خامساً: البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية في أفريقيا:
ساعدت الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية التي سادت أفريقيا – لاسيما غربها وهو موضع اهتمامنا هنا- على انتشار الإسلام فيها.
فمن ناحية أولى فإن الإسلام بأفريقيا لم يكن ديناً من الأديان. وإنما عاش فترة طويلة وهو الدين الوحيد فيها بين خرافات موروثة وفراغ شامل، ولذا كان انتشاره سهلاً. وهكذا فقد دخل الإسلام هذا الجزء من أفريقيا في وقت لم يكن بها أي دين ينازع الإسلام،إذ لم تجد المسيحية ميدانا لها في هذا الجزء وكان انتشارها به يكاد يكون منعدما، بل كانت هناك الوثنية والخرافات اللادينية، ومن هنا كانت دعوة الإسلام شديدة الأثر سريعة النتائج، فعلماء مقارنة الأديان يقررون أنه إذا كان من الصعب تحويل من يعتنق ديناً معيناً إلى دين آخر سواه، فإن الذي لا دين له يسهل جذبه إلى الأديان[32].
ومن ناحية أخرى ساعد على انتشار الإسلام في أفريقيا ما يرويه الكتاب المسيحيون من إن الحياة الروحية في أكثر الكنائس الأفريقية كانت قد انحدرت إلى أقصى درجات الانحطاط، وان كثيرا من المسيحيين الأفريقيين قد وقعوا فيما وقع فيه رجال الكنيسة من أخطاء، وكانت الكنائس المسيحية المتنافسة مشغولة بالتنازع فيما بينها مما حال بينها وبين القدرة على مواجهة انتشار الإسلام، بل إن بعض القساوسة قد اشتغلوا بتجارة الرقيق وساعدوا النخاسين في عملهم، الأمر الذي نفر الاقارقة منهم، وساعد على انتشار الإسلام. وهكذا فإن توسع الإسلام وانتشاره في هذه الجهات كان راجعاً في بعض الأحيان إلى قدرة الإسلام على منافسة المسيحية. ففي السنغال تحولت قبائل السرير"SERER" – سواء منهم من كان وثنياً أو يدين بالمسيحية إسماً – إلي الإسلام زمراً وكذلك كان الحال في كل من غينيا وساحل العاج وتوجو وداهومي.
ومن ناحية ثالثة فقد قام نشاط داخلي واسع، نابع من المنطقة محل البحث ذاتها، يخدم ذات الهدف الذي خدمه المهاجرون والتجار المسلمون، والذي غذته المراكز الإسلامية في الشمال، إلا وهو نشر الإسلام بين الأفارقة . فقد ظهرت زعامات إسلامية من بين سكان البلاد الأصليين، كما برزت مراكز إسلامية عظيمة في هذا القطاع من القارة، الأمر الذي كان له عظيم الأثر في خدمة الإسلام، بل ربما كان هذا العامل في حد ذاته أكثر نجاحا من غيره من العوامل في هذا الصدد إذ صور الإسلام على أنه ثقافة قومية ودين أفريقي، فلم يعد الدخول فيه تبعية لدولة غربية أو اعترافا بدين جماعات من الخارج، بل أصبح إنطواء تحت رايات يحملها زعماء من داخل أفريقيا ذاتها، وأصبح الدخول في الإسلام يعنى الإسهام في تكوين مجتمع أفريقي سليم. وهو ما حدا ببعض المؤرخين إلى وصف عملية انتشار الإسلام على هذا النحو بأنها نوع من سباق التتابع[33]. فزمام الدعوة إلى الإسلام حمله العرب في مطلع دخول الإسلام إلى أفريقيا، وتسلمه منهم البربر ليندفعوا به جنوب الصحراء – لاسيما في غرب القارة ووسطها- حيث أسلموه بدورهم إلى الزنوج الذين تحملوا عبء القيام على أمر نشر الإسلام في هذه الربوع، وقد تعاونت كل من هذه الجماعات- عرباً كانوا أم بربراً أو زنوج- في ترسيخ امتداد الإسلام ونشره في كافة بقاع الغرب الأفريقي، بحيث أضحى الانطواء تحت راية الإسلام عملا ضروريا من الناحيتين القومية والحضارية.
وكان على رأس الجماعات الأفريقية الخالصة التي كان لها دور فعال في هذا الصدد جماعات المرابطين، والذين تمكن أحد قادتهم من غزو إمبراطورية غانة الوثنية وإسقاطها واحتلال عاصمتها، لتصبح من بعد من أهم الدول الإسلامية في غرب أفريقيا[34] ومنهم كذلك جماعات وقبائل الماندنجو والهوسا والفولاني والفونج. كما كان على رأس المراكز الإسلامية التي لعبت دورا محوريا في نشر الإسلام في هذه الجهات ممالك تمبكتو وهنغسي وكانوا[35] . وهكذا فقد ساهمت البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية في أفريقيا، بما اشتملت عليه من فراغ روحي وسيادته اللادينية أو العبادات الوثنية، وبما احتوته من فساد في أخلاقيات دعاة الأديان غير الإسلامية وبعدهم عادات الأفريقيين وقيمهم، بالإضافة إلى حماس القبائل والممالك التي انخرطت في سلك المسلمين، أدى كل ذلك إلي مزيد من الانتشار والتدعيم للإسلام في هذه المناطق.
حاصل القول أنه تجمعت عوامل عدة ، كان لها شأن عظيم في حمل الإسلام ونشره في هذه المنطقة من غرب أفريقيا، وقد كانت هذه العوامل داخلية وخارجية، وكانت خدمة الإسلام هي هدفها الرئيسي أو نشاط إضافيا تقوم به إلى جوار التجارة أو السياسة، وكانت نتائجها في هذا الشأن باهرة النتائج، فعلا شأن الإسلام في هذه المناطق وأصبح المسلمون فيها هم الأغلبية الساحقة. وإذا كان الدارس لتاريخ الإسلام في أفريقيا وعوامل انتشاره فيها لا يمكنه أن يخلص إلي تقرير أي من هذه العوامل كان له الدور الحاسم في هذا الصدد، فإنه لا يسعه إلا أن يقرر إن جماع كل العوامل هو الذي خلق حركة لا تقاوم، مؤداها انتشار الإسلام على نحو واسع في هذه المناطق . وهو الانتشار الذي كان له عظيم الأثر في حياة شعوب القارة على مختلف الأصعدة وه ما نعرض له فيما يلي.
الجزء الثاني
آثار انتشار الإسلام في غرب أفريقيا
تأثرت هذه المنطقة الشاسعة من القارة الأفريقية تأثراً واضحاً بالحضارة العربية الإسلامية التي وجدت طريقها إليها منذ وقت مبكر، منذ أن مد العرب المسلمون نفوذهم إلى شمال القارة فأخذت حضارتهم تتوغل وتنتشر إلي المناطق الشاسعة الواقعة إلي الجنوب.
والحق أن تأثير الحضارة العربية الإسلامية وما ساهمت به من تطوير للحياة في غرب أفريقيا، لم يكن قاصراً على الحياة الدينية والثقافية فحسب، بل تخطاها إلى كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك . فالإسلام لم يكن – على امتداد تاريخه- دينا فحسب، وإنما هو كذلك نمط حياة ونظام ثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي. وهو لم يهدف – على الداوم – إلى هدم المجتمع القديم بكل مقوماته، بل تطويعه للدين الجديد وما يأمر به من أوامر، وما ينهي عنه من نواه. ولا تكاد توجد ناحية من مناحي الحياة في غرب أفريقيا لم تتأثر بالإسلام وتعاليمه.
أولاً: الأثار الثقافية:
لقد كان أثر الإسلام في المجتمع في غرب أفريقيا عميقا، فقد غير من عادات الأفارقة بل ومظهرهم وطريقة تفكيرهم، وخلق ثقافة إسلامية أفريقية، كان لها السيادة على ما سبقتها من ثقافات، ثم استمرت على الرغم من المحاولات التي بذلها المستعمرون الأوروبيون للقضاء عليها.
وواقع الأمر أن انتشار الإسلام في هذه الجهات كان معناه أيضا انتشار اللغة العربية كلغة للحديث والمعاملات التجارية والكتابة، فهي لغة القرآن الكريم، وهي لازمة لأداء الصلاة، ومن ثم اكتسبت قداسة في أنظار الأفارقة، وكان لابد لمن يريد التفقه في الدين أن يتعلم العربية ويتقنها[36]. وهكذا فقد سار الإسلام واللغة العربية جنباً إلي جنب مع الجهاد في سبيل نشر الدين وتوسيع رقعة البلاد الإسلامية، فضلا عن تنشيط الحركة التجارية.
وقد تركت اللغة العربية آثارها في عدد من اللغات المحلية لدرجة كبيرة وظهر هذا الأثر واضحا ً في لغات الهوسا والصنغي والفلاني. إذ يوجد في هذه اللغات الكثير من الكلمات ذات الأصول العربية[37]، بل إن الحروف العربية – الأبجدية- العربية- قد استخدمت في اللغة الفلانية كذلك، وتستخدم في السنغال الأبجدية العربية أيضا في مدارس تحفيظ القرآن، كما تستخدم اللهجة العربية في التخاطب في جزء من النيجر والسنغال وتشاد وتنزانيا.
ويقترن العهد الزاهر للغة العربية والعلوم العربية الإسلامية في غرب أفريقيا بعهود الإمبراطوريات الأفريقية الإسلامية الكبرى بغانا ومالي وصنغي ثم برنو فإمبراطوريات الهوسا والتكارنة والفلانيين. فقد كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة فيها، واستخدمت في شتى الأغراض وأوفت بها، فقد استخدمت في مجال الحكم والإدارة والقضاء، ثم هي لغة المكاتبات الرسمية بين هذه الدول وبين العالم الإسلامي الخارجي[38]. ومع المربطين توسع دخول الثقافة العربية الإسلامية إلى هذه المناطق من مدارس المغرب والأندلس، فقد وحد المرابطون بين الأندلس والمغرب وغرب أفريقيا في دولة واحدة، وتم في عهدهم أعظم أثر في الميدان الثقافي حينما أسست مدينة تنبكتو في أواخر القرن الحادي عشر، والتي أصبحت حاضرة الثقافة العربية في غرب أفريقيا، ووفد عليها العلماء من المغرب والاندلس ومصر وطرابلس[39]. وهكذا فإنه حين أضحى الإسلام هو دين الدولة الرسمي في هذه الممالك والإمبراطوريات، اكتست مدن السودان الغربي بزيها الإسلامي، وأصبح العلماء المسلمون طبقة ذات وجود مؤثر في البلاط السلطاني وفي الحياة الثقافية والاجتماعية ، وازدهرت الحركة العلمية في المدن السودانية فأصبحت تمبكت وغيرها مدناً جامعية مشهورة[40] . ومن ثم يبدو جليا أن الإسلام قد تمكنت جذوره وغدا ديناً إمبراطورياً وكان تخطيه أسوار المدن السلطانية لينتشر بين الجماهير في الريف والبادية مسألة وقت ليس أكثر.
وهكذا فإن الأثر الثقافي للإسلام في مجتمع غرب أفريقيا كان قويا وعميقا، "ولعل الصورة التي يقدمها بالمرPalmer في كتاب (Islam In Western Sudan And On The West Coast of Africa) عن علاقات ممالك غرب أفريقيا الثقافية للإسلام واللغة العربية في هذه البلاد. فقد شملت البلاد نهضة علمية، وقامت فيها مراكز ثقافية كانت بمثابة الشعلة التي تضئ الطريق للمستقبل، وبرز علماء وأدباء في مختلف المجالات وتأثرت الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية بكل ذلك، وساعد تشجيع كثير من السلاطين للحركة العلمية على أن تستمر الحركة في تحقيق أهدافها"[41]. ومهما يكن من أمر فقد دخل الإسلام في غرب أفريقيا حاملا ثقافة عربية زاهرة. وإذا كان من طبيعة الإسلام أن يبقى من التقاليد والنظم ومظاهر الحياة ما لا يتعارض ومبادئه وتقاليده، ما لا يلائم طبيعة المجتمع وسكانه، فإن تأثر سكان غرب أفريقيا بالحضارة العربية الإسلامية كان نابعاً قبل كل شيئ من رغبة داخلية وتطلع إلي مسايرة العالم الإسلامي في حضارته ونهضته[42].
ثانياً: الأثار الاجتماعية والاقتصادية:
ترتب على انتشار الإسلام في غرب أفريقيا خلق مجتمع جديد يدين بمبادئ جديدة. حقيقة أن الإسلام – كما سبق البيان- لم يهدف إلي تغيير التقاليد الزنجية المحلية تغييراً جذرياً، إلا ما يتعارض منها مع مبادئه وتعاليمه، إلا أنه قد ترتب على الاحتكاك بين سكان هذه البلاد نوع من الامتزاج بين التقاليد الزنجية المحلية، وتمت الموائمة بين هذين العنصرين وظهرت من جراء ذلك في المجتمع الأفريقي تقاليد إسلامية أفريقية.
وإذا كان هدف الإسلام هو- على الدوام- أسلمة المجتمع، وإذا كان اهتمامه ينصب على التغيير الروحي لمعتقدات الناس، ذلك الذي تتجلى عظمته الاجتماعية في أداء شعائر الإسلام ذات الطابع الجماعي كالصلاة والزكاة والحج، الأمر الذي يخلق مظهراً من مظاهر التماسك الاجتماعي والوحدة والإخاء. فإن الإسلام حين انتشر في غرب أفريقيا، ساعيا إلى تحقيق هذه الغايات، لم يحدث هزات عنيفة في البيئة الاجتماعية أو الاقتصادية، فقد ظلت معظم تقاليد الحياة الأسرية على صورتها المعروفة لعدم تناقضها مع بساطة الإسلام. ومع إنه قضى على روح الانتماء والتعصب للقبيلة أو التكتلات العرفية والانتساب إلى الام، فإن شأن هذه العلاقات بدأ يضعف خاصة بين الأفارقة الذين كانوا يعيشون في المدن التجارية جنباً إلى جنب مع المسلمين، حيث الوحدة الاجتماعية هي الأسرة، وحيث تباعدت وشائج الصلات القديمة وأصبح محور النشاط الأسري هو الأب، كما أن حياة الجماعة الإسلامية عوضت الأسرة الأفريقية عما فقدته من انتماءات قبلية بانتماء جديد- هو الانتماء إلى الوحدة الأكبر والأسمى وهى الأخوة الإسلامية العامة- أنف منالناحيتين الاقتصادية والثقافية[43].
على أن ما تقدم لا يعني بحال أنه لم تحدث تغييرات جذرية في المجتمع، ففي كثير من الجهات كانت هناك مثلاً مجتمعات أموية(تنسب إلى الام) فتغير هذا ، كما تغيرت قوانين الميراث تغييراً جذرياً وفقا ًلما تقضى به الشريعة الإسلامية[44]. لقد سما الإسلام بكثير من معتقدات الأفريقي وعدل من سلوكه، فقد كان من الشائع على سبيل المثال لدى القبائل الأفريقية تقديم الضحايا والقرابين لإرضاء قوى خفية، فأبطل الإسلام هذه العادات المختلفة، وفي ظل الإسلام أضحت الزكاة والصدقة وأوجه البر الأخرى مظهراً من مظاهر إنكار الذات والتكافل الاجتماعي بين الناس ، الأمر الذي لم يكن صعباً على الأفريقي أن يدركه من ناحية، وأن يعدل سلوكه ليتلاءم مع هذه القيم من ناحية أخرى.
ولعل أهم أثر للإسلام في مجتمع غرب أفريقيا بصفة عامة هو الإحساس بأن الجميع يعبدون إلهاً واحداً. وهذه الوحدة الاجتماعية تزكيها وتدعم منها ممارسة الجميع لفرائض واحدة. ويظهر هنا بوضوح دور صلاة الجماعة ، حيث يؤدي الجميع الصلاة معاً، فيشعر الكل إنهم ينتمون لوحدة دينية واحدة. أضف إلى هذا تلك المشاعر والروابط التي يشعر بها المسلمون جميعا في شهر رمضان، حيث يمتنع الجميع عن الطعام والشراب والشهوة امتثالاً لأمر الله، ثم في موسم الحج حين يتجرد الكافة غنيهم وفقيرهم من زخارف الدنيا ولذاتها ليتشابه الجميع في الموسم، هذا علاوة على ما يفرضه الإسلام من مساواة بين الجميع- لا يمتاز أحد عن غيره إلا بالتقوى والعمل الصالح- وتحريمه بيع المسلم واسترقاقه. كل هذا كان له أعمق الأثر في كسر الحواجز القبلية، والفروق الاجتماعية التي كانت تفتت المجتمع الأفريقي في غرب القارة[45].
أضف إلى ما تقدم أن حملة الإسلام وناشريه في هذه المناطق من عرب وبربر وغيرهم، لم ينعزلوا عن الناس – على نحو ما كان يفعل المبشرون المسيحيون- وإنما أقاموا بين ظهرانيهم يتصلون بهم ويشاركونهم حياتهم ويتزاوجون معهم، فكان أن حدث نوع من التعريب في أجزاء واسعة من غرب أفريقيا، دعم منه ما سبق أن ذكرناه من انتشار للغة والثقافة العربية. ليس هذا فحسب ، وإنما واكب عملية التعريب هذه عملية أفرقة لجموع من العرب الوافدين بدرجات وحدود متفاوتة – وقد حذا المسلمون من غير العرب- ونعني بهم هنا أهل غرب أفريقيا- حذو العرب من التزاوج بغيرهم، ومن ثم تزاوج البربر والفلانيون بيسر، وذابوا إلى حد كبير في التكرور والهوسا، ثم تزواج هؤلاء بدورهم في المجموعات الأخرى، فكان الأثر الإجمالي لعملية التزاوج هذه نوعا من التكامل العرقي، بالإضافة إلى التكامل اللغوي سالف الإشارة إليه.
وهكذا فإنه لا يسعنا إلا إن نوافق من ذهب إلي أنه "بصرف النظر عن الاختلافات في النكهة أو ظلال الفوارق الدقيقة، فإن الإسلام كدين ومنهج للحياة، نجح تماما في تزويد مجتمعات أفريقية ضخمة وآخذه في النمو، بروابط قوية من الإخاء والهوية المشتركة. وقد تدعم من هذه الروابط القوية من الإخاء الديني والوفاء الاجتماعي إلي حداً بعيد بعمليتي التكامل اللغوي والعرقي المتزامنتين واللتين – مثلهما في ذلك مثل التكامل الديني – تضمنتا إسباغ لطابع المحلي على المؤثرات الوافدة، ومن ثم التجانس – في نفس الوقت-للمجتمعات المحلية داخلياً مع بعضها ومع باقي العالم الإسلامي[46] .
ومع أن التغيير هو سنة الحياة، فإن الإسلام قد زاد من سرعة التغيير الاجتماعي وقوى من معدله وحدد أهدافه وجعل التغيير في حالات كثيرة جذرياً وذا تأثير هام في حياة الجماعات الأفريقية التى أسلمت ولما كان الإسلام عقيدة كتابية معجزتها فصاحة القرآن وشموله وبيانه، كان مدخل المسلم للإيمان التعلم والاقتناع بدءاً بالتلقين ثم التدرج في تعلم اللغة العربية لفهم القرآن، منهج الدين الجديد، كنقطة انطلاق لنشر الدعوة وبناء مجتمع المستقبل. لقد كان للعقيدة والثقافة الإسلامية أعظم إسهام أعطى منهجا قويا لتطوير أفريقيا فالإسلام ثقافة حياة مع سمو الجانب التعبدي فيه، وفيه مفاهيم جديدة للقانون والنظام، كما أعطى نماذجسامقة لفن العمارة في مساجده وعرض أزياء أنيقة متحشمة وقورة تهندم بها الدعاة والتجار الأوائلممن حملوا لواء الإسلام إلى هذه البقاع وهو ما كان له أثره الواضح على سلوكيات الناس وأنماط حياتهم الاجتماعية.
أما عن الآثار الاقتصادية فإن الإسلام وإن احتفظ للحياة الاقتصادية في غرب أفريقيا بنفس أساليبها القديمة في الزراعة وسائر الحرف والصناعات- على عكس ما حاوله المستعمر الأوروبي من تحطيم للاقتصاد التقليدي بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من خيرات القارة لصالحه[47] فإنه قد طورها وأثر فيها من خلال قيمه ومبادئه التي تحصن على العمل وتعلى من شأن اليد المنتجة، علاوة على أنه قد دخلت مع المسلمين محاصيل زراعية جديدة وأوجه للنشاط الاقتصادي لم يكن للأفارقة عهد بها. كذلك فقد نشطت التجارة في ظل الأمن الذي ساد البلاد في كنف الإسلام والأفاق الجديدة التي فتحت للمعاملات. علاوة على ما كان من أمر احترام الإسلام للملكية الخاصة، وما يفرضه من زكاة ويحث عليه من صدقة في أموال الأغنياء للفقراء، وما قرره من نظام للوراثة، تعتبر الأسرة فيه وحدة اقتصادية لها كيانها الخاص[48]. كل هذا كان له ولا شك آثار كبيرة على الاقتصاد في غرب أفريقيا[49].
ثالثاً: الأثار السياسية:
لا يفصل الإسلام من الناحية السياسية بين الدين والدولة، ومن ثم لا تنفصل فيه السلطة الدينية والسياسية وعلى هذا فإن الخارج عن سلطة الحاكم المسلم خارج عن حدود الله. وفي ظل هذه النظرة أعلن الحكام المسلمون في غرب أفريقيا الجهاد ضد الخارجين عن سلطانهم[50].
وإذا كان الإسلام لم يسب السلطة من الأفارقة، وإنما كان غاية ما اشترطته أن يكون حاكم الدولة الإسلامية مسلماً، وهو ما جعل الأفارقة يشعرون أنه أسياد أنفسهم وحكام أوطانهم، على عكس ما صاحب انتشار المسيحية من استحواذ الأجانب على السلطة في كل مكان حلت به من أنحاء القارة الأفريقية. فإنه قد ترتب على ذلك قيام ممالك إسلامية كبرى في غرب أفريقيا منذ القرن الثاني عشر، كانت لها مكانتها وحضارتها وإسهامها في نشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية. فقامت ممالك غانا ومالي وسنغي وبرنو وكانم وسوكتو وغيرها[51].
وقد حرص حكام هذه الممالك على توثيق صلاتهم بالمغرب باعتباره الدولة الإسلامية الام في هذه المناطق من القارة والتي وصل منها الإسلام إليهم. وقد تأثر هؤلاء الحكام بما شاهدوه خلال زيارتهم لا سيما في رحلات الحج – أو سمعوا عنه في البلاد الإسلامية عامة، والمغرب بصفة خاصة، وحاولوا أن ينقلوا لبلادهم هذه الأنماط الحضارية ، ليس فيما يتعلق ببناء المساجد والقصور وغيرها من مظاهر الحياة فحسب، بل فيما يتعلق بنظم الحكم في هذه البلاد- وهو الأهم في هذا الصدد- أيضاً فقد حاول حكام غرب أفريقيا المسلمون تقليد نظم الحكم السائدة في البلاد الإسلامية الأخرى على قدر ما سمعوا عنها وما فهموها[52].
وحرى بنا في هذا المقام أن نشير أن النظام السياسي الذي وجد مع انتشار الإسلام والذي قامت عليه هذه الممالك قد أَعف إلي حد كبير النظام القبلي والولاء للسلطات القبلية التي كان لها نفوذ كبير قبل الإسلام. فالإسلام – كما سلفت الإشارة – أضعف من اللاءات القبلية لصالح ولاء أوسع هو الولاء للدين الجديد والأخوة الجامعة فيه لكل المسلمين أيا كانت قبائلهم أو أوطانهم أو ألوانهم، الأمر الذي كان لابد وأن يكون له أثره على الولاء للنظام السياسي، فلم يعد ولاء لزعيم القبيلة قدر ما هو ولاء للحاكم المسلم.
حاصل القول فيما يتعلق بالآثار التي ترتبت على انتشار الإسلام في القارة الأفريقية، والغرب منها موضع اهتمامنا هنا، أنه بقدر ما سهم الإسلام في تطوير نظم الحكم، فقد أثر على الثقافة المحلية وأضفى عليها صفوة ملامحه، لغة وكتابة ومناخه الفكري ، وكان التعليم والكتابة أول مدخلاته في غرب أفريقيا. ولقد ارتبط انتشار الإسلام في هذه البقاع بالتعليم الديني، ولذا غدا الاثر الروحي شديد العمق في تجمعات المسلمين هناك، وأصبح بمثابة قوة الدافع التي قوت من عزائم الأفريقيين في مقاومتهم للاستعمار الأوروبي الذي اتخذ من المسيحية ستاراً لإخفاء أطماعه الاستغلالية. هذا علاوة على ما أفرزه الإسلام من آثار اجتماعية واقتصادية بعيدة المدى.
وبقدر عظمة التأثير الإسلامي في مجتمعات غرب أفريقيا يقدر الأسى والحزن الذي يصيب المرء من جراء الاستعمار الغربي الأوروبي لهذه البقاع في ضوء الآثار السلبية التي ترتبت على هذا الاستعمار في شتى مراحله انطلاقاً من دوافعه الخاصة لاستغلال هذه المجتمعات لتحقيق مصالحه ومآربه على حساب شعوب أفريقيا. وهو ما نفصله فيما يلي في إطار استعراض تاريخ المسلمين بالمنطقة موضع الدراسة