أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           سبحانك اللهم وبحمد ك وتبارك اسمك وتعالي جدك، ولا إله غيرك           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-02-2011
  #41
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 437
المحكمة العسكرية العرفية
او
شهادة مدرستي المصيبة
"التي طبعت سنة (1908م)"
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة
إحسان قاسم الصالحى
صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 439
باسمه سبحانه
(وإن منْ شىءٍ إلاّ يُسبّحُ بحمده)
المقدمة
حينما كانت "الحرية" قرينة الجنون، جعل الاستبداد الضعيف مستشفى المجاذيب مدرسةً لي.
وحينما كانت العدالة والاستقامة التبستا مع الرجعية، صيّر الاستبداد الشديد في المشروطية السجن مدرسةً لي.
فيا ايها المحترمون الناظرون الى شهادتي هذه! ارجو أن تبعثوا ارواحكم وخيالكم ضيوفاً الى ذهنٍ طالب بدوي عصبي المزاج والى جسده، وهو يكابد الاضطراب وقد انخرط حديثاً في المدنية، وذلك لئلا تقعوا في خطأ تخطئة الآخرين.
لقد قلت في المحكمة العسكرية العرفية في اثناء حادثة (31) مارت:
انني طالب شريعة، لذا ازن كل شئ بميزان الشريعة. فالاسلام وحده هو ملتي، لذا اُقيّم كل شئ وانظر اليه بمنظار الاسلام.
وانني اذ أقف على مشارف عالم البرزخ الذي تدعونه "السجن" منتظراً في محطة الاعدام القطار الذي يقلني الى الآخرة اشجب وانقد ما يجري في المجتمع البشري من احوال ظالمة غدارة. فخطابي ليس موجهاً اليكم وحدكم وانما اُوجهه الى بني الانسان كلهم في هذا العصر. فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة:
(يوم تبلى السرائر) (الطارق: 9) فمن كان اجنبياً غير محرَم فلا ينظر اليها. انني متهئ بكل شوق للذهاب الى الآخرة، ومستعد للرحيل اليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق. تصوروا مبلغ اشتياقي اليها بهذا المثال:


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 440
قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب استانبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق اليها؟
فانا الآن مثل ذلك القروي مشتاق الى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.
لذا فان إبعادي ونفيي الى هناك لايُعدّ عقاباً لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وايقاع العقاب عليّ فعذّبوني وجداناً، فدونه ليس عذاباً ولاعقاباً بل فخراً وشرفاً.
لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل ايام الاستبداد. الاّ انها الآن تعادي الحياة باكملها. فان كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق؛ فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.
لقد كنت آمل ان يهئ لي موضع لأبيّن فيه افكاري. وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث منها أفكاري.
في الايام الاولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري:
"وانت ايضاً قد طالبت بالشريعة"!
قلت: لو كان لي الف روح، لكنت مستعداً لأن اضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، اذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. اقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون.
وقالوا كذلك: هل انضممت الى "الاتحاد المحمدي؟ 1
قلت: نعم بكل فخر واعتزاز! أنا من اصغر اعضائه، ولكن بالوجه الذي اعرّفه. أروني احداً خارج ذلك الاتحاد من غير الملحدين.
وهكذا فانا انشر اليوم ذلك الخطاب لأنقذ المشروطية من التلوث، وانجي اهل الشريعة من اليأس، واخلّص ابناء العصر من وصم الجهل والجنون في نظر التأريخ، وانتشل الحقيقة من الأوهام والشبهات.
_____________________
1 تشكلت هذه الجمعية في 5 نيسان 1909 ، واعلن عنها في اجتماع ديني حاشد في جامع اياصوفيا، القى فيه الاستاذ النورسي خطبة رائعة. المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 441
فها انا ابدأ بخطابي.
ايها القادة! ايها الضباط!
ان خلاصة جناياتي التي اقتضت سجني هي:
[اذا محاســـني اللاتي ادلّ بها كانت ذنوبي فقل لي كيف اعتذر؟].
وفي البداية اقول:
ان الشريف لايتنزل لارتكاب جريمة. وإن اُتهم بها فلايخاف من الجزاء والعقاب. فلئن اُعدمتُ ظلماً فاني أغنم ثواب شهيدين معاً. وان لبثت في السجن فهو بلاريب افضل مكان في ظل هذه الحكومة الظالمة التي ليس فيها من الحرية الاّ لفظها. فالموت مظلوماً هو خير من العيش ظالماً.
واقول كذلك: ان بعضاً ممن جعلوا السياسة اداة للالحاد، يتهمون الآخرين بالرجعية او باستغلال الدين لاجل السياسة ليستروا سيئاتهم وجرائمهم.
ان عيون السلطة وجواسيسها أشد قساوة من سابقيهم، فكيف يوثق بهم ويعتمد عليهم وكيف نبني العدالة على أقوالهم؟.
فضلاً عن ان الانسان، اذ لايسلَم من تقصير ونقص، بينما تراه يتحرى العدالة يقع في الظلم بالجبن والخب. ولكن جمع تقصيرات متفرقة وقعت في مدة مديدة ومن تصرف اشخاص كثيرين - والتي يمكن تفاديها بما يتخللها من محاسن - وتوهم صدورها من شخص واحد في وقت واحد يجعل ذلك الشخص مستحقاً لعقاب شديد. بينما هذا الامر بحد ذاته ظلم عظيم.
والآن سنباشر بذكر جناياتي البالغة احدى عشرة جناية ونصف جناية وهي:
الجناية الاولى: في السنة الماضية، في بداية اعلان الحرية، ارسلتُ مايقارب من خمسين اوستين برقية الى العشائر القاطنين في شرقي البلاد، وذلك بوساطة ديوان رئاسة الوزارة. كان مضمون تلك البرقيات:
"ان المسألة التي سمعتموها وهي المشروطية والقانون الاساسي فما هي الاّ العدالة الحقة والشورى الشرعية. تلقُوها بقبول حسن. اسعوا للحفاظ عليها؛ لان سعادتنا الدنيوية في المشروطية. فلقد قاسينا الامرّين من الاستبداد اكثر من الآخرين".


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 442
وقد أتت من كل مكان اجابات إيجابية لهذة البرقيات. بمعنى انني قمت بتنبيه الولايات الشرقية ولم اتركهم غافلين، يستغفلهم استبداد جديد..
وحيث انني لم اقل مالي وللناس ارتكبتُ إذن جناية، حتى دخلت هذه المحكمة!
الجناية الثانية: لقد قمت بالقاء خطب عدة على العلماء عامة وعلى كثير من طلاب الشريعة، وذلك في كل من جامع اياصوفيا وبايزيد والفاتح والسليمانية، وبينت العلاقة الحقيقية بين الشرع الحقيقي والمشروطية. واوضحت ان الاستبداد المتعسف لاصلة له بالشريعة الغراء، وإن الشريعة قد أتت لهداية العالم اجمع كي تزيل التحكم الظالم والاستبداد كما هو مضمون الحديث الشريف (سيد القوم خادمهم) 1 وانا على استعداد لأبرهن برهاناً قاطعاً كل كلمة جاءت في أيّ خطبة كانت من الخطب التي ألقيتها لمن له اي اعتراض كان.
وقد قلت: ان المسلك الحقيقي للشريعة إنما هو حقيقة المشروطية المشروعة.
بمعنى انني رضيت بالمشروطية بالدلائل الشرعية، وليس كما رضي بها بعض دعاة المدنية الغربية، اذ قبلوها تقليداً وفهموها خلافاً للشريعة. فلم أتنازل عن الشريعة ولم اعطها أنا مرة لشئ.
وحيث انني سعيتُ لانقاذ الشريعة وصون علمائها من شبهات اوروبا واوهامها فقد أرتكبت اذن جريمة حتى رأيت هذا النمط من معاملاتكم معي!
الجناية الثالثة: لقد توجست خيفة من ان يلوث صفاء القلوب لدى الولايات الشرقية، فيستغل بعض دعاة الاحزاب ابناء بلدي الذين يقرب تعدادهم عشرين الف شخص، حيث انهم يعملون بالحمالة وهم ذوو نفوس طيبة ساذجة غافلة. فتجولت جميع الاماكن والمقاهي التي يتواجد فيها الحمالون، وبينت لهم المشروطية في السنة الماضية بقدر مايستوعبونه. فقلت لهم بهذا المعنى:
ان الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، اما المشروطية فهي العدالة والشريعة. فالسلطان اذا ما اطاع اوامر سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسار في نهجه المبارك فهو
_____________________
1 رواه ابو عبدالرحمن السلمي في آداب الصحبة، ورواه الخطيب، واخرجه الديلمي، ورواه الطبراني بمعناه، فالحديث ضعيف كما علمت، على انه قد يقال انه حسن لغيره لتعدد طرقه كما مر فتدبر(باختصار عن كشف الخفاء 2/463).



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 443
الخليفة، ونحن نطيعه، والاّ فالذين يعصون الرسول صلى الله عليه وسلم ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين.
ان عدونا هو الجهل والضرورة والاختلاف، وسنجاهد هؤلاء الاعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق. وسنتعاون ونتصادق يداً بيد مع الاتراك وهم اخواننا الحقيقيون الذين كانوا السبب - من جهة - لإيقاظنا من غفلتنا ودفعنا الى سبيل الرقي.
نعم، نتعاون معهم ومع جميع من يجاورنا، لان الخصام والعداء فساد ايّ فساد. فلا نملك وقتاً للخصام.
ونحن لانتدخل بشؤون الحكومة، حيث اننا لاندرك حكمتها.
ولقد أجدت هذه النصيحة وتركت أثراً في اولئك الحمالين الذين قاطعوا العمل في انزال البضائع النمساوية - مثلما اقاطع البضائع الاوروبية قاطبة - حيث تصرفوا تصرفاً يتسم بالعقلانية وبعيداً عن التهور.
وحيث انني كنت السبب في تقويم ارتباطهم بالسلطان وتسويتها وفتح حرب اقتصادية مع النمسا فقد ارتكبت اذن جناية حتى وقعت في هذه المصيبة!
الجناية الرابعة: ان اوروبا تظن الشريعة هي التي تمدّ الاستبداد بالقوة وتعينه. حاش وكلا.. ان الجهل والتعصب المتفشيان فينا قد ساعدا اوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من ان الشريعة تعين الاستبداد. لذا تألمت كثيراً من اعماق قلبي على ظنهم السئ هذا بالشريعة، فكما انني اكذّب ظنهم فقد رحّبت بالمشروطية باسم الشريعة قبل اي شخص. ولكني خشيت من ان يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من اعماقي، وبكل ما اوتيت من قوة في خطاب امام المبعوثين.. في جامع اياصوفيا وقلت:
افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقوها على اساسها، ولقّنوها الآخرين على هذه الصورة. كي لا تلوثها اليد القذرة لاستبداد جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشئ الطيب المبارك ترساً لأغراضه الشخصية. قيّدوا الحرية باداب الشرع لان عوام الناس والجاهلين يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد ان ظلوا


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 444
احراراً سائبين بلاقيد و شرط. ولتكن قبلتكم في صلاة العدالة على المذاهب الاربعة كي تصحّ صلاتكم. لأنني قد اعلنت دعوىً: انه يمكن استخراج حقائق المشروطية صراحة وضمناً وإذناً من بين المذاهب الاربعة.
وحيث اني قد اخذت على عاتقي - وانا طالب شريعة - مايفرض على العلماء جملة من الوظائف والواجبات فقد اقترفت اذن جناية.. ولهذا تلقيت مثل هذا العقاب!
الجناية الخامسة: لقد دأبت الصحف على زعزعة الاخلاق الاسلامية بقياسين فاسدين وبما يوهن العزة والإقدام، حتى اهلكوا الافكار العامة السائدة. فتصديت لهم بمقالات نشرتها في الجرائد وقلت لهم:
يا ارباب الصحف! على الادباء ان يلتزموا بالآداب، وعليهم ان يتأدبوا بالآداب اللائقة بالاسلام فينبغي ان تكون اقوالهم صادرة من صدور لاتحيد لجهة، ومن قلوب عموم الناس، فيشترك معهم عموم الامة.
ويجب تنظيم برنامج المطبوعات بما في وجدانكم من شعور ديني ونية خالصة.
بينما انتم بقياس فاسد، اي بقياس الريف باستانبول، واستانبول باوروبا اوقعتم الرأي العام والافكار السائدة في مستنقع آسن. فنبهتم عروق الاغراض الشخصية والمنافع الذاتية واخذ الثأر، حيث يلقن الطفل الصغير الذي لم يدرج بعد في المدرسة، الفلسفة الطبيعية المادية. فكما لا تليق بالرجل فساتين الراقصات فلاتطبق مشاعر اوروبا في استانبول. اذ اختلاف الاقوام وتخالف الاماكن والاقطار شبيهة بتباين الازمنة والعصور. بمعنى ان الثورة الفرنسية لاتكون دستوراً لنا. فالخطأ ينجم من تطبيق النظريات وعدم التفكر بمتطلبات الوقت الحاضر.
فانا القروي الذي لا اجيد الكتابة قد قمت باسداء النصائح الى امثال هؤلاء المحررين الحاملين لاغراض شخصية ومغالطات في رؤية الامور التي يعملون فيها بذكائهم.. فارتكبت اذن جناية!
الجناية السادسة: لقد شعرت مراراً في اجتماعات ضخمة بالمشاعر المتهيجة لدى الناس، فخشيت ان يخلّ عوام الناس النظام وأمن البلاد بمداخلتهم في السياسة،


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 445
فقمت بتهدأة تلك المشاعر الجياشة بكلام يلائم لسان طالب علم قروي قد تعلم اللغة التركية حديثاً.
فمثلاً: في اجتماع الطلاب في جامع بايزيد، وفي المولد النبوي المقام في اياصوفيا، وفي مسرح الفرح. هدّأتُ - الى حدٍ ما- ثورة الناس وغضبهم . فلولا تلك الكلمات والخطب لعصفت عاصفة هوجاء تعصف بهم.
فانا البدوي الذي لم اختلط بعدُ كثيراً بالحضارة، ولعلمي بدسائس المدنيين.. قد تدخلت في امورهم فارتكبت اذن جناية!
الجناية السابعة: لقد طرق سمعي ان جمعية باسم "الاتحاد المحمدي" قد تأسست، فتوجست خيفة شديدة، من صدور حركات خاطئة من بعضهم تحت هذا الاسم المبارك.
ثم سمعت اشخاصاً مرموقين - من امثال سهيل باشا والشيخ صادق 1 قد حوّلوا هذا الاسم الى شئ بسيط ويسير إذ حصروه في العبادة واتباع سنن مطهرة، فقطعوا علاقتهم بتلك الجمعية السياسية. فلا يتدخلون بعدُ بالسياسة. فخشيت مرة اخرى حيث قلت: ان هذا الاسم هو حقّ المسلمين كافة، فلا يقبل تخصصاً ولاتحديداً. فكما اني منتسب الى جمعيات دينية عديدة من جهة - حيث قد رأيت ان اهدافها واحدة - كذلك انتسب الى ذلك الاسم المبارك.
ولكن الاتحاد المحمدي الذي اعرفه وانضممت اليه هو الدائرة المرتبطة بسلسلة نورانية ممتدة من الشرق الى الغرب ومن الجنوب الى الشمال. فالذين ينضوون تحت رايتها يتجاوز عددهم ثلاثمائة مليوناً في هذا العصر، وان جهة الوحدة والارتباط في هذا الاتحاد هو توحيد الله. قسمه وعهده هو الايمان. والمنتسبون اليه جميع المؤمنين منذ الخليقة. وسجل اسماء اعضائه هو اللوح المحفوظ. وناشر افكاره جميع الكتب الاسلامية والصحف اليومية التي تستهدف اعلاء كلمة الله. ومحالّ اجتماعاته ونواديه هي الجوامع والمساجد والتكايا والمدارس الدينية. ومركزه: الحرمان الشريفان.
_____________________
1 من الاعضاء المؤسسين لجمعية الاتحاد المحمدى - المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 446
فجمعية مثل هذه.. رئيسها هو فخر العالمين سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ومسلكها ومنهجها؛ مجاهدة كل شخص نفسه اي التخلق باخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واحياء السنة النبوية ومحبة الآخرين واسداء النصح لهم ما لم ينشأ منه ضرر.
والنظام الداخلي لهذا الاتحاد: السنة النبوية.
وقانونه: الاوامر الشرعية ونواهيها.
وسيوفه: البراهين القاطعة، حيث أن الظهور على المدنيين المثقفين انما هو بالاقناع وليس بالضغط والاجبار. وان تحرّي الحقيقة لايكون الاّ بالمحبة، بينما الخصومة تكون ازاء الوحشية والتعصب.
اما اهدافهم ومقاصدهم فهي اعلاء كلمة الله .
هذا وان نسبة الاخلاق والعبادة وامور الآخرة والفضيلة في الشريعة هي تسع وتسعون بالمئة بينما نسبة السياسة لاتتجاوز الواحدة بالمائة. فليفكر فيها اولياء امورنا.
والآن فان مقصدنا هو سوق الجميع بشوق وجداني الى كعبة الكمالات بطريق الرقي، وذلك بتحريك تلك السلسلة النورانية، اذ إن الرقي المادي سبب عظيم لاعلاء كلمة الله في هذا الزمان.
وهكذا فانا احد أفراد هذا الاتحاد ومن الساعين لرفع رايته واظهار اسمه والاّ فلست من الاحزاب والجمعيات التي تسبب الفرقة بين الناس.
الحاصل: لقد بايعت السلطان سليم وقبلت فكره في الاتحاد الاسلامي، لان ذلك الفكر هو الذي ايقظ الولايات الشرقية، فهم قد بايعوه على ذلك.
فالشرقيون الآن هم اولئك لم يتغيروا. فأسلافي في هذه المسألة هم: الشيخ جمال الدين الافغاني، ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. ومن العلماء الاعلام على سواعي، والعالم تحسين. والشاعر نامق كمال الذي دعا الى الاتحاد الاسلامي والسلطان سليم الذي قال:
"ان مغبة الاختلاف والتفرقة يقلقاني حتى في قبري
فسلاحنا في دفع صولة الاعداء انما هو الاتحاد
ان لم تتحد الامة فإنّي اتحرق أسىً"
السلطان ياوز سليم


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 447
ولقد دعوت ظاهراً الى هذا الاتحاد المحمدي من اجل مقصدين عظيمين:
المقصد الاول: انقاذ ذلك الاسم من التحديد والتخصيص، ولأعلن شموله المؤمنين عامة كي لايقع الخلاف والفرقة ولا ترد الشبهات والاوهام.
المقصد الثاني: ليكون سداً امام افتراق الفرق والاحزاب الذي كان سبباً في هذه المصيبة الفائتة العظيمة 1، وذلك بمحاولة التوحيد بينها، فيا اسفي لم يسعفنا الزمن فجاء السيل فاوقعني ايضاً.
ثم كنت اقول: لو نشب حريق فسأحاول اطفاء جزء منها في الاقل، ولكن احترقت حتى ملابسي العلمية. وذهبتْ - برضى مني - الشهرة الكاذبة التي لا استطيع تعهدها.
فأنا الذي لست الاّ رجلاً عادياً، قد اخذت على عاتقي مسائل مهمة تقض مضاجع النواب والاعيان والوزراء، فاذن قد ارتكبت جناية!.
الجناية الثامنة: لقد سمعت ان قسماً من الجنود بدأوا ينتسبون الى بعض الجمعيات، فتذكرت الحادثة الرهيبة للانكشاريين. فقلقت كثيراً واضطربت، فكتبت في احدى الصحف:
ان اسمى جمعية وأقدسها في الوقت الحاضر، هي جمعية الجنود المؤمنين. فجميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداءً من الجندي الى القائد هم داخلون في هذه الجمعية. اذ إن أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والاخوة والطاعة والمحبة واعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون الى هذا الهدف. ألا ان الجنود هم المراكز، فعلى الامة والجمعيات ان ينتسبوا الى الجنود. اذ الجمعيات الاخرى ماهي الاّ لجعل الامة جنوداً في المحبة والاخوة. اما الاتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزباً، اذ مركزه وصفّه الاول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون.
فليس هناك مؤمن ولاجندي فدائي سواءً أكان ضابطاً او جندياً خارج عن هذا الاتحاد، لذا فلا داعي للانتساب الى جمعيات اخرى. ومع هذا فلا اتدخل في امور بعض الجمعيات الخيرة التي لها الحق في ان تطلق على نفسها الاتحاد المحمدي.
_____________________
1 المقصود حادثة 31 مارت. المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 448
فانا الذي لست الاّ طالب شريعة، قد غصبت مهمة العلماء العظام فاذن قد ارتكبت جناية!
الجناية التاسعة: لقد شاهدت الحركة الرهيبة التي حدثت في (31) مارت لبضع دقائق. فسمعت مطالب عدة؛ فكما اذا اديرت الوان سبعة بسرعة لايظهر الاّ اللون الابيض فكذلك لم يظهر من تلك المطالب الاّ لفظ الشريعة التي تخفف فساد تلك المطالب المتباينة من الالف الى الواحد، وتنقذ العوام من الفوضى والاضطراب، والتي تحافظ حفاظاً معجزاً على السياسة من ان تكون لعبة بيد الافراد. فادركت ان الامر ينساق الى الفساد؛ اذ الطاعة قد اختلت، والنصائح لا تجدي؛ والاّ كنت اندفع الى اطفاء تلك النار مثلما كنت اطفئ غيرها، ولكن العوام هم الاغلبية، واصدقائي غافلون وبسطاء، وانا اظهر بمظهر الشهرة الكاذبة.
فبعد ثلاث دقائق انسحبت ذاهباً الى "باقركوي" 1 كي احول بين معارفي وبين التورط في هذا الامر. واوصيت كل من قابلني بعدم التدخل. فلو كان لي تدخل - بمقدار أنملة - لكنت اظهر في هذا الامر ظهوراً عظيماً حيث ان ملابسي تعلن عني وشهرتي التي لا اريدها ذائعة بين الجميع. وربما كنت اثبت وجودي بمقاومة جيش الحركة الى اياستافانونس 2 ولو وحدي ثم اموت بشرف ورجولة. وعندئذٍ كان تدخلي في الامور من البديهيات. فلا تبقى حاجة الى التحقيق.
وفي اليوم الثاني استفسرت من الجنود المطيعين - الذين هم يمثلون عقدة الحياة لنا - فقالوا ان الضباط قد لبسوا ملابس الجنود، فالطاعة ليست مختلة كثيراً.
ثم كررت السؤال: كم من الضباط اُصيبوا؟ فخدعوني قائلين: اربعة فقط، وهؤلاء كانوا من المستبدين. وسوف تنفذ اداب الشريعة وحدودها.
ثم تصفحت الجرائد ورأيت: انهم ايضاً يرون تلك الحركة حركة مشروعة ويصورونها على هذه الصورة، ففرحت من جهة. لأن أقدس غاية لديّ هي تطبيق الاحكام الشرعية تطبيقاً كاملاً. ولكن يئست اشد اليأس وتألمت كثيراً باختلال الطاعة العسكرية. فخاطبت الجنود بلسان جميع الجرائد وقلت:
_____________________
1 احد احياء استانبول - المترجم.
2 منطقة في ضواحي استانبول (يشيل كوي). المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 449
ايها الجنود! ان كان ضباطكم يظلمون انفسهم بإثم واحد فانكم بعصيانكم تظلمون حقوق ثلاثين مليوناً من العثمانيين و ثلاثمائة مليوناً من المسلمين. لان شرف العثمانيين وعامة المسلمين وسعادتهم ولواء وحدتهم قائمة - بجهة - في طاعتكم.
ثم انكم تطالبون بالشريعة ولكنكم تخالفونها بعصيانكم هذا.
ولقد باركت حركتهم وشجاعتهم لان الصحف التي هي لسان كاذب للرأي العام قد اظهرت لنا أن حركتهم مشروعة. فلقد تمكنت - بتقديرهم هذا - أن اؤثر بنصيحتي فيهم. فهدّأت العصيان الى حدٍ ما. والاّ لما كان الامر يكون سهلاً.
فانا الذي قد زرت مستشفى المجاذيب فعلاً، ولم اقل: مالي وللناس، فليفكر في هذا الامر العقلاء.. فقد ارتكبت اذن جناية!
الجناية العاشرة: لقد ذهبت بصحبة العلماء يوم الجمعة الى الجنود الذين هم في الوزارة الحربية. وقد أخضعت ثمانية طوابير الى الطاعة بخطب مؤثرة جداً. ولقد اظهرت نصائحي فوائدها بعد مدة. اذكر لكم صورة خطابي:
ايها العساكر الموحدون!
ان شرف ثلاثين مليوناً من العثمانيين وثلاثمائة مليوناً من المسلمين وكرامتهم وسعادتهم ورمز وحدتهم منوطة - من جهة - بطاعتكم. ان كانوا يظلمون انفسهم بخطيئة واحدة فانكم بعصيانكم هذا تظلمون ثلاثمائة مليوناً من المسلمين. لانكم بعصيانكم هذا تلقون الاخوة الاسلامية الى التهلكة.
اعلموا جيداً!
ان مركز الجندي عظيم جداً، اذ هو اشبه مايكون بالمعمل، فاذا اختل دولاب منه يختل العمل في المعمل كله. ألا ان الجنود الافراد لايتدخلون بالسياسة، والانكشاريون خير شاهد على هذا. انكم تطالبون بالشريعة الاّ انكم تخالفونها وتلوثونها.
انه ثابت بالشريعة والقرآن والحديث والحكمة والتجربة: ان الطاعة فرض لولى الامر المستقيم المتدَّين القائم بالحق. فاولياء اموركم هم ضباطكم. فكما ان مهندساً ماهراً وطبيباً حاذقاً اذا ما ارتكب الآثام لاتتضرر مهنة الطب والهندسة كذلك

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #42
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 450
ضباطكم الذين هم منورو الفكر ومثقفون ومطلعون على فنون الحرب وذوو الغيرة والشهامة وهم المؤمنون. فلا تظلموا العثمانيين جميعاً والمسلمين بعصيانكم لاوامرهم جراء حركة جزئية غير مشروعة تصدر منهم، ذلك لان العصيان ليس ظلماً واحداً بل هو تجاوز على حقوق ملايين من الافراد. انتم تعلمون أن راية التوحيد الإلهي محمولة على يد شجاعتكم. وقوة تلك اليد في الطاعة والنظام، حيث ان ألفاً من المطيعين المنظمين يعدل مائة الف من السائبين. وغني عن البيان فان ثلاثين مليوناً من العثمانيين لم يقوموا بمثل هذه الانقلابات الدموية طوال مائة سنة، فلقد قمتم بها بطاعتكم من دون اراقة دماء.
واضيف ايضاً، ان اضاعة ضابط ذي حمية وثقافة ودراية يعني اضاعة قوتكم المعنوية، لان الغالب في الوقت الحاضر هو الشجاعة الايمانية والعقلية والعلمية. واحياناً يعدل مثقف واحد منهم مائة من غيرهم. فالاجانب يسعون ان يغلبوكم بهذه الشجاعة، اذ الشجاعة الفطرية وحدها غير كافية.
خلاصة الكلام: اني ابلغكم ماامره الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم وهو:
ان الطاعة فرض، فلا تعصوا ضباطكم.
فليحيا الجنود، ولتعش المشروطية المشروعة.
فانا.. لانني قد تجشمت اعباء هذه المهمات الجسيمة - مع وجود علماء اكفاء - قد ارتكبت اذن جناية!
الجناية الحادية عشرة: كنت ألمس الوضع الردئ لما كان يعيشه اهالي الولايات الشرقية فادركت ان سعادتنا الدنيوية ستحصل - من جهة - بالعلوم الحديثة الحاضرة، وان احد الروافد غير الآسنة لتلك العلوم سيكون العلماء، والمنبع الآخر سيكون حتماً المدارس الدينية، كي يأنس علماء الدين بالعلوم الحديثة.
وحيث ان زمام الأمر في تلك البقاع التي اغلبيتها الساحقة اُميون بيد علماء الدين، فهذا الشعور هو الذي دفعني الى المجئ الى استانبول. ظناً مني ان نلقى السعادة في "دار السعادة" في ذلك الوقت مع ان الاستبداد - الذي اصبح الآن اضراباً وتقوّى اكثر - كان يُسند الى المرحوم السلطان المخلوع، فانه قدّم لي مرتباً


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 451
بواسطة وزير الأمن العام وفضلاً منه وكرماً، فرفضت. فقد اخطأت! ولكن خطأى ذلك اصبح خيراً اذ اظهر خطأ الذين يبغون مال الدنيا بالعلوم الدينية، فضحيت عقلي، ولم ادع حريتي ولم احنِ رأسي لذلك السلطان الرؤوف، فتركت منافعي الشخصية؛ اذ هؤلاء يمكنهم ان يضموني الى صفوفهم بالمحبة وليس بالاضطرار والقوة، فانا منذ سنة ونصف السنة اسعى هنا لتنال بلادي المعارف والعلوم. واغلب الاصدقاء في استانبول على علم بهذا.
فانا الذي ابن حمال فقير. لم اتجاوز طوري وكوني ابن فقير وحمال رغم تيسر الدنيا لي، ولم اوطد علاقاتي مع الدنيا بل تركت احب المناطق الى قلبي وهي ذرى جبال الولايات الشرقية داعياً الى السعادة لأمتي، فدخلت مستشفى المجاذيب والمعتقلات والسجون وعانيت التعذيب والاهانات في فترة المشروطية.. كل ذلك لانني قد تطاولت الى اثال هذه الامور حتى اوقعتني في مثل هذه المحاكم الرهيبة. فاذن قد جنيت!
نصف جناية:
انطلاقاً من مفهوم الحفاظ على مركز الخلافة وهو مركز المسلمين وموضع رابطتهم، والحيلولة دون ضياعه.. وظناً من كون حضرة السلطان عبد الحميد الثاني على استعداد لاستيضاح الأمر والندم على اخطائه الاجتماعية السابقة.. وأخذاً بالقاعدة الجليلة "والصلح خير" لتخفيف الاحداث الحالية التي سارت بعنف وبذرت بذور الفتن والاضطرابات، وتحويلها الى افضل ما يمكن.. لأجل كل ذلك قلت بلسان الجريدة للسلطان السابق ما يأتي:
أجعل قصر يلدز ، ذلك النجم المنخسف، جامعة للعلوم ليرتفع الى الاعالي كالثريا.
وأسكن فيه اهل الحقيقة وملائكة الرحمة بدلاً من السواح وزبانية جهنم ليصبح بهيجة بهجة الجنة.
وأعد الى الامة ما اهدته لك من ثروات في القصر بصرفها في إنشاء جامعات دينية لتزيل الجهل الذي هو داء الامة الوبيل.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 452
ووطّن الثقة بمروءة الامة ومحبتها، فهي المتكفلة بادارتكم السلطانية. دع الدنيا قبل ان تدعك واصرف زكاة العمر في سبيل العمر التالي. انه ينبغي التفكر في الآخرة وحدها بعد هذا العمر.
والآن لنقارن؛ أيُّما افضل: ان يكون قصر يلدز موضع لهو أم جامعة علوم؟ وان يجول فيه السواح ام يدرّس فيه العلماء ؟ يُغصب ام يُهدى؟ فليقضِ اصحاب الانصاف في هذا.
فأنا الفقير المعدم قمت باسداء النصيحة الى سلطان عظيم ، قد جنيت اذن نصف جناية!
اما النصف الاخر من الجناية فلم يحن وقت الافصاح عنه 1.
وا أسفى لقد وضع المعجبون بالتطرف في هذه الحادثة سداً امام رغبات الامة المشتاقة الى المشروطية المشروعة التي فيها سعادتنا ومنبع حياتنا الاجتماعية العطشى الى المعارف والعلوم الحديثة المنسجمة مع الاسلام وذلك بإلقائهم الاغراض الشخصية والفتن في المشروطية. زد على ذلك أعمال المثقفين المتسمة بالالحاد وعدم الاكتراث بالدين.
فعلى الذين أقاموا هذا السد المنيع ان يرفعوه ويزيلوه، وهذا ما نرجوه منهم باسم الوطن.
ايها القواد والضباط!
ان الشهود على هذه الجنايات الاحدى عشرة ونصف الجناية هم ألوف بل يمكن ان يكون نصف اهالي استانبول شهوداً على بعض الجنايات.
ولكن أطلب الاجابة عن الاسئلة الاحد عشر سؤالاً ونصف سؤال. فضلاً عن رضاي بالعقاب النازل بي عن تلك الجنايات. ومع هذا فلي حسنة واحدة عوضاً عن هذه السيئات، وسأقولها وهي:
انني عارضت شعبة - الاتحاد والترقي - المستبدة هنا، تلك التي اذهبت شوق الجميع واطارت نشوتهم وايقظت عروق النفاق والتحيّز وسببت التفرقة بين الناس
_____________________
1 انظروا الى البحث الموجود في ختام مجموعة » سراج النور« لتطلعوا على النصف الآخر من الجناية، والتي يعاقب المؤلف من جرائها بثمان وعشرين سنة. المؤلف (المقصود : الشعاع الخامس) المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 453
واوجدت الفرق والاحزاب القومية، وتسمت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطخت اسم الاتحاد والترقي.
ان لكلٍ فكرُه ، وانا حرّ في إبداء الفكر. فالصلح العام والعفو العام، ورفع الامتيازات ضروري، لئلا يتولد النفاق من استخفاف أصحابُ الامتياز الآخرين.
واقول بلا فخر: نحن المسلمين الحقيقيين ننخدع ولكن لا نخدع، ولا نتنزل للخداع لاجل حياة دنيوية. لاننا نعلم " انما الحيلة في ترك الحيل".ولكن لانني قد عاهدت المشروطية الحقيقية المشروعة ساصفع الاستبداد ان قابلته في أي لباس كان، حتى لو كان لابساً ملابس المشروطية او تقلّد اسمها. وفي اعتقادي ان اعداء المشروطية هم اولئك الذين يشوّهون صورتها باظهارها مخالفة للشريعة وانها ظالمة، فيكثرون بهذا أعداء الشورى ايضاً. علماً ان القاعدة هي : لا تتبدل الحقائق بتبدل الاسماء.
وحيث ان اعظم الخطأ هو ظن المرء انه لا يخطأ. فإني اعترف بخطأي وهو: اردت نصح الناس قبل ان آخذ بنصيحتهم، سعيت في ارشاد الآخرين قبل إرشاد نفسي، فهوّنت بهذا شأن الامر بالمعروف حتى اصبح لا يجدي.
ثم انه ثابت بالتجربة ان العقاب يأتي نتيجة ذنب. الاّ انه احياناً ينزل العقاب ولمّا يُرتكب ذلك الذنب إلاّ انه اظهر نفسه في صورة ذنب آخر. فذلك الشخص رغم انه برئ من هذا الذنب الاّ انه يستحق العقاب لذنب آخر خفي. فالله سبحانه ينزل به المصيبة فيلقيه في السجن لذنب خفي، فيعدل. بينما الحاكم يظلم لعدم ارتكاب الشخص ذلك الذنب ، ولخفاء الذنب الخفي عنه.
فيا اولي الامر!
كانت لي كرامة وعزة، وكنت ارغب ان اخدم بها الامة الاسلامية، الاّ انكم اهنتموها.
وكنت املك شهرة كاذبة - دون رغبتي - واُجري نصحي بها الى العوام، فافنيتموها مشكورين.
والآن ظلت لدي حياة ضعيفة مللت منها، فليهلكني الله إن صُنتها خوفاً من الاعدام، ولا اكون شريفاً إن لم اقدم على الموت ببشاشة.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 454
ان الحكم عليّ صورةً يورث الحكم عليكم وجداناً. وهذا لا يضرني بل هو رفعة وشرف لي، ولكنكم تلحقون الضرر بالامة، لانكم تزيلون تأثير نصائحي، فضلاً عن إضراركم بانفسكم، حيث أكون حجة قاطعة بيد عدوّكم.
فلقد وضعتموني على المحك، تُرى لو وضعت ما تسمونه بالفرق الخالصة (الاحزاب) على مثل هذا المحك كم سيسلم منهم؟
ان كانت المشروطية تعني مخالفة الشريعة واستبداد جماعة معينة، [فليشهد الثقلان اني مرتجع] 1.
ذلك لان الاتحاد القائم على الكذب كذب ايضاً، والمشروطية القائمة على اسس فاسدة ومفسدة مشروطية فاسدة، اذ المشروطية الحقة التي لها الدوام والبقاء هي المشروطية القائمة على الحق وعلى الصدقوعلى المحبة وعلى اساس عدم الامتيازات.
انني انبّه الى هذا وكلي أسف وقلق:
مثلاً: عالم جليل تحجزه صفة العلم عن الفساد، ولكن يُقرن ذكر الفساد الناشئ من تهوره كلما ذكر علمه. ومن ثم تُمسّ صفة العلم بسوء. ألا يومئ هذا الى العداء للعلم؟ كذلك حينما زرعت الفرقاء بذور التفرقة والفتن - خلافاً للشريعة - واطلقت مليوناً من الطلقات عبثاً ، وظلت السياسة والنظام العام بيد أفراد اعتياديين وعمّت الفوضى في الاوساط .. وما هدأ ذلك الطوفان العارم الاّ معجزة الشريعة حتى مرّ بسلام من دون إراقة دم. بمعنى ان الاسم السامي للشريعة المطهرة والاتحاد المحمدي انزل تأثير ذلك الفساد الرهيب من الالف الى الواحد.
فبينما الامر هكذا فان ذكر ذلك الاسم الطاهر ، الشريعة، مقروناً باصحاب الفتن وجعله ترساً لهم هو مسّ لنقطة خطرة جداً، بل هو تعرض لعقدة الحياة. بحيث يرجف من هوله كل صاحب وجدان سليم وتذهب نفسه حسرات عليه.
ان الذي يستطيع ان يتصور انه بالامكان جعل الثريا مكنسة واطفائه بالنفخ، لا يعلن الاّ عن بلاهته!
_____________________
1 هذا القول نظير قول الامام الشافعي رضي الله عنه.
ان كان رفضاً حب آل محمد
فليشهد الثقلان اني رافضي (ديوان الامام الشافعى) - المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 455
فلو ان مَلَكاً في جو السماء، في زحل مثلاً، امسك بيده ميزاناً يزن جبل ارارات وجبل سبحان. واضيف على جبل ارارات وزنٌ بقدر درهم، فالمشاهدون القاصرو النظر عند ما يرون نزول كفة ارارات الى الارض وصعود كفة سبحان الى السماء، يسندون الامر والثقل الى ذلك الوزن البسيط بقدر درهم!
وهكذا فالكرامة العسكرية والحمية الاسلامية والشريعة المحمدية شبيهة بتلك الجبال الشامخة، اما الاسباب الخارجية فهي بوزن درهم فحسب. فاتخاذ هذه الاسباب التافهة اساساً في الامور دليل على الجهل بشأن الانسانية والاسلام، بل تهوين بهما.
سوف اقول الحقيقة فقط. ولن اجانب الحق ابداً ، ذلك لان مقام الحق سامٍ ولن اُضحي به لاجل احد، لذا لن تصرفني عن ذكر الحق لومة لائم.
ان ما يسمى بحادثة 31 مارت، ذلك الطوفان الرهيب والصاعقة المحرقة، قد هيأت - تحت اسباب اعتيادية - استعداداً طبيعياً بحيث ورد - من عند الله - على لسان القائمين بها اسم الشريعة المظهرة معجزتها دوماً رغم ان نتائج تلك الحادثة كانت الهرج والمرج.
ولأن اسم الشريعة جعل ذلك الطوفان يمر بسلام فانه يُدين - امام الله - تلك الصحف التي اطلقت لسانها بالسوء بعد منتصف نيسان.
فاذا ما أُخذ بنظر الاعتبار الاسباب السبعة والاحوال السبع التي ادت الى تلك الحادثة تظهر الحقيقة بجلاء وهي الآتية:
1- لقد كان تسعون بالمائة من هذه الحركة موجهة ضد الاتحاد والترقي وضد استبدادهم ودكتاتوريتهم.
2- كما كانت ترمي الى تبديل الوزراء الذين كانوا محل نقاش وجدال بين الفرقاء والاحزاب.
3- انقاذ السلطان المظلوم من الخلع الذي قد تقرر وصُمّم عليه.
4- منع التعليمات وانهاء التلقينات التي لا تليق مع الآداب العسكرية والاداب الدينية.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 456
5- الكشف عن قاتل السيد "حسن فهمي" 1 بعد ان تم تضخيم موضوع اغتياله.
6- تسوية موضوع الضباط " الآلايلي" 2 الذين اُخرجوا من الخدمة العسكرية وانصافهم.
7- الوقوف تجاه تعميم مفهوم الحرية على التصرفات السفيهة، اي تحديد معنى الحرية بالآداب الشرعية، ثم القيام بتطبيق الحدود الشرعية التي لا يفهم العوام منها سوى القصاص وقطع اليد.
بيد ان الارضية الآسنة كانت مهيأة والخطط والمنزلقات كانت جاهزة حتى ذهبت الطاعة العسكرية السامية جداً ضحية لها.
ان اس اساس الاسباب هو المناقشات العنيفة المتحيّزة للفرقاء وغلو الصحف في المجادلات المبالغ فيها بالكذب عوضاً عن بلاغة الكلام. وكما ان دوران القرص الملون لا يظهر الاّ اللون الابيض فالشريعة الغراء هي التي تجلت من بين هذه المطالب السبعة المذكورة فسدّت طريق الفساد.

الحاصل:لقد عمت الفوضى والارهاب في الاوساط بما نشرته الصحف من مقالات محرضة، وشروع الفرقاء بتسجيل اسماء الفدائيين ، وسيطرة الاشخاص الذين قادوا الانقلاب، وسريان الحرية المطلقة الى الجنود بما ينافي الطاعة العسكرية، وتلقين بعض المهملين الجنود ما يظنونه مخالفاً للآداب الدينية. وبعد ان انفرط عقد الطاعة زرع المستبدون والمتعصبون الجهلاء - والذين تنقصهم المحاكمة العقلية في الدين - البذور في ذلك المستنقع الآسن - بظن الاحسان - وظلت السياسة العامة للدولة بيد الجهلاء واطلق ما يقارب المليون من الطلقات في الهواء وتدخلت الايادي الداخلية والخارجية.

_____________________
1 حسن فهمي: صحفي معروف بمعارضته لجمعية الاتحاد والترقي. تم اغتياله فوق جسر "غلطة سراي" من قبل هذه الجمعية. واثار اغتياله استياءً عاماً ونقمة ضد الاتحاديين. المترجم
2 ضابط الالايلي: هم الضباط الذين ترقوا من الجندية، ولم يكونوا من خريجي الكلية الحربية. المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 457
فبينما الامرالطبيعي ان تؤدي هذه الحادثة الى الهرج والمرج وتدخل الاجانب في البلاد، الاّ ان اسم الشريعة - بفضل الله - ارجع الارواح الخبيثة الناتجة من تلك الاسباب المذكورة الى اوكارها. فظهرت معجزة اخرى بعد ثلاثة عشر قرناً.
ثم ان الصوت الداوي للجيش والعلماء في ذلك الانقلاب العظيم الفائت: "ان المشروطية مستندة الى الشريعة" سرى سريان التيار الكهربائي في وجدان المسلمين عامة. فخرق ذلك الانقلاب القاعدة الطبيعية للانقلابات واظهر التأثير المعجز للشريعة الغراء، وسيظهره دوماً.
انني اعترض على اساس فكر الصحف التي ظهرت بعد منتصف نيسان وذلك: انهم اوجدوا منفذاً ومبرراً للتضحية بالعزة والكرامة والطاعة العسكرية - التي هي اسمى من الحياة بل تضحى لاجلها الحياة - في سبيل اعمال غير مشروعة، وافعال خسيسة خادمة للحياة نفسها لدى اهل الوجدان.
ثم انهم ظنوا ان شمس الشريعة التي تنجذب اليها الحقائق والاحوال وترتبط بها، تابعة للسلطة اومنقادة للخلافة او اداة لاية سياسة اخرى. فاظهروا - ما اعتقدوه - ان الشمس المنيرة تابعة لنجم منخسف.
اقول بكل ما املك من قوة: انه لا رقي لنا الاّ برقي الاسلام الذي هو مليتنا، ولا رفعة لنا الاّ بتجلي حقائق الشريعة. وبخلافه نكون مصداقاً للمثل القائل: "اضاع المشيتين".
نعم، علينا ان نستشعر بشرف الامة وعزتها وثواب الآخرة وبشأن المجتمع، وقيمته، والحمية الاسلامية، وحب الوطن وبحب الدين، ففي المضاعفات قوة اية قوة.
ايها القادة والضباط!
اطالبكم بانزال العقاب على جناياتي، وبالاجابة حالاً عن اسئلتي الآتية، فان الاسلام هو الانسانية الكبرى وان الشريعة الغراء هي المدنية الفضلى ، لذا فالعالم الاسلامي اهلٌ ليكون المدينة الفاضلة التي تصورها افلاطون.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 458
السؤال الاول: ماجزاء المنخدعين بالصحافة والمنجرفين مع التيار العام المتولد حالياً من العادات والتقاليد التي يرونها مشروعة؟السؤال الثاني:
ما جزاء من يتعرض لإنسان تشكّل في صورة ثعبان، ولولي صالح تقمص صفة شقيّ، وللمشروطية التي لبست لباس الاستبداد ، وما هم في الحقيقة سوى ثعابين وشقاة ومستبدين؟السؤال الثالث:
هل يكون المستبد شخصاًفرداً واحداً؟ ام يمكن ان يكون اشخاص عديدون مستبدين؟ وأرى ان القوة يجب ان تكون في القانون، والاّ سيتوزع الاستبداد ويشتد اكثر بالمنظمات.السؤال الرابع:ايّما اضرّ : اعدام برئ أم العفو عن عشرة جناة؟السؤال الخامس:افلا يزيد من سبل النفاق والتفرقة تشديد الخناق على ارباب المسالك والفكر ، علماً انه لا يغلبهم؟السؤال السادس:أيمكن بغير رفع المحسوبية والامتيازات حصول اتحاد لامة الذي هو معدن حياتنا الاجتماعية؟السؤال السابع:
ان الإخلال بالمساواة ، وتخصيصها لبعض الافراد فحسب، وتنفيذ القانون بحقهم، وان كان ظاهراً يوحي بالعدالة ، ولكن عدم المساواة يولد الظلم والنفاق في جهة اخرى، فضلاً عن ان براءة اغلب المسجونين قد توضحت بالافراج عن ثمانين بالمئة منهم، وهم بريئون.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 459
انني لا اوجه الكلام هنا الى المحكمة العسكرية، بل على المخبرين ان يتدبروا في الامر.السؤال الثامن:
اذا عدّت فرقة معينة نفسها صاحبة امتيازات على الآخرين، وألجأت الناس الى الظهور بمظهر المخالف للمشروطية، وذلك بكثرة تعرض تلك الفرقة لهم وجرحها لمشاعرهم، فعلى من يقع الذنب لو تعرض الجميع للاستبداد العنيد المتستر تحت اسم المشروطية، التي تقلدته تلك الفرقة؟السؤال التاسع:
على من تقع المسؤولية فيما لو ترك بستاني باب البستان مفتوحاً، ودخل فيه من دخل، ثم ظهر حدوث السرقات؟السؤال العاشر:
لو منحت حرية الفكر والكلام للناس ، ثم حوسب شخص على كلامه او فكره، أفلا يكون ذلك خطة مدبّرة لدفع الامة المنكوبة الى النار؟السؤال الحادي عشر:
نرى الجميع يعاهدون المشروطية ويقسمون بها. بينما المعاهد هو نفسه مخالف لمسمّى المشروطية او ساكت عن مخالفيها. ألا يحتاج ذلك الى كفّارة اليمين؟ ألا تكون الامة اذن كاذبة؟ أفلا يعتبر اذن الرأى العام النزيه انه كاذب ومعتوه؟
حاصل الكلام: ان المهيمن على الوضع الحاضر استبداد شديد وتحكم صارم، وذلك من حيث الجهل المتفشي. وكأن الاستبداد والتجسس قد تناسخا روحاً. والذي يبدو ان الغاية ما كانت استرداد الحرية من السلطان عبد الحميد، بل تحويل استبداد ضعيف وضئيل الى استبداد شديد وقوي.نصف سؤال:
شخص ضعيف رقيق يحاول جاهداً دفع اذى البعوض والزنابير عنه لعدم تحمله لها. أفيمكن ان يقنع احدُهم أحمقاً بقوله ان هذا يقصد بعمله هذا تسليط اسد هصور على نفسه وليس دفع البعوض والدبابير؟

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #43
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 460
النصف الآخر من السؤال : لم يؤذن له.
ايها القواد والضباط! أقول بكل قوتي:
انني مصرّ إصراراً جادًا على جميع الحقائق التي نشرتها في الصحف في مقالاتي كلها. فلو دعيت من قبل الماضي، من قبل محكمة العصر النبوي السعيد،باسم الشريعة العادلة فسأبرز الحقائق التي نشرتها بعينها، لا اغيّر منها شيئاً، سوى ما يستوجبه هذا الزمان من زيّ.
ولو دعيت من قبل المستقبل، من قبل محكمة العقلاء الناقدين باسم التاريخ لما بعد ثلاثمائة سنة. فسأبرز هذه الحقائق ايضاً. الاّ ما تحتاج من ترميم بعض جوانبها المتشققة.
بمعنى ان الحقيقة لا تتحول الى امر آخر، فالحقيقة حق، و(الحق يعلو ولا يعلى عليه) 1 والامة صاحية، بل لو اُغفلت بالمغالطة والخداع ، فلا يدوم ذلك.
أما الخيال الذي ظُن حقيقة فعمره قصير. وستتشتت تلك الافكار المضللة امام فوران الرأي العام وتبرز الحقيقة ناصعة الى الميدان. ان شاء الله.
بس كنم جون زير كانرا اين بس است
بانك ده كروم اكردر ده كس است 2
على الرغم من ان الوضع في سجنكم معذّب والزمان رهيب والمكان موحش والسجناء مستوحشون والصحف تنشر الاراجيف والاكاذيب، والافكار مشوشة والقلوب كسيرة حزينة والوجدان متألم ويائس والموظفون متشائمون من الوضع والحراس مزعجون.. اقول على الرغم من كل هذا ، فان الوضع كان لي موضع سرور، لان ضميري لم يكن يعذبني. بل كلما تنوعت المصائب ترنمت بنغمات متنوعة ايضاً.
نعم لقد اكملت هنا - في السجن - الدرس الذي تلقيته السنة الماضية في مستشفى المجاذيب حيث تلقيت دروساً مطولة لطول زمن المصيبة، اذ كان الحزن
_____________________
1 (الاسلام يعلو ولا يعلى): رواه الدار قطني والضياء في المختارة والروياني عن عائد بن عمر والمزني رفعه، والطبراني والبيهقي عن معاذ رفعه، وعلقه البخاري في صحيحه. والمشهور على الألسنة زيادة »على « اخراً، بل هي رواية احمد. والمشهور ايضاً على الألسنة: الحق يعلو ولا يعلى" عليه. (كشف الخفاء) 1/127).
2 بيت بالفارسية نظير قول الشاعر: لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي. المترجم



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 461
البرئ المظلوم الذي هو لذة روحانية للدنيا علّمني الشفقة على الضعفاء وشدة النفور من الظلم والغدر.
انني على أمل عظيم، ان الآهات والزفرات الساخنة المتبخرة من قلوب الابرياء الكسيرة ستشكل سحابة رحمة ، وقد بدأت فعلاً هذه السحب بتشكيل دول اسلامية حديثة في ارجاء العالم الاسلامي.
ان كانت المدنية الحاضرة هي التربة الخصبة لإنماء مثل هذه التصرفات التي تمس الكرامة الانسانية وتعتدي عليها.. وهذه الافتراءات التي تؤدي الى النفاق.. وهذه الافكار التي تغذي الحقد والانتقام.. وهذه المغالطات الشيطانية والتحلل من الآداب الدينية.. اذا كانت هذه هي المدنية، فليشهد الجميع بأنني افضّل قمم الجبال الشاهقة في الشرق، وافضّل حياة البداوة في تلك الجبال في بلدي حيث الحرية المطلقة، على موطن النفاق الذي تسمّونه انتم قصر المدنية.
ان حرية الفكر وحرية الكلام وحسن النية وسلامة القلب التي لم اشاهدها في هذه المدنية الدنية، مستولية على جبال شرقي الاناضول بكل معانيها.
وحسب علمي ان الادباء يكونون متأدبين، الاّ انني اجد بعض الصحف الخارجية خالية من الادب وناشرة للنفاق. فان كان هذا هو الادب، والآراء العامة مختلطة الى هذا الحد، فأشهدوا أني تخليت عن هذا الادب. فلست داخلاً فيهم ايضاً. وسأطالع الاجرام السماوية واللوحات السماوية النيرة على ذرى جبال موطني، قمة باشت 1، بدلاً من مطالعة هذه الصحف.
"ان عالم فيضنا نزيه من عيوب الاماني الخادعة.
فقد كتب علينا الترفع عن زينة الذهب والفضة منذ الازل.
وجفونا نشوة الآمال وطولها.
عشقنا عشق مجنون لليلى ، ولكن اغنانا حتى عن وصالها".
[ولولا تــكاليــف العلا ومقاصــد عوالٍ واعقاب الاحاديث في غدٍ
لاعطيت نفسي في التخلي مرادـهــا وذاك مرادي مذ نشأت ومقصدي
واكتــم اشــيــاء ولو شــئت قلتــهـا ولو قلتها لم اُبق للصلح موضــعا]
_____________________
1 قمة جبل في جنوب شرقي الاناضول. المترجم.




صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 462
تنبيه
ان الذي يسوقكم الى التأمل هو طرح الاسئلة على المدنية.
نعم! انني افضّل البداوة على هذه المدنية الممزوجة بالاستبداد والسفاهة والذل. ان هذه المدنية تجعل الاشخاص فقراء وسفهاء وسيئي الاخلاق. بينما تسعى المدنية الحقيقية لترقية النوع الانساني وتدفعه الى التكامل، وتخرج ماهيته النوعية من القوة الى الفعل، لذا فان طلب المدنية والسعي لها انطلاقاً من هذه الزاوية يعدّ سعياً نحو الانسانية.
ثم ان سبب افتتاني بمحبة معنى المشروطية هو ان المدخل الاول لتقدم آسيا والعالم الاسلامي في المستقبل هو المشروطية المشروعة والحرية التي هي ضمن نطاق الشريعة. وان مفتاح حظ الاسلام وسعده ورقيه موجود في الشورى التي في المشروطية. حيث قد انسحق - لحد الآن - ثلاثمائة مليوناً من المسلمين تحت اقدام الاستبداد المعنوي للاجانب.
وحيث ان الحاكمية الاسلامية مهيمنة الآن في العالم ولا سيما في آسيا، فان كل مسلم يكون مالكاً لجزء حقيقي من الحاكمية. وان الحرية هي العلاج الوحيد لانقاذ ثلاثمائة مليوناً من المسلمين من الاسر. فحتى لو تضرر هنا - بفرض محال - عشرون مليوناً من الناس في اثناء ارساء الحرية، فليكن ذلك فداءً، إذ نأخذ ثلاثمائة بدفع عشرين.
وا أسفى! ان العناصر والقوميات الموجودة عندنا مختلطة اختلاط اجزاء الهواء ، ولم تمتزج امتزاج اجزاء الماء. وستمتزج تلك العناصر والقوميات بالاسلام الذي يفعل فعل التيار الكهربائي فيهم. وسيأتي باذن الله مزاج العدالة المنصفة المتولدة من حرارة نور المعارف الاسلامية.
فلتعش المشروطية المشروعة. ولتدم الحرية النيّرة المسترشدة بتربية حقيقة الشريعة.
غريب زمان الاستبداد
بديع زمان المشروطية
وبدعة هذا الزمان
سعيد النورسي


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 463
خاتـمة

اعتقد ان البحث يظل ناقصاً ان لم اوجه بضع كلمات الى مواطني واخواني.
يا أبناء وطني واخواني! يا احفاد الجنود الاشاوس لجيوش آسيا البسلاء للقرون الماضية، كفاكم نوماً لخمسمائة سنة. تيقظوا فلقد أذن الصباح. والاّ ستنهبكم الغفلة وانتم تغطون في نوم عميق في صحراء الجهل القاحلة.
ان الحكمة الالهية التي هي نظام العالم والمؤسسة للقانون الالهي النوراني الساري في ارجاء العالم كله قد رفعت اصبع القدر منذ الازل تأمركم: حافظوا على الموازنة العامة، بتوحيد ومزج حميتكم وقوتكم الضائعتين بالتفرقة - ضياع قطرات الماء المتناثرة - بالفكر الملي، اي الملة الاسلامية، مكونين بذلك جاذبة وطنية عظيمة من جاذبات الذرات الجزئية. فتنجذب هذه الكتلة العظيمة وتدور كالكوكب المنير في موكب الجماهير المتحدة الاسلامية الممثلة لشوكة شمس الاسلام العظيم.
ثم ان الحرية الشرعية التي هي حقيقة اجتماعية قد انتصبت على ذرى المستقبل شامخة شموخ جبل سبحان وارارات، هذه الحرية المستندة الى الشريعة تحذركم من الانصياع الى النفس الامارة بالسوء ومن التجاوز على الآخرين. وانها لتهتف بكم وبأمثالكم من الغافلين المتفرقين في اودية الماضي السحيقة: اهجموا على الجهل والفقر بالعلم والصنعة.
ثم ان الحاجة التي هي أم المدنية وأم الاختراع والرقي قد رفعت يدها لتنزلهاعليكم صفعة، فتأمركم: إما أن تعطوا حياة حريتكم في صحراء الجهل هذه الى الناهبين او عليكم ان تهرعوا الى كعبة الكمالات بركوبكم منطاد العلم وقطار الصنعة في ميدان المدنية لاستقبال المستقبل الزاهر مستردين اموال الاتفاق التي اغتصبها الاجنبي.
ثم ان الملية الاسلامية التي نصبت خيمتها في وديان الماضي وصحارى الحاضر وشواهق المستقبل واستظل بها اجددكم من امثال صلاح الدين الايوبي وجلال الدين خوارزم شاه والسلطان سليم وخير الدين بارباروس ورستم زال وماشابههم من


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 464
القواد الدهاة الذين تشرف كل بمنزلة الآخر فعاشوا معاً كعائلة واحدة.. هذه الملية الاسلامية وهي مثال الحياة الرفيعة.. تأمركم أمراً جازماً:
على كل واحد منكم ان يكون مرآة عاكسة للاسلام وحامي ذماره. ومثالاً مشخصاً للامة الاسلامية، اذ الهمة تتعالى بعلو المقصد، والاخلاق تتسامى وتتكامل بغليان الحمية الاسلامية.
ثم ان المشروطية المشروعة التي هي سبب من اسباب سعادة البشر الدنيوية نجّت الارادة الجزئية التي هي القوة الدافعة لماكنة الحياة من تسلط الاستبداد بضمانها سيادة الامة. هذه المشروطية التي اختمرت بخميرة الشورى الشرعية تدعوكم الى الاختبار والامتحان، وتريد ان تراكم أنكم قد بلغتم سن الرشد فلا تحتاجون الى وصاية. فهيئوا انفسكم للامتحان. واثبتوا وجودكم بالاتحاد، وبينوا لها ان فكركم ووجدانكم الشخصيين هما كقلب الامة وعقلها المشترك بالحمية الدينية الملية. وبخلافه ستلغي امركم ولا تمنحكم شهادة الحرية.
نعم ان الاضطرابات التي حدثت فيما بينكم في صحارى الماضي من جراء ما يحمله كل منكم من حب السيادة والانانية والفكر الشخصي ستنقلب - باذن الله - الى فكر الايجاد والسعي الدؤوب ومفهوم الحرية. بل استطيع ان اقول يا مواطني في الولايات الشرقية: ان مدارسكم الصاخبة اشبه ما تكون بالبرلمان العلمي لكثرة ما فيها من مناقشات بالنسبة للمدارس الهادئة الاخرى.
ثم انتم شافعيون فقراءتكم خلف الامام، وفطرتكم واصول مدرستكم تدفعكم الى السعي والمحاولة الشخصية، كما قال تعالى
(وان ليس للانسان الاّ ما سعى)
ثم ان الجسارة وشرف الامة الاسلامية وعزتها وهي اساس كل كمال وحاميه، تأمركم قائلة: مثلما ترقيتم في مضمار الشجاعة المادية بتعلمكم العلوم والمعرفة من كتابات سيوفكم وفتحتم مجرىً من الدماغ الى القلب مزجاً العقل بالقوة، فافتحوا الآن منفذاً من القلب الى الفكر. وابعثوا القوة مدداً للعقل وارسلوا العواطف ظهيراً للفكر. لئلا تنهب شرف الامة الاسلامية في ميدان المدنية. اجعلوا سيوفكم من جواهر العلم والصنعة والتساند الذي يأمركم به القرآن الكريم.
سعيد النورسي


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 465
خطاب الى الحرية
ايتها الحرية الشرعية!
انكِ تنادين بصوت هادر، ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة، توقظين بها كردياً بدوياً مثلي نائماً تحت طبقات الغفلة. ولولاكِ لظللت انا والامة جميعاً في سجن الاسر والقيد. انني اُبشرك بعمر خالدفاذا ما اتخذت الشريعة التي هي عين الحياة، منبعاً للحياة ، وترعرعت في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فانني ازف بشرى سارة ايضاً بان هذه الامة المظلومة ستترقى الف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها. واذا ما اتخذتك الامة مرشدة لها، ولم تلوّنك بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد اخرَجَنا اذن مَن له العظمة والمنة من قبر الوحشة والاستبداد، ودعانا الى جنة الاتحاد والمحبة.فيا رب ما أسعد هذه القيامة والنشور! وما أجمل هذا الحشر العظيم المصوّر لنا حقيقة "البعث بعد الموت" في هذا الزمان صورها تصويراً مصغراً، وذلك كالآتي:
لقد دبّت الحياة في المدنية القديمة المدفونة في زوايا آسيا وروم ايلي 1. والذين يتحرون نفعهم في ضرر العامة، ويتمنون الاستبداد، بدأوا يقولون
(يا ليتني كنت ترابا) (النبأ: 40).
ان حكومتنا الجديدة، حكومة المشروطية، قد ولدت اشبه ما يكون بالمعجزة، لذا سننال في غضون سنة واحدة باذن الله سر من يكلم الناس في المهد صبياً.
ان ثلاثين سنة قضيناها صائمين عن الكلام متجملين بالصبر والتوكل على الله، سننال ثوابه بانفتاح ابواب جنة الرقي، ابواب المدنية التي لاعذاب فيها.
ان القانون الشرعي الذي هو براعة الاستهلال لحاكمية الامة، شبيه بخازن الجنة، يدعونا الى الدخول فيها.. فهيا يا اخوة الوطن لنذهب معاً، وندخلها معاً، فان بابها الاول: اتحاد القلوب. والثاني: محبة الامة . والثالث: المعارف. والرابع : السعي الانساني. والخامس: ترك السفاهة. واحيل الى اذهانكم بقية الابواب. علماً ان اجابة الدعوة واجب شرعي.
_____________________
1 المناطق العثمانية الواقعة في قارة اوروبا. المترجم.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 466
ولأن فاتحة هذا الانقلاب العظيم بدأت اشبه بالمعجزة، فان ذلك فأل حسن بان تكون خاتمته ايضاً حسنة. وكالآتي:
ان هذا الانقلاب سيكسر اغلال الفكر البشري الثقيلة، وسيهدم السدود المانعة للرقي، وينجي الحكومة من ورطة الموت، ويظهر جوهر الانسانية ويحررها مرسلاً اياها الى كعبة الكمالات.
نعم ان هذا الفأل الحسن يبشرنا بأن خاتمة هذا الانقلاب ستكون بانقشاع ذلك السحاب المتراكم القاتم، بالرغبة العامة لدى الناس، وبشعورهم بالضرر المادي لسيئات المدنية الملوّنة بالوان السفاهات والاسرافات والملذات غير المشروعة.. وغيرها من الامور التي دفعت دولة المدنية الى الانقراض - كانقراض الحكومة المستبدة - وعندها ستشرق شمس الشريعة وقمر المدنية في جو السماء الصافي باسطع ما يكون، فتنوران آسيا وروم ايلي. وستنمو بذور الاستعدادات والقابليات بهطول امطار الحرية، فتتزين عندئذ الارض بازهى حللها الملونة.
نعم انه معجزة نبوية وعناية الهيةٌ للامة المظلومة، وكرامة النية الخالصة للمجتمع كافة.
ان هذا الاتحاد، اتحاد القلوب والمحبة الموجهة للامة كافة،وهي معدن السعادة والحرية ، قد انعمها المولى الكريم علينا مجاناً، بينما الامم الاخرى قد ظفروا بها بعد دفع الملايين من جواهر النفوس الغالية.
ان صدى الحرية والعدالة ينفخ نفخ اسرافيل فيبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا القومية الرفيعة واخلاقنا الاسلامية الحميدة، حتى يرن صماخ الكرة الارضية المجذوبة جذبة المولوي، ويهيج الامة جميعاً ويهزها هزّ المجذوب.
واياكم يا اخوان الوطن ان تقضوا عليها بالموت مرة اخرى بالسفاهات والاهمال في الدين.
ان القانون الاساسي المؤسس على هذه الشريعة الغراء قد اصبح ملك الموت لقبض ارواح جميع الافكار الفاسدة والاخلاق الرذيلة والدسائس الشيطانية والتزلفات الدنيئة. فيا اخوة الوطن! لا تعيدوا لتلك الرذائل الحياة بالاسرافات ومخالفة الشريعة والملذات المحرمة.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 467
فلقد كنا اذن في القبر، وبليت عظامنا ، والآن دخلنا في رحم الام باتحاد الامة والمشروطية.
ان مائة ونيفاً من السنين التي تأخرنا فيها عن مضمار الرقي والتقدم سنتجاوزها باذن الله تعالى، بمعجزة نبوية، مستقلين - عملاً - قطار القانون الاساسي الشرعي وممتطين - فكراً - براق الشورى الشرعية.
وسنكون في صف الامم المتمدنة، بطيّنا هذا الزمان القاصر الشبيه بالصحراء الكبرى الموحشة. بل نتسابق معهم حيث انهم درجوا على ركوب العربات التي تجرها الثيران، بينما نحن - بتكامل الوسائل التي يتوقف عليها العلم - سنركب مباشرة القطار والمنطاد، فنسبقهم بفراسخ وفراسخ، وذلك بما تسهل لنا هضم تلك الوسائل حقيقة الاسلام الجامعة للاخلاق الاسلامية والاستعداد الفطري الكامن فينا ، وفيض الايمان الذي نحمله، وشدة الجوع التي نشعر بها، فنسبقهم باذنه تعالى كما كنا سابقين لهم في الماضي.
انني اذكّركم بما يأتي بفضل ما اناطت بي مهمة الطالب من وظيفة، وبشهادة التخرج من سلك الحرية:
يا ابناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً كي لا تفلت من ايديكم ، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في اناء آخر 1 ذلك لان الحرية انما تزدهر بمراعاة الاحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالاخلاق الفاضلة.
والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ماكان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم اجمعين من الحرية والعدالة والمساواة على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت.
وبخلافه فإن تفسير الحرية والعمل بها على انها التحرر من القيود والانغمار في السفاهات والملذات غير المشروعة والبذخ والاسراف، وتجاوز الحدود في كل شئ اتباعاً لهوى النفس.. مماثل لمن يتحرر من أسر سلطان واحد ويدخل في استبداد حقراء سافلين كثيرين. فضلاً عن ان هذا النمط من الحرية يظهر ان الامة غير راشدة ومازالت في عهد الصباوة وليست اهلاً للحرية. فهي سفيهة اذن تستحق الحجر عليها، بالرجوع الى الاستبداد السابق البائد.
_____________________
1 نعم لقد سقونا عبودية مسمومة جداً باستبداد أرهب وأشد - المؤلف.



صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 468
ان عدم الأهلية للحرية الشرعية الحديثة، الباهرة الواسعة يؤدي الى مرض وبيل يتعرض له اتحاد الامة العظيم فتتعرض الامة الى حالات فاسدة متعفنة.
بينما تفسير اهل التقوى والوجدان ليس على هذا النمط، ومذهبهم يخالف هذا التفسير. فنحن الامة العثمانية نتصف بالرجولة، فلا تليق بقامة استعداد امتنا البطلة فساتين النساء المزركشة بالسفاهة والهوى والاسراف.
وبناء على ما سبق ما ينبغي ان ننخدع ، بل نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: "خذ ما صفا دع ما كدر" وفي ضوئها سنأخذ من الاجانب - مشكورين - كل ما يعين الرقي المدني من علوم وصناعات. اما العادات والاخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيراً لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة.
فنحن لو أخذنا منهم المدنية - بسوء حظنا وسوء اختيارنا - بما يوافق الهوى والشهوات - كالاطفال - تاركين محاسنها التي تحتاج الى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث او كالمترجلات ، اذ كيف اذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا لاينبغي ان نتجمل بمساحيق التجميل.
حاصل الكلام: سنمنع بسيف الشريعة مساوئ المدنية وذنوبها من الدخول الى حدود حريتنا ومدنيتنا حفاظاً على فتوة مدنيتنا وشبابها بزلال عين حياة الشريعة.
ينبغي لنا الاقتداء باليابانيين في المدنية، لانهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من اوروبا. وحيث ان عاداتنا القومية ناشئة من الاسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالاسلام.
يا ابناء الوطن الغيارى!
ان الجمعية الملية قد فتحوا لنا طريق السعادة بتضحية ارواحهم، فعلينا ان نعينهم بترك بعض لذائذنا، حيث اننا نجلس معاً على مائدة تلك النعمة.
ان اصحاب الافكار الفاسدة، يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل الاّ نشاهد مرة اخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 469
المظالم التي جرت في سيل الزمان، اريد ان اقيم سداً حديدياً بين الماضي والحاضر وذلك بايضاح تاريخ حياة الحرية. وهو كالآتي:
ان هذا الانقلاب لو اعطى الحرية التي اولدها الى احضان الشورى الشرعية لتربيها فستُبعث امجاد الماضي لهذه الامة قوية حاكمة. بينما لو صادفت تلك الحرية الاغراض الشخصية، فستنقلب الى استبداد مطلق. فتموت تلك المولودة في مهدها.
لقد ولدت الحرية في الوقت المناسب، فتحتاج تنشئتها الى ظروف واحوال فطرية وليست الى افتعال ظروف تحتاج الى مشاق.
ان الحمية الاسلامية التي عانت سابقاً كثيراً من الضوائق والبؤس، وهي ليست اهلاً لها، قد فارت فوراناً عظيماً بحيث اكتملت الحرية في ذلك الرحم. فحالما يحين وقت الولادة وتظهر الى الوجود ستعلن هيمنتها، فلا يتمكن ان يتصدى لها ويزلزلها اي شئ، حيث انها ستتأسس على اسس رصينة - كعرش بلقيس - على حقائق خمس تلك هي:
الحقيقة الاولى:
ان في الكل من القوة ما ليس لكلٍ. كقوة الحبل المتين الناشئة من خيوط رفعية دقيقة. او كحكومتنا الحديثة المتبنية لأفكار الرأى العام وحكومتنا السابقة.
ايتها الامة! نحن الآن ذلك الحبل المتين ، فمن اضعفها بالاغراض الشخصية والاراء الفردية فقد جنى جناية لا تغتفر، حيث جنى على حقوق الامة جميعاً.
الحقيقة الثانية:
ان السلطة المستندة الى القوة والاكراه كانت هي الحاكمة في سالف الازمان وهي محكومة بالتدني والانقراض، حيث انها حصيلة الجهل والوحشية. فاية دولة جرت في عروقها دماء السلطة المستبدة فان سطور صحائف تاريخها تنعق نعيق البوم بالانقراض.
بينما في زمن المدنية فان العلم والمعرفة هما السلطة الحاكمة على العالم، وحيث ان مولّدها هي المدنية ومن شأنها الزيادة وعمرها ابدى ، لذا لو كانت مثل هذه


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 470
السلطة الحاكمة مدبّرة لشؤون اية دولة كانت فانها تنجي تلك الحكومة من قيد العمر الطبيعي وأجل الانقراض فتدوم حياتها بدوام الارض. وكتاباوروبا وصحائفها تعلن هذا بجلاء.
واذا قيل: لقد كان من الامكان ادارة الحكومة الضعيفة السابقة من قبل اشخاص اعتياديين. فيا ترى هل تثمر الاناضول وروم ايلي رجالاً دهاة خارقين يحملون على اكتافهم هذه الحكومة التي نعقد عليها الآمال؟
نقول جواباً على هذا السؤال : نعم! إن لم يحدث انقلاب آخر.
والآن انعم النظر في :
الحقيقة الثالثة:
كان الانسان في السابق يتحرك في ميدان محدود وضيق جداً، رغم إستعداداته غير المتناهية، حتى انه كان يعيش عيش حيوان مع كونه إنساناً. لذا تدنت افكاره وضاقت اخلاقه بنسبة محدودية تلك الدائرة.
فاذا ما عاشت الآن هذه الحرية الشرعية العادلة ولم تفسد، فستكسر اغلال فكر الانسان، وتحطم الموانع الموضوعة امام استعداده للرقي، فتوسع ميدان حركته سعة الدنيا كلها. حتى ان قروياً مثلي يستطيع ان ينظر الى ادارة الدولة التي هي في اوج العلا كالثريا، ويربط نوى الاماني والاستعدادات هناك. وحيث ان كل فعل وطور يصدر يلقى صداه هناك، لذا ستتعالى همته كالثريا وتتكامل اخلاقه بالدرجة نفسها، وتتوسع افكاره بقدر سعة الممالك العثمانية، وسيسبق باذن الله الافذاذ من امثال افلاطون وابن سينا وبسمارك وديكارت والتفتازاني.
نحن على امل عظيم ان تثمر مزرعة الاناضول وروم ايلي شباناً غيارى. فلا جرم ان الممالك العثمانية محل ظهور الانبياء ، ومهد الدول الحضارية ، ومشرق شمس الاسلام. فاذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الانسانية بغيث الحرية، فانها تتحول الى شجرة طوبى من الافكار النيرة وتمتد اغصانها الى كل جهة. وسيجعل الشرق مشرقاً للغرب، ان لم تفسد وتنخر بالكسل والاغراض الشخصية.
الحقيقة الرابعة:
ان الشريعة الغراء تمضي الى الابد لانها آتية من الكلام الازلي . والبرهان الباهر


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 471
عليه هو ان الشريعة تتوسع وتنمو نمو الكائن الحي اي بنسبة نمو استعداد الانسان وتشربه من نتائج تلاحق الافكار وتغذيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من اغصان شجرة استكمال العلم.
فالحرية والعدالة والمساواة التي كانت يترفل بها خير القرون والخلفاء الاربعة، ولاسيما في ذلك الوقت، دليل على ان الشريعة الغراء جامعة لجميع روابط المساواة والعدالة والحرية الحقة. فآثار سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما وصلاح الدين الايوبي دليل واي دليل على هذا الادعاء.
ومن هنا فاني اقرر:
ان سبب تأخرنا وتدنينا وسوء احوالنا الى الآن ناتج مما يأتي:
1- عدم مراعاة احكام الشريعة الغراء.
2- تصرفات بعض المداهنين تصرفاً عفوياً.
3- التعصب المقيت في غيرمحله سواءً لدى عالم جاهل أو جاهل عالم!
4- تقليد مساوئ المدنية الاوروبية تقليداً ببغائياً - بسوء حظنا او سوء اختيارنا - مما ولّد تركنا لمحاسن المدنية التي تستحصل بمشكلات ومصاعب.
فلو قام الموظفون خير قيام بوظائفهم وسعى الآخرون حسب الظروف المحيطة وما يتطلبه الزمان الحاضر، فلن يجد احد متسعاً من الوقت للسفاهة. ولو انهمك اي منهما بها فلا يكون الاّ جرثومة خطرة في جسم المجتمع.
الحقيقة الخامسة:
ان فكر افراد قليلين كان كافياً لإدارة الدولة حيث الروابط الاجتماعية والضرورات المعاشية والمستلزمات الحضارية لم تكن كثيرة ومتشعبة. ولكن في الوقت الحاضر فقد كثرت الروابط الاجتماعية وتعددت الضروريات المعاشية وتزايدت الزخارف الحضارية الى حد كبير، بما لا يمكن ان تحمل تلك الدولة وتديرها وتربيها الاّ مجلس نواب في حكم قلب الامة ينبض بنبضها، والشورى الشرعية التي هي في مقام فكر الامة وعقلها، وحرية الافكار التي هي بمنزلة سيف الدولة وقوتها. ومثال هذه الحقيقة هو الحكومة المستبدة السابقة وحكومة المشروطية الحاضرة.


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 472
واذكّر بامور ثلاثة بناء على الوظيفة التي اناطتني بها الحقيقة الثالثة وبشهادة تخرج الحرية:
الاول:
كما ان الجسم محال ان تتحلل الى ذرات دفعة واحدة كذلك تشكله من ذرات دفعة واحدة وبصورة فجائية محال ايضاً. لذا فان فصل الموظفين السابقين من جسم الدولة ووضع آخرين جدد في مواضعهم متعذر وان لم يكن محالاً. علماً ان الدولة ستنبذ الموظفين الذين ينطوون على خبث دفين لا يمكن اصلاحه، بينما باب التوبة مفتوح لمن يمكن اصلاحه ما لم تطلع الشمس من مغربها. فهولاء يجب الاستفادة من تجاربهم، اذ اشغال مواضعهم الوظيفية يحتاج الى اربعين سنة اخرى. والاّ فان اطالة اللسان بالسوء الى الجميع واهانتهم يجعل هذا الاتحاد، اتحاد الامة العظيم، معرّضاً لوباء وبيل من افكار فاسدة واخلاق سيئة.
الثاني:
لقد نشأتُ في جبال الشرق فكنت اتخيل مركز الخلافة في هالة جميلة، ولكن ما ان اتيته قبل حوالي ثمانية اشهر حتى شاهدت ان استانبول شبيهة برجل متوحش لبس ملابس انسان مدني، وذلك لما فيها من تنافر القلوب واستيحاش الافراد بعضهم بعضاً. والآن يقدم ذلك الشخص المدني نفسه لنا وهو بملابس نصف مدنية ونصف وحشية، وذلك بسبب اتحاد الامة.
كنت سابقاً احسب ان فساد الشرق نابع من تعرض عضوٍ منه للمرض، ولكن لما شاهدت استانبول المريضة وجسست نبضها، وشرّحتها، ادركت ان المرض هو في القلب، وسرى منه الى جميع الجهات. فحاولت علاجه، ولكن اكرمت بوصمي بالجنون!
وقد شاهدت ايضاً: ان الاسلام الذي يشكل المدنية الحقيقية قد تأخر عن المدنية الحاضرة مادياً، فكأن الاسلام قد استاء من سوء اخلاقنا فمضى راجعاً الى الماضي ليشكونا الى خير القرون .
ان من اهم اسباب تأخرنا في مضمار المدنية بعد الاستبداد، هو تباين الافكار


صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 473
واختلاف المشارب لدى منتسبي ثلاث شُعب كبيرة، يعدّون مرشدين عموميين للجميع، وهم منتسبو المدارس الحديثة والمدارس الدينية والتكايا والذين يمثلون مصداق قول الشاعر:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل الى ذاك الجمال يشير
ان تباين الافكار هذا قد هز ّ اساس الاخلاق الاسلامية وفرّق اتحاد الامة، واخّرنا عن ركب الحضارة، لان احدهم يكفّر الآخر ويضلله، بينما الآخر يعدّ الاول جاهلاً لا يوثق به. وهكذا ساد الافراط والتفريط. وعلاج هذا الداء هو الصلح النابع من توحيد الافكار، وربط العلاقات ووصلها حتى يوصل الى نقطة الاعتدال، فيتصافح الجميع، ويتفقوا جميعاً لئلا يُخلّوا بنظام الرقي.
الثالث:
انني استمعت الى الوعاظ. فلم تؤثر فيّ نصائحهم ووعظهم. فتأملت في السبب، فرأيت انه فضلاً عن قساوة قلبي هناك ثلاثة اسباب:
1- انهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيراً في تصوير دعاويهم محاولين تزويقها دون ايراد الادلة الكافية التي لا بد منها للتأثير واقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر اكثر حاجة الى ايراد الادلة.
2- انهم عند ترغيبهم بأمرٍ ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، اي لا يميزون بين المهم والأهم.
3- ان مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي ارقى انواع البلاغة، فلا بد ان يكون الكلام موافقاً لحاجات العصر. الاّ انهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس الى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.
فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين ان يكونوا محققين ليتمكنوا من الإثبات والاقناع. وان يكونوا ايضاً مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة. وان يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر. وعليهم ايضاً ان يَزنوا الامور بموازين الشريعة.
صيقل الإسلام/المحكمة العسكرية العرفية - ص: 474
فلتحيا الشريعة الغراء ولتحيا العدالة الالهية وليحيا اتحاد الامة.
وسحقاً للاختلاف وحباً لمحبة الامة.
ولتمت الاغراض الشخصية وفكر الانتقام
وليعش الجنود الاشاوس الذين هم الشجاعة مجسمة
ولتعش الجيوش التي تمثل عظمة الدولة
ولتدم جمعية الاحرار المتدينين وطلاب النور الذين هم العقل النير والتدبير الحكيم.
سعيد النورسي
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #44
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 475
الخطبة الشامية
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى
صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 477
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي هذه الرسالة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد؛
فقد ألقى الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وهو في شرخ الشباب هذه الخطبة باللغة العربية في الجامع الاموي بدمشق، برجاءٍ من علماء الشام وإلحاحهم، وحضرها جمهور غفير من الناس يربون على عشرة آلاف شخص، فاستمعوا اليها بلهفة وشوق، حتى ان الخطبة لما طُُبعت لأول مرة نفدتْ نسخها في غضون ايام قليلة فاُعيد طبعها خلال اسبوع واحد.
كان ذلك في شتاء سنة 1911م، اي قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى. ثم توالت ايام الحرب الدامية، وانتهت بأُفول نجم الدولة العثمانية، وبدأت بعدها أيام محن توالت على الاستاذ النورسي بسلسلة اعتقالاته ونفيه ومحاكماته التي دامت حتى سنة 1950م.
فطوال هذه السنين العجاف لم يتسنَّ له مراجعة هذه الخطبة، بل حتى أنه لم يرها، الى أن أرسل اليه في سنة 1951م أحد أصدقائه من مدينة "وان" نسخة مطبوعةً منها.
كان الاستاذ النورسي عند ذاك في منفاه في "اميرداغ" فأعاد النظر في خطبته التي القاها قبل اربعين سنة، وبدأ بترجمتها الى التركية، أو بالأحرى بتنقيحها وصياغتها مجدداً، إذ ضمَّ اليها فقرات مهمة وهوامش قيّمة 1 وحذف منها ما يحدد شموليتها، وأحال بعض مسائلها الى اجزاء رسائل النور، ثم درّسها لقسمٍ من طلابه.

_____________________
1 ذُيلت هوامش المؤلف بـ " المؤلف"، وحصرت العبارات العربية التي وردت في النص التركي بين قوسين مركنين [ ]



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 478
قام الملا عبد المجيد "شقيق الاستاذ النورسي" بترجمة هذا النص التركي الى العربية - بتوصية من المؤلف نفسه - حسب اسلوبه ونُشرتْ بالاستنساخ اليدوي في اوساط ضيقة، اذ كانت الطباعة محظورة بالحروف العربية آنذاك.
وفي بداية الستينات تناول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ترجمة الملا عبد المجيد هذه، وصاغها باسلوبه العذب. ونُشرتْ منها طبعات كثيرة في حينه 1.
ولكن لما كانت الترجمة العربية هي في الاصل غير كاملة وغير مستوعبة للموضوع،فقد جاءت تلك الصياغة الجميلة - مع الاسف - ينقصها الكثير من الفقرات المهمة والمسائل الجليلة التي تمس الاحداث،فضلاً عن ان الصياغة اقتصرت على الخطبة وحدها دون ذيولها ولواحقها.
ثم تناول الاستاذ عاصم الحسيني النص التركي بالترجمة الى العربية، فأجاد اسلوباً وأداءً للمعنى، وقام طلاب النور بطبعها في المطبعة البولسية ببيروت سنة 1974م.
قابلت ترجمة الأخ عاصم بالنص التركي فتوصلت الى الآتي:
1- انها ترجمة قيمة لا ترقى اليها ترجمة اخرى، سواءً في الاداء أو السبك الرصين للجمل، وهي تكاد تكون مطابقة لمتن الخطبة بالنص التركي، إلاّ في بعض الجمل أو أجزاءٍ من فقرات.
2 - بيد أن الاخ الكريم لم تتح له الفرصة - كما يبدو - لإكمال ترجمته، فلم يترجم ذيول الخطبة كاملة، اذ المقالات التي كتبها الاستاذ النورسي في الصحف المحلية في عهد الاتحاديين وألحقها بالنص التركي، ذات اهمية في إعطاء الصورة الكاملة والواضحة للاحوال السياسية والاجتماعية وكذا التيارات الفكرية التي كان يموج بها المجتمع وقتئذٍ.
3 - ولأجل هذا كله، رأيت لزاماً عليّ القيام بترجمة النص التركي للخطبة مجدداً، مع ذيولها ولواحقها كاملة، ليلمس القارئ الكريم بنفسه أبعاد المسائل التي يطرقها الاستاذ النورسي ويطّلع عليها من جميع جوانبها.
ولقد انتهجت اثناء الترجمة والمقابلة على النص التركي والعربي، الخطوات الآتية:
_________________
1 طبعت الطبعة الاولى منها في مطبعة بركات بدمشق. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 479
1 - اعتبار النص التركي الذي صاغه الاستاذ النورسي بنفسه هو الاساس، مع ذيوله ولواحقه. وهو النص نفسه الـذي وضـعـه الاستـاذ ضمـن مبـاحث كتاب (Tarihçe-i Hayat) أي "السيرة الذاتية" الذي قام بتأليفه طلابه المقرّبون وأقرّه بنفسه وطُبع في حياته. والنسخة التي اعتمدتُ عليها من الخطبة هي من منشورات "دار سوزلر" في استانبول سنة 1979م.
2 - مقابلة كل فقرة في النص التركي بالنسخة العربية لنص الخطبة المطبوعة في استانبول - لأول مرة - سنة 1922م في مطبعة الاوقاف الاسلامية. علماً أن هذا النص الاول العربي لم تبق له إلاّ اهميته التاريخية حيث نقّحه المؤلف بنفسه كما ذكرنا.
3 - الاكتفاء بترجمة الأخ عاصم الموافقة للنص التركي مع إجراء ما يلزم من تغييرات في الفقرات والجمل ليقرّبها اكثر الى معنى النص التركي وليفي بمراد المؤلف. مع إكمال الجمل أو الفقرات الناقصة فيها.
4 - ترجمة الذيول بكاملها والمقالات الملحقة بها.
5 - وضع هوامش ضرورية للقارئ الكريم لإيضاح ما يستغلق عليه من مصطلحات سياسية وتاريخية كانت معروفة ومتداولة في حينها.
6 - استخراج الايات الكريمة من القرآن الكريم ووضع اسم السورة ورقم الآية.
7 - تخريج الاحاديث الشريفة اعتماداً على الكتب الموثوقة.
والله نسأل أن يوفقنا لحسن القصد، وصحة الفهم، وصواب القول وسداد العمل وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.

احسان قاسم الصالحي
المحرم الحرام 1409



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 481
مقدّمة
الخطبة الشامية للمؤلف

باسمه سبحانه
(وإن من شئٍ إلاّ يسبح بحمده)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابداً دائماً.
اخواني الاعزاء الاوفياء!
هذه الرسالة العربية قد أُلقيتْ درساً في الجامع الاموي بدمشق منذ اربعين عاماً، وذلك بناءً على اصرار العلماء هناك، واستمع اليها ما يقرب من عشرة آلاف شخص، بينهم ما لايقل عن مائة من كبار علماء الشام.
ان الحقائق الواردة فيها، قد أحسَّها "سعيد القديم" باحساس مسبق. فزفّها بشائر عظيمة بيقين جازم، ظناً منه أن تلك الحقائق وشيكة التحقق، بيد أن الحربين العُظميين، والاستبداد المطلق الذي استمر ربع قرن من الزمان 1، قد أدّيا الى تأخر تحقق تلك الحقائق أربعين أو خمسين عاماً.
والآن وقد بدأت تباشير تحقق ما أخبر عنه تلوح في افق العالم الاسلامي. بمعنى ان هذا الدرس المهم ليس مجرد خطبة قديمة، قد عفا عليها الزمن، بل هو درس اجتماعي اسلامي، يحتفظ بكامل جدته وطراوته وحقيقته طوال هذه الفترة، وكل الذي حدث هو أن عام 1327هـ قد اصبح عام 1371هـ وان الجامع الاموي قد حل محلّه جامع العالم الاسلامي الذي يضم ثلاث مائة وسبعين مليون نسمة 2.
ان درساً كهذا جدير الآن بالترجمة على ما اعتقد.
سعيد النورسي
_____________________
1 أى منذ انتهاء الخلافة العثمانية سنة 1923 م الى سنة 1950 م - المترجم
2 تعداد المسلمين آنذاك. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 482
نهج رسائل النور
في التبليغ

"
يسجَّل هنا جوابٌ مهمٌ عن سؤال في غاية الأهمية، اذ يذكر"سعيد القديم" باحساسٍ مسبّق، في درسه ذاك الذي القاه قبل اربعين سنة دروس رسائل النور الخارقة وتأثيراتها، وكأنه يراها".
لقد سألني الكثيرون وسألوا بعض اخواني النوريين، ومازالوا يسألون: لماذا لا تُهزم "رسائل النور" أمام هذا الحشد الغفير من المعارضين والفلاسفة المُتعنّتين وارباب الضلال؟ فعلى الرغم من اقامتهم سداً منيعاً - الى حدٍ ما - ليحول دون انتشار ملايين الكتب الإيمانية والاسلامية القيمة.. وعلى الرغم من حرمانهم الكثير من الناس، ولا سيما الشباب الأبرياء من حقائق الايمان بتسهيل سُبُل السفاهة لهم واغرائهم بملذّات الحياة الدنيا.. وعلى الرغم من محاولتهم كسر شوكة رسائل النور بشتى وسائل الغدر واساليب الهجوم العنيفواختلاق الاكاذيب واشاعة الدعايات الزائفة وتخويف الناس منها وحملهم على التخلي عنها.. وعلى الرغم من ذلك فقد انتشرت رسائل النور. فما الحكمة من انتشارها انتشاراً لم يسبق له مثيل، حتى بلغ ما نسخ من معظمها باليد فقط ستمائة الف نسخة، وهي تحظى بانتشار واسع ويتلقاها الناس بشوق بالغ في الخفاء، وتستقرئ نفسها في داخل البلاد وخارجها بكمال المسرّة والمحبة؟.
فجواباً عن أسئلة كثيرة تردُ بهذا المعنى نقول:



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 483
الجواب:
ان رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم، ببيان اعجاز معانيه الجليلة، تبين ان في الضلالة جحيماً معنوياً في هذه الدنيا، كما تثبت ان في الايمان نعيماً معنوياً في الدنيا ايضاً. وهي تبرهن أن في المعاصي والفساد والمتع المحرّمة آلاماً معنوية مبرّحة، كما أن في الحسنات والخصال الحميدة والعمل بالحقائق الشرعية لذائذ معنوية أشبه ما تكون بملذات الجنة.
فهي بهذا الاسلوب تنقذ مَن كان له مسكة من عقل من أهل السفاهة وارباب الضلال من التمادي في غيّهم، ذلك لأن في عصرنا هذا حالتين رهيبتين:

اولاها:
ان نوازع الانسان واحاسيسه المادية لا ترى العقبى فتفضّل درهماً من لذّةٍ عاجلة على قنطار من لذات آجلة، هذه الاحاسيس قد طغت - في هذا العصر - على عقل الإنسان وسيطرت على فكره؛ لذا فالسبيل الوحيد لإنقاذ السفيه من سفهه، هو الكشف عن ألمه في لذته نفسها، ومساعدته على التغلب على احاسيسه تلك؛ اذ المرء في زماننا هذا، مع علمه بلذائذ الآخرة ونعيمها الثمين كالالماس يفضّل عليها مُتعاً دنيوية تافهة اشبه ما تكون بقطع زجاجية قابلة للكسر! كما تشير اليها الآية الكريمة (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) (ابراهيم: 3). وبناء على هذا ولشدة حبّه للدنيا تراه ينساق وراء ارباب الضلالة ويتبعهم بعد أن كان من أهل الايمان.
والسبيل الوحيد لإنقاذه من خطر الانسياق هذا، هو اظهار آلام جهنم وعذابها في الدنيا ايضاً.
وهذا هو النهج الذي تسير عليه رسائل النور.
ان ما في عصرنا الحاضر من تعنّت الإلحاد، وصدود الضلالات الناجمة من طغيان العلوم الحديثة وغرورها والإعراض الناشئ من اعتياد السفه والغي، قد جعلت نسبةَ مَن يتّعظ واحداً من مجموع عشرة اشخاص، أو ربما واحداً من عشرين شخصاً، بعد



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 484
أن يُعرَّف له الخالق جل جلاله ويثبت له وجود جهنم ويخوَّف من عذابها ليتجنب الشرور والسيئات، ثم تراه يقول: "ان الله غفور رحيم.. ان جهنم بعيدة جداً!." ثم قد يستمر في لهوه وعبثه، فينهزم قلبُه وتنهار روحُه أمام طغيان شهواته.
وهكذا فان "رسائل النور" تبين العواقب الوخيمة الأليمة التي تترتب على الكفر والضلال في هذه الدنيا، في معظم الموازنات التي تعقدها، فتنفِّر أشد الناس اتباعاً لهواهم واكثرهم تعنّتاً وعناداً، من الخوض في متعهم المحرمة وسفاهتهم المشؤومة، وتدفع بالعقلاء منهم الى طَرقِ باب التوبة والاستغفار.
وعلى سبيل المثال: الموازنات المبسطة التي تتضمنها الكلمات: السادسة، والسابعة، والثامنة من "الكلمات الصغيرة"، والموازنة المطوّلة التي يتضمنها الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين. هذه الموازنات تحمل اشد الناس سفاهة وضلالة على الرهبة والرعب، وعلى قبول ارشادها والاتعاظ بها.
ومثلاً: نشير هنا بأختصار الى ما رآه - أي سعيد القديم - من حقائق في اثناء تجوالٍ خيالي من خلال التدبر في آية "النور". وتفصيله في "القسم الخامس من المكتوب التاسع والعشرين من مجموعة المكتوبات" فمن شاء فليراجعه. والخلاصة هي:
في اثناء سياحتي الخيالية تلك، رأيت عالم الحيوان، ذلك العالم المحتاج الى الرزق والتقوّت. وعندما تأملته من وجهة نظر الفلسفة المادية، أظهر لي - ذلك العالَم من الاحياء - عالماً رهيباً مؤلماً؛ بما فيه من ضعف وعجز فضلاً عن مسيس احتياجه وشدة جوعه!
ولما كنت انظر اليه بعين اهل الضلال والغفلة اطلقتُ صرخةً ملؤها الألم والحزن، واذا بي أرى ذلك العالم بمنظار الإيمان وحكمة القرآن، فاذا باسم "الرحمن" يشرق من برج "الرّزاق" كشمسٍ ساطعة، فأنار ذلك العالمَ الجائع البائس من الاحياء واسبغ عليه نور رحمته.
ثم رأيت عالَماً آخر في عالم الحيوان هذا، ذلك هو عالَم الافراخ الصغار التي تنتفض ضعفاً وعجزاً وعَوزاً، وقد تغشاه ظلام محزن أليم، يدعو كل انسان الى الاشفاق عليه. ولما كنت انظر بعين اهل الضلالة، صحتُ قائلاً: واحسرتاه! واذا



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 485
بالايمان يمنحني نظّارة، شاهدتُ من خلالها: طلوع اسم "الرحيم" من برج الشفقة، ينشر اضواءه الزاهية الجميلة، حتى حوّل ذلك العالم المحزن الى عالم بهيج، وقَلَب عبرات الشكوى والألم والحزن المنهمرة من عيني الى دموع الفرح والشكر والامتنان.
ثم تراءى لي عالم الانسان كشاشة سينمائية، فانعمتُ النظر فيه بمنظار أهل الضلالة، واذا به: عالم مظلم مرعب.. لم اتمالك معه نفسي فاطلقتُ صرخة ألمٍ من أعماق قلبي قائلاً: وا أسفاه! ذلك لأن آمال الناس وأمانيهم الممتدة الى الأبد، وتصوراتهم وافكارهم المحيطة بالكون، وتطلعاتهم الجادة واستعداداتهم الفطرية التواقة الى الخلود والجنة والسعادة الابدية، وقواهم الطليقة غير المحددة فطرياً، واحتياجاتهم المتوجهة الى غايات ومقاصد لا منتهى لها، وتعرضهم - مع ضعفهم وعجزهم - لهجمات ما لايحصى من المصائب والاعداء.. مع كل هذا، لهم عمرٌ جدّ قصير، ويحيون حياةً ملؤها الصخب والقلق، يذوقون مرارة الموت كل يوم بل كل ساعة، يقاسون ضنك المعيشة في حياتهم ويتجرعون آلام الفراق والزوال التي هي اوجع للقلب واثقل على الوجدان، فضلاً عن انهم ينظرون الى القبر والمقبرة نظر أهل الغفلة وكأنه باب الى ظلام سرمدي، يُرمَون في غياهبه فرداً فرداً وطائفة إثر طائفة!
وهكذا.. ففي الوقت الذي رأيت عالم الانسان هذا غارقاً في مثل هذه الظلمات واذ انا على وشك الصراخ من أعماق قلبي وروحي وعقلي، بل بجميع مشاعري بل بجميع ذرات وجودي، اذا بالنور المنبعث من القرآن والايمان الراسخ الناشئ منه، يحطّم ذلك المنظار المضلّ، ويهب لعقلي بصراً نافذاً أرى به الاسماء الالهية الحسنى وقد اشرقت كالشمس الساطعة من بروجها؛ فاسم الله "العادل" رأيته بازغاً من برج "الحكيم" واسم "الرحمن" من برج "الكريم" واسم "الرحيم" من برج "الغفور" - أي بمعناه - واسم "الباعث" من برج "الوارث" واسم "المحيي" من برج "المحسن" واسم "الرب" من برج "المالك" فأضاءت هذه الاسماء بنورها الباهر عوالم كثيرة داخل عالم الانسان المظلم، وحوّلتها الى عوالم مشرقة بهيجة، كما بددتْ تلك الحالات الجهنّمية بما فتحتْ من نوافذ الى عالم الاخرة، حتى نثرت الانوار الى جميع جوانب ذلك العالم البائس للانسان. فقلتُ: "الحمد لله".."الشكر لله.." بعدد ذرات العالم، ورأيت بعين اليقين وعلمتُ علم اليقين:



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 486
"ان في الإيمان حقّاً جنة معنوية، وان في الضلال جحيماً معنوياً ايضاً في هذه الدنيا ذاتها".
ثم ظهر في تلك الجولة عالمُ كرة الارض، فعكست القوانين العلمية المظلمة بالفلسفة غير المنقادة للدين، الى خيالي عالماً في منتهى الغرابة والدهشة. اذ تأملت هذه الارض التي تزيد سرعة حركتها على سرعة طلقة المدفع بسبعين مرة وتقطع مسافة خمسة وعشرين الف سنة في سنة واحدة، وهي مع شيخوختها وهرمها معرضة للتشتت والتحطّم في كل لحظة، وتحمل في باطنها زلازل مخيفة، وعلى ظهرها هذا الانسان البائس الذي تجوب به اجواء الفضاء غير المحدود.. فاشفقتُ على وضع هذا الانسان وسط هذا الظلام الدامس الموحش المخيم عليه، ودار رأسي من هول ما رأيتُ واظلمتِ الدنيا امام عيني، فطرحتُ نظارة الفلسفة ارضاً وحطمتها كليا. ونظرت الى الامر ببصيرة وضاءة بحكمة القرآن، واذا باسماء خالق الارض والسموات: القدير، العليم، الرب، الله، ربّ السموات والأرض ومسخر الشمس والقمر، قد اشرقت من بروج الرحمة والعظمة والربوبية شروق الشمس. فغمرت ذلك العالم الحالك الموحش المذهل بنور زاهٍ باهر جعلني أبصر بعينيّ المؤمنتين هاتين: ان الكرة الارضية في غاية الانتظام والتسخير والتكامل للانسان، وهي في امان وسلام، فيها رزق كل مَن يدبّ عليها، كأنها سفينة سياحية مهيأة للتنزّه والراحة والاستجمام والتجارة. تتجول بما عليها من مخلوقات، حول الشمس في مملكة ربانية واسعة، وهي مشحونة بالرزق كأنها قطار أو سفينة أو طائرة مشحونة في الربيع والصيف والخريف.فقلت وقتئذٍٍ "الحمد لله على نعمة الايمان" بعدد ما في الارض من ذرات.
وفي ضوء هذا المثال تستطيع أن تقيس كثيراً من الموازنات الاخرى التي تتضمنها "رسائل النور" والتي تثبت: ان ارباب السفاهة والضلال يذوقون في الدنيا نفسها عذاباً جهنمياً معنوياً، كما ان اهل الصلاح والايمان يعيشون في جنة معنوية في هذه الدنيا. وبامكانهم أن يتذوقوا طعوم لذائذ تلك الجنة المعنوية بحواسهم ولطائفهم الاسلامية والانسانية وبتجليات الايمان وجلواته. بل يمكنهم الاستفادة من تلك اللذات حسب تفاوت درجاتهم الايمانية.
بيد أن طبيعة هذا العصر العاصف الذي تسود فيه التيارات المعطّلة للمشاعر، والصارفة لأنظار البشرية الى الآفاق الخاوية والغرق فيها، قد اوجدتْ صعقةً من النوع



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 487
الذي يعطّل الاحساس، لذا فان ارباب الضلال لايشعرون بعذابهم المعنوي مؤقتاً، وان أهل الهداية بدورهم قد داهمتهم الغفلة فلايستطيعون ان يقـدروا لـذّة الايمان الحقيقية حق قـدرهـا.

الحالة الرهيبة الثانية لعصرنا الحالي:
ان انواع الضلالة الناشئة من الإلحاد والعلوم الطبيعية، والتمرد المتولد من الكفر العنادي في الماضي، ليعتبران من الضآلة بحيث لا يُذكَران اذا ما قيسا بما عليه الوضع في وقتنا الراهن، لذا فقد كانت ادلّة علماء الاسلام ودراساتهم كافية لسدّ حاجات عصرهم، اذ كان كفر عصرهم مبنيّاً على الشك، فكانوا يزيلونه بسرعة؛ حيث كان الايمان بالله يسود اوساط الناس، وكان من اليسير ارشاد الكثيرين الى طريق الهداية والصراط السوي، وانقاذهم من السفاهة والضلال، وذلك بالتذكير بالله سبحانه والتخويف من عذابه فكان الكثيرون يتخلَّون عن غيهم.
أما اليوم فقد تغير الحال، اذ بينما كان يوجد - في الماضي - ملحد واحد في بلد، يمكن العثور الآن على مائة كافر في قصبة واحدة. وقد زاد عدد الذين يضلون بسبب افتتانهم بالعلوم والفنون الحديثة ويقفون بعناد وتمرّد في وجه حقائق الايمان اضعاف اضعاف الماضي بمائة مرة. ولما كان هؤلاء المعاندون يعارضون الحقائق الايمانية بغرور فرعوني وبتضليلات رهيبة، فلا مناص من أن يجابَهوا بحقائق قدسية في قوة القنبلة الذرية، لتحطّم مبادءَهم واسسَهم في هذه الدنيا وتقف زحفهم وتجاوزهم، بل تحمل قسماً منهم على التسليم والايمان.
فنحن نحمد الله اجزل الحمد ونشكره شكراً لامنتهى له على أن "رسائل النور" قد اصبحت ترياقاً شافياً لجروح عصرنا الدامية ومعجزة معنوية من معجزات القرآن الحكيم، ولمعة من لمعاته، فلقد استطاعت بموازناتها العديدة ان تحارب اشد المعاندين المتعنتين بسيف القرآن الالماسي، وتنصب الحجج وتقيم الادلّة على الوحدانية الإلهية وحقائق الايمان بعدد ذرات الكون.
ولعل هذا السرّ هو الذي جعلها لا تُغلَب ولاتنهزم منذ خمسة وعشرين عاماً، في وجه اشد الحملات شراسة، بل كانت هي الغالبة على الدوام.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 488
نعم! ان موازنات الكفر والايمان، ومقايسات الهداية والضلال التي تشتمل عليها "رسائل النور"، تثبت بالمشاهدة هذه الحقيقة المذكورة. فالذي يطالع براهين ولمعات "الكلمة الثانية والعشرين" - بمقاميها - مثلاً أو يجيل النظر في الموقف الاول من "الكلمة الثانية والثلاثين". أو يقرأ نوافذ"المكتوب الثالث والثلاثين"، أو يتصفّح الحجج الاحدى عشرة من مجموعة "عصا موسى" واذا ما قاس سائر الموازنات والمقايسات الاخرى على ما ذكرناه يدرك جيداً: ان حقائق القرآن المتجلية في "رسائل النور" هي التي تستطيع قطع دابر الإلحاد وعناد أهل الضلال المتمرد في زماننا هذا واستئصال شأفتهما.
وكما قد تجمعت الشذرات التي تميط اللثام عن وجه معمّيات حقائق خلق العالم وأهم دقائق اسرار الدين في مجموعة "الطلاسم" فاملي بالله عظيم أن تجمع كذلك تلك الاجزاء المتناثرة - التي تثبت بالادلة والبراهين - ان أهل الضلالة يعيشون في جهنم في هذه الدنيا وان أهل الهداية يذوقون لذائذ الجنة في هذه الدنيا ايضاً.. وان الايمان بذرة معنوية من بذور الجنة، والكفر نواة من نوى زقّوم جهنم. وآمل ان تجتمع تلك الاجزاء من "رسائل النور" في مجموعة موجزة وتنشر بعون الله وتوفيقه.

سعيد النورسي



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 489

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #45
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

الخطبة الشامية

تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 491
بسم الله الرحمن الرحيم

نقدم اولاً ما يقدمه كل ذي روح بلسان حال حياته من هدايا معنوية الى خالقه، وما يقدمه كلٌ منهم من الحمد والشكر بلسان حاله الى ذلك الواجب الوجود الذي قال: (لا تقنطوا من رحمة الله) (الزمر: 53) ونصلي ونسلّم صلاةً وسلاماً لامنتهى لهما على نبيّنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام، الذي قال:(انما بعثتُ لأتمم مكارمَ الاخلاق) 1 أي: انما بعثني الله الى الناس لتتميم الخصال الحميدة وانقاذ البشرية من الطباع الذميمة.
أما بعد!
فيا اخواني العرب الذين يستمعون الى هذا الدرس في هذا الجامع الاموي. انني ما صعدت هذا المنبر والى هذا المقام الذي هو فوق حدي، لأرشدكم فهذا امرٌ فوق طوقي. اذ ربما فيكم ما يقارب المئة من العلماء الافاضل. فمثلي معكم كمثل صبي يذهب الى المدرسة صباحاً ثم يعود في المساء ليعرض ما تعلّمه على ابيه، ابتغاء تصحيح اخطائه والتلطّف في تصويبه وارشاده.
فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار، فنحن تلامذة بالنسبة اليكم وأنتم اساتذة لنا ولسائر أمة الاسلام. وها أنذا اعرض بعض ما تعلمته على اساتذتي:
لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الاجتماعية البشرية وعلمتُ في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة امراض، جعلتنا نقـف على اعتاب القرون الوسطى في الوقت الذي طار فيه الاجانب - وخاصة الاوربيين - نحو المستقبل.
_____________________
1 راوه مالك في الموطأ بلاغاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر متصل من وجوه صحاح عن ابي هريرة وغيره. منها ما رواه احمد والخرائطي في اول المكارم بسند صحيح عن ابي هريرة مرفوعاً بلفظ انما بعثت لاتمم صالح الاخلاق... (باختصار عن كشف الخفاء للعجلوني 1/211)



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 492
وتلك الامراض هي: اولاً: حياة اليأس الذي يجد فينا اسبابه وبعثه.
ثانياً: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.
ثالثاً: حبّ العداوة.
رابعاً: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.
خامساً: سريان الاستبداد، سريان الامراض المعدية المتنوعة.
سادساً: حصر الهمة في المنفعة الشخصية.
ولمعالجة هذه الامراض الستة الفتّاكة، أبيّن ما اقتبسته من فيض صيدلية القرآن الحكيم - الذي هو بمثابة كلية الطب في حياتنا الاجتماعية - أبيّنها بست كلمات، اذ لا اعرف اسلوباً للمعالجة سواها.

الكلمة الاولى
"الأمــل"
اي: شدة الاعتماد على الرحمة الالهية والثقة بها.
نعم! انه بناء على ما تعلمته من دروس الحياة، يسرّني ان أزفّ اليكم البشرى يامعشر المسلمين، بأنه قد أَزِفَ بزوغ أمارات الفجر الصادق ودنا شروق شمس سعادة عالم الاسلام الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين، ولاسيما سعادة العرب الذين يتوقّف تقدم العالم الاسلامي ورقيّه على تيقظهم وانتباههم، فانني اعلن بقوة وجزم، بحيث اُسمع الدنيا كلها وأنفُ اليأس والقنوط راغم 1:
ان المستقبل سيكون للاسلام، وللاسلام وحده. وان الحكم لن يكون إلاّ لحقائق القرآن والايمان. لذا فعلينا الرضى بالقدر الالهي وبما قسّمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماضٍ مشوش مختلط.
فهذه دعواي، لي عليها براهين عدة، سأذكر واحداً ونصفاً فقط منها، بعد ان أمهّد لها ببعض المقدمات.
_____________________
1 لقد اخبر»سعيد القديم« باحساس مسبق منذخمسة واربعين عاماً بأن العالم الاسلامي - وفي مقدمته الدول العربية - سينجو من سيطرة الاجانب وتحكمهم، وسيشكلون دولاً اسلامية سنة،1371 ولم يفكر آنذاك في الحربين العالميتين ولا في الاستبداد المطلق الذي دام ما يقارب اربعين عاماً، فبشّر بما كان سنة 1371 وكأنه 1327 دون أن يأخذ سبب التأخير بنظر الاعتبار. المؤلف.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 493
أما المقدمات فهي:
ان حقائق الاسلام تمتاز باستعدادها، استعداداً كاملاً لدفع اهلها الى مراقي التقدم المادي والمعنوي معاً.أما أنه مستعد للرقي المعنوي:
فاعلموا! ان التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية، اصدق شاهد على حقيقة الأحداث؛ فها هو التاريخ يرينا أن القائد الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة الاتية في صدد عظمة الاسلام وحقانيته: "انه بنسبة قوة الحقائق الاسلامية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق، يزدادون رقياً وتقدماً، هكذا يرينا التاريخ. ويرينا إيضاً انه بقدر ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف والاضمحلال والوقوع في ألوان من الهرج والمرج والاضطرابات. ويُغلَبون على أمرهم". أما سائر الاديان الاخرى فالامر فيها على عكس الاسلام، أي: بقدر ضعف تمسّك اتباعها وضعف تعصبهم وصلابتهم في دينهم يزدادون رقياً وتقدماً، وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم بدينهم يتعرّضون للانحطاط والاضطرابات.
هذا هو حكم التاريخ.. وهكذا مرّ الزمانُ الى الآن.
وما ارانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد الى الآن أن مسلماً قد ترك دينه مرجّحاً عليه - بالمحاكمة العقلية والدليل اليقيني - ديناً آخر، على حين ان كثيراً من اتباع الاديان الاخرى - حتى المتعصبين منهم، كالروس القدامى والانكليز - قد رجّحوا بالمحاكمة والدليل العقلي دين الاسلام على أديانهم فدخلوا في الاسلام. ولاعبرة هنا بتقليد العوام الذي لايستند الى دليل، كما لاعبرة بالمروق عن الدين والخروج على حقائقه، فهذه مسألة اخرى. علماً أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالاسلام - بالمحاكمة العقلية - جماعات وافواجاً يزداد يوماً بعد يوم 1.
_____________________
1 والدليل على هذه الدعوى هو، انه مع قيام حربين عالميتين رهيبتين، وظهور استبداد مطلق قاسٍ نجد أنه بعد خمس واربعين سنة:
1 - قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا تدريس القرآن في مدارسها، وقبولها له ليكون سداً منيعاً امام الشيوعية والالحاد.
2 - قيام عدد من الخطباء الانكليز المشهورين باقناع الانكليز وحملهم على قبول القرآن.
3 - موالاة اكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر- وهي امريكا - لحقائق الدين بكل قواها، واعترافها بأن آسيا وافريقيا ستجدان السعادة والأمن والسلام في ظل الاسلام. فضلاً عن تعاطفها مع دول اسلامية حديثة الولادة ومحاولتها الاتفاق معها.. كل ذلك يثبت صدق هذه الدعوى التي قيلت قبل خمس واربعين سنة، وشاهد قوي عليها.المؤلف.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 494
ولو اننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم اخلاق الاسلام وكمال حقائق الايمان، لدخل اتباع الاديان الاخرى في الاسلام جماعات وأفواجاً. بل لربما رضخت دول العالم وقاراته للاسلام.
ان البشرية التي اخذت تصحو وتتيقّظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة، ادركت كنه الانسانية وماهيتها، وتيقّنت انه لا يمكنها ان تعيش هملاً بغير دين، بل حتى اشد الناس إلحاداً وتنكراً للدين مضطر الى أن يلجأ الى الدين في آخر المطاف؛ لأن:
"نقطة استناد" البشر عند مهاجمة المصائب والاعداء من الخارج والداخل، مع عجزه وقلّة حيلته، وكذا "نقطة استمداده" لآماله غير المحدودة الممتدة الى الأبد مع فقره وفاقته، ليس الاّ "معرفة الصانع" والايمان به والتصديق بالآخرة، فلا سبيل للبشرية المتيقّظة الى الخلاص من غفوتها سوى الاقرار بكل ذلك.
ومالم يوجد في صَدَفة القلب جوهر الدين الحق، فسوف تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر، وسيكون اشقى الحيوانات وأذلّها.

خلاصة الكلام:لقد تيقّظ الانسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونُذُر الحروب والاحداث المذهلة، وشعر بقيمة جوهر الانسانية واستعدادها الجامع، وادرك ان الانسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يُخلق لقضاء هذه الحياة المتقلّبة القصيرة، بل خُلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة الى الابد. وان كل انسان بدأ يشعر - حسب استعداده - أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لاتسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة، حتى اذا قيل لقوّة الخيال التي تخدم الانسانية:
"لك ان تعمّري مليون سنة مع سلطنة الدنيا، نظير قبولك موتاً ابدياً لاحياة بعده اطلاقاً." فلابد ان خيال ذلك الانسان المتيقّظ الذي لم يفقد انسانيته سيتأوه كَمَداً وحزناً - بدلاً من أن يفرح ويستبشر - لفقده السعادة الابدية.
وهذا هو السر في ظهور ميل شديد الى التحري عن الدين الحق في اعماق كل انسان، فهو يبحث قبل كل شئ عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت الابدي. ووضع العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 495
لقد بدأت قارات العالم ودوله بعد مرور خمسة واربعين عاماً وبظهور الإلحاد تدرك ادراك كل فرد هذه الحاجة البشرية الشديدة.
ثم ان اوائل اكثر الايات القرآنية وخواتمها، تحيل الانسان الى العقل قائلة: راجع عقلك وفكرك ايها الانسان وشاورهما، حتى يتبين لك صدق هذه الحقيقة. فانظروا مثلاً الى قوله تعالى
(فاعلموا.. فاعلم.. أفلا يعقلون.. أفلم ينظروا.. أفلا يتذكرون.. أفلا يتدبرون.. فاعتبروا يا اولى الأبصار..) وامثالها من الايات التي تخاطب العقل البشري. فهي تسأل: لِمَ تتركون العلم وتختارون طريق الجهل؟ لِمَ تعصُبون عيونَكم وتتعامَوْن عن رؤية الحق؟ ما الذي حملكم على الجنون وانتم عقلاء؟ أي شئ منعكم من التفكر والتدبّر في احداث الحياة، فلا تعتبرون ولاتهتدون الى الطريق المستقيم؟ لماذا لا تتأملون ولا تحكّمون عقولكم لئلا تضلوا؟.
ثم تقول ايها الناس انتبهوا واعتبروا! انقذوا انفسكم من بلايا معنوية تنزل بكم باتعاظكم من القرون الخوالي.
يا اخواني الذين يضمهم هذا الجامع الاموي، ويااخواني في جامع العالم الاسلامي! اعتبروا انتم ايضاً! وقيّموا الامور في ضوء الاحداث الجسام التي مرت خلال السنوات الخمس والاربعين الماضية. كونوا راشدين يامن يعدّون انفسهم من أولي الفكر والعلم.نحصلمما سبق:
نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نتّبع البرهان ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الايمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليداً للرهبان كما هو دأب اتباع سائر الاديان!
وعلى هذا فان المستقبل الذي لاحكمَ فيه الاّ للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامُه الى العقل والمنطق والبرهان.
وها قد اخذت الحجب التي كانت تكسف شمس الاسلام تنزاح وتنقشع، وأخذت تلك الموانع بالانكماش والانسحاب. ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس واربعين سنة، وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة والف



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 496
أو هو على وشك البزوغ، وحتى ان كان هذا الفجر فجراً كاذباً فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلاثين أو أربعين عاماً ان شاء الله.
نعم فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلاء حقائق الاسلام على الزمان الماضي استيلاءً تاماً وهي:المانع الاول والثاني والثالث:
جهل الاجانب
وتأخرهم عن عصرهم (أي بُعدهم عن الحضارة)
وتعصبهم لدينهم
فهذه الموانع الثلاثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي ومحاسن المدنية. المانع الرابع والخامس:
تحكّم القسيسين وسيطرة الزعماء الروحانيين على افكار الناس واذهانهم.
وتقليد الاجانب لاولئك القسيسين تقليداً أعمى.
فهذان المانعان ايضاً يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية الفكر وميل النوع البشري الى البحث عن الحقائق.المانع السادس والسابع:
تفشي روح الاستبداد فينا.
وانتشار الاخلاق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة ومخالفتها.
فان زوال قوة إستبداد الفرد الآن يشير الى زوال استبداد الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلاثين أو اربعين سنة. ثم ان فوران الحمية الاسلامية والوقوف على النتائج الوخيمة للاخلاق الذميمة كفيلان برفع هذين المانعين بل هما على وشك ان يُرفعا، وسيزولان زوالاً تاماً إن شاء الله.المانع الثامن:
توهم وجود نوع من التناقض بين مسائل من العلم الحديث والمعنى الظاهري لحقائق الاسلام؛ هذا التوهم سبّب الى حدٍ ما وقف استيلاء الحقائق الاسلامية في



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 497
الماضي. فمثلاً: ان "الثور والحوت" اللذين هما عبارة عن مَلَكين روحانيين مأمورين بالاشراف على الارض بأمر الله. تخيّلهما البعضُ انهما حيوانان حقيقيان مجسّمان، أي: ثور ضخم وحوت جسيم، فوقف اهلُ العلوم الحديثة موقف المعارض للاسلام لعـدم اطـلاعهم على حقيقـة التشبيه والمجاز.
وهناك مئات من الامثلة كهذا، إذ بعد الاطلاع على الحقيقة لا يجد أعتى الفلاسفة مفراً من الاستسلام والانصياع. حتى ان رسالة "المعجزات القرآنية" قد اشارت الى كل آية من الآيات التي تعرّضَ لها أهل العلم الحديث، واظهرت ان في كلٍ منها لمعة رائعة من لمعات اعجاز القرآن، وبيّنت ما ظنّه اهلُ العلم مدارَ نقدٍ في جُمَل القرآن وكلماته: أن في كل منها من الحقائق السامية الرفيعة ما لا تطاوله يد العلم، وألجأ الفلاسفة العنيدين الى الاستسلام والرضوخ. وهذه الرسائل في متناول الجميع، وفي امكان كل واحد الاطلاع عليها بسهولة، وعليه ان يطلع عليها، ليرى كيف انهار هذا المانع فعلاً، بعدما قيل منذ خمس واربعين سنةً.
نعم، ان هناك مؤلفات قيمة لعلماء الاسلام في هذا المجال، وكل الامارات تدل على ان هذا المانع الثامن سيضمحل تماماً.
واذا لم يحدث ذلك الآن، فانه بعد ثلاثين أو اربعين عاماً سوف يتجهّز العلم، والمعرفة الحقيقية، ومحاسن المدنية، بوسائل واعتدة كاملة فتتغلب - هذه القوى الثلاث - على الموانع الثمانية المذكورة وتقضي عليها. وذلك ببعثها روح التحري عن الحقائق، والانصاف والمحبة الانسانية وارسالها الى جبهات محاربة تلك الاعـداء الثمانـية.
وقد بدأت تهزمها فعلاً، وسوف تقضي عليها قضاءً تاماً بعد نصف قرن ان شاء الله.
نعم، "الفضل ما شهدت به الاعداء".
واليكم مثالين فقط من بين مئات الامثلة:
المثال الأول: ان مستر كارلايل احد مشاهير فلاسفة القرن التاسع عشر واشهر فيلسوف من القارة الامريكية يلفت انظار الفلاسفة وعلماء النصرانـيـة بقـولـه:



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 498
"لقد جاء الاسلام على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة فابتلعها وحق له ان يبتلعها، لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة، وما كاد يظهر الاسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية وكل ما لم يكن بحق فانها حطب ميت أكلته نار الاسلام فذهب، والنار لم تذهب". 1
ويزيد مستر كارلايل فيقول بحق الرسول صلى الله عليه وسلم:
"هو الرجل العظيم الذي علّمه الله العلم والحكمة فوجب علينا ان نصغي اليه قبل كل شئ". 2
ويقول ايضاً:
"ان كنت في ريب من حقائق الاسلام فالأولى بك أن ترتاب في البديهيات والضروريات القطعية، لأن الاسلام من أبده الحقائق واشدها ضرورة".
وهكذا فقد سجّل هذا الفيلسوف الشهير هذه الحقائق حول الاسلام في اماكن متفرقة من مؤلفه.
المثال الثاني: هو الامير بسمارك 3 الذي يعتبر من أشهر رجال الفكر في تاريخ اوروبا الحديث. يقول هذا الفيلسوف:
"لقد درست الكتب السماوية بإمعان، فلم اجد فيها الحكمة الحقيقية التي تكفل سعادة البشرية، وذلك للتحريف الذي حصل فيها. ولكني وجدت قرآن محمد صلى الله عليه وسلم يعلو على سائر الكتب. وقد وجدت في كل كلمة منه حكمة. وليس هناك كتاب يحقق سعادة البشرية مثله. ولا يمكن أن يكون كتابٌ كهذا من كلام البشر. فالذين يدّعون ان هذه الاقوال اقوال محمدصلى الله عليه وسلم يكابرون الحق وينكرون الضرورات العلمية، أي أن كون القرآن كلام الله امرٌ بديهي".
وهكذا تنتج حقول الذكاء في امريكا واوروبا محاصيل رائعة من امثال مستر كارلايل وبسمارك من جهابذة المحققين.
وفي ضوء هذه الحقيقة اقول وبكل اطمئنان واقتناع:
_____________________
1 من ترجمة الاستاذ محمد السباعي لكتاب "الابطال". المترجم
2 من ترجمة الاستاذ محمد السباعي لكتاب "الابطال". المترجم
3 من مشاهير السياسيين الالمان (1815 - 1898) وأحد الذين حققوا الوحدة الألمانية. وجعلوها في مقدمة الدول في القرن التاسع عشر. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 499
ان اوروبا وامريكا حَبَالى بالاسلام، وستلدان يوماً ما دولة اسلامية، كما حَبِلت الدولة العثمانية باوروبا وولدت دولة اوروبية.
ايها الاخوة في الجامع الاموي، ويا اخواني في الجامع الاسلامي بعد نصف قرن! أفلا تنتج المقدمات التي أسلفنا ذكرها حتى الآن:
أن الاسلام وحده سيكون حاكماً على قارات المستقبل حكماً حقيقياً ومعنوياً وان الذي سيقود البشرية الى السعادتين الدنيوية والاخروية ليس الاّ الاسلام والنصرانية الحقّة المنقلبة الى الاسلام والمتفقة معه والتابعة للقرآن بعد تحررها من التحريفات والخرافات!الجهة الثانية: ان الاسلام مستعد للرقي المادي:
ان الاسباب القوية التي تدفع الاسلام الى الرقي تبين أن الاسلام سيسود المستقبل مادياً ايضاً.
فكما اثبتنا في الجهة الاولى استعداد الاسلام معنوياً للرقي تُظهر هذه الجهة اظهاراً واضحاً استعداد الاسلام للرقي المادي وسيادته في المستقبل. لأن في قلب الشخصية المعنوية للعالم الاسلامي قد اجتمعت وامتزجت خمس قوىً لا تُقهر، وهي في منتهى الرسوخ والمتانة 1:القوة الاولى:
"الحقيقة الاسلامية" التي هي استاذ جميع الكمالات والمثل، الجاعلة من ثلاثمائة وخمسين مليون مسلم كنفسٍ واحدة والمجهّزة بالمدنية الحقيقية والعلوم الصحيحة، ولها من القوة ما لا يمكن ان تهزمها قوة مهما كانت.
_____________________
1 نعم نفهم من استاذية القرآن واشارات درسه: ان القرآن بذكره معجزات الانبياء، انما يدل البشرية على ان نظائر تلك المعجزات سوف تتحقق في المستقبل بالترقي، ويحث الانسان على ذلك وكأنه يقول له: هيا اعمل وإسعَ لتنجز امثال هذه المعجزات، فاقطع مثلاً مسافة شهرين في يوم واحد كما قطعها سليمان عليه السلام، واعمل على مداواة اشد الامراض المستعصية كما داواها عيسى عليه السلام، واستخرج الماء الباعث على الحياة من الصخر وانقذ البشرية من العطش كما فعله موسى عليه السلام بعصاه. وابحث عن المواد التي تقيك شر الحرق بالنار، وألبسها كما لبسها ابراهيم عليه السلام. والتقط أبعد الاصوات واسمعها وشاهد الصور من اقصى المشرق والمغرب كما فعل ذلك بعض الانبياء. وألِن الحديد كالعجين كما فعله داود عليه السلام، واجعل الحديد كالشمع في يدك ليكون مداراً لجميع الصناعات البشرية، كما تستفيدون فوائد جمة من الساعة والسفينة اللتين هما من معجزات سيدنا يوسف وسيدنا نوح عليهما السلام. فاعملوا على محاكاتهما وتقليدهما. وهكذا قياساً على هذا نجد أن القرآن الكريم يسوق البشرية الى الرقي المادي والمعنوي، ويلقي علينا الدروس ويثبت انه أستاذ الجميع. المؤلف.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #46
محمدأمين
محب فعال
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 71
معدل تقييم المستوى: 14
محمدأمين is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

عباراتنا شتى وحسنك واحدٌ وكلٌ الى ذاك الجمال يشير
وكأن القيود مسيل ووديان، والمقاصد حوض في وسطها يستمد منها
__________________
محب الصالحين
محمدأمين غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #47
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 500
القوة الثانية:
"الحاجة الملحة" التي هي الاستاذ الحقيقي للمدنية والصناعات والمجهّزة بالوسائل والمبادئ الكاملة.. وكذا "الفقر" الذي قصم ظهرنا. فالحاجة والفقر قوتان لاتسكتان ولا تُقهران.القوة الثالثة:
"الحرية الشرعية" التي ترشد البشرية الى سبل التسابق والمنافسة الحقّة نحو المعالي والمقاصد السامية، والتي تمزق انواع الاستبداد وتشتتها، والتي تهيّج المشاعر الرفيعة لدى الانسان، تلك المشاعر المجهّزة بانماط من الاحاسيس كالمنافسة والغبطة والتيقظ التام والميل الى التجدد والنزوع الى التحضر. فهذه القوة الثالثة: "الحرية الشرعية" تعني التحلي باسمى ما يليق بالانسانية من درجات الكمال والتشوق والتطلع اليها.القوة الرابعة:
"الشهامة الايمانية" المجهّزة بالشفقة والرأفة. أي: ان لايرضى الذلّ لنفسه امام الظالمين، ولا يلحقه بالمظلومين. وبعبارة اخرى: عدم مداهنة المستبدّين وعدم التحكم بالمساكين أو التكبّر عليهم، وهذا أساس مهم من اسس الحرية الشرعية.القوة الخامسة:
"العزة الاسلامية" التي تعلن اعلاء كلمة الله. وفي زماننا هذا يتوقف اعلاء كلمة الله على التقدم المادي والدخول في مضمار المدنية الحقيقية. ولاريب ان شخصية العالم الاسلامي المعنوية سوف تدرك وتحقق في المستقبل تحقيقاً تاماً ما يتطلـبه الايـمان من الحفـاظ على عزة الاسلام..
وكما ان رقي الاسلام وتقدمه في الماضي كان بالقضاء على تعصب العدو وتمزيق عناده ودفع اعتداءاته.. وقد تم ذلك بقوة السلاح والسيف. فسوف تُغلب الاعداء ويُشتت شملهم بالسيوف المعنوية - بدلاً من المادية - للمدنية الحقيقية والرقي المادي والحق والحقيقة.
اعلموا أيها الاخوان!
ان قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة للبشرية، وليس ذنوبها



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 501
وسيئاتها، كما ظن الحمقى من الناس أن تلك السيئات محاسن فقلّدوها وخرّبوا الديار، فقدموا الدين رشوة للحصول على الدنيا فما حصلوا عليها ولا حصلوا على شئ.
انه بطغيان ذنوب المدنية على محاسنها، ورجحان كفة سيئاتها على حسناتها، تلقت البشرية صفعتين قويتين بحربين عالميتين، فأتتا على تلك المدنية الآثمة، وقاءت دماءً لطخت وجه الارض برمتها. وسوف تتغلب باذن الله محاسن المدنية بفضل قوة الاسلام التي ستسود في المستقبل، وتطهّر وجه الارض من الأدناس وتحقق ايضاً سلاماً عاماً للبشرية قاطبة.
نعم لما كانت مدنية اوروبا لم تتأسس على الفضيلة والهدى بل على الهوس والهوى، وعلى الحسد والتحكم، تغلبت سيئات هـذه المدنـيـة على حسناتها الى الان. واصبحت كشجرة منخورة بديدان المنظمات الثورية الارهابية ، وهذا دليل قوي ومؤشر على قرب انهيارها وسبب مهم لحاجة العالم الى مدنية آسيا "الاسلامية" التي ستكون لها الغلبة عن قريب.
فاذا كان امام اهل الايمان والاسلام امثال هذه الاسباب القوية والوسائل القويمة للرقي المادي والمعنوي، وطريقٌ سويٌ ممهد كسكة الحديد للوصول الى السعادة في المستقبل، فكيف تيأسون، وتثبطون روح العالم الاسلامي المعنوية وتظنون ظن السوء وفي يأس وقنوط: أن الدنيا دار ترقٍ وتقدم للاجانب وللجميع بينما اصبحت دار تدنٍ وتأخـّر للمسلمـين المساكـين وحدهم. انكم بهـذا ترتكبون خطأ شنيعـاً.
اذ ما دام الميل نحو الكمال قانوناً فطرياً في الكون وقد اُدرج في فطرة البشرية، فان الحق والحقيقة سيظهران في المستقبل على يد العالم الاسلامي ان شاء الله سعادةً دنيوية ايضاً كفّارة لما اقترفته البشرية من آثام، مالم تقم قيامة مفاجئة بما ارتكبت من مفاسد ومظالم.
فانظروا الى الزمن، انه لايسير على خط مستقيم حتى يتباعد المبدأ والمنتهى، بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا الارضية. فتارة يرينا الصيف والربيع في حال الترقي، وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني. وكما ان الشتاء يعقبه الربيع والليل



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 502
يخلفه النهار، فسيكون للبشرية ربيع ونهار ان شاء الله، ولكم ان تنتظروا من الرحمة الالهية شروق شمس حقيقة الاسلام، فتروا المدنية الحقيقية في ظل سلام عام شامل.
لقد قلنا في بداية هذا الدرس اننا سنقيم برهاناً ونصف برهان على دعوانا. وقد انتهى الآن البرهان مجملاً. وجاء دور نصف البرهان وهو الآتي:
لقد ثبت بالبحث والتحري الدقيق والاستقراء والتجارب العديدة للعلوم أن:
الخير والحسن والجمال والاتقان والكمال هو السائد المطلق في نظام الكون وهو المقصود لذاته، أي هو المقاصد الحقيقية للصانع الجليل. بدليل ان كل علمٍ من العلوم المتعلّقة بالكون يطلعنا بقواعده الكلية على ان في كل نوع وفي كل طائفة انتظاماً وابداعاً بحيث لايمكن للعقل أن يتصور أبدع واكملَ منه.
فمثلاً: علم التشريح الذي يخص الطب، علم المنظومة الشمسية الذي يخص الفلك وبقية العلوم التي تخص النباتات والحيوانات، كل منها تفيدنا بقواعدها الكلية وبحوثها المتعددة النظام المتقن للصانع الجليل في ذلك النوع وقدرته المبدعة وحكمته التامة فتبيّن جميعها حقيقة الآية الكريمة
(الذي احسَن كلَّ شئٍ خَلقَه) (السجدة: 7)
كما ان الاستقراء التام والتجارب الشاملة يثبت أن:
الشر والقبح والباطل والسيئات جزئي وتَبَعي وثانوي في خلقة الكون.
فالقبح مثلاً في الكون والمخلوقات ليس هدفاً لذاته وانما هو وحدة قياسية، لتنقلب حقيقةٌ واحدة للجمال الى حقائق كثيرة. والشر كذلك، بل حتى الشيطان نفسه انما خلق وسلّط على البشرية ليكون وسيلة لترقيات البشر غير المحدودة نحو الكمال التي لا يُـنال إلاّ بالتسـابق والمجـاهـدة.
وامثال هذه الشرور والقبائح الجزئية خُلقت في الكون لتكون وسيلة لإظهار انواع الخير والجمال الكليين. وهكذا يثبت بالاستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون والغاية الاساسية في الخلق انما هو: الخير والحسن والكمال، لذا فالانسان الذي لوّث وجه الارض بكفره الظالم وعصيانه الله لايمكن ان يفلت من العقاب، ويذهب الى العدم من دون ان يحق عليه المقصود الحقيقي في الكون. بل سيدخل سجن جهنم!



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 503
كما ثبت بالاستقراء التام وتحريات العلوم وابحاثها ان الانسان هو اكرم المخلوقات واشرفها. لأنه يستطيع أن يكشف بعقله عن مراتب الاسباب الظاهرية في خلق الكائنات ونتائجها، ويعرف العلاقات بين العلل والاسباب المتسلسلة، ويستطيع ان يقلّد بمهارته الجزئية الصنائع الالهية والايجاد الرباني المنتظم الحكيم، ويستطيع أن يدرك بعلمه الجزئي وبمهارته الجزئية اتقان الافعال الالهية، وذلك بجعل ما لديه من جزء اختياري ميزاناً جزئياً ومقياساً مصغّراً لدرك تلك الافعال الالهية الكلية والصفات الجليلة المطلقة.
كل ذلك يثبت ان الانسان اشرف مخلوق واكرمه.
وثبت ايضاً بشهادة الحقائق التي قدّمها الاسلام للبشرية والتي تخص البشر والكائنات: ان المسلمين هم افضل البشر واشرفهم وهم اهل الحق والحقيقة، كما ثبت بشهادة التاريخ والوقائع والاستقراء التام: ان اشرف اهل الحق المشرَّفين من بين البشر المكرَّمين وأفضلَهم هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يشهد له ألفٌ من معجزاته وسمو اخلاقه ومكارمه وحقائق الاسلام والقرآن.
ولما كان نصف البرهان هذا قد بين هذه الحقائق الثلاث أفيمكن أن يقدح نوعُ البشر بشقاوته شهادةَ هذه العلوم جميعها، وينقض هذا الاستقراء التام، ويتمرّد في وجه المشيئة الالهية والحكمة الازلية؛ فيستمر في قساوته الظالمة وكفره المتمرد ودماره الرهيب ؟ أفيمكن ان تستمر هذه الحالة في عداء الاسلام هكذا؟
انني اقسم بما آتاني الله من قوة بل لو كان لي مالايعد ولايحصى من الألسنة لأقسمت بها جميعاً، بالذي خلق العالم بهذا النظام الاكمل، وخلق الكون في منتهى الحكمة والانتظام من الذرات الى السيارات السابحات في اجواز الفضاء، ومن جناح البعوضة الى قناديل النجوم المتلألئة في السموات، ذلكم الحكيم ذو الجلال والصانع ذو الجمال، أقسم به سبحانه بألسنة لا تحد انه لا يمكن ان يخرج البشر على سنة الله الجارية في الكون ويخالف بقية اخوانه من طوائف المخلوقات بشروره الكلية ويقضي بغلبة الشر على الخير فيهضم تلك المظالم الزقومية على مدى ألوف السنين! فهذا لا يمكن قطعاً!



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 504
نعم، انه لا يمكن ذلك إلاّ بافتراضٍ محالِ هو أن الانسان ليس خليفة الله في الارض، الحامل للأمانة الكبرى والاخ الاكبر الاكرم لسائر انواع المخلوقات، انما هو ادنى مخلوق واردأه وارذله واضرّه وأحقره، دخل الكون متلصصاً ليفسده! فهذا الفرض المحال باطل من اساسه لا يمكن قبوله باية جهة كانت.
فلأجل هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج من نصف برهاننا هذا:
كما أن وجود الجنة والنار ضروري في الآخرة فان الغلبة المطلقة ستكون للخير وللدين الحق في المستقبل، حتى يكون الخير والفضيلة غالبين في البشرية كما هو الامر في سائر الانواع الاخرى، وحتى يتساوى الانسان مع سائر اخوانه من الكائنات، وحتى يحق ان يقال: انه قد تحقق وتقرر سرّ الحكمة الازلية في النوع البشري أيضاً.وحاصل الكلام:
ما دام البشر - طبقاً للحقائق المذكورة القاطعة - افضل نتيجة منتَخبة من الكائنات، وأنه أكرم مخلوق لدى الخالق الكريم، وان الحياة الباقية تقتضي وجود الجنة وجهنم بالبداهة، فتستلزم المظالم التي ارتكبتها البشرية حتى الآن وجود جهنم، كما تستلزم ما في استعداداته الكمالية المغروزة في فطرته وحقائقه الايمانية التي تهم الكائنات بأسرها وجود الجنة بالبداهة، فلابد، ولامحالة ان البشر لن يهضموا ولن يغفروا الجرائم التي ارتكبت خلال الحربين العظيمتين والتي جرت الويلات والمصائب على العالم باجمعه واستقاءت زقوم شرورها التي استعصت على الهضم فلطّخت وجه الارض، وتركت البشرية تعاني البؤس والشقاء وهدمت صرح المدنية الذي بنته البشرية طوال الف عام. فما لم تقم قيامة مفاجئة على البشرية فاننا نرجو من رحمة الرحمن الرحيم، ان تكون الحقائق القرآنية وسيلة لانقاذ البشرية من السقوط الى أسفل سافلين، وتطهّر وجه الارض من الادناس والادران وتقيم سلاماً عاماً شاملاً.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 505الكلمة الثانية
"اليأس داء قاتل"
ان مما املت عليّ تجاربي في الحياة وتمخض فكري عنه هو: ان اليأس داء قاتل، وقد دبّ في صميم قلب العالم الاسلامي. فهذا اليأس هو الذي اوقعنا صرعى - كالاموات - حتى تمكنت دولة غربية لايبلغ تعدادها مليوني نسمة من التحكم في دولة شرقية مسلمة ذات العشرين مليون نسمة فتستعمرها وتسخرها في خدمتها.. وهذا اليأس هو الذي قتل فينا الخصال الحميدة وصرف انظارنا عن النفع العام وحصرها في المنافع الشخصية.. وهذا اليأس هو الذي أمات فينا الروح المعنوية التي بها استطاع المسلمون ان يبسطوا سلطانهم على مشارق الارض ومغاربها بقوة ضئيلة، ولكن ما ان ماتت تلك القوة المعنوية الخارقة باليأس حتى تمكّن الاجانب الظلمة - منذ اربعة قرون - ان يتحكموا في ثلاثمائة مليون مسلم ويكبلوهم بالاغلال.
بل قد اصبح الواحد بسبب هذا اليأس يتخذ من فتور الآخرين وعدم مبالاتهم ذريعة للتملص من المسؤولية، ويخلد الى الكسل قائلاً: "مالي وللناس، فكل الناس خائرون مثلي" فيتخلى عن الشهامة الايمانية ويترك العمل الجاد للاسلام.
فما دام هذا الداء قد فتك فينا الى هذا الحد، ويقتلنا على مرآى منا، فنحن عازمون على ان نقتصّ من قاتلنا، فنضرب رأس ذلك اليأس بسيف الآية الكريمة:
(لا تقنطوامن رحمة الله) (الزمر: 53). ونقصـم ظهره بحقيقـة الحديث الشريف: (ما لا يدرك كله لا يترك جلّه).
ان اليأس داء عضال للأمم والشعوب، أشبه ما يكون بالسرطان… وهو المانع عن بلوغ الكمالات، والمخالف لروح الحديث القدسي الشريف: (انا عند ظن عبدي بـي).. وهـو شـأن الجـبنـاء والسـفـلـة والعـاجزين وذريعتهم، وليس هو من شأن الشهامة الاسلامية قط.. وليس هو من شأن العرب الممتازين بسجايا حميدة هي مفخرة البشرية. فلقد تعلّم العالم الاسلامي من ثبات العرب وصمودهم الدروس



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 506
والعبر. وأملنا بالله عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس ويَمدّوا يدَ العون والوفاق الصادق الى الترك الذين هم جيش الاسلام الباسل فيرفعوا معاً راية القرآن عالية خفّاقة في ارجاء العالم،ان شاء الله.

الكلمة الثالثة
"الصدق اساس الاسلام"
لقد علمتني زبدة تتبّعاتي وتحقيقاتي في الحياة بتمخض الحياة الاجتماعية أن:
"الصدق" هو أس اساس الاسلام، وواسطة العِقد في سجاياه الرفيعة ومزاج مشاعره العلوية. فعلينا اذاً أن نحيي الصدق الذي هو حجر الزاوية في حياتنا الاجتماعية في نفوسنا ونداوي به امراضنا المعنوية.
اجل! ان الصدق هو عقدة الحياة في حياة الاسلام الاجتماعية. أما الرياء فهو نوع من الكذب الفعلي، وأما المداهنة والتصنع فهو كذب دنئ مرذول. أما النفاق فهو كذب ضار جداً. والكذب نفسه انما هو افتراء على قدرة الصانع الجليل.
ان الكفر بجميع انواعه كذب. والايمان انما هو صدق وحقيقة. وعلى هذا فالبون شاسع بين الصدق والكذب بُعدَ ما بين المشرق والمغرب. وينبغي ان لا يختلط الصدق والكذب اختلاط النور والنار، ولكن السياسة الغادرة والدعاية الظالمة قد خلطتا احدهما بالآخر. فاختلطت كمالات البشرية ومثلها بسفسافها ونقائصها 1.
____________________
1 اخواني! يُفهم من هذا الدرس الذي ألقاه »سعيد القديم« قبل خمس واربعين سنة: ان سعيداً ذاك كان وثيق الصلة بالسياسة وبشؤون الاسلام الاجتماعية. ولكن حذار أن يذهب بكم الظن الى انه قد نهج اتخاذ الدين اداة للسياسة ووسيلة لها. كلا! بل كان يعمل بكل ما لديه من قوة على جعل السياسة اداةً للدين، وكان يقول:»اني افضل حقيقة واحدة من حقائق الدين على ألف قضية سياسية من سياسات الدنيا«.
نعم، لقد احسّ آنذاك - قبل ما يقارب الخمسين عاماً - ان بعض الزنادقة المنافقين يحاولون جعل الدين آلة للسياسة، فعمل هو أيضاً - بكل قوة - في مواجهة نواياهم ومحاولاتهم الفكرية تلك على جعل السياسة وسيلة من وسائل تحقيق حقائق الاسلام وخادمة لها.
بيد انه رأى بعد ذلك بعشرين سنة ان بعض الساسة المتدينين يبذلون الجهد لجعل الدين أداة للسياسة الاسلامية، تجاه جعل اولئك الزنادقة المنافقين المتسترين، الدين آلهً للسياسة بحجة التغرّب. ألا إن شمس الاسلام لن تكون تابعة لأضواء الارض ولا أداة لها. وان محاولة جعلها آلة لها تعني الحط من كرامة الاسلام ، وهي جناية كبرى بحقه حتى ان»سعيداً القديم« قد رأى من ذلك النمط من التحيز الى السياسة: ان عالماً صالحاً قد اثنى بحرارة على منافق يحمل فكراً يوافق فكره السياسي وانتقد عالماً صالحاً آخر يحمل افكاراً تخالف افكاره السياسية، حتى وَصَمَه بالفسق. فقال له» سعيد القديم«: لو ان شيطاناً أيّد فكرك السياسي لأمطرتَ عليه الرحمات، اما اذا خالف أحدٌ فكرك السياسي للعنته حتى لو كان مَلَكاً !«. لأجل هذا قال »سعيد القديم« منذ خمس وثلاثين سنة »اعوذ بالله من الشيطان والسياسة« وترك السياسة . المؤلف.
و لما كان سعيد الجديد قد ترك السياسة كلياً ولا ينظر اليها قطعاً، فقد تُرجمت هذه الخطبة الشامية لسعيد القديم التي تمس السياسة.
ثم انه لم يثبت انه استغل الدين كاداة للسياسة طوال حياته التي استغرقت اكثر من ربع قرن، وفي مؤلفاته ورسائله التي تربو على مئة وثلاثين رسالة والتي دققت بأمعان من قبل خبراء مئات المحاكم بل حتى في احلك الظروف التي تلجئه الى السياسة لشدة مضايقات الظلمة المرتدين والمنافقين، بل حتى عندما اُصدر أمر اعدامه سراً، لم يجد أحدٌ منهم اية أمارة كانت عليه حول إستغلاله الدين لأجل السياسة.
فنحن طلاب النور نرقب حياته عن كثب ونعرفها بدقائقها لا نملك انفسنا من الحيرة والاعجاب ازاء هذه الحالة، ونعدّها دليلاً على الاخلاص الحقيقي ضمن دائرة رسائل النور. - طلاب النور.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 507
ان الصدق والكذب بعيدان احدهما عن الآخر بُعد الكفر عن الايمان. فان عروج محمد صلى الله عليه وسلم في خير القرون الى اعلى عليين بوساطة الصدق وما فتحه من كنوز حقائق الايمان واسرار الكون.. جعل الصدق أروَجَ بضاعة واثمن متاع في سوق الحياة الاجتماعية. بينما تردّى مسيلمة الكذاب وامثاله الى اسفل سافلين بالكذب؛ اذ لما حدث ذلك الانقلاب العظيم في المجتمع تبين ان الكذبَ هو مفتاح الكفر والخرافات، وأفسدُ بضاعة واقذرها. فالبضاعة التي تثير التقزز والاشمئزاز لدى جميع الناس الى هذا الحد لا يمكن ان تمتد اليها يدُ أولئك الذين كانوا في الصف الاول من ذلك الانقلاب العظيم، اولئك الصحابة الكرام الذين فُطروا على تناول اجود المتاع واثمنه وافخره، وحاشاهم ان يلوثوا ايديهم المباركة بالكذب ويمدوها عمداً الى الكذب ويتشبّهوا بمسيلمة الكذاب. بل كانوا بميولهم الفطرية السليمة وبكل ما اوتوا من قوة في طليعة المبتاعين للصدق الذي هو أروج مال واقوم متاع بل هو مفتاح جميع الحقائق ومرقاة عروج محمد صلى الله عليه وسلم الى اعلى عليين. ولأن الصحابة الكرام قد لازموا الصدق ولم يحيدوا عنه ما امكنهم ذلك فقد تقرر لدى علماء الحديث والفقه "ان الصحابة عدول، رواياتهم لا تحتاج الى تزكية، كل ما رووه من الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح". فهذه الحقيقة المذكورة حجة قاطعة على إتفاق هؤلاء العلماء.
وهكذا فان الانقلاب العظيم الذي حدث في خير القرون ادّى الى أن يكون البون شاسعاً بين الصدق والكذب كما هو بين الكفر والايمان. الاّ أنه بمرور الزمن قد تقاربت المسافة بين الصدق والكذب، بل اعطت الدعايات السياسية احياناً رواجاً اكثر للكذب. فبرز الكذب والفساد في الميدان واصبح لهما المجال الى حدٍ ما.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 508
وبناءً على هذه الحقيقة فان احداً من الناس لايمكن ان يبلغ مرتبة الصحابة الكرام.
نكتفي هنا بهذا القدر ونحيل القارئ الكريم الى رسالة الصحابة التي هي ذيل الكلمة السابعة والعشرين رسالة "الاجتهاد".
ايها الاخوة في هذا الجامع الاموي ويا اخوتي الاربعمائة مليوناً من المؤمنين بعد اربعين عاماً في جامع الاسلام الكبير.
لا نجاة الاّ بالصدق، فالصدق هو العروة الوثقى، أما الكذب للمصلحة فقد نَسخَه الزمان، ولقد أفتى به بعض العلماء "مؤقتاً" للضرورة والمصلحة، الاّ أن في هذا الزمان لا يعمل بتلك الفتوى. إذ اُسئ استعماله الى حد لم يعد فيه نفعٌ واحد الاّ بين مئةٍ من المفاسد. ولهذا لا تُبنى الاحكام على المصلحة.
مثال ذلك: ان سبب قصر الصلاة في السفر هو المشقة، ولكن لا تكون المشقة علة القصر. اذ ليس لها حدّ معين، فقد يُساء استعمالها، لذا لاتكون العلة الاّ السفر. فكذلك المصلحة لا يمكن ان تكون علّة للكذب لأنه ليس للكذب حدّ معين، وهو مستنقع ملائم لسوء الاستعمال، فلا يناط به الحكم. وعلى هذا فالطريق اثنان لاثالث له: "اما الصدق واما السكوت" وليس الصدق او الكذب او السكوت قطعاً.
ثم ان انعدام الأمن والاستقرار في الوقت الحاضر بالكذب الرهيب الذي تقترفه البشرية وبتزييفها وافتراءاتها، ما هو إلاّ نتيجة كذبها وسوء استعمالها للمصلحة، فلا مناص للبشرية إلاّ سدّ ذلك الطريق الثالث، وإلاّ فان ما حدث خلال نصف هذا القرن من حروب عالمية وانقلابات رهيبة ودمار فظيع قد يؤدي الى أن تقوم قيامة على البشرية.
أجل! عليك ان تصدق في كل ما تتكلمه ولكن ليس صواباً ان تقول كل صدق، فاذا ما ادّى الصدق احياناً الى ضرر فينبغي السكوت. اما الكذب فلايسمح له قطعاً.
عليك ان تقول الحق في كل ما تقول ولكن لا يحق لك أن تقول كل حق، لأنه ان لم يكن الحق خالصاً فقد يؤثر تأثيراً سيئاً، فتضع الحق في غير محله.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 509الكلمة الرابعة
"المـحـبــة"
ان مما تعلمته من الحياة الاجتماعية البشرية طوال حياتي، وما أملَته عليّ التتبعات والتحقيقات هو:
ان اجدر شئ بالمحبة هو المحبة نفسها. واجدر صفة بالخصومة هي الخصومة نفسها. أي ان صفة المحبة التي هي ضمان الحياة الاجتماعية البشرية والتي تدفع الى تحقق السعادة هي أليق للمحبة، وان صفة العدواة والبغضاء التي هي عامل تدمير الحياة الاجتماعية وهدمها هي اقبح صفة واضرها واجدر أن تُتجنب وتُنفَر منها. ولما كنا قد اوضحنا هذه الحقيقة في المكتوب الثاني والعشرين (رسالة الاخوة) نشير اليها هنا اشارة مقتضبة:
لقد انتهى عهد العداوة والخصام. ولقد اظهرت الحربان العالميتان مدى ما في روح العداوة من ظلم فظيع ودمار مريع. وتبين ان لا فائدة منها البتة. وعليه فلا ينبغي ان تجلب سيئات اعدائنا - بشرط عدم التجاوز- عداوتنا، فحسبهم العذاب الالهي ونار جهنّم.
ان غرور الانسان وحبّه لنفسه قد يقودانه احياناً الى عداء اخوانه المؤمنين ظلماً ومن دون شعور منه فيظن المرء نفسه محقاً. مع ان مثل هذه العداوة تعدّ استخفافاً بالوشائج والاسباب التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض - كالايمان والاسلام والانسانية - وحطاً من شأنها. وهي اشبه ما يكون بحماقة من يرجّح اسباباً تافهة للعداوة كالحصيات على اسباب بجسامة الجبال الراسيات للودّ والمحبة.
فما دامت المحبة مضادة للعداوة ومنافية لها فلا تجتمعان قطعاً كما لا تجتمع الظلمة والنور، فالذي تتغلب اسبابُه على الآخر هو الذي يجد موضعه في القلب بحقيقته. اما ضده فلا يكون بحقيقته.
فمثلاً: اذا وجدت المحبة بحقيقتها في القلب فان العداوة تنقلب حينئذ الى الرأفة والشفقة. فهذا هو الوضع تجاه اهل الايمان. اما اذا وجدت العداوة بحقيقتها في


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #48
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 510
القلب، فان المحبة تنقلب عندها الى المداراة والمماشاة والصداقة الظاهرية. فهذا انما يكون مع ارباب الضلال غير المتجاوزين.
أجل! ان اسباب المحبة هي الايمان والاسلام والانسانية وامثالها من السلاسل النورانية المتينة والحصون المعنوية المنيعة. أما اسباب العداوة والبغضاء تجاه المؤمن فانما هي امور خاصة تافهة تفاهة الحصيات. لذا فان اضمار العداء لمسلم اضماراً حقيقياً، انما هو خطأ جسيم لأنه استخفاف باسباب المحبة التي هي اشبه بالجبال.
نحصل مما سبق:
ان الود والمحبة والاخوة هي من طباع الاسلام وروابطه. والذي يحمل في قلبه العداء فهو أشبه ما يكون بطفل فاسد المزاج يروم البكاء بادنى مبرر للبكاء، وقد يكون ما هو اصغر من جناح ذبابة كافياً لدفعه الى البكاء. أو هو أشبه ما يكون برجل متشائم لا يحسن الظن بشئ ما دام سوء الظن ممكناً. فيحجب عشر حسناتٍ للمرء بسيئة واحدة. ومن المعلوم ان هذا منافٍ كلياً للخلق الاسلامي القاضي بالانصاف وحسن الظن.


الكلمة الخامسة
"تضاعف السيئات والحسنات"
ان الدرس الذي تعلمته من الشورى الشرعية هو: أن سيئة امرئ ٍ واحدٍ في هذا الزمان، لا تبقى على حالها سيئة واحدة، وانما قد تكبر وتسري حتى تصبح مائة سيئة. كما ان حسنة واحدة ايضاً لا تبقى على حالها حسنة واحدة بل قد تتضاعف الى الالاف. وحكمة هذا وسره هو: ان الحرية الشرعية والشورى المشروعة قد أظهرتا سيادة امتنا الحقيقية. اذ إن حجر الاساس في بناء امتنا وقوام روحها انما هو الاسلام، وان الخلافة العثمانية والجيش التركي من حيث كونهما حاملين لراية تلك الامة الاسلامية فهما بمثابة الصَدَفة والقلعة للأمة، وان العرب والترك هما الاخوان الحقيقيّان وسيظلان حارسين امينين لتلك القلعة المنيعة، والصَدَفة المتينة.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 511
وهكذا فبفضل هذه الرابطة المقدسة التي تشد الامة الاسلامية بعضها ببعض يصبح المسلمون كافةً كعشيرة واحدة. فترتبط طوائف الاسلام برباط الاخوة الاسلامية كما يرتبط افراد العشيرة الواحدة ويمد بعضهم بعضاً معنويّاً، واذا اقتضى الامر فمادياً، وكأن الطوائف الاسلامية تنتظم جميعها كحلقات سلسلة نورانية. فكما اذا ارتكب فرد في عشيرة ما جريمة فان عشيرته بأسرها تكون مسؤولة ومتّهمة في نظر العشيرة الاخرى وكأن كل فرد من تلك العشيرة هو الذي قد ارتكب الجريمة، فتلك الجريمة قد اصبحت بمثابة الالوف منها، كذلك اذا قام احد افراد تلك العشيرة بحسنةٍ واحدة افتخر بها سائر أفراد العشيرة وكأن كل فرد منها هو الذي كسب تلك الحسنة.
فلأجل هذه الحقيقة فان في زماننا هذا ولاسيما بعد اربعين او خمسين سنة ليس المسئ هو وحده المسؤول عن سيئته، بل تتضرر الامة الاسلامية بملايينها بتلك السيئة. وستظهر امثلة هذه الحقيقة بكثرة بعد اربعين او خمسين سنة.
يا اخواني المستمعين الى اقوالي في هذا الجامع الاموي. ويا ايها الاخوان المسلمون في جامع العالم الاسلامي بعد اربعين او خمسين عاماً!
لايعتذرنّ احدكم بالقول: "اننا لانضرّ احداً ولكننا لانستطيع ان ننفع احداً أيضاً. فنحن معذورون اذن". فعذركم هذا مرفوض، اذ ان تكاسلكم وعدم مبالاتكم وتقاعسكم عن العمل لتحقيق الاتحاد الاسلامي والوحدة الحقيقية للأمة الاسلامية، انما هو ضرر بالغ وظلم فاضح.
وهكذا فكما ان سيئة واحدة تتضاعف الى الالوف فان حسنة واحدة في زماننا هذا - واعني بالحسنة هنا ما يتعلق بقدسية الاسلام - لاتقتصر فائدتها على فاعلها وحده بل يمكن ان تتعداه ليعم نفعها - معنوياً - ملايين المسلمين ويشدّ من حياتهم المادية والمعنوية.
وعليه فان هذا الزمان ليس زمان الانطراح على فراش الكسل والخلود الى الراحة وعدم المبالاة بالمسلمين بترديد:"انا مالي".



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 512
يا اخوتي في هذا الجامع ويا اخواني في مسجد العالم الاسلامي الكبير بعد اربعين او خمسين عاماً!
لا يذهب بكم الظن انني صعدت هذا المنبر لارشدكم وانصحكم. بل ما صعدته إلاّ لأذكر حقنا عليكم واطالبكم به، اذ إن مصالح الطوائف الصغيرة وسعادتها الدنيوية والاخروية ترتبط بامثالكم من الطوائف الكبيرة العظيمة، والحكام والأساتذة من العرب والترك. فان تكاسلكم وتخاذلكم يضران باخوانكم من الطوائف الصغيرة من امثالنا ايما ضرر. وانني اوجه كلامي هذا بوجه خاص اليكم يامعشر العرب العظماء الأماجد، ويا من أخذتم من التيقظ حظاً او ستتيقظون تيقظاً تاماً في المستقبل؛ لانكم اساتذتنا واساتذة جميع الطوائف الاسلامية وائمتها، فانتم مجاهدو الاسلام الأوائل، ثم جاءت الامة التركية العظيمة لتمدّ وظيفتكم المقدسة تلك ايّما امداد. لذا فان ذنبكم عظيم بالتكاسل والتقاعس، كما ان حسناتكم جليلة وسامية أيضاً. ولا سيما نحن على أمل عظيم برحمة الله انه بعد مرور اربعين أو خمسين عاماً تتحدون فيما بينكم - كما اتحدت الجماهير الامريكية - وتتبوأون مكانتكم السامية وتوفّقون باذن الله الى انقاذ السيادة الاسلامية المأسورة وتقيمونها كالسابق في نصف الكرة الارضية بل في معظمها. فان لم تقم القيامة فجأة فسيرى الجيل المقبل هذا الامل.
فيا اخوتي الكرام!
ارجو ان لا يذهب بكم الظن بأنني بكلامي هذا استنهض هممكم للاشتغال بالسياسة - حاش لله - فان حقيقة الاسلام اسمى من كل سياسة بل جميع اصناف السياسة واشكالها يمكن ان تسير في ركاب الاسلام وتخدمه وتعمل له، وليس لأية سياسة كانت ان تستغل الاسلام لتحقيق اغراضها.
فانا بفهمي القاصر أتصور المجتمع الاسلامي ككل - في زماننا هذا - اشبه ما يكون بمصنع ذي تروس وآلات عديدة. فاذا ما تعطل ترس من ذلك المصنع أو تجاوز على رفيقه الترس الآخر فسيختل حتماً نظام المصنع الميكانيكي. لذا فقد آن أوان الاتحاد الاسلامي وهو على وشك التحقق. فينبغي ان تصرفوا النظر عن تقصيراتكم الشخصية، وليتجاوز كلٌ عن الآخر.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 513
وهنا انبّه ببالغ الاسى والاسف الى أن قسماً من الاجانب كما سلبوا اموالنا الثمينة واوطاننا، بثمن بخسٍ دارهم معدودة مزوّرة، كذلك فقد سلبوا منا قسماً من اخلاقنا الرفيعة وسجايانا الحميدة والتي بها يترابط مجتمعنا، وجعلوا تلك الخصال الحميدة محوراً لرقيهم وتقدمهم، ودفعوا الينا نظير ذلك رذائل طباعهم وسفاهة اخلاقهم.
فمثلاً: ان السجية الملّية التي اخذوها منا هي قول واحدٍ منهم:
"إن متّ انا فلتحيا امتي، فان لي فيها حياة باقية" هذه السجية أقوى اساس وأمتنه لرقيهم وتقدمهم، قد سرقوها منا؛ إذ هذه الكلمة انما تنبع من الدين الحق ومن حقائق الايمان، فهي لنا وللمؤمنين جميعاً، بينما دخلت فينا اخلاق رذيلة وسجايا فاسدة، فترى ذلك الاناني الذي فينا يقول: "اذا متّ ظمآناً فلا نزل القطر" و"ان لم ارَ السعادة فعلى الدنيا العفاء!" فهذه الكلمة الحمقاء انما تنبع من عدم وجود الدين ومن عدم معرفة الاخرة، فهي دخيلة علينا تسمّمنا. ثم ان تلك السجية الغالية عندما سرت الى الاجانب اكسبت كل فرد منهم قـيمة عظيمـة حتى كأنه أمـة وحـده؛ لان قيمـة الشخص بهمّته، فمن كانت همته امته فهـو بحد ذاته امة صغيرة قائمة.
وبسبب عدم تيقظ أناس منا، وبحكم اخذنا الاخلاق الفاسدة من الاجانب فان هناك مَن يقول: " نفسي نفسي" مع ما في امتنا الاسلامية من سمو وقدسية. فألف رجل مثل هذا الشخص الذي لا يفكر الاّ بمصلحته الشخصية ولا يبالي بمصلحة الأمة، انما ينزل بمنزلة شخص واحد.
[مَن كانت همتُه نفسَه فليس من الانسان لأنه مدني بالطبع] فهو مضطر لأن يراعي ابناء جنسه، فان حياته الشخصية يمكن ان تستمر بحياته الاجتماعية. فمثلاً:
ان الذي يأكل رغيفاً عليه ان يفكّر كم يحتاج الى الايدي التي تحضر له ذلك الرغيف. فهو يقبّل تلك الايدي معنى.
وكذا الثوب الذي يلبسه، كم من الايدي والالات والاجهزة تضافرت لتهيئته وتجهيزه. وقيسوا على منوال هذين المثالين لتعلموا ان الانسان مفطور على الارتباط بابناء جنسه من الناس لعدم تمكنه من العيش بمفرده وهو مضطر الى ان يعطي لهم ثمناً معنوياً لدفع احتياجاته، لذا فهو مدني فطرة. فالذي يحصر نظره في منافعه



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 514
الشخصية وحدها انما ينسلخ من الانسانية ويصبح حيواناً مفترساً، اللهم إلاّ من لاحيلة له، وله معذرة حقيقية.


الكلمة السادسة
"الشــورى"
ان مفتاح سعادة المسلمين في حياتهم الاجتماعية انما هو "الشورى" فالآية الكريمـة تأمرنا باتخاذ الشورى في جميع امورنا،اذ يقول سبحانه:
(وأمرُهـُم شورى بينهم) (الشورى: 38).
اجل فكما أن تلاحق الافكار بين ابناء الجنس البشري انما هو شورى على مر العصور بوساطة التاريخ، حتى غدا مدار رقي البشرية واساس علومها، فان سبب تخلف القارة الكبرى التي هي آسيا عن ركب الحضارة انما هو لعدم قيامها بتلك الشورى الحقيقية.
ان مفتاح قارة آسيا وكشاف مستقبلها انما هو الشورى، أي: كما ان الافراد يتشاورون فيما بينهم، كذلك ينبغي ان تسلك الطوائف والاقاليم المسلك نفسه فتتشاور فيما بينها. ان فك انواع القيود التي كبّلت ثلاثمائة بل اربعمائة مليون مسلم، ورفع انواع الاستبداد عنهم انما يكون بالشورى والحرية الشرعية النابعة من الشهامة الاسلامية والشفقة الايمانية، تلك الحرية الشرعية التي تتزين بالاداب الشرعية وتنبذ سيئات المدنية الغربية.
ان الحرية الشرعية النابعة من الايمان انما تأمر باساسين:
1- [ان لا يُذَلَّل"المسلمُ" ولايَتَذلَّل.. من كان عبداً لله لا يكون عبداً للعباد].
2- [ان لايجعل بعضكُم بعضاً ارباباً من دون الله]. اذ من لا يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعاً من الربوبية لكل شئ، في كل حسب نسبته فيسلّطه على نفسه.
[نعم ان الحرية الشرعية عطية الرحمن] وتجلٍ من تجليات الخالق الرحمن الرحيم، وهي خاصّة من خصائص الايمان.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 515
فليحيا الصدقُ، ولا عاش اليأسُ، فلتدم المحبة ولتقْوَ الشورى، والملام على من اتبع الهوى والسلام على من اتبع الهدى..آمين.
واذا قيل:
لِمَ تهتم بالشورى الى هذا الحد، وكيف يمكن أن تتقدم البشرية عامة وآسيا والاسلام بوجه خاص بتلك الشورى؟الجواب:
فكما اوضحت لمعة "الاخلاص" وهي اللمعة الحادية والعشرون: ان الشورى الحق تولّد الاخلاص والتساند، اذ إن ثلاث ألفات هكذا (111) تصبح مائة واحدى عشرة، فانه بالاخلاص والتساند الحقيقي يستطيع ثلاثة اشخاص ان يفيدوا امتهم فائدة مائة شخص. ويخبرنا التاريخ بحوادث كثيرة أن عشرة رجال يمكنهم أن يقوموا بما يقوم به ألف شخص بالاخلاص والتساند الحقيقي والشورى فيما بينهم.
فما دامت احتياجات البشر لاحد لها واعداؤه دون حصر، وقوته ورأس ماله جزئيان محدودان جداً. ولاسيما بعد ازدياد المخرّبين والمتوحشين نتيجة تفشّي الالحاد.. فلابد أن يكون أمام اولئك الاعداء غير المحدودين والحاجات التي لا تحصر نقطة استناد تنبع من الايمان، فكما تستند حياته الشخصية الى تلك النقطة فان حياته الاجتماعية ايضاً انما تستطيع ان تدوم وتقاوم بالشورى الشرعية النابعة من حقائق الايمان، فتقف اولئك الاعداء الشرسين عند حدّهم وتلبي تلك الاحتياجات.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 516
الذيل الاول
تشخيص العلّة

هذا الذيل يبين بطولةً معنوية لاتثلم نابعة من الايمان، ضمن تمثيل لطيف جداً نذكر خلاصته لمناسبة ما ذكرناه من مسائل.
لقد رافقت ايضاً السلطان رشاد 1 في سياحته الى "روم ايلي" ممثلاً عن الولايات الشرقية، وذلك في بداية عهد الحرية 2.
كان في قطارنا معلمان اثنان، قد تلقيا العلوم في المدارس الحديثة، فجرت بيننا مباحثة، اذ سألانني:
- ايُّما اقوى وأولى بالالتزام: الحمية الدينية أم الملية؟ قلت لهم - وقتئذٍ -:
- نحن معاشر المسلمين، الدين والملية عندنا متحدان بالذات، والاختلاف إعتباري، أي ظاهري، عرضي، بل الدين هو حياة الملية وروحها. فاذا مانُظر اليهما بأنهما مختلفان ومتباينان، فان الحمية الدينية تشمل العوام والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمئة من الناس، ممن يضحي بمنفعته الشخصية لأجل الأمة.
وعليه فلابد أن تكون الحمية الدينية اساساً في الحقوق العامة، وتكون الملية خادمة منقادة لها وساندة حصينة لها.
فنحن الشرقيين لانشبه الغربيين، اذ المهيمن على قلوبنا الشعور الديني؛ فإنّ بعث الانبياء في الشرق يشير به القدرُ الالهي الى أن الشعور الديني وحده هو الذي
_____________________
1 هو السلطان محمد الخامس الملقب بالسلطان رشاد تولّى السلطنة بعد عزل اخيه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909م. المترجم.
2 الاصطلاح الذي اطلقه الاتحاديون على عهدهم. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 517
يستنهض الشرق ويسوقه الى التقدم والرقي، والعصر السعيد - وهو خير القرون والذي يليه - خير برهان على هذا.
فيا زملائي في هذه المدرسة السيارة، أعني القطار، ويا من تسألون عن التفاضل بين الحمية الدينية والملية، وياايها الدارسون في المدارس الحديثة. اني اقول لكم جميعاً:
ان الحمية الدينية والملية الاسلامية قد امتزجتا في الترك والعرب مزجاً لا يمكن فصلهما، وان الحمية الاسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الاعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم.
قال ذلك المعلمان:
ما دليلك؟ يلزم لمثل هذه الدعوى الكبيرة حجة عظيمة ودليل قوي. فما الدليل؟.
وفي هذه الاثناء خرج قطارنا من النفق، فأخرجنا رؤوسنا من النوافذ نتطلع الى الخارج، رأينا صبياً لايتجاوز السادسة من العمر واقفاً بجانب سكة الحديد.
قلت لصاحبيّ:
- ان هذا الصبي يجيبنا عن سؤالنا بلسان حاله، فليكن استاذنا بدلاً مني في مدرستنا السيارة هذه.
اذ لسان حاله يقول هذه الحقيقة:
انظروا الى دابة الارض هذه، والى ضجيجها وصيحتها، وانطلاقها من النفق، وتأملوا في ذلك الطفل الوديع الواقف على مقربة منها، فعلى الرغم من تهديد هذه الدابة وهجومها وانقضاضها على كل من يقترب منها حتى كأنها تقول: يا ويل من يصادفني ويقف امامي .. على الرغم من هذا فان ذلك الصبي البرئ واقف لايحرك ساكناً بالقرب منها، وهو في كمال الاطمئنان والحرية، ولايكترث لتهديدها، مبدياً بطولةً فائقة وجرأة خارقة، وكأنه يستخف بهجومها، فهو يقول بلسان ثباته وبطولته في سن الصبا هذا:
- أيها القطار انك لا تخيفني بصوتك الصاخب الذي يشق عنان السماء.. أيها القطار انك أسير نظام، فخطامك في يد قائدك، لا طاقة لك أن تتجاوز حدَّك ولا يمكنك ان تتحكّم فيّ، فهيا انطلق في طريقك وامضِ في سيرك بإذن قائدك.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 518
فيا صاحبيّ في القطار، ويا اخوتي الباحثين في العلوم بعد خمسين عاماً!
افرضوا خيالاً ان رستم الفارسي وهرقل اليوناني، واقفان موقف الصبي هذا، واذ هما لا علم لهما بالقطار، فلا يعتقدان بانه يسير وفق نظام معين، فاذا ماخرج عليهما من النفق المظلم وفي رأسه النار ذات الوقود وفي انفاسه هدير السماء، وفي عيونه بروق المصابيح، وهو يهدد ويزمجر وكأنه يريد أن ينقضّ عليهما.. تصوروا هذه الحالة ثم قدّروا مدى الخوف والهلع الذي يعتريهما، وكيف انهما يفرّان من القطار مع ما يملكانه من جرأة وشجاعة نادرة. وتصوّروا كيف ان حريتهما وجسارتهما تضمحلان امام تهديد دابة الارض هذه حتى لا يجدان بداً منها إلاّ الفرار.. كل ذلك لانهما لا يعتقدان بوجود قائد يقود ذلك القطار، ولا يؤمنان بوجود نظام يسير على وفقه، بل لايظنان أنها دابّة مطيعة منقادة ليس إلاّ، وانما يتخيلانها أسداً هصوراً ووحشاً كاسراً جسيماً تنتظم وراءه اُسود كثيرة ووحوش عديدة.
يا اخوتي! ويا زملائي الذين يسمعون هذا الكلام بعد خمسين عاماً!
ان الذي منح هذا الصبي تلك الجسارة والحرية اكثر من ذينك البطلين ووهب له اطمئناناً وسكينة يفوقهما بكثير هو: ان في قلب ذلك الصبي نواة حقيقة، وهي: ايمانه واطمئنانه بأن ذلك القطار يسير وفق نظام، واعتقاده بأن زمامه بيد قائد يقوده بأمره ولأجله.
وأما الذي أرهب ذينك البطلين المشهورين وأسر وجدانهما، فهو عدم معرفتهما بقائد ذلك القطار وعدم اعتقادهما بنظامه، أي جهلهما بالعقيدة وخلوهما منها.
فمثل هذه البطولة النابعة من ايمان ذلك الصبي الوديع قد ترسّخت طوال ألف سنة في قلوب عشائر من طوائف الاسلام (وهم الترك ومن تشبّهوا بهم) عقيدةً وايماناً، فوهبهم ذلك الايمان بطولة فائقة استطاعوا بها ان يغزوا دولاً تفوقهم مئة ضعف وان يثبتوا امامها، فنشروا كمالات الاسلام في ارجاء العالم.. في آسيا وأفريقيا ونصف اوروبا، واستقبلوا الموت بسرور بالغ قائلين: إن قُتِلت فأنا شهيد وان قَتَلت عدواً فانا مجاهد. بل ثبتوا - بالايمان - امام كل ما اتخذ موقف عداءٍ تجاه استعدادات الانسان وقواه ابتداءً من الميكروبات الى المذنبات التي في السماء، وكأن كلاً منها قطار رهيب، فلم يكترثوا بتهديداتها.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 519
وانما حازت جميع قبائل الاسلام وفي مقدمتها طوائف الترك والعرب نوعاً من السعادة الدنيوية بتسليمهم الامر الى الله والرضى بقضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقي دروس العبرة من الحوادث بدلاً من الرهبة والهلع منها.
فاظهار هؤلاء المسلمين، بطولة معنوية فوق المعتاد - كما يظهره ذلك الصبي - يدلّنا: ان امة الاسلام مثلما تفوز في الآخرة فلهم في الدنيا ايضاً السيادة مستقبلاً.
ان الذي ادّى الى ان يدخل في روع ذينك البطلين الخوف والفرار والقلق انما هو حرمانهما من الايمان والعقيدة وجهلهما وضلالهما. فلقد اثبتت "رسائل النور" بمئات الحجج القاطعة تلك الحقيقة التي ذكرت بضعة امثلة منها في مقدمة هذه الرسالة ايضاً، تلك هي:
ان الكفر والضلال يريان الكون لأهلهما أنّه ملئ بآلاف الأعداء المخيفين، بل هو سلسلة من طوائف تعادي الانسان، ابتداءً من المنظومة الشمسية وانتهاء الى ميكروبات التدرن الرئوي، كلها تعادي هذا الانسان المسكين بايدي القوى العمياء والمصادفة العشواء والطبيعة الصماء. حتى تجعله في رعب دائم وألم مقيم وهلع ملازم واضطراب مستمر مع ما يحمل هذا الانسان من ماهية جامعة واستعداد كلي وحاجات لا نهاية لها ورغبات لا منتهى لها. بل يجعله الكفر والضلال في حالة من عذاب جهنم في الدنيا وكأنه يتجرع الزقوم ولا يكاد يسيغه. فلا تجديه آلاف الفنون والعلوم - الخارجة عن الدين والايمان - ولا التقدم البشري - مثلما لم تجدِ بطولة ذينك البطلين المشهورين - بل تجري في دمه السفاهة واللهو لتعطِّل حواسه فلا يشعر بالألم مؤقتاً.
فكما ان المقايسة بين الايمان والكفر تُفضي في الآخرة الى الجنة والنار، فان الايمان في الدنيا ايضاً يحقق نوعاً من الجنة المعنوية ويجعل المرء يرى الموت نوعاً من التسريح من الوظيفة، بينما الكفر يجعله في الدنيا ايضاً في جحيم معنوي سالباً منه السعادة إذ يريه الموت اعداماً ابدياً. كما اثبتنا ذلك في "رسائل النور" اثباتاً بدرجة الشهود والقطعية التامة. فنحيل القارئ الكريم الى تلك الرسائل.
فإن شئتم أيها الاخوان ان تروا حقيقة هذا المثال، فارفعوا رؤوسكم وانظروا الى هذا الكون! كم ترون لله في الفضاء من كرات النجوم واجرام العوالم وسلاسل



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #49
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام


صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 520
الحادثات والوقائع المتسلسلة أمثال القطار والمنطاد والسيارات الالهية فكأنها سفائن برية وفلك بحرية وطائرات هوائية خلقتها يد القدرة الالهية بنظام وحكمة.
فكما ان للقدرة الالهية في عالم الشهادة وفي عالمنا المادي امثال هذه، فان لها في عالم الارواح والمعنويات نظائر متسلسلة أعجب، يصدّق بها كلُ مَن يملك عقلاً، بل يرى اغلبَها كلُّ مَن يملك بصيرة.
فهذه الامور المتسلسلة المترابطة في الكون سواءٌ منها المادية أو المعنوية تهاجم أهل الضلال الذين حُرموا من الايمان وتهددهم وترهبهم وتحطّم قواهم المعنوية، بينما لاتخيف اهل الايمان ولا تهددهم بشئ بل تبعث فيهم السرور والسعادة والانس والأمل والقوة، وذلك لأنهم يرون الوجود بنور الايمان، وتلك الحوادث المتسلسلة، وتلك القاطرات المادية والمعنوية والعوالم السيارة، انما تساق الى وظيفة معينة محددة من قبل صانع حكيم لتؤديها ضمن نظام وحكمة من دون اختلاط ولا تجاوز قط.
فيُري الايمان المؤمنَ: أن كل شئ ينال قبساً من تجليات جمال الله واتقان صنعته سبحانه، ويمنحه قوة معنوية عظيمة بما يفتح له من نماذج للسعادة الابدية.
وهكذا فان ما يعانيه اهل الضلال من الآلام الرهيبة الناشئة من فقدان الايمان، وما يلازمهم من خوف ورعب شديدين، تقف ازاءه جميع انواع الرقي البشري عاجزة لاتمنح له سلواناً ولا عزاءً، بل لا يمكنها ان تضمن له قوة معنوية، فتتحطم الجرأة والإقدام.. إلاّ ما تخدعه الغفلة من إسدال ستار النسيان عليها.
أما أهل الايمان فلا ترهبهم تلك الحادثات ولا تأخذ من معنوياتهم؛ وذلك بفضل الايمان - بمثل ذلك الصبي - بل تزيد معنوياتهم صلابة، اذ ينظرون اليها- أي الى الحوادث - من خلال حقيقة ايمانهم فيشاهدون ارادة الصانع الحكيم وادارته وتدبيره اياها ضمن حكمته الواسعة. فيتحررون من المخاوف والاوهام، اذ يعلمون أنه: لولا امرُ الصانع الحكيم وإذنه لما استطاعت هذه العوالم السيارة الحركة قط. فينالون بهذا اطمئناناً يسعدهم في الدنيا كذلك، كل حسب درجته.
ومن لم يكن في قلبه ووجدانه بذرة هذه الحقيقة النابعة من الايمان والدين الحق، ولم يستند الى ركيزة، فمثله كمثل ذينك البطلين المشهورين، اذ تنهار قواه المعنوية بمثل تحطم جسارتهما وبطولتهما. ويكون أسير حادثات الكائنات فيتفسّخ وجدانـه ويصبح كالمتسول الذليـل بإزاء كل حادثة.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 521
نكتفي بهذا القدر لبيان هذه الحقيقة الواسعة حيث بينّت "رسائل النور" بحججها الدامغة ان هذا السر كامنٌ في الايمان بينما الضلالة تحمل شقاءً وتعاسة في الدنيا ايضاً.
ان الانسان الذي أحسّ في هذا العصر بحاجته الماسة الى قوة معنوية وصلابة وثبات والى عزاء وسلوان، قد ترك حقائق الايمان التي هي اعظم ركيزة استناد له والتي تضمن له القوة المعنوية والسلوان والسعادة، واستهواه التغرب فاستند الى الضلالة والسفه، فبدلاً من أن يستفيد من الملية الاسلامية اخذ يحطم القوة المعنوية تحطيماً كاملاً، فازال عنه السلوان واوهن صلابته بانسياقه وراء الضلال والسفه والسياسة الكاذبة. ألا ترى أن هذا بعدٌ شاسع عن مصالح الانسان ومنافعه؟ ألا ان الانسانية ستدرك يوماً - إن بقي لها من العمر بقية - حقيقة القرآن، وستعتصم به، وفي مقدمتها المسلمون.
* * *

لقد سأل قسم من النواب المتدينين سعيداً القديم اوائل عهد الحرية:
- انك تجعل السياسة تابعة للدين في كل شئ، بل تجعلها وسيلة منقادة للشريعة، ولا تقبل الحرية الاّ على اساس الوجه المشروع، بمعنى انك لا تعترف بالحرية والمشروطية بدون الشريعة، ولأجل هذا جعلوك في صفوف المطالبين بتطبيق الشريعة في حادثة (31) مارت.
فأجابهم سعيد القديم بالآتي:
أجل! انه لا سعادة لأمة الاسلام إلاّ بتحقيق حقائق الاسلام، وإلاّ فلا، ولا يمكن ان تذوق الامة السعادة في الدنيا او تعيش حياة اجتماعية فاضلة إلاّ بتطبيق الشريعة الاسلامية، وإلاّ فلا عدالة قطعاً، ولا أمان مطلقاً. اذ تتغلب عندئذٍ الاخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقاً بيد الكذابين والمرائين.
سأعرض لكم ما يثبت هذه الحقيقة في حكاية اوردها نموذجاً مصغراً من بين آلاف الحجج.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 522
سافر شخص الى قوم من البدو في صحراء. فنزل ضيفاً عند رجل فاضل.. لاحظ انهم لا يهتمون بحرز اموالهم. وقد ألقى صاحب المنزل نقوده في زوايا البيت مكشوفة دون تحفّظ. قال الضيف لصاحب المنزل:
- الا تخافون من السرقة؟ تلقون اموالكم هكذا في الزوايا دون تحرز؟
اجابه:
- لا تقع السرقة فينا!
- اننا نضع نقودنا في صناديق حديد مقفلة، ومع ذلك كثيراً ما تقع فينا السرقة.
- اننا نقطع يد السارق كما أمر به الله تعالى وعلى وفق ما تتطلبه عدالة الشريعة.
- فاذاً كثيرون منكم قد حرموا من احدى ايديهم!
- ما رأيت الاّ قطع يد واحدة، وقد بلغت ُالخمسين من العمر.
- ان في بلادنا يسجن يومياً مايقارب الخمسين من الناس بسبب السرقة، ومع ذلك لا يردعهم ذلك إلاّ بواحد من ألف مما تردعه عدالتكم!
- لقد اهملتم حقيقة عظيمة وغفلتم عن سرّ عجيب عريق، لذا تحرمون من حقيقة العدالة؛ اذ بدلاً من المصلحة الانسانية تتدخل فيكم الاغراض الشخصية والمحسوبيات والتحيز وما الى ذلك من الامور التي تغيّر طبيعة الاحكام وتحرّفها.
وحكمة تلك الحقيقة هي:
ان السارق فينا في اللحظة التي يمد يده للسرقة يتذكر اجراء الحدّ الشرعي عليه، ويخطر بباله انه أمر الهي نازل من العرش الاعظم، فكأنه يسمع بخاصية الايمان بأذن قلبه ويشعر حقيقةً بالكلام الازلي الذي يقول:
(والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) (المائدة: 38) فيهيج عنده ما يحمله من ايمان وعقيدة، وتثار مشاعره النبيلة، فتحصل له حالة روحية اشبه ما يكون بهجوم يُشن من اطراف الوجدان واعماقه على ميل السرقة، فيتشتت ذلك الميل الناشئ من النفس الأمارة بالسوء والهوى، وينسحب وينكمش، وهكذا بتوالي التذكير هذا يزول ذلك الميل الى السرقة، اذ الذي يهاجم ذلك الميل ليس الوهم والفكر وحدهما وانما قوى معنوية من عقل وقلب ووجدان، كلها تهاجم دفعة واحدة ذلك الميل والهوى فبتذكر الحد الشرعي يقف تجاه ذلك الميل زجرٌ سماوي ورادع وجداني فيسكتانه.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 523
اجل! ان الايمان يقيم دائماً في القلب والعقل حارساً معنوياً اميناً، لذا كلما صدرت ميول فاسدة عن تطلعات النفس والنوازع والاحاسيس المادية قال لها ذلك الحارس الرادع: محظور.. ممنوع.. فيطردها ويهزمها.
ان افعال الانسان انما تصدر عن تمايلات القلب والمشاعر وهي تنبعث من شدة تحسس الروح وحاجتها، والروح انما تهتز بنور الايمان، فان كان خيراً يفعله الانسان، وإلاّ يحاول الانسحاب ، وعندئذٍ لا تغلبه النوازع والاحاسيس المادية التي لا ترى العقبى!

الحاصل:
ان "الحد" أو "العقاب" عندما يقام امتثالاً للأمر الالهي والعدل الرباني فان الروح والعقل والوجدان واللطائف المندرجة في ماهية الانسان تتأثر به وترتبط به، فلأجل هذا المعنى افادتنا اقامة حد واحد طوال خمسين سنة اكثر من سجنكم في كل يوم! ذلك لأن عقوباتكم التي تجرونها باسم العدالة لايبلغ تأثيرها إلاّ في وهمكم وخيالكم، اذ عندما يقوم احدكم بالسرقة يَرِد الى خياله العقاب الذي ما وضع إلاّ لأجل مصلحة الامة والبلاد ويقول ان الناس لو عرفوا باني سارق فسينظرون اليّ نظرة ازدراء وعتاب، واذا تبين الأمر ضدّي ربما تزجّني الحكومة في السجن.. وعند ذلك لاتتأثرُ الاّ قوته الواهمة تأثراً جزئياً، بينما يتغلب عليه الميل الشديد الى السرقة والنابع من النفس الامارة والاحاسيس المادية - لاسيما ان كان محتاجاً - فلا ينفعه عقابكم لإنقاذه من ذلك العمل السئ. ثم لأنه ليس امتثالاً للأمر الالهي فليس هو بعدالة، بل باطل وفاسد بطلان الصّلاة بلا وضوء وبلا توجّه الى القبلة، أي أن العدالة الحقة والعقاب الرادع انما يكون اذا اُجريت امتثالاً للأمر الالهي وإلاّ فان تأثير العقاب يكون ضيئلاً جداً.
فاذا قست على هذه المسألة الجزئية في السرقة سائر الاحكام الالهية تدرك أن: السـعادة البشرية في الدنيـا مرتهـنـة باجراء العدالة، ولا تنفذ العـدالـة الاّ كما بيّنها القرآن الكريم.
(انتهت خلاصة الحكاية).



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 524
ولقد اُخطر على القلب أنه:
اذا لم يفق الانسان من غفلته بسرعة، ولم يسترشد بعقله، ويفتح ابواب المحاكم لتنفيذ عدالة الله ضمن حقائق الاسلام، فستنفلق على رأسه قيامات مادية ومعنوية ويسلّم السلاح الى الفوضويين والارهابيين ومَن هم امثال يأجوج ومأجوج!
وهكذا فلقد حكى "سعيد القديم" هذه الحكاية لقسم من النواب المتدينين، وأدرجت قبل خمسة واربعين عاماً في ذيل الخطبة الشامية العربية التي طبعت طبعتين في أسبوع واحد.
والآن فهذه الحكاية والتمثيل الاول، انما هما درسان يستفيد منهما النواب المتدينون الافاضل في الوقت الحاضر أكثر من سابقيهم، فنبيّنهما لهم درساً من دروس العبرة 1.
سعيد النورسي
_____________________
1 لقد رجونا من استاذنا ان يدرّسنا في غضون يومين الخطبة الشامية المطبوعة بالعربية، لعدم اتقاننا العربية، فتفضل علينا بشرحها، ونحن بدورنا دوّنا ما قرره علينا، وكان الاستاذ يكرر بعض الجمل ويعيدها كي يرسخها في اذهاننا، ولما كنا قد وجدنا المثال والحكاية الأخيرة واضحة، فقد ابرزناها مقدماً الى الطلاب الجامعيين والنواب المتدينين، ذلك لأن الاستاذ عندما استهل الدرس قال:
»انني اضعكم امامي بدلاً من المعلمين في ذلك القطار، واضع النواب المتدينين حقاً بدلاً من النواب المتدينين الذين سألوني عن الشريعة قبل خمسة واربعين عاماً، هكذا أتصور الأمر واتكلم في ضوئه.
فنحن نبين ما في هذه الرسالة من معانٍ اولاً لأهل المعرفة والتربية والنواب المتدينين، واذا شاؤوا نبين لهم الدروس التي اخذناها من الاستاذ لدى شرحه الخطبة لنا. واذا ارتأوا نطبعها وننشرها.
كنا نودّ ان نأخذ درساً حول السياسة الاسلامية الدائرة في العالم الاسلامي، ولكن لأن الاستاذ قد ترك السياسة منذ خمس وثلاثين سنة، فان هذه الخطبة - التي تمس السياسة - انما هي درس من دروس »سعيد القديم«.

طلاب النور
طاهرى، زبير، بايرام، جيلان،
صونغور، عبدالله، ضياء، صادق،
صالح، حسني، حمزة.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 525
ذيل الذيل
لتحيا الشريعة الغراء
26شباط 1324 رومي
الجريدة الدينية/ 73
7 مارت 1909م
أيها النواب!
سأقول جملة واحدة موجزة مع أنها طويلة. فارجو ان تلاحظوها باهتمام بالغ، اذ في اطنابها ايجاز وهي:
ان المشروطية والقانون الأساس هما العدالة والشورى وحصر القوة في القانون، مع هذا العنوان أقول:
ان الاسلام وشريعته الغراء هو:
المالك الحقيقي وصاحب العنوان المعظم.. والمؤثر الحق والمتضمن للعدالة المحضة.. ويحقق نقطة استنادنا.. ويرسي المشروطية على اساس متين.. وينقذ ذوي الاوهام والشكوك من ورطة الحيرة.. ويتكفل بمستقبلنا وآخرتنا.. وينقذكم من التصرف في حقوق الله بدون اذن منه، تلك الحقوق التي تضمن مصالح الناس كافة.. ويحافظ على حياة امتنا.. ويظهر ثباتنا وكمالنا ويحقق وجودنا امام الاجانب.. وسحر العقول والاذهان.. وينقذكم من تبعات الدنيا والآخرة.. ويؤسس الاتحاد العام الشامل نهاية المطاف.. ويولد الافكار العامة (الرأي العام) التي هي روح ذلك الاتحاد.. ويحول دون دخول مفاسد المدنية الى حدود حريتنا ومدنيتنا.. وينجينا من ذل التسول من أوروبا.. ويطوي لنا المسافة الشاسعة التي تخلفنا فيها عن الرقي في زمان قصير بناءً على سرّ الاعجاز.. ويرفع من شأننا في زمن قصير بتوحيد العرب والطوران وايران والساميين.. ويظهر الشخصية المعنوية للدولة بمظهر الاسلام..



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 526
ويخلصكم من حنث الأيمان بالمحافظة على المادة الحادية عشرة من القانون الاساس.. ويبطل الظنون الفاسدة التي تحملها اوروبا سابقاً.. ويحملهم على التصديق بان النبي محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الانبياء، وان الشريعة خالدة.. ويقيم سداً أمام الالحاد الذي يدمّر المدنية.. ويزيل بصفحته النورانية ظلمة تباين الافكار وتشتت الآراء .. ويجعل جميع العلماء والوعاظ متحدين في سبيل سعادة الامة وتنقية اجراءات الدولة وخداماً للمشروطية المشروعة.. ويؤلف قلوب غير المسلمين ويربطهم به أكثر، فعدالته المحضة رحيمة.. ويجعل اجبن شخص واكثرهم ضعة اشجع وارفع انسان ويعاملهم هكذا.. وينفخ فيهم الشعور بالرقي والتضحية ويحسسهم بحب الوطن.. ويخلصنا من السفاهة التي تهدم المدنية ومن الحاجيات غير الضرورية.. ويبعث فينا النشاط في العمل للدنيا مع تذكر الآخرة والمحافظة عليها.. ويعلمنا الاخلاق المحمودة التي هي حياة المدنية ويفهمنا قواعد المشاعر النبيلة.. ويبرئ ساحتكم ايها المبعوثون من مطالبة حقوق خمسين ألف شخص.. ويظهركم مثالاً مصغراً مشروعاً لاجماع الامة.. ويجعل اعمالكم كأنها عبادة حسب نياتكم الخالصة.. وينجيكم من الجناية التي ترتكب بحق الحياة المعنوية لثلاثمائة مليون من المسلمين..
فاذا ما اظهرتم الاسلام وشريعته الغراء واتخذتموها اساساً لأحكامكم، وطبقتم دساتيرها، فمع اغتنام فوائد الى هذا الحد هل تفقدون من شئ؟ والسلام.
فلتحيا الشريعة الغراء.
سعيد النورسي



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 527
حـقيـقـة

26 شباط 1324م
الجريدة الدينية/70
7 مارت 1909م
نحن منذ الازل داخلون في الجمعية المحمدية، فالتوحيد هو جهة الوحدة والاتحاد فيما بيننا، وقَسَمنا وعهدنا هو الايمان.
فما دمنا موحدين متحدين، فكل مؤمن مكلف باعلاء كلمة الله واعظم وسيلة لاعلاء كلمة الله في زماننا هذا هو الرقي المادي.
اذ الاجانب يسحقوننا تحت تحكمهم المعنوي بسلاح العلوم والصنائع ونحن سنجاهد بسلاح العلم والتقنية الجهلَ والفقرَ والخلاف الذي هو ألد أعداء اعلاء كلمة الله.
اما الجهاد الخارجي فنحيله الى السيوف الالماسية للبراهين القاطعة للشريعة الغراء. لأن الغلبة على المدنيين انما هي بالاقناع وليس بالاكراه كما هو شأن الجهلاء الذين لا يفقهون شيئاً.
نحن فدائيو المحبة لامكان بيننا للخصومة.
فالجمهورية 1 عبارة عن العدالة والشورى وحصر القوة في القانون، أليس من الجناية على الاسلام أن تستجدى الاحكام من اوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلاثة عشر قرناً؟ ان هذا الاستجداء شبيه بالتوجه الى غير القبلة في الصلاة.
ان القوة لابد ان تكون في القانون وإلاّ فسيتفشى الاستبداد في الكثيرين.
ولابد أن يكون المهيمن والآمر الوجداني قوله تعالى:
(ان الله لقوي عزيز) (الحج: 74). وهذا يكون بالمعرفة التامة والمدنية الكاملة أو بتعبير آخر بالاسلام. وإلاّ سيكون الاستبداد هو المستولي دائماً.
_____________________
1 وضعت هذه الكلمة حديثاً بدلاً من المشروطية الموجودة سابقاً... المؤلف.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 528
ان الاتفاق في الهدى وليس في الهوى والهوس.
نعم ان الله خلق الناس أحراراً وهم عبيد لله فقد تحرر كل شئ فنحن بامتثالنا الشريعة احرار وبتمسكنا بالمشروطية أحرار ايضاً ولن نتنازل عن المسائل الشرعية ولن نعطيها أتاوة. ان قصور فردٍ عن شئ لا يكون عذراً لقصور آخر.
اعلموا ان اليأس مانع كل كمال.
ان هدية الاستبداد وتذكاره هو: "ما لي أنا..فليفكّر غيري".
احيل الربط بين هذه الجمل الى فكر المطالع الكريم لعدم اتقاني اللغة التركية!!

سعيد النورسي



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 529
صدى الحقيقة

27 مارت 1909م
ان السبيل المحمدي مستغن ٍ عن كل ما يومئ الى الحيلة والشك لأنه منزّه عن الخداع والشبهة.
ثم ان حقيقة واسعة عظيمة محيطة الى هذا الحد - ولا سيما تجاه اهل هذا الزمان - لا يمكن ان تخفى مطلقاً.
وهل يخفى البحر العظيم في كأس؟!
اقول مكرراً أن التوحيد الالهي هو جهة الوحدة في الاتحاد المحمدي الذي هو حقيقةُ اتحاد الاسلام (الوحدة الاسلامية).
اما يمينه وبيعته فهو الايمان.
ومقرّاته واماكن تجمعاته: المساجد والمدارس الدينية والزوايا.
ومنتسبوه: جميع المؤمنين.
ونظامه الداخلي: السنن الاحمدية. والقوانين الشرعية بأوامرها ونواهيها. فهذا الاتحاد ليس نابعاً من العادة وانما هو عبادة.
فالإخفاء والخوف من الرياء. والفرائض لارياء فيها. وأوجب الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد الاسلام (الوحدة الاسلامية).
وهدف الاتحاد وقصده تحريك الرابطة النورانية التي تربط المعابد الاسلامية التي هي منتشرة ومتشعبة. وايقاظ المرتبطين بها بهذا التحريك، ودفعهم الى طريق الرقي بأمر وجداني.
مشرب هذا الاتحاد هو: المحبة. وعدوه: الجهل والضرورة والنفاق.
وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه الصفات الثلاث ليس إلاّ. وبالنسبة اليهم فسبيلنا الاقناع. لأننا نعتقدهم مدنيين. واننا مكلفون بأن نظهر



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 530
الاسلام بمظهر الجمال والحسن المحبوب. لاننا نظن فيهم الانصاف. الا فليعلم المهملون غير المكترثين أنهم لا يحببون انفسهم بالانسلاخ من الدين لأي اجنبي كان. وانما يظهرون انهم على غير هدى ليس الاّ. ومن كان على غير هدى في طريق الفوضوية لا يُحَبّ قطعاً، والذين انضموا الى هذا الاتحاد بعد التدقيق العلمي والبحث والتحري لا يتركونه تقليداً لاولئك حتماً.
نحن نعرض افكار اتحاد الاسلام الذي هو الاتحاد المحمدي ومسلكه وحقيقته للناس اجمعين. ونحن مستعدون لسماع أي اعتراض كان.
جمله شيران جهان بستهء اين سلسله اند
روبه أزحيله جه سان بكُسلد اين سلسله را
أي:
هل يقطع الثعلب المحتال سلسلةً
قيدتْ بها أسد الدنيا بأسرهم
سعيد النورسي
* * *

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-02-2011
  #50
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صيقل الإسلام

"فقرة تركتُها من "فهرس المقاصد" المنشور"
ان نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر، ينبغي أن يكون أحد مجاريه قسماً من اهل الشريعة كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع. لان الافكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يُحدث فيها هذا الماء الآسن العفن خلاف المقصود.
فلابد اذن من تصفيته بمصفاة الشريعة. وهذا الأمر تقع مسؤوليته على عاتق اهل المدرسة الشرعية.
والسلام على من اتبع الهدى
سعيد النورسي



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 531لتحيا الشريعة الاحمدية
"على صاحبها الصلاة والسلام"
5 مارت 1325 رومي
الجريدة الدينية/ 77
18مارت 1909م
ان الشريعة الغراء باقية الى الابد؛ لانها آتية من الكلام الازلي وان النجاة والخلاص من تحكم النفس الامارة بالسوء بنا هي بالاعتماد على الاسلام والاستناد اليه والتمسك بحبل الله المتين.
وان جني فوائد الحرية الحقة والاستفادة منها استفادة كاملة منوط بالاستمداد من الايمان؛ ذلك لأن من اراد العبودية الخالصة لرب العالمين لا ينبغي له ان يذلّ نفسه فيكون عبداً للعبيد.وحيث أن كل انسان راعٍ في مُلكه وعالَمه فهو مكلّف بالجهاد الاكبر في عالمه الأصغر ومأمور بالتخلق باخـلاق النـبي صلى الله عليه وسلم واحياء سنته الشريفة.
يا اولياء الامور! ان اردتم التوفيق فاطلبوه في موافقة اعمالكم للسنن الالهية في الكون - أي قوانين الله - والاّ فلن تحصدوا إلاّ الخذلان والاخفاق. لأن ظهور الانبياء عامة في الممالك الاسلامية والعثمانية انما هو رمز واشارة من القدر الالهي: أن الذي يدفع ابناء هذه الممالك الى التقدم انما هو الدين. وان أزاهير مزرعة آسيا وافريقيا وبساتين نصف اوربا ستتفتح وتزدهر بنور الأسلام.
اعلموا ان الدين لايضحى به لأجل الحصول على الدنيا. فقد كانت تعطى فيما مضى مسائل الشريعة أتاوة للحفاظ على الاستبداد البائد 1. اروني ماذا حصدنا من ترك مسائل الدين والتضحية بها غير الضرر والخيبة.
_____________________
1 المقصود عهد السلطان عبد الحميد الثاني، والاستاذ النورسي مع أنه كان يشنّع بالاستبداد إلاّ أنه يحسن الظن بالسلطان نفسه، فهو اذ يفضح مساوئ الاستبداد الذي كان يمارس باسم السلطان يبرئ ساحة السلطان فيقول عنه: السلطان المظلوم.. انه ولي من اولياء الله الصالحين. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 532
ان اصابة الامة في قلبها انما هو من ضعف الدين ولن تنعم بالصحة إلاّ بتقوية الدين.
ان مشربنا: محبة المحبة، ومخاصمة الخصومة، أي امداد جنود المحبة بين المسلمين، وتشتيت عساكر الخصومة فيما بينهم.
أما مسلكنا: فهو التخلق بالاخلاق المحمدية صلى الله عليه وسلم واحياء السنة النبوية.
ومرشدنا في الحياة: الشريعة الغراء
وسيفنا: البراهين القاطعة.
وهدفنا: اعلاء كلمة الله..
ان كل مؤمن هو منتسب - معنىً - لجماعتنا 1، وصورة هذا الانتساب هو العزم القاطع على احياء السنة النبوية في عالمه الخاص، فنحن ندعو باسم الشريعة اولئك المرشدين وهم العلماء والمشايخ من طلاب العلوم الى الاتحاد قبل اي احد سواهم.
سعيد النورسي

تنبيه خاص
ان الصحفيين الذين هم خطباء عامّون قد أوقعوا الامة في مستنقع فاسد بقياسين فاسدين:
الاول: يقيسون الولايات الاخرى على استانبول علماً ان الاطفال الذين لا يستطيعون قراءة الالفباء اذا لقّنوا الفلسفة فانه يكون تلقيناً سطحياً.
الثاني: يقيسون استانبول على اوروبا علماً ان الرجل اذا ما لبس ثوب امرأة يكون محل هزء وسخرية ويتسفل.
سعيد النورسي
____________________
1 هذه المقالة والتي تعقبها تعدّ دعوة واضحة الى الاتحاد الاسلامي والرجوع الى الشريعة والتمسك باهداب الدين ونبذ الخلافات مهما كانت صورها، وهي في الوقت نفسه تمهيد للاذهان لقبول "الاتحاد المحمدي"بمفهومه العام الشامل لجميع المسلمين، والذي اُعلن عنه رسمياً في 5/ نيسان /1909 ضمن احتفال مهيب في جامع يلصوفيا. المترجم.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 533رد الاوهام

18 مارت 1325 رومي
31 مارت 1909 ميلادي
سأرد هنا الاوهام الفاسدة التسعة التي اسندت الى جماعة الاتحاد المحمدي:الوهم الاول:
ان طرح المسألة الدينية في الاوساط لا يلائم مثل هذا الظرف الدقيق.الجواب: نحن نحب الدين ونحب الدنيا أيضاً لأجل الدين..و[ لا خير في الدنيا بلا دين].
ثانياً: ما دامت الحاكمية للشعب في المشروطية فلابد أن يثبت الشعب وجوده. وشعبنا مسلم ومسلم فقط. فليست هناك رابطة حقيقية وقوية غير الاسلام بين العرب والترك والكرد والاروناؤوط والجركس واللاز.
إن اهمالاً طفيفاً في الدين ادّى الى ارساء قواعد طوائف الملوك وظهور الجاهليات الميتة قبل ثلاثة عشر قرناً وبالتالي الى ظهور الـفتن والقـلاقـل. وقد ظهرت فعلاً وشاهـدناها.الوهم الثاني:
ان تخصيص هذا العنوان - أي الاتحاد المحمدي - يجعل غير المنتسبين اليه في شك من أمرهم.الجواب:
وقد قلت سابقاً: فإما لم يُقرأ أو فُهم خطأً؛ لذا أضطر الى التكرار وهو: عندما نقول "الاتحاد المحمدي" الذي هو اتحاد الاسلام، فالمراد هو الاتحاد الموجود الثابت بين جميع المؤمنين بالقوة أو بالفعل. وليس المراد جماعة في استانبول أو في الاناضول اذ



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 534
إن قطرة من ماءٍ تحمل صفة الماء، فلا احد خارج هذا الاتحاد، ولا يخصص هذا العنوان بأحد. وتعريفه الحقيقي هو:
ان اساس هذا الاتحاد يمتد من الشرق الى الغرب ومن الجنوب الى الشمال.. ومركزه: الحَرمان الشريفان.. وجهة وحدته: التوحيد الالهي.. عهده وقَسَمه: الايمان.. نظامه الداخلي: السنة النبوية الشريفة.. قوانينه: الأوامر والنواهي الشرعية..مقر اجتماعاته: جميع المدارس والمساجد والزوايا.. ناشرُ افكار تلك الجماعة نشراً خالداً الى الأبد: جميع الكتب الاسلامية وفي المقدمة القرآن الكريم وتفاسيره (ورسائل النور احد تلك التفاسير في زماننا هذا) وجميع الصحف الدينية والجرائد النزيهة التي تهدف الى اعلاء كلمة الله.. ومنتسبوه: جميع المؤمنين.. رئيسه: فخر العالمين صلى الله عليه وسلم.
والآن لنقف عند الصدد وهو: تيقظ المؤمنين واقبالهم نحو الاسلام ولاينكر ما للرأي العام من تأثير.. وهدف الاتحاد وقصده: اعلاء كلمة الله.. ومسلكه: الجهاد الاكبر للنفس وارشاد الآخرين.. وهمة هذه الهيئة المباركة مصروفة بنسبة تسع وتسعين بالمئة الى غير السياسة من تهذيب الاخلاق واستقامة السلوك وما شابهها من الفضائل والمقاصد المشروعة اذ ان الجمعيات المتوجهة الى مثل هذه المقاصد نادرة، علماً أن اهميتها جليلة. وهناك واحد بالمئة من المقاصد يتعلق بالسياسة وهو ارشاد السياسيين.. سيوفهم: البراهين القاطعة.. مشربهم: المحبة وانماء المحبة المندمجة في بـذرة الاخوة الموجودة بين المـؤمنـين لتصبح شجرة طوبى مباركة.الوهم الخامس 1:
ربما ينفر الاجانب من هذا الاتحاد؟الجواب:
ان مَن يجد في نفسه هذا الاحتمال جاهل لا محالة اذ يردّ هذا الاحتمال ما يلقى من خطب ومحاضرات حول الاسلام وعظمته 2 في مراكزهم وعواصمهم.
_____________________
1 لعل سبب انتقاله الى الوهم الخامس هو ان الوهمين الثالث والرابع مندمجان ضمن الوهم الثاني والله اعلم. المترجم.
2 يشير الى خطب مستر كارلايل وبسمارك وامثالهما. المترجم.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 535
ثم ان اعداءنا ليسوا الاجانب. وانما الذي اردانا الى هذا الوضع وحال بيننا وبين اعلاء كلمة الله هو مخالفتنا للشريعة الغراء نتيجة "جهلنا" بها، و"الضرورة" التي اثمرت سوء الاخلاق وسوء المعاملات و"الاختلاف" الذي انتج الاغراض الشخصية والنفاق فاتحادنا هجوم على هذه الثلاثة من الاعداء الظلمة.
أما جهل الاجانب بالاسلام في القرون الوسطى، فالاسلام مع اضطراره الى معاداة الجهل والهمجية الاّ أنه قد حافظ على العدالة والاستقامة معهم فلم يُرَ في التاريخ الاسلامي امثال محاكم التفتيش. ولما قوي ساعد المدنيين في زمن التحضر هذا فقد زال عنهم ذلك التعصب الذميم.
ان الظهور على المدنيين من منظور الدين انما هو بالاقناع وليس بالاكراه. وباظهار الاسلام محبوباً وسامياً لديهم وذلك بالامتثال الجميل لأوامره واظهار الاخلاق الفاضلة.
اما الاكراه والعداء، فهما تجاه وحشية الهمجيين.الوهم السادس:
ان البعض يقول: ان اتخاذ اتحاد الأسلام اتباع السنة النبوية هدفاً له يحدد من الحرية وينافي الاخذ بمتطلبات المدنية.الجواب:
المؤمن حرّ في ذاته. فالذي هو عبد لله رب العالمين لا ينبغي له ان يتذلل للناس، بمعنى: كلما رسخ الايمان قويت الحرية.
أما الحرية المطلقة فما هي الاّ الوحشية المطلقة بل بهيمية، وتحديد الحرية ضروري من وجهة نظر الانسانية.
ثالثاً: ان قسماً من السفهاء والمهملين يريدون أن يظلوا اذلاء أسارى النفس الامارة بالسوء فلا يروق لهم العيش الحر.الحاصل:
ان الحرية الخارجة عن دائرة الشرع، انما هي أستبداد أو أسرٌ بيد النفس الامارة بالسوء، أو بهيمية أو وحشية. فليعلم جيداً هؤلاء الزنادقة والمهملون للدين انهم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 536
لايستطيعون ان يحببوا انفسهم لأي اجنبي كان يملك وجداناً، بالالحاد والسفاهة، بل لا يمكنهم ان يتشبهوا بهم. لان السفيه والذي لا يسير على هدى لا يكون محبوباً، فالثياب الـلائقـة بإمـراة اذا ما لبسها الرجل يكون موضع هـزء وسخرية.الوهم السابع:
ان جمعية أتحاد الاسلام انما هي لشق الصف بين سائر الجمعيات الاسلامية وتولِّد الحسد والنفرة بينها.الجواب:
اولاً: ان الامور الاخروية لا حسد فيها ولا تنافر وتزاحم فايما جمعية حسدت وزاحمت الاتحاد فكأنما تنافق في العبادة وترائي فيها.ثانياً: اننا نتحد مع الجماعات المتشكّلة بدافع محبة الدين وخدمته وذلك على وفق شرطين اثنين:الشرط الاول: المحافظة على النظام العام للبلاد والحرية الشرعية.الشرط الثاني: انتهاج نهج المحبة، وعدم محاولة اظهار مزايا لها بانتقاص الجمعيات الاخرى، بل الاولى مراجعة مفتي الامة وجماعة العلماء فيما اذا ظهر خطأ.ثالثاً: ان الجماعة التي تهدف الى اعلاء كلمة الله لن تكون وسيلة لأي غرض مهما كان، واذا تشبثت بالاغراض فلا يحالفها التوفيق قطعاً لأنه نفاق، فشأن الحق عالٍ وسام ٍ لا يضحى به من اجل أي شئ كان. كيف تكون نجوم الثريا مكانس، أو كيف تؤكل كعناقيد عنبٍ؟ ان الذي يريد ان يطفئ شمس الحقيقـة بـالنفـخ انمـا يدلّ على بلاهتـه وجنونـه.
أيتها الصحف الدينية!
ان قصدنا وهدفنا هو اتحاد الجماعات الدينية في الهدف. اذ كما لا يمكن الاتحاد في المسالك والمشارب فلا يجوز ايضاً، لأن التقليد يشق طريقه ويؤدي الى القول: "مالي وما عليّ فليفكر غيري".الوهم الثامن:
ان المنتسبين الى الاتحاد - معنىً وصورة - اكثرهم من العوام وقسم منهم غير معروفين وهذا مدعاة الى حدوث فتن واختلافات.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 537
الجواب:إنما ذلك لعدم السماح في هذا الاتحاد بالتمايز بين الناس سواء أكانوا من الخاصة أم من العامة، ثم لأن المرء في الاتحاد يدعو الى اعلاء كلمة الله فكل ما يقوم به يثاب عليه ثواب عبادة.. ففي جامع العبادة يتساوى الملك والمتسول فلا امتياز، بل المساواة الحقة دستور قائم. لأن الأكرمَ عند الله هو الأتقى، والأتقى هو المتواضع، فبناءً على هذا يتشرف الشخص بانتسابه الى هذه الجماعة الخالصة لخدمة الدين والدعوة الى الآخرة، والاّ فلا يزيد الاتحاد شرفاً، اذ القطرة لا تزيد البحر شيئاً.. ثم ان الانسان كما لا يخرج عن الايمان بارتكاب كبيرة، فان باب التوبة ايضاً مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها. والبحر لا يتنجس بغرفة ماء، بل يطهّر اليد فالمنتسب الى هذا المثال المصغر للاتحاد الاسلامي يشترط عليه اتباع السنة النبوية واحياؤها وامتثال أوامرها واجتناب نواهيها وعدم الاخلال بأمن البلاد ونظامها فالمجهول الذي انتسب الى هذا الاتحاد لا يلوث قصداً هذه الحقيقة ما استطاع اليه سبيلاً وحتى لو كان المرء نفسه مذنباً فأيمانه نزيه مقدّس. والرابطة انما هي بالايمان ليس الاّ.
فتشويه هذا العنوان المقدس بحجج واهية امثال هذه انما ينجم عن الجهل بعظمة الاسلام فضلاً عن اظهار هذا المتحجج نفسه أنه احمق الناس.
نحن نردّ بكل ما اوتينا من قوة تشويه سمعة اتحادنا الذي يمثل (اتحاد المسلمين)أو التعريض به مما هو دأب الجمعيات الدنيوية الاخرى ونحن على أتم استعداد للأجابة عن أي استفسار واعتراض كان.
ان الجماعة التي انضم اليها انما هي هذا الاتحاد الاسلامي الذي فصّلنا القول فيه. والاّ فليست هي تلك التي يتخيلها المعترضون بخيالهم الباطل.
ان افراد هذه الهيئة الدينية هم معاً، سواءً أكانوا في الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال.سؤال: انت تذيّل مقالاتك وتمضيها باسم بديع الزمان وهذا يومئ الى المدح؟الجواب: كلا، ليس للمدح! وانما اريد أن اُبين - بهذا الامضاء - تقصيري. وتعليلي هو: ان البديع يعني "الغريب" فاخلاقي غريبة كمظهري، واسلوب بياني غريب كملابسي، كلها مخالفة للآخرين.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 538
فانا أرجو بلسان حال هذا العنوان عدم جعل المحاكمات العقلية والاساليب المتداولة والرائجة مقياساً لمحاكماتي العقلية ومحكاً لأساليب بياني.
ثم ان قصدي من البديع هو "العجيب" فلقد اصبحتُ مصداقاً لما قيل:
[الىّ لَعَمْري قَصْدُ كُلِّ عَجيبَةٍ كَأني عَجيبٌ في عُيُون العَجَائب]
ومثاله الواضح هو:
لقد جئت الى استانبول منذ سنة ورأيت حوادث وانقلابات تحدث في مئة سنة.
والسلام على من اتبع الهدى.
نقول بلسان جميع المؤمنين وبعددهم: فلتحيا الشريعة الأحمدية
بديع الزمان
سعيد النورسي
* * *

أخي رئيس التحرير! 1
على الادباء ان يتأدبوا، ويتحلوا بالاداب الاسلامية، فلينظم ما في وجدانهم من شعور ديني نظامَ المطبوعات، فلقد اظهر هذا الانقلاب الاسلامي:
ان المهيمن في الوجدان انما هو الحمية الاسلامية. ولقد عرف ان الاتحاد الاسلامي شامل لاهل الايمان والجيش كافة. فلا أحد خارج عنه.

سعيد النورسي
* * *
_____________________
1 المقصود رئيس جريدة »فولقان« - اي البركان - السيد درويش وحدتي اصله من قبرص كان ينشر مقالات عنيفة ضد الاتحاد والترقي مثيراً العواطف، فكان الاستاذ النورسي يتردد اليه في ادارة الجريدة وينبهه على تهوره، إلاّ أنه لم ينتفع بنصائحه فساقته عواطفه وتهوره الى الاعدام. المترجم



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 539
القطعة الاخيرة

من ذيل الذيل

هذه القطعة عبارة عن درسين القيا على الافواج الثمانية من الذين قاموا بالعصيان في حادثة 31 مارت المشهورة وعلى اثرهما اقتنعوا بالعودة الى الولاء. فهانت المصيبة من المئة الى الواحد.
نُشر هذان الدرسان في الجرائد الدينية سنة 1325 رومي - 1909م.


الى جنودنا الاشاوس

4 نيسان 1325 رومي
الجريدة الدينية عدد/107
17نيسان 1909م
ايها الجنود الموحّدون الابطال!
ايها الابطال الذين انقذوا هذه الامة المظلومة والاسلام المقدس من الوقوع في ورطتين عظيمتين!
ان عزّكم وبهاءكم في الانتظام والانضباط. وقد اظهرتموهما في احلك الظروف واحرجها واشدها اضطراباً. فحياتكم وقوتكم انما هي في الطاعة. اظهروا هذه الفضيلة المقدسة لأصغر امرائكم. فان شـرف ثـلاثين مليوناً من العثمانيين وثلاثمائة مليونـاً من المسلمين اصبح منوطاً بطـاعتكم انتـم.



صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 540
ان راية الاسلام والتوحيد الالهي في يد شجاعتكم وبطولتكم. وان قوة أيديكم المباركة انما هي في الطاعة. فضباطكم هم كابائكم المشفقين وقد ثبت بالقرآن والحديث والحكمة والتجربة: ان طاعة الآمر في الحق فرض. فكما تعلمون، ان ثلاثـين مليونـاً لم يتمكنوا ان يقوموا بمثل هذين الانـقـلابين خلال مائـة سنـة.
ولقد جعلت قوتكم التي تنبعث من طاعتكم الامة الاسلامية في شكران وتقدير وان ادامة هذا الشرف والحفاظ عليه انما هو في طاعتكم لضباطكم.
وانا اعلم أنكم لم تتدخلوا في الاضطرابات لئلا تجعلوا ضباطكم مسؤولين وهم كابائكم الرحماء بكم.
أما الآن فلقد انتهى الأمر. فارتموا في احضان شفقة ضباطكم ورحمتهم. ان الشريعة الغراء تأمرنا هكذا. إذ الضباط هم اولو الأمر. فمن جهة مصلحة الوطن والامة - ولا سيما في النظام العسكري - اطاعة اولي الامر فرض، والحفاظ على الشريعة المحمدية انما هو بالطاعة.
سعيد النورسي

* * *
صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 541خطاب الى الجنود
7 نيسان 1325 رومي
الجريدة الدينية عدد/ 10
30 نيسان 1909م
يا عساكر الموحدين! اني ابلغكم أوامر سيد العالمين صلى الله عليه وسلم:
ان طاعة اولي الأمر ضمن الدائرة المشروعة فرض. فاولياء اموركم واساتذتكم ضباطكم.
ان الثكنات العسكرية اشبه ما تكون بمعمل عظيم منتظم اذا اختل دولاب من العمل يؤثر في خراب المعمل بأكمله.
ان مصنعكم العسكري القوي المنظم نقطة استناد واعتماد ثلاثين مليوناً من العثمانيين وثلاثمائة مليوناً من المسلمين ونقطة استمدادهم.
ان قتلكم لاستبدادين عظيمين دون اراقة دم كان امراً خارقاً. ولانكم قد اظهرتم معجزتين للشريعة الغراء. فقد اظهرتم لضعفاء العقيدة قوة الحمية الاسلامية وقدسية الشريعة في برهانين اثنين.
ولو كنا نضحي بالوفٍ من الشهداء في سبيل هذين الانقلابين لكنا نعدها ضئيلة، ولكن لوضُحيَ بجزء من الف جزء من طاعتكم فهو غال جداً. لأن تناقص طاعتكم يولد الموت، كتناقص الحرارة الغريزية والعقدة الحياتية.
ان تاريخ العالم يشهد أن تدخل الجنود في السياسة قد ادّى الى اضرار جسيمة للدولة وللأمة معاً.
صيقل الإسلام/الخطبة الشامية - ص: 542
فلابد أن حميتكم الاسلامية ستصرفكم عن مثل هذه الاضرار التي تصيب حياة الاسلام التي تكفلتم بحفظها.
ان الذين يفكرون في السياسة هم بمثابة قوتكم المفكرة من اولياء الأمور والضباط. ان ما تظنونه احياناً من ضرر يصبح خيراً، لأنه يدفع ضرراً أكبر في السياسة. فضباطكم حسب تجاربهم يرون هذا الامر ويأمرونكم به. فعليكم الطاعة دون تردد، اذ لا يجوز التردد والتلكؤ.
ان الافعال غير المشروعة الخاصة لا تنافي المهارة والحذاقة في الصنعة ولا تجعل الصنعة غير مرغوب فيها. فالطبيب الحاذق مثلاً أو المهندس الماهر اذا ما تصرف تصرفاً غير مشروع فلا يؤدي ذلك الى ترك الاستفادة مما لديه من طب أو هندسة، كذلك فن الحرب، فضباطكم المجربون والماهرون المنورون فكراً بالحمية الاسلامية، اذا قام بعضٌ منهم بأمر غير مشروع لايجوز ان يؤدي ذلك الى عدم طاعتهم وعصيانهم لأن فن الحرب مهارة مهمة.
ان الشريعة الغراء التي هي قوام حياتكم قد ابتلعت الجمعيات التي تشتت الافكار وتفرّق الناس. فهي كاليد البيضاء لسيدنا موسى عليه السلام ارغمت السحرة على السجود.
ان اعمالكم كانت علاجاً لهذه الحركات الانقلابية. فاذا ما زادت قليلاً انقلبت سماً قاتلاً وأدّت بالحياة الاسلامية الى امراض جسام. ثم ان ما فينا من استبداد قد زال بهمتكم، ولكن نحن لا زلنا تحت الاستبداد المعنوي لاروربا في مضمار الرقي.
فلابد من الالتزام باقصى درجات الحذر والسكينة والهدوء.
فلتحيا الشريعة الغراء، فليعش الجنود.

سعيد النورسي
* * *
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
(( الإنسان )) في الإسلام .. الوفا لله المواضيع الاسلامية 0 07-17-2013 06:44 AM
الإسلام دين المحبة عبدالقادر حمود مقالات مختارة 2 11-27-2012 01:06 AM
صور من صدر الإسلام معين السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 2 07-19-2009 01:41 PM
أخلاق الإسلام نوح القسم العام 2 07-16-2009 02:40 PM
من أدب الإسلام هيثم السليمان المواضيع الاسلامية 12 04-17-2009 03:33 PM


الساعة الآن 12:39 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir