي شهادة مجملة لأن ما انكشف له لا يمكن "استقصاؤه وإحصاؤه" فيستمر قائلا: "إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إلى ذلك سبيلا. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به".
نعم يا ولي الله، ما وراء نور النبوة نور يستضاء به، ولا فوق النموذج الأول نموذج يعلو. رحم الله زمر الصالحين من الصوفية والمحدثين والعلماء العاملين. أووا إلى الزوايا والمدارس والعزلة والصمت والمجاهدة والسهر والعبادة والذكر. وبقي عليهم أمر عظيم لم يتخلوا عنه استغناء عنه، إذ لا يعوضه في مراتب الإحسان شيء. بقي عليهم الجهاد في الأرض ليحكم دين الله الأرض. عاشوا، الأحباء، في عهود كان قدر الله فيها على الأمة أن يحكم النظام العاض والجبري. وفي حاضر الأمة ومستقبلها لن نلتفت إن شاء الله إلى ما تحت الصحابة رضي الله عنهم الذين جمعوا أطراف الإحسان وأقطار المجد الدنيوي والأخروي من كل جانب. كانت فاعليتهم في ميادين الجهاد ضمان بقاء الدين واستمراره حتى اغترف الصوفية من ينبوع كان للصحابة رضي الله عنهم فضل تلقيه وصيانته والذود عنه والجلاد من دونه بالمال والسيف، وفضل نشره وتبليغ دعوته، وفضل قتال الكفر حتى باد الكفر، وفضل نصرة الحق حتى ظهر الحق. أهل الكمال حقا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي الإمام، ثم أهل بدر وبيعة العقبة وبيعة الرضوان وسائر مشاهد الإسلام.
يوتي الله عز وجل فضله من يشاء كما يشاء. وقد آتى سادتنا الصوفية خيرا كثيرا. لكن أساليب العزلة وتربية الصمت والمجاهدة المنفردة في زماننا نكوص وبيت المقدس محتل، والأمة نهب مقسم، وجودها المعنوي مهدد، ورسالتها منكرة في عقر دارها. لسنا ممن يكيل للغزالي اتهامات كما يفعل فلاسفة الجامعات من بني جلدتنا. قضى الله وما شاء فعل، والتكليف علينا وحده هو المعتبر. تكليف الشرع أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونجاهد في الله حق جهاده حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
مطلب شريف ومطمح منيف أن تحدث نفسك بأن تلحق بالصالحين وتكون من أولياء الله. ثم أن تصارع نوازع النفس والهوى ونزغات الشيطان وتتجرد للعمل وتشمر وتهجر كل ما سوى الله عز وجل. تلك طريق سلكها ذوو الهمم الرفيعة من الرجال أمثال أبي حامد، تعطرت بأنفاسهم الأزمان. لم يكن الدين غريبا في أزمنتهم، بل كانوا ساكنين تحت مطارق الأقدار الإلهية التي حكمت بأن يعيش المسلمون في ظل ملك عاض وجبري إلى أن يرفع الله جل جلاله تلك الحوبة التاريخية. الآن عاد الدين غريبا كما بدأ، فطوبى لغرباء أزمنتنا إن شمروا للالتحاق بركب الأخيار على متن الجادة الجهادية التي سلكها الصحابة في غربة الإسلام الأولى، حتى نصروا الدين وأقاموا للإسلام دولة وصرحا شامخا. تلك الجادة أوسع وأبعد منالا وأوفر نورانية لأنها جمعت بين الجهاد لتحقيق مطالب الأمة وبين المجاهدة لتحقيق المطلب الإحساني الفردي.
في ظروف الغزالي وحدوده بالزمان والمكان والمطلب تجرد الغزالي لطلب "علم الآخرة" بعد تحصيل علوم الفقه وبعد جدال الفلاسفة ونيل الأوطار الدنيوية. "وتزيا بزي الصالحين، وقصر الأمل، ووقف الأوقات على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة وتبغيض الدنيا والاشتغال بها على السالكين والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية والانقياد لكل من يتوسم فيه أو يشم منه رائحة المعرفة أو التيقظ بشيء من أنوار المشاهدة"[6].
إعراض عن الدنيا وإقبال على الله عز وجل وانقياد لأهل الخير. "وتفكر في العاقبة وما يجدي وما ينفع في الآخرة. فابتدأ بصحبة الفارمدي، وأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل واستدامة الأذكار والجد والاجتهاد طلبا للنجاة، إلى أن جاز تلك العقبات"[7].
من عظماء الإسلام كثير لجأوا مثل الغزالي، قبله وبعده، إلى مربين يساعدونهم على جواز العقبات. لا تكاد تحصي الأمثلة للعلماء الذين ارتموا في أحضان العارفين تعج بذكرهم كتب التاريخ وطبقات المذاهب.
من أجلهم سلطان العلماء شيخ الإسلام والمسلمين إمام عصره بلا مدافعة، الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الذي كان في عصره ملاذ الأمة وحاميها من الحكام الظلمة. إنه عز الدين بن عبد السلام الصائل بعلمه في المجالس، الصائل بشجاعته في الحق، يهجم بكلمة الزجر والتأنيب على دواوين الحكام. مواقفه تشرف كل منتسب للعلم في كل زمان.
كان رحمه الله أعبد الخلق وأتقاهم. حكى عنه ابن دقيق العيد، أحد الأكابر علما وتقى، أنه: "لبس خرقة التصوف من الشيخ شهاب الدين السهروردي وأخذ عنه". وذكر أيضا أنه: "كان يقرأ بين يديه رسالة القشيري فحضره مرة الشيخ أبو العباس المرسي لما قدم من الإسكندرية إلى القاهرة، فقال له الشيخ عز الدين: تكلم عن هذا الفصل. فأخذ المرسي يتكلم والشيخ عز الدين يزحف في الحلقة ويقول: اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث العهد بربه"[8]. قال السبكي: "وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطولى في التصوف، وتصانيفه قاضية بذلك".
قال عز الدين سلطان العلماء: "أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الشرع فقول الأستاذ (القشيري) وأبي حامد (الغزالي) فيه متفق. ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام. بل العارفون بالله أفضل من أهل الفروع والأصول. لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وبثمراته. فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها، ولأن ثماره أفضل الثمرات"[9].
هل كان فطاحلة علمائنا بهاليل مجانين حتى يزحفوا في الحلقة إعجابا بكلام العارفين وهم كانت ترتعد خوفا منهم فرائص الجبارين في الأرض؟ أم أنهم لم يجدوا في كتب الرقائق والوعظ ما يروي الغلة حتى ينقادوا للمشايخ ويتتلمذوا بأدب؟
هذه نصيحة من أحد كبار فقهائنا عسى أن يقرأها من يوصون بـ"التصوف السني" الذي تحتويه بطون الكتب التي تكفي قراءتها والتضلع منها. قال القسطلاني صاحب المؤلفات المشهورة: "وإن كان مرادك أن تصير بقراءتها (أي كتب القوم) صوفيا محققا فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو قرأت من هذه الكتب عدد رمل عالج في مدة عمر نوح لم تصر صوفيا حتى يلج الجمل في سم الخياط. إنما التصوف الدؤوب في الطاعات، وترك المخالفات، وفطم النفس عن المألوفات، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال المباحات فضلا عن الشبهات، وترك التوسل بالخلق، والاعتماد على الله في كل الحالات"[10].
يفتي القسطلاني بحرمة قراءة الكتب المشتملة على العبارات الغامضة والشطحات. وينصح بعدم تضييع الوقت في طلب علم القوم، لأن العلم بلا عمل بطالة. وكانت سعادته بلقاء الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو ابن أخ الشيخ أبي النجيب السهروردي الأشهر، لبس منه خرقة التصوف[11].
وكان تقي الدين بن دقيق العيد شيخا إماما زاهدا محدثا حافظا ورعا فقيها بلغ درجة الاجتهاد المطلق. قال السبكي : "ولم ندرك أحدا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث المصطفوي النبوي صلى الله عليه وسلم، وأنه أستاذ زمانه علما ودينا"[12]. هذا الإمام الأوحد في قرنه سلك طريق القوم على يد الشيخ الصالح كمال الدين بن عبد الظاهر الهاشمي[13]. وكانت له كرامات كثيرة[14].
نختم حديثنا عن الفقهاء الصوفية، وقد اقتصرنا على الأشهرين من الشافعية، بذكر التقي السبكي أحد أعلام الأمة الذي كان يدعى بالشافعي الثاني، وناهيك بالتشبيه.
تصدى التقي السبكي، والد مؤلف الطبقات، لمسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وعارضه في اجتهاداته الشاذة عن الإجماع في موضوع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وفي قضية الطلاق المعلق وغيرها. كانت اضطرابات ابن تيمية رحمه الله وسجنه وما لحقه ولحق أصحابه من أذى نتيجة لما يسمى "مسائل" ابن تيمية. وهي بضع وستون مسألة في أصول الدين وقضايا الفقه خالف فيها علماء عصره. لم يكن الفارس الحنبلي في زمانه وتفرده بآرائه وحدته المرجع المطلق كما هو الشأن في هذه الأزمان التي فتحت فيها أبواب الخزائن لتنشر كتبه من دون كتب خصومه.
يقول الحافظ الذهبي الناقد اللاذع عن شيخه التقي السبكي في كتابه "المعجم المختصر" كما نقل عنه عبد الوهاب السبكي في الطبقات: "القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء تقي الدين أبو الحسن (...) وكان صادقا ثبتا خيرا دينا متواضعا حسن السمت من أوعية العلم. يدري الفقه ويقرره، وعلم الحديث ويحرره، والأصول ويقررها والعربية ويحققها (...) وقد بقي في زمانه الملحوظ إليه بالتحقيق"[15]. شهادة إنصاف.
كان "ملحوظ زمانه" هذا ومحققه كلفا بالصالحين ومعاشرتهم، كثير العبادة والذكر، مستجاب الدعوة، ظاهر الكرامات. "وكان كثير التعظيم للصوفية والمحبة لهم. ويقول: طريق الصوفي إذا صحت هي طريق الرشاد التي كان السلف عليها"[16].
يعظمه الذهبي ويقول: "ما صعد هذا المنبر بعد ابن عبد السلام أعظم منه"[17]. قال عبد الوهاب السبكي: "وصح من طرق شتى عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية أنه كان لا يعظم أحدا من أهل العصر كتعظيمه له، وأنه كان كثير الثناء على تصنيفه في الرد عليه"[18]. رحمهم الله جميعا وإيانا وعفا، إنه العفو الغفور.
ليس بعد هذه الشهادات التاريخية نقاش نسال الله تعالى الرحمة آمين.
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #9
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

.دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص : ( في الولي و الخليفة)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه ، أما بعد
افرد ابن عربي قدس الله سره فقرلت متباينة و غير مرتبة بحسب القارئ حول الإنسان الكامل أو الأنسان الفرد.ومما يستوجب الذكر ، فأن هذا المفهوم يخلص به ابن عربي رضي الله عنه في سائر كتبه كنتيجة مطلقة إلى أن الإنسان الخليفة صورة كاملة للحضرة الإلهية ، و عرفانه المعرفي له خصوصية عامة و خاصة. وما من عمل يقوم به الإنسان إلا و فيه تجلي الضدين ، بمعنى أنه جمع في علمه الطوعي أو جهله الكرهي ، مقتضيات و آثار الأسماء الإلهية ، ولهذا كان سيره و سلوكه ووجوده و رفعه و خفضه و سعادته و شقاءه ترهن بكلمة جامعة :"كن".
ولهذا كان المعارضون لهذا المبدأكما سبق في فقرات سابقة نوع من الخلط و الإبهام و الغموض :كيف يكون الإنسان عين الوجود ؟ ومجلى الذات الصفات و الأسماء ؟ اليس هذا اتحادا وحلولا.؟
فللولي فهم خاص للعلم ، وكمال ولايته مرتبطة أساسا بما يتلقاه من تعليم و إلقاء غيبي وتأويل نوراني لكلام الله تعالى.
أ. الله نور السموات و الأرض :
يرى ابن عربي قدس الله سره أن التجلي عند القوم ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب ، وهو على مقامات مختلفة :
منها مايتعلق بأنوار المعاني المجردة عن المواد من المعارف و الأسرار.
ومنها ما يتعلق بأنوار الأنوار.
ومنها ما يتعلق بأنوار الأرواح وهم الملائكة.
ومنها مايتعلق بأنوار الرياح.
ومنها ما يتعلق بأنوار الطبيعة.ومنها ما يتعلق بأنوار الأسماء.
ومنها ما يتعلق بأنوار المولدات و الأمهات و العلل و الأسباب على مراتبها.
فكل نور من هذه الأنوار إذا طلع من أفق ووافق عين البصيرة سام من العمى كشف بكل نور ما نبسط عليه . وكان الإنسان بحسب رأيه محاطا بالنور مخلص من وساوس الشيطان مستقيما على الهدى في اتباع لا ابتداع.
يقول رضي الله عنه في هذا النور : ( و أما النور الذي هو عين ذاتنا فهو كما دعا فيه صلى الله عليه وسلم : " واجعلني نورا" فهو عين ذاته ، ورواية : "واجعل لي نورا" هو جميع ما ذكرنا من الأنوار ، و أما قوله : " واجعلني نورا" فهو مشاهدة نور ذاته إذ لايشهد إلا به فإن ذاته ما قبلت هذه الأنوار من الجهات الست إلا لعدم إدراكها نور نفسها الذي قال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من عرف نفسه عرف ربه" ( الله نور السموات و الأرض) النور آ 35 ، ومثله بما مثله وهو أنت عين ذلك المثل و المثل فتشاهد الأنوار منفهقة منك يتنور بذاتك عالم سمواتك و أرضك فما تحتاج إالى نور غريب تستضيء به فأنت المصباح و الفتيلة و المشكاة و الزجاجة ، فإذا عرفت هذا عرفت الزيت وهو الإمداد الإلهي و عرفت الشجرة.وإذا كانت الزجاحة كالكوكب الدري وهو الشمس هنا فما ظنك بالمصباح الذي هو عين ذاتك ؟ فلا يكن دعاؤك إلا أن يجعلك الله كلك نورا ، وهنا سر عجيب انبهك عليه من غير شرح لأنه لا يحتمل الشرح وهو أن يضرب الأمثال لنفسه و لا تضرب له الأمثال ، فيشبه الأشياء و لا تشبهه الأشياء....) ص 478 ، من كتاب الفتوحات م/2.
ليقول رضي الله عنه قبل هذه الفقرة : (فمن ظهر له أسرار هذه الأمور وعلمها علم الحق فيها و لم يبطل عنده شيء فهو أقوى الأقوياء في التمكن الإلهي ، فهو عبد في مقام سيد و سيد في صورة عبد). الفتوحات م /2 ص 469.
لم يكن تنبيه أهل الله عبثا لمريديهم أن دراسة كتاب الفتوحات المكية يتطلب حضور ولي كامل عارف قبل كل شيء بأسرار اللسان العربي أي فقه اللغة ، ثم تجربة في منازلة النفس ، ثم فهم دقيق للأشارات لما قد يجده القارئ بحسب وهمه و ظنه من شطحات و كفريات و سكر و ذوق و غياب وحضور و ري و شرب .
نسال الله العواصم من القواصم آمين.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين حول السكر و الشطح ما يلي : ( روَوْا عن الإمام الشافعي أنَّ السكران بِشُرْب المُسكرِ الذي يقام عليه الحد يُعْرَفُ "إذا اختلط كلامُه المنظومُ، وأفشَى سرَّه المكتومَ". وعرف الإمام أحمد السكران الشارب فقال: "السكران من لم يعرف ثوبَه من ثوب غيره، ونَعْلَه من نعل غيره".
وهذان التعريفان ينطبقان بوجه مجازِيٍّ على السالك في طريق الولاية إذا حصل في حال الفناء "فغاب بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده" كما قرأنا في الفصل قبل هذا. وكما يُذْهِلُ السكرُ الحرامُ الشاربَ الآثمَ عن معرفة ثوبه من ثوب غيره ويختلط نظمُ كلامه ويأخذ في إفشاء أسراره، فكذلك السالك الفاني يُذهِله تجلي الأنوار الالهية عن شعوره بذاته فينطِق بكلام المجانين.
واصطلح الصوفية على كلمة "سكر" فأطلقوها بجانب هذه الحالة المعروفة لديهم، كما أطلقوا اصطلاحات أخرى لا يقبَلها ذوق التقي الورع. وقد شجَبَ هذه المصطلحات المقتبسةَ من حياة الغافلين طائفةٌ من العلماء منهم ابن القيم حيث قال: "ونحن لا نُنْكر المعنى المشارَ إليه بهذا الاسم (السكر). وإنما المنكر تسميَّتُه بهذا الاسم. ولاسيما إذا انضاف إلى ذلك اسم "الشراب"، أو تسمية المعارف بالخمر والواردات بالكؤوس"[1].
لا ينكر ابن القيم كما لا ينكر كل من ذاق الحال والوجد وغلبتهما وخبرَ الأمرَ في الميدان شيئا من أحوال الصادقين. ويتعفف الورع التقي عن استعمال هذه الألفاظ المبتذلة. على أنه لم يكن لهم بُدٌّ من استعمالها ليتفاهموا فيما بينهم. "الاصطلاحات لا مُشاحَّةَ فيها إذا لم تتضمن مفسدة" كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم بهذا الصدد.
وينطق سكرانُ الحال، أو المفترِي الدجالُ، بأقاويلَ لا يقبلها الشرعُ فتسمَّى هذه الكلمات شطحا. قال حجة الإسلام الغزالي في تعريف الشطح: "الشطح نَعْنِي به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية. أحدُهما الدعاوي الطويلةُ العريضةُ في العشق مع الله تعالى والوصال المُغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهِي قوم إلى دعوَى الاتحادِ وارتفاعِ الحجابِ والمشاهدةِ بالرؤية والمشافهة بالخطاب. فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا. ويتشبَّهون بالحلاج الذي صُلِبَ لأجل إطلاقِه كلماتٍ من هذا الجنسِ، ويستشهدون بقوله: أنا الحق، وبما حُكِي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني.(...)
"الصنف الثاني من الشطح كلماتٌ غير مفهومة، لها ظواهر رَائِقَةٌ، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءَها طائل(...) ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يُشَوِّشُ القلوب، ويُدهش العقول، ويحيِّرُ الأذهان"[2].
ويضيف الإمام الغزالي رحمه الله صنفا آخر من الكلام المنكَر الكفريّ يسمِّيه "الطامات". قال: "وأما الطامات فيدخُلُها ما ذكرناه في الشطح وأمرٌ آخر يخصُّها. وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنةٍ لا يسبق منها إلى الأفهام فائدةٌ، كَدَأْبِ الباطنيَّة في التأويلات. فإن هذا أيضا حرام وضررُه عظيم(...). وبهذه الوسيلة توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم(...) حتى إنهم يحرِّفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره. وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء"[3].
إن سألت عن الفائدة من التنقيب عن السكر وشطحه وعن هذيان المجانين وكفريات الزنادقة وطوام الباطنية في كتاب مستقبلي يدعو إلى سلوك جهادي على المنهاج النبوي الصحابي الراشدي أجبتك من وجهين: أحدهما أن تراثَ المتشابه من القول مبثوث في الكتب متداوَل في أيْدي الخاصة والعامة، فمعرفة الحق من الباطل في هذا التراث تتعين. والوجه الثاني أن السالكين المتعرضين لغلبة الحال قد يتشبه بهم الزنادقةُ اليومَ وغدا فينطقون بكلمة أبي يزيد والحلاج، فيتعين أن نعرف من هو مغلوب الحال الذي يُعذَر، ومن هو الدجال الذي يقول بقول الكفر صاحيا حاضرا فيقامُ عليه الحد.
وقد عذَر شيخ الإسلام ابن تيمية أبا يزيد البسطامي ولم يعذِر الحلاج كما لم يعذِره علماء زمانه الذين أفتوا بقتله.
قال شيخ الإسلام: "وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلولِ والاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل. لكن لمَّا ورد عليه ما غيَّب عقله أو أفناه عما سوى محبوبه، ولم يكن ذلك بذنب منه كان معذورا.(...)
"فهذه الحال تعتري كثيرا من أهل المحبة والإرادة في جناب الحق وفي جانبه وإن كان فيها نقص وخطأ فإنه يغيب بمحبوبه عن حبه وعن نفسه، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه، وبمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده.
"فلا يشعرُ حينئذ بِالتمييز ولا بوجوده. فقد يقول في هذا الحال: أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله ونحو ذلك. وهو سكرانُ بوَجْدِ المحبة الذي هو لذةٌ وسرورٌ بلا تمييز.
قال: "وذلك السكران يُطْوَى ولا يُرْوَى إذا لم يكن سكرُهُ بسببٍ محظور"[4].
وقال: "لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصرِ سكرٌ وغيبة عن السِّوَى. والسكر وجْدٌ بلا تمييز. فقد يقول في تلك الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تُؤْثَرُ عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء. وكلمات السكران تُطْوَى ولا تُرْوَى ولا تُؤَدَّى"[5].
قلت: فلَمَّا لم يقدر الحلاج على طيِّها طواه سيف الشرع.
هذه الحال الفنائية القاصرة التي لم يعرفها الصحابة، وحاشاهم من النقص، يسميها مربِّي المريدين المجددُ الكبير الإمام السرهندي: "كفْرُ الطريقة". قال رحمه الله: "ولكفر الطريقة هذا مناسبةٌ تامَّة بكفر الشريعة، وإن كان كافر الشريعة مردودا ومستحقا للعذاب، وكافر الطريقة مقبولا ومستحقا للدرجات. فإن هذا الكفر والاستتار (قلت:كفر لغةً بمعنى ستر) ناشئ من غَلَبة محبةِ المحبوب الحقيقي ونسيان غيره كله(...)"[6].
قال رحمه الله يفصل الدرجات التي يستحقها مستور المحبة "كافر" الطريقة: "وإسلام الطريقة عبارة عن مقام الفرق بعد الجمع (قلت: وهو مقام البقاء) الذي هو مقام التمييز. الحق والخير متميزان هنا من الباطل والشر.
قال: "ولإسلام الطريقة هذا مناسَبَة تامة بإسلام الشريعة. بل إذا بلغ إسلام الشريعة كمالَه تحصُل له نسبة الاتحادِ بهذا الإسلام"[7].
وقال عن الشطحات المعذورة: "وكل من تكلم من المشايخ قدس الله أسرارهم بالشطحات من الكلمات المخالفة لظاهر الشريعة فإنما تكلم من مقام كفر الطريقة الذي هو موطن السكر وعدم التمييز. والأكابرُ الذين تشرفوا بدَوْلة إسلام الحقيقة مُنَزَّهون ومُبَرَّأون من أمثال هذه الكلمات، ومُقْتَدون بالأنبياء، ومتَّبعون لهم ظاهراً وباطناً.
"فالشخص الذي يتكلم بالشطحات، ويكون في مقام الصلح مع الكل، ويظن الجميعَ على صراط مستقيم، ولا يُثْبِتُ التمييزَ بين الحق والخلق، ولا يقول بوجود الاثنينيَّة، إذا وصل هذا الشخص إلى مقام الجمع، وتحقق بكفر الطريقة ونسيَ السوى فهو مقبول، وكلماته ناشئة من السكر، ومصروفةٌ عن الظاهر"[8].
ثم قال عن الزنادقة والمُبْطلين والناطقين بالطوام: "وإن تكلم بهذه الكلمات بدون حصول هذا الحال، وبدون وصولٍ إلى الدرجة الأولى من الكمال، وزعم أنَّ الكل على حق وعلى صراط مستقيم، ولم يميز الباطل من الحق، فهو من الزنادقة والملاحدة الذين مقصودُهم إبطالُ الشريعة، ومطلوبُهم رفعُ دعوة الأنبياء الذين هم رحمة للعالمين، عليهم الصلوات والتحيات(...)
قال: "فهذه الكلمات الخِلافية تصدر من المُحق وتصدر من المُبطل. وهي لِلْمُحِقِّ ماءُ الحياة، وللمبطل سم قاتلٌ.(... ) وهذا المقام مزَلَّةُ الأقدام، قد انحرف فيه جم غفير من أهل الإسلام عن الصراط المستقيم.(...) ومصداقُ امتياز المُحق من المُبطل الاستقامةُ على الشريعة أو عدم الاستقامة عليها. والذي هو مُحق لا يرتكب خلافَ الشريعة مقدارَ شَعْرة مع وجود السكر وعدم التمييز. كان الحلاج، مع صدور "أنا الحق" عنه، يصلِّي كلَّ ليلة في السجن خمسمائة ركعة مع قيد ثَقيلٍ، ولا يأكل الطعامَ الذي مسته يدُ الظَّلَمة"[9].
قال الإمام عبد القادر قدس الله سره: "يا غلام! تفكر في أمرك وحاقِقْ نفسَك ما ليس فيك. ما أنت صادق ولا صِدِّيقٌ ولا محب ولا موافق ولا راض ولا عارف! قد ادعيت المعرفة بالله عز وجل. قل لي! ما علامة معرفته؟ إيش ترى في قلبك من الحُكْم والأنوار؟ ما علامة أولياء الله عز وجل وأبدال أنبيائه؟
"تظن أن كل من ادعى شيئا سُلِّمَ إليه ولا يطالب بالبيِّنة! ولا يُحَكُّ ديناره على المِحَكِّ!
"من جملة صفات العارف بالله عز وجل أنه يصبر على الآفات، ويرضى بجميع أقضية الله عز وجل وأقداره في جميع الأحوال.(...)
"يا محب الحق عز وجل، دُرْ مع قدَرِه حيث دار. وطهر قلبك الذي هو مسكن قرب الحق عز وجل. اكنُسْه عما سواه، واقعد على بابه بسيف التوحيد والإخلاص والصدق. ولا تفتحه لأحد غيره ولا تشغل زاوية من زوايا قلبك بغيره.
"يا لَعّابين ! ما عندي لعب! يا قشورُ! ما عندي سوى اللُّبِّ! عندي إخلاص بلا نفاق، وصدق بلا كذب. الحق عز وجل يريد التقوى والإخلاص من قلوبكم. ما ينظر إلى ظاهر أعمالكم.قال الله عز وجل: )لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) [10].
قال أبو تراب النّخْشَبِيُّ في علامات المحب الصادق الصديق:
ومـن الدلائـل حـزنُـه ونحـيـبـه جَـوفَ الظـلام فما لَهُ من عـاذِل
ومـن الدلائـل أن تـراه مـسـافـرا نحـو الجهـاد وكلِّ فـعلٍ فاضِـل
ومـن الدلائـل زُهـدُه فيمـا يـرى مـن دار ذل أو نـعـيــم زائـل
ومـن الدلائـل أن تـراه راضِـيـاً بملـيـكـه في كُـل حـكـم نـازل
ومـن الدلائل ضِحْكُه بين الورَى والقلـبُ محـزون كقـلـب الثاكـل

وقال الإمام الجنيد يصف أحوال التكميل والكمال:
سَرَتْ بأُناسٍ في الغيوب قلوبهـم فحلُّـوا بقـرب المـاجـد المتفـضـل
عِراضاً بقـرب الله في ظـل قدسه تجـولُ بهـا أرواحهـم وتَـنَـقَّـلُ
مـواردهم فيها على الـعز والنُّهَى ومصـدرُهم عنهـا لِما هُـو أكـمـل
تروح بِـعِـزٍّ مـفـرَدٍ من صفـاتـه وفي حُلَلِ التوحيد تمشـي وَتَرْفُـل

وقلت:
يَـقِـظٌ حَــاضِـرٌ تَشَّـمَّــرَ لِلـزَّحْــ ــفِ وَصَدِّ الْعِـدَا بِحَدِّ السُّيُـوفِ
مِحْنَــةُ النَّـاسِ أنَّ فِيهمْ ضِعَـافــاً مِنْ جَبَــانٍ وَخَــامِــلٍ وَسَخِيـفِ
مِحْنَةُ السَّالِكِينَ: مِنْهُمْ سُكَــارَى صدَّعُـوا الرَّأسَ بالكَـلاَمِ المُخِيـفِ )كتاب الأحسان م/2 طبعة 1998.




عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 07-09-2011
  #10
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

دراسات إلى التصوف ، في الشأن العام و الخاص : ( الولي و الخليفة)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه و بعد
أ .الله نور السموات و الأرض تتمة)
لاشك أن القارئ لمثل هذه النصوص ، يحتار فيما يجده من الإشارات التي تستنهض الهمم ، وتتحدى العقول ، في الفقه و التدبر.ولعل الإنسان في عرف أهل الله تعالى خزينة الأسرار و قبلة التوجه ، وحضرة أنشائية اسما ئية عرفانية.لكن كما قلنا سابقا فأن المشرب السلفي ينكر في جولات و صولات هذا الفكر.
ولعل العبد العارف الفرد الإنسان حقيقة فيه عوالم و حضرات ، وذات لها حظوظ ، وروح لها معارف و أسرار.لاتنفصل حقيقته المحمدية عن حقيقته الذاتية ، فلم يستحق في المخلوقات هذا اللقب سوى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو العارف الرسول الولي النبي الكامل صلى الله عليه وسلم ، حاز كل المراتب و الحضرات ، وارتقى بإذن ربه عطاءا و خصوصية في كل المقامات و الحضرات.
صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عربي قدس الله سره في إقرار و توضيح و شرح : ( ......و أما صفة العارف عندنا من الموطن الإلهي الذي يشهده العارفون من الحق في وجودهم وهو شهود عزيز ، وذلك أن يكون العارف إذا حصلت له المعرفة قائما بالحق في جمعيته نافذ الهمة مؤثرا في الوجود في الإطلاق من غير تقييد ، لكن على ميزان المعلوم عند أهل الله مجهول التعت و الصفة عند الغير من جميع العالم من بشر وجن وملك و حيوان لا يعرف فيحد و لايفارق العادة فيميز حامل الذكر مستور الحال عام الشفقة على عباد الله ، يفرق في رحمته بين أمر برحمته حتى يجعل له خصوص و صف عارف بإرادة الحق من عباده قبل وقوع المراد ، فيريد بإرادة الحق لاينازع و لايقاوم و لايقع في الوجود ما لايريده و إن وقع ما لايرضى وقوعه بل يكرهه شديد في لين ، يعلم مكارم الأخلاق في سفاسفها فينزلها منازلها مع أهلها تنزيل حكيم ، بريء مما تبرأ الله منه محسن إليه مع البراءة منه، مصدق بكل خبر في العالم كما يعلم عند الغير أنه كذب فهو عنده صدق مؤمن عباد الله من غوائله مشاهد تسبيح المخلوقات على تنوعات أذكارها ، لا تظهر إلا لعارف مثله ، إذا تجلى له الحق يقول : أنا هو لقوة التشبه في عموم الصفات الكونية و الإلهية....) كتاب الفتوحات ص 313، م/2.
ماهي قوة التشبه التي يقصدها ابن عربي قدس الله سره ؟ وكما يعلم الجميع فأن الله ليس كمثله شيء.
عندأهل الله تعالى مفهوم خاص لحديث الولي ، الذي رواه أبوهريرة ، و الذي أخرجه البخاري رحمه الله تعالى ، وفي كتاب الإنسان الكامل الذي كتبه الأمام محمد عبد الكريم الجيلي إشارات قوية في هذا الباب ، تتدفق في غموضها من لم يعتد قراءة مثل هذه الكتب الصفراء كما يحب بعض الباحثين تسميتها ، يقول رحمه الله في المقدمة . (....إني لما صعدت جبل الطور و شربت البحر المسجور و قرأت الكتاب المسطور ، فإذا هو رمز تركبت عليه القوانين فما هو لنفسه بل هو لك ، فلا يخرجك عن خبرك ما يصح عندك له من العلامات فتقول هذا و هذا له ، إذ ليس حاله مشابه بحالي ، فإنما جعله الله لك ، فتتخذ حوله حولك ، لسانيا ، لاحقيقة له ذلك كي تعاني فيه ماهو لك ، فتتخذ حوله حولك ، ولهذا لا تراه و لاتدركه و لاتجده و لا تملكه ، لأنه لو كان ثمة شيء لوجدته بالحق سبحانه وتعالى ، فإن العارف إذا تحقق بحقيقة كنت سمعه و بصره لا يخفى عليك شيء بانتفائه تنتفي أنت إذ هو أنموذجك ، و كيف يصح انتفاؤك و أنت موجود وأثر صفاتك غير مفقود ، ولايصح إثباته ، لأنك إن أثبته اتخذته صنما ، فضعفت بذلك مغنما و كيف يصح إثبات المفقود ، أم كيف يتفق عليما قادرا مريدا ، سميعا بصيرا متكلما ، لاتستطيع دفع شيء من هذه الحقائق عنك لكونه خلقك على صورته و حلاك بأوصافه و سماك باسمائه ، فهو الحي و أنت الحي ، وهو العليم و أنت العليم ، وهو المريد وأنت المريد ، وهو القادر و أنت القادر ، وهو السميع و أنت السميع ، وهو البصير و أنت البصير ، وهو المتكلم و أنت المتكلم ، وهو الذات و أنت الذات ، وهو الجامع و أنت الجامع ، وهو الموجودوأنت الموجود، فله الربوبية و لك الربوبية بحكم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وله القدم و لك القدم باعتبار أنك موجود في علمه ، ما فارقه مذ كان ، فانضاف إليك جميع ماله و انضاف إليه جميع مالك في هذا المشهد ، ثم تفرد بالكبرياء و العزة و انفردت بالذل و العجز ، وكما صحت النسبة بينك و بينه ) كتاب الإنسان الكامل ص14.
وهذه الحقيقة التي جعلته يسمى إنسانا مفردا هي في كل إنسان ، وتسطع هذه الحقيقة عند الإختبار في مسرح الإبتلاء ،في قدرة الإنسان على تحمل الضدين ، و تدبره في السير ، و اعتلال خطواته عند وقوع ميازيب القدر ، فتندثر إرادته لغلبة إرادة الله ، ففي ربيته تعز اللطيفة الإنسانية و في ضدتها تذل بسبب الهوى و الدنيا الشيطان.
استحقاق الخلافة ليس بالأمر الهين ، والعدل في تقسيم الأرزاق المعنوية و الحسية و تدابيرها ، تجعل الحليم حيرانا. و لغلبة النظر النوراني على أهل الله كان السر و الذوق والنور ، مبدأ الري.
يأتي الكشف من بعده مكلما لما في القلب من اليقين. وإن كان في مراتبه كلها معرفة نسبية ، وحال طارئ بحسب بعض أهل الله ، لكن يظل العلم النور والولاية.
وللارتباط النسبة بين العبد و ربه ، كانت إنسانيته سؤالا كبيرا ، لم كان محور الكون ؟ وهل الدنيا سخرت من أجل الأنموذج الألهي الكامل ، لتفنى بفناء العالم الكبير الإنسان ؟ في هذا تجد عدة إجابات ، منها ماهو سر من أسرار الله ، ومنها ما يبثه أهل الله أمثال ابن عربي رضي الله عنه ، خوفا من هتك أستار الربوبية بحياء و تستر و أيماء.
والغريب في الأمر ، أنك أن قرأت كتاب الفتوحات المكية وجدت الإشارات البليغة كانت سببا في نهي التيار السلفي بل و أحيانا العلمي بعدم قراءة كتب ابن عربي رضي الله عنه للفلسفة المحشوة فيها ، و إن كانت دسا.وممن كتب في ابن عربي رضي الله عنه تجد في خبايا التحليل نوعا من الفوضى ، لا يعرف القارئ كيف يرتب أفكار الولي الكريم ، لكنه سرعان ما يخيب رجاؤه في فهم خبايا الفكر أو المدد الأكبري أن لم يكن ذو تجربة في الذكر و المنازلة.
ويكاد آخرون أن ابن عربي رضي الله عنه لا يفرق بين السكر و الفناء و البقاء و الغيبة لسكره الدائم ، لذلك لغز أحيانا بأبيات من الشعر كانت سببا في تكفيره لما في ألفاظها من الكفر الصريح.ففي معنى الإنسان الفرد المنسوب كرما و لطفا إلى الحضرة الإلهية : ( .....و اعلم أن هذه الحقيقة التي جعلته يسمى إنسانا مفردا هي في كل إنسان ، ولما كانت في آدم أتم لأنه كان و لامثل له ، ثم بعد ذلك انتشأت منه الأمثال فخرجت على صورته ، كما انتشأ هو من العالم ومن الأسماء الإلهية فخرج على صورة العالم وصورة الحق فوقع الأشتراك بين الأناسي في أشياء و انفرد كل شخص بأمر يمتاز به عن غيره كما هو العالم ،فبما ينفرد به الإنسان يسمى الإنسان المفرد ، وبما يشترك به يسمى الإنسان الكبير ، و لما كان آدم أبا البشر كانت منه رقيقة إلى كل إنسان و نسبة ، ولما كا ن هو العالم ومن الحق بمنزلة بنيه منه كانت فيه رقيقة ممن كل صورة في العالم تمتد إليه لتحفظ عليه صورته و رقيقة من كل اسم إلهي تمتد إليه لتحفظ عليه مرتبته و خلافته ، فهو يتنوع في حالاته تنوع الأسماء الإلهية ، ويتقلب في أكوانه تقلب العالم ، وهو صغير الحجم لطيف الجرم سريع الحركة ، فإذا تحرك حرك جميع العالم ، و استدعى بتلك الحركة توجه الأسماء الإلهية عليه لترى ما أراد بتلك الحركة فتفضي في ذلك بحسب حقائقها....) ص 437، 438 من كتاب الفتوحات م/2.
ولضرورة التجديد التربوي في حياة الأمة ، قد لا تثمر مثل هته القراءات في كتب ابن عربي رضي الله عنه ، لكنها قد تجدد مفاهيما خاصة لمن أراد و بأسلوب بسيط و ميسر ، قيمة الإنسان .
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتابه محنة العقل المسلم ، فقرة ياأيها الأنسان : ( يا أيها الإنسان !
الدين شرعة ومنهاج. الشرعة ما جاء به القرآن، والمنهاج ما جاءت به السنة كما قال حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. الشرعة خاطبت الإنسان، والمنهاج حقق النموذج الإنساني.
"المنهاج" هو اللفظة القرآنية لا المنهج.
المنهاج التطبيقي العملي المفصل المنظم المتدرج. فما كانت تربية النبي الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه خبط عشواء.
أول ما بدأ به الوحي وبدأت به التربية ترسيخ وحدانية الخالق جل وعلا وترسيخ حقيقة البعث والنشور والجزاء والجنة والنار.
خاطب القرآن الكريم الأميين المستجيبين للداعي خطابا قويا في هذا الأمر. خاطب الإنسان من حيث إنسانيته، خاطبه من حيث فطرته ومخلوقيته. ولا يزال يخاطبه. الفرق بين الأميين الأولين وبين الناس أجمعين إلى يوم القيامة يتمثل في كون أولئك كانوا عارين أو شبه عارين عن العوائق الخارجية الحضارية التي تشوش على السمع، بينما الإنسان في عصر كعصرنا مكتظ الآفاق الحسية والعقلية بطفيليات صنعه وفلسفته وشغله وثروته وغناه وبؤسه وفاقته التي يلهبها منظر المترفين وآلة ترفهم.
والمنهاج صالح لا يزال متى توفرت في الدعاة مؤهلات التربية والتعليم، يبلغون عن الرسول، ويحذون حذو عمله الشريف.
خاطب القرآن المكي مدى ثلاث عشرة سنة الإنسان خطابا قويا بليغا. قال له من بين ما قال : ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يحور. بلى. إن ربه كان به بصيرا﴾ (سورة الإنشقاق، الآيات : 6-15).
وحذره من الاغترار بالدنيا ونسيان مخلوقيته. فتح له بذلك بابا للاطلاع على سر وجوده ومآله بعد الموت. ﴿يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك، فسواك، فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك. كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراما كاتبين. يعلمون ما تفعلون. إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم. يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين. وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدراك ما يوم الدين. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله﴾ (سورة الإنفطار، الآيات : 6-19).
وخاطب الإنسان في سربه الإنساني خطابا جماعيا فقال : ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم. إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد﴾ (سورة الحج، الآيتان : 1-2).
وحذر الإنسان المنغمس مع بني جنسه في ملهاة الدنيا ناسيا آخرته : ﴿يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ (سورة فاطر، الآية : 5).
آيات قوية تحرك الإنسان ليستيقظ من غفلته، ولينزح عن السلوك العبثي اللاهي، وعن التظالم والتقاتل بالباطل، و عن العدوان على حقوق الغير.
﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير﴾ (سورة الحجرات، الآية : 13).
مثل هذه الآية ترسم لذلك الأمي ولهذا الإنسان في كل زمان ومكان المسار الأمثل الذي يخطو به من مخلوقيته ومقهوريته إلى تتويج وجوده باختيار العمل الصالح الذي ينال به الكرامة عند الله في الدار الآخرة.
ذكر وأنثى ما اختار أحد جنسه، ولا استشاره أحد متى وأين وكيف يبرز من العدم إلى الوجود. شعوب وقبائل، ألوان ولغات وتاريخ. وجد الإنسان نفسه مظروفا مذهوبا به.
وله الاختيار في أن يسخر ما منح من قدرات لفعل الخير، والتعارف مع الأقوام والشعوب، وإسداء المعروف. وشكر نعمة الإيمان بتبليغ الشعوب والقبائل رحمة الإسلام وبشارة أن الإنسان ما خلق عبثا. ) كتاب محنة العقل المسلم .
و ينبه رحمه الله في كتاب آخر في الأسلام و القومية العلمانية ، حول حسن الصحبة قائلا إن مما جُبل عليه البشر أن يجدوا هويتهم في البيئة الجغرافية التي فتحوا أعينهم عليها وفي الإلف الأسري، والشمل العشائري، أو القومية التي تقوم مقام العشيرة في المجتمعات المتطورة التي اندمجت وتوارت منها المعالم القبلية. هذا الانتماء الجبلِّي العاطفي العام في البشر قد يبقى عفويا، وقد تلتقطه الحزبية السياسية، فتستثمره وتوجهه وتستنبت منه عصبية خاصة طلائعية، تحافظ على ماض ومجد ضاع، أو تستأنف مطالبة لهدف مرجو، رجعية أو تقدمية، محافظة أو ثورية.
بالانتماء العفوي يتعرف الفرد إلى نفسه، وتتعرف الجماعة إلى نفسها بالتقابل النسبي مع هوية أخرى، مع نفس أخرى، مع قوم آخرين. هذه أسرتي تميزني عن الأسر، هذا وطني بين الأوطان، هذه قوميتي. وبالانتماء الحزبي، ذي التكتل المنظم، والإديولوجية إن كانت، يتعرف الفرد على طموحه المستقبلي، وعلى ماضي مجده، ويتعرف الحزب على ساحة الصراع وما فيها من أضداد. كل ذلك لا يرفع قيمة الإنسان وقيمة المجتمع، عفويا كان أم منظما موجها، أعلى من النسبية بين البشر في التنافس الاقتصادي والسياسي،والوجاهة الاجتماعية والرئاسة والسلطة، وأقصى ما يبلغه هذا الانتماء الطموح إلى الهيمنة على مصير البشرية، والاستعلاء على الجميع. ألمانيا فوق الجميع، هذا كان شعار القومية النازية.
نحن مستقبلا بحول الله بصدد إعادة تنظيم الجماعة نواة الأمة، وإعادة تركيب المجتمع المسلم على قواعد الولاية الجهادية والولاية الإيمانية، والنسبة لله عز وجل . نحن إن شاء الله بصدد إعادة النظم الفتيت لعقد الأمة، ومعنا النموذج الأول، ومعنا كتاب الله عز وجل، وأمامنا القومية الناشئة لا تزال، والناشئ أصلب عودا من الشائخ. أمامنا النداء القومي المتأجج عاطفة وحماسا، حوله يلتم القومي القومي، والقومي الماركسي، والماركسي القومي. والرهان بيننا جبلية الانتماء، والشراكة في نفس الماضي العربي فيما يخص القومية العربية، ذلك الماضي المتألق الذي ننتمي إليه وينتمون، كل من وجهته وحسب تفسيره. والإشكالية التي تنتظر الجواب والحل هي : كيف نجلب جماهير الأمة، المختلفة القوميات، العفوية منها والمنظرة المنظمة، من أحضان الانتماءات النسبية، ليسمعوا نداء الإسلام، ويرتفعوا إلى الانتماء المطلق الذي تدل عليه كلمة : "مسلم" ؟
لقب "مسلم" يضعك مباشرة في مدار آخر غير مدار القومية. أنت مسلم لله. أسلمت له. تنتسب له بالعبودية، وهذا لا يقتلعك طبعا من الانتماءات الأخرى الجبلية والضرورية، إنما يحررك من عبوديتها المعنوية، ويملي إسلامك لله عليها حدودها ووظيفتها .
الجواب على الإشكالية نلتمسه في التربية. لا يطرح في التحزبات السياسية أي مشكل أخلاقي تربوي عقدي كما يطرح في التحزب لله عز وجل. الناس هناك تقتنع بفكر، وتتعهد بانضباط ثوري مهدد، ثم الممارسة وجدليتها .
في التجميع الإسلامي لا تكفي العقيدة والنظرية، لابد من تربية أهم أهدافها وأسبقه رفع همة المؤمن من النسبي إلى المطلق. والأرضية الاجتماعية في غالبية الجماهير طبقات متراكمة على مر التاريخ من عفويات، وفي الطبقة المتعلمة ركام ثقافي فكري العنصر الغالب فيه الوطنية والقومية والأصالة والتحديث والتنمية .
تتضاعف الصعوبة أمامنا من كون التكتلات النسبية ذات الأهداف السياسية والطبقية المحدودة لها فاعلية وتأثير في الواقع، فمن يصحبنا على درب الجهاد لا ينبغي أن تفصله النسبة لله عز وجل المترتبة على التقوى والعمل الصالح عن واجبات الفاعلية والتأثير والصراع اليومي الدائم. وإلا انحذفت الحركة الإسلامية في الأجواء العليا، وفقدت مواقع أقدام على الأرض. كيف الجمع ؟ كيف يكون إسلامنا لله رافعا معنويا ومؤثرا عمليا معا ؟
شبيه موقفنا بموقف البعثة النبوية من كون المجتمع المراد تغييره أرضي الانتماء في الجملة. عبارة "في الجملة" هذه تستثني شرائح اجتماعية واسعة هي على إسلاميها الموروث الفردي غير المؤثر، وعبارة "أرضي الانتماء" نتحاشى بها استعمال كلمة "جاهلي الانتماء" لما في إطلاق اسم الجاهلية على المسلمين، ولو كان الفسق سائدا والردة فاشية والحكم جاهليا، من فتح خطير لذرائع الفتنة .
لهذا الشبه، ولوحدة الهدف، لا يصح أمر التجديد الإسلامي إلا بما صلح به أمر التأسيس الإسلامي. وحسن الصحبة مفتاح الموقف اليوم وغدا كما كان في العهد الأول. حسن الصحبة يعني حسن التربية، يعني أولويتها، يعني أخذ الفرد بالإحسان، واكتنافه بالصحبة، ورفعه مع الجماعة، وصونه في محضنها، وإشراكه في حيويتها الإيمانية، وأخذه عاطفيا وعمليا، وقلبيا وعقليا. في السفر الجماعي من أرضية الانتماء إلى سماويته، من قطرية القومية ومحليتها إلى عالمية الإسلام .
إن القومية، عربية أو عجمية، رباط جديد مصطنع مستورد في بلاد المسلمين. إنه في نظر قادة القومية العلمانيين بديل عن كل دين، بديل عقلاني مصلحي أرضي انفعالي عنيف. تكتسب القومية خصائصها العقلانية المصلحية الأرضية من الإديولوجية القومية المتبناة المستوردة، وتكتسب العضلات والعنف من الانفعالية الموروثة، ومن المواقف السياسية القومية التي سلحت أمس العربي ضد التركي، والبنغالي ضد البنجابي، وتسلح اليوم بشكل أفظع وألعن العربي ضد الإيراني.
أيكفي أن نرفع شعار الإسلام والسلام والأخوة وحسن الصحبة في وجه المارد القومي الفاتك ؟ هل نجد فسحة السنوات الثلاث عشرة التي خصصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه الكرام لا يحملون طيلتها أعباء المقاومة والقتال ؟ هل تتركنا تهويشات الصراع الداخلي والخارجي وتشويهاته لنتفرغ ريثما نعقد عهد حسن الصحبة ونربط العلاقات الإيمانية الإسلامية ؟
على محك الكيف العملي، على معيار الممارسة، توضع مبادئنا كلها، ومنها حسن الصحبة فيما بين أعضاء الكيان الإسلامي الزاحف. لا يكتمل عملنا إلا إذا أحسنَّا أيضا، وفي نفس الوقت، وعلى مدى مراحل التغيير الإسلامي، صحبة الدعوات المضادة والمنافسة، المسالمة والمقاتلة. نقابل كلا منها بما يليق، بما شرع الله عز وجل لا بما يستفزه من كوامن انفعالاتنا عنف الآخرين. ولسنا بمستطيعين اختيار الظروف التي نواجه فيها الواقع ونقتحم فيها العقبة، ولا بقادرين على إيقاف عجلة الأحداث وتكييف سردها، ولا بناجحين إن ظننا أن الكائن الإسلامي يفيد يوما ويؤثر إن بدأنا برعايته وتأليفه في ظل الخفاء والأمن الكاذب الخطير في أحضان السرية. كل كيان عضوي لا يصبر على شراسة الصراع سيفنى لرخاوته. كلمة حكمة، لا علينا إن استغلها بالباطل أصحاب نظرية "النشوء والارتقاء".
لنترك الآن، إلى رجعات إن شاء الله، شأن التربية وكيف تتزاوج مع المقاومة. إن هذا التزاوج من أهم ما يتوقف عليه الفوز بثمرات النصر في الدنيا والكرامة في الآخرة.
ولنذكر العناصر الاجتماعية الإيمانية الأخلاقية التي يتألف من مجموعها النسيج الإنساني لمحضن التربية، والجو المعنوي الذي يستنشق فيه، والعلاقات الرافعة إلى النسبة العليا منه.
كنت كتبت في "المنهاج النبوي" تصنيف شعب الإيمان البضع والسبعين في فئات عشرة أولها وفاتحتها خصلة"الصحبة والجماعة" أي وجود المحضن التربوي الرافع ووظيفته. وأذكر بالأثر الذي ورد فيه قول الله تعالى : "فاليوم أرفع نسبي وأضَع نسبكم"، ليفهم ما أقصد بعبارات "المحضن التربوي الرافع".
على مدى إحدى عشرة مرحلة يتخلق المؤمن ويتقي ربه ويتكرم ويرتفع إلى النسب الأعلى . يكون حب الله و رسوله أول ما يلوح لبادرته عند لقاء حزب الله، يرى ذلك سلوكا كاملا. إن كانت الجماعة كاملة. وهذا أفق يطمح إليه، ولا كمال إلا لله عز وجل . ثم يتعلم عمليا محبة إخوانه في الله سبحانه وتعالى، يخرج تدريجيا من الانتماء الجبلي الآسر إلى هذا الانتماء الأخوي. ثم يقرن هذه العاطفة الأخوية الوليدة بالصحبة العملية لإخوته، بمعايشتهم وإكرامهم ومشاركاتهم. ثم يرتفع عاطفيا بواسطة محبة الإخوة وصحبتهم وعلى مثالهم إلى التعلق والتأسي بالنموذج الكامل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتخلق بأخلاقه العليا الجامعة بين عظائم الأمور وبين الممارسة اليومية المتواضعة مثل حياة الأسرة. ثم يتعلم المؤمن الأهمية القصوى ويطبق واجب الإحسان إلى الوالدين. وإنها لمن عويصات التربية عندما تتعارض واجبات المؤمن المتحزب لله سبحانه الحركية مع رغبات الوالدين. لا يريد الله عز وجل للمؤمن، مهما كانت الظروف، إلا الإحسان للوالدين والأقربين بالمعروف. لا يريد أن نقطع الانتماء الجبلي، بل نستقيه ونبني عليه ونأمل فيه الخير. ثم يستقر المؤمن في حضن التربية في بيته مع زوجه بآداب فوق آداب الألفية الجبلية، نحافظ على تلك الألفة ونصعدها. ثم يتعلم المؤمن الإحسان إلى الجار، والإحسان باب مفتوح. بل هو فتح ومفتاح للدعوة ولتوسيع دائرة الانتماء، وجذب الأمة إلى النسبة العليا الأقرب فالأقرب. وإكرام الضيف الوارد عليك، والذي ترد أنت عليه للدعوة وسيلة أخرى رافعة. ثم يكتسب المؤمن وسط الجماعة وتكتسب الجماعة بنشاط أفرادها، الفضيلة الخلقية و السياسية بالقدرة على رعاية حقوق المسلمين والدفاع عنها، وبإصلاح ما أفسدته ذات البين الاجتماعي وما أفسده الظلم السياسي. ومن هنا نرى أن التربية تدخل من الأبواب القاعدية لمجال الصراع، ومجال الوقوف مع المستضعفين. وتتم الملامح الخلقية التأهيلية للتربية المجاهدة باكتساب المؤمن صفة البر وحسن الخلق و هي جماع الخير، ومعقد الفاعلية الجهادية،و الوجه الباسم المحبب الجذاب للدعوة. و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين) كتاب الأسلام و القومية العلمانية.
مابين النسبة إلى الله وتعالى ومعرفته ، وبين الثقافة الإنسانية بون شاسع ، لا يعالجها إلا فعل التربية.
نسأل الله التوفيق.
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
دراسات في التصوف، في الذوق و السكر: عمرالحسني رسائل ووصايا في التزكية 0 07-09-2011 02:17 PM
1.دراسات في التصوف : في الختم و الكتم عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 03:10 PM
دراسات في التصوف ، في المعرفة : عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 03:04 PM
دراسات في التصوف: 1.الأنسان و الغيب عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 02:59 PM
دراسات في التصوف عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 02:57 AM


الساعة الآن 02:43 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir