أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ           
العودة   منتدى الإحسان > التراث والتاريخ > ركن التاريخ

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 08-07-2009
  #1
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

الاسلام والاستعمار والهوية في دول ساحل الصحراء

الكاتب : د. محمد عاشور
د. محمد عاشور*
مقدمة:
إن الصراع بين الخير والشر سنة من سنن الكون. وليس أدل على ذلك من تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بداية دعوته لصنوف العذاب وألوانها. وصبره هو وأصحابه على أعدائهم من المشركين واليهود حتى أيده الله بنصره، قال عز من قائل في محكم كتابه "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"(البقرة-120) ويقول سبحانه وتعالى "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" (البقرة -217).
وفي خضم هذا التدافع والصراع يلعب العامل الديني دوراً جوهريا في إعلاء هذه القيمة أو تلك حسب قدرته على التأثير في النفوس وتهذيبها.
فالدين هو الذي يجمع شتات النفوس ويوجد طاقاتها فتنطلق تعمل في واقع الأرض مشيدة ومعمرة، تصلح وتقيم الحق والعدل وتقوم بدور الخلافة الراشدة عن الله في أرضه مصداقا لقوله تعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"(البقرة-30).
وهي الخلافة القائمة على شروط ومتطلبات في مقدمتها طاعة الله والتوكل عليه والأخذ بالأسباب المؤدية إلى استحقاق الخلافة أو الاستخلاف في الأرض يقول تعالى "وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا"(النور-55).
والحق أن مطالعة التاريخ الإسلامي تكشف بجلاء عن تلك السنن الإلهية حيث ارتقى المسلمون ذورة سنام الركب الحضاري حينما امتلكوا ناصية الأسباب التى عرفهم أياها دينهم الحنيف بأبعادها المختلفة الدينية والدنيوية.ويكشف التاريخ كذلك كيف تراجع مسلمون وتوارى دورهم الحضاري. فإذا هم أشبه "بالقصعة" التي تتداعى عليها الأمم تقتطع منها ما تشاء، وكيف تشاء، فإذا بالجسد الإسلامي يتداعى، وإذا بالهوية الإسلامية تواجه بتحديات حضارية عاصفة تهدد المسلمين بالذوبان فيها وفقدان الهوية الإسلامية.
ومن الطبيعي أن تكون أطراف العالم الإسلامي هي الأكثر تعرضاً لمواجهات طمس الهوية وموجات النيل من الإسلام والمسلمين استناداً إلي حقيقة المشكلات والتحديات التي تواجهها هذه المناطق على الأصعدة (الاجتماعية ،السياسية، الاقتصادية ..الخ)المختلفة، الأمر الذي أٍسفر في مراحل تاريخية إلى فقدان معظم مناطق العالم الإسلامي سيادتها لصالح قوى استعمارية أكبر تقدما في المضمار المادي وهو ما أثر بدوره على الهوية الحضارية الإسلامية لهذه البلدان حتى بعد رحيل الاستعمار في ظل استمرار واقع الوهن والضعف الذي غرسته ممارسات هذه المرحلة.
في ضوء ما سبق تأتي أهمية هذا البحث الذي يعنى بدراسة "تاريخ المسلمين في أفريقيا ومشكلاتهم" مع التركيز على دول الساحل.
ويقصد بدول الساحل البلدان المتشابهة في الظروف الجغرافية في منطقة غرب أفريقيا. والتي تفصلها الصحراء في الشمال عن غرب أفريقيا الاستوائية، ويمتد نطاق دول الساحل من المحيط الأطلنطي غربا، ماراً بشمال السنغال وجنوب موريتانيا(عبر نهر النيجر) وبوركينافاسو، وجنوب النيجر ، وشمال شرق نيجيريا، حتى جنوب ووسط تشاد، وبصفة عامة فسوف يتم التركيز أساساً على الدول الأربع الرئيسية في هذه المنطقة وهي (تشاد، النيجر، مالي، السنغال).
وترجع أهمية دول الساحل كنموذج وحالة دراسية لتاريخ المسلمين وواقعهم في أفريقيا إلي عدة اعتبارات :
- إن هذه المنطقة تمثل وتجسد في ازدهارها وانهيارها مسار التاريخ الإسلامي. حيث ازدهرت المنطقة إبان ازدهار الممالك الإسلامية وطرق التجارة عبرها. ومع تراجع الهوية والمد الإسلاميين بالمنطقة توارت أهمية هذه المنطقة مخلفة بقعة من أفقر بلدان العالم.
- أن البلدان الأربع المذكورة (تشاد،النيجر،مالي،السنغال) تمثل دول الجوار للدول العربية في شمال القارة الأفريقية ونقاط تماس أساسية مع المنطقة العربية التي تمثل رغم كافة الادعاءات قلب العالم الإسلامي ومستودع تراثه وتاريخه . وبالتالي فإن محاولات جذب دول الساحل وإبعادها عن التأثير العربي الإسلامي وغرس العداءات بين الجانيين يمكن أن يؤثر بدوره على النفوذ الإسلامي إلي قلب القارة الأفريقية. عبر الجسر الممثل في بلدان الصحراء.
- الاعتبار والدافع الثالث للاهتمام بدول الساحل والتركيز عليها ينبع من الكثافة العددية في هذه البلدان والتي تبلغ أكثر من 90% من تعداد سكان المنطقة. وما يتعرض له هؤلاء المسلمون من محاولات تغريب وفصل من جانب قوى مناوئة للمد الإسلامي والهوية الإسلامية للمنطقة.
- في ضوء هذه الاعتبارات وغيرها. ورغبة في الدراسة المركزة جاءت أهمية التركيز على دراسة المنطقة موضع الدراسة على أن ذلك لا ينفي حقيقة أن البحث في تاريخ المسلمين في البلدان الأفريقية المذكورة ومشكلاتهم لا ينفصل بحال عن التاريخ العام للمسلمين في القارة ككل ومشكلاتهم على نحو ما سيرد البيان.
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #2
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

تقسيم الموضوع:
سعياً لتناول الموضوع ودراسته، سيتم التقسيم على عدة أجزاء، بحيث يتم تناول تاريخ المسلمين في غرب أفريقيا ودول الساحل منذ دخول الإسلام وحتى رحيل الاستعمار. مع التركيز بالأساس على الأبعاد الحضارية للمرحلتين من خلال تناول أسباب انتشار المسلمين في هذه المنطقة وآثاره. دونما إغراق في الأحداث التاريخية والسرد. وكذلك الحال في تناول المرحلة الاستعمارية حيث تم استعراض دوافع الاستعمار ومراحله وأثاره مع إبراز دور المسلمين في كفاح الاستعمار.
الجزء الأول
"عوامل انتشار الإسلام في غرب أفريقيا.. ودول الساحل الإفريقي"
إذا كان تاريخ الإسلام الطويل في القارة الأفريقية قد حفل بحركات الفتح والتوسع والجهاد، فإن أثر هذه الحركات في نشر الإسلام فيها كان ضئيلاً[1] فالإسلام لم ينتشر على نحو واسع في أفريقيا إلا بعد تمام هذه الحركات بعدة قرون. بل من الغريب أن هذا الانتشار قد أتى في ظل الاستعمار الأوروبي للقارة، ففي ظله قطع الإسلام أشواطا كبيرة نحو الذيوع والانتشار بوسائل وطرق سلمية ومن ثم لم يكن غريبا أن يقرر بعض دارسي هذا التاريخ. "إن انتشار دعوة الإسلام بأفريقية لم تقم على القسر، وإنما قامت على الإقناع الذي كان يقوم به دعاة متفرقون لا يملكون حولا وطولا إلا إيمانهم العميق بدينهم، وكثيراً ما أنتشر الإسلام بالتسرب السلمي البطئ من قوم إلى قوم، فكان إذا ما اعتنقته الارستقراطية، وهي هدف الدعاة الأول – تبعتها بقية القبيلة[2]. وقد يسر انتشار الإسلام أمر آخر هو أنه دين فطرة بطبيعته لا لبس فيه ولا تعقيد في مبادئه، كما أن وسائل الانتساب إليه من السهولة بمكان ، إذ لا يطلب من الشخص لإعلان إسلامه سوى النطق بالشهادتين حتى يصبح في عداد المسلمين.. وقد حبب الإسلام إلى الأفريقيين مظاهره الجميلة البعيدة عن التكلف، وما يضيفه على المسلم إسلامه من وقار ومكانة مرموقة."[3]
أولا العوامل الشخصية:
ونعنى بالعوامل الشخصية في هذا السياق ما كان يتصف به المسلمون أفراداً وجماعات من مميزات وسمات كانت بمثابة عوامل جذب للأفارقة نحو اعتناقه الإسلام.
والحق أن أفراد المسلمين – وجماعاتهم- قد لعبوا دوراً عظيماً في نشر الإسلام في أفريقيا ذلك أن خلو الدعوة الإسلامية من طبقة كهنوتية تقوم على نشر العقيدة، ضاعف من مسئولية الفرد المسلم العادي في هذا الصدد، فعليه وحده يقع عبء نشر هذه العقيدة سواء أكان عالم دين أو تاجراً أو غير ذلك. وكذا كان أعظم نشاط قام به الأفراد في ميدان الدعوة هو ذلك الدور الذي قام به أفراد تلقوا حظا من التعليم الديني - والذين تعلم أكثرهم في مدارس الغرب أو في الأزهر الشريف – والذين كانوا يحظون بنصب كبير من الاحترام في المجتمعات التي يعيشون فيها، حيث قاموا بإنشاء المدارس لتعليم الأطفال – المسلمين والوثنيين على السواء- أمور الدين وتحفيظهم القرآن الكريم فإنه مما ساعد على نشر الإسلام في هذه المجتمعات كذلك ما كان يتحلى به المسلمون من تفوق فكري وخلقى جعلهم نماذج يقتدى بها من ناحية الثقافة ومن ناحية الأخلاق، بحيث أضحى اعتناق الإسلام مفخرة، كما أضحى التزاما بالنظافة والصدق والأمانة وغيرها من الصفات التي يحتم الإسلام على متبعيه أن يتحلوا بها[4].
وواقع الأمر أنه في مجال هذه الجهود الفردية لنشر العقيدة الإسلامية لعب التجار المسلمون دوراً كبيراً إن لم يكن هو الدور الأكبر إذ كانت الطرق التجارية المواصلة بين المراكز الإسلامية في شمال القارة والبلاد الواقعة فيما وراء الصحراء هي المسالك الحقيقة التي تسرب عبرها الإسلام إلى قلب أفريقية، وقد انتشر الإسلام دائما على طول هذه الطرق التجارية. فالإسلام والتجارة – كما يرى دارسو هذا التاريخ – يرتبطان إلى حد كبير بطرق التجارة المواصلة بين بلاد المغرب وبلاد السودان عبر الصحراء الكبرى، وعلى طول ساحل المحيط الأطلسي ، والتي قامت أي طرق التجارة هذه- بدور جليل الشأن في نشر الإسلام في بلاد السنغال وأعالي النيجر ومنطقة بحيرة تشاد وغيرها[5] وهي ما تعرف بدول الساحل الأفريقي.
أما في غرب أفريقيا على وجه الخصوص فقد كان لتجار الفولاني والهوسا والتكرور الدور الأكبر في انتشارالإسلام فهؤلاء التجار كان ينزلون الأسواق والمراكز التجارية الكبرى، وكانوا- من ثم- يحتكون بالزنوج عن طريق التجارة، ويؤثرون فيهم بسماتهم الشخصية من نظافة وصدق وأمانة، وغالبا ما كان هذا الاحتكاك ينتهي بدخول كثير من هؤلاء الزنوج إلى الإسلام. ولذا فقد كاد الإسلام أن يتركز في المراكز التجارية الهامة وفي المدن الكبرى. ولا يفوتنا في هذا السياق أن نذكر أن بعضاً من هؤلاء التجار المسلمين كان يجمع بين التجارة وعلوم الدين؛ فإذا استقر بهم المقام أنشأوا مدارس لتعليم القرآن أو أنشأوا مسجداً يمارسون فيه صلاتهم ويعلمون الناس أمور العقيدة، دون أن يمنعهم هذا من مزاولة تجارتهم.
فيرى الناس الصدق على مستوى القول، والفعل معا فيزدادون بهم إعجابا وينخرطون في الإسلام[6] ليس هذا فحسب بل أن الداعية المسلم- تاجرا كان أ عالم دين أو مزيجا منهما- كان له سمت يدعو إلى الإعجاب ويجذب إليه الناس، فملابسه فضفاضة نظيفة ، وأخلاقه سامية مستقيمة، وشخصيته مؤثرة جذابة، فيه كرم وإيثار، يباشر دعوته مع تجار يزاولها، أو يتفرغ أحيانا للدعوة والتعليم[7]، فإن كان تاجرا كان الصدق دينه والأمانة دستوره، وإن كان معلماً جمع حوله مجموعة من الأطفال والشباب الذين سرعان ما يظهر امتيازهم وتفوقهم على قرنائهم ممن لا يتبعونه، الأمر الذي يجذب إلى حلقته نفراً جديداً كل يوم. وإذا كان الداعية من رجال الطرق الصوفية – كما سنرى فيما بعد- فإنه يجذب الناس حوله بما عرف عن رجال التصوف من وسائل تجعل الناس يتهافتون عليهم ويتخذونهم ملاذاً في ساعات الضيق والعسرة"[8].
ولعل هذا ما دفع بعض الكتاب الغربيين إلى أن يقرر "أن هؤلاء المعلمين الدينيين يحظون بأوفى نصيب من الإجلال وفي بعض قبائل أفريقية الغربية تضم كل قرية داراً لاستقبالهم ويعاملون بأعظم مظاهر الاحترام والتقدير ففي دارفور يحتلون أعظم مكانة بعد هؤلاء الذين يشغلون أكبر مناصب الحكومة كما يحتلون بين "الماندنجو"مكانة أعظم شأناً، وينالون احتراماً يلي احترام الملك ولذا يعتبر الرؤساء أقل منهم هيبة. وفي الدول التي اتخذ فيها القرآن أساسا للحكم في كل المسائل الدينية، تحتاج الدولة لخدماتهم احتياجا شديداً لكي يفسروا معاني القرآن. وقد بلغ من إجلال الناس لأشخاص هؤلاء المعلمين أنه لا يتعرض لهم أحد حين يجوسون خلال إمارات يعادي بعضها بعضاً. ويبجلهم الناس مثل هذا التبجيل، لا في البلاد الإسلامية وحدها، بل في القرى الوثنية، والتي يؤسسون فيها مدارسهم، حيث يحترمهم الناس باعتبارهم معلمي أبنائهم، ويعتبرونهم واسطة بينهم وبين الله، سواء في الحصول على حاجاتهم أو في درء المصائب عنهم"[9].
ولقد أدى وقوع أفريقيا في قبضة الاستعمار الأوروبي منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى زيادة نشاط هؤلاء التجار وبالتالي إلى ازدياد الإسلام سعة في الانتشار. إذ فتحت أمام هؤلاء التجار ميادين جديدة للعمل، فاستطاعوا في ظل الاستعمار وما أتى به من منتجات علمية وأسلحة حديثة ووسائل مواصلات أكثر سرعة وكفاءة اختراق مناطق الغابات، والتوغل مسافات بعيدة بعد إنشاء الطرق والسكك الحديدية. وهكذا أصبحت المدن الكبرى من مصب نهر السنغال حتى مدينة لاجوس بنيجيريا تضم جاليات إسلامية كبيرة العدد، إما من المهاجرين أو ممن أسلموا على يد المسلمين.
ثانياً: الهجرات:
لعبت تحركات القبائل وهجراتها دوراً عظيماً في نشر الإسلام في أفريقيا[10]،ولعل أهم هذه الهجرات شأنا هجرات القبائل العربية التي دخلت مصر في أعقاب الفتح العربي لها، واستقرت في وادي النيل، ثم دخلت المغرب في أعقاب الفتح العربي،وبلغت في تحركها غرباً ساحل المحيط الأطلسي. وقد ساهمت هذه القبائل منذ اختلطت بشعوب البلاد التي هاجرت إليها ،ولاسيما منذ القرن الثالث الهجري ، في نشر اللغة العربية والدم العربي والدين الإسلامي في هذه المناطق[11].
ولقد كان طبيعيا ألا تحول الصحراء الكبرى بين الحياة الجديدة في شمال القارة بعد دخول الإسلام وبين بدائية الحياة في الجنوب. فالعرب المسلمون الذين ماجت بهم أقاليم الشمال لهم صلة وثيقة بالصحراء والجفاف، ومن ثم لم يكن بدعا أن يقتحموا الصحراء الكبرى، وألا يقنعوا بما قنع الرومان من قبل، حين نزلوا الشمال وأداروا ظهورهم لما في جنوب الصحراء الكبرى. ومن هنا يمكن أن نتخيل قوافل التجارة ووفود الرحالة وجماعات الدعاة في سلاسل لم تتوقف، تروح وتجئ بين الشمال والجنوب عبر الصحراء[12].
ولقد كانت الصلة الوثيقة للغاية بين بلاد المغرب وبين أفريقيا الغربية، وكان المحيط الأطلسي وطرق القوافل البرية تربط بين المنطقتين برباط وثيق مما ضمن قيام علاقات برية وبحرية لم تتوقف في أي عصر من العصور[13]. فلما جاء الإسلام إلى بلاد المغرب صار له صدى سريع في مناطق ساحل الصحراء الكبرى وهي المنطقة التي تشغلها الآن دول تشاد/ النيجر/ مالى / السنغال.
والحق أن الهجرات من الشمال إلى الجنوب كانت هي أهم عوامل انتشار الإسلام في هذه المنطقة من أفريقيا[14]. وكان قوام هذه الهجرات قبائل "البربر" سكان الشمال الذين تبنوا الإسلام منذ عهد مبكر، وعلى الرغم من أنهم كانوا يستوطنون الشمال، فإن الكثيرين منهم قد أخلوا مكانهم فيه للعرب الفاتحين، واندفعوا هم ناحية الجنوب، لاسيما حين جاءتهم غارات قبائل بنى هلال وبني سليم وحلفائهم في عهد المنتصر بالله الفاطمي في القرن الخامس الهجري ، هذه الغارات التي اندفع فيها الهلاليون وحلفاؤهم كالسيل يزحف على شمال أفريقيا، فاتجه مزيد من قبائل البربر نحو الجنوب واقتحموا أراض الزنوج حيث نزلوا بلاد السنغال ، ثم اتجهوا شرقاً إلى النيجر وبرنو وكانم. وقد كان طبيعيا أن يتأثر الزنوج بثقافة الوافدين الجدد في مقدمتها الدين ولاسيما وأن هؤلاء الوافدين كانوا من القوة مقارنة بالزنوج الأمر الذي جعل الآخرين يستسلمون لهم وينقادون لسلطانهم، ومن هنا نشرت هذه الهجرات البربرية دين الإسلام في بقاع واسعة من الساحل الغربي لأفريقيا جنوب الصحراء.
ولا ننسى أنه حدث اختلاط تدريجي بين الوافدين الجدد من قبائل البربر وبين الزنوج أصحاب البلاد الأصليين، كان من أهم دواعيه التزاوج/ وبمرور الوقت نشأ جيل جديد يغلب فيه الدم الزنجي من جانب، وثقافة البربر ودينهم الإسلام من جانب آخر[15].
ومن الهجرات الهامة التي كان لها شأن في نشر الإسلام في غرب أفريقيا هجرات الفولانيون، والتي يظن أنها هجرات بربرية، وإنهم انحدارا من منطقة "أدوار" شمال السنغال. واندفعوا إلى السودان الغربي بعد طرد المسلمين من الأندلس، ثم تسربوا إلي الحياة هناك يشتغلون بالرعي أو الزراعة أو التجارة، حتى قام المجاهد "عثمان بن فودي" بلم شملهم وتوحيدهم في القرن التاسع عشر، فكانوا عدته في جهاده ، واستطاع بفضلهم أن يؤسس سلطنة"سوكتو"[16]
كذلك فقد لعب التكرور دوراً مماثلاً في نشر الإسلام في غرب أفريقيا، فقد استطاعوا في عام 1776 أن ينشروا الإسلام في منطقة فوتاتور وأن يؤسسوا دولة استمرت حتى عام1884 [17].
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #3
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

ثالثاً: طبيعة الدين الإسلامي:
ونقصد بطبيعة الدين الإسلامي في هذا السياق ما اتسم به من سمات وما قام عليه من دعائم، جعلت منه قريبا من قلوب الأفارقة. هذا بالإضافة إلي موقفه من بعض القضايا التي تهم الأفارقة كقضية الرق وقضية الاستعمار وقضية التفرقة العنصرية.
وواقع الأمر بأنه باستثناء حالات قليلة فإن الإسلام لم يفرض على شعوب أفريقيا الوثنية فرضاً، ولم يحمله إليهم حكم استعماري أجنبي وإنما حمله قوم من أهل أفريقيا نفسها، وقوم اتخذوا صفة التجار والمعلمين أو في حالات قليلة صفة الحكام المجاهدين من أجل نشر الإسلام [18]، وعلى هذا لم يكن غريباً أن يلقى الإسلام قبولاً من الأفارقة إذ هو في نظرهم دين أفريقي غير دخيل.
والإسلام حين انتشر على هذا النحو لم يستعبد الشعوب التى دانت به، وإنما أشعرها بالعزة والكرامة، وقوى فيها النزعة إلى الحرية والاستقلال. أضف إلى هذا أنه لم يقض على النظم المحلية لهذه الشعوب، وإنما أكسبها شكلا جديدا تلاءمت بمقتضاه مع قيم الإسلام وتقاليده ولعل هذا هو ما دفع مراقباً إنجليزياً أن يقرر منذ ما يربو على المائة عام أنه "كيفما كانوا" وحيثما ذهبوا، فإن المبشرين المسلمين أظهروا رفقاً وتعاطفاً واحتراماً للعادات المسيحية والعصبيات المحلية.. الشئ الذي كان دون ريب أحد أسباب نجاحهم، والذي يحسن بمبشرينا ومعلمينا أن يقلدوه"[19] إن الموقف المتميز بالتسامح والاحترام للأعراف والعادات المحلية الذي استوقف كاتب هذه الفقرة كسبب أساسي للاستجابة العفوية الايجابية للإسلام من قبل الأفارقة، قد دعمه حقيقة أن فقهاء المسلمين يقرون – منذ قرون عدة- باعتبار العادات ويدخل فيها العرف وشرع من قبلنا) مصدرا للتشريع بجانب مصادره الأساسية وغير الأساسية الأخرى. وعلى هذا فإنه مما لاشك فيه أن كلا من الموقف المتميز بالتسامح من جانب، والقاعدة الشرعية آنفة الذكر من جانب آخر، قد أسهما في تطور ونماء الإسلام كديانة محلية أفريقية، وعززوا قدرته على المضي قدماً في طريقه نحو التوسع والانتشار في هذه القارة.
"فانتشار الإسلام إذن جاء- على حد تعبير ترمنجهام- نتيجة رحلات لم يكن نشر الدعوة هو مقصدها ، بل كانت التجارة هدفها وغاياتها، ولم يكن له مبشرون يسيرون في البلاد داعين الناس إليه، ومع ذلك فقد تغلغل بالمخالطة، إلى نفوس الأهالي والسكان من الوطنيين ، وأصبحنا نرى أمثلة من الورع الشديد والتقوى الزائدة التى لا تقوم إلا في نفس أشربت الدين في طفولتها عن أبوين هما أيضاً على درجة كبرى من التقوى والورع، وتكمن روعة الإسلام في أنه لم يتخذ وسيطاً إلى نفوس الأفارقة ولم يجعل لنفسه داعية إلى أفئدتهم، بل خاطبهم بنفسه: دين الفطرة خاطب أهل الفطرة ودخل قلوبهم واستولى على مشاعرهم، ولم يلجأ إلى التغيير بالعنف حتى لا ينفر الأهالي منه. فقد كان حكيماً في أن تعايش مع العادات والطقوس القديمة وأبقى على ما لا يضر منها بالجوهر والأساس في الدين ولا يغير من منحاه واتجاهه، وترك من يريد من الأفارقة يحتفظون بما يشاءون من عادات يمارسونها إرضاء لكيانهم وتركيب مجتمعاتهم القبلي"[20].
ففي المجتمعات الإسلامية في غرب وسط أفريقيا – على سبيل المثال – نجد التعاليم الإسلامية منسجمة مع التقاليد المحلية[21] ومن المعلوم أن الإسلام – بما هو دين خاتم نزل للناس كافة- يتلائم مع البيئات التي ينتشر فيها مهما اختلفت تقاليد سكانهم وعاداتهم، ويخلق في كل منها نظام حياة يتوافق مع تعاليمه من جانب ومع القيم السائدة –ما لم تكن مخالفة لمبادئه- من جانب آخر[22] . ومن ثم فقد رأت فيه الجماعات الأفريقية نظاماً سياسياً يناسب تقاليدها، فآمنت به لشد أزرها في نضالها من أجل الاستقلال والتخلص من حكم المستعمرين، أو للتفوق على جيرانها من الوثنيين.
علاوة على هذا فإن الإسلام لم يكن ديناً فحسب، وإنما كان ديناً ونمط حياة متآلفين غير متنافرين. فقد رآه الناس يدعو إلى الصدق والأمانة واحترام الكلمة وما شاكل ذلك، ورأوا التجار المسلمين وعلماء الدين المسلمين نموذجاً لهذه القيم والمبادئ يطيقونها في أقوالهم وفي أفعالهم. على عكس ما كان عليه الحال بين المسيحية كدين يدعوا إلى مثل هذه القيم ، والنزعة المادية للحضارة الغربية التي مثلها المستعمرون الأوروبيون الذين كانوا يزعمون قيام حضارتهم على هدى من مبادئ الدين المسيحي.
وكان أن ارتبط الإسلام بالعلم، فكان لهذا الارتباط أثر عظيم في حياة الزنوج . فالمرء منهم لا يكاد يسلم حتى يتعلم القراءة والكتابة، ويرتفع قدره اجتماعيا كلما زادت ثقافته . وفي كل مكان انتشر فيه الإسلام ظهرت الكتاتيب وأقبل الافريقيون عليها يتعلمون القراءة والكتابة. ومما تجدر الإشارة إليه أن الإسلام في نظامه التعليمي لا يجعل الهوة سحيقة بين المعلم وتلاميذه ، بل هو يوثق الصلة بينهما، على عكس الحال في النظام التعليمي الذي جلبه المستعمر الأوروبي المسيحي والذي يحول دون تقريب الفجوة بين المعلم ومن يتلقون العلم على يديه[23] . فعلماء الدين المسلمين –أو بالأحرى الدعاة – الذين يعملون على نشر الدين في بلاد كالبلاد الأفريقية التي تتسم نسيباً بانخفاض المستوى الثقافي . يمكن إعدادهم للقيام بعملهم بعد تدريب بسيط يحفظون خلاله بعض سور القرآن وبعض أصول الدين، ثم هم لا يختلفون عن أهل البلاد الأصليين الذين يتلقون العلم على أيديهم في شئ على حين نجد الكهنوت الغربي المسيحي بمراسيمه وتقاليده معقدا غاية التعقيد، وهو ما يتنافر مع طبيعة الأفارقة الساعية إلى البساطة، فقل أن نجد من بينهم الكهنة ورجال الدين الذين يقومون على أمر نشر المسيحية بين الناس.
أضف إلى ما تقدم أن الإسلام دين سهل واضح، ليس فيه أسرار أو طقوس معقدة، ولا يستدعي الأمر من المرء حتى يكون مسلماً إلا أن يقول الشهاديتن وبعدها يصبح مسلماً له من الحقوق وعليه من الالتزامات مثل ما لإخوانه المسلمين وعليهم بالضبط فصورة الإسلام بسيطة وواضحة، تنضح بالإيمان دون غموض أو أساطير. كذلك فإن صورة البساطة والتعاضد التي تقدمها العقيدة الإسلامية يؤكدها ويدعمها مظهر التماسك الاجتماعي والروحي للمجتمعات التي يشكلها المسلمون.
وعلى الجانب الآخر نجد المسيحية تقدم صورة للتعددية والانقسام في ظل العداء للكاثوليكية والبروتستانتية، الأمر الذي زاد – حين تتم المقارنة – من صورة الوحدة التي يقدمها الإسلام. أضف إلى هذا أن التعارض الجوهري بين الوحدانية التي يدعو إليها الإسلام. والتعددية الوثنية لم يصدم العقل الأفريقي، فحقيقة أن هناك إلها واحدا خالقا للكون وهي الحقيقة المعترف بها في معظم أنحاء أفريقيا- تزود الديانات التقليدية بفكرة عن الكائن الأسمى. وهو الاعتقاد الذي فتح الطريق لإمكانية تغلغل عقيدة التوحيد وانتشارها. وهكذا كان الإسلام دائما عنصراً من عناصر التوحيد وانتشارها .يقاوم عوامل الفرقة وله قيمته الايجابية في تقوية الشعور بالجماعة والقضاء على حواجز اللون والجنس، ولقد ظهر الإسلام كأسلوب حياة روحية مع بدء تفتت المجتمعات الوثنية تحت تأثير التكنولوجيا الأوروبية . ومن ثم ظهر ليقدم العلاج ضد تفتت القبلية، وللمحافظة على استمرار الميراث الثقافي الأفريقي. فمشاعر الأخوة الطبيعية الموجودة في الدين الإسلامي مثلت خط الدفاع ضد مشاعر العزلة الناجمة عن هدم المجتمعات التقليدية . وقد كانت الحاجة إلى مثل هذه المشاعر قوية، ولاسيما في حالة الشعوب التي اعتادت العيش في مجتمعات شديدة التماسك، حيث تبرز الأهمية الكبيرة للمؤسسات الاجتماعية بأشكالها المختلفة. وبالتالي فإن الأخوة الإسلامية –إذ المسلم في ظل الإسلام يشعر وكأنه في وطنه حيثما وجد أخاً مسلماً – حلت محل المجتمعات القبلية السابقة بطريقة شاملة . فبمجرد أن يصبح الوثنيون أقلية- بفعل انهيار القبلية -، فإن المجتمعات التي يعيشون فيها تقف منهم موقف السخرية والتحدي، وهو ما يدفعهم إلى اعتناق الإسلام رغبة في التخلص من مثل هذه السخرية[24] . وهنا يبرز موقف الإسلام من قضايا الرق والتفرقة العنصرية والاستعمار، كعوامل ساعدت على نشر الإسلام في أفريقيا.
فبالنسبة لموقف الإسلام من الرق فإنه كان من أهم ما حبب أهل أفريقيا في الإسلام. ذلك أن الأوروبيين حين اقتحموا القارة كانت تجارة الرقيق من أهم أهدافهم، فراحوا يخطفون الأطفال والشبان ويحشرونهم على ظهور البواخر إلى أمريكا، حيث باعوهم هناك في أسواق النخاسة كما تباع الدواب، وإذا كان الإسلام لم يحرم تجارة الرق تحريما نهائيا ومطلقا، حيث أتى الإسلام والرق مؤسسة مشروعة على مستوى العالم بأسره فلم يكن منطقياً- من ثم – أن يلغيه الإسلام بين عشية وضحاها، فإنه قد فتح الأبواب التي يتم من خلالها تحرير الرقيق الكثير والكثير. بالإضافة إلى أنه قد حصر مصدر الرقيق في الحرب المشروعة فحسب، وحتى في مثل هذه الحال أقر إمكانية المن والفداء "حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً أما فداءً"(الآية الرابعة من سورة محمد). أما ماعدا ذلك من مصادر الرق كالخطف مثلاً فكان محرماً تماماً في شريعة الإسلام. وهكذا كانت تجارة الرق في أفريقيا تجارة أوروبية بالأساس، وإذا مارسها بعض التجار المسلمين، فإنما كان ذلك إثماً وانحرافاً عن نهج الدين الإسلامي[25] . ومن ثم كان طبيعياً في ضوء هذا أن يقبل الأفارقة على الإسلام الذي يحترم إنسانية الفرد ويحافظ على حريته.
أما موقف الإسلام من التفرقة العنصرية فإنه قريب الصلة بموقفه من الرق. ذلك أن الأوروبيين البيض حينما اضطروا إلي إيقاف تجارة الرقيق، لم يضعوا رقيق الأمس على قدم المساواة مع نخاسيهم، فاصطنعوا التفرقة والتمييز العنصرين، وقد تسرب هذا التفكير السقيم إلي بعض القسس العاملين في مجال التبشير في أفريقيا مما جعل كثيراً من الأفارقة يفرون بأنفسهم إلى الإسلام ومن هؤلاء القسس ومن المسيحية التي يدعون إليها. فالإسلام لا يعرف تفرقة على أساس الجنس أو اللون، ويجعل الناس فيه سواء كأسنان المشط، حيث لا يميز الواحد منهم عن الأخر إلا عمله وتقواه. وهو من ثم لا يحول بين زنجي مسلم وبين التمتع بحقوقه السياسية والاجتماعية كاملة "فالديانة المحمدية-على حد تعبير أحد الباحثين الغربيين – تبحث عن الإنسان الحقيقي، تتجاهل العرض الجوهري ،والتجزئ للمتكامل، فتقضي من ثم على كافة الفوارق المؤسسة على العنصر واللون والجنسية. فالدين الإسلامي يزود الأفريقي بأعظم العزاء وأعظم الدفاع".وهذا بالطبع مختلف بعض الشئ عن موقف الإنجيل من أبناء "حام" الملعونين والذين كتب عليهم أن يكونوا أرقاء وفقاً للأسطورة الإنجيلية، فهي فكراً"عقيدة تقع موقع القلب من التفرقة العنصرية" وبالتأمل في نفس النقطة ولكن من زاوية مختلفة، علق كاتب أفريقي بقوله(" علمت "المحمدية") الأفارقة الذين اعتنقوا الإسلام أن الشعائر الدينية تستطيع أن تساوي بين الأجناس وتجعلها تعيش كأخوة. فالمسلمون الهنود والعرب مثلا لا يشجعون قيام مساجد مختلفة بين الأجناس..بينما شيد المبشرون المسيحيون كنائس منفصلة للأفارقة والأوروبين"[26]. وتاريخ الإسلام في أفريقيا حافل بأمثلة كثيرة للسلطنات الزنجية الخالصة التي ارتفع قدرها في نظر المعاصرين جميعاً بصرف النظر عن اللون أو الجنس[27].
وهو ما حدا ببعض الكتاب الغربيين أن يقرر في هذا الصدد أنه " لاشك أن نجاح الإسلام قد تقدم في أفريقيا الزنجية تقدماً جوهرياً بسبب غياب أي شعور باحتقار السود، فالإسلام لم يعامل الأسود قط على أنه من طبقة منحطة كما كانت الحال لسوء الحظ في العالم المسيحي"[28]. وقد قادت هذه التصرفات إلى نتيجة حتمية شاعت في جميع أنحاء أفريقيا في كافة العصور ، وهي أن الإسلام دين الجميع أن المسيحية دين البيض، وهو ما دفع الكثرة من الأفارقة إلى اعتناق الإسلام.
أما بالنسبة للاستعمار فقد وقف من الإسلام موقفا عدائياً حين التقيا بأفريقيا،إذ أدرك المستعمرالأوروبي أن القوى الإسلامية هي أكبر عقبة في سبيل استقرار الاستعمار ، ومن هنا أخذ يتحدث عن الخطر الإسلامي ويحاربه ويسعى إلي الحيلولة دون انتشاره. وعلى عكس ما كان يقصده المستعمر، فإن موقفه هذا جعل الأفارقة يرون الإسلام عدواً للاستعمار ووسيلة هامة من وسائلهم في الصراع ضد المستعمر، فتدفقوا على الإسلام ليتجمعوا تحت لوائه لمقاومة المستمر الغاصب.
رابعاً : الطرق الصوفية:
تزدهر الطرق الصوفية وتنمو معها حلقات الذكر في البيئات البسيطة، حيث يوجد فراغ روحي ، وحيث لا تستغرق الأعمال أوقات الناس. ومن ثم كان طبيعيا أن تزدهر هذه الطرق في أفريقيا، حيث بساطة الحياة وفراغ الوقت، وحيث أفاقت القارة من وثنيتها التي كانت تقوم على عبادة الأنهار والأشجار والأشخاص وغيرها من ظواهر الطبيعة، وأخذت تتطلع إلى ما يملأ فراغها الروحي، فوجد الناس في التجمع حول الشيخ وفي الانضمام إلي حلقات الذكر ما يشبع هذا الظمأ ويسد هذه الحاجة. وكثيراً ما جذبت الطرق الصوفية إلى الإسلام جموعاً من الأفارقة، فقد كان الشيخ ومريدوه ينزلون على القبيلة ، ويقيمون به حلقات الذكر، وينشدون الأناشيد والتراتيل الدينية، والشيخ تكسوه حالة من وقار ، والمريدون يبرزون له أسمى آيات الطاعة والولاء، يتلمسون منه البركة والدعوات الصالحات، فتتوافد على الشيخ جموع الراغبين في دخول الدين والانضمام إلي المريدين.
وهكذا كان للطرق الصوفية جهود غير تلك التي رأيناها عند الحديث عن التجار والمهاجرين ، فإذا كان التجار ينزلون المدن، فإن رجال الطرق الصوفية ينزلون القرى والنجوع، إذا كان التجار يسعون إلى الربح فإن رجال التصوف لا يكترثون بالمال ولايسعون إلا للكفاف.
والحق أنه حينما أظل العالم الإسلامي القرن التاسع عشر أسدت الطرق الصوفية إلي الإسلام خدمات عظيمة. فقد دب فيها دبيب النهضة الذي دب في الثقافة الإسلامية عامة حين بدأ الاحتكاك بالغرب، في وقت ضعفت فيه السلطة السياسية في العالم الإسلامي بضعف الخلافة العثمانية، وفي وقت أخذت تتفتت فيه وحدة المسلمين ويستولى المستعمرون على أوطانهم. وقد استطاع الصوفية أن يحافظوا على الوحدة في الميدان الديني بعد أن عزت في الميدان السياسي ، فقاموا بجهود لخدمة الإسلام لم تكن الحكومات الإسلامية بقادرة على القيام بها بعد أن أصابها الوهن وأفلت منها الزمام.وقد تجلت هذه الجهود في أفريقيا على وجه الخصوص[29]. والحق أن رجال الطرق الصوفية كان عليهم أن يحاربوا في جهتين أحداهما ضد القبائل الوثنية المنتشرة في القارة، والأخرى ضد التوسع الأوروبي الذي بدأ تكالبه على مختلف مناطق القارة ومنها غرب أفريقيا، حيث شهدت هذه المناطق حركات إصلاحية ريادية قادها الزعيم الديني"عثمان بن فودي" في نيجيريا، بحيث أضحت حركته بؤرة للإصلاح الديني والجهاد، والتي امتدت إشعاعاتها وتوسعت شرقا وغربا وأثرت في العديد من مناطق القارة. ولعل أشهر الطرق الصوفية التي لعبت دوراً هاماً في نشر الإسلام في المنطقة من غرب أفريقيا هي الطريقة القادرية، والتيجانية، بالإضافة إلي الطريقة السنوسية[30].
أما الطريقة الأولى وهي القادرية والتي تنسب إلي "عبد القادر الجيلاني"أحد أقطاب التصوف الأربعة، فقد دخلت أفريقيا الغربية في القرن الخامس عشر على يد مهاجرين كانوا يتخذون من تواث مركزاً لهم، ثم انتقل هؤلاء إلى ولاته فجعلوا منها أول مركز لطريقتهم، ثم انتقلوا منها بعد حين إلى أن تمبكتو (مالي حاليا) وجمعيها مناطق تقع في غرب أفريقيا بالأساس.
ولم يكتف القادرية بما درج عليه المتصوفة من حلقات ذكر وتراتيل، بل جلس الكثيرون منهم يعلمون الصبية الصغار، وتفقه بعضهم في الدين فجلس عالماً وخطيباً. أما أغنيائهم فاتجهوا إلي الشباب يختارون أذكارهم ويرسلون بهم إلى مراكز الثقافة في الشمال ليتزودا بالعلم ويعودوا قادة ومعلمين بين أهليهم، كما فتح هؤلاء الأغنياء المدارس ليتلقى فيها الطلاب العلم. وما أن حل القرن التاسع عشر حتى كانت السيطرة الروحية والفكرية في أكثر نواحي أفريقيا الغربية في يد رجال الطريقة القادرية ،والذين تحول الدخول إلى الإسلام معهم من حالات فردية إلي حالات جماعية .
أما التيجانية والتي تنسب إلي الفقيه الجزائري "أبي العباس احمد بن محمد بن المختار". فقد وجدت لها أنصارا عديدين في الصحراء الكبرى وغربي أفريقيا ووسطها. وقد ارتبطت بالطريقة التيجانية فكرة اللجوء إلى إلى القوة عند الضرورة وهم يعللون ذلك بأنه من المحتم إنقاذ الوثنين من الضلال، وبهذا فقد اختلفت التيجانية عن القادرية التي عرفت بالتسامح،وكانت تكتفي بالدعاء للوثنيين بالهداية دون محاربتهم.
ولعل أهم الحركات الحربية التي قام بها أفراد من التيجانية لنشر الإسلام هي تلك الحركة التي قادها الحاج "عمر الفوني" في بلاد السنغال.ولقد تمكن الحاج عمر من تحقيق انتصارات واسعة، إذ سارت حملاته الواسعة تنشر الدعوة بين الوثنيين في حوض النيجر والسنغال، وحقق كثيراً من النجاح السياسي والديني، فأصبح يحكم إمبراطورية واسعة تمتد من تمبكتو إلي المحيط الأطلسي، وظلت تدين له بالولاء طيلة الأربعين سنة، وكانت الطريقة التيجانية هي الطريقة الرسمية في كل هذه الإمبراطورية . وكان الحاج عمر – والذي استشهد في إحدى غزاوته عام 1865- متمسكا بالشرع في حربه وسلمه، عالماً ذا بصيرة في دينه، لم يشغله الجهاد عن تدريس العلم لجيوشه الغازية في سبيل الله. فانتشر الإسلام على يديه في هذه المناطق أيما انتشار.
وبالنسبة للسنوسية والتي أسسها الفقيه الجزائري "محمد بن علي بن السنوسي" والذي استقر به المقام في واحة جغبوب في ليبيا، فقد انتشرت في شمال أفريقيا كلها وأوغلت في واحات الصحراء وامتدت آثارها إلى إرجاء واسعة من القارة، وكان نشر الإسلام بين الوثنيين بأفريقيا بهدف هدايتهم إلي الحق من جانب، ولمواجهة حركة التبشير المسيحية التي كانت تغزو القارة منذ أواسط القرن التاسع عشر من جانب آخر ، هي أهم أهداف السنوسية، والذي استطاعت من خلاله أن تدخل العديد من مناطق أفريقيا في الإسلام.
وإذا كان نشاط الطرق الصوفية في نشر الإسلام في أفريقيا قد بدأ متأخراً للغاية، ولم يبرز جلياً إلا في القرن التاسع عشر، فإن هذا لا ينفي ما حققه من نجاح كبير في هذا الصد، يؤكده ما ذكرناه آنفا من إن التحول إلى الإسلام قد انتقل على يد هذه الطرق من حالات فردية إلى حالات جماعية، وأن هذه الطرق لم ترتبط بالخطوط التجارية والمدن الكبرى، وإنما اندفعت إلى الناس في القرى والنجوع تنشر الإسلام بينهم، وهي مآثر لا ينافسها فيها سواها في هذا المجال[31].
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #4
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

خامساً: البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية في أفريقيا:
ساعدت الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية التي سادت أفريقيا – لاسيما غربها وهو موضع اهتمامنا هنا- على انتشار الإسلام فيها.
فمن ناحية أولى فإن الإسلام بأفريقيا لم يكن ديناً من الأديان. وإنما عاش فترة طويلة وهو الدين الوحيد فيها بين خرافات موروثة وفراغ شامل، ولذا كان انتشاره سهلاً. وهكذا فقد دخل الإسلام هذا الجزء من أفريقيا في وقت لم يكن بها أي دين ينازع الإسلام،إذ لم تجد المسيحية ميدانا لها في هذا الجزء وكان انتشارها به يكاد يكون منعدما، بل كانت هناك الوثنية والخرافات اللادينية، ومن هنا كانت دعوة الإسلام شديدة الأثر سريعة النتائج، فعلماء مقارنة الأديان يقررون أنه إذا كان من الصعب تحويل من يعتنق ديناً معيناً إلى دين آخر سواه، فإن الذي لا دين له يسهل جذبه إلى الأديان[32].
ومن ناحية أخرى ساعد على انتشار الإسلام في أفريقيا ما يرويه الكتاب المسيحيون من إن الحياة الروحية في أكثر الكنائس الأفريقية كانت قد انحدرت إلى أقصى درجات الانحطاط، وان كثيرا من المسيحيين الأفريقيين قد وقعوا فيما وقع فيه رجال الكنيسة من أخطاء، وكانت الكنائس المسيحية المتنافسة مشغولة بالتنازع فيما بينها مما حال بينها وبين القدرة على مواجهة انتشار الإسلام، بل إن بعض القساوسة قد اشتغلوا بتجارة الرقيق وساعدوا النخاسين في عملهم، الأمر الذي نفر الاقارقة منهم، وساعد على انتشار الإسلام. وهكذا فإن توسع الإسلام وانتشاره في هذه الجهات كان راجعاً في بعض الأحيان إلى قدرة الإسلام على منافسة المسيحية. ففي السنغال تحولت قبائل السرير"SERER" – سواء منهم من كان وثنياً أو يدين بالمسيحية إسماً – إلي الإسلام زمراً وكذلك كان الحال في كل من غينيا وساحل العاج وتوجو وداهومي.
ومن ناحية ثالثة فقد قام نشاط داخلي واسع، نابع من المنطقة محل البحث ذاتها، يخدم ذات الهدف الذي خدمه المهاجرون والتجار المسلمون، والذي غذته المراكز الإسلامية في الشمال، إلا وهو نشر الإسلام بين الأفارقة . فقد ظهرت زعامات إسلامية من بين سكان البلاد الأصليين، كما برزت مراكز إسلامية عظيمة في هذا القطاع من القارة، الأمر الذي كان له عظيم الأثر في خدمة الإسلام، بل ربما كان هذا العامل في حد ذاته أكثر نجاحا من غيره من العوامل في هذا الصدد إذ صور الإسلام على أنه ثقافة قومية ودين أفريقي، فلم يعد الدخول فيه تبعية لدولة غربية أو اعترافا بدين جماعات من الخارج، بل أصبح إنطواء تحت رايات يحملها زعماء من داخل أفريقيا ذاتها، وأصبح الدخول في الإسلام يعنى الإسهام في تكوين مجتمع أفريقي سليم. وهو ما حدا ببعض المؤرخين إلى وصف عملية انتشار الإسلام على هذا النحو بأنها نوع من سباق التتابع[33]. فزمام الدعوة إلى الإسلام حمله العرب في مطلع دخول الإسلام إلى أفريقيا، وتسلمه منهم البربر ليندفعوا به جنوب الصحراء – لاسيما في غرب القارة ووسطها- حيث أسلموه بدورهم إلى الزنوج الذين تحملوا عبء القيام على أمر نشر الإسلام في هذه الربوع، وقد تعاونت كل من هذه الجماعات- عرباً كانوا أم بربراً أو زنوج- في ترسيخ امتداد الإسلام ونشره في كافة بقاع الغرب الأفريقي، بحيث أضحى الانطواء تحت راية الإسلام عملا ضروريا من الناحيتين القومية والحضارية.
وكان على رأس الجماعات الأفريقية الخالصة التي كان لها دور فعال في هذا الصدد جماعات المرابطين، والذين تمكن أحد قادتهم من غزو إمبراطورية غانة الوثنية وإسقاطها واحتلال عاصمتها، لتصبح من بعد من أهم الدول الإسلامية في غرب أفريقيا[34] ومنهم كذلك جماعات وقبائل الماندنجو والهوسا والفولاني والفونج. كما كان على رأس المراكز الإسلامية التي لعبت دورا محوريا في نشر الإسلام في هذه الجهات ممالك تمبكتو وهنغسي وكانوا[35] . وهكذا فقد ساهمت البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية في أفريقيا، بما اشتملت عليه من فراغ روحي وسيادته اللادينية أو العبادات الوثنية، وبما احتوته من فساد في أخلاقيات دعاة الأديان غير الإسلامية وبعدهم عادات الأفريقيين وقيمهم، بالإضافة إلى حماس القبائل والممالك التي انخرطت في سلك المسلمين، أدى كل ذلك إلي مزيد من الانتشار والتدعيم للإسلام في هذه المناطق.
حاصل القول أنه تجمعت عوامل عدة ، كان لها شأن عظيم في حمل الإسلام ونشره في هذه المنطقة من غرب أفريقيا، وقد كانت هذه العوامل داخلية وخارجية، وكانت خدمة الإسلام هي هدفها الرئيسي أو نشاط إضافيا تقوم به إلى جوار التجارة أو السياسة، وكانت نتائجها في هذا الشأن باهرة النتائج، فعلا شأن الإسلام في هذه المناطق وأصبح المسلمون فيها هم الأغلبية الساحقة. وإذا كان الدارس لتاريخ الإسلام في أفريقيا وعوامل انتشاره فيها لا يمكنه أن يخلص إلي تقرير أي من هذه العوامل كان له الدور الحاسم في هذا الصدد، فإنه لا يسعه إلا أن يقرر إن جماع كل العوامل هو الذي خلق حركة لا تقاوم، مؤداها انتشار الإسلام على نحو واسع في هذه المناطق . وهو الانتشار الذي كان له عظيم الأثر في حياة شعوب القارة على مختلف الأصعدة وه ما نعرض له فيما يلي.
الجزء الثاني
آثار انتشار الإسلام في غرب أفريقيا
تأثرت هذه المنطقة الشاسعة من القارة الأفريقية تأثراً واضحاً بالحضارة العربية الإسلامية التي وجدت طريقها إليها منذ وقت مبكر، منذ أن مد العرب المسلمون نفوذهم إلى شمال القارة فأخذت حضارتهم تتوغل وتنتشر إلي المناطق الشاسعة الواقعة إلي الجنوب.
والحق أن تأثير الحضارة العربية الإسلامية وما ساهمت به من تطوير للحياة في غرب أفريقيا، لم يكن قاصراً على الحياة الدينية والثقافية فحسب، بل تخطاها إلى كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك . فالإسلام لم يكن – على امتداد تاريخه- دينا فحسب، وإنما هو كذلك نمط حياة ونظام ثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي. وهو لم يهدف – على الداوم – إلى هدم المجتمع القديم بكل مقوماته، بل تطويعه للدين الجديد وما يأمر به من أوامر، وما ينهي عنه من نواه. ولا تكاد توجد ناحية من مناحي الحياة في غرب أفريقيا لم تتأثر بالإسلام وتعاليمه.
أولاً: الأثار الثقافية:
لقد كان أثر الإسلام في المجتمع في غرب أفريقيا عميقا، فقد غير من عادات الأفارقة بل ومظهرهم وطريقة تفكيرهم، وخلق ثقافة إسلامية أفريقية، كان لها السيادة على ما سبقتها من ثقافات، ثم استمرت على الرغم من المحاولات التي بذلها المستعمرون الأوروبيون للقضاء عليها.
وواقع الأمر أن انتشار الإسلام في هذه الجهات كان معناه أيضا انتشار اللغة العربية كلغة للحديث والمعاملات التجارية والكتابة، فهي لغة القرآن الكريم، وهي لازمة لأداء الصلاة، ومن ثم اكتسبت قداسة في أنظار الأفارقة، وكان لابد لمن يريد التفقه في الدين أن يتعلم العربية ويتقنها[36]. وهكذا فقد سار الإسلام واللغة العربية جنباً إلي جنب مع الجهاد في سبيل نشر الدين وتوسيع رقعة البلاد الإسلامية، فضلا عن تنشيط الحركة التجارية.
وقد تركت اللغة العربية آثارها في عدد من اللغات المحلية لدرجة كبيرة وظهر هذا الأثر واضحا ً في لغات الهوسا والصنغي والفلاني. إذ يوجد في هذه اللغات الكثير من الكلمات ذات الأصول العربية[37]، بل إن الحروف العربية – الأبجدية- العربية- قد استخدمت في اللغة الفلانية كذلك، وتستخدم في السنغال الأبجدية العربية أيضا في مدارس تحفيظ القرآن، كما تستخدم اللهجة العربية في التخاطب في جزء من النيجر والسنغال وتشاد وتنزانيا.
ويقترن العهد الزاهر للغة العربية والعلوم العربية الإسلامية في غرب أفريقيا بعهود الإمبراطوريات الأفريقية الإسلامية الكبرى بغانا ومالي وصنغي ثم برنو فإمبراطوريات الهوسا والتكارنة والفلانيين. فقد كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة فيها، واستخدمت في شتى الأغراض وأوفت بها، فقد استخدمت في مجال الحكم والإدارة والقضاء، ثم هي لغة المكاتبات الرسمية بين هذه الدول وبين العالم الإسلامي الخارجي[38]. ومع المربطين توسع دخول الثقافة العربية الإسلامية إلى هذه المناطق من مدارس المغرب والأندلس، فقد وحد المرابطون بين الأندلس والمغرب وغرب أفريقيا في دولة واحدة، وتم في عهدهم أعظم أثر في الميدان الثقافي حينما أسست مدينة تنبكتو في أواخر القرن الحادي عشر، والتي أصبحت حاضرة الثقافة العربية في غرب أفريقيا، ووفد عليها العلماء من المغرب والاندلس ومصر وطرابلس[39]. وهكذا فإنه حين أضحى الإسلام هو دين الدولة الرسمي في هذه الممالك والإمبراطوريات، اكتست مدن السودان الغربي بزيها الإسلامي، وأصبح العلماء المسلمون طبقة ذات وجود مؤثر في البلاط السلطاني وفي الحياة الثقافية والاجتماعية ، وازدهرت الحركة العلمية في المدن السودانية فأصبحت تمبكت وغيرها مدناً جامعية مشهورة[40] . ومن ثم يبدو جليا أن الإسلام قد تمكنت جذوره وغدا ديناً إمبراطورياً وكان تخطيه أسوار المدن السلطانية لينتشر بين الجماهير في الريف والبادية مسألة وقت ليس أكثر.
وهكذا فإن الأثر الثقافي للإسلام في مجتمع غرب أفريقيا كان قويا وعميقا، "ولعل الصورة التي يقدمها بالمرPalmer في كتاب (Islam In Western Sudan And On The West Coast of Africa) عن علاقات ممالك غرب أفريقيا الثقافية للإسلام واللغة العربية في هذه البلاد. فقد شملت البلاد نهضة علمية، وقامت فيها مراكز ثقافية كانت بمثابة الشعلة التي تضئ الطريق للمستقبل، وبرز علماء وأدباء في مختلف المجالات وتأثرت الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية بكل ذلك، وساعد تشجيع كثير من السلاطين للحركة العلمية على أن تستمر الحركة في تحقيق أهدافها"[41]. ومهما يكن من أمر فقد دخل الإسلام في غرب أفريقيا حاملا ثقافة عربية زاهرة. وإذا كان من طبيعة الإسلام أن يبقى من التقاليد والنظم ومظاهر الحياة ما لا يتعارض ومبادئه وتقاليده، ما لا يلائم طبيعة المجتمع وسكانه، فإن تأثر سكان غرب أفريقيا بالحضارة العربية الإسلامية كان نابعاً قبل كل شيئ من رغبة داخلية وتطلع إلي مسايرة العالم الإسلامي في حضارته ونهضته[42].
ثانياً: الأثار الاجتماعية والاقتصادية:
ترتب على انتشار الإسلام في غرب أفريقيا خلق مجتمع جديد يدين بمبادئ جديدة. حقيقة أن الإسلام – كما سبق البيان- لم يهدف إلي تغيير التقاليد الزنجية المحلية تغييراً جذرياً، إلا ما يتعارض منها مع مبادئه وتعاليمه، إلا أنه قد ترتب على الاحتكاك بين سكان هذه البلاد نوع من الامتزاج بين التقاليد الزنجية المحلية، وتمت الموائمة بين هذين العنصرين وظهرت من جراء ذلك في المجتمع الأفريقي تقاليد إسلامية أفريقية.
وإذا كان هدف الإسلام هو- على الدوام- أسلمة المجتمع، وإذا كان اهتمامه ينصب على التغيير الروحي لمعتقدات الناس، ذلك الذي تتجلى عظمته الاجتماعية في أداء شعائر الإسلام ذات الطابع الجماعي كالصلاة والزكاة والحج، الأمر الذي يخلق مظهراً من مظاهر التماسك الاجتماعي والوحدة والإخاء. فإن الإسلام حين انتشر في غرب أفريقيا، ساعيا إلى تحقيق هذه الغايات، لم يحدث هزات عنيفة في البيئة الاجتماعية أو الاقتصادية، فقد ظلت معظم تقاليد الحياة الأسرية على صورتها المعروفة لعدم تناقضها مع بساطة الإسلام. ومع إنه قضى على روح الانتماء والتعصب للقبيلة أو التكتلات العرفية والانتساب إلى الام، فإن شأن هذه العلاقات بدأ يضعف خاصة بين الأفارقة الذين كانوا يعيشون في المدن التجارية جنباً إلى جنب مع المسلمين، حيث الوحدة الاجتماعية هي الأسرة، وحيث تباعدت وشائج الصلات القديمة وأصبح محور النشاط الأسري هو الأب، كما أن حياة الجماعة الإسلامية عوضت الأسرة الأفريقية عما فقدته من انتماءات قبلية بانتماء جديد- هو الانتماء إلى الوحدة الأكبر والأسمى وهى الأخوة الإسلامية العامة- أنف منالناحيتين الاقتصادية والثقافية[43].
على أن ما تقدم لا يعني بحال أنه لم تحدث تغييرات جذرية في المجتمع، ففي كثير من الجهات كانت هناك مثلاً مجتمعات أموية(تنسب إلى الام) فتغير هذا ، كما تغيرت قوانين الميراث تغييراً جذرياً وفقا ًلما تقضى به الشريعة الإسلامية[44]. لقد سما الإسلام بكثير من معتقدات الأفريقي وعدل من سلوكه، فقد كان من الشائع على سبيل المثال لدى القبائل الأفريقية تقديم الضحايا والقرابين لإرضاء قوى خفية، فأبطل الإسلام هذه العادات المختلفة، وفي ظل الإسلام أضحت الزكاة والصدقة وأوجه البر الأخرى مظهراً من مظاهر إنكار الذات والتكافل الاجتماعي بين الناس ، الأمر الذي لم يكن صعباً على الأفريقي أن يدركه من ناحية، وأن يعدل سلوكه ليتلاءم مع هذه القيم من ناحية أخرى.
ولعل أهم أثر للإسلام في مجتمع غرب أفريقيا بصفة عامة هو الإحساس بأن الجميع يعبدون إلهاً واحداً. وهذه الوحدة الاجتماعية تزكيها وتدعم منها ممارسة الجميع لفرائض واحدة. ويظهر هنا بوضوح دور صلاة الجماعة ، حيث يؤدي الجميع الصلاة معاً، فيشعر الكل إنهم ينتمون لوحدة دينية واحدة. أضف إلى هذا تلك المشاعر والروابط التي يشعر بها المسلمون جميعا في شهر رمضان، حيث يمتنع الجميع عن الطعام والشراب والشهوة امتثالاً لأمر الله، ثم في موسم الحج حين يتجرد الكافة غنيهم وفقيرهم من زخارف الدنيا ولذاتها ليتشابه الجميع في الموسم، هذا علاوة على ما يفرضه الإسلام من مساواة بين الجميع- لا يمتاز أحد عن غيره إلا بالتقوى والعمل الصالح- وتحريمه بيع المسلم واسترقاقه. كل هذا كان له أعمق الأثر في كسر الحواجز القبلية، والفروق الاجتماعية التي كانت تفتت المجتمع الأفريقي في غرب القارة[45].
أضف إلى ما تقدم أن حملة الإسلام وناشريه في هذه المناطق من عرب وبربر وغيرهم، لم ينعزلوا عن الناس – على نحو ما كان يفعل المبشرون المسيحيون- وإنما أقاموا بين ظهرانيهم يتصلون بهم ويشاركونهم حياتهم ويتزاوجون معهم، فكان أن حدث نوع من التعريب في أجزاء واسعة من غرب أفريقيا، دعم منه ما سبق أن ذكرناه من انتشار للغة والثقافة العربية. ليس هذا فحسب ، وإنما واكب عملية التعريب هذه عملية أفرقة لجموع من العرب الوافدين بدرجات وحدود متفاوتة – وقد حذا المسلمون من غير العرب- ونعني بهم هنا أهل غرب أفريقيا- حذو العرب من التزاوج بغيرهم، ومن ثم تزاوج البربر والفلانيون بيسر، وذابوا إلى حد كبير في التكرور والهوسا، ثم تزواج هؤلاء بدورهم في المجموعات الأخرى، فكان الأثر الإجمالي لعملية التزاوج هذه نوعا من التكامل العرقي، بالإضافة إلى التكامل اللغوي سالف الإشارة إليه.
وهكذا فإنه لا يسعنا إلا إن نوافق من ذهب إلي أنه "بصرف النظر عن الاختلافات في النكهة أو ظلال الفوارق الدقيقة، فإن الإسلام كدين ومنهج للحياة، نجح تماما في تزويد مجتمعات أفريقية ضخمة وآخذه في النمو، بروابط قوية من الإخاء والهوية المشتركة. وقد تدعم من هذه الروابط القوية من الإخاء الديني والوفاء الاجتماعي إلي حداً بعيد بعمليتي التكامل اللغوي والعرقي المتزامنتين واللتين – مثلهما في ذلك مثل التكامل الديني – تضمنتا إسباغ لطابع المحلي على المؤثرات الوافدة، ومن ثم التجانس – في نفس الوقت-للمجتمعات المحلية داخلياً مع بعضها ومع باقي العالم الإسلامي[46] .
ومع أن التغيير هو سنة الحياة، فإن الإسلام قد زاد من سرعة التغيير الاجتماعي وقوى من معدله وحدد أهدافه وجعل التغيير في حالات كثيرة جذرياً وذا تأثير هام في حياة الجماعات الأفريقية التى أسلمت ولما كان الإسلام عقيدة كتابية معجزتها فصاحة القرآن وشموله وبيانه، كان مدخل المسلم للإيمان التعلم والاقتناع بدءاً بالتلقين ثم التدرج في تعلم اللغة العربية لفهم القرآن، منهج الدين الجديد، كنقطة انطلاق لنشر الدعوة وبناء مجتمع المستقبل. لقد كان للعقيدة والثقافة الإسلامية أعظم إسهام أعطى منهجا قويا لتطوير أفريقيا فالإسلام ثقافة حياة مع سمو الجانب التعبدي فيه، وفيه مفاهيم جديدة للقانون والنظام، كما أعطى نماذجسامقة لفن العمارة في مساجده وعرض أزياء أنيقة متحشمة وقورة تهندم بها الدعاة والتجار الأوائلممن حملوا لواء الإسلام إلى هذه البقاع وهو ما كان له أثره الواضح على سلوكيات الناس وأنماط حياتهم الاجتماعية.
أما عن الآثار الاقتصادية فإن الإسلام وإن احتفظ للحياة الاقتصادية في غرب أفريقيا بنفس أساليبها القديمة في الزراعة وسائر الحرف والصناعات- على عكس ما حاوله المستعمر الأوروبي من تحطيم للاقتصاد التقليدي بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من خيرات القارة لصالحه[47] فإنه قد طورها وأثر فيها من خلال قيمه ومبادئه التي تحصن على العمل وتعلى من شأن اليد المنتجة، علاوة على أنه قد دخلت مع المسلمين محاصيل زراعية جديدة وأوجه للنشاط الاقتصادي لم يكن للأفارقة عهد بها. كذلك فقد نشطت التجارة في ظل الأمن الذي ساد البلاد في كنف الإسلام والأفاق الجديدة التي فتحت للمعاملات. علاوة على ما كان من أمر احترام الإسلام للملكية الخاصة، وما يفرضه من زكاة ويحث عليه من صدقة في أموال الأغنياء للفقراء، وما قرره من نظام للوراثة، تعتبر الأسرة فيه وحدة اقتصادية لها كيانها الخاص[48]. كل هذا كان له ولا شك آثار كبيرة على الاقتصاد في غرب أفريقيا[49].
ثالثاً: الأثار السياسية:
لا يفصل الإسلام من الناحية السياسية بين الدين والدولة، ومن ثم لا تنفصل فيه السلطة الدينية والسياسية وعلى هذا فإن الخارج عن سلطة الحاكم المسلم خارج عن حدود الله. وفي ظل هذه النظرة أعلن الحكام المسلمون في غرب أفريقيا الجهاد ضد الخارجين عن سلطانهم[50].
وإذا كان الإسلام لم يسب السلطة من الأفارقة، وإنما كان غاية ما اشترطته أن يكون حاكم الدولة الإسلامية مسلماً، وهو ما جعل الأفارقة يشعرون أنه أسياد أنفسهم وحكام أوطانهم، على عكس ما صاحب انتشار المسيحية من استحواذ الأجانب على السلطة في كل مكان حلت به من أنحاء القارة الأفريقية. فإنه قد ترتب على ذلك قيام ممالك إسلامية كبرى في غرب أفريقيا منذ القرن الثاني عشر، كانت لها مكانتها وحضارتها وإسهامها في نشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية. فقامت ممالك غانا ومالي وسنغي وبرنو وكانم وسوكتو وغيرها[51].
وقد حرص حكام هذه الممالك على توثيق صلاتهم بالمغرب باعتباره الدولة الإسلامية الام في هذه المناطق من القارة والتي وصل منها الإسلام إليهم. وقد تأثر هؤلاء الحكام بما شاهدوه خلال زيارتهم لا سيما في رحلات الحج – أو سمعوا عنه في البلاد الإسلامية عامة، والمغرب بصفة خاصة، وحاولوا أن ينقلوا لبلادهم هذه الأنماط الحضارية ، ليس فيما يتعلق ببناء المساجد والقصور وغيرها من مظاهر الحياة فحسب، بل فيما يتعلق بنظم الحكم في هذه البلاد- وهو الأهم في هذا الصدد- أيضاً فقد حاول حكام غرب أفريقيا المسلمون تقليد نظم الحكم السائدة في البلاد الإسلامية الأخرى على قدر ما سمعوا عنها وما فهموها[52].
وحرى بنا في هذا المقام أن نشير أن النظام السياسي الذي وجد مع انتشار الإسلام والذي قامت عليه هذه الممالك قد أَعف إلي حد كبير النظام القبلي والولاء للسلطات القبلية التي كان لها نفوذ كبير قبل الإسلام. فالإسلام – كما سلفت الإشارة – أضعف من اللاءات القبلية لصالح ولاء أوسع هو الولاء للدين الجديد والأخوة الجامعة فيه لكل المسلمين أيا كانت قبائلهم أو أوطانهم أو ألوانهم، الأمر الذي كان لابد وأن يكون له أثره على الولاء للنظام السياسي، فلم يعد ولاء لزعيم القبيلة قدر ما هو ولاء للحاكم المسلم.
حاصل القول فيما يتعلق بالآثار التي ترتبت على انتشار الإسلام في القارة الأفريقية، والغرب منها موضع اهتمامنا هنا، أنه بقدر ما سهم الإسلام في تطوير نظم الحكم، فقد أثر على الثقافة المحلية وأضفى عليها صفوة ملامحه، لغة وكتابة ومناخه الفكري ، وكان التعليم والكتابة أول مدخلاته في غرب أفريقيا. ولقد ارتبط انتشار الإسلام في هذه البقاع بالتعليم الديني، ولذا غدا الاثر الروحي شديد العمق في تجمعات المسلمين هناك، وأصبح بمثابة قوة الدافع التي قوت من عزائم الأفريقيين في مقاومتهم للاستعمار الأوروبي الذي اتخذ من المسيحية ستاراً لإخفاء أطماعه الاستغلالية. هذا علاوة على ما أفرزه الإسلام من آثار اجتماعية واقتصادية بعيدة المدى.
وبقدر عظمة التأثير الإسلامي في مجتمعات غرب أفريقيا يقدر الأسى والحزن الذي يصيب المرء من جراء الاستعمار الغربي الأوروبي لهذه البقاع في ضوء الآثار السلبية التي ترتبت على هذا الاستعمار في شتى مراحله انطلاقاً من دوافعه الخاصة لاستغلال هذه المجتمعات لتحقيق مصالحه ومآربه على حساب شعوب أفريقيا. وهو ما نفصله فيما يلي في إطار استعراض تاريخ المسلمين بالمنطقة موضع الدراسة
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #5
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

الاستعمار الفرنسي والهوية العربية الإسلامية
الدوافع..المراحل..السمات والآثار..
شهدت القارة الأفريقية مع إشراقة العصور الحديثة موجة من الصراع الاستعماري بعد خروج المسلمين من الأندلس. وكان الهدف من هذه الحركة هو تعقب المسلمين القادمين من الاندلس، والقضاء على آخر معاقلهم على الساحل الأفريقي، ثم إجهاض أي محاولة للتفكير في العودة إلى هذه البلاد وترتب على هذه النزوة الاستعمارية محاولة تطويق المسلمين وذلك بالاتصال بالمملكة المسيحية في بلاد الحبشة، وأدت هذه الحركة إلى الكشوف الجغرافية التي انتهت بالدوران حول أفريقيا، والوصول إلى شاطئها الشرقي، ودخلت في صراع دموي مع الأمارات والممالك الإسلامية سواء في شمال القارة أو شرقها أو غربها[53].
كانت أفريقيا منذ الكشوف الجغرافية، هدفا من أهداف الدول الأوروبية في حركتها الكشفية واستمرت هذه العملية الاستعمارية في التطوير والتوسع حتى تم الإطباق على القارة من كل جانب ومع حلول القرن العشرين كانت أفريقيا فريسة الاستعمار الأوروبي ولم يتمتع باستقلاله إلا أجزاء بسيطة لا تعدو مساحتها 8% من مساحة القارة الضخمة[54] بيد أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الحملة الاستعمارية لم تبلغ أوجها إلا بعد مؤتمر برلين عام 1884-1885، والذي كان بمثابة الكشف السياسي لتقسيم القارة. لقد ظل الأوروبيون، حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، يسيطرون فقط على أجزاء بسيطة من أفريقيا، لا تعدو السواحل وبعض الجزر البسيطة، واستمر الوضع على هذا المنوال حتى عام 1885، حيث ظل الجزء المستعمر من القارة لا يتعدى 5% فقط من مساحتها، وقد كانت هناك أسباب عديدة أخرت كشف القارة والتوغل فيها واستعمارها. ومن أهم هذه الأسباب:
1- أن السواحل الأفريقية قليلة بالنسبة لمساحة القارة، يعني أن الهضبة الداخلية تقترب من الساحل، ولا تعطى فرصة لتكوين ساحل واسع يمكن من الاستقرار والتحرك منه إلى أجزاء أخرى من القارة.
2- قلة الجزر والخلجان قرب الساحل والتي تيسر عملية إنشاء موانئ تكون بمثابة نافذة القارة على العالم الخارجي. حتى الجزر القريبة من القارة، مثل مدغشقر وزنجبار في الشرق أو حتى جزر كناري وساتومي في الغرب، لم تلعب دوراً هاما في هذا الصدد، وليظل داخل القارة مجهولا لفترة طويلة للأوروبيين.
3- أن أنهار القارة لم تساعد على التوغل داخلها بل وقفت حجرة عثرة أمام التوغل الأوروبي إلى الداخل ، ولم يتم كشف هذه الأنهار إلا بالطرق البرية المجاورة لها.
4- كانت العوامل المناخية القاسية، والظروف البيئية غير المواتية سببا في هلاك عدد كبير من الأوروبيين الذين تطوعوا لارتياد أجزاء القارة المجهولة.
5- لم تكن سياسة الأوروبيين نحو القارة في القرن السادس عشر موجهه إلى كشف باطنها، بل اعتبرتها مجرد محطة في الطريق المؤدي إلى الشرق.فكانت الاستراتيجية المتبعة هي إقامة المحطات فقط على السواحل دون تطلع لارتياد المناطق الداخلية.
6- عرقلت سواحل القارة محاولات التوغل للداخل، لأنه بالإضافة إلى قلتها ووعورتها بسبب ارتفاع الهضاب والجبال، فإن كل ساحل في القارة كانت له طبيعة خاصة عرقلت توغل الأوروبيين منه.. فإذا نظرنا إلى الساحل الغربي، نجده لم يسهل من مهمة المستعمرين، بسبب قلة موانيه الطبيعية، وعدم جدوى الجزر فيه، وانحدار الأنهار نحوه بشدة، وانتشار الأمراض الفتاكة الناتجة عن الرطوبة الشديدة، كما أن الساحل الأفريقي في هذه الجزر ينتهي إما بالمناطق الصحراوية أو شبه الصحراوية أو غابات كثيفة صعبة الاختراق والاجتياز.
7- لكل هذه الأسباب تأخر الكشف الأوروبي للقارة الأفريقية حتى أوائل القرن التاسع عشر، وتحديدا بعد مؤتمر برلين 1885، حيث تغيرت الصورة وبدأت عوامل جديدة دفعت الأوروبيين للتوغل في القارة وكشف أنهارها ومناطقها المختلفة واستعمارها، ومن ثم لم يتعد الجزء المستقل من أفريقيا في عام1910 نحو 8% من مساحتها[55] .
أصبحت الخريطة السياسية لغرب أفريقيا موزعة على الدول الأوروبية بعد مؤتمر برلين 1885، فقد حصلت ألمانيا على الكاميرون وتوجو، واستولت انجلترا على أربع مناطق هي سيراليون وساحل الذهب ونيجيريا وجامبيا، أما فرنسا فقد استولت على مساحة شاسعة أطلقت عليها اسم أفريقيا الفرنسية الغربية، وشملت موريتانيا والسنغال والسودان الفرنسي(مالي حالياً) والنيجر وداهومي (بنين الآن) وساحل العاج وغينيا وفولتا العليا (بوركينا فاسو) وشملت الإمبراطورية الفرنسية حوالي 1.8 مليون ميل مربع، وهو ما يوازي مساحة فرنسا تسع مرات، وهي عبارة عن رقعة هائلة من الأرض، لعلها من أكبر المساحات السياسية في العالم، وتمتد من شواطئ المحيط الأطلنطي غربا إلى نهاية الصحراء الكبرى شرقا، وتضم أفريقيا الغربية الفرنسية إعدادا من القبائل تتكلم 120 لهجة مختلفة، وهي تنقسم إلي ثمانية أقسام إدارية كبرى هي:
1- السنغال: وفيه عاصمة أفريقيا الغربية –داكارا- ومساحته 80.6 ألف ميل مربع.
2- موريتانيا: ومساحتها 400 ألف ميل مربع، وعاصمته سانت لويس.
3- السودان الفرنسي: وعاصمته باماكو. ومساحته 450 ألف ميل مربع.
4- غينيا الفرنسية: ومساحته 106.5 ألف ميل مربع وعاصمته كوناكري.
5- ساحل العاج: ومساحته 123 ألف ميل مربع وعاصمته أبيدجان.
6- فولتا العليا: ومساحتها 105.9 ألف ميل مربع والعاصمة واجادوجو.
7- داهومي : وتقع بين توجولاند ونيجيريا.
8- النيجر : ومساحتها 494 ألف ميل مربع وتمتد بين حدود نيجيريا وليبيا،وعاصمتها نيامي[56] .
وقد شكلت الأقاليم الثمانية ما عرف بأفريقيا الفرنسية الغربية، وإضافة إليها كانت هناك أربعة أقاليم أخرى تشكل فيما بينها ما عرف بأفريقيا الفرنسية الاستوائية. وتمثلت هذه الأقاليم في تشاد، والجابون وابانجيى شاري (أفريقيا الوسطى حاليا)، الكنغو الفرنسي[57].
وكما هو واضح من ذلك الاستعراض فان دول الساحل الأفريقي موضع الدراسة قد وقعت جميعها تحت وطأة الاستعمار الفرنسي حيث وقعت ثلاث منها في نطاق المجموعة الفرنسية الغربية ووقعت تشاد في نطاق المجموعة الفرنسية الاستوائية، وفي ضوء ذلك فإنه يلزم بالضرورة التعرف على الدوافع الفرنسية لاستعمار هذه المناطق والبلدان.
ومراحل ذلك التوسع والاستعمار، والتعرف كذلك على سمات وملامح السياسات ونظم الحكم التي طبقتها فرنسا بالمنطقة سعيا لفهم واستخلاص تأثير هذه السياسات على الهوية الإسلامية العربية بالمنطقة، وإلى أي مدى نجحت القوى الاستعمارية في هذا السياق.
ومما تجدر الإشارة إليه منذ البداية انه لما كان تاريخ الاستعمار الفرنسي لمنطقة الساحل الأفريقي لا ينفك بحال عن التاريخ العام للاستعمار الفرنسي في غرب أفريقيا، فإنه يمكن استعراض النقاط السابق ذكرها في ضوء السياق العام لتاريخ المنطقة مقارنة مع غيرها من مناطق القارة الأفريقية مع التركيز على الدول موضع الاعتبار كلما أمكن ذلك بما يخدم الدراسة والهدف منها.
أولا: دوافع الاستعمار الفرنسي في أفريقيا
تكاد دوافع الاستعمار الفرنسي في أفريقيا أن تتشابه مع دوافع غيرها من القوى الأوروبية الاستعمارية في القارة بيد أنها تنفرد بدافع خاص أسهم في توجيه سياساتها الاستعمارية نحو أفريقيا- وهذا هو اضطراب دورها الإمبراطوري بين القوى الأوروبية . الأمر الذي تجلى بعد الحروب النابليونيه 1814 وبعد حرب 1870 ضد ألمانيا.
أ. العوامل الدولية الدافعة للاستعمار الفرنسي:
استطاعت فرنسا في تاريخها الاستعماري الحديث أن تكون إمبراطورية كبرى في العالم الجديد- كندا وجزر الكاريبي – وفي الهند وجزر المحيط الأطلنطي. بيد أن تلك الإمبراطورية التي بدأت في القرن السابع عشر قد تداعت بعد هزيمة فرنسا على أثر حروب نابليون 1814[58].
وهكذا فبعد هذه الحروب ، وإعادة تقسيم أوربا في مؤتمر فيينا عام 1815، صارت فرنسا في حالة شديدة من القلق والتوتر الداخليين. وعانى الشعب الفرنسي من ويلات هذه النكسة فبدا لساستها أن البحث عن مجال الاستعمار بعيدا عن أوربا كفيل بتعويض خسائر فرنسا وللحصول على مواقع استراتيجية تدعم سياساتها الإمبراطورية هذا بالإضافة إلى شغل الشعب الفرنسي وتوحيده خلف هدف قومي يمكنه من اجتياز محنته[59]. وقد بدت أفريقيا بوصفها المجال الأمثل لعمل السياسة الاستعمارية الفرنسية في تلك المرحلة ولا سيما بعد إصدار مبدأ مونرو1823 الذي حظرت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية على القوى الأوروبية التدخل بأي شكل في شئون الأمريكتين.
لقد بدأت فرنسا توجهها نحو أفريقيا باحتلال الجزائر عام 1830، بيد أن نشاطها في الجزائر لم يقابله نشاط مماثل في غرب أفريقيا وان الوضع قد استمر حتى الخمسينيات فلم تتخذ فرنسا سياسة توسعية في غرب أفريقيا إلا بعد مجئ نابليون الثالث 1848-1870. وبهزيمة فرنسا من ألمانيا 1870، انعكس ذلك على النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا وتمثل ذلك في هجر فرنسا لمنشآتها وسحب فرقها العسكرية. ورغم هذا لم تلبث فرنسا أن عادت التسع بعد فترة وجيزة من الحرب السبعينية وذلك بفعل الرغبة في تعويض البلاد عن فقدان الالزاس واللورين.
لقد اختلفت الآراء حول سبل تحقيق هذا الغرض، وكان مفكرو فرنسا وقادتها يبحثون عن كل وسيلة يمكن أن تسترد بها بلادهم كرامتها باستعادة الالزاس واللورين،ولم يكن أمام فرنسا سوى القوة لاستردادهما، لكن عجز الحكومة الفرنسية خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر عن تحديد زمن معين لتحقيق هذا الهدف القومي قد آثار بلبلة في نفوس الشعب واضطراباً في تفكيره السياسي وشعر الشعب الفرنسي بحالة من الضياع السياسي فظهرت أراء نادت بان استرداد الالزاس واللورين يأتي في المرتبة الأولى ويعد أهم من الحفاظ على الإمبراطورية الفرنسية الواسعة وأن توزيع الجيوش الفرنسية على المستعمرات في الشمال الأفريقي يقضى على أمل فرنسا في استرداد الإقليمين وانه من الأجدى تحجيم الإمبراطورية وتركيز الجيوش للانتقام من ألمانيا، وكان "كليمنصو" هو أهم مؤيدي هذا الرأي.
بيد أنه لم تلبث أن ظهرت أراء أخرى نادت بان المجال المناسب لتعويض فرنسا هو التوسع الاستعماري في أفريقيا وذلك لصرف أنظار الشعب الفرنسي – من جديد – عن القارة الأوروبية في ذلك الوقت الذي لا تستطيع فرنسا تحقيق هدف الانتقام من ألمانيا، والجدير بالذكر أن الأخيرة لم تقف في وجه التوسع الاستعماري الفرنسي في أفريقيا بل شجعته وذلك لصرف الأنظار عن الالزاس واللورين ولإذكاء الصراع الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا. وقد جاء تعيين "جول فري" في رئاسة الحكومة بمثابة تأكيد لهذا الرأي والشروع في تنفيذه مما كان له أثر كبير في تنشيط عملية التوسع الاستعماري ذلك أن فرنسا عندما أرادت استئناف نشاطها الاستعماري من جديد بعد الحرب السبعينية لم يعد هذا النشاط قاصراً على السنغال والمناطق الداخلية فيها وإنما شمل معظم الغرب الأفريقي وساحل غينيا [60].
ب: الدوافع الاقتصادية:
قد تعتبر هذه الدوافع هي الأهم في دفع الأوروبيين للاستعمار في أفريقيا، فقد ترتب على الثورة الصناعية في أوربا إحداث تغيير في حجم الإنتاج وبالتالي كان لابد من أسواق لتصريف هذا الإنتاج ثم مناطق للحصول على المواد الخام الداخلة في الصناعة[61]وقد وجدت الدول الصناعية في أفريقيا مجالا طيبا لنشاطها حيث تتوفر المواد الخام الزراعية والمعدنية والسكانية بالإضافة إلي الأسواق الواسعة لتصريف الفائض من منتجاتها. وقد ظهرت هذه السياسة الاستعمارية الاستغلالية بوضوح في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر حين انتقلت مقاليد الأمور في الدول الكبرى الصناعية إلى طبقات التجار والرأسماليين فأصبحت الاراض التجارية والصناعية والمالية ذات تأثير كبير ملموس في سياسات هذه الدول. وقد برزت ظاهرة تأسيس الشركات التجارية التي تمارس نشاطها في القارة مندفعة لاستنزاف مواردها وكانت الشركات التجارية التي تمارس نشاطها في القارة مندفعة لاستنزاف مواردها وكانت الشركات التجارية في الحقيقة، رائدة لحكوماتها في عملية الاستعمار وقد عبر عن ذلك بوضوح "جول فري" رئيس الحكومة الفرنسية في عام 1895 في تصريح له في البرلمان الفرنسي فذكر أن شعوب أوربا تطمع في الاستيلاء على مستعمرات لها في أفريقيا لتحقيق أهداف ثلاثة هي:
- الحصول على خامات المستعمرات.
- الاستحواذ على أسواق لتصريف ما تنتجه من مصنوعات.
- اتخاذ المستعمرات ميادين لتستقر فيها رؤوس الأموال الفائضة[62].
وقد لاقت أراء فري قبولاً من بعض أعضاء البرلمان مما كان له أثر كبير على السياسة الفرنسية حيث عبر عن رأيه بالنسبة للتوسع الفرنسي بقوله"لسنا فلاسفة وإنما رجال عمل نريد لمستعمراتنا التوسع والقوة ولذلك يجب علينا التصرف عملياً وفعلياً"[63].
ولتحقق الدولة المستعمرة أهدافها الاستغلالية حرصت على:
- أن تبقى المستعمرات بلاد غير صناعية.
- الا يكتسب أبناء المستعمرات الخبرة الفنية التي تعينهم على تنمية صناعاتهم الوطنية.
- التحكم في اسعار المواد الخام التي تنتجها المستعمرات لتصل إلى أماكن التصنيع في الدول الكبرى بأقل سعر ممكن.
- الاحتفاظ بمستوى أجور العمال المنخفض في المستعمرات[64].
ج- الدافع الديني- الحضاري
كان هذا الدافع من الدوافع الهامة وراء تعقب البرتغاليين للعرب الفارين من الاندلس نحو الثغور الأفريقية التي استقروا فيها وكانت تساندهم قبل طردهم من الاندلس. وقد باركت الباباوية الحركات الاستعمارية المبكرة التي قامت بها البرتغال وأسبانيا في هذا السبيل ويرتبط بالعامل الديني وراء تحرك الأوروبيين تجاه القارة الأفريقية اتجاه الجمعيات الدينية الأوروبية التابعة للمذاهب المختلفة التي نتجت عن حركة الإصلاح الديني في أوربا للتبشير بالمسيحية بين القبائل الوثنية. وقد اتخذ هذا الهدف الديني لتبرير الاستعمار واشتهر منهم في هذا المجال أسماء عديدة- منها مثلاً الكاردينال الفرنسي لافيجيري Levier – وقد كثرت في كتابات هؤلاء وأقوالهم الأحاديث عن واجب الرجل الأبيض أو الأب الأبيضWhite fatherتجاه الأفارقة[65].
لقد بررت الحكومة الفرنسية استعمارها باتخاذ شعار نقل الحضارة إلى الشعوب الأخرى وكانت تلك الحضارة تعنى تحويل السكان إلي الديانة المسيحية ونشر الثقافة الفرنسية[66].
وهكذا وتحت ستار نشر المسيحية في الأجزاء المكتشفة حديثا، وتحت شعار إدخال المدينة الأوروبية في المناطق الأفريقية، وتحت شعار النظريات الإنسانية والقضاء على تجارة الرقيق تحولت هذه البعثات التبشيرية إلي النشاط الاستعماري بل ومارس رجال التبشير مهمة الكشف والتبشير لازما للكشف والاستعمار[67].
وخلاصة القول أن العامل الديني كان من دوافع الاستعمار الأوروبي لأفريقيا كما كان ستاراً تخفت خلفه جماعات التبشير ورجال الاستكشاف في محاولة للتوسع والتوغل والسيطرة على القارة بحجة نشر الحضارة والديانة المسيحية وتمدين الأفارقة ونسيت هذه الشعوب الأوروبية أن لأفريقيا حضارتها ومكانتها وكذا للدول الإسلامية فيها دوراً وحضارة لا تنكر[68].
د. دافع الرق:[69]
كان الدافع لحركة الاستكشافات الجغرافية الوصول إلى الشرق للحصول على بضائعه التي كانت مطلوبة في أوربا لذا اهتمت البرتغال التي افتتحت صفحة الاستعمار بإنشاء مراكز تجارية على ساحل أفريقيا الغربي وانتهي بهم المطاف إلي أن كشفوا طريق رأس الرجاء الصالح المؤدي إلي الشرق. لذا فقد أطبق الاستعمار البرتغالي في ذلك الوقت اسم الاستعمار البهار لكن الأمر تحول بسرعة فأصبحت السلعة الأكبر تداولاً والمطلوبة هي الرقيق الأفريقي، والبرتغاليون هم مؤسسوا مدرسة الرق في العصر الحديث[70]. فهم الذين افتتحوا هذه الصفحة في العلاقات بين أوربا وأفريقيا فأقاموا سوقا كبيرا لشبونه وظلموا لمدة طويلة يحتكرون هذه التجارة وزاد الأمر سوءاً بعد أن كشف أمريكا وظهور الحاجة الماسة للرقيق لاستغلال العالم الجديد وكانت البرتغال تسد حاجة الدول الأخرى من هذه "السلعة" واضطرت لان تسلح أتباعها بالبنادق لمساعدتهم على عمليات القنص مستخدمين الأسلحة النارية[71].
اتسعت التجارة وصارت سواحل القارة غربا وجنوبا وشرقا موارد لا تنضب للرق الذي يشحن إلى العالم الجديد وبدأت عملية استعمار ديموجرافيا لأفريقيا.. وقد زاد الطين بله انتشار التجارة بشكل موسع ودخول دولة أوروبية جديدة في هذا المجال هولندا وانجلترا وفرنسا. وأنشئت الأساطيل لهذا الغرض وانتظمت الرحلات من غرب أوربا إلى غرب أفريقيا ثم إلى العالم الجديد وأخيرا أوربا ثانية حامله عائد بيع هذا الرقيق في شكل مواد خام للمصانع الأوروبية .. حتى قيل أن الرقيق الأفريقي كان وقود المصانع المذكورة[72]. كسدت هذه التجارة خلال الحرب الأمريكية نسبياً، لكنها عاودت الانتعاش بعدها حتى أصبح عدد مراكز تجارة الرقيق في عام 1791 أربعين مركزا وثلاثة فرنسية وخمسة عشر هولندية وأربعة برتغالية ومثلها دنمراكية. وقد نقلت هذه المراكز في سنة 1799 ثمانية وثلاثين ألفاً للمراكز البريطانية وعشرين ألفاً للفرنسية وتوزعت بضعة ألاف أخرى على باقي الدول.
لقد وضع لويس الرابع عشر قانوناً خاصاً تضمن أحكاماً بشأن معاملة الرقيق لكن القانون شيئ والمعاملة شيئ أخر فقد كانت معاملة الرقيق في الأملاك الفرنسية سيئة استمرت هذه التجارة طيلة ثلاثة قرون ونصف حتى بدا رجال الحركات الإنسانية يشعرون بتلك الإهانات التي توجه إلى الجنس البشري وقامت حركات لمكافحة الرق وتزعمت بريطانيا هذه الحركة وتمخضت جهود الإنجليز على إصدار القرارات لمنع الرق وإعادة توطين الأفارقة مرة ثانية في القارة وسارت دول أوربا على نفس هذا النمط[73].
وفي فرنسا كان إصدار إعلان حقوق الإنسان خلال الأيام من الثورة في سنة 1789 يعنى مساواة جميع البشر ولكن الجمعية الوطنية لم تلبث أن صدرت في سنة 1793 قرارا بان مثل هذه القرارات لا تسري على المستعمرات الفرنسية. نتيجة للاضطرابات الناجمة عن عدم المساواة والاضطهاد ، لم تملك الجمعية التشريعية إلا أن تصدر قرارا بمنح الزنوج الذين ولدوا بالمستعمرات الفرنسية حق التمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها الفرنسيون سواء بسواء بل أعطاهم حق الجلوس في المجالس التشريعية سواء في فرنسا أو المستعمرات.
وفي أيام نابليون أعطيت جزيرة ساندمنجو دستوراً مستقلا عن الدستور الفرنسي كما نصت القوانين الفرنسية على مساواة جميع الفرنسيين أمام القانون كما أصدر نابليون خلال حكم المائة يوم قراراً بتحريم تجارة الرقيق فكان هذا نهاية هذه التجارة في الأملاك الفرنسية وتأكد هذا الإلغاء في مؤتمر باريس الثاني عام 1815. وبرغم ذلك ظل الفرنسيون يمارسون هذه التجارة أيضا وينقلون من الأملاك البرتغالية حتى كانت سنة 1864 حين أصدر نابليون الثالث مرسوماً جديداً بالإلغاء ومع ذلك ظلت التجارة تجرى عن طريق التهريب خمس عشرة سنة أخرى[74] .
لقد بدأت القوى الأوروبية – تحت ستار الرق- التوغل في القارة الأفريقية وباسم محاربة الرقيق، وجدت هذه القوى ذريعة للتوغل في القارة وصارت عملية القضاء على الرقيق بداية لاستعمار القارة بمواردها البشرية والطبيعية. وبعبارة أخرى كانت تجارة الرقيق من أهم الدوافع نحو الاستيطان والتوسع في القارة في أوائل القرن السادس عشر وكان احتكار هذه التجارة ونقلها للعالم الجديد حجة للأوروبين ودوافعهم للتوسع في القارة وحتى بعد القضاء على هذه التجارة وبعد اكتشاف مناطق القارة الداخلية صارت عملية إلغاء الرق وسيلة نحو الاستعمار الأوروبي للقارة
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #6
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

الاستعمار الفرنسي والهوية العربية الإسلامية
الدوافع..المراحل..السمات والآثار..
شهدت القارة الأفريقية مع إشراقة العصور الحديثة موجة من الصراع الاستعماري بعد خروج المسلمين من الأندلس. وكان الهدف من هذه الحركة هو تعقب المسلمين القادمين من الاندلس، والقضاء على آخر معاقلهم على الساحل الأفريقي، ثم إجهاض أي محاولة للتفكير في العودة إلى هذه البلاد وترتب على هذه النزوة الاستعمارية محاولة تطويق المسلمين وذلك بالاتصال بالمملكة المسيحية في بلاد الحبشة، وأدت هذه الحركة إلى الكشوف الجغرافية التي انتهت بالدوران حول أفريقيا، والوصول إلى شاطئها الشرقي، ودخلت في صراع دموي مع الأمارات والممالك الإسلامية سواء في شمال القارة أو شرقها أو غربها[53].
كانت أفريقيا منذ الكشوف الجغرافية، هدفا من أهداف الدول الأوروبية في حركتها الكشفية واستمرت هذه العملية الاستعمارية في التطوير والتوسع حتى تم الإطباق على القارة من كل جانب ومع حلول القرن العشرين كانت أفريقيا فريسة الاستعمار الأوروبي ولم يتمتع باستقلاله إلا أجزاء بسيطة لا تعدو مساحتها 8% من مساحة القارة الضخمة[54] بيد أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الحملة الاستعمارية لم تبلغ أوجها إلا بعد مؤتمر برلين عام 1884-1885، والذي كان بمثابة الكشف السياسي لتقسيم القارة. لقد ظل الأوروبيون، حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، يسيطرون فقط على أجزاء بسيطة من أفريقيا، لا تعدو السواحل وبعض الجزر البسيطة، واستمر الوضع على هذا المنوال حتى عام 1885، حيث ظل الجزء المستعمر من القارة لا يتعدى 5% فقط من مساحتها، وقد كانت هناك أسباب عديدة أخرت كشف القارة والتوغل فيها واستعمارها. ومن أهم هذه الأسباب:
1- أن السواحل الأفريقية قليلة بالنسبة لمساحة القارة، يعني أن الهضبة الداخلية تقترب من الساحل، ولا تعطى فرصة لتكوين ساحل واسع يمكن من الاستقرار والتحرك منه إلى أجزاء أخرى من القارة.
2- قلة الجزر والخلجان قرب الساحل والتي تيسر عملية إنشاء موانئ تكون بمثابة نافذة القارة على العالم الخارجي. حتى الجزر القريبة من القارة، مثل مدغشقر وزنجبار في الشرق أو حتى جزر كناري وساتومي في الغرب، لم تلعب دوراً هاما في هذا الصدد، وليظل داخل القارة مجهولا لفترة طويلة للأوروبيين.
3- أن أنهار القارة لم تساعد على التوغل داخلها بل وقفت حجرة عثرة أمام التوغل الأوروبي إلى الداخل ، ولم يتم كشف هذه الأنهار إلا بالطرق البرية المجاورة لها.
4- كانت العوامل المناخية القاسية، والظروف البيئية غير المواتية سببا في هلاك عدد كبير من الأوروبيين الذين تطوعوا لارتياد أجزاء القارة المجهولة.
5- لم تكن سياسة الأوروبيين نحو القارة في القرن السادس عشر موجهه إلى كشف باطنها، بل اعتبرتها مجرد محطة في الطريق المؤدي إلى الشرق.فكانت الاستراتيجية المتبعة هي إقامة المحطات فقط على السواحل دون تطلع لارتياد المناطق الداخلية.
6- عرقلت سواحل القارة محاولات التوغل للداخل، لأنه بالإضافة إلى قلتها ووعورتها بسبب ارتفاع الهضاب والجبال، فإن كل ساحل في القارة كانت له طبيعة خاصة عرقلت توغل الأوروبيين منه.. فإذا نظرنا إلى الساحل الغربي، نجده لم يسهل من مهمة المستعمرين، بسبب قلة موانيه الطبيعية، وعدم جدوى الجزر فيه، وانحدار الأنهار نحوه بشدة، وانتشار الأمراض الفتاكة الناتجة عن الرطوبة الشديدة، كما أن الساحل الأفريقي في هذه الجزر ينتهي إما بالمناطق الصحراوية أو شبه الصحراوية أو غابات كثيفة صعبة الاختراق والاجتياز.
7- لكل هذه الأسباب تأخر الكشف الأوروبي للقارة الأفريقية حتى أوائل القرن التاسع عشر، وتحديدا بعد مؤتمر برلين 1885، حيث تغيرت الصورة وبدأت عوامل جديدة دفعت الأوروبيين للتوغل في القارة وكشف أنهارها ومناطقها المختلفة واستعمارها، ومن ثم لم يتعد الجزء المستقل من أفريقيا في عام1910 نحو 8% من مساحتها[55] .
أصبحت الخريطة السياسية لغرب أفريقيا موزعة على الدول الأوروبية بعد مؤتمر برلين 1885، فقد حصلت ألمانيا على الكاميرون وتوجو، واستولت انجلترا على أربع مناطق هي سيراليون وساحل الذهب ونيجيريا وجامبيا، أما فرنسا فقد استولت على مساحة شاسعة أطلقت عليها اسم أفريقيا الفرنسية الغربية، وشملت موريتانيا والسنغال والسودان الفرنسي(مالي حالياً) والنيجر وداهومي (بنين الآن) وساحل العاج وغينيا وفولتا العليا (بوركينا فاسو) وشملت الإمبراطورية الفرنسية حوالي 1.8 مليون ميل مربع، وهو ما يوازي مساحة فرنسا تسع مرات، وهي عبارة عن رقعة هائلة من الأرض، لعلها من أكبر المساحات السياسية في العالم، وتمتد من شواطئ المحيط الأطلنطي غربا إلى نهاية الصحراء الكبرى شرقا، وتضم أفريقيا الغربية الفرنسية إعدادا من القبائل تتكلم 120 لهجة مختلفة، وهي تنقسم إلي ثمانية أقسام إدارية كبرى هي:
1- السنغال: وفيه عاصمة أفريقيا الغربية –داكارا- ومساحته 80.6 ألف ميل مربع.
2- موريتانيا: ومساحتها 400 ألف ميل مربع، وعاصمته سانت لويس.
3- السودان الفرنسي: وعاصمته باماكو. ومساحته 450 ألف ميل مربع.
4- غينيا الفرنسية: ومساحته 106.5 ألف ميل مربع وعاصمته كوناكري.
5- ساحل العاج: ومساحته 123 ألف ميل مربع وعاصمته أبيدجان.
6- فولتا العليا: ومساحتها 105.9 ألف ميل مربع والعاصمة واجادوجو.
7- داهومي : وتقع بين توجولاند ونيجيريا.
8- النيجر : ومساحتها 494 ألف ميل مربع وتمتد بين حدود نيجيريا وليبيا،وعاصمتها نيامي[56] .
وقد شكلت الأقاليم الثمانية ما عرف بأفريقيا الفرنسية الغربية، وإضافة إليها كانت هناك أربعة أقاليم أخرى تشكل فيما بينها ما عرف بأفريقيا الفرنسية الاستوائية. وتمثلت هذه الأقاليم في تشاد، والجابون وابانجيى شاري (أفريقيا الوسطى حاليا)، الكنغو الفرنسي[57].
وكما هو واضح من ذلك الاستعراض فان دول الساحل الأفريقي موضع الدراسة قد وقعت جميعها تحت وطأة الاستعمار الفرنسي حيث وقعت ثلاث منها في نطاق المجموعة الفرنسية الغربية ووقعت تشاد في نطاق المجموعة الفرنسية الاستوائية، وفي ضوء ذلك فإنه يلزم بالضرورة التعرف على الدوافع الفرنسية لاستعمار هذه المناطق والبلدان.
ومراحل ذلك التوسع والاستعمار، والتعرف كذلك على سمات وملامح السياسات ونظم الحكم التي طبقتها فرنسا بالمنطقة سعيا لفهم واستخلاص تأثير هذه السياسات على الهوية الإسلامية العربية بالمنطقة، وإلى أي مدى نجحت القوى الاستعمارية في هذا السياق.
ومما تجدر الإشارة إليه منذ البداية انه لما كان تاريخ الاستعمار الفرنسي لمنطقة الساحل الأفريقي لا ينفك بحال عن التاريخ العام للاستعمار الفرنسي في غرب أفريقيا، فإنه يمكن استعراض النقاط السابق ذكرها في ضوء السياق العام لتاريخ المنطقة مقارنة مع غيرها من مناطق القارة الأفريقية مع التركيز على الدول موضع الاعتبار كلما أمكن ذلك بما يخدم الدراسة والهدف منها.
أولا: دوافع الاستعمار الفرنسي في أفريقيا
تكاد دوافع الاستعمار الفرنسي في أفريقيا أن تتشابه مع دوافع غيرها من القوى الأوروبية الاستعمارية في القارة بيد أنها تنفرد بدافع خاص أسهم في توجيه سياساتها الاستعمارية نحو أفريقيا- وهذا هو اضطراب دورها الإمبراطوري بين القوى الأوروبية . الأمر الذي تجلى بعد الحروب النابليونيه 1814 وبعد حرب 1870 ضد ألمانيا.
أ. العوامل الدولية الدافعة للاستعمار الفرنسي:
استطاعت فرنسا في تاريخها الاستعماري الحديث أن تكون إمبراطورية كبرى في العالم الجديد- كندا وجزر الكاريبي – وفي الهند وجزر المحيط الأطلنطي. بيد أن تلك الإمبراطورية التي بدأت في القرن السابع عشر قد تداعت بعد هزيمة فرنسا على أثر حروب نابليون 1814[58].
وهكذا فبعد هذه الحروب ، وإعادة تقسيم أوربا في مؤتمر فيينا عام 1815، صارت فرنسا في حالة شديدة من القلق والتوتر الداخليين. وعانى الشعب الفرنسي من ويلات هذه النكسة فبدا لساستها أن البحث عن مجال الاستعمار بعيدا عن أوربا كفيل بتعويض خسائر فرنسا وللحصول على مواقع استراتيجية تدعم سياساتها الإمبراطورية هذا بالإضافة إلى شغل الشعب الفرنسي وتوحيده خلف هدف قومي يمكنه من اجتياز محنته[59]. وقد بدت أفريقيا بوصفها المجال الأمثل لعمل السياسة الاستعمارية الفرنسية في تلك المرحلة ولا سيما بعد إصدار مبدأ مونرو1823 الذي حظرت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية على القوى الأوروبية التدخل بأي شكل في شئون الأمريكتين.
لقد بدأت فرنسا توجهها نحو أفريقيا باحتلال الجزائر عام 1830، بيد أن نشاطها في الجزائر لم يقابله نشاط مماثل في غرب أفريقيا وان الوضع قد استمر حتى الخمسينيات فلم تتخذ فرنسا سياسة توسعية في غرب أفريقيا إلا بعد مجئ نابليون الثالث 1848-1870. وبهزيمة فرنسا من ألمانيا 1870، انعكس ذلك على النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا وتمثل ذلك في هجر فرنسا لمنشآتها وسحب فرقها العسكرية. ورغم هذا لم تلبث فرنسا أن عادت التسع بعد فترة وجيزة من الحرب السبعينية وذلك بفعل الرغبة في تعويض البلاد عن فقدان الالزاس واللورين.
لقد اختلفت الآراء حول سبل تحقيق هذا الغرض، وكان مفكرو فرنسا وقادتها يبحثون عن كل وسيلة يمكن أن تسترد بها بلادهم كرامتها باستعادة الالزاس واللورين،ولم يكن أمام فرنسا سوى القوة لاستردادهما، لكن عجز الحكومة الفرنسية خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر عن تحديد زمن معين لتحقيق هذا الهدف القومي قد آثار بلبلة في نفوس الشعب واضطراباً في تفكيره السياسي وشعر الشعب الفرنسي بحالة من الضياع السياسي فظهرت أراء نادت بان استرداد الالزاس واللورين يأتي في المرتبة الأولى ويعد أهم من الحفاظ على الإمبراطورية الفرنسية الواسعة وأن توزيع الجيوش الفرنسية على المستعمرات في الشمال الأفريقي يقضى على أمل فرنسا في استرداد الإقليمين وانه من الأجدى تحجيم الإمبراطورية وتركيز الجيوش للانتقام من ألمانيا، وكان "كليمنصو" هو أهم مؤيدي هذا الرأي.
بيد أنه لم تلبث أن ظهرت أراء أخرى نادت بان المجال المناسب لتعويض فرنسا هو التوسع الاستعماري في أفريقيا وذلك لصرف أنظار الشعب الفرنسي – من جديد – عن القارة الأوروبية في ذلك الوقت الذي لا تستطيع فرنسا تحقيق هدف الانتقام من ألمانيا، والجدير بالذكر أن الأخيرة لم تقف في وجه التوسع الاستعماري الفرنسي في أفريقيا بل شجعته وذلك لصرف الأنظار عن الالزاس واللورين ولإذكاء الصراع الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا. وقد جاء تعيين "جول فري" في رئاسة الحكومة بمثابة تأكيد لهذا الرأي والشروع في تنفيذه مما كان له أثر كبير في تنشيط عملية التوسع الاستعماري ذلك أن فرنسا عندما أرادت استئناف نشاطها الاستعماري من جديد بعد الحرب السبعينية لم يعد هذا النشاط قاصراً على السنغال والمناطق الداخلية فيها وإنما شمل معظم الغرب الأفريقي وساحل غينيا [60].
ب: الدوافع الاقتصادية:
قد تعتبر هذه الدوافع هي الأهم في دفع الأوروبيين للاستعمار في أفريقيا، فقد ترتب على الثورة الصناعية في أوربا إحداث تغيير في حجم الإنتاج وبالتالي كان لابد من أسواق لتصريف هذا الإنتاج ثم مناطق للحصول على المواد الخام الداخلة في الصناعة[61]وقد وجدت الدول الصناعية في أفريقيا مجالا طيبا لنشاطها حيث تتوفر المواد الخام الزراعية والمعدنية والسكانية بالإضافة إلي الأسواق الواسعة لتصريف الفائض من منتجاتها. وقد ظهرت هذه السياسة الاستعمارية الاستغلالية بوضوح في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر حين انتقلت مقاليد الأمور في الدول الكبرى الصناعية إلى طبقات التجار والرأسماليين فأصبحت الاراض التجارية والصناعية والمالية ذات تأثير كبير ملموس في سياسات هذه الدول. وقد برزت ظاهرة تأسيس الشركات التجارية التي تمارس نشاطها في القارة مندفعة لاستنزاف مواردها وكانت الشركات التجارية التي تمارس نشاطها في القارة مندفعة لاستنزاف مواردها وكانت الشركات التجارية في الحقيقة، رائدة لحكوماتها في عملية الاستعمار وقد عبر عن ذلك بوضوح "جول فري" رئيس الحكومة الفرنسية في عام 1895 في تصريح له في البرلمان الفرنسي فذكر أن شعوب أوربا تطمع في الاستيلاء على مستعمرات لها في أفريقيا لتحقيق أهداف ثلاثة هي:
- الحصول على خامات المستعمرات.
- الاستحواذ على أسواق لتصريف ما تنتجه من مصنوعات.
- اتخاذ المستعمرات ميادين لتستقر فيها رؤوس الأموال الفائضة[62].
وقد لاقت أراء فري قبولاً من بعض أعضاء البرلمان مما كان له أثر كبير على السياسة الفرنسية حيث عبر عن رأيه بالنسبة للتوسع الفرنسي بقوله"لسنا فلاسفة وإنما رجال عمل نريد لمستعمراتنا التوسع والقوة ولذلك يجب علينا التصرف عملياً وفعلياً"[63].
ولتحقق الدولة المستعمرة أهدافها الاستغلالية حرصت على:
- أن تبقى المستعمرات بلاد غير صناعية.
- الا يكتسب أبناء المستعمرات الخبرة الفنية التي تعينهم على تنمية صناعاتهم الوطنية.
- التحكم في اسعار المواد الخام التي تنتجها المستعمرات لتصل إلى أماكن التصنيع في الدول الكبرى بأقل سعر ممكن.
- الاحتفاظ بمستوى أجور العمال المنخفض في المستعمرات[64].
ج- الدافع الديني- الحضاري
كان هذا الدافع من الدوافع الهامة وراء تعقب البرتغاليين للعرب الفارين من الاندلس نحو الثغور الأفريقية التي استقروا فيها وكانت تساندهم قبل طردهم من الاندلس. وقد باركت الباباوية الحركات الاستعمارية المبكرة التي قامت بها البرتغال وأسبانيا في هذا السبيل ويرتبط بالعامل الديني وراء تحرك الأوروبيين تجاه القارة الأفريقية اتجاه الجمعيات الدينية الأوروبية التابعة للمذاهب المختلفة التي نتجت عن حركة الإصلاح الديني في أوربا للتبشير بالمسيحية بين القبائل الوثنية. وقد اتخذ هذا الهدف الديني لتبرير الاستعمار واشتهر منهم في هذا المجال أسماء عديدة- منها مثلاً الكاردينال الفرنسي لافيجيري Levier – وقد كثرت في كتابات هؤلاء وأقوالهم الأحاديث عن واجب الرجل الأبيض أو الأب الأبيضWhite fatherتجاه الأفارقة[65].
لقد بررت الحكومة الفرنسية استعمارها باتخاذ شعار نقل الحضارة إلى الشعوب الأخرى وكانت تلك الحضارة تعنى تحويل السكان إلي الديانة المسيحية ونشر الثقافة الفرنسية[66].
وهكذا وتحت ستار نشر المسيحية في الأجزاء المكتشفة حديثا، وتحت شعار إدخال المدينة الأوروبية في المناطق الأفريقية، وتحت شعار النظريات الإنسانية والقضاء على تجارة الرقيق تحولت هذه البعثات التبشيرية إلي النشاط الاستعماري بل ومارس رجال التبشير مهمة الكشف والتبشير لازما للكشف والاستعمار[67].
وخلاصة القول أن العامل الديني كان من دوافع الاستعمار الأوروبي لأفريقيا كما كان ستاراً تخفت خلفه جماعات التبشير ورجال الاستكشاف في محاولة للتوسع والتوغل والسيطرة على القارة بحجة نشر الحضارة والديانة المسيحية وتمدين الأفارقة ونسيت هذه الشعوب الأوروبية أن لأفريقيا حضارتها ومكانتها وكذا للدول الإسلامية فيها دوراً وحضارة لا تنكر[68].
د. دافع الرق:[69]
كان الدافع لحركة الاستكشافات الجغرافية الوصول إلى الشرق للحصول على بضائعه التي كانت مطلوبة في أوربا لذا اهتمت البرتغال التي افتتحت صفحة الاستعمار بإنشاء مراكز تجارية على ساحل أفريقيا الغربي وانتهي بهم المطاف إلي أن كشفوا طريق رأس الرجاء الصالح المؤدي إلي الشرق. لذا فقد أطبق الاستعمار البرتغالي في ذلك الوقت اسم الاستعمار البهار لكن الأمر تحول بسرعة فأصبحت السلعة الأكبر تداولاً والمطلوبة هي الرقيق الأفريقي، والبرتغاليون هم مؤسسوا مدرسة الرق في العصر الحديث[70]. فهم الذين افتتحوا هذه الصفحة في العلاقات بين أوربا وأفريقيا فأقاموا سوقا كبيرا لشبونه وظلموا لمدة طويلة يحتكرون هذه التجارة وزاد الأمر سوءاً بعد أن كشف أمريكا وظهور الحاجة الماسة للرقيق لاستغلال العالم الجديد وكانت البرتغال تسد حاجة الدول الأخرى من هذه "السلعة" واضطرت لان تسلح أتباعها بالبنادق لمساعدتهم على عمليات القنص مستخدمين الأسلحة النارية[71].
اتسعت التجارة وصارت سواحل القارة غربا وجنوبا وشرقا موارد لا تنضب للرق الذي يشحن إلى العالم الجديد وبدأت عملية استعمار ديموجرافيا لأفريقيا.. وقد زاد الطين بله انتشار التجارة بشكل موسع ودخول دولة أوروبية جديدة في هذا المجال هولندا وانجلترا وفرنسا. وأنشئت الأساطيل لهذا الغرض وانتظمت الرحلات من غرب أوربا إلى غرب أفريقيا ثم إلى العالم الجديد وأخيرا أوربا ثانية حامله عائد بيع هذا الرقيق في شكل مواد خام للمصانع الأوروبية .. حتى قيل أن الرقيق الأفريقي كان وقود المصانع المذكورة[72]. كسدت هذه التجارة خلال الحرب الأمريكية نسبياً، لكنها عاودت الانتعاش بعدها حتى أصبح عدد مراكز تجارة الرقيق في عام 1791 أربعين مركزا وثلاثة فرنسية وخمسة عشر هولندية وأربعة برتغالية ومثلها دنمراكية. وقد نقلت هذه المراكز في سنة 1799 ثمانية وثلاثين ألفاً للمراكز البريطانية وعشرين ألفاً للفرنسية وتوزعت بضعة ألاف أخرى على باقي الدول.
لقد وضع لويس الرابع عشر قانوناً خاصاً تضمن أحكاماً بشأن معاملة الرقيق لكن القانون شيئ والمعاملة شيئ أخر فقد كانت معاملة الرقيق في الأملاك الفرنسية سيئة استمرت هذه التجارة طيلة ثلاثة قرون ونصف حتى بدا رجال الحركات الإنسانية يشعرون بتلك الإهانات التي توجه إلى الجنس البشري وقامت حركات لمكافحة الرق وتزعمت بريطانيا هذه الحركة وتمخضت جهود الإنجليز على إصدار القرارات لمنع الرق وإعادة توطين الأفارقة مرة ثانية في القارة وسارت دول أوربا على نفس هذا النمط[73].
وفي فرنسا كان إصدار إعلان حقوق الإنسان خلال الأيام من الثورة في سنة 1789 يعنى مساواة جميع البشر ولكن الجمعية الوطنية لم تلبث أن صدرت في سنة 1793 قرارا بان مثل هذه القرارات لا تسري على المستعمرات الفرنسية. نتيجة للاضطرابات الناجمة عن عدم المساواة والاضطهاد ، لم تملك الجمعية التشريعية إلا أن تصدر قرارا بمنح الزنوج الذين ولدوا بالمستعمرات الفرنسية حق التمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها الفرنسيون سواء بسواء بل أعطاهم حق الجلوس في المجالس التشريعية سواء في فرنسا أو المستعمرات.
وفي أيام نابليون أعطيت جزيرة ساندمنجو دستوراً مستقلا عن الدستور الفرنسي كما نصت القوانين الفرنسية على مساواة جميع الفرنسيين أمام القانون كما أصدر نابليون خلال حكم المائة يوم قراراً بتحريم تجارة الرقيق فكان هذا نهاية هذه التجارة في الأملاك الفرنسية وتأكد هذا الإلغاء في مؤتمر باريس الثاني عام 1815. وبرغم ذلك ظل الفرنسيون يمارسون هذه التجارة أيضا وينقلون من الأملاك البرتغالية حتى كانت سنة 1864 حين أصدر نابليون الثالث مرسوماً جديداً بالإلغاء ومع ذلك ظلت التجارة تجرى عن طريق التهريب خمس عشرة سنة أخرى[74] .
لقد بدأت القوى الأوروبية – تحت ستار الرق- التوغل في القارة الأفريقية وباسم محاربة الرقيق، وجدت هذه القوى ذريعة للتوغل في القارة وصارت عملية القضاء على الرقيق بداية لاستعمار القارة بمواردها البشرية والطبيعية. وبعبارة أخرى كانت تجارة الرقيق من أهم الدوافع نحو الاستيطان والتوسع في القارة في أوائل القرن السادس عشر وكان احتكار هذه التجارة ونقلها للعالم الجديد حجة للأوروبين ودوافعهم للتوسع في القارة وحتى بعد القضاء على هذه التجارة وبعد اكتشاف مناطق القارة الداخلية صارت عملية إلغاء الرق وسيلة نحو الاستعمار الأوروبي للقارة
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #7
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

هـ: دوافع استراتيجية:
من الدوافع الأخرى التي دفعت الدول الأوروبية لاستعمار مناطق خاصة في القارة الموقع الاستراتيجي لهذه المناطق الأفريقية لاسيما في ظل التنافس الاستعماري بين القوى الأوروبية. فموقع مصر على البوابة الشمالية الشرقية من القارة، وفي الطريق الملاحي الهام بين البحر المتوسط والبحر الأحمر – خاصة بعد فتح قناة السويس للملاحة عام 1869- كان ذلك وراء الاحتلال الإنجليزي لمصر لإدراكهم لأهمية موقعها هذا في الصراع الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا ونفس الشيء فيما يتعلق بمنطقة "الكاب" بموقعها الفريد في الطريق الملاحي – رأس الرجاء الصالح – بين الغرب والشرق. فقد تمسكت انجلترا في مؤتمر فيينا1815م بهذه المنطقة وأصرت على عدم ردها لهولندا واضطرت الدول لإقرار ذلك[75] .
لقد كان هذا الصراع الاستعماري أحد دواع فرنسا للسيطرة على دول المغرب العربي تعويضاً عن فقدان مركزها في مصر بفعل الاحتلال البريطاني. ولإنجاحها لتواجد على السواحل الأفريقية الغربية للحد من السيطرة البريطانية على هذا الطريق البحري الهام.
و: دوافع استيطانية:
بعد أن مرت القارة الأفريقية بمراحل الكشف الساحلي ثم الكشف الاستغلالي والاستعماري ظهرت في نظر الدول الأوروبية كمورد لتصريف الفائض من أبنائها الزائدين عن حاجة بلادهم وأصبحت القارة الأفريقية هدفاً لجماعات كثيرة نزحت إلى القارة بغية الاستقرار والاستيطان خصوصاً في المناطق المرتفعة والتي تتلاءم مع حياة الأوروبيين فكان جنوب القارة ملجأ أساسياً لأعداد كبيرة من الأوروبيين لا يزالون يسيطرون على دفة الأمور الفعلية والاقتصادية في هذا الجزء من القارة كذلك وجد الأوروبيون في شرق القارة وخصوصاً في مرتفعات كينيا مجالاً أخر للتوسع والاستقرار الاستيطاني وهكذا وجدت دول أوربا في بعض أجزاء القارة ذريعة للسيطرة على مناطق منها[76].
وبالنسبة لفرنسا فقد تعاملت مع مستعمراتها الأفريقية – الإمبراطورية الثانية- بشكل يتجاوز وضعها كمستعمرات وإنما اعتبرتها جزءاً من فرنسا الام وما ينطوي عليه ذلك من ضم وإلحاق واستيطان. وكان ذلك بفعل الإمبراطورية الأولى التي تداعت فضلا عن فقدان الالزاس واللورين.
ولم يكن هدف الاستيطان سياسيا فحسب، بل إنه كان اقتصاديا ذلك لأن الدول الأوروبية استفادت من هذه المستوطنات بما فيها من مواد خام لازمة لها وبما تقدمه من وسائل العيش لأبناء لها ضاقت بهم سبل العي في بلادهم بالإضافة إلى استغلال هذه المناطق لصالح دولهم ناهيك عن اعتبار هؤلاء السكان عملاء ينفذون سياسة بلادهم وليس أدل على ذلك من أن تجار فرنسا هم الذين حفظوا بقاءها وتواجدها في غرب أفريقيا بعد انهيار الإمبراطورية الأولى.
لقد تشابكت هذه الدوافع وتداخلت مع بعضها البعض لدرجة أنه يصعب التمييز بينها فهي عوامل تواكبت وتلازمت في القارة. فارتبط التبشير بالقضاء على الرق. وارتبط باستكشاف داخل القارة واستعمار أجزائها . واقترن الاستيطان بعملية السيطرة والحاجة إلى الاستقرار لاستغلال الموارد الأفريقية. وكانت الدول الاستعمارية تبحث عن كافة الوسائل التي تسهل لها عملية السيطرة بغض النظر عن النتائج التي تتمخض عن هذه السيطرة وعلى أساس وضع اعتبار لادعاءات الدول الأخرى المتنافسة بها.
ثانياً: الاستعمار الفرنسي والمقاومة الإسلامية في غرب أفريقيا
أ:التغلغل الفرنسي في أفريقيا:
بدأت علاقات فرنسا بغرب أفريقيا في القرن السابع عشر بقصد الاتجار في الرق، وتأسست شركة السنغال الملكية في عام 1697واتخذت من "سنت لويس" مقراً لها ولكن لم يبدأ التوغل الفرنسي في الداخل إلا في القرن التاسع عشر عندما فكرت فرنسا في توجيه أنظار الشعب إلى النشاط الاستعماري ولتعويض ما فقدوه أثناء الصراع مع أوربا وتحولت منطقة السنغال من مجرد محطة إلى مستعمرة حقيقية لكن الهزائم التي منيت بها فرنسا في حرب السبعين عرقلت من هذه المسيرة إلى حين[77] فقد انعكست أثار الهزيمة على النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا وقد تمثل ذلك في هجر فرنسا لمنشأتها وسحب فرقها العسكرية فانسحبت من مستعمرة السنغال، وهي المستعمرة الرئيسية في غرب أفريقيا. وهجرت المنشات الخاصة بها في منطقة خليج غينيا وانكمش النفوذ الفرنسي في منطقة غينيا الساحلية، أي في منطقة انهار الجنوب. وقد نتج عن انسحاب الفرق الفرنسية من ساحل غينيا وخاصة في منطقتي ساحل العبيد وساحل العاج أن بدأت بريطانيا في مد نفوذها إلى هذه المناطق لقد استمر الوجود الفرنسي فقط بفضل جهود بعض التجار الفرنسيين ومن خلالهم استطاعت فرنسا أن تستعيد نفوذها مدعية حقها التاريخي في المنطقة[78].
وفي عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة توجهت الحملات الفرنسية إلي غرب أفريقيا واستطاعت فرنسا بعد فترة وجيزة أن تكون مستعمراتها هناك وأطلقت عليها اسم أفريقيا الفرنسية وتضم مستعمرات السنغال وموريتانيا وغينيا والسودان الفرنسي وساحل العاج وفولتا العليا وداهوامي والنيجر.
كانت فرنسا أكثر اتصالاً بتجارها وشركاتها فكانت تشرف على أعمالهم وتعين لهم القناصل الذين كانوا يستعملون نفوذهم من أجل عقد المعاهدات مع الملوك الوطنيين ورؤساء القبائل. لقد وقعت مراكز فرنسا على ساحل أفريقيا الغربي من يد بريطانيا خلال الحروب النابليونية التي استمرت بين سنتي 1795و1814 ولكنها أعيدت إلى فرنسا بعد مؤتمر فيينا 1815 وأخذت فرنسا توثق إشرافها على هذه المراكز فترسل موظفين من قبلها ليتوصلوا إلي الزعماء الوطنيين لعقد المعاهدات التجارية على نحو ما كانت تفعل من قبل وقد رضى بعض الزعماء والملوك الوطنيين في بعض هذه المعاهدات أن هذه الحماية طلب السلاح من أجل التغلب على القبائل الوطنية الأخرى وظلت هذه السياسة تسير هينة بطيئة في أول أمرها حتى منتصف القرن وفي سنة 1854 عين الجنرال "فيديرب" حاكماً على إقليم السنغال فكان أول من اتجه بكل قوته إلي تدعيم هذه المراكز بل وإلي مد نفوذ دولته إلي الداخل وفتح الطريق إلي حوض النيجر ونجحوا في ذلك إلى حد كبير[79] نجح "فيديرب" في التوغل إلي الداخل وفتح الطريق إلي حوض النيجر ولم يكن الطريق سهلاً لكنها كانت مناطق وعرة.كانت مناطق إسلامية تؤمن أن هذا الغازي كافر ولابد من مقاومته. ومن ثم دارت حروب طويلة بين المسلمين والفرنسيين في هذه الممالك الإسلامية في غرب أفريقيا وظهر رجال وفقهاء استطاعوا أن يكبد الفرنسيين خسائر فادحة واضطروا فرنسا في مرات عديدة أن ترسل التعزيزات وأن تغير القيادات وأن تعقد اتفاقيات الهدنة مع هؤلاء الزعماء المسلمين[80].
ب:المقاومة الإسلامية بقيادة الحاج عمر الفوتي:
يعد الحاج عمر الفوتي التكروري من أبرز زعماء الذين ساهموا بشكل فعال في مقاومة التوسع الأوروبي. لقد سيطر على معظم أعالي نهر السنغال ووصل نفوذ إلي باكل وكان بأمل الحصول على أسلحة من الفرنسيين بتحسين علاقاته معهم فكان على استعداد للموافقة على تسهيل تجارة الفرنسيين عبر إمبراطوريته حتى يهاجموه من المؤخرة إذا ما انشغل في حروب مع القبائل الأخرى والإمارات الوثنية. وقال الحاج عمر في لقاء مع بعض المسئولين الفرنسيين أنه يرغب في السلام ويكره الظلم وأن على الفرنسيين دفع الجزية إليه ليتمكنوا من المتاجر في أمان وإنه بعد إن يصبح حاكما على إمبراطورية يضم الممالك والقبائل المجاورة له فسوف ينظم الدولة وتسود علاقات الود مع الفرنسيين في "سنت لويس" بالسنغال بيد أن هؤلاء لم يهتموا باقتراحاته لعدم رغبتهم في دفع جزية لأي حاكم مسلم محلى. فضلا عن تخوفهم من خطر توسعاته في غرب أفريقيا ذلك ، قوات الحاج عمر بعد ان اكتسحت كاسو وباماكو اخترقت طريقها إلى كارتا مقتربة من المركز الفرنسي في باكل على نهر السنغال، لقد وجدوا فيه خصما عنيداً فرفضوا إعطاءه الأسلحة سببا في فتور العلاقات وقام الحاج بمقاطعة المرور في حوض نهر السنغال الأعلى بل حاول التحرك ضد المركز الفرنسي المجاور له فكان هذا بداية مرحلة من الصراع بين الحاج عمر والقوات الفرنسية[81] .
لقد واجه الفرنسيون خطر الحاج عمر ونفوذه الواسع على مسلمي غرب أفريقيا من خلال معاهدات وتحالفات مع القوى المعادية له من ناحية. وإنشاء العديد من الحصون الفرنسية لتدعيم مركز فرنسا وتأمين حدودها في غرب أفريقيا وقد أتت هذه الحصون ثمارها لمنعها الحاج عمر من توسيع دائرة نفوذه على حساب الممتلكات الفرنسية في السنغال وذلك من ناحية أخرى. ولم تلبث هذه السياسة أن أتت أكلها بنجاح القوى المناوئة للحاج عمر في القضاء عليه عام 1864 حيث خلفه ابنه احمد يواصل جهود والده ضد الفرنسيين[82] لم يدخل الفرنسيون في مواجهة مباشرة مع الحاج عمر لشعورهم بأن الخطر الأكبر الذي يهدد مستعمرة السنغال جاء من الشمال أي من إغارات القبائل الموريتانية المتكررة التي وصلت إحدى غاراتها إلي سانت لويس نفسها. ومن ثم اعتمد فيديرب على الحملات العسكرية ضد الإمارات الموريتانية على مسلمي السنغال وقد بقيت المعاهدات التي عقدها مع القبائل المذكورة – لاسيما معاهدة 1858 مع محمد الحبيب زعيم قبائل التوارزة والتي تنازل بموجبها عن الأقاليم الواقعة جنوب هر السنغال واعترف بالحماية الفرنسية على منطقة أوالو- وهي أساس تعامل الفرنسيين معها وحددت العلاقة بين الطرفين خلال الخمسين سنة التالية[83]. ولتتفرغ للمواجهة المباشرة مع وريث الحاج عمر الشيخ أحمد حاكم التوكولور.
كانت السياسة الفرنسية نحو إمبراطورية التوكولور والتي اعتمدها بيردي ليل حاكم السنغال تهدف إلى الضم الكامل داخل النظام الاستعماري الفرنسي ومن ثم بدأ التوسع التدريجي في مناطق نفوذ الشيخ أحمدو. ولما احتل الفرنسيون مدينة باماكو لم يحاول التعرض للقوات المسلحة المارة عليه. ولعل السر في ذلك هو الضعف الذي انتاب الإمبراطورية بسبب الانقسام الداخلي وبالتالي حقق الفرنسيون عملياتهم في التوسع بشكل سريع لاسيما بعد مؤتمر برلين الذي اشترط الاحتلال الفعلي لأي منطقة قبل إعلان الأدعاء عليها مع إخطار الدول الأخرى الموقعة على ميثاق المؤتمر. لقد سارعت فرنسا لبسط سيطرتها على الممالك والإمبراطوريات الموجودة في غرب أفريقيا قبل قدوم قوى أوربية أخرى للمنطقة.
لقد كان رد المسلمين عنيفاً في مواجهة التوسع الفرنسي حيث هاجمت قوات الشيخ أحمدو قوافل الفرنسيين المتجهة إلي مادينا وأدرك القائد الفرنسي فري أن حربا شاملة لابد أن تحدث لا محاله ورغم سقوط عدد كبير من المدن في الإمبراطورية تحت قبضة السيطرة الفرنسية ورغم نفاذ السلاح والذخيرة فقد ظل الشيخ صامدا للنهاية حين استطاع الفرنسيون حسم المعركة لصالحهم في أبريل 1893 بفضل التفوق الحربي ليتم الاستيلاء على إمبراطورية توكولور[84] .
لقد واجهت القوات الفرنسية في غرب أفريقيا في تلك الأثناء كذلك واحدة من الحركات الإسلامية التي لعبت دوراً هاماً في مقاومة الوثنيين في منطقة وسانجامبيا. تلك الحركة التي قادها شيخ من شعب السراكولا يدعى محمد الأمين. ذلك الشيخ الذي حاول استعادة مكانه هذا الشعب أيام إمبراطورية غانا الإسلامية بالإضافة لمحاولاته من أجل نشر الدين الإسلامي بين سكان تلك المنطقة من غرب أفريقيا. كان الفرنسيون قد خططوا لهزيمة الأمين وقواته. بعد جولات عديدة حقق فيها النصر عليهم. باستخدام الوسائل الدبلوماسية والعسكرية فاستعانوا بقوات الشيخ أحمدو لمحاربة الأمين فيما كان من أهم أسباب القضاء على المقاومة الإسلامية المنقسمة على نفسها وفي ديسمبر 1887 نجحت القوات الفرنسية في القضاء على الأمين الذي كان قد أرهقها إلى حد كبير بسبب حرب العصابات[85].
ج: المقاومة الإسلامية بقيادة ساموري توري:
واجهت القوات الفرنسية أثناء توجهها للسيطرة على غرب أفريقيا-النيجر تحديداً- واحداً من أشهر أعلام الصراع من أجل التحرر للشعوب المقهورة في أفريقيا وهو "ساموري توري" زعيم الماندنجو الذي كون دولته في أعالي النيجر وسعى للتوسع شمالاً نحو منطقة ثنية النيجر بعد ان استولى على الضفة اليمنى للنهر ولذلك كان من الطبيعي أن يصطدم مع الفرنسيين الذين سعوا للسيطرة على المناطق الداخلية في غرب أفريقيا تمهيداً لإقامة إمبراطوريتهم التوسعية واحتدم الصراع بين الطرفين من عام 1881-1898ودارت خلاله عدة معارك خطيرة أرهقت القوات الفرنسية[86].
لقد تصادف قيام جهاد ساموري توري مع ظهور البحرية الفرنسية واستكمال سلاح المشاة بشكل جعله فعالاً وصالحاً للحروب في المستعمرات وصار هذا السلاح من أحدث وسائل الغزو التي استخدمتها الدول الأوروبية رغم حروب الجهاد التي قام بها ساموري توري متواكبة مع جهاد الحاج عمرو الشيخ أحمد ومحمد الأمين- والتي تميزت بقدرته على الرؤية بوضوح لأبعاد الصراع والتجارب بفاعلية مع الظروف المتغيرة ومستهدفه نشر الإسلام في غرب أفريقيا ولمواجهة التوسع الاستعماري ومقاومة التوغل المسيحي في القارة[87].
بعد جولات عديدة كانت فيها الحرب سجالاً بين ساموري والفرنسيين، أحست فرنسا أن ساموري قائد حربي عنيد وأنه يرفض كل عروض الحماية بدأ تخطط لحملة جماعية بقصد الإطباق عليه من كل جانب وقطع طرق مواصلاته وإغلاق المنافذ التى يمكن أن يهرب منها وذلك فى محاولة أخيرة للقضاء على رجل رفض التعاون معهم وحاربهم فى أكثر من موقع ورغم حرصه على تجنب الاحتكاك بهم إلا أن وجوده فى أعالى النيجر يعنى عرقلة توسعاتهم لضم المنطقة بأسرها، ووجد سامورى نفسه فى مواجهة أخيرة مع الفرنسيين فشرع يقاوم بكل ما أوتى من قوة وعتاد حتى تمكن من تجاوز الخطر مؤقتاً وبدأت مرحلة من الهدوء النسبى طوال عام 1897 حيث استطاع سامورى تنظيم جيشه من جديد والتقط أنفاسه استعداداً لمعركة المصير. وفى أول مايو عام 1898 استولى الفرنسيون على سيكاسو الأمر الذى أقنع سامورى بأن خطته لن تجدى مع الفرنسيين وأن مقاومته بتلك القوات البسيطة تعنى الموت المحقق فقرر الانضمام إلى حلفائه فى بلاد التوما الموجودين فى ليبيريا أملاً فى وجود موقع حصين هناك بيد أن الفرنسيين الذين كانوا يدركون عنصر الوقت تحركوا بسرعة لتعقبه. وتحرك سامورى تجاه الغرب متبعاً استراتيجية "الأرض المحروقة" حيث كان يدس كل ما تخلفه قواته حتى لا يجد الفرنسيون أى مساعدات أو مؤن تساعدهم على مواصلة الحرب ضده وكان كلما تحرك غرباً واستولى على منطقة من المناطق يترك بعضاً من رجاله للدفاع عن المناطق الجديدة الأمر الذى أرهق الفرنسيون وكبدهم الكثير وهم يتعقبونه حيث أصر على رفض الاستسلام مقابل السلام ورفض الحماية مقابل البقاء سلطاناً تابعاً لهم وفى يونيو من العام نفسه انسحب من المناطق الشرقية وركز كل جيشه مع حوالى أثنى عشر ألفاً من المدنيين على الساحل الضيق لبافنكو واستطاع أن يكسب معركة كبيرة ضد القائد الفرنسي لارتيج لكنه لم يلبث أن ارتكب خطأ فادحاً عندما قرر التحرك ناحية الغرب عبر الغابات الاستوائية وجبال "الدان" فى فصل الأمطار حيث واجه خطر المجاعة الكبرى مما أجبر قواته على الاختفاء بالليل والتفرق بحثاً عن الغذاء فكان أن تفرقت هذه الجموع وسط ظروف قاسية ولم يعد العدد الأكبر منها.[88]
فى هذه الظروف، بدأ الهجوم الأخير على سامورى وقسمت الحملة إلى قسمين قسم يتولى القبض على عائلة سامورى والأخر لتعقبه هو نفسه. وصدرت الأوامر بعدم قتله لئلا يؤدى ذلك لإثارة الاضطرابات فى غرب أفريقيا ورأى الفرنسيون أنه من الأفضل إذلاله أمام أعوانه وأخيراً تم إلقاء القبض عليه فى جيليمو ونفيه إلى جزيرة أجوية حيث توفى بها عام 1900، وهكذا دعمت فرنسا سيطرتها فى منطقة غينيا الفرنسية عن طريق التوسع فى المنطقة الساحلية المعروفة بأنها الجنوب وفى المنطقة الداخلية فى فوتا جالون وقد أتاح لها هذا التوسع الامتداد نحو النيجر فمدت نفوذها إلى أعالي النيجر بعد أن قضت على إمبراطورية التكرور بزعامة الشيخ أحمد وإمبراطورية الماندنجو بزعامة سامورى تورى[89]
د: المقاومة الإسلامية بقيادة رابح بن الزبير:
وفى عام 1898 أرسلت عدة حملات للاستيلاء على مدينة "رندر" الواقعة فى شمال مدينة "كانوا" وتقدمت القوات الفرنسية نحو بحيرة تشاد وواجهت قوات قائد آخر من قادة المسلمين يدعى رابح بن الزبير الذى كان قد اتخذ من مدينة "دكورة" عاصمة له وقاوم التوسع الفرنسي لكنه استشهد عام 1900 وظلت قوات الفرنسيين فى مواجهة حلفائه حتى أخضعت المنطقة لسيطرتها فى عام 1902. ولم يتوقف التوسع الفرنسي عند هذا الحد وإنما شرع فى الامتداد شرقاً حيث استطاعت السيطرة على باجرمى ووادى وكانم. وهكذا استطاعت فرنسا فى فترة وجيزة أن تحكم سيطرتها على هذه المناطق الشاسعة من غرب القارة ووسطها وأن تؤسس أفريقيا الفرنسية الغربية وأفريقيا الفرنسية الاستوائية. وأن تقسم هذه المناطق الشاسعة سواء فى حوض الكونغو أو فى منطقة الجابون أو فى وسط القارة. وكان هذا التوسع يعنى التنافس مع غيرها من الدول الأوروبية التى كانت تسعى على قدم وساق لبسط سيطرتها على كل المناطق الأفريقية. وكانت بريطانيا هى الخصم العنيد والعدو التقليدي لفرنسا فى هذا المضمار ولقد استطاعت الأخيرة بدبلوماسيتها أن تعقد المعاهدات وأن تتفق مع الزعماء المحليين على بسط نفوذها وفرض الحماية عليهم تارة بالإقناع وأخرى بالتهديد والوعيد وبعد أن أحكمت قبضتها على زعماء الداخل سلماً أو حرباً راحت تتفق مع القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى. ويقوم معها العديد من المعاهدات لتحديد مناطق النفوذ لإقرار السيطرة الفرنسية على غرب أفريقيا[90]
هـ: ضم موريتانيا وإتمام الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية فى أفريقيا:
وبمقتضى الاتفاق الفرنسي/ البريطاني الذى عقد فى عام 1890 حصلت فرنسا على الأرض الواقعة جنوب البحر المتوسط منساى على النيجر حتى باراده على بحيرة تشاد وكان معنى ذلك اعتراف بريطانيا بأن أراضى موريتانيا لن تواجهه أى مشاكل من قبل الدول الأوروبية ولذلك توالت البعثات الكشفية على موريتانيا ولعل أهم بعثة كوبولانى الفرنسية ووزارة المستعمرات لأهمية ضم موريتانيا فحتى عام 1900 كانت الحكومة الفرنسية مشغولة بحملاتها فى غرب أفريقيا وتشاد لتدعيم سيطرتها على المناطق التى استولت عليها دون أن تولى أهمية لاحتلال الصحراء الواقعة شمال السنغال لاعتقادهم بأن نفقات الاحتلال لا تساوى هذا الإقليم الضحل لذلك جاء استعمار فرنسا لموريتانيا إلى ثلاث مراحل:[91]
- المرحلة الأولى 1900-1905 وهى مرحلة التغلغل السلمى، ويعرفها الموريتانيون بأنها عهد السيطرة غير المباشرة وبدأت بقدوم كوبلانى إلى المنطقة وقد أقنع رئيس حكومته بضرورة احتلال موريتانيا سعيا لربط الجزائر بمستعمرات غرب أفريقيا وقد جاء فى تعليمات رئيس الوزراء ضرورة تحقيق هذا الهدف بأقل النفقات ودون إثارة أزمات دبلوماسية . ورغم أن هذه المرحلة اتسمت بالتغلغل السلمى من خلال عقد معاهدات حماية مع بعض الإمارات إلا أن هذا لم يمنع من حدوث بعض الاضطرابات حيث رفضت بعض القبائل احترام الاتفاقيات المبرمة مع فرنسا التى أرسلت حملة أجبرت تلك القبائل على قبول الحماية الفرنسية.
- المرحلة الثانية 1905-1914 ، وهى بعد اغتيال كوبلانى وقد خلفه فى المنطقة قائد عسكرى آخر عمل على تنظيم المنطقة والقضاء على الاضطرابات فيها حيث اشتدت المقاومة الوطنية وهدد الثوار مراكش نفسها ولم تنجح فرنسا فى تدعيم سيطرتها العسكرية التامة على المنطقة ويرجع سبب ذلك إلى أن الأسبان لم يسمحوا للفرنسيين بتتبع المسلمين الثائرين فى منطقة النفوذ الأسبانية التى كان هؤلاء كثيراً ما يلجأون إليها . لكن بعد استيلاء فرنسا على المغرب وإعلان الحماية عليها عملت على إرسال الحملات العسكرية من الشمال الأفريقي ومن السنغال لإخضاع القبائل الموريتانية المحاصرة.
- المرحلة الثالثة 1914-1934 واتسمت فيها المقاومة الوطنية بالتجدد والاستمرار رغم إعلان قبائل عديدة استسلامها للنفوذ الفرنسي فى عام 1918 . ذلك أن تعسف الإدارة الفرنسية وفرضها الضرائب على القبائل أدى إلى حدوث ثورة واضطرابات فى المنطقة لم تنقطع إلا عام 1934.
وبالاستيلاء على موريتانيا ، حققت فرنسا حلمها وهدفها التوسعى واستكملت مخططها العسكرى وبدأت الخطوة التالية وهى تجميع مستعمراتها فى وحدة واحدة لتسهل عليها إدارتها وإحكام قبضتها عليها.
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #8
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

حاصل القول – كما سبق الذكر- أن التاريخ السياسي لدول الساحل الأفريقي موضع الدراسة لا ينفصل عن التاريخ العام للقارة الأفريقية التى شهدت منذ منتصف العقد الثامن من القرن التاسع عشر تكالباً استعمارياً غريباً عليها. وكما أتضح من العرض السابق كانت البلدان الأربع ( السنغال، مالى، النيجر، تشاد ) من نصيب فرنسا فى إطار المساومات والاتفاقات الاستعمارية التى دارت خلال مؤتمر برلين 1884-1885 وما تلاها من اتفاقات ومساومات. وقد كانت السنغال أولى البلدان الأربع التى وصلها النفوذ الفرنسي منذ القرن السابع عشر، وأن لم يستتب لها الأمر إلا مع منتصف القرن التاسع عشر. ولم يختلف الأمر كثيراً فى كل من النيجر ومالى اللتين خضعتا للاستعمار الفرنسي بعد جهاد اسلامى ومقاومة شديدة للاستعمار الفرنسي على نحو لم يكفل استتباب الأمر لفرنسا بالبلاد إلا مع بداية القرن العشرين بعد القضاء على مراكز المقاومة الإسلامية، وروحها فى كل من مالى والنيجر عبر سنوات طوال من الكفاح استخدمت فيها قوى الاستعمار ممثلة فى فرنسا كافة الأساليب المشروعة وغير المشروعة لبسط هيمنتها على كل من النيجر ومالى، وكان نصيب المسلمين والعرب فى تلك البلدان فى الاضطهاد والقهر أكبر على الصعيدين المادى والمعنوى. عبر محاولات طمس الهوية العربية والإسلامية فى تلك البلدان بإتباع سياسات الحكم المركزي المباشر وتطبيق سياسات الاستيعاب والفرنسة- على نحو ما سيرد البيان- على أن ما يعنينا فى هذا المقام أن كل من النيجر ومالى قد تحولتا إلى إقليمين من أقاليم أفريقيا الغربية الفرنسية مثلها فى ذلك مثل السنغال. أما بالنسبة لتشاد فقد بدأت المناوشات والأطماع الفرنسية بشأنها فى أواخر القرن التاسع عشر مما اضطر القبائل التشادية إلى توقيع اتفاقات سلام مع الإدارة العسكرية الفرنسية إلا أنه سرعان ما تم إخضاع تشاد للهيمنة الفرنسية عام 1899. وهى الهيمنة التى توجت بسقوط آخر معاقل المقاومة الوطنية التشادية "قصيرى"[92] بالقرب من العاصمة الحديثة "فورت لامى". وبهذا الانتصار الفرنسي عام 1900 تم توحيد امبراطورتى فرنسا فى أفريقيا الغربية والاستوائية عام 1908 . لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تاريخ بلدان المنطقة فى ظل نظم وسياسات الحكم الفرنسي. وهو ما تتناوله الصفحات التالية:
ثالثاً: نظم الحكم الفرنسي وسياسة الاستيعاب
1- نظم الحكم الفرنسي فى المستعمرات الأفريقية
ما كاد القرن التاسع عشر يصل إلى نهايته حتى كان الاحتلال الفرنسي لغرب أفريقيا قد أوشك على الاكتمال وكان من الصعب على الإدارة الفرنسية فى السنغال أن تدعم سيطرتها على تلك المساحة الشاسعة من الأراضي التى سيطرت عليها القوات الفرنسية والتى امتدت إلى المناطق الساحلية فاقتضى الأمر توحيد المصالح الفرنسية فى المنطقة وإيجاد حكومة عليا تشرف وتدير المستعمرات كلها.
لقد تم تنظيم أدوات الحكم الفرنسية بعد تخطيط الحدود بين هذه المستعمرات. ومنذ أيام الجمهورية الثالثة ظهر تياران متعارضان حول إجراءات تنظيم هذه الأجهزة الحكومية وكان التيار الأول يرى أن يتم التنظيم على أساس إقليمى فتقوم العلاقات المباشرة بين حكومة المستعمرة وبين وزارة المستعمرات والحكومة الفرنسية فى باريس. وكان التيار الثانى يرى أن يتم التنظيم على أساس فيدرالى فتقوم العلاقات بين اتحادين فيدراليين فى أفريقيا الغربية وفى أفريقيا الاستوائية وبين وزارة المستعمرات والحكومة الفرنسية فى باريس. وقد تغلب التيار الثانى وتم التنظيم الإداري والحكومى على أساسه قبل صدور دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة عام 1946 [93]
ويتكون الاتحاد الفيدرالي فى كل منطقة من عدة وحدات تخضع كل منها لحاكم يخضع بدوره للحاكم العام للاتحاد. ويمثل هذا الحاكم العام الجمهورية الفرنسية وهو مسئول أمام وزير المستعمرات الفرنسي وقد ساد نظام الحكم المباشر فى كل وحدات الاتحاد عدا السنغال التى كان لها تمثيل فى البرلمان الفرنسي كما ظهر فيها نظام البلديات وقد أصبح السنغاليون مواطنين فرنسيين فى عام 1916، وتكون فيها مجلس وسيط بين مستوى البلديات وبين مستوى البرلمانات كما ضم كل اتحاد مجلس وحكومة يعين أعضاؤه بحكم وظائفهم أو بحكم عضويتهم فى المجالس المكونة للاتحاد. وظل التشريع للمستعمرات فى يد رئيس الجمهورية الذى لا يستشير الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ إنما يتم التشريع للمستعمرات للمستعمرات بناء على إعداد وزير المستعمرات وإمضاء رئيس الجمهورية وتبلغ هذه التشريعات للحاكم العام بوصفه ممثل الجمهورية وليقوم الحاكم العام بدوره بإبلاغ هذه القرارات والتشريعات لمساعديه وعلى الحاكم إصدار القرارات والأوامر التنفيذية [94].
ويعتبر وزير المستعمرات هو المرجع الرئيسي فى إدارتها وهو الذى يعين الحاكم وعلى هذا فإن الضغط السياسي أو الاقتصادي يوجه إليه أو إلى حزبه ولم تحاول الحكومة الفرنسية بين الحربين وضع سياسة طويلة الأمد تجاه المستعمرات كما لم تحاول تمثيل الأفريقيين فى مجالس تشريعية أو تنفيذية لكن أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع بروز فليكس أبويى ذلك الأفريقي الذى وصل إلى منصب الحاكم العام فى أفريقيا الاستوائية الفرنسية وأيد ديجول والحلفاء وأصدر نشرة فى عام 1941 تدعو لرفض فكرة الاستيعاب الاندماحى واحترام المؤسسات القبلية والنظم والعادات الوطنية. كان لابد أن تطور السياسة الاستعمارية الفرنسية من نفسها إذ تمشياً مع هذه التطورات ونمو الحركة القومية فى المستعمرات التى دافع أبناؤها عن استقلال فرنسا ذاتها من الاحتلال النازى أثناء الحرب العالمية الثانية، رأت حكومة فرنسا الحرة أن تقابل هذا الموقف الناشئ فى أفريقيا بشئ من الحكمة فبدأت تدعو إلى عقد مؤتمر برازفيل عام 1944 [95].
- مؤتمر برازفيل 1944 [96]:
انعقد هذا المؤتمر فى الكونغو ولم يحضره أى أفريقى وحضره حكام المستعمرات الفرنسية ورجال الإدارة وبعض أعضاء البرلمان وتوضح قرارات هذا المؤتمر الخطوط العريضة لسياسة فرنسا الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية ولم يصدر المؤتمر توصيات محددة ومفصلة عن كيفية تمتع الأفريقيين بتكوين الجمعيات التشريعية لكنه طالب بنظام اللامركزية وإنشاء جمعيات تمثيلية من المستعمرات تضم فى عضويتها الأفارقة والفرنسيين وأصر المؤتمر على إلغاء قانون العمل الإجباري واعترف بحق الأفارقة فى حياة أفضل وكان هذا المؤتمر بالفعل بداية سلسلة من الجهود توجت بمنع السخرة فى المستعمرات الفرنسية.
كما استبعد المؤتمر كل اتجاه نحو تحرير المستعمرات من الارتباط بفرنسا حتى فى المستقبل القريب كما أشار إلى ضرورة تمثيل المستعمرات على نطاق واسع فى الجمعية الوطنية وفى المجالس المنتخبة تقديراً لتلك التضحيات التى قدمتها المستعمرات خلال الحرب وظهرت فكرة ارتباط فرنسا مع مستعمراتها فى اتحاد فيدرالي الهدف منه تدعيم وحدة فرنسا الكبرى. واتخذ المؤتمر قرارات هامة تتعلق بإصلاح أحوال التعليم وعلاج المشكلات الاجتماعية والاقتصادية واحترام حرية العمل وتطوير القوانين لمنع الظلم الواقع على الأفريقيين بالإضافة إلى النهوض بالصناعات الأفريقية.
- الاتحاد الفرنسي ودستور 1946:
لقد استعانت الجمعية التأسيسية التى وضعت دستور عام 1946 بقرارات مؤتمر برازافيل حيث نص الدستور على تكوين الاتحاد الفرنسي من الجمهورية الفرنسية (فرنسا الأوروبية ومديريات ما وراء البحار) وأقاليم ما وراء البحار (مستعمرات أفريقيا) والدول الشريكة (مراكش وتونس ودول الهند الصينية والأقاليم الشريكة فى الكاميرون وتوجو) ظهر الاتحاد الفرنسي الاستعماري نتيجة لظهور دستور فرنسا 1946 وهو يختلف قليلاً عن الشكل الاستعمارى الامبراطورى قبل الحرب وأول أشكال هذا الاختلاف أن الدستور وعد بمنح الرعوية الفرنسية للمنضمين إلى الاتحاد وبحقهم فى الجلوس إلى جانب الفرنسيين فى البرلمان الفرنسي على أن تطبيق ذلك قد اعتمد على التفرقة العنصرية والتمييز بين الأوروبيين والأفريقيين ثم التمييز بين الموالين لفرنسا من هؤلاء وأولئك المتمسكين بالهوية الوطنية الأفريقية ومن ثم لم تنجح النظم الانتخابية المزدوجة إلى طبقتها فرنسا فى أى من المستعمرات وهى تشبه إلى حد كبير النظم التى حاولت بريطانيا تطبيقها فى مستعمراتها روديسيا ونياسالاند وكينيا، والاختلاف الثانى الذى جاء به الاتحاد الفرنسي هو إيجاد نوع من العلاقة بين فرنسا والمحميات السابقة التى اتخذت فرنسا لها اسم الدولة المنضمة أو المنتسبة هذه الدول التى رفض أهلوها الرعوية الفرنسية وانصبت هذه العلاقة على تمثيل هذه المستعمرات فى هيئتين استشاريتين أولهما مجلس الاتحاد والذى كان يضم بعض نواب المستعمرات إلى جانب عدد مماثل من النواب الفرنسيين. وثانيهما المجلس الأعلى للاتحاد الذى كان يضم- نظرياً- مندوبين من الدول المنتسبة وفرنسا وهكذا أدى عدم تطبيق هذا التعديل إلى فشل محاولة خلق الاتحاد الذى كانت تبغيه الجمهورية الثالثة نتيجة رفض المغرب وتونس الاعتراف به وقيام الهند الصينية بحركتها التحررية.
والاختلاف الثالث هو محاولة فرنسا تقديم الحكم الذاتى للمستعمرات على درجات متقاربة أو متباعدة تبعاً لاشتداد الحركات الوطنية فى المناطق المختلفة الواقعة عبر البحار.
وكان انتشار القومية الأفريقية وهزيمة فرنسا فى الهند الصينية عام 1954، واضطرارها إلى التسليم باستقلال المغرب وتونس بعد ذلك، وانبثاق الثورة فى الجزائر سبباً فى انهيار الشكل الجديد من الاستعمار الفرنسي الذى فشل فى التعرف على حقيقة التيارات الوطنية فى آسيا وأفريقيا وكانت النتيجة تقديم مشروع 1956 الذى نص على تمتع المستعمرات بمجالس تشريعية وبحكم ذاتي تشرف عليه مجالس وزارية يرأسها رئيس الجمهورية الفرنسية ولكن هذا فشل أيضاً [97].
دستور ديجول:
عندما سقطت الجمهورية الفرنسية الرابعة فى مايو 1958 كانت حركة التحررية الأفريقية قد بلغت أشدها ولم يعد مشروع الاتحاد الفرنسي كافياً. وبعد ذلك جاءت الجمهورية الخامسة التى أقامت نظام الجماعة الفرنسية محل الاتحاد الفرنسي وغيرت دستور البلاد فى أغسطس 1958 [98] وقد تقرر فيه ما يلى:
1- أن تكون فرنسا مع الجمهوريات الأفريقية التى تقبل هذا الدستور رابطة الجماعة الفرنسية وهو اتحاد فيدرالي بين جماعات مستقلة.
2- تتكون حكومة الجماعة الفرنسية من رئيس الجمهورية الفرنسية ومندوب عن كل جمهورية من جمهوريات الجماعة وسكرتير عام ومستشار فني وتعتبر حكومة مسئولة عن السياسة الخارجية للجماعة وعن شئون الدفاع والعملة والشئون الاقتصادية العامة والتعليم العالي.
3- للجماعة مجلس تنفيذى من رؤساء حكومات الجماعة لدراسة المسائل الكبرى التى سبق أن بحثها مجلس الوزراء.
4- أن يكون للجماعة مجلس شيوخ من مندوبين عن برلمانات الدول الأعضاء.
5- تقدم فرنسا المعونة الفنية والإدارية لأعضاء الجماعة.
والجماعة الفرنسية التى ابتكرتها الجمهورية الخامسة اصطلاح غير محدد وتعريف عائم وتتألف من فرنسا نفسها واثنتى عشرة دولة وقد أجريت فيها الانتخابات فى ديسمبر 1958 واختارت كل منها الاسم الذى أرادته ثم قامت بوضع دستور خاص اشترك فى وضعه الفرنسيون وبعد ذلك أجريت انتخابات عامة لتكوين المجالس التشريعية[99].
وتتألف الجماعة من أجهزة ثلاثة هى المجلس التنفيذى ويتكون من رئيس الوزراء الفرنسي ورؤساء الأقطار المنضمة والوزراء الذين يعينهم رئيس الجمهورية ومهمة المجلس بحث السياسة العامة والتأكد من وجود تنسيق كامل للحكومات المختلفة داخل الجماعة ومن المسائل التى يختص بها المجلس التنفيذي بحث الاعتمادات المالية للإدارة فى كل قطر. والجهاز الثانى هو مجلس الشيوخ ويتكون من مندوبين عن البرلمان الفرنسي وعن برلمانات الأقطار المنضمة ومهمته بحث الشئون المالية والاقتصادية الخاصة بالجماعة قبل تقديم مشروعات القوانين الخاصة بالجماعة قبل تقديم مشروعات القوانين الخاصة بها للبرلمان الفرنسي أو البرلمانات المحلية ودراسة المعاهدات الدولية والاتفاقات التى تمس الجماعة، وهو يتخذ قرارات ملزمة للدول المنضمة والجهاز الثالث يتمثل فى لجنة تحكيم عليا تتكون من سبعة أعضاء ينتخبهم رئيس الجماعة وهو رئيس الجمهورية الفرنسية. ومهمتها الفصل فى المنازعات التى تثار بين أعضاء الجماعة وقراراتها ملزمة لتكفل صالح فرنسا وسياساتها.
ونلاحظ أن نظم الحكم فى الجماعة لم تترك جانباً إلا وفرضت عليه الشخصية الفرنسية الاستعمارية وألغت الشخصية الأفريقية إلغاءً تاماً ولقد ركز دستور الجماعة جميع الموضوعات والسلطات فى يد رئيس الجمهورية الفرنسية الذى يعتبر أوتوماتيكياً رئيساً للجماعة واختصاصات رئيس الجماعة واسعة شاملة بل ديكتاتورية ويمثله فى كل قطر مندوب سام يختاره بنفسه إذا شاء بعد استشارة مجلس الشيوخ. ويحق له ان يرأس المجلس التنفيذي ويدعو إلى انعقاده ويقرر جدول أعماله وهو الذى يعين سكرتيراً عاماً للمجلس ومن حقه وضع القوانين التى يقترحها المجلس وله مطلق الحرية فى تنفيذها كما يشرف على تنفيذ قرارات لجنة التحكيم والمعاهدات .. والواقع أن قائمة اختصاصات رئيس الجمهورية طويلة ومحكمة بحيث تجعل منه ديكتاتورياً لا مرد لكلمته بل تجعل منه السلطة الوحيدة فى الجماعة الفرنسية التى تتمتع بحق اتخاذ قرارات ملزمة ولقد صيغت المواد بشكل مانع بحيث تترك السلطة فى يد ديجول. كما أن العلاقة القائمة بين الجماعة من ناحية وفرنسا من ناحية أخرى يكتنفها الغموض وتركت هكذا ليقوم ديجول بتفسيرها. ومن ثم يمكن القول أن ديجول قد وضع قوانين هذه الجماعة بحيث يعيد الحياة إلى الحكومة المركزية الفرنسية خاصة فى النواحى المالية والشئون الخارجية والدفاع والمصالح المشتركة[100].
وقد قام ديجول بجولة فى المستعمرات الأفريقية فى أغسطس 1958 لشرح أهداف دستوره وأعلن أن الذين يرغبون فى الاستفادة من مزايا نظام الجماعة الفرنسية عليهم التصويت بالإيجاب أما الذين يرغبون فى الاستقلال فعليهم التصويت بالنفى. وعندما طرح الدستور وافقت عليه جميع المستعمرات أي البقاء فى المجموعة الفرنسية عدا مستعمرة غينيا بسبب نفوذ سيكوتورى القوى فأعلن استقلالها عام 1958 [101].
ولكن نظام الجماعة الفرنسية بما له من عيوب ديكتاتورية كان ولابد من أن يؤدى إلى انفجار جديد يطيح بالجماعة الفرنسية فتتفق دولها على ضرورة أن تكون السيادة منفصلة تمام الانفصال عن فرنسا حيث لم يستمر هذا النظام سوى عامين.
وفى عام 1960 أجبرت فرنسا على الاعتراف باستقلال دول الجماعة الفرنسية وعقدت كل منها معاهدة تحدد نوع العلاقة بين البلدين وهكذا استقلت دول الساحل الأفريقى عن فرنسا وصارت أعضاءاً فى الأمم المتحدة لقد اختلفت العلاقة بين فرنسا والأراضى الواقعة فيما وراء البحار من عهد إلى عهد خلال مائة عام من السيطرة والاستعمار لكنها تميزت دائماً بإدارة مركزية صارمة مقرها باريس.
هذا عن تطور نظم الحكم الفرنسية منذ الاستعمار حتى الاستقلال لبلدان أفريقيا، على أن الممارسات الفرنسية تركت بصماتها على الواقع الأفريقى حتى بعد رحيلها، وذلك من جراء ما طبقت من سياسات تسعى إلى تذويب هوية سكان تلك المناطق العربية الإسلامية لا سيما فى الشمال وتعميق الفوارق بين شمال البلاد وجنوبها بتشجيع بعثات التبشير والنعرات التقليدية المناهضة للتوجه العربي الإسلامي فى البلدان موضع الدراسة. وفيما يلى نعرض لملامح السياسة الفرنسية فى تعاملها مع المنطقة والمجتمعات الإسلامية فيها. باستعراض أسس ومبادئ سياسة الاستيعاب وجوهرها. ثم التطورات التى طرأت عليها وآثار كل هذا على الهوية الإسلامية لشعوب تلك المنطقة وعلاقاتها.
ب- سياسة الاستيعاب:
على الرغم من اختلاف السياسة الفرنسية تجاه الأراضي الواقعة فيما وراء البحار من عهد إلى عهد خلال المائة عام من السيطرة والاستعمار إلا أنها تميزت دائماً بإدارة مركزية صارمة مقرها باريس. حيث عمدت فرنسا فى معظم مستعمراتها إلى تطبيق سياسة الحكم المباشر، وتطبيقاً لذلك محت فرنسا جميع الزعامات القبلية والمحلية وقضت على النظم التى كانت موجودة أصلاً فى بلدان الساحل الأفريقى. وهى الزعامات والنظم التى كانت فى مجملها وجوهرها زعامات ونظم إسلامية بالأساس.
ومن عجب أن السياسة الاستعمارية الفرنسية بُنيت على بعض المبادئ البراقة فى مظهرها والتى أعلنتها الثورة الفرنسية حيث استند الفرنسيون فى دعايتهم على أن جميع سكان المستعمرات يجب أن يكونوا مواطنين فرنسيين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. وعلى هذا الأساس قامت نظرية الاستيعاب[102] (Assimilation) وتعنى هذه السياسة فرض الثقافة الفرنسية ونظم المؤسسات السياسية والاجتماعية على الأفريقيين حتى يستوعبوها فيصبح كيانهم النفسي والثقافي متفرنساً كالفرنسيين أنفسهم وتتم هذه العملية عن طريق تثقيف وتربية وتعليم طويلة المدى بعبارة أخرى كان جوهر تلك السياسة يقوم على قطع كل صلة للأفريقى المسلم بتاريخ قومه وحضارته وهذه السياسة فى جوهرها ومضمونها كانت تتسق والهدف الفرنسي الرامى إلى تخليد وتأييد الاستعمار الفرنسي بتعميق روابطها بين المركز (باريس) والمحيط أو الأطراف ممثلة فى مستعمراتها فيما وراء البحار. عبر الجناحين الأساسيين لسياستها ممثلين فى الإدارة المركزية المباشرة وسياسة الاستيعاب والدمج القائمة فى أبعادها على تخلى الشعوب المستعمرة عن كافة مواريثهم الحضارية. بمختلف مظاهرها ومقوماتها ثم تبدأ تدريجياً فى تشرب الثقافة الفرنسية بكل تقاليدها ومظاهرها ثم ما يتبع ذلك تلقائياً من ارتباطها اجتماعياً وسياسياً وتاريخياً بالأم الكبرى فى فرنسا[103] .
لقد كان فى اعتقاد فرنسا أن أعظم منحة يقدمها الفرنسيون للمستعمرات الأفريقية هى تلك الثقافة واللغة الفرنسيتين.
لقد حاول الفرنسيون تطبيق سياسة الاستيعاب هذه أو ما يطلق عليه "الاستعمار الثقافي" فى المستعمرات التى خضعت للسيطرة الفرنسية بالرغم من وجود أوضاع سياسية وحضارية متفاوتة بين هذه المستعمرات والبلدان[104] .
وبعد الثورة الفرنسية وجد القادة الجدد أن تخضع المستعمرات لعمليات دمج كاملة فى النظم والإدارة والقانون وارتبط هذا الواقع العملى فى أذهانهم بالأساس الفلسفى للثورة وقد اعتقد الفرنسيون فى سياسة إنسانية مؤداها أنه يجب على أهالى المستعمرات معرفة مآثر ومحاسن النظم الفرنسية وأن كل تقدم ورقى يصيبهم لن يأتى أو يتحقق إلا عن طريق الثقافة الفرنسية ولغتها والمستويات الروحية التى أتت بها لكن بينما كان الإيمان بهذه السياسة فى باريس؛ كان التطبيق فى أفريقيا بالاستيلاء على مستعمرات جديدة يقوم بها القواد العسكريون والجيش الفرنسي وهذه الفلسفة ظاهرها المساواة وعدم التفرقة على اللون والعنصر لكن ظهرت تفرقة قائمة على أساس الاستيعاب. فقد ميز الفرنسيون بين الأفريقيين الذين خضعوا لقانون الأحوال الشخصية الفرنسي فى الزواج والطلاق والميراث وبين الذين لم يخضعوا لهذه القوانين حيث ترتب على ذلك وضع قانون الانديجينا – (Indigenant)- وهو مجموعة من الأوامر الإدارية والعرفية التى يطبقها الضباط والحكام العسكريون والمدنيون وتنطبق على الرعايا الأفريقيين الذين لم يرتفعوا إلى مستوى الاستيعاب والاندماج فى البيئة الاجتماعية الفرنسية[105] لقد كان الهدف من هذا القانون هو تطبيق سياسة الفرنسة الجماعية. وقد لجأ الفرنسيون بمقتضى هذا القانون إلى إلغاء السلطات القضائية التى كانت فى يد الزعماء المحليين وتركيزها فى يد الضباط الفرنسيين الذين كان من حقهم إلقاء القبض على أي أفريقى وحبسه لمدة خمسة عشر يوماً لدواعى الأمن والصالح العام ومن ثم صار القواد الفرنسيون هم أصحاب السلطة المطلقة ولم يكن من حق الأفريقى الاعتراض[106] .
لقد كان هدف الفرنسيين هو فرنسة جماعية لكل الأفريقيين وكانت أي مقاومة لهذه الفرنسة تعد بمثابة جريمة بشعة وعدم اعتراف بالفضل والرقى الفرنسي لكن هذه السياسة لم تحقق الغرض وبدأ الكتاب الفرنسيون ابتداءاً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر يوجهون النقد لهذه السياسة وبدأت تظهر أفكار جديدة ضد سياسة الاستيعاب وتبنى يوليوس هارماند نظرية السياسة القائمة على المشاركة (Politique d’association) وتهدف هذه النظرية الجديدة إلى تكوين مجموعة من الأفريقيين قادرة على استيعاب الثقافة الفرنسية وأطلق على هذه المجموعة اسم النخبة (Elite) والهدف من هذه السياسة أن يتم التعاون بين الإدارة الحكومية الفرنسية وبين هيئات وأفراد محليين فى سبيل خلق زعامات أفريقية تقود الشعوب والمجتمعات إلى طريق الحضارة والمدنية أى أن هدف هذه السياسة يكون فرنسة هذه الزعامات والقيادات بدلاً من الفرنسة الاجتماعية للشعب.
كان هدف الفرنسيين تكوين نخبة تستوعب التراث الفرنسي وتتشكل أفكارها وثقافتها بالقيم الفرنسية ولا تنفصل هذه النخبة عن المجتمع المحلى وتبقى على اتصال وثيق به وتكون بمثابة حبل بين هذه الثقافة الفرنسية والشعوب الأفريقية[107] .
كان الاستيعاب الاندماجي يهدف إلى فرنسة إجماعية للأفريقيين لكى يذوبوا فى كيان فرنسا الأوروبية ويعيشوا كما يعيش الفرنسيون فى القارة الأورويبة. أما المشاركة فهى سياسة فرنسية تهدف إلى خلق زعامات أو قيادات تستوعب الثقافة الفرنسية ولكنها تعيش فى ظل الإطار الأفريقى وتقود جموع الشعب على أساس عاداته وتقاليده الأفريقية لكن سياسة المشاركة أو فرنسة النخبة لم تنجح فى خلق زعامات أو قيادات أفريقية تتفق وأهواء الفرنسيين لأنهم لم يهدفوا إلى تطبيق نظام الحكم غير المباشر الذى يطبقه الإنجليز فى غرب أفريقيا ذلك لأن السلطة التى رغبت فرنسا أن تمنحها لهذه الزعامات الأفريقية إنما هي سلطة مظهرية لأن السلطة الحقيقية كانت فى أيدى الفرنسيين [108].
لقد تفاوت تأثير السياسات الفرنسية بين مستعمرات غرب أفريقيا. ولقد كان للسنغال وضع مميز فى الاتحاد الفرنسى حيث اختيرت مركزاً له وأصبحت "سانت لويس" عاصمة له ثم داكار 1904 مما يدل على الاهتمام الفرنسى بالسنغال باعتبار أنها المستعمرة المفضلة فهى من أقدم المستعمرات الفرنسية. وقد أعطيت حق انتخاب مندوب لها منذ عام 1848 عندما سمح لمواطن سانت لويس وجوريه بانتخاب مندوب لهما فى البرلمان الفرنسي ولكن هذه الخطوة التحررية التى أقدمت عليها الجمهورية الثانية لم تلبث أن ألغيت ثم أعيدت فى عهد الجمهورية الثالثة 1871. وهكذا منذ ذلك الحين صار للسنغال وضعها الخاص وكونت فرنسا فى كل من سانت لويس وداكار وجوريه وروفسك كوميونات وأصبح للكوميونات الأربع مجالس على غرار مجالس كوميونات فرنسا وقد ظهر التأثير الفرنسي بوضوح فى هذه المناطق من حيث انتشار اللغة الفرنسية والمدارس والبعثات التبشيرية، وأصبح من السهل تقبل المواطنين السود كمواطنين فرنسيين مثلهم مثل البيض تماماً وتم تأسيس مجلس بلدي فى السنغال شبيهاً لمجالس المقاطعات فى فرنسا وطوال القرن التاسع عشر ضم المجلس مرشحين أفارقة إلى جانب الأوروبيين والفرنسيين واهتم المجلس بالمصالح الفرنسية فى المقام الأول على أنه مما تجدر الإشارة إليه أن أعضاء المجلس من الأفارقة قد نافسوا التجار الفرنسيين، وفى عام 1919 صار لتلك القوى سيطرة كبيرة على المجلس [109].
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #9
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

والحق أنه أن كانت الثقافة الفرنسية وسياسة الاستيعاب التى طبقتها فرنسا قد حققت نجاحاً ملحوظاً فى السنغال حيث تأثر الكثير من الأهالى وفى مقدمتهم النخب بآليات السياسة الفرنسية فإن الأمر لم يكن على ذات المستوى فى مناطق أخرى – على نحو ما سيرد البيان- ومما يلاحظ فى هذا المقام أن سياسة الاستيعاب الفرنسية لم تنجح بذات المستوى فى موريتانيا لا سيما فى شمال البلاد التى تمسك أهلها بالهوية العربية الإسلامية لذا كانت موريتانيا أقل المستعمرات الفرنسية تأثراً بالثقافة الفرنسية رغم كافة المحاولات الفرنسية لفرض التعليم الفرنسي وإغراء السكان بشتى السبل [110]. وتكمن أهمية تلك الملاحظة فى أنها تلقى الضوء على اختلاف استجابة المجتمعات والشعوب العربية الإسلامية للسياسات الاستعمارية الأمر الذى لا تخفى دلالته بالنسبة لعلاقة تلك المجتمعات والدول عند الاستقلال.
وأياً ما كان الأمر فإن السياسة الفرنسية بمختلف آلياتها وأدواتها تركت أثاراً بعيدة المدى على كافة الأصعدة فى المجتمعات العربية والإسلامية التى خضعت للهيمنة الفرنسية. وهى الأثار التى تتناولها الصفحات التالية بالرصد والتحليل من خلال منظورين أساسيين الأول يتعلق بالمدافعين عن الدول الحضارى للاستعمار فى دول العالم الثالث والثانى يتناول الرد على تلك الدعاوى موضحاً الآثار السلبية للاستعمار على المجتمعات موضع الدراسة.
رابعاً: آثار الاستعمار الفرنسي فى دول الساحل الأفريقى
استمر الاستعمار الفرنسي فى قارة أفريقيا عقوداً طويلة مارس خلالها سيطرته من خلال الحكم المباشر الأمر الذى كان له أثار بعيدة المدى على مختلف جوانب حياه المجتمعات المحلية. وهى الآثار التى اختلفت الآراء حول تقييمها ما بين مؤيد ومعارض، وهو الاختلاف التابع بالأساس من تباين توجهات الدارسين وخلفياتهم الثقافية والحضارية بل وانتماءاتهم الجغرافية إضافة إلى اختلاف الزاوية التى ينطلق الباحث منها. وفيما يلى استعراض لكلا الرؤيتين وموقفها من الاستعمار ثم نعرض بالترجيح على ضوء المنطقة موضع الدراسة.
أ: رؤيتان حول الأثار "الحضارية" للاستعمار[111] :
1- الآثار السياسية:
يذهب بعض الدارسين إلى أن الاستعمار بصفة عامة. كانت له آثار إيجابية على الصعيد السياسى تتمثل بالأساس فى القضاء على ظاهرة الصراعات القبلية والمنازعات العرقية التى كانت تسود بلدان القارة الأفريقية إضافة إلى إدخال المؤسسات الحديثة وعلى رأسها مؤسسة القضاء. حيث عمدت الحكومات والنظم الاستعمارية إلى تقنين الأعراف التقليدية، إضافة إلى إدخال القوانين والمؤسسات القضائية الأوروبية. فضلاً عن المؤسسات والتقسيمات الإدارية والسياسية الأخرى[112]
ومن ناحية ثانية يذهب المدافعون عن الدور الحضاري للحكم الاستعماري فى أفريقيا إلى أن الحكم الاستعمارى كان بالأساس هو السبب المباشر لظهور فكرة الدولة بالمفهوم الحديث. على النحو الذى ظهرت به الدول الأفريقية منذ الاستقلال، إضافة إلى أن مرحلة الاستعمار من ناحية أخرى كانت هى المسئولة عن ظهور الوعى القومى ليس على المستوى الوطنى فحسب بل على مستوى القارة الأفريقية ككل فى ظل شعارات الوحدة الأفريقية التى سادت القارة خلال الحقبة الاستعمارية والكفاح الوطنى للتحرر[113]. وفى مواجهة تلك الإيجابيات التى يذهب إليها أنصار الدور الحضارى للاستعمار يذهب المعارضون إلى تفنيد الحجج التى قدمها الفريق الأول. إضافة إلى إبراز الجوانب السلبية للحكم الاستعمارى.
فمن ناحية يذهب الفريق الثانى إلى أن عملية الاستعمار جاءت على حساب القوى والمؤسسات التقليدية القائمة بالمجتمعات الأفريقية. وعلى ذات الصعيد ذهب معارضي فكرة الدور الحضاري للاستعمار إلى فساد مقولة أن الاستعمار قد أدخل المؤسسات والتنظيمات الحديثة حيث أن كثير من المجتمعات الأفريقية كانت قد بلغت طوراً حضارياً لا يقل بحال عن المجتمعات الأوروبية فى نفس الحقبة[114] .
ومن ناحية ثانية يرى أنصار الفريق الثانى أن الشعور بالقومية وان كان نتاج الاستعمار الأوروبى فى جانب منه إلا أنه لم يكن وليداً طبيعياً أو نتاج هوية مشتركة للأفراد وإنما وليد القهر والاضطهاد الأمر الذى أدى إلى محدودية أثر ذلك الشعور وتمركزه حول المطالبة بالتحرر والاستقلال مع اختلاف الانتماءات والهويات للأفراد وهو الأمر الذى فاقمه ورسخه البعد التالي ممثلاً فى الطبيعة الاصطناعية للحدود[115] .
فدول أفريقيا بشكلها الحالي وأسمائها وحدودها هى نتاج الدور الاستعماري والتقسيم الإداري لا سيما فى نطاق المستعمرات الفرنسية. وهى الحدود والخطوط التى لم تراع الحقائق الاجتماعية والاقتصادية فى المنطقة[116] .
ومن الآثار السلبية الأخرى للمرحلة الاستعمارية فى التاريخ الأفريقي على الصعيد السياسى قضائه على القدرات السياسية للزعماء والمحليين فضلاً عن فرنسة النخبة الأمر الذى أسفر عن نخبة سياسية ضعيفة التأهيل والتدريب فضلاً عن ميولها السياسية الموالية لصالح الدولة الأم أكثر منها لصالح المصلحة الوطنية[117].
2-الآثار الاجتماعية للاستعمار:
إضافة إلى أن الآثار السياسية السالف ذكرها يذهب المدافعون عن فترة الحكم الاستعماري إلى أن النظم الاستعمارية قد أسهمت على الصعيد الاجتماعي. فمن ناحية عملت النظم الاستعمارية لاسيما الفرنسية والبرتغالية على نشر الدين المسيحي. حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أحد الأعمدة الأساسية للحكم الاستعماري وهكذا أسهمت الفترة الاستعمارية فى تحويل القبائل الوثنية إلى الديانات السماوية لا سيما المسيحية[118] .
ومن ناحية ثانية يذهب أنصار هذا الفريق إلى أن الحملات التبشيرية المسيحية وما صاحبها من خدمات تعليمية وصحية قد أدى إلى الارتقاء بالحالة المعيشية للأفارقة وارتفاع مستوى المعيشة. وهو ما ساعد عليه حركة التمدن والعمران التى صاحبت العملية الاستعمارية عبر شبكة الطرق والمواصلات التى أقامتها النظم الاستعمارية وفى ظل هذه الخدمات الصحية والآثار الاجتماعية بصفة عامة ارتفعت أعداد السكان وتراجعت معدلات الوفيات [119].
ومن ناحية ثالثة يرى المدافعون عن الدور الحضاري للاستعمار أنه من أكبر الآثار دلالة وتأثيراً فى الواقع الأفريقي هو استخدام اللغة الاستعمارية كأداة تواصل بين القبائل والجماعات المتعددة داخل المجتمع والتى كانت تعوقها التعددية اللغوية واختلافاتها عن ذلك التواصل. حيث أن فرض لغة المستعمر عبر آليات التعليم والإدارة قد سهل عمليات التفاعل بين أبناء المجتمع[120] .
· وعلى الجانب الآخر يقف مناهضي الدور "الحضاري" للاستعمار منتقدين الآثار السلبية للحركة الاستعمارية على الصعيد الاجتماعي.
· فمن ناحية يذهب أعضاء هذا الفريق إلى أن قيام النظم الاستعمارية فى بعض المجتمعات بالقضاء على الأبنية والمؤسسات قد أدى إلى اختلالات اجتماعية ناجمة عن افتقاد المؤسسات البديلة التى تقوم بذات الوظائف الاجتماعية، مثال ذلك أن القضاء على ظاهرة دفع إتاوة لشيخ القبيلة بدعوى أن هذه الإتاوة نوع من استغلال الفقراء لصالح الأغنياء. رغم أن واقع الحال لم يكن كذلك، حيث أن تلك النقود لم تكن مجرد إتاوة تؤخذ من الفقراء لصالح الشيوخ وزعماء القبائل، وإنما كانت تقوم بوظيفة اجتماعية تتمثل فى استخدام حصيلتها للإنفاق على ذوى الحاجة من أبناء القبيلة فى أوقات الأزمات [121].
· من ناحية ثانية فإن تركز خدمات الصحة والتعليم الاستعمارية فى مناطق محددة ( عواصم البلاد والأقاليم غالباً). قد أدى إلى اتساع الفجوة بين الريف والحضر. إضافة إلى أن الخدمات التعليمية المقدمة لم تكن بحال لصالح احتياجات المجتمع الأفريقى وتطوره، وإنما هدفها بالأساس إلى توفير الكوادر اللازمة للإدارة الاستعمارية فى ضوء احتياجاته .
· ومن ناحية ثالثة وفيما يتعلق بالنقطة الأخيرة فإن طبيعة التعليم الاستعماري الموجه قد أدى إلى إهمال التعليم الفنى والتكنولوجى مركزة على مجرد التعليم الإدارى النظرى. وهو الأمر الذى أسفر عن ظاهرة اجتماعية لازمت المجتمعات الأفريقية تتمثل فى احتقار العمل اليدوى، والتهافت على العمل الكتابى الإدارى. وهى ما يعرف بعقدة ذوى الياقات البيضاء[122] .
· ومن ناحية رابعة وعلى ذات الصعيد أسفرت سياسات الاستيعاب الفرنسية وسياسات التعليم الموجه والانتقائى عن ازدواجية مركبة فى المجتمعات الأفريقية. حيث أدت من ناحية إلى فجوة كبيرة بين جموع الشعب التى تعانى من الأمية من ناحية. والنخبة المتفرنسة المتعلمة من ناحية أخرى. وأدت إلى فجوة أخرى على صعيد النخبة ذاتها متمثلة فى ظاهرة اغتراب هذه النخبة ما بين الواقع الاجتماعي الاقتصادي لمجتمعاتها وبين المثال الذى يشعرون بالانتماء إليه ثقافياً ممثلاً فى الدولة الأم [123].
· ومن ناحية خامسة : يذهب معارضى الدور الحضاري للاستعمار إلى أن النظم الاستعمارية وإن عمدت إلى القضاء على النظم القبلية فى بعض الأحيان لا سيما فى إطار العواصم والمدن التى خضعت للتواجد الاستعماري. فإنها عمدت فى غير ذلك إلى تعميق الهوية القبلية كلما كان ذلك لصالح المستعمر. وأدى ذلك الدعم للهوية القبلية إلى صعوبة دعم الهوية القومية الكلية عند الاستقلال.[124]
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2009
  #10
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,351
معدل تقييم المستوى: 18
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

3- الآثار الاقتصادية :
على هذا الصعيد يركز المدافعون عن الدور "الحضاري" للاستعمار على أن كافة المؤسسات الاقتصادية الحديثة التى عرفتها المجتمعات الأفريقية إنما هى نتاج الفترة الاستعمارية فشبكة الطرق والمواصلات. وكافة مرافق البنية التحتية هى بالأساس وليدة الحقبة الاستعمارية [125].
ومن ناحية ثانية شهدت هذه الفترة التحول عن الاقتصاديات المعيشية ونظم المقايضة إلى الأخذ باقتصاديات السوق وبدء الإنتاج التجارى الواسع والانفتاح على اقتصاديات العالم الرأسمالى ومنتجاته بما يمثله من نقلة نوعية أسفرت من بين ما أسفرت نشأة طبقات جديدة تتحدى السلطات التقليدية ...[126].
وعلى الجانب الآخر رفض المعارضون الادعاءات السابقة حيث ذهبوا إلى أن شبكة الطرق والمواصلات التى أنشأتها القوى الاستعمارية تم إعدادها لخدمة المصالح الاستعمارية بالأساس وهو الأمر الذى تكشف عنه مواقع هذه الخطوط وامتداداتها حيث تنتهى معظم هذه الخطوط أما إلى نهر أو ساحل بحر. بهدف التصدير والاستيراد مع الدولة الأم .. ولذا فقد كانت أكثر مناطق المستعمرات استفادة من تلك المرافق هي المناطق أكثر ثراءاً بالمواد الخام ومستلزمات الصناعة فى الدولة "الأم" على حين عانت غيرها من المناطق من الإهمال والتهميش المتزايد[127] .
· من ناحية ثانية يذهب هذا الفريق من الباحثين إلى الاستعمار لم يهتم بإقامة قاعدة تصنيعية بالمستعمرات الأفريقية تدعم اقتصادياتها وإنما اقتصر الاهتمام على استنزاف مواردها من المواد الخام لصالح مصانع المستعمر[128] .
· ومن ناحية ثالثة يرى أنصار ذلك الفريق أن مساوئ الاستعمار لم تقتصر على إهمال التصنيع فى المستعمرات بل الأكثر من ذلك أدت النظم الاستعمارية – عمداً أو عن غير قصد- إلى القضاء على المهن الحرفية أو الحرف الأولية التى كانت البلاد تعرفها فى فترة ما قبل الاستعمار..[129]
ب: فى الترجيح بين الرؤيتين : نموذج دول الساحل...
لا شك أن الامتداد الواسع للنظم الاستعمارية عبر أرجاء القارة الأفريقية. وتباين ظروف كل منها إضافة إلى اختلاف النظم الاستعمارية يعقد من إمكانات الترجيح بين أى من الرأيين السابقين حيث أن كل من الفريقين يجد فى تنوع الخبرات والتطبيقات والظواهر فى القارة ما يؤيد رأيه. لذا فإن الحكم بصحة هذا الرأى "أو ذاك يقتضى تحديد المجال أو النطاق الذى يتم الحديث عنه وفى هذا الإطار يأتى التركيز فيما يلى على الإطار موضع الدراسة ممثلاً فى دول الساحل والجوار الجغرافى لمعرفة أثر الاستعمار عليها" . وبالتالي يمكن القول أن الرؤية الثانية المعارضة للقول بالأثر الحضاري للاستعمار هى الأقرب للصحة والصواب استناداً للاعتبارات التالية:
- فعلى الصعيد السياسي. لم تكن المجتمعات الأفريقية فى نطاق دول الساحل مفتقرة إلى النظم السياسية والحضارية بل والإدارية إبان الحقبة السابقة والمتزامنة مع الهجمة الاستعمارية على المنطقة وهو ما تكشف عنه الممالك الإسلامية بالمنطقة [130]. ولعل وجود هذه الممالك والإمارات هو الذى أدى بالمستعمر الفرنسي إلى التحول عن سياسة الاستيعاب إلى سياسة المشاركة بعد فشل السياسة الأولى لتمسك المسلمين بهويتهم وتاريخهم وتراثهم وذلك بالتركيز على النخب. وهى السياسة التى حققت نجاحاً ملحوظاً عن سابقتها. ويؤكد هذه الفكرة أيضاً الاستعانة بالنظام القضائى الإسلامى وإقراره فى المناطق الإسلامية الخاضعة للنفوذ الاستعماري لا سيما فى شمال تشاد، النيجر، مالى، وهى المناطق ذات الكثافة العربية الإسلامية. وتتأكد الآثار السلبية للاستعمار الفرنسي فى منطقة دول الساحل على الصعيد السياسى فى ضوء الظهور المصطنع للبلدان والدول المذكورة على نحو يتجاهل الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية. وهو ما أدى إلى اختلافات تباينات عديدة داخل المجتمعات موضع الدراسة وأدى إلى تنوع الولاءات والانتماءات على النحو الذى عقد من مهمة القوى الوطنية فى تجميع أبناء المجتمع للقيام بعمل موحد فى مواجهة المستعمر من أجل بناء الدولة وتوحيدها [131].
- وعلى الصعيد الاجتماعي تشير الوقائع التاريخية إلى أن ثمة تباينات فى نصيب سياسة الاستيعاب الفرنسية من حيث النجاح والفشل فى التطبيق داخل مجتمعات دول الساحل الأفريقى إذ على حين حققت هذه السياسة بعض النجاح فى السنغال. فإنها لم تلاق نفس النتيجة فى الدول الثلاث الأخرى (تشاد- النيجر- مالى) ولعل ذلك يرجع فى أحد جوانبه إلى موقع السنغال فى السياسة الاستعمارية الفرنسية على أنه فى جانب آخر لا يقل أهمية يرجع إلى التراث الإسلامى العربى فى المجتمعات المذكورة. وهو الأمر الذى سعت فرنسا إلى مجابهته من خلال تشجيع البعثات التبشيرية المسيحية فى بلدان ومجتمعات ساحل الصحراء فى ضوء سياستها العامة لتشجيع تلك البعثات فى المناطق الخاضعة لها. وكان التركيز على المناطق الجنوبية من هذه المجتمعات الأفريقية فى مواجهة الهوية العربية الإسلامية فى شمالها. الأمر الذى عمق من هوة الخلاف والفرقة بين الجانبين لا سيما مع تركيز خدمات الصحة والتعليم فى الجنوب على حساب الشمال وإن قلل من ذلك، تمسك أبناء هذه المجتمعات بهويتهم الإسلامية[132]. رغم الأخذ باللغة والثقافة الفرنسية فى تلك المناطق. على أنه مما يزيد من مساوئ الاستعمار الفرنسي وآثاره على الهوية العربية الإسلامية هو مبادرة فرنسا بتسليم الحكم فى البلاد المذكورة للنخب المتفرنسة وشغل كافة المناصب العليا بكوادر تابعة وموالية لفرنسا بالأساس. الأمر الذى أدى إلى ازدياد عدد النخب المتفرنسة حتى بعد رحيل فرنسا الاستعمارية عن القارة [133]. بل واستناد كثير من حكومات هذه البلدان فى بقائها واستمرارها على الدعم الفرنسي بكافة أشكاله على نحو ما تكشف خبرة كل من السنغال والنيجر وتشاد ومالى على اختلاف المراحل وطبيعة المساندة..
ومن ناحية أخرى على ذات الصعيد أسفرت السياسات الفرنسية المناهضة للهوية العربية الإسلامية لبلدان الساحل فى أفريقيا عن تشجيع الهويات والثقافات البديلة على الصعيدين الدينى والثقافى بمحاولة دعم الديانة المسيحية بل والديانات التقليدية ما دامت على حساب الهوية الإسلامية المقترنة لزاماً بالثقافة العربية. وفى ذات السياق تشجيع دعاوى " الزنوجة " كإطار مناهض بدوره لهوية المنطقة (على نحو ما سيرد البيان عند الحديث عن التحديات)
وعلى الصعيد الاقتصادي يمكن القول اختصاراً أن كافة المثالب السالف بيانها عن الآثار الاقتصادية للاستعمار قد تحققت وتوافرت فى مجتمعات المنطقة موضع الدراسة. حيث عرفت المنطقة ازدواجية الأنشطة الاقتصادية وتوجهها لخدمة المستعمر وارتباط الخدمات والمرافق بذلك التوجه. علاوة على الطبيعة الاستنزافية فى استغلال موارد هذه المجتمعات لصالح فرنسا. وهى الآثار التى تركت بصماتها على الواقع الاقتصادي لتلك البلدان فى مرحلة الاستقلال.
حاصل ما سبق أن مرحلة الاستعمار وإن كانت فصلاً من فصول تاريخ طويل ممتد للشعوب الإسلامية بدول الساحل الأفريقى إلا أنها كانت ذات أثر بعيد المدى على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الأمر الذى يجعل من تلك المرحلة نقطة فاصلة فى تاريخ هذه المجتمعات .. وإذا كان بعض الباحثين يذهب إلى صعوبة القول بأن المرحلة الاستعمارية تمثل انقطاعاً فى السياق التاريخى للمجتمعات الأفريقية انطلاقاً من تباين خبرة كل مجتمع. إلا أنه استناداً إلى خبرة مجتمعات دول الساحل وتاريخها الحضاري لا يصعب القول أن الاستعمار الفرنسي لهذه المجتمعات قد مثل بكل المعايير نقطة قطع وانقطاع للتطور التاريخى للمنطقة على نحو شوه واقع تلك البلدان وعقد من التحديات والمصاعب التى كان على هذه الدول أن تواجهها فى مرحلة ما بعد الاستعمار.
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
صير بني ياس درة «جزر الصحراء» و جنة الفصول الأربعة عبدالقادر حمود القسم العام 0 11-28-2011 02:04 PM
دير الزور عروس الصحراء عبدالقادر حمود ركن وادي الفرات 7 09-24-2011 12:10 PM
«تمبكتو» جوهرة الصحراء المتربعة على الرمال admin القسم العام 0 09-01-2010 07:28 PM
لواعجُ الصحراء عبد القادر الأسود القسم العام 4 03-26-2010 05:32 PM
عفراء .. أجمـــل نســاء الصحراء نوح القسم العام 3 01-12-2010 02:26 PM


الساعة الآن 10:00 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir