أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة           
العودة   منتدى الإحسان > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة


المثنوي العربي النوري - ص: 333
الرسالة العاشرة
القطعة الثالثة
من شَمَّة 1
من نسيم هداية القرآن

_____________________
1 هذه الرسالة بكاملها غير موجودة في الطبعة الاولى ، وانما هي في المخطوط وفي الطبعة التالية وهى رسالة مستقلة في الترجمة التركية. تضم خلاصة لكثير من مباحث رسالة "المدخل الى النور" والتي فصّلت في »الكلمات«.



المثنوي العربي النوري - ص: 334
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن الله التوفيق لأقوم الطريق
سبحانك يا من انطق السماء بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.
ويامن انطق الارض بحمده وتسبيحه بكلمات الاشجار والنباتات..
وانطق النبات والشجر بكلمات الازهار والثمرات..
وانطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات..
وانطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبات..
سبحانك يامن يسبح بحمدك الضياء بانواره، والهواء باعصاره، والماء بانهاره، والارض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجو بأطياره، و السحاب بامطاره، والسماء باقماره.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس 1 الانبياء، وزبرقان 2 الاصفياء ونيّر 3 الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين 4. وعلى آله نجوم الهدى، واصحابه مصابيح الدجى.
_____________________
1 النبراس: المصباح.
2 بكسر الزاي والباء : اي القمر.
3 بفتح النون وتشديد الياء: المقصود الشمس.
4 افق المشرق والمغرب.



المثنوي العربي النوري - ص: 335
اعلم ! 1 يا من يضيق ذهنُه عن فهم سرّ: (وجَعَلناها رُجُوماً لِلشَّياطين) 2 ان للصعود الى سماء هذه الآية سلّماً ذا درجات سبعة:
الاولى : ان للسموات سكانا يناسبونها يسمون بالملائكة، اذ امتلاء الارض مع حقارتها بالنسبة الى السماء من ذوي الحياة والادراك، يشير بل يصرح بامتلآء السموات ذات البروج - تلك القصور المزينة - من ذوي الادراك.
وكذا ان تزيين الكائنات بجميع هذه التزيينات والمحاسن والنقوش مستلزمةٌ لوجود انظار متفكرين مستحسنين بالحيرة والتقدير؛ اذ لا يُظهَر الحُسن الاّ لعاشق، كما لا يُعطى الطعام الا لجائع. مع انه لا يكفي الجن والانس لعُشر معشار عشير هذه الحشمة والوظيفة، بل لا تقوم بها الا ما لا يعد من انواع الملائكة والروحانيات.
الثانية: ان للارض علاقة مع السماء ومعاملة معها وارتباطا يجئ منها اليها اشياء، من الضياء والحرارة والبركات وغيرها. فبالحدس القطعي نعلم ان للارضيين طريقاً يصعدون فيها الى السماء، اذا خَفّوا بوضع اثقالهم وخلع اجسادهم كالانبياء والاولياء والارواح.
الثالثة: ان سكونة السماء وسكوتها وانتظامها واطرادها تدل على ان اهلها ليس كأهل الارض التي فيها اضطراب وتذبذب واختلافات وامتحان بمشاجرات، بسبب اختلاط الاشرار بالاخيار واجتماع الاضداد، بل كل اهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون.
الرابعة: ان لمالك يوم الدين ولرب العالمين اسماءٌ متغايرةٌ احكامها، فالاسم الذى اقتضى انزال الملائكة للمحاربة في صف الصحابة مع الكفار، يقتضي وقوع المحاربة بين الملائكة والشياطين؛ أي السماويين الاخيار والارضيين الاشرار. الا ترى السلطان كيف يفعل ؟ اذ قد يقتضي شأن سَطوته واسم حشمته تشهير استحقاق المكافأة والمجازاة على رؤوس الأشهاد، او اعلان تعظيم بعض خدامه، بان لا يعامِلهم بعِلْمِه بهم فقط، وبتلفونه الخاص، بل يأمر الوزيرَ فيحشّد الناس لميدان مبارزة محتشمة، وامتحان علوي، واستقبال سياسي..
_____________________
1 تفصيل هذا البحث في الكلمة الخامسة عشرة والكلمة التاسعة والعشرين.
2 الملك: 5



المثنوي العربي النوري - ص: 336
الخامسة: انه لابد ان يقلِّد اشرار الروحانيات اخيارهم في تشبث الذهاب الى مملكة السماء للطافتهم، ولابد ان لايقبلهم اهلُ السماء ، بل يطردونهم لشراراتهم. ولابد في حكمة سلطنة الربوبية ان يكون لهذه المبارزة المعنوية والمعاملة المهمة علامة واشارة في عالم الشهادة لاشهاد الانسان الذي اهم وظيفته المشاهدة والشهادة مع انه لايرى فيما بين الحادثات السماوية انسب من اعلان هذه المبارزة العلوية من رمي الشهب المشابهة للمنجنيقات المرماة من بروج الحصون الرفيعة، مع انه لايرى لهذه الحادثة حكمةً تناسبها غير هذه الحكمة المشهورة المشهودة لجميع أهل الحقيقة، خلاف سائر الحادثات.
السادسة : ان القرآن الحكيم المعجز يرشد البشر ويزجره من العصيان باسلوب غال ومثل عال.. فانظر الى انذار
(يَاَ مَعْشَرَ الْجِنِ والانْسِ ان اسْتَطَعْتُمْ انْ تَنْفُذُوا مِنْ اقْطَارِ السَّمواتِ واَلارْضِ فَانْفذُوا لاتَنفذُونَ الاَّ بسلْطان) 1 الآية في تعجيز الثقلين، واعلان عجزهما في جنب وسعة سلطنة الربوبية، كأنّهُ يقول : ايها الانسان الحقير الصغير العاجز! كيف تعصي سلطاناً يطيعه الشموس والاقمار والنجوم والملائكة الذين يرجمون الشياطينَ ببنادقَ كأنها جبالٌ بل اعظم! وكيف تتجاسر على العصيان في مملكة سلطانٍ؛ من جنوده مَن يقتدر ان يرمي في وجه الاعداء بنجومٍ في عظمة ارضكم كما ترمى جوزك وبندقتك.
السابعة: ان النجم كالمَلك والسَمَك له افراد في غاية الصغر وفي غاية الكبر. فكل ما يضئ في وجه السماء فهو نجم، فمن هذا النوع مايُزَيّن به السماء كالجواهر والاثمار والاسماك 2، ومنه مايُرجم به الشياطين كالمنجنيقات المرماة للطرد، او للاشارة الى وجود الحارسين المتيقظين المطيعين المجتنبين عن اختلاط العاصين، او للرمز الى جريان قانون المبارزة في اوسع الدوائر.. ولله الحجة البالغة والحكمة القاطعة.
اعلم ! ان الآيات المصرحة بكتابة الاشياء قبل كونها وبعد كونها كثيرة، كأمثال
(ولاَ رَطْبٍ ولاَ يَابِسٍ الاَّ في كِتابٍ مُبينٍ) 3 ويصدقها منظومات مكتوباتُ
_____________________
1 الرحمن : 33
2 اي ان هذه الافراد الكثيرة لنوع النجم تزيّن وجه السماء وتتلألأ كالجواهر ، كما تزين الاثمار البساتين الغناء والاسماك البحار.
3 الانعام : 59



المثنوي العربي النوري - ص: 337
كتاب الكائنات وموزونات آياتها، لاسيّما آيات النظام والميزان والانتظام والتصوير والتزيين والامتياز.
أما قبل الكون، فالدليلُ جميع المبادي والبذور وجميع المقادير والصور، اذ ما البذور: الا صُنيدقات لطيفة اودعت فيها فهرستة ما رسمَه القَدر، فتبني القدرةُ وتستخدم الذرات على هندسته. وما المقادير الا مكتوبات قدرية منظومة، وقوالب علمية موزونة؛ اذ الذرات الصم العمي الجامدة تتحرك في نمو الاشياء ثم تتوقف عند حدود معوجة، توقف سميع بصير بمظانّ الفوائد والثمرات. وهكذا فقس كثرة براهين الكتابة قبل الكون.
واما الدليل على الكتابة بعد الكون؛ فمن العالم جميع الثمرات التي هي كمطويات صحائف اعمال الاشجار والازهار، تَنشرُ على رأس الأشهاد ما جرى على رؤوس اصولها، اذا دُفنت في الارض وحُشرت في الربيع. ومن الانسان قوته الحافظة التي هي في محل كالخردلة في الصغر، وما هي الاّ كسَنَدٍ استنسخته يَدُ القدرة بقلم القدر من صحيفة الاعمال، واعطَتْه ليد الانسان ليتذكّر به وقت المحاسبة، وليطمئن ان خلفَ هذا الهرج والمرج والفناء والزوال: مرايا للبقاء رَسَم فيها القدير هويات الزائلات، والواحٌ يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات..
اعلم ! انه كما ان الساعة غير ثابتة بل متزلزلة مضطربة الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى ايضاً متزلزلة. فبادراج الزمان فيها صار "الليل والنهار" كميلين يعدّان ثوانيها، و"السنة" ابرةً تعد دقائقها، و "العصر" كإبرة تعد ساعاتها. وبادراج المكان فيها صار "الجو" بسرعة تغيره وتحوله وتزلزله كميل الثواني. و"الارض" بتبدل وجهها نباتاً وحيواناً، موتاً وحياةً كميل الدقائق. وبتزلزل بطنها وتولد "جبالها" كميل الساعات. و"السماء" بتغيراتها بحركات اجرامها وظهور ذوي الأذْناب والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعد الايام.
فالدنيا المبنية على هذه الاركان السبعة - مع انها واصفة لشؤونات الاسماء ولكتابة قلم القدرة والقدر - فانية هالكة متزلزلة راحلة كالماء السيال في الحقيقة. لكن تجمّدت صورةً بالغفلة، وتكدّرت بالطبيعة فصارت حجاباً عن الآخرة.


المثنوي العربي النوري - ص: 338
فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودَتها وكُدورَتَها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعية. واما القرآن فينفش الدنيا كالعهن المنفوش بآياته، ويشفّفها ببيّناته، ويذيبها بنيّراته، ويمزق ابديتها الموهومة بنعيّاته، ويفرّق الغفلة المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقة الدنيا المتزلزلة تقرأ بلسان حالها المذكورة آية: (واذا قُرىءَ الْقُرآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرحَمون) 1.
اعلم ! ان مميز الانسان عن الحيوان شمول علاقته بالماضي والمستقبل، وكلية ادراكه بالانفس والآفاق.. وكشفه لترتب العلل الظاهرية في انشاء الاشياء الظاهرية. فاعظم وظيفته واقدمها 2، واتم جهازاته والزمها؛ التسبيحُ والتحميد بالجهاز المخلوق لهما، فيسبح الانسان صانعه بلسان الماضي والحال والمستقبل، وبألسنة الانفس والآفاق 3.. وبسر مشاهدته لتسبيحات المخلوقات وشهادته عليها يثني على صانع الاشياء بقراءة اسمائه المكتوبة بالترتيب والترتب في حكمة صنع الاشياء.
فسبحان الله يتضمن معنى الحيرة والتقدير، ومعنى التعجب والاستحسان، ومعنى التنزيه والتقديس، ومعنى الهَيبة مع المحبة، ومعنى المجهولية للعظمة...
اعلم ! ان لله عطايا، وقضايا، ومقدرات.. ينفذ العطاءُ في القضاء ، والقضاءُ في القدَرَ. اي يخرق العطاءُ قانونَ القضاء. كما تنخرق صلابة الحجر والتراب عند مرور العروق اللينة، وتنكسر مقاومةُ الحديد للمَيل اللطيف من الماء اللطيف عند الانجماد، ويُخرق لسهم القضاء قانونُ القدر كما ينخرق القانون الكلي الذي هو قَدَرُ النوع بشذوذ الجزئيات الخارقة المخصّصة للاشارة الى انه سبحانه فاعلٌ مختار يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ويَحْكُمُ ما يريدُ لامانع لما اعطى ولا راد لما قضى.
فنسبة العطاء الى القضاء كنسبة القضاء الى القدر، اي العطاء شذوذٌ عن قانون القضاء كما يقول العارف بحقيقة الحال: "يا الهي ان حسناتي من عطائك، وسيئاتي من قضائك. لولا عطاؤك لكنت من الهالكين". اي استعداد النفس الامارة بالسوء قانون شر وهلاك.
_____________________
1 الاعراف: 204
2 اي: اولى الوظائف واهمها (ت: 188)
3 اي ان الانسان يحمد ربه ويسبّحه بما أنعم عليه في الماضي والحال وما سينعم عليه من نعم في المستقبل ، وبما يجده منها في نفسه او في الافاق (ت: 188)



المثنوي العربي النوري - ص: 339
اعلم ! ان السر في تختيم الآيات بفذلكات متضمنة للاسماء الحسنى - كامثال آية الملك، او بعين الاسماء كما في كثير من الآيات، هو:
ان القرآن الحكيم ببيانه الاعجازي يبسط الآثار للنظر، ثم يستخرج منها الاسماء، كامثال آية:
(وهُو الَّذي يَبْدَؤا الخَلْقَ ثُمَّ يُعيدهُ وهُوَ اهْوَنُ علَيْه ولَهُ المثلُ الاعْلى في السَّموات والارْض وهو العزيز الحكيم) 1
وكذا ينشر للبشر منسوجات صُنعه، ثم يطويها في الاسماء.
وكذا يفصّل أفاعيله ثم يَجْملها باسمائه.
وكذا يرتب المخلوقات ويشفّفها باراءة النظام والميزان والفوائد، ثم يريك فيها الاسماء كأن تلك المخلوقات الفاظ، وهذه الاسماء معانيها او ماؤها او نواتها ايجاداً وخلاصتها علماً.
وكذا يذكر الجزئيات المادية المتكيفة المتغيرة، ثم يجملها بالاسماء الكلية النورانية الثابتة..
وكذا يفرش الكثرة المتوسعة المنتشرة، ثم يضع عليها مظاهر الوحدة كجهة الوحدة..
وكذا يُظهِر باظهارِ غاياتِ المسبَّبات بُعْدَ ما بين الاسباب والمسبَّبات المتصلتين في الظاهر، كما يُرى تماس الافق بالسّماء في ظاهر النظر، مع ان ما بينهما مسافة مدهشة. اذ لا طاقة لأعظم الاسباب بذاته على حمل اخف المسبَّبات، فيُظهر القرآنُ باظهار هذا البُعد محل ظهور الاسماء ومَطَالِعها.
وكذا قد يذكر افاعيل الخلق فيهدّد، ثم يسلّي باسماء تشير الى الرحمة.. وقد يذكر مقاصد جزئية، ثم يقررها باسمآء هي كالقواعد الكلية والبراهين عليها 2..
اعلم 3! ان العجز كالعشق طريقٌ موصلٌ الى الله بل اقرب وأسلم. ثم ان اهل السلوك سلكوا في طرق الخفاء على اللطائف العشرة، وطرق الجهر على النفوس السبع.. وهذا العاجز استفاد من القرآن طريقاً قصيراً، وسبيلاً سوياً هو اربع خطوات:
_____________________
1 الروم:27
2 رسالة "المعجزات القرآنية" تفصّل هذه المسائل بأمثلة كثيرة.
3 تفصيله في ذيل الكلمة السادسة والعشرين.




المثنوي العربي النوري - ص: 340
الخطوة الاولى: ما اشارت اليها آية (فلا تُزكّوا انْفُسكم) 1.
والثانية: ما اشارت اليها آية:
(ولاَ تكونُوُا كالذينَ نَسوُا الله فأنسـيهم انفْسَهُم) 2.
والثالثة: ما اشارت اليها آية:
(مَا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله ومَا اصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) 3.
والرابعة: ما اشارت اليها آية:
(كُلُّ شَيْء هَالِكٌ الاَّ وَجْهَهُ) 4.
وايضاحه: ان الانسان بحسب جبلّته محب لنفسه، بل لا يحب بالذات - في الاول - الا ذاته، فيمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود، ويدافع عن نفسه بشدة وينزّهها عن المعايب ولا يقبل القصور لها ما امكنه، حتى كأنه يصرف الجهاز المخلوق فيه لحمد معبوده وتسبيحه الى نفسه، كمن اتخذ إلهه هواه. فلابد من تزكيتها هنا بعدم تزكيتها.
والثانية: نسيان النفس في مقام الكُلفة والخدمة، وشدة إلتزامها في مقام اخذ الاُجرة والحظوظات. فتزكيتها عكس هذه الحالة اي: عدم النسيان في عين النسيان.
والمرتبة الثالثة: لا يرى من نفسه الاّ القصور والنقص والعجز والفقر، ويرى كل المحاسن نِعَماً من جانب فاطره تقتضي الحمد لا الفخر، فتزكيتُها في هذه المرتبة؛ علمها بان كمالَها في عدم كمالِها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها..
والخطوة الرابعة: دركُ انه في نفسه وبالمعنى الاسمى فان مفقودٌ حادثٌ معدومٌ، وبالمعنى الحرفي - والمرآتية لاسماء صانعه - شاهدٌ مشهودٌ وواجدٌ موجودٌ. فتزكيتُها هنا: معرفةُ ان عدَمَها في وجودها، ووجودها في عدمها، ووِردُها: له الملك وله الحمد.
وكذا ان مشرب اهل وحدة الوجود يذهب الى اعدام الكائنات بنفي وجودها. ومشرب اهل وحدة الشهود يذهب الى حبس الموجودات في سجن النسيان المطلق.
_____________________
1 النجم: 32
2 الحشر: 19
3 النساء: 79
4 القصص: 88



المثنوي العربي النوري - ص: 341
واما ما افهم من منهاج القرآن فهو: عفوها عن الاعدام والحبس، بل استخدامها في وظائف اعلان الاسماء الحسنى بالمظهرية والمرآتية: بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وعزلها عن الخدمة بالمعنى الاسمي وبحساب نفسها..
ثم ان الانسان في وجوده دوائر متداخلة ومصنوعات متراكبة؛ اذ هو نبات، وحيوان، وانسان، ومؤمن.. فالمعاملة للتزكية قد تقع اولاً في الطبقة الرابعة الايمانية. ثم تتنازل الى النباتية التي هي شديدة المقاومة، وقد تقع المعاملة في الكل في اليوم والليلة. ومما غَلَط فيه الانسان عدم الفرق بين تلك المراتب فيقول: خلق لنا ما في الارض جميعا، فاولاً يغلط بظن انحصار الانسانية في معدته النباتية او الحيوانية. ثم يغلط بانحصار غايات الاشياء في ما يؤول الى نفسه. ثم يغلط بتقدير قيمة الاشياء بمقياس مقدار منفعته منها، فلا يشتري نجم الزهرة بزهرةٍ مشمومة..
اعلم 1! ان العبودية نتيجة النعمة السابقة وثمنها، لا مقدمة المكافآت اللاحقة ووسيلتها.
ايها الانسان! اخذت اجرتك؛ اذ صنعك هكذا في احسن تقويم. ثم تَعرَّفَ اليك باعطاء الايمان.
نعم، كما انه باعطاء المعدة أنعمَ عليك بجميع المطعومات.. كذلك باعطاء الحياة صيَّر لك عالمَ الشهادة سفرةً مملؤةً من النعم. فانظر الى تفاوت السفرتين. وكما انه باعطاء النفس الانساني جعل لهذه المعدة عوالم الملك والملكوت مائدةً مشحونة بالنعم.. كذلك باعطاء الايمان فرش لك مع الموائد المزبورة موائد مدخرات كنوز اسمائه.. وباعطاء محبته فتح لك ومنحك ما لا يوصف، فاذا اخذتَ مثل هذه الأجرة، فعليك بالخدمة. فاذا اعطاك بعد العمل نعمة اخرى فما هي الاّ من محض الفضل..
اعلم! ان ما يشاهد من الجود بلا حساب في تكثير افراد الأنواع، لا سيما في صغار المخلوقات مع كمال الاتقان وحسن الانتظام، يشير بل يصرح بعدم التناهي في تجليات الصانع.. وبمباينة ماهيته.. وبتساوي الاشياء بالنسبة الى قدرته.. وبوجوبه.
_____________________
1 تفصيله في الثمرة الثانية من الغصن الخامس للكلمة الرابعة والعشرين.



المثنوي العربي النوري - ص: 342
نعم، ما هذا الجود والايجاد الا من ذلك الوجوب ومن برهانه. والجود في النوع جلالي، والاتقان في الفرد جمالي 1...
اعلم! ان الصنعة الانسانية تسهل على الصانع بدرجة علمه بها، وتَعسر بمقدار جهله، لاسيما في المصنوعات اللطيفة الدقيقة الجهازات. فكلما كان أعلمَ كانت عليه ايسر واسهل. فما يشاهد من السهولة بلا حدّ في السرعة المطلقة والوسعة المطلقة في خلق الاشياء المنتظمة، يدل قطعاً وحدساً على ان لصانعها علماً لا نهاية له. كما تشير الى تلك السهولة آية
(ومَا امْرُنَا الاَّ واحِدةٌ كَلَمحٍ بالْبَصَر) 2
اعلم! انه كما ان مَن لف على مصنوعٍ او مصنوعات لفائف مصنوعة، وألبس مكنونةً مزينةً أو مكنوناتٍ اقمصةً نُسجت من جنس مادتها - كالجلود - وادرج متولدات منحوتات من بطونٍ متراكمة في اجوافها، لاشك ولاريب ان المظروفَ كالظرف، والمحاطَ كالمحيط صنع واحدٍ ومالُه وملكُه ..
كذلك لا شك ولا ريب ان من لف لفائف الوحدة الاتصالية والنوعية على الكثرة، كوحدة الكل والكلي والظرف.. وكذا ألبس على قامات جماعات هذه المصنوعات المنثورة اقمصةَ هذه العناصر التي كأمهاتها.. وكذا ادرج هذه المخلوقات لاسيما الحيوانات التي هي تماثيل مصغرة لهذه العوالم الكبيرة في اجواف تلك العوالم اللواتي هن كأبنية متداخلة ضربت على موجودات هن كثمراتها او نواتاتها، ماهو الا واحدٌ احدٌ صمدٌ يتجلى على المحيط بالواحدية، وعلى المحاط بالاحدية..
اعلم! 3 انه كما ان للسلطان عنوانات متنوعة لحاكميته في دوائر حكومته وطبقات رعيته ومراتب سلطنته ووظائف اميريته، كأنه موجودٌ حاضرٌ ومشهودٌ ناظرٌ في كل دائرةٍ وخلفَ كلِّ حجابٍ بممثله وقانون نظامه، كذلك مثلا: ولله المثل الاعلى ان من له الاسماء الحسنى، له تجلٍ في عالَمٍ عالَمٍ بعنوان اسمٍ من اسمائه الحسنى ويستتبع ذلك الاسم في دائرة سلطنته سائرُ الاسماء بل يتضمنها.. وكذا
_____________________
1 اي يتجلى جلاله سبحانه اذا نظر الى النوع - بافراده الكثيرة - اما اذا ما انعم النظر في كل فرد فيتجلى جمال الاتقان في الصنعة . ففي الفرد يتجلى الجمال وفي النوع يتجلى الجلال.
2 القمر: 50
3 تفصيله في الغصن الاول من الكلمة الرابعة والعشرين وفي الكلمة الحادية والثلاثين.




المثنوي العربي النوري - ص: 343
يتصرف في كل طبقةٍ طبقةٍ كلاًّ وجزءاً، كلياً وجزئيا بتجل خاص في ربوبية خاصة بجلوات اسم خاص، اي يتجلى عليه بخصوصية كأنه يخصّه، مع انه يعمُّ ويحيط.
وله سبحانه في مراتب ربوبيته شؤونات متناظرة.. وله في سرادقات الُوهيته اسماءٌ متعاكسة.. وله في مرايا حشمته تمثيلات متفاوتة.. وله في تصرفات قدرته عنوانات متنوعة.. وله في تجليات صفاته ظهورات متزاهرة. وله في جلوات افاعيله تصرفات متظاهرة.. وله في تنويع مصنوعاته ربوبيات متدائرة على تجلي الاحدية على جزئيات محاط الواحدية، كما اشار الى هذه الحقيقة العظيمة الواسعة ترجمان لسان القدم في مناجاته في "الجوشن الكبير" 1 وهذه المناجاة مشتملة على تسعة وتسعين عقدة، وصدفٍ كل منها متضمنة لاثني عشر من جواهر التوحيد صريحاً او ضمناً؛ اذ اذا نودى احدٌ بوصفٍ مطلق في مقام التعيين يدل على انحصار الوصف فيه. مثلاً: "يادائم" أي: يامن لا دائم في العالم الا هو. فله سبحانه حجب نورانية الى سبعين الفاً، كما روي 2.. ولوجود المنافذ في الحجب والتناظر في الشؤونات والتعاكس في الأسماء، والتداخل في التمثيلات، والتمازج في العنوانات، والتشابه في الظهورات، والتساند في التعرفات، والتعاضد في الربوبيات، وتجلي الاحدية في احاطة الواحدية، لزم البتة لمن عرفه سبحانه في واحد مما مرّ، ان لا يستنكره في سائر ذلك، بل يفهم بالبداهة انه هو هو.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الانْسَانَ في احْسَنِ تَقْويمٍ) 3
اعلم! ان من عجائب جامعية فطرة الانسان، ان ادرج الفاطرُ الحكيمُ في هذا الجرم الصغير موازين لا تعد، لوزن مالا يُحدّ من مدخرات رحمته. وادمج فيه آلاتٍ لا تُحصى جهازاتُها المعنوية لفهمِ مالا يتناهي من مكنونات كنوز اسمائه الحسنى.
انظر الى حواسك العشرة كيف احاطت بالوان عوالم المسموعات، والمبصرات، والمذوقات وغيرها.. وكذا اعطاه جزئيات صفات واحوال من الارادة والعلم والسمع
_____________________
1 ) الجوشن : لغة : الصدر والدرع. والمقصود هنا مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم المروية عن زين العابدين رضي الله عنه.
2 عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان الله عز وجل دون سبعين ألف حجاب من نور وظلمة وما يسمع من نفس شيئاً من حس تلك الحجب الاّ زهقت) رواه الطبرانى في الكبير 5802، وابو يعلى 2 / 355
3 التين: 4

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة


المثنوي العربي النوري - ص: 344
وغيرها لفهم صفاته المحيطة وشؤونه الواسعة.. وكذا لفّ على انانيته لفائف بعدد العوالم وألوانها، ليعرف حالها بتلك اللطائف.. وكذا ألبس على قامة ماهيته اقمصة بعدد حجب الربوبية ليترقى فيها بقطعها.. وكذا اودع فيه لطيفة مدركة، بصورة عجيبة، بحيث تصير الحافظة التي هي في صغر الخردلة كعالَمٍِ واسع، تسير تلك اللطيفة في تلك الخردلة دائما، ولا تصل الى ساحلها. ومع ذلك قد يضيق على تلك اللطيفة هذا العالم الكبير. فتحيط هي بهذا العالم، وتحيط بها وبجميع ميادين جولانها ومكاتيب مطالعتها هذه الخردلة. فسبحان من صغّرها بلا غاية في عين كبرها بلا نهاية.
ومن هذا السر تتفطن لتفاوت مراتب الانسان؛ فمن الانسان من يغرق في ذرة، ومن الانسان من تغرق فيه الدنيا؛ ثم ان الانسان قد يفتح بمفتاحٍ من مفاتيحه الموهوبة عالماً واسعاً من ابسط ما انتشرت اليه الكثرة، فيضل فيها فلا يصل الى الوحدة والتوحيد الاّ بعسر عظيم. فللانسان في معناه وسيره الروحي طبقات ؛ ففي طبقة يتيسر له باليسر والسهولة الحضور والتوحيد، وفي طبقة اخرى تستولي الغفلة والاوهام، وقد تتسع عليه الضيقة بحيث يغرق في الكثرة غرقاً تاما، فينسى الوحدة رأساً.
وان المدنيين الذين توهموا السقوط ترقياً، والجهل المركب يقيناً، الانغماس التام في النوم انتباهاً، هم في هذه الطبقة السفلى. فهم ابعد بدرجات من البدويين من درك الحقائق الايمانية.
اعلم! ان الواحدية تدل على ان الاسم يحيط بكل شئ. وان الاحدية تدل على ان كلَّ شئ حي ؛ يشير الى كل اسم له تعلق بالكون، فالتجلي بالواحدية باحاطته بكل الاشياء، وبالاحدية باراءة كل شئ لكل الاسماء.
اعلم! ان اكثر مظاهر الجلال تجلي الاسماء على الكل والكليات والانواع والجماعات. والجود المطلق في النوع من تجلي الجلال. وان اغلب مرايا الجمال المتجلي، نقوشُ جزئيات الموجودات، وجمال اشخاصها مع تزايد الحسن، وجلاء المرآتية بتلاحق الامثال في تكثير الافراد، والاتقان والانتظام الاجمل في شخصٍ


المثنوي العربي النوري - ص: 345
شخص من تجلي الجمال.. وكذا يظهر الجلال من تجلي الواحدية ؛ ويظهر الجمال من تجلي الاحدية. وقد يتجلى الجمال من الجلال كما يتجلى الجلال من الجمال.. فما اجمل الجلالُ في عين الجمال، وما اجمل الجمال في عين الجلال!.
اعلم! ان شهود البصر للمصنوع المصنّع المرصّع، مع عدم شهود البصيرة لصانعه ليس الا: اما لعدم البصيرة او عميها، او ضيقها من عظمة تصور المسألة، او للخذلان. والا فهو 1 انكرُ من انكار شهود البصر، كالسوفسطائي بل اشنع واكمه 2...
اعلم! انه كما ان من زرع بذرا في مزرعة، وعمتها حبات البذر ولو منمنمة 3، تكون المزرعة محمية له، ومصونة من تصرف الغير بالزرع مرة اخرى، حتى كأن البذر سور معنوي.. كذلك كل نوع من انواع النباتات والحيوانات المزروعة المبثوثة في مزرعة الارض والمنثورة المنشورة في اكثر وجهها، سور يمنع الشركة، وحارسٌ يطرد الغير، وحامٍ يردّ الاوهام. فكيف بتساند المجموع، وتعاضد الجميع بتلاحق الشواهد وتعانق الافراد؟!
اعلم! انه كما ان من يحب ان يشاهد في رياض جنته وحديقته المنتظمة، صورة القفار الغير المنتظمة، ومثال احجارها الموحشة، وتماثيل اعوجاجاتها المشوشة؛ لإظهار لطافة تنظيماته، وقد يصنع فيما بين منظومات بستانه صخور الكهف بتنحيتاتٍ مشوشة، فكمالُ انتظامها هنا، في عدم انتظامها. لكن يتفطن المدقق ان تنظيم هذا بعدم الانتظام ؛ انما هو بقصد ناظم حكيم ـ ؟
كذلك ان مايُشاهد فيما بين المخلوقات المنظومة والمصنوعات الموزونة، من القفار المختلفة الاشكال المشوشة، ومن الجبال والآكام المتفاوتة الاحجار البعيدة عن النظام؛ بدرجة تتوهم النظرة الحمقاء الظاهرية ان لعبَت بها يدُ التصادف، ما هي الا منتظمةٌ بعدم التنظيم، ومشوشيته السطحية بقصدِ صانعٍ حكيم وفاطر عليم، بشهادة احاطة المنظومات والموزونات بها وفرشها عليها، كنظم الدرر المنظومة على نحور الجواهر
_____________________
1 اي: عدم شهود البصيرة للصانع ، اي انكار الصانع!
2 كمه كمها: عمى ، اكمه: اكثر عمىً ، وشبه بالسوفسطائي لانه ينكر وجود الاشياء بل حتى نفسه.
3 صغيرة الحبوب.




المثنوي العربي النوري - ص: 346
المنثورة لاظهار شعشعة الصنعة المنتظمة، وكاراءة شدة الظلمة لتلك النيرات. فانظر الى الاشجار ذوات الاشواك، والى النباتات المجهزة برماح اشواكها لدفع آكل النباتات، حتى ترى انتظاماً عجيباً في عدم انتظامها، ولطافةً ظريفةً في خشونتها الموحشة. ومن امارات كون عدم الانتظام كالانتظام بقصد صانع حكيم؛ عدم توافق شكل بعضٍ لبعضٍ بدرجة كأن كل فرد من نوع مستقل منحصرٍ في ذلك الشخص، مع اتحاد النوع وتآخذ اسباب التوافق. فعدم التوافق دليل عدم الاتفاقي وعدم التصادف.
اعلم! ان من مزايا جامعية فطرة الانسان، ومن مميزاته على سائر الحيوان، فهمه لتحيات ذوي الحياة لواهب الحياة. اي انه كما يفهم كلام نفسه، يفهم بسمع الايمان جميع كلمات ذوي الحياة المسبّحات ، بل الجمادات. فكل منها يفهم كلام نفسه فقط - على ما يظهر - كمتكلّمٍ اصمّ من هذه الجهة. واما الانسان فمتكلمٌ سميعٌ يسمع في وسعة البصر، اي يمكن له ان يسمع في وقتٍ بلا مزاحمة ما تتكلم به الموجودات من ادلات الاسماء الحسنى. فقيمة كل منها بمقدار نفسه؛ وقيمة الانسان المؤمن بمقدار الكل . فهو فردٌ كنوعٍ ، بل كانواع.. والله اعلم بالصواب..
اعلم! ان الحقيقة تشبه الظاهر في الصورة، مع عظمة بُعْدِ ما بينهما في نفس الامر. مثلا: التوحيد العامي الظاهري يَثْبُتُ بأن لا يُثبَت ولا يُسند شئ من الاشياء الى غيره تعالى، وهذا النفي سهل بسيط. واما التوحيد لاهل الحقيقة فانما يَثْبُتُ بان يُثْبِتَ كل شئٍ مما يشاهد من الاشياء ويسنده اليه سبحانه، ويرى فيه سكته ويقرأ عليه خاتمه جل جلاله. وهذا الاثبات يثبت الحضور وينافي الغفلة...
اعلم! ان من حكمة امهال الكافر المتوجّه بالمعنى الاسمى والقصد الذاتي الى هذه الحياة الدنيوية؛ خدمته لتظاهر الوان نعمه تعالى الحاصلة بالتركيب الصنعي، وان لم يشعر هو.. وكذا تنظيمه لمحاسن جميلات مصنوعاته تعالى ، وان لم يفهم هو.. وكذا تشهيرُه بطرزٍ جالبٍ للنظر لغرائب صنعته سبحانه، وان لم يتفطن هو.. كالساعة تعلمك عدد الساعات وهي لا تعلم ماتعمل هي..


المثنوي العربي النوري - ص: 347
اعلم! انه يمكن ان يذهب الموفَّق من الظاهر الى الحقيقة بلا مرور على برزخ الطريقة؛ وقد رأيتُ من القرآن طريقا الى الحقيقة بدون الطريقة، اي المشهورة. وكذا رأيت طريقاً موصلاً الى العلوم المقصودة بدون المرور على برزخ العلوم الآلية.
نعم ومن شأن الرحمة الحاكمة ان تُحسِن لابناء هذا الزمان - السريع السير - طريقاً هكذا قصيراً سليماً.
اعلم! انه كما ان وجود الشئ وحياته برهان باهر على وجوب وجود موجده وصفاته، وآية نيّرة على انه وحده، اي له كل شئ، وحجة قاطعة لأيدي الاسباب.. كذلك فناء الشئ وموته في تجدد الامثال برهان ظاهر على بقاء المبدئ المعيد الوارث الباعث، ودليل واضح على انه لا شريك له - اي ليس لشئ من الاشياء شئ من الاشياء من جهة الخلق والايجاد - وحجة قاطعة لأيدي أنفس الاشياء من التأثير في انفسها.
الحاصل: ان الحياة تقول: لا اله الا هو وحده، وتردّ الاسباب.. وان الموت يقول: لا اله الاهو لا شريك له، ويردّ الأنفس.
اعلم! ان من وظائف حياة الانسان؛ شهوده لتحيات ذوي الحياة لواهب الحياة. ثم الشهادة عليها، اي يشاهد عبادة الكل فيشهد عليها ويعلنها كأنه ممثل الكل ولسانُهم يخبر الكل بعمل الكل في الاعلان لدى سيدهم.
اعلم! ان القرآن والمنَزل عليه القرآن يبحثان عن مسائل عظيمة، ويثبتان حقائق جسيمة. ويبنيان اساسات واسعة. كامثال اثبات وحدانية مَنْ يطوي السَـماء
(كَطَيّ السِجل لِلكُتُبِ) 1 (والارضُ جميعاً قَبْضَتُهُ يوم القيمة والسموات مطويات بيمينه) 2. (ومَا امْرُ السَّاعة الاَّ كَلَمْحِ البَصَرٍ) 3 بالنسبة اليه. (وتُسَبحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ والارضُ ومَنْ فيهن) 4 (وخَلَقَ السَّمَواتِ والارْضَ في سِتَةِ اَيَّامِ) 5 (ويُحْيي الارْضَ بَعْدَ مَوْتِها) 6 ويحشر في تلك الاحياء ازيد من ثلاثمائة الف حشر ونشر وقيامات، باحياء انواع النباتات
_____________________
1 الانبياء: 104
2 الزمر: 67
3 النحل: 77
4 الاسراء: 44
5 الاعراف: 54
6 الروم: 19



المثنوي العربي النوري - ص: 348
والحيوانات، وكتابتها على صحيفة الارض في نهاية الاختلاط والاشتباك، مع غاية التمييز بلا خبط ولا غلط. مع انّ حشر واحد من تلك القيامات المشهودة ليس بأهون من حشر طائفة الانسان، اذ يزيد عدد طائفة واحدة من طوائف الذباب الذي يوجد في عمر سنة على عدد الانسان في عمر الدنيا. وكذا يقولان: (الله خالِقُ كُلّ شَئٍ وهُوَ عَلى كُلِّ شَئٍ وكيل _ له مَقَاليدُ السَّمــوات والارْض) 1 و(خلَقَكُم وَما تَعْملُونَ) 2 (وأعدّ للكافرينَ عذاباً اليماً) 3 ويقولان: (ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شراً يَرَهُ) 4..
وهكذا من عظائم المسائل المبرهنة المهمة، فليس نظرهما في الكائنات كنظر الفنون الفلسفية والعقول الانسانية، بل مَثَلهما كمثل من يعرّفك صنعةً لتعريف صانعه، والمصنوعُ في قبضته يقلّبه، ويريك باطنه وصحائفه وتلافيفه وغايات جهازاته عند صانعه، ويعلّمك كتاباً بمعانيه واشاراته.. ومثلُ الانسان وفلسفته كمثل من يعرّفك مصنوعاً بعيداً من يدكما 5 ومن فهمكما - وانما يصل نظركما الى سطحه ولا ينفذ الى باطنه - فيلقمك مسائل سطحية كوساوس شطحية لا تسمن ولا تغني، وكمثل اجنبي أعجمي لا يعرف من العربية كلمةً، لكن له معرفة بمناسبات النقوش والصور، فشرع يعلمك كتاب الفصوص المذهب ببيان مناسبات نقوش الحروف، وكيفية صورها ووضعية بعض الى بعضٍ. وهكذا، من سفاسف واهيةٍ صورية.
فاذا كان هذا هكذا؛ فلا تجعل مقاييس العلوم الانسانية محكاً لحقائقهما 6، ولا تزنهما بميزانها؛ اذ لا توزن الجبال الراسيات، بميزان الجواهر النادرات، ولا تطلب تزكيتهما بها بجعل دساتيرها الارضية، مصداقاً على تلك النواميس السماوية. فلا تظنن التزلزل بتحريك الاهواء الضالة لبعض التفرعات الجزئية، فاهمية الشئ بقدر قيمته.
_____________________
1 الزمر: 62،63
2 الصافات: 96
3 الاحزاب: 8
4 الزلزلة: 8
5 اي: بعيداً عن يد الانسان وفلسفته.
6 اي: القرآن والمنزّل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم . وتفصيل هذه المسائل في الكلمة الثانية عشرة.



المثنوي العربي النوري - ص: 349
اعلم 1! ايها المصاب ببليةٍ دامت من مدة!. لا توزّع من جنود صبرك وقوته، في مقابلة ما مضى الى يومك هذا، بل الى ساعتك هذه ؛ اذ التحقتْ تلك الايام الاليمة الخالية الى صف جنودك بانقلابها لذائذ معنوية وحسنات اخروية. وكذا لاتوزع من صبرك في مقابلة ما يأتي بعد يومك هذا، ، بل ساعتك هذه. اذ هو عدم ومعدوم وفي يد المشيئة. فاجمِع جميعَ قوة صبرك وجنودِه على هذا اليوم، وفي هذه الساعة، مع تقوّي قوتك المعنوية بالتحاق جنود البلايا الاعداء الى جنودك بانقلابها احباباً ممدةً، ،مع الاستمداد من التوكل على المالك الكريم الرحيم الحكيم في مقابلة ما يأتي. فاذا فعلت هكذا، يكفي اضعفُ صبرك لاعظم مصيبتك .
اعلم! انه كثيراً ما يتوهم - بقصور الفهم - ما هو من منابع الحقيقة ومعادن الحق انه من مخايل المبالغة ومظان المجازفة.
مثلا: روي: (لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة، ما شرب الكافر منها جرعة ماء) 2 او كما قال.. المراد لايساوي ما تمثّل في مرآة حياتك الفانية ووُسعة عمرك الزائل من هذه الدنيا الخارجية، مقدار جناح بعوضة من عالم البقاء. كما ان حبة باقية بالتنبت ترجّح على بيدر من تبنٍ يفنى بالتفتت.. فلكل احد من هذه الدنيا التي هي مظاهر الاسماء الحسنى ومزرعة الاخرة دنياً. فان نظر الى دنياه بالمعنى الحرفي، واستعملها للباقي كانت لها قيمة عظيمة؛ والا فلفنائها لا توازي ذرة باقية، وقس عليها بعض ما ورد في ثواب بعض الاذكار مما لايجري في مقاييس العقل..
اعلم! ان مما يدل على ان دستور الحياة هو التعاون دون الجدال؛ كما توهمته الفلاسفة الضالة المضلة، عدم مقاومة التراب الصلب ولا الحجر الصلد، لسيران لطائف رقائق عروق النباتات اللينة اللطيفة، بل يشق الحجر قلبه القاسي بتماس حرير اصابع بنات النبات، ويفتح التراب صدره المصمت لسريان رائد النباتات.
نعم، تجاوب اعضاء الكائنات بشمسها وقمرها لمنفعة الحيوانات، وتسارع النباتات لامداد ارزاق الحيوانات، وتسابق مواد الاغذية لترزيق الثمرات، وتزين
_____________________
1 تفصيل هذه المسألة في الكلمة الحادية والعشرين .
2 رواه الترمذي 2422 تحفة الاحوذي وقال الترمذي : حديث صحيح غريب من هذا الوجه . والضياء في المختارة عن سهل بن سعد (انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته 5168 قال المحقق: صحيح وفصل عليه القول في الاحاديث الصحيحة برقم 943).



المثنوي العربي النوري - ص: 350
الثمرات لجلب انظار المرتزقات، وتعاون الذرات في الامداد لغذاء حجيرات البدن؛ دليل قاطع ساطع على ان الدستور العام هو التعاون وما الجدال الا دستور جزئي بين قسم من الحيوانات الظالمة...
اعلم! ان من اظهر براهين التوحيد، السهولة المطلقة المشهودة. مع ان في الشركة يستلزم كلُّ شئ، لاسيما حي، كلَّ ما يلزم للكل. ففي كل فرد من الكلفة كلفة ما في الكون، لاستلزام الفرد في الانفراد، كل كلفة الكل، كميةً.
اعلمى! ايتها النفس الامارة! انك متهمة في احسن مطالبك. اذ قد تشتاقين الى امور الاخرة، لكن بالمعنى الحرفي، أي لئلا تتنغص الدنيا عليكِ بفنائها، فشوق الآخرة للتسلي من الم الفناء. فاُفّاً وتُفاً 1 لهمتك الدنية، كيف تُصيّرُ السلطان الدائمي خادماً لحقير دنىٍ زائل؟ وتعمل خاناً لسكن بعض الحيوانات في ليلة بعَمَد مرصعة بالجواهر تأخذها من تحت قصرٍ سلطاني مستمرٍ 2.. فتخربين القصر على رأسك، وتأكلين ثمرات الجنة الباقية قبل بدُوّ صلاحها في هذا البستان الكاذب.
اعلمى! ايتها النفس العاشقة لنفسها، المستندة على ظهور وجودها! انك اكتفيت بقطرة سراب 3 عن بحر ماء الحياة، وبلمعةٍ ضعيفةٍ في ليلةٍ مدلهمة عن الشمس في رابعة النهار. أما ظهور وجودك بالنسبة الى ظهور وجود فاطرك ؛ فكنسبة عدد نفسك الواحدة، الى ضرب جميع الموجودات في ذراتها. اذ نفسك تدل على وجود نفسك بوجه واحد، وبمقدار جرمك.. وتدل على وجود موجِدها بوجوه لاتعد، مع دلالة كل من الموجودات على ظهور وجود موجِدك بوجوهٍ لا تعد ايضاً افراداً وتركيباً، فلابد ان يكون ظهور وجوده عندك اظهر من وجودك بدرجة اعظمية العالم على صغرك.
واما حبك لنفسك، لانها مخزن لذتك ومركز وجودك ومعدن نفعك واقرب اليك. فقد التبس عليك ظل الظليل الزائل، باصل الاصيل الكامل. فان تحب نفسَك
_____________________
1 الأف: وسخ الاذن والتف وسخ الاظفار، ثم استعمل ذلك عند كل شيء يضجر منه . قاله الاصمعي.
2 اي: كيف تهونين من شأن الآخرة، فتجعلينها في خدمة الدنيا .. فانك تبنين عمارة موقتة لنزول بعض الدواب - الشهوات - بما تسرقينه من اعمدة مذهّبة لقصرسلطان في الآخرة!
3 المقصود الحياة الدنيا كما سيأتي.



المثنوي العربي النوري - ص: 351
لِلذةٍ زائلة؛ فلابد ان تحب من يفيدك لذائذ باقية بلا نهاية، ويفيض على جميع من تلتذ بسعاداتهم لذائذ تسعدهم.
وان كانت نفسُك مركز وجودك؛ فربُّك موجِدكَ، وقيومُ وجودك مع وجودات كل من لك علاقة بوجودهم.
وان كانت نفسك معدن نفعك؛ فرازقُك هو الذي بيده الخير كله، وهو النافع الباقي، وعنده نفعُك ونفعُ كل من لك نفعٌ في نفعهم.
وان كانت نفسك اقربَ اليك؛ ففاطرها أقرب منها اليها، اذ تصل يده منها الى ما لا تصل يدُها ولا شعورُها ولا حبُها الى ذلك الشئ الذي هو في بحبوحة نفسها، فلابد ان تجتمع جميع المحبات المنقسمة على جميع الموجودات مع محبتك لنفسك فتهديها الى جناب المحبوب الحقيقي.
اعلم! ان مما يحجبك عن الله ويبقيك في الغفلة؛ انحصار نظرك الجزئي على الجزء والجزئي، فيجوِّز صدوره بالتصادف عن الاسباب الواهية. واما اذا رفع رأسه ومد نظره الى الكل والكلي، لا يجوّز صدور ادنى شئ من اعظم الاسباب.
مثلاً: يمكنك ان تسند رزقك الجزئي الى بعض الاسباب، ثم اذا نظرت الى خلو الارض وفقرها في الشتاء، ثم امتلائها متبرجة متزينة بالارزاق التي طبختها القدرة في مراجل الاشجار وجفان الجنان، تيقنتَ انه لايمكن ان يكون رازقك الا من يرزق كل حي بإحياء الارض بعد موتها.
ومثلا: يمكنك ان تسند ضياءك الجزئي المادي، ونورك المخصوص المعنوي الى بعض الاسباب الظاهرية فتقول:
(انّمَا اوتُيتُهُ عَلى علمْ) 1 ثم اذا نظرت الى اتصال ضيائك بنور النهار، واتصال نور قلبك بضياء منبع الانوار، تيقنت انه لا يقتدر على اضاءة قالبك، وتنوير قلبك حقيقةً الا من يقلب الليل والنهاربتحريك السيارات والاقمار. يضلّ من يشاء من الفجار ويهدي من يشاء من الابرار بتنزيل التنزيل للاعتبار والاختبار.
_____________________
1 القصص: 78



المثنوي العربي النوري - ص: 352
اعلم! ايها الانسان امامك مسائل عظيمة هائلة، تجُبر كل ذي شعور على الاهتمام بها!..
منها "الموت" الذي هو فراقك عن كل محبوباتك من الدنيا وما فيها.
ومنها "السفر" الى ابد الآباد في اهوال دهاشة.
ومنها "عجزك" الغير المعدود في "فقرك" الغير المحدود في سفرك الغير المحصور في عمر معدودٍ محدود، وهكذا.
فما بالك تناسيتَ وتعاميتَ عنها -كطير الابل - اي "النعامة" يخفي رأسه في الرمل، ويغمض عينه لئلا يراه الصياد.. الى كم تهتم بالقطرات الزائلة، ولا تبالي بالبحور الدهاشة!!.
اعلم! اني احمد الله على ان فتح لي اعاظم مسائل هذه الكائنات بمسألة من النحو، هي الفرق بين "المعنى الحرفي والاسمى"!.. اي هذه الموجودات كلماتٌ دالات على معانٍ في غيرها، اي مكتوباتٌ ربانية تاليات للاسماء الحسنى، لا اسمية حتى تدل على معنى في نفسها لذاتها.
فما تفرَّع من الوجه الاول؛ علم وايمان وحكمة. ومن الوجه الثاني؛ جهلٌ مركب، وكفران مرجَّب 1، وفلسفة مذهّبة.
وكذا اشكره على ان فتح لي مسألةً جسيمةً من اعاظم مسائل الربوبية بمسألة من المنطق، وهي الفرق بين الكلي ذي الجزئي، والكل ذي الجزء، فتجلي الجمال والاحدية كالاول.. وتجلي الجلال والواحدية كالثاني.. وتجلي الكمال والكبرياء جمع الجمع.. اي جمال في عين الجلال كالكلي في عين الكل، والجزئي في عين الجزء..
اعلم! ان الدنيا فهرستة الآخرة، فيها اشارات الى مسائلها المهمة، منها الذوق في الرزق الجسماني. فالذي ادرج في وجودك حواس وحسيات، وجوارح وجهازات، واعضاء وآلات لإحساس جميع انواع نعمه الجسمانية، ولاذاقة اقسام جلوات اسمائه المتجلية على الجسمانيات، في هذه الدار الزائلة الذليلة التي ليست لذيذةً ولا للذةٍ..
_____________________
1 المرجب : الذي جعل له رُجْبة وهي دعامة من الاحجار تدعم بها النخلة (مجمع الامثال 1 / 32)




المثنوي العربي النوري - ص: 353
يشير بهذا الصُنع الحكيم، الى ان صاحب الاحساس والاذاقة 1، اعدّ لضيوف عباده ضيافةً جسمانيةً ايضا لائقة بالابدية في قصورٍ (تَجري مِنْ تَحْتِها الانْهَارُ خَالِدينَ فيها ابَدَاً) 2..
اعلم! 3 ايها السعيد العاجز الخائف! ان الخوف والمحبة اذا توجها الى الخلق، صار الخوف بليةً اليمةً.. وصارت المحبة مصيبةً منغصةً ؛ اذ تخاف من لا يرحمك او لا يسمع استرحامك. وتحب من لا يعرفك. او يحقّرك لمحبتك، او لا يرافقك، بل يفارقك على رغمك.. فاصرفهما من الدنيا وما فيها الى فاطرك الكريم وخالقك الرحيم ، ليصير خوفُك تذلّلاً لذيذا بالالتجاء الى صدر الرحمة كتلذذ الطفل بالتخوّف الذي يجبره الى الانضمام الى صدر امه الشفيقة، وتصير محبتك سعادةً ابديةً لا تزول ولا تُذلّ، لا إثم ولا ألم..
اعلم! ايها الانسان انك ثمرة او نواة لشجرة الخلقة ، فبجسمانيتك انت جزء صغير ضعيف، عاجز ذليل ، مقيّد محدود. لكن الصانع الحكيم رقاك بلطيف صُنعه من الجزء الجزئي، الى الكل الكلي.
فبادراج الحياة في جسمك اطلقك من قيد الجزئية في الجملة، بجولان جواسيس حواسك المنبسطة على عالم الشهادة لجلب اغذيتهم المعنوية.. ثم باعطاء الانسانية جعلك كالكل بالقوة (كالنواة ).. ثم باحسان الاسلامية والايمان، جعلك كالكلي بالقوة .. ثم بانعام معرفته ومحبته صّيرك كالنور المحيط، فاختر ما شئت.. فان اخلدتَ الى الارض واللذائذ الجسمانية؛ صرت جزءاً جزئياً، عاجزاً، ذليلاً. وان استعملت جهازات حياتك بحساب الانسانية الكبرى التي هي الاسلامية؛ صرت كالكل الكلي والسراج المركزي ...
اعلم! يامَن يحب الموجودات الدنيوية التي لا تصل اليها الا بمقدار جرمك، ومساعدة قيدك. فتتألم بسائر الفراقات الاليمة، جزاءً لصرفك المحبة في غيرمحلها.. ان احببتَ الواحدَ الاحدَ، وتوجهتَ بحسابه وباسمه وباذنه وبنظره وبحوله، تنزهت
_____________________
1 اي الذي وهب هذا الاحساس والتذوق
2 المائدة: 119
3 الغصن الخامس من الكلمة الرابعة والعشرين يفصل هذه الخاطرة.



المثنوي العربي النوري - ص: 354
بالجميع معاً في آنٍ بلا فراق ولا ألم. كمثل من ينتسب لسلطان له مع كل جزء من مملكته ارتباط، يسمع ويبصر كل ما يجري في كل مكان ومن كل مكين،كأنه هو في كلٍ وعند كلٍ، فيسمع ذلك الخادم بسمعِ سيده، ويبصرُ ببصره بواسطة آلات المخابرة والمشاهدة؛ لذيذات النغمات وجميلات الصور، الموجودات في محلّ سلطنة بعيدةٍ..
اعلم! 1 يا من يشتاق الى معرفة اخبار امثال القمر، بحيث لو قيل لك ان افديت نصف عمرك؛ لنزل احدٌ من القمر واخبرك بان في القمر كذا وكذا، واخبرك بحقيقة استقبالك، لفديت بلا تأسف. 2
انه جاء احدٌ يخبرك اخبار مَن ؛ ليس القمر الا كذباب يطير حول فَراشٍ ، يطيرُ هو حول سراجٍ من قناديل سقف بيته الذي اعدّه لعبيده المسافرين .. وكذا يخبرك باخبار الازل والابد، والحياة الابدية، والحقائق الاساسية، والمسائل العظيمة التي اصغرُها اعظمُ من انفلاق الارض مع القمر. فان شئت فاستمع الى سورة
(اذا الشَّمْسُ كوِّرَتْ) والى (اذا السَّماءُ انفَطَرتْ) وامثالها.. وكذا يريك سبيلاً سوياً الى الوحدة، يُنجيك من التشتت في ضلالات الكثرة الموحشة، ويمد الى يدك العروة الوثقى وسلسلة عرشية تنقذ من استمسك بها من الغرق في ظلمات الممكنات المشتتة، ويسقيك من عين الايمان بالحياة الابدية ماء الحياة، لتخلِّصك من الاحتراق بنار الفراق من جميع ما تحبه على الاطلاق.. وكذا يخبرك بمرضيات خالقك الذي؛ الشمسُ والقمرُ والنجوم مسخَّرات بأمره واستقرت الارضُ باذنه وبمطالبه منك.. وكذا صار ترجماناً لمخابرة سلطان الازل والابد الذي لا نهاية لقدرته وغَنَائه، وبمكالمته معك ايها العاجز بلا نهاية، والفقير بلا غاية.
فمع كل ذلك كيف لا تترك نفسك لفهم هدى القرآن؟ ولا تنسَ هَوسكَ لاستماع رسول الرحمن؟ وكيف لا تستقبل رسوله بالتسليم والايمان؟ وكيف لا تشتاق الى السلام عليه بالصلاة والسلام؟ وكيف لا تحتاج الى الاستخبار منه ما يطلبه سيدُنا الحنّان ومالكنا المنّان جل جلاله؟
_____________________
1 تراجع الرشحة العاشرة من الكلمة التاسعة عشرة.
2 اذ الانسان مستعد بأن يتنازل عن نصف عمره في سبيل الوصول الى حقيقة مستقبله (ت: 196)


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة

المثنوي العربي النوري - ص: 355
اعلم! اننا نرى الصانع الحكيم بكمال حكمته، وعدم العبثية في صنعه وعدم التضييع، يُنسج من الاشياء الحقيرة الصغيرة القصيرة الاعمار، منسوجاتٍ جسيمةً غالية عالية دائمة، لاسيما في نسج النباتات.. وكذا بسر عدم العبثية مطلقا، وعدم الاسراف، يوظّف الفرد الواحد من الآلات والجهازات بوظائف كثيرة متنوعة، لاسيما في رأس الانسان. فلو انفرد لكل وظيفة من الوظائف المكلفة بها ما في رأسك مقدار خردلة، للزم ان يكون رأسك كجبل الطور 1 في الكبر ليسع اصحاب الوظائف. الا ترى اللسان - مع سائر وظائفه العظيمة - مفتش 2 لمدخرات خزينة الرحمان، ولجميع المطعومات المطبوخة في مطبخ القدرة، فله وظائف بعدد تنوع اذواق المطعومات، وقس . أفلا تشير هذه الفعالية الحكيمة الى ان ذلك الصانع يجوز- بل يجب - ان ينسج من الاشياء السيالة السريعة في سيل الزمان، ومن الايام الميتة والأعوام الماضية والاعصار الخالية نسائج غيبية، ومنسوجات اخروية بمكوك الليل والنهار والشمس والقمر في اختلاف الملوين 3، وتحوّل الفصول؟ كما نسج في الانسان الذي هو فهرستة العالم ما يؤيد هذا، اذ يُبقي دقائق حياته الماضية الفانية بين منسوجات حافظته ومكتوباتها، فيكون الفناء والموت في هذه الشهادة الضيقة، انتقالا باقيا وبقاء صافيا في دوائر عوالم الغيب. وقد نسمع من منابع الوحي "ان دقائق عمر الانسان تعود اليه"؛ فاما مظلمة بالغفلات والسيئآت، وإما مضيئة بمصابيح الحسنات المعلقة في حلقات الدقائق...
اعلم! ان من حكمة تفنن الصانع الجميل الحكيم في تصوير الافراد صغيراً وكبيراً كما في الحيوان لاسيما فيما يطير بجناحَيه، وفي السمك وفي المَلَك وفي العوالم في الجملة، من الذرات الى الشموس، بجعل الصغير مثالاً مصغراً للكبير.. لطف الارشاد، وتسهيل التفكّر، وتيسير قراءة مكتوبات القدرة، واظهار كمال القدرة، وابراز نوعي الصنعة الجمالية والجلالية، اذ من اسباب المجهولية الدقة والخفاء، فيزيلهما بوضوح حروف الكبير. وكذا من اسباب المجهولية، الوسعة والعظمة، فلا يحيط بها
_____________________
1 اي: لواقتضى كل وظيفة من الوظائف التي كلف بها الانسان شيئاً مادياً في رأسه بمقدار خردلة للزم ان يكون حجم الرأس كجبل الطور (ت: 197)
2 بمعنى ناظر او مشرف.
3 اي: الليل والنهار. الواحد: ملاً.



المثنوي العربي النوري - ص: 356
النظر ولا يضبطها الفهم فيزيلهما بتقارب حروف الصغير. واما النفس الأمارة المتتلمذة عند الشيطان فتظن صغر الجسم سبب صغر الصنعة، فتجوِّز صدورها من اسباب صمٍ عُميٍ، وتدّعى في الكبير المنبسط عدم الكتابة بالحكمة، ووجود العبثية والتصادف..
اعلم! 1 انه ان قيل: ان الجود المطلق والرزق بلا حساب يلائمان العبثية، وينافيان الحكمة من جهة ؟ يقال له:
نعم؛ ان انحصرت الغاية في الواحدة مع ان لكل شئ لا سيما حىّ، غايات متعددة وثمرات متنوعة ووظائف مختلفة. الا ترى ان للسانك وظائف بعدد شعر رأسك؟ فالجود باعتبارٍ غاية بلا حساب وباعتبار وظيفةٍ لا ينافي الحكمة والعدالة في وجوده الناظر الى مجموع الغايات والوظائف، كالعسكر المستخدم في تعقيب ذى جناية او في حماية قافلة مثلا. ففي العسكر كثرة وجود بلا حساب بالنسبة الى امثال هذه الخدمات الجزئية مع القلة والمساواة لما يلزم لحفظ الثغور والحدود وسائر الغايات..
اعلم! انه يمكن ان يُتَصَوَّر الانسانُ خلف أثره وصنعته الجزئية، ولا يمكن في مصنوع الصانع الازلي الا من خلف سبعين الف حجاب خلف ذلك المصنوع الجزئي. ولو امكن لك ان تنظر الى مجموع مصنوعاته دفعةً؛ لارتفعت الحجب الظلمانية، وبقيت الحجب النورانية. فالطريق الاقرب في نفسك، لا في الآفاق الاّ بالعشق السديد.
اعلم! 2 ان اغلب من له نسلٌ من الحيوانات والنباتات ينوى كلُّ فرد - من الاغلب - الاستيلاء على وجه الارض، ويريد التسلط عليها ليتخذها مسجداً خالصاً لنفسه يَعبُد باظهار اسماء فاطره، في كل جزءٍ منها عبادةٌ غير متناهية لخالقها الذي لا نهاية للياقته للعبادة. فان شئت انظر الى البطيخ ونواتاته، والشجر والنواتات في ثمراته، والسمك وبييضاته، والطير وبيضاته، الاّ ان ضيق عالم الشهادة واحاطة علم عالم الغيب والشهادة بما كان، وبما يكون، وبما لم يكن لوكان كيف يكون.. اقتضيا قبول عباداتها بالقوة 3، ونياتها المندمجة في بذورها.
_____________________
1 هذه المسألة الدقيقة "حكمة تعدد الغايات" توضحها حاشية الحقيقة السادسة من »رسالة الحشر«.
2 تفصيل هذه المسألة في الثمرة الثانية من الغصن الخامس للكلمة الرابعة والعشرين.
3 حتى ولو لم تخرج بعدُ الى طور الفعل.



المثنوي العربي النوري - ص: 357
اعلم! ان ذكر القرآن لبعض الغايات الراجعة الى الانسان انما هو للاخطار 1 لا للانحصار. اي لتوجيه نظره الى الدقة في فوائد نظام ذلك الشئ ذي الغاية، وفي انتظامه الدال على اسماء صانعه؛ اذ الانسان انما يهتم بما له علاقة ما به، فيرجّح ذرة ما اليه على شمس ليست اليه.. مثلا: (وَالْقَمَر قَدَّرْناهُ مَنَازِلَ) 2 (لِتَعْلَموا عَدَدَ السنّينَ وَالْحِسابَ) 3 هذه غايةٌ من الوف غايات تقدير القمر، وليس المراد الانحصار، اي انما خُلق ذلك لهذا، بل ان هذا المشهود لكم من ثمرات ذاك.
اعلم! ان من سكته التى لا تقلَّد، ومن خاتمه الذي يختص به، ومن أبهر براهين التوحيد في قدرة غير متناهية، وعلم لايتناهى في تصرف مطلق، في اتقان مطلق، في سهولةٍ مطلقةٍ.. خلقُ اشياء مختلفات لا تعد، من شئ واحد بسيط، كالنباتات باشتاتها من التراب وكمختلفات اعضاء الحيوان دماً لحماً عظماً وغيرها من غداءٍ بسيط.. وكذا خلقُ الواحد من انواع متباينة لا تحصى كجسد الانسان - مثلا - من مطعوماته الغير المحصورة..
فسبحان من هو القدير على ان يجعل شيئاً كل شئٍ، ويجعل كل شئٍ شيئاً.
اعلم! ان في
(اَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) 4 سر عظيم ومثل عظيم!.. اذ كما انك تحفظ من التفتت والضياع بعض البذور، وتدخرها ثم تزرعها في مزرعتك.. كذلك ان الوارث الباعث الحفيظ الذي يحي الارض بعد موتها، يكتب ثمرات اعمال جميع النباتات فيرثها حافظا لها، ثم يزرعها منثورة بحكمة توزيعٍ وانتظام تقسيم، باطارة بعض البذور الى الاطراف لا مجتمعة خلف اصلها فقط، ثم ينشر اوراقها وازهارها حتى يصير نظير: (وَاِذا الصّحُفُ نُشِرَتْ) 5 فانظر من شدة اهتمامك حتى تقتدر على حفظ بعض البذور، الى كمال حفيظية الحفيظ المطلق في محافظة ما لا يعد من الصنيدقات اللطيفة المتضمنة لفهرستات امهاتها المعينة بمسطر القدر، من مغيّرات ومُفسدات لا تحد في انقلابات لا تعد، مع نهاية التمييز في نهاية
_____________________
1 للتنبيه.
2 يس: 39
3 يونس: 5
4 الواقعة: 64
5 التكوير: 10




المثنوي العربي النوري - ص: 358
الاختلاط. فهذا الحفظ لا يخليك غاربك على عنقك تفعل ما تشاء ثم تموت وتستريح.. (اَيَحْسَبُ الانسانُ اَنْ يُتْرَكَ سُدىً) 1 كلا ليحاسبنّ على النقير والقطمير..
اعلم! ان من وظائف الحياة الانسانية؛ فهم الانسان بمقياسية جزئيات صفاته وشؤونه وشؤون ابناء نوعه او جنسه، لصفات فاطره وشؤونه. واما فهم عظائم شؤونه الحشرية والاخروية وكليات افعاله في القيامة واحياء الاموات؛ فتحتاج لفهمها بالاذعان الى جعل الفاعلية في الحشر الربيعي والقيامة الخريفية، قياساً لشؤونه في القيامة الكبرى. انظر الى الربيع لترى فيه تنظيراً - كتفسيرٍ - لأمثال:
(اِذَا الشَّمْسُ كوِّرَتْ) 2...
اعلم! ان من عظمة احاطة الاسلامية، امتداد اساسات جدرانها من اعلى عليي كليات صفات ذي العرش، ومسائل خلق العرش والسموات والارض وملائكتها، الى جزئيات خطرات القلب. مع امتلاء ما بينهما بدساتير محكمةٍ رصينةٍ.
بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(فَلاَ تَغُرَّنّكُمُ الْحَيوةُ الدّنْيَا ولا يَغُرنّكم بالله الغَروُر) 3
اعلم! 4 يامن يدعو المسلمين الى الحياة الدنيوية التي هي لعب في نوم ولهو، ويشوقهم للخروج من دائرة ما احلّه الله من الطيبات الكافية (لكيفهم) 5، الى الدخول في دائرة ما حرَّمه من الخبيثات المنغّصة التي تجبرهم على ترك بعض شعائر دينهم او ترك دينهم.. ان مثلك معهم 6 كمثل سكران بسكر لا يميز بين الاسد المفترس، والفرس المؤنس؛ ولا يفرق بين آلة الصَلب، وآلة لعب الصبيان من الحبل المتحرك في الهواء؛ ولا يعرف الجرح المبرّح من الورد المفرّح، بل يظن الاسد فرساً،
_____________________
1 القيامة: 36
2 التكوير: 1
3 لقمان: 33
4 الدرس الثالث من رسالة »المدخل الى النور«
5 لمسرّاتهم البريئة المباحة شرعاً.
6 جاء هذا المثال بوضوح تام في الكلمة السابعة.



المثنوي العربي النوري - ص: 359
وآلة الصلب حبل اللعب، والجرح المقشعر الورد المحمر. ومع ذلك يظن نفسه مرشداً مصلحاً.. فجاء الى رجل هو في وضعيةٍ مدهشة؛ اذ خلف هذا الرجل اسد عجيب متهئ للهجوم في كل آن ، وقدام الرجل آلة الصلب قد نُصِبتْ، وفي جنبيه جرحة عميقة قد انفرجت ، وقرحة مزعجة قد انفجرت.. وفي يديه علاجان اذا استعملهما، انقلب باذن الله الجرحان وردين محمّرين. وفي لسانه وقلبه طلسمان اذا استعملهما انقلب بامر الله الاسدُ فرساً يركبه الى حضور سيده الكريم الذي يدعوه الى دار السلام يضيّفه. وانقلب حبلُ الفراق والصلب المتدلى من شجر الزوال والفناء بلطف الله آلةَ السير والتنزه، والمرور بالاهتزاز على المناظر السيالة المتجددة وعلى المرايا الجوالة المتبدلة، لازدياد لذة تجدد تجليات الجمال المجرد الدائم التجلي والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور. ولازدياد اللذة في تجدد صور الانعام والنعم على مر الانام والايام والاعوام. ثم يقول ذلك السكران الذي هو ايضا في مثل تلك الوضعية لذلك الرجل: اترك الطلسمين واطرح العلاجين وتعال نلهو ونلعب ونرقص ونطرب! فيقول له الرجل: يكفي لكيفي ما يساعده حرز الطلسمين وحفظ العلاجين. ولا يمكن اللذة والسعادة في ما عداه. ان امكن لك ان تقتل اسد الموت الذي "لا يموت الا في الجنة" 1.. وان ترفع هذه الآلة المسمَّرة في الارض الى الثرى بحكم حاكم الارض، أي تزيل آلة الزوال بتبديل الارض غير الارض.. وان تشفى من هذا الجرح المستولى على كلَّية حياتي، بتبديل حياتي العاجزة الفانية حياةً باقيةً قادرة على الاطلاق وان تبرئ هذه القرحة المحيطة بكلية ذاتي، بتحويل ذاتى الفقيرة ذاتاً سرمديةً غنيةً على الاطلاق. واذ لم يمكن لك هذه الامور "الاربعة" لا يتيسر لك ايها الشيطان السكران ان تخدع الا مثلك سكراناً بسُكرٍ لا يميز بين الضحك والبكاء، والبقاء والفناء ، والدآء والدواء، والهوى والهدى. واما انا "فحسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير".. فاذا تفطنت لسر التمثيل، او اشتقت الى رؤية صورة الحقيقة..
_____________________
1 عن ابي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : »يؤتى بالموت كهيئة كبش املح . فينادي منادٍ : يا اهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون. فيقول لهم : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم ، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي منادٍ : يا اهل النار ،فيشرثبون وينظرون. فيقول لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. فيذبح بين الجنة والنار ،ثم يقول يا اهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ : (وانذرهم يوم الحسرة اذ قضي الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) (مريم : 39) واشار بيده الى الدنيا« صحيح : رواه البخاري في تفسير هذه الاية ، ورواه مسلم برقم 2849.



المثنوي العربي النوري - ص: 360
فاعلم! ان تلاميذ المدنية السفيهة الضالة وطلبة الفلسفة السقيمة المضلة، قد سكروا باحتراصات عجيبة وتفرعنات غريبة، فجاؤوا يدعون المسلمين الى اتباع عادات الاجانب، وترك شعائر فيها شعور واشعار بانوار الاسلام، فيقابلهم تلامذة القرآن بـ:
يا ايها الضالون الغافلون! ان اقتدرتم ان ترفعوا من الدنيا الزوال والموت. ومن الانسان العجز والفقرَ فاستغنوا من الدين وشعائره، والاّ فاخسئوا واتركوا وسوستكم ودمدمتكم التي هي كزمزمة الذباب في ما بين نعرات هذه الرعود الاربعة ، والآيات التكوينية المنادية بأعلى صوتها على لزوم الدين بشعائره
(وَاذَا قُرِئَ القُرآنُ فاسْتَمِعوا لَهُ وَانْصِتوُا لَعَلَّكُمْ تُرحَمُونَ) 1
نعم، ان خلفي اسد الاجل يهددني دائماً، فان استمعت بسمع الايمان صدى القرآن، انقلب الاسد فرساً، والفراق براقا يوصلني الى رحمة الرحمن الرحيم والى حضور سيدى الحنان الكريم. والاّ صار الموت اسداً مفترساً يمزقني على رغمي، ويفرّقني عن جميع محبوباتي فراقاً ابدياً. وكذا بين يدي وامامي آلات الفناء والزوال، قد نُصبت وتدلت في اختلاف الليل والنهار، وآلات الهلاك والفراق قد تموجت على امواج الفصول والعصور. فهذه الآلات نصبت لصلبي مع جميع احبابي، فان اصغيت بصماخ الايقان لارشاد القرآن انقلبت تلك الآلات مركب السير والتنزه في نهر الزمان وبحر الدنيا لمشاهدة تجدد تجليات شؤونات القدرة على صفحات الفصول، بزنبرك 2 الشمس وسير القمر ودوران الارض للتعمم 3 بلفائف الليل والنهار، والتقمص بحلتي الصيف والشتاء. ولمشاهدة تجدد جلوات الاسماء على المظاهر السيالة والمرايا المتحولة والالواح المتبدلة في اختلاف الليل والنهار.
وكذا، ان في جنبي الايمن من الفقر الغير المحدود قرحةً مستوليةً، فمع اني اعجزُ من اعجز حيوان من جنس الحيوان، انى افقرُ من جميع الحيوانات، اي: حاجاتي المعنوية والمادية تساوي حاجات الكل، مع ان اقتداري اقل من فعالية عصفورة. فان
_____________________
1 الاعراف: 204
2 المحرك، النابض
3 لبس العمامة.




المثنوي العربي النوري - ص: 361
تداويت بشفاء القرآن انقلب الفقرُ المطلق الاليم، شوقاً لذيذاً الى ضيافة الرحمة، واشتهاء لطيفاً لتناول ثمرات رحمة الرحمن الرحيم. فيزداد لذةُ الفقر والعجز بمراتب على لذة الغناء والقوة. والاّ بقيت في آلام ازعاجات الحاجات، وفي ذل السؤال والتعبد لكل ما عنده حاجة من مطالبي، والتذلل لكل شئ.
وفي جنبي الايسر ايضا جرح عميق هو عجز وضعف بلا حد في مقابلة اعداء ومهالك بلا عد. فألم الخوف يزيل لذة الحياة الدنيوية.. فان انصتُ بالتسليم لدعوة القرآن، انقلب عجزي تذكرة دعوة للاستناد بالقدير المطلق، والاتصال بسر التوكل بنقطة استناد فيها امن وامان من الاعداء. والاّ بقيتُ مضطرباً بين اعداء متشاكسين لا تعد بعجز لا يحد.
وكذا انّي على جناح سفر طويل، يمر على القبر والحشر الى الابد، فلا يرينا العلم والعقل نوراً ينوّر ظلمات تلك الطريق، ولا يعطينا رزقاً يصير زاد ذلك السفر؛ إلاّ ما يُقتبس من شمس القرآن ويؤخذ من خزينة الرحمن. فان وجدت شيئاً يمنعنى عن هذا السفر، لكن غير قطع الطريق بالضلالة التي هي قبول السقوط من فم القبر في دهشة ظلمات العدم الذي هو اهول وادهش، فقل.. وإلاّ فاسكت حتى يقول القرآن ما يقول. فبعدما قرأتْ هذه الآياتُ الخمسة 1 من كتاب العالم على رأس الانسان آية
(فَلاَ تَغُرنَّكُمْ الحَيوةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرورُ) 2 كيف يجوز اتباعك ايها الغر المغرور؟ ولا يختار مشربك الا سكران بشراب السياسة، او حرص الشهرة، او شهوة السُمعة، او رقة الجنسية، او زندقة الفلسفة، أو سفاهة المدنية وغيرها مما يسكر بمثله.. مع ان هذه الضربات القارعة على رأس الانسان، وهذه الاهوال التي تضرب وجه البشر سيطيّر سكره. ومع ذلك ان الانسان ليس كالحيوان مبتلىً بآلام الحال فقط، بل يضرب رأسه خوفُ المستقبل وحزنُ الماضي مع ألم الحال.
فان اردت ان لا تبقى اشقى واذل واحمق واضل من جميع الحيوانات؛ فانصت واستمع بسمع الايمان بشارة القرآن باعلان:
(اَلاَ انَّ اوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون _ الذَّينَ امَنوا وكَانُوا يَتقون _ لَهُمُ البُشرى في الحَياة الدّنيا وفي الآخِرةِ لاَ تَبْديلَ لِكَلماتِ الله ذلِكَ هو الفَوْزُ العْظَيِمُ) 3.
_____________________
1 وهي: زوال الدنيا، موت الانسان، عجزه وفقره وسفره الطويل.
2 لقمان: 33
3 يونس: 62-64



المثنوي العربي النوري - ص: 362
بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(والتّين وَالزيتون _ وَطورِ سينينَ _ وَهَذا البَلَد الامين _ لَقَد خلقنا الانْسانَ في احْسَن تَقْوِيم _ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ اسفَلَ سَافلِين َ_ الاَّ الَّذينَ امَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحِاَت فَلَهُمْ اجْرٌ غَيْرُ مَمْنون) 1.
اعلم ! 2 ان إتقان الصنعة وكمالها في كل شئ يدل على ان صانع الكل كما انه عند كلٍ في كل مكان ليس في مكان وليس عند شئ .
وان الانسان لإحتياجه الى كل شئ من اصغر جزء جزئي الى اكبر كل كلّي، لا يليق ان يَعْبُد الاّ مَن "بيده ملكوت كل شئ وعنده خزائن كل شئ".
وان نفس الانسان من جهة الوجود والايجاد والخير والفعل في غاية الصغر والقصور والنقص، ادنى من النمل والنحل واضعف من العنكبوت والبعوضة. ومن جهة العدم والتخريب والشر والانفعال، اعظم من السموات والارض والجبال. مثلا: اذا احسن، احسن بما تسعه ذات يده وتصل اليه قوة ذاته. واذا اساء، اساء بما يتعدى وينتشر.
فبسيئة الكفر يحقّر مجموعَ الكائنات والموجودات بتنزيل قيمتها من اوج كونها مكتوبات ربّانية ومرايا إلهية الى حضيض صيرورتها مواد متغيرة سريعة الزوال والفراق، يلعب بها التصادف بالعبثية.. ويُسقط الانسان الذي هو قصيدة منظومة موزونة معلنة لجلوات الاسماء القدسية، ونواةٌ لشجرة باقية، وخليفة تفوق على اعاظم الموجودات بحمل الامانة، الى دركة جعلِهِ اذلَّ من اذلّ حيوان زائل فان، واضعف واعجز وافقر.
وكذا ان الانسان من جهة "أنا" له اختيار كشعرة، واقتدار كذرة، وحياة كشعلة، وعمر كدقيقة، وموجودية هي جزء جزئي مما لا يعد من انواع لاتحد في طبقات الكائنات.. ولكن من جهة عجزه وفقره له وسعة عظيمة اذ له عجز عظيم بلا نهاية، وفقر جسيم بلا غاية، يتيسر له ان يصير مرآة واسعة لتجليات القدير بلا نهاية والغني بلا غاية.
_____________________
1 التين
2 الدرس التاسع من "المدخل الى النور" وتوضيحه في الكلمة الثالثة والعشرين .



المثنوي العربي النوري - ص: 363
وكذا ان الانسان من جهة الحياة الدنيوية المادية الحيوانية كنواة، تصرف الجهازات المعطاة لها للتسنبل والتشجر في وسعة عالم الفضاء الى جلب موادَّ واهيةٍ في مضيق التراب الى ان تتفسخ بلا فائدة.. فمن جهة الحياة المعنوية كشجرة باقية امتدت اغصانُ آمالها الى الابد.
وكذا ان الانسان من جهة الفعل والسعى المادي حيوان ضعيف عاجز، له دائرة ضيقة نصف قطرها مَدَّ يده.. ومن جهة الانفعال والدعاء والسؤال؛ ضيف عزيز للرحمن الذي فتح له خزائن رحمته وسخرله بدائع صنعته، له دائرة عظيمة نصف قطرها مدَّ نَظَرِهِ بل خياله بل اوسع.
وكذا ان الانسان من جهة لذة الحياة الحيوانية وكمالها وسلامتها ومتانتها ادنى من العصفور بمائة درجة لتنغُّص لذاتِه باحزان الماضي ومخاوف الاستقبال.. ومن جهة الجهازات وتفصّل الحواس وتنوع الحسيات وانبساط الآلات وتكثّر مراتب الاستعدادات - المشيرة هذه الحالة - الى ان وظيفته الاصلية هي: الشهود لتسبيحات الموجودات، والشهادة عليها، والتفتش بالتفكر والنظارة بالعبرة، والدعاء للحاجة، والعبودية بدرك العجز والفقر والقصور.. ومن وجه جامعية استعداده المستعد لانواع العبادات اعلى من اعلى عصفور بمائة مراتب . فبالبداهة يعلم من له عقل ؛ انّه ما اُعطي له هذه الجهازات لهذه الحياة ، بل لحياة باقية.. مثلاً: اذا رأينا احداً اعطى لأحد خدمه عشرة دنانير ليشتري لنفسه لباساً من قماش مخصوص، فاشترى من اعلاه. ثم اَعطى لآخر الف دينار للاشتراء. نعلم يقيناً ان هذا ليس لاشتراء لباس من ذلك القماش الذي ما قيمة اعلاه، الا عشرة دنانير، بل انما اعطي لما هو اغلى واعلى بمائة مراتب. فاذا اشترى لبلاهته بالالف لباساً من ذلك مع ان ما اشتراه ادنى بمائة درجة من لباس الاول، لابد أن يعاقَب عقاباً مديداً ويؤدب تأديباً شديداً.
وكذا ان الانسان بقوة ضعفه ، وقدرة عجزه اقوى واقدر بمراتبَ، اذ يُسخّر له بالدعاء والاستمداد ما لا يقتدر على عُشر معشاره باقتداره. فهو كالصبي يصل ببكائه الى ما لا يصل اليه بالوف اضعاف قوته. فيتفوق بالتسخير لا بالغلبة والغصب والجلب. فعليه ان يعلن عجزه وضعفه وفقره وفاقته بالاستمداد والتضرع والعبودية.


المثنوي العربي النوري - ص: 364
وكذا ان الانسان من جهة نظاريته لمحاسن كمالات سلطنة الربوبية، ودلاليته لبدائع جلوات الاسماء القدسية وفهمه بطعمه لمدخرات خزائن الرحمة، وعلمه بوزنه لجواهر كنوز الاسماء المتجلية، وتفكره بمطالعته لمكتوبات قلم القدرة، وشوقه برؤيته للطائف المصنوعات.. اشرفُ المخلوقات وخليفة الارض.
بسْمِ الله الرَّحْمـــن الرَّحِيْم
(يَا اَيُّهَا النَّاسُ انْتُمُ الفُقَرَآءُ الى الله) 1
(فَفرّوُا الى الله) 2
اعلم ! ايها السعيد القاصر العاجز الفقير! ان في نفسك قصوراً بلا نهاية، وعجزاً بلا غاية، وفقراً بلا انتهاء، واحتياجاً بلا حد، وآمالاَ بلا عدّ. فكما اُودع فيك الجوعُ والعطش لمعرفة لذة نعمته تعالى، كذلك رُكّبْتَ من القصور والفقر والعجز والاحتياج لتنظر بمرصاد قصورك الى سرادقات كماله سبحانه، وبمقياس فقرك الى درجات غناه ورحمته، وبميزان عجزك الى قدرته وكبريائه، ومن تنوع احتياجك الى انواع نِعَمه واحسانه.
فغاية فطرتك هي العبودية. والعبودية؛ ان تعلن عند باب رحمته:
قصورَك بـ"استغفر الله" وبـ "سبحان الله"..
وفقرَك بـ "حسبنا لله" وبـ"الحمد لله" وبالسؤال..
وعجزَك بـ "لاحول ولا قوة الابالله" و بـ "لله اكبر" وبالاستمداد..
فتُظهر بمرآة عبوديتك جمال ربوبيته.
_____________________
1 فاطر: 15
2 الذاريات: 50


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة


المثنوي العربي النوري - ص: 365
بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(انَّ الاَبْرارَ لَفي نَعيمٍ _ وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحيمٍ) 1.
اعلم ! 2 ايها السعيد الغافل!. ان لكل احدٍ في سفر حياته طريقين الى القبر، والطريقان متساويان في القصر والطول.
لكن احدهما؛ مع انه لا ضرر فيه، فيه منفعة عظيمة بشهادات اهل الشهود المتواترين واجماعهم. يصل الى تلك المنفعة العظيمة من عشرة سالكيه تسعةٌ.
والآخر؛ فمع انه لا نفع فيه بالاتفاق، فيه ضرر عظيم باجماع اهل الخبرة والشهود. فاحتمال الضرر من العشرة تسعة، الا ان من يسلك في هذا لا يحمل سلاحاً ولا زاداً فيخف في الظاهر ويخلص من ثقل مَنّ، لكن يحمل على ظهر قلبه مائة مَنٍ مِن المنة ويثقل على عاتق روحه احمال الاهوال والمخاوف. ولان التمثيل يريك المعقول محسوساً، نمثل لهذه الحقيقة مثالاً :
مثلاً : تريد ان تذهب الى استانبول، أو تُرسَل اليه، ومن مكانك اليه طريقان؛ يميناً وشمالاً متساويان قصراً وطولاً، متخالفان نفعاً وضراً خفةً وكلفةً. ففي جانب اليمين نفع عظيم باجماع اهل الشهود والاختصاص بلا ضررٍ وبالاتفاق.. وحمل سلاح ومِزوَد زاد بمقدار مَنّ، مع خلاص الروح والقلب من ثقلة حمل المنّة والخشية اللتين هما في ثقلة الجبال.. وفي اليسار ضرر بشهادات ملايين من اهل الخبرة والشهود وبلا نفع باتفاق الموافقين والمخالفين، مع خفة الظاهر في طرح السلاح الصارم اللازم وترك الزاد الالذّ الالزم. لكن حمل 3 على عاتق روحه بدل (قيتي) 4 السلاح قناطير الخوف، وعلى ظهر قلبه بدل اربع (حقات) 5 الزاد مائة مَنٍ من المِنّة. اذ قد يخبر الشاهدون الصادقون: ان الذاهبين بيُمن الايمان في اليمين في امنٍ وامان في مدة سيرهم، واذا وصلوا الى البلد حصل لتسعةٍ من العشرة
_____________________
1 الانفطار: 13-14
2 الدرس الرابع من »المدخل الى النور« وفي الكلمة الثالثة توضيح واف.
3 اي السالك قد حمل على عاتق ...
4 مقياس للوزن يساوي (1282 غم) .
5 او اوقية: مقياس للوزن القديم.



المثنوي العربي النوري - ص: 366
نفع عظيم وربح جسيم. وان الماشين بشؤم الضلالة والبطالة والبلاهة في اليسار، لهم في مدة سيرهم اضطراب عظيم من الخوف والجوع، يتنزّل الماشي لكل شئٍ لخوفه في ضعفه في عجزه، ويتذلّل لكلِ شئٍ لاحتياجه في فقره. واذا وصلوا الى البلد يُحْبَسون اويقتلون لا ينجو الا واحد او اثنان. فمن له ادنى عقلٍ لا يرجح ما فيه احتمال الضرر، على ما لا ضرر فيه لأجل خفةٍ قليلة. فكيف يرجح ما فيه اعظم الضرر من المائة بتسعة وتسعين احتمالاً، على ما فيه اَعظم النفع بتسعة وتسعين احتمالاً لاجل خفة جزئية في الصورة، مع ثقلةٍ كليةٍ في الحقيقة؟
اما المسافر فانت. واما استانبول فعالم البرزخ والآخرة. واما الطريق الايمن فطريق القرآن الآمر بالصلاة بعد الايمان. واما الطريق الايسر فطريق اهل الفسق والطغيان. واما اهل الخبرة والشهود فالاولياء المشاهدون؛ اذ ذو الولاية ذو ذوق شهودي في الحقائق الاسلامية، فما يعتقده العامي قد يشاهده الولي. واما السلاح والزاد ففي ضمن التكليف المتضمن للعبودية المتضمنة للصلاة المتضمنة لكلمة التوحيد المتضمنة لنقطتي الاستناد والاستمداد المتضمنتين للتوكل على القدير الحفيظ العليم وعلى الغني الكريم الرحيم.. فخلص من التنزل والتذلل لكل شئ له فيه جهة ضرِّ او نفع. اذ "لا اِلهَ اِلاَّ الله" يفيد ان لا نافع ولا ضار الا هو ولا نفع ولا ضرَّ الا باذنه.

بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(وما هذه الحَيَاةُ الدُّنيَا اِلاّ لَهْوٌ ولَعِبٌ وَاِنَّ الدَّار الآخِرةَ لَهِيَ الحَيَوانُ)
1
اعلم! 2 ايها السعيد المسافر الى الشيب، الى القبر، الى الحشر، الى الابد!. ان ما اعطاك مالكك من العمر لتحصيل لوازمات الحياتين بقدر الطول والقصر، قد ضيعتَه كله في هذه الحياة الفانية التي هي كقطرة سرابٍ بالنسبة الى البحر، فان كان لك عقل فاصرف نصفه او ثلثه لا اقل عُشره للباقية، ومن العجائب ان يقال لمثلك من احمق الناس هو: عاقل ذو فنون.

_____________________
1 العنكبوت: 64
2 الدرس الخامس من "المدخل الى النور" والكلمة الرابعة تكشف دقائق هذا المثال.



المثنوي العربي النوري - ص: 367
مثلاً: هل ترى احمقَ من عبدٍ اعطاه سيده اربعة وعشرينَ ديناراً وارسله من "بوردور"، الى "انطالية" 1، الى "الشام"، الى "المدينة"، الى "اليمن". وامره ان يصرف تلك الدنانير في لوازمات سفره ، لكن الى "انطالية"، يمشي راجلاً له نوع اختيارٍ، لو لم يصرف شَيْئاً لوصل ايضاً. ومنها الى سائر منازله لا اختيار له، اِن اشترى وثيقةً لركب سفينةً او (شمندوفراً) 2 او طيارةً وقطع مسافة شهرٍ في يومٍ . والا لذهب ماشياً طريداً تائهاً وحيداً . مع ان ذلك السائح الابله صرف ثلاثة وعشرين ديناراً في مسافة يومين!
فقيل له : فلا اقل فاصرف الواحد لزاد السفر الطويل يمكن ان يرحمك سيدك.
فقال : لا اصرف لاحتمال عدمِ الفائدة.
فقيل له: فيا للعجب لبلاهتك الى هذه الدرجة!.. كيف يفتيك عقلك ان ترمي نصفَ مالك في قمار (البيانكو) 3 وهو ثمانية واربعون ديناراً، مع اشتراك الف انسانٍ برجاء الظفر بألفِ دينارٍ، باحتمال واحد من الف احتمالٍ. فكيف لا يفتيك هذا العقل بان تعطي جزءً واحداً من اربعة وعشرين جزء من مالك لتظفر بكنوزٍ لا نفاد لها بتسعمائة وتسعة وتسعين احتمالاً بشهادات ملايين من اهل الخبرة والاختصاص. مع انه يُهتم في مثل هذه المنفعة الجسيمة باخبار واحدٍ عامي، فكيف باخبارات شموس البشر ونجومه المتواترين واهل الشهود الذين يرجّح اثنان من مثبتى اهل الشهود على الوف النافين المنكرين، كما يرجح شاهدان لهلال رمضان على الوف المنكرين لرؤيته.
اما العبد المسافر فانت. واما "بوردور" فدنياك. واما "انطاليه" فالقبر. واما "الشام" فالبرزخ. واما "اليمن" فما بعد الحشر. واما الدنانير الاربعة والعشرون، فاربع وعشرون ساعة في عمر اليوم، تصرف ثلاثاً وعشرين ساعةً لمصالح الحياة الفانية؛ وتتهاون في صرف ساعةٍ واحدةٍ في اداء خمس صلوات التي هي من ألزم الزاد في السفر الطويل !
_____________________
1 اسماء مدن تقع جنوبي تركيا
2 القطار
3 اليانصيب.




المثنوي العربي النوري - ص: 368
هذا التمثيل لبيان سر من اسرار الآية الكريمة:
(وَاُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتقين _ وَبُرّزَتِ الجحيمُ لِلْغاوينَ) 1
اعلم ! 2 ياايها الغافل التارك للدين في طلب الدنيا! احكي لك حكايةً تمثيليةً، فيها مثال قسم من حقائق الدنيا والدين.
كان فيما غبر من الزمان أخوان ، فذهبا الى ان انقسم الطريق طريقين: في احداهما كلفة اتباع القوانين، وفي الاخرى لا كلفة في الظاهر.. فذو الخلق الحسن اختار جانب اليمين مع الكلفة الخفيفة. وذو الخلق السيئ اختار جانب اليسار مع الخفة الثقيلة، فذهب ذو الشمال فيما بين القفار الى ان دخل صحراء خالية فسمع صوتاً هائلاً، فرأى اسداً مدهشاً يهجم عليه، ففر الى ان صادف بئراً عميقاً بستين ذراعاً، فرمى نفسه فيه ، فسقط ثلاثين ذراعاً فوصل يده الى شجرة في جداره، ولها عرقان ؛ قد تسلطت عليهما فارتان بيضاء وسوداء تقطعان العرقين. فنطر فيما تحته فرآى ثعباناً عظيماً ورفع رأسه الى قرب رجله، وسعة فمه كفم البئر. ونظر في جوانبه فرآى حشرات مضرّة مؤذيةً. فنظر الى الشجرة فرآها شجرة التين، لكن اثمرت انواعاً متباينةً من ثمرات الاشجار المختلفة، فبينما ضجت لطائِفهُ من دهشة الوضعية، اذ تجاهلت نفسُه بالتغافل مع انينات لطائفه، فحسب بالمغالطة انه في بستانٍ، فبسر حديث (انا عند ظن عبدي بي) 3 هكذا ظن، فهكذا عومل. فبقى ابداً بين هذه الاهوال لا يموت ولا يحيى. فهذا المسكين بسوء فهمه لم يتفطن انه لا يمكن التصادف في هذه الامور المطلسمة.
فلنرجع ونترك هذا المشؤوم في عذابه؛ ولنذهب خلف الاخ الميمون المتيامن. فهذا يذهب مستأنساً بحسن ظنه الناشئ من حسن سيرته. انظر كيف استفاد بحسن نَظره مما لم يستفد منه اخوه، اذ صادف في طريقه بستانا فيه اثمار وازهار، مع مستقذراتٍ وميتات. فتنزَّه بالمستحسنات ولم يلتفت الى الملوثات كأخيه. ثم ذهب حتى دخل
_____________________
1 الشعراء: 90،91
2 البحث خلاصة الكلمة الثامنة والدرس الثاني من "المدخل الى النور".
3 رواه البخارى ومسلم 2675 والترمذى 3538 (تحقيق احمد شاكر) وفي صحيح الجامع الصغير 4191، 4192



المثنوي العربي النوري - ص: 369
في صحراء خالية فسمع صوت الاسد الهاجم، فخاف لكن لا بدرجة اخيه، باحتمال ان الاسد مأمور سلطان الصحراء، ففر فصادف بئراً بستين ذراعاً فطرح نفسه فيه، فتعلق في نصفه بشجرة لها عرقان، تسلطت عليهما فأرتان تقطعانهما، فنظر فوقه فرأى الاسد؛ ونظر تحته فرأى ثعبانا عظيماً فمه كفم البئر تقرُب الى رجليه، فتدهش من الخوف لكن ادنى بمراتب من دهشة اخيه. لانه تفطّن بحُسن ظنه وفهمه من تناظر هذه الامور العجيبة ان فيه طلسماً، وانها تحت امر حاكم ناظر اليه يجرّبه. فتولد من خوفه (مرق) معرفَةَ مَن هو الذى يتعرّف الىّ ويسوقنى الى امرٍ من عنده. فتولد من (مرقه) محبة صاحب الطلسم. فنظر الى رأس الشجرة فاذا هي تينة اثمرت اثماراً متباينةً فزال خوفه بالكلية، وتيقن انه تحت حكم طلسم، اذ لا يمكن ان تثمر التينة ثمرات سائر الاشجار. فما هي الا اشارات الى الوان الاطعمة التي اعدها ذلك الملك الكريم لضيوفه. فتولد من محبته له طلب ما يفتح به الطلسم ويرضى به الطلسم، فاُلهِمَ المفتاح، فنادى: تركت الكل لك، وتوكلتُ عليك! فانشق الجدار، فانفتح بابٌ الى جنانٍ نزيهة. فرأى الاسد والثعبان انقلبا خادمين يدعوانه الى الدخول..
فانظر الى تفاوت حال الاخوين: ذاك ينتظر الدخول في فم الحية، وهذا يُدعى الى الدخول في باب البستان المنور المزهر المثمر.. وذاك في دهشة اليمةٍ وخوف يتفطر منه اعماق قلبه، وهذا في عبرة لذيذة وخوف تتقطر منه محبة وحرمة ومعرفة.. وذاك في وحشةٍ ويأسٍ ويُتمٍ، وهذا في انسيةٍ ورجاء واشتياق.. وذاك في هدف تهاجم الاعداء الموحشة، وهذا ضيف يستأنس بخدام المضيف.. وذاك يعجل عذابه باكل الثمرات اللذيذة التي اُذن في طعمها لاشتراء ما هي من انموذجها لا الى اكلها، اذ في بعضها سم. وهذا يؤجل الاكل ويلتذ بالانتظار..
فاذا تفهمت دقائق التمثيل فاعرف اوجه التطبيق: اما الاخَوَان فالروح المؤمن والكافر، والقلب الصالح والفاسق. واما الطريقان فطريق القرآن والايمان، وطريق العصيان والطغيان. واما الصحراء فالدنيا. واما الاسد فالموت. واما البئر فالبدن والحياة، واوسط العمر ستون. واما الشجر فالعمر. واما الفأرتان البيضاء والسوداء فالنهار والليل. واما الثعبان فالبرزخ الذى فمه القبر.. واما الحشرات المضرة


المثنوي العربي النوري - ص: 370
فالمصيبات.. واما الثمرات فالنعم الدنيوية المشابهة المذكرات لثمرات الجنة.. واما المسمومة منها فالمحرمات. واما الطلسم فسر حكمة الخلقة.. واما المفتاح فـ (الله لا اِلَهَ الاَّ هُوَ الحَيُّ القَيومُ) 1 أي - يا الله انت معبودي ورضاك مطلوبي - و"لا إله الا الله". واما تبدل فم الثعبان بباب البستان ؛ فلأن القبر لاهل القرآن والايمان باب الى رحمة الرحمن في دهليز الجنان. ولاهل الضلالة والطغيان باب الى ظلمات الوحشة والنسيان في برزخ كالزندان 2 كبطن الثعبان. واما تبدل الاسد المفترس فرساً مونساً؛ فلأن الموت للضال فراق ابدى عن جميع محبوباته، واخراجٌ له من جنته الكاذبة الدنيوية الى زندان القبر في الانفراد. واما للهادي فوصال الى احبابه، ووصول الى اوطانه، وخروج من زندان الدنيا الى بستان الجنان لأخذ اجرة الخدمة من فضل الحنّان، المنّان الديّان الرّحمن. جل جلاله ولا اله الا هو.
اعلم! 3 ايها السعيد المغرور المفتخر بما لم تفعل! انه لا حق لك في الفخر والغرور؛ اذ ليس منك في نفسك الا القصور والشر. وان كان خيراً فهو جزئي كجزئك الاختياري، لكن بجزئك الاختياري تفعل شرّاً كلياً، اذ بقصورك تُسقِط ثمرات سائر الاسباب المتوجهه الى مقصودك. فتستحق خسارة كليةً وخجالةً عامةً، لكن عكست القضية فَتَفَرْعَنت..
مثلك في هذا، كمثل مغرورٍ احمق صار شريكاً لجماعةٍ في التجارة بسفينةٍ، ففعل كل واحد وظيفته، فترك هو وظيفته التى بها تتحرك السفينة حتى غرقت فخسروا الف دينارٍ، فقيل له: الحق ان كل الخسارة عليك، فقال: لا، بل تنقسم علينا فعليَّ بمقدار حصتي. ثم في سفر آخر، فعل كما فعلوا فربحوا الف دينار ؛ فقيل له : فليقسم الربح على رأس المال، فقال: لا، بل كل الربح لي، اذ قلتم اولاً كل الخسارة عليك ، فاذاً كل الربح لي. فقيل له: ايها الجاهل! "الوجودُ" يتوقف على وجود كل اجزاء الموجود والشرائط فثمرة الوجود تُعطى للكل، والربح وجود. واما الخسارة فثمرة العدم مع ان الكل ينعدم بعدم جزء واحد وبفقد شرطٍ.
_____________________
1 البقرة: 255
2 السجن.
3 الدرس السادس من "المدخل الى النور".




المثنوي العربي النوري - ص: 371
فيا ايها السعيد اسما، والشقي جسماً! تُرجع ثمرة العدم على من صار سبباً للعدم، فلا حق لك في الفخر والغرور.
اما اولاً: فلأن الشر منك والخير من ربك.
واما ثانياً: فلأن شرَّك كلي وخيرَك جزئي.
واما ثالثا: فلانك اخذتَ اجرة عملك الخير قبل العمل، بل لا تساوي جميعُ حسناتك لعُشر معشار عشير ما أنعم عليك مَن جعلك انساناً مسلماً. ومن هذا السر تكون الجنة من محض الفضل، وتكون جهنم عين العدل؛ اذ قد يعمل البشر بشرّه الجزئي الآني جنايةً كليةً دائمةً.
واما رابعاً: فلان الخير انما يكون خيراً؛ ان كان لله. فاذا كان له، فالتوفيق منه، فالمنة له.. فالحقُ "الشكرُ" لا "الفخر" بالاراءة والرياء الذي يصير الخير شراً.. فمن جهلك بهذه الحقيقة صرت مغروراً في نفسك، غروراً لغيرك.. فتسند حسنات الجماعة اليه فيتفرعن في نظرك، بل تقسم مال الله وفعله على الطواغيت.
وكذا من هذا الجهل اسنادك سيئاتك التي هي - منك بالنص - الى القدَرَ فراراً من المسؤولية، وتملّكك للحسنات التي هي من فيض فضل فاطرك - بالنص- الى نفسك، لتُحمد بما لم تفعل.. فتأدب بادب القرآن
(مَا اصَابَك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) 1 فالتزم مالك، ولا تغصب ما ليس لك.. وكذا تأدب بآداب القرآن؛ بجعل جزاء السيئة مثلها.. والحسنة عشر امثالها.. فلا تعدّى عداوتك من المسئ بصفةٍ الى اقاربه والى سائر صفاته.. وتجاوز بمحبتك من المحسن الى انسابه مع الصفح عن عيوبه 2.
اعلم ! 3 ايها السعيد الغافل الفضولي!. انك تترك وظيفتك، وتشتغل بوظيفة ربك. فمن ظلمك وجهلك؛ تركك لوظيفة العبودية الخفيفة التي هي في وسعتك.. وحملك على ظهرك ورأسك وقلبك الضعيف، وظيفة الربوبية التى تختص بمن
_____________________
1 النساء: 79
2 هذه المعاني مفصّلة في رسالة "الاخوة"
3 الكلمة الخامسة والدرس السابع من "المدخل الى النور".




المثنوي العربي النوري - ص: 372
(خَلَقَكَ فَسَوّيكَ فَعَدَلَكَ _ في اَيّ صُورَةٍ مَاشَاءَ رَكّبَكَ) 1 فالتزم وظيفتك، وفوّض اليه وظيفته لتسعد وتستريح.. وإلاّ صرت عاصياً شقياً وخائناً غوياً. مثلك 2 كمثل نفر عسكر له وظيفة اصلية هي التعليم المخصوص، والحرب والجهاد، والسلطان مُعينُه في هذه الوظيفة باحضار لوازماتها، ولسلطانه وظيفة مخصوصة هي اعطاء ارزاق ذلك النفر وتعييناته ولباسه حتى دوائه.. لكن قد يستخدم النفر في وسائل هذه الوظيفة، لكن بحساب الدولة.
ومن هذا السر اذا قلت لنفر يطبخ طعامه: ماتفعل؟ يقول: افعل سخرةً (وعنقرةً) 3 للدولة، ولا يقول اعمل لرزقي.. لعلمه انه ليس من وظيفته، بل على الدولة حتى ان تدخل اللقمة في فمه، ان لم يقتدر بالمرض مثلا. فالنفر المشتغل بالتجارة لتدارك رزقه جاهلٌ شقيّ يُزيَّف 4 ويؤدّب.. والتارك للتعليم والجهاد خائن عصيّ يُضرَب ويُعنَّف.
فيا سعيد الشقي! انت ذلك النفر، وصلاتك هي تعليماتك. وتقواك - بترك الكبائر ومجاهدتك مع النفس والشيطان - هي حربُك. فهذه هي غاية فطرتك لكن الله هو الموفق المعين. واما رزقك وادامة حياتك وما يتعلق بك من الاموال والاولاد، فهي من وظيفة فاطرك، لكنه قد يستخدمك في وسائل قرع ابواب خزائن رحمته بالسؤال الفعلي او الحالى او القالى، وقد يستعملك في الذهاب في المسالك التى توصلك الى مطابخ نعمته، فتطلب بلسان الاستعداد او الاحتياج او الفعل او الحال او القال ماعَيّن وَقَدّرلك. . فما اجهلك في اتهامك - في حق رزقك - من رزقك اطيب الرزق، وانت طفل صغير بلا اختيار ولا اقتدار ويرزق كل دآبة لا تحمل رزقها وَهُو السميع العليم القدير الغني الذي جعل الارض في الصيف مطبخةً لضيوفه يفيض فيوضه في ظروف الرياض، ويملأ أواني الاشجار بلذيذات الاطعمة.. فاعمل بحسابه وباسمه وباذنه فيما استعملك فيه بعد ايفاء وظيفتك الاصلية.. فاذا تعارضا فعليك بوظيفتك فتوكل عليه، وقُلْ: حَسْبِيَ الله ونِعْمَ الوَكيلُ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصير.
_____________________
1 الانفطار: 7،8
2 هذا المثال موضح في "الكلمة الثانية"
3 كلمة مستعملة بالتركية اصلها يوناني ، وهي تعني العمل مجاناً من دون رغبة ولا اجرة.
4 بمعنى : يهان ويحقر.



المثنوي العربي النوري - ص: 373
بِسمِ الله الرحمــن الرحيم
(وَاِذا سَاَلَكَ عِبادي عَني فَانّي قَريبٌ اُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ اِذا دَعَانِ) 1
وكذا
(اُدْعُوني اَسْتَجِبْ لَكُمْ) 2
وكذا
(قلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لَوْلا دُعاؤكُم) 3
اعلم ! 4 يامن يدّعي انه يدعو ولا يجاب! ان الدعاء عبادة. وثمرة العبادة في الآخرة. واما المقاصد الدنيوية فاوقات تلك الادعية التي هي عبادات مخصوصة.
فكما ان الغروب وقتُ صلاة المغرب، والخسوف والكسوف وقتُ صلاة الكسوفين لا غايةٌ لهما، وانقطاعَ المطر وقتُ صلاة الاستسقاء، لا ان الصلاة وضعت لنزول المطر، بل هي عبادة لوجه الله تدوم مادام لم ينزل، واذا نزل المطر انقضى وقتها..
وكذا، تسلط الظالمين ونزول البلايا اوقاتٌ لأدعية مخصوصة تدوم مادامت هي، فان رُفعت بها فنورٌ على نور. وان لم تُرفع لا يقال لم يقبل الدعاء، بل لم ينقض وقت الدعاء.
واما وعد الاجابة في
(اُدْعُوني اَسْتَجِب لَكُمْ) فالاجابة غير قبول الدعاء بعينها. بل الجواب دائمي، واسعاف الحاجة تابع لحكمة المجيب.
مثلا: تقول لطبيبك: ياحكيم! فيقول: لبيك مجيبا.. فتقول: اعطني هذا الطعام او الدواء. فقد يعطيك عين ما طلبت او احسن منه، وقد يمنعك بضرورة في مرضك. ومن اسباب عدم قبول الدعاء ظن كون الدعاء لهذه المقاصد الدنيوية. مثلا : يُظن صلاة الاستسقاء موضوعة للمطر فلا تكون خالصة فلا تُقبل.
اعلم ! ان بالانقلاب ينفرج وادٍ معنويّ بين الطرفين، فلابد من جسر ممدود فيه مناسبة بين العالمين ليمرَّ عليه بالتعريّ والتلبس من هذا العالم الى ذلك العالم. لكن
_____________________
1 البقرة: 186
2 غافر: 60
3 الفرقان: 77
4 الدرس الثامن من "المدخل الى النور" وموضح في الكلمة الثالثة والعشرين.



المثنوي العربي النوري - ص: 374
الجسر له اشكال متخالفة، وماهيات متباينة واسماء متنوعة باعتبار اجناس الانقلابات وبُعد مقام المنقلب اليه عن نوع المنقلب. فالنوم جسر بين عالم اليقظة والمثال. والبرزخ جسر بين الدنيا والآخرة. والمثال جسر بين العالم الجسماني والروحاني. والربيع جسر بين الشتاء والصيف. واما في الحشر فليس فيه واحد، بل تندمج فيه انقلابات كثيرة عظيمة فجسرها اعجب واعوج واغرب!.
اعلم! ان في اكثار ذكر القرآن لمآل
(ِالَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) 1 (وَالَيْهِ تُرْجَعُونَ) 2، (وَالَيْهِ الْمَصيرُ) 3 (واليه مَآب) 4 بشارة عظيمة، وتسلية جسيمة - وان تضمنت للعاصي تهديداً - اذ تقول هذه الآيات للناس: ان الموت والزوال والفناء والفراق من الدنيا ليست ابواباً للعدم والسقوط في ظلمات الفناء والانعدام، بل هي ابوابٌ للقدوم والذهاب الى حضور سلطان الازل والابد. فهذه الاشارة تُنجي القلب من دهشة ألمِ تصوُّر تَمزُّقِهِ مع جميع محبوباته بين ايدي عدمات هائلة غير متناهية، والتفرق بين انياب فراقات مدهشة. فانظر الى دهشة جهنّم المعنوية المندمجة في الكفر!.. اذ بسر (انا عند ظنّ عبدي بي) ظنَّ الكافرُ هكذا.. فصَوَّرَ فاطرُه ظنَّه عذاباً ابدياً عليه.. ثم انظر الى درجة تفوق لذة اليقين بلقاء الله، حتى على الجنة. ثم بعده مرتبة الرضاء، ثم بعده درجة الرؤية، حتى ان جهنم الجسمانية للمؤمن العارف العاصي كالجنة بالنسبة الى جهنم المعنوية للكافر الجاهل بخالقه. ولو لم يكن من البراهين الغير المحصورة للبقاء ووسائله، الا "تضرعات حبيب المحبوب الازلي" وقد اصطف خلفه في تلك الصلاة الكبرى صفوف الانبياء وصفوف الاولياء مؤمّنين على دعواته ومناجاته، لكَفَتْ وسيلةً وبرهاناً. أيمكن ان يوجد في هذا الحسن الابدع الاجمل، والجمال الابرع الاكمل هذا القبحُ الاعجب والنقصُ الاغرب؟.. اي بان لا يسمع من يَسمع اخفى هواجس الحاجات لاخفى المخلوقات بدليل قضائها في اوقاتها اللائقة، وان لا يقبل ارفع الاصوات الصاعدة من الفرش الى العرش، واحلى المناجاة، واعظم الدعوات، في اشد الحاجات..؟ كلا ثم كلا هوالسميع البصير.
نعم، هذه المعاملة من اوسع مراتب شفاعته عليه الصلاة والسلام وكونه رحمة للعالمين.
_____________________
1 الانعام : 60
2 البقرة : 28
3 المائدة : 18
4 الرعد : 36

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة

المثنوي العربي النوري - ص: 375
اعلم! انه كثيراً ما اصادف الغافلين وهم يتحججون بمسألة القدر، ويتعمقون في مسألة الجزء الاختياري، وخلق الافعال.. مع انهم بلسان غفلتهم ينكرون القدر رأساً ويعطون الازمّة ليد التصادف، يتوهمون انفسهم فاعلين على الاطلاق، ويقسمون مال الله وصنعه على ابناء جنسهم وعلى الاسباب. فالنفس الكافرة او الغافلة في وقت الغفلة تسلب الكل باطناً وان اثبتت ظاهراً. والمؤمنة العارفة تثبت الكلَّ له ايماناً واذعاناً؛ فهاتان المسألتان في الكلام، غايتان لحدود التوكّل والايمان، ولمراقي التوحيد والاسلام، لاهل الصحو والحضور من العارفين، وبرزخ حاجز 1. فاين انتم ايها الغافلون المتفرعنون في انانيتكم؟ واين التحقق بهاتين المسألتين ! فان ترقيت في المحوية والعبودية الى درجة نفي الجزء الاختياري، والى مقام احالة كل شئٍ على القَدرَ، فلا بأس عليك، اذ فيك نوعٌ من السكر؛ اذ هما حينئذٍ من المسائل الايمانية الحالية، لا العلمية التصورية..
اعلم! 2 ان التواضع قد ينافي تحديث النعمة. وقد ينجرُّ تحديثُ النعمة الى الكِبر والغرور، فلا بد من الدقة والامعان وترك الافراط والتفريط.
وللاستقامة ميزان وهو: ان لكل نعمة وجهين:
وجهٌ الى المُنعَم عليه فيزيّنه ويميّزه ويتلذذ به، فيفتخر، فيقع في السُكر فينسى المالك، فيتملك، فيظن الكمال بملكه الذاتي، فيتكبر بما لا حقّ له فيه.
ووجهٌ ينظر الى المنعِم فيظهر كرمه، ويُعلن رحمته، وينادي على انعامه، ويشهد على اسمائه. وهكذا مما يتلو من آيات جلواته في انعامه. فالتواضع انما يكون تواضعاً اذا نظر الى الوجه الاول، والا تضمن كفرانا. وتحديث النعمة انما يكون شكراً معنوياً وممدوحاً اذا نظر الى الوجه الثاني، والا تضمن تمدحا وغروراً..
يا يوسف الكشرى 3. اذا تلبست بلباس فاخر غال لاخيك يوسف الكيشي، فقال لك سعيد: ما احسنك! فقل: الحسن للّباس، لا لي، فتصير متواضعاً في التحديث..
_____________________
1 وبرزخ حاجز لأهل الغفلة
2 المسألة السابعة من المكتوب الثامن والعشرين توضح هذا البحث.
3 الحوار مع بعض طلاب الاستاذ النورسى القدامى".




المثنوي العربي النوري - ص: 376
اعلم! ان عرق الرقابة والغبطة والحسد انما يتحرك عند اخذ الاجرة وتوزيع المكافأة وملاحظتها. واما عند الخدمة وفي وقت العمل فلا، بل الاضعفُ يحب الاقوى، والادنى يميل الى الاعلى، ويستحسن تفوقه عليه، ويحب زيادته في الخدمة عليه؛ لانه يتخفف عنه ثقلُ الخدمة وكلفةُ العمل. فاذ كانت الدنيا دار خدمة وعمل فقط للأمور الدينية والاعمال الاخروية، لابد ان لا يتداخل فيها الرقابة والحسد، واذا تداخلت فيها الرقابة يظهر عدم الاخلاص، وان العامل في تلك الاعمال يلاحظ مكافاةً دنيوية ايضا، وهو تقدير الناس واستحسانهم. ولا يعرف المسكين انه بهذه الملاحظة ابطل عمله - بدرجة - بعدم الاخلاص بتشريك الناس برب الناس في اعطاء الثواب، واضعف قوته بتنفير الناس عن معاونته.
اعلم! ان معنى الكرامة مباينٌ لمعنى الاستدراج، اذ الكرامة كالمعجزة فعلُ الله.. ويتفطن صاحبُها انها منه سبحانه، وليس من نفسه، ويطمئن بانه حام له رقيبٌ عليه يختار له الخير. فيزداد يقيناً وتوكلاً. فقد يشعر بتفاصيل الكرامات باذن الله، وقد لا يشعر وهذا أولى وأسلم. كأن انطقه الله بما في قلب احدٍ، اومثّله له يقظةً لهدايته، وهو لا يعلم ما يفعل الله به لعباده.
واما الاستدراج فينكشف له صورة الاشياء الغائبة وهو في غفلة، او يعمل افعالاً غريبة، وهو مستند بنفسه واقتداره فيزدادُ بعداً وانانية وغروراً. فيقول:
(انَّماَ اوتُيتهُ عَلَى عِلْمٍ) 1 وانكشف لي بصفاء نفسي وضياء قلبي.
فلا التباس بين اهل الاستدراج واهل الولاية في الطبقة الوسطى.
واما مظهر الفناء الأتمَ من اهل الطبقة العليا المنكشف لهم باذن الله الاشياء الغيبية، فيرونها بحواسهم التي هي لله 2 فالفرق اظهر؛ اذ نورانية باطنهم المترشحة الى الظاهر ارفع من ان تلتبس بظلمات من يرائي ويدعو الى انانيته.
_____________________
1 القصص: 78
2 كما جاء في الحديث الشريف "... فاذا احببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.." رواه البخاري.



المثنوي العربي النوري - ص: 377
(وإن مِنْ شَيْء الاَ يُسَبح بِحَمْدِهِ) 1
اعلم! 2 ان التسبيح والعبادة على وجوه غير محدودة في كل شئ، ولا يلزم شعور كل شئ بكل وجوه تسبيحاته وعباداته دائماً. اذ لا يستلزم الحصول الحضور؛ 3 مثل ذلك كمثل اجير جاهل يعمل في سفينة لمالكها الذي استأجره ليجس باصبعه على بعض مسامير (الالكتريكية) في بعض الاوقات، ولا يعرف الاجير ما يترتب على عمله من الغايات الغالية. وانما يعرف ما يعود الى نفسه من الاجرة ولذة المكافاة. حتى قد يتوهم ان وضع هذا العمل ليس الا لهذه اللذة.. كمثل الحيوان الذي لايعرف من غايات الازدواج الا لذة قضاء الشهوة، ولا يضر جهله هذا - ولا يمنع - من حصول النسل الذي هو غاية من الغايات المطلوبة لمالكه. كمثل النمل ينظف وجه الارض من جنائز الحُوينات، مع أنه لا يعرف الا تطمين حرصه.. او كمثل العنكبوت الذي يزين وجه الفضاء، ورؤس النباتات والاحجار بخيوط حريره المتلمعة بالضياء للمسابقة مع الهوام في سير الهواء ولا يعرف الا نسج مصيدته، ومد ما يطير به ليمر عليه.. وكمثل الساعة تعرفك عدد ما انقضى من عمرك اليومي، وهي لاتعرف الاّ زوال ألم تضييق امعائها 4. وكمثل النحل صنع ما صنع بحلاوة الوحي المندمج في لذته الخاصة.. وكمثل الوالدات النباتية والحيوانية والانسانية انما تعمل للذة الشفقة، ولا تخل جهالاتها بالغايات بحصول تلك الغايات التي زينت بيت الكائنات. بل كأن تلك الشفقة نواة ومسطر لتلك الغايات.
ويكفي المسبحين العابدين علمهم بكيفية عملهم فقط. كما قال عز وجل
(كلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه) 5. ولا يلزمهم علمُهم بكون عَمَلهم تسبيحا مخصوصا هكذا، وشعورهم بصفة العبادة المعينة. ويكفيهم شعور سائر اخوانهم المتفكرين بما في اعمالهم من لطائف العبادات وغرائب التسبيحات. بل يكفي علم المعبود المطلق فقط. واذ لا ابتلاء بالتكليف لا تلزمهم "النية" فلا يلزم شعورهم بوصف عملهم. على ان تلك المصنوعات في الاصل كلمات تسبيحاتٍ افادت
_____________________
1 الاسراء: 44
2 الكلمة الرابعة والعشرون - الغصن الرابع توضيح واف لهذه المسألة.
3 اي لا يستلزم حصول التسبيح جمعَ النفس وبلوغها تمام اليقظة عند التسبيح.
4 المقصود حركة النابض وانفتاحه التدريجي.
5 النور : 41




المثنوي العربي النوري - ص: 378
معانيها ثم صارت تلك الكلمات مسبحاتٍ بالسنتها كذواتها. وفي تلك الكلمات مسبحات اخرى. وفي هذه ايضا مسبحات صغار، وفيها ايضاً مسبحات اصاغر وهكذا، الى ما شاء السبوح القدّوس جلّ جلاله ولا اله الا هو..
اعلم! ان ما ارسل اليك وزيّنك من الرأس الى القدم من اشتات النعم والمحاسن واللطائف، انما تمر "بميزان" من خلال حجب متباينة. وتتسلل "بنظام" من بين لفائف متخالفة. وتتوجه اليك "بالانتظام" من خلف طوائف متضادة.
اعلم! ان في النفس امراً لطيفاً كدرهم من ورق رقيق. اظن انه مرصاد الابد. اذ ما يمسه شئ الا ويعطيه حكم الابد ويموّهه بوهم الابدية. واذا استعمله الهوى والهوس، صار آلة تجلب احجار الآخرة واساساتها الى الدنيا، فيبنى قصرها عليها، فيأكل اثمار الآخرة بلا نضج في الدنيا الفانية.
اعلم! ان النفس شئ عجيب !.. وكنز آلات لا تعد وموازين لاتحد لدرك جلوات كنوز الاسماء الحسنى إن تزكت.. وكهف حيّات وعقارب وحشرات إن دسَّت وطغت. فالأولى - والله اعلم - بقاؤها لا فناؤها؛ فالبقاء مع التزكية - كما سلكت عليه الصحابة - اوفق بسر الحكمة من موتها الاتم كما سلك عليه معظم الاولياء.
نعم، ان في جرثوم النفس جوعاً شديداً، واحتياجاً عظيماً، وذوقاً عجيباً. واذا تحول مجرى سجاياها، انقلب حرصُها المذموم اشتياقاً لا يشبع، وصار غرورُها المشؤوم وسيلة النجاة عن جميع انواع الشرك. وتحول حبُها الشديد لنفسها وذاتها؛ حبا ذاتيا لربها وهكذا.. حتى تنقلب سيئاتُها حسناتٍ.
اعلم! انه كما ان قيمة الانسان المؤمن قيمةُ ما فيه من الصنعة العالية، والصبغة الغالية ونقوش جلوات الاسماء . وقيمة الانسان الكافر او الغافل قيمة مادته الفانية الساقطة.. كذلك قيمة هذا العالم تزيد بلا نهاية - ان نظر اليه بالمعنى الحرفي وبحسابه سبحانه - كما علم القرآن. وتسقط قيمته الى درجة المادة المتغيرة الجامدة - ان نظر اليه بالمعنى الاسمى وبحساب الاسباب - كما علَّمَتْه الحكمة الفلسفية.
فالعلم المستفاد من القرآن المتعلق بالكائنات أعلى واغلى بما لا يُحدّ من العلم المستفاد من فنون الفلسفة.


المثنوي العربي النوري - ص: 379
مثلا: يقول القرآن (وَجَعَلَ الشّمْسَ سِراجاً) 1 فانظر كيف يفتح بهذا الحكم لفهمك مشكاةً الى سلسلة جلوات الاسماء، اي ايها الانسان! ان هذه الشمس بعظمتها مسخَّرةٌ لكم، ونور لبيتكم، ونار لإنضاج مطعوماتكم بامر من يرزقكم، فلكم مالك رحيم، عظيم القدر بدرجة ما هذه الشموس الا مصابيح له اسرجت في منزل معدّ للمسافرين فيما بين منازله الباقية، وهكذا فقس.
واما ماتقول الحكمة من ان "الشمس نار عظيمة متحركة على نفسها تطايرت منها ارضُنا وسيارات هي منظوماتها، وارتبطت بالجاذبة جارية في مداراتها".. فلا تفيدك الاّ حيرة في دهشة، وعظمة صماء، وحكمة عمياء.
اعلم! انه لا حق لك في ان تطلب حقا من الحق سبحانه، بل حق عليك ان تشكره دائماً؛ إذ له الملك والحمد..
يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا كريم! اجعل هذا الكتاب نائباً عني في تكرير هذه الشهادة بعد موتي الى يوم الدين:
اللهم يارب محمد المختار، يارب الجنة والنار، يارب النبيين والاخيار، يارب الصديقين والابرار، يارب الصغار والكبار، يارب الحبوب والاثمار، يارب الانوار والازهار، يارب الانهار والاشجار، يارب الاعلان والاسرار، يارب الليل والنهار! نشهدك ونشهد حملةَ عرشك، ونُشهد جميع ملائكتك، ونُشهد جميع مخلوقاتك، بشهادات جميع انبيائك وبشهادات جميع اوليائك، وبشهادات جميع آياتك التكوينية والكلامية، وبشهادات جميع مصنوعاتك، وبشهادات ذرات الكائنات ومركباتها، وبشهادات حبيبك عليه افضل صلواتك، المتضمنة شهادته لجميع تلك الشهادات، وبشهادات قرآنك، بانّا كُلُّنا نشهد بانك انت الله الواجب الوجود، الواحد الاحد، الفرد الصمد، الحق المبين، الحي القيوم، العليم الحكيم، القدير المريد، السميع البصير، المتكلم، لك الأسماء الحسنى. ونشهد ان لا اله الا انت وحدك لا شريك لك. لك الملك. ولك الحمد. ونستغفرك ونتوب اليك.. وكذا نشهد بان محمداً عبدك، ونبيك، وحبيبك، ورسولك، ارسلته رحمةً للعالمين.. فَصَلّ وسلّم عليه وعلى آله واصحابه ابد الآبدين آمين آمين آمين..
_____________________
1 نوح: 16




المثنوي العربي النوري - ص: 380
في بيان جوهرة من كنوز آية:
(ومَاخَلَقْت الْجِنَ والانْسَ الاَّ لِيَعْبُدونِ) 1
اعلم! 2 يا ايها السعيد الناسي لنفسك، ولوظيفة حياتك!. الغافِل عن حكمة خلقة الانسان، الجاهلِ بما أوضع الصانعُ الحكيمُ في هذهِ المصنوعات المزيَّنة!.. ان مَثَل بناء هذا العالم وادخال العالم الانساني فيه، كمثل سلطان له خزائن فيها اصناف الجواهر، وله كنوز مخفية، وله مهارة في صنع الغرائب، وله معرفة بعجائب فنون لا تعد وبغرائب علوم لا تحد. فاراد ذلك الملك. ان يظهر على رؤس الاشهاد حشمةَ سلطنتِهِ وشعشعة ثروته وخوارقَ صنعتِه وغرائبَ معرفته، اي ان يشهد كماله وجماله وجلاله المعنوية بالوجهين؛ بنظره، ونظر غيره.
فبنى قصراً جسيماً ذا منازل وسرادقات. فزينها بمرصعات جواهر كنوزه، ونقشها بمزينات لطائف صنعته، ونظمها بدقائق فنون حكمته، ووسمها بمعجزات آثار علومه، وفرش فيها سفرة لذيذات نعمه ونعمته. وهكذا مما يظهر بمثله الكمالات الخفية. فدعى رعيته للسير والتنزه، واضافهم بضيافة لا مثل لها، كأن كل لقمة منها انموذج مئات صنعة لطيفة. ثم عين استاذاً لتعريف ما في ذلك القصر من رموز تلك النقوش واشارات تلك الصّنائع، ووجوه دلالات تلك المرصعات المنظومات والجواهر الموزونات على كمالات صاحبها، ولتعليم الناس آداب الدخول والمعاملات مع صانع القصر، فيقول لهم:
ايها الناس ! ان مليكي يتعرف اليكم باظهار ما في هذا، فاعرفوه.. ويتودد اليكم بهذه التزيينات فتوددوا اليه بالاستحسانات.. ويتحبب اليكم بهذه الاحسانات فاحبوه.. ويرحم اليكم فاشكروه.. ويتظاهر اليكم فاشتاقوا اليه. وهكذا مما يليق بمثله ان يقول للداخلين. فدخل الناس فافترقوا فرقتين: ففريق نظر الى ما في القصر، فقالوا: لهذا شأن عظيم، فنظروا الى المعلم الاستاذ فقالوا: السلام عليك! لابد لمثل هذا، من مِثلِكَ.. فَعَلّمْنَا ممّا علمك سيدُك.. فنطق فاستمعوا فاستفادوا فعملوا بمرضيات الملِك.. ثم دعاهم الملك لقصر خاص لا يوصف، فاكرمهم بما يليق بمثله لمثلهم في مثل ذلك القصر..
_____________________
1 الذاريات: 56
2 الدرس العاشر من"المدخل الى النور" وهو خلاصة الكلمة الحادية عشرة ونواتها.



المثنوي العربي النوري - ص: 381
والفريق الآخر: ما التفتوا الى شئ غير الاطعمة، فتعاموا وتصاموا، فاكلوا اكلَ البهائم فتناموا، وشربوا من الاكسيرات التى لا تشرب، فسكروا فتنهقوا، فشوشوا على الناظرين، فاخذهم جنوده فطرحهم في سجن يليق بهم.
وانت تعلم ان الملك لما بنى هذا القصر لهذه المقاصد، وحصول هذه المقاصد مربوط بوجود هذا الاستاذ، وباستماع الناسله.. يحق ان يقال: لولا هذا الاستاذ لما بنى الملك القصر. واذا لم يستمع الناس لتعليمات الاستاذ المبلِّغ يخرب القصر ويبدل.
واذا تفطنت لسر التمثيل فانظر الى صورة الحقيقة.. واما القصر فهذا العالم الذي نوّر سقفه بمصابيح متبسمة، وزيّن فرشه بازاهير متزينة. واما الملك فهو سلطان الازل والابد الذي:
(تُسَبحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ والارْضُ وََمَنْ فيهِنَّ وانْ مِن شَئٍ اِلاَّ يُسَبحُ بحمدِهِ 1 الله الذَّي خَلَقَ السَّمــواتِ والارضَ في سِتَّةِ ايّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْش يُغشى اللَّيْلَ النَّهار يَطْلُبُهُ حَثيثاَ والْشَمْسَ والقَمَرَ والْنُجُومَ مُسَخَّراتٍ بِاَمْرِهِ) 2. واما المنازل فالعوالم المزينة كل بما يناسبه. واما الصنائع الغريبة فهي معجزات قدرته. واما الاطعمة فهي خوارق ثمرات رحمته. واما المطبخ والتنور فالارض وسطحها. واما الكنوز المخفية وجواهرها فالاسماء القدسية وجلواتها. واما النقوش ورموزها فمنظوماته المصنوعات المرموزات ودلالاتها على اسماء نقاشها. واما الاستاذ المعلم ورفقائه وتلامذته فسيدنا محمد والانبياء عليهم الصلاة والسلام والاولياء رضي الله عنهم. . واما حواشي الملك في القصر فالملائكة عليهم الصلاة والسلام.. واما المسافرون المدعوون للسير والضيافة؛ فالانسان مع حواشيه من الحيوانات. واما الفريقان؛ فاهل الايمان والقرآن الذي يفسّر لأهله معاني آيات كتاب الكائنات. والفريق الآخر؛ اهل الكفر والطغيان التابعون للنفس والشيطان صمّ بكم عمي هم (كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ) 3 لا يفهمون الا الحياة الدنيوية..
فاما السعداء الابرار فاستمعوا للعبد الواصف لربه "بالجوشن الكبير" وللمبلغ بدلالته للقرآن الكريم. وانصتوا للقرآن، فصاروا نظارين لمحاسن سلطنة الربوبية، فكبروا
_____________________
1 الاسراء: 44
2 الاعراف: 54
3 الفرقان: 44




المثنوي العربي النوري - ص: 382
مسبحين، ثم صاروا دلالين لبدايع جلوات الاسماء القدسية، فسبحوا حامدين وصاروا فاهمين بالطبع بحواسهم لمدخرات خزائن الرحمة فحمدوا شاكرين. ثم صاروا عالمين بجواهر كنوز الاسماء المتجلية بالوزن بموازين جهازاتهم فقدسوا مادحين.ثم صاروا مطالعين لمكتوبات قلم القدرة، فاستحسنوا متفكرين. ثم صاروا متنزهين برؤية لطائف الفطرة، فاحبوا الفاطر مشتاقين. ثم قابلوا تَعَرُّفَ الصانع اليهم بمعجزات صنعته بالمعرفة في الحيرة فقالوا: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف، بمعجزات جميع مصنوعاتك.. ثم قابلوا تودده اليهم بمزينات ثمرات الرحمة بالمحبة. ثم قابلوا تعطّفه وتعهده لهم بلذائذ نعمه بالمحمدة والشكر، فقالوا: سبحانك ما شكرناك حق شكرك يامشكورُ، بأثنية جميع احساناتك على رؤوس الاشهاد، وباعلانات جميع نعمتك ولذائذها في سوق الكائنات، وبشهادات نشائد منظومات جميع ثمرات رحمتك ونعمتك لدى انظار المخلوقات. ثم قابلوا اظهاره لكبريائه وكماله وجماله وجلاله في مظاهر الكائنات ومرايا الموجودات السيالة بالسجود في المحبة في الحيرة في المحوية. ثم قابلوا اراءته وسعة رحمته وكثرة ثروته بالفقر والسؤال. ثم قابلوا تشهيره للطائف صنعته بالتقدير والاستحسان والمشاهدة والشهادة والاشهاد. ثم قابلوا اعلانه لسلطنة ربوبيته في اقطار الكائنات بالتوحيد، بالاطاعة والعبودية باعلان عجزهم في ضعفهم وفقرهم في فاقتهم. فادوا وظائف حياتهم في هذه الدار، حتى صاروا في احسن تقويم، اعلى من كل الخلق خليفة اميناً ذا امانة، ويمُن وايمانٍ. ثم دعاهم ربُّهم الى دار السلام للسعادة الابدية فاكرمهم بما لاعينٌ رأت، ولا اذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
واما الفريق الآخر الفجار الاشرار، فكفروا فحقَّروا بالكفر جميعَ الموجودات باسقاط قيمتها كما مر سابقاً. وردوا جميع تجليات الاسماء فجنوا جناية غير متناهية فاستحقوا عقاباً غير متناه.
ايها السعيد المسكين!. اتحسب ان وظيفة حياتك حُسنَ محافظةِ النفس والتربية المدنية وخدمة البطن والهوسات؟.. ام تحسب ان غاية ادراج هذه الحواس والحسيات، والجوارح والجهازات، والاعضاء والآلات، واللطائف والمعنويات في ماكنة حياتك استعمالها في هوسات النفس الدنية في هذه الحياة الفانية؟ كلا! بل ما


المثنوي العربي النوري - ص: 383
حكمة ادراجها في فطرتك، الا احساسُك جميع انواع نِعَمه تعالى، وإذاقة معظم اقسام تجليات اسمائه. فما غاياتها، الا ان تزن بتلك الموازين مدخرات خزائن رحمته، وان تفتح بتلك الجهازات مخفيات كنوز جلوات اسمائه جل جلاله؛ بل ما غايات حياتك الا اظهارك وتشهيرك بين اخوانك المخلوقات ما في حياتك من غرائب جلوات اسمائه.. ثم اعلانك بحالك وقالك عند باب ربوبيته عبوديتك.. ثم تبرجك وتزيّنك بمرصعات جواهر جلوات اسمائه للعرض والظهور لنظر شهود الشاهد الازلي.. ثم فهمك لتحية ذوي الحياة بالتسبيحات لواهب الحياة، ومشاهدتك لها، وشهادتك بها، واشهادك عليها.. ثم فهمك بمقياسية جزئيات صفاتك وشؤونك لصفات خالقك وشؤونه المطلقة المقدسة.. ثم فهمك الكلمات الموجودات الناطقات بتوحيده وربوبيته.. ثم تفطنك بامثال عجزك وفقرك لدرجات تجليات قدرته وغناه.
وما ماهية حياتك، الا خزينة وخريطة وانموذج وفذلكة ومقياس وميزان وفهرستة لغرائب اثار جلوات اسماء خالق الموت والحياة.
وما صورة حياتك، الا كلمة مكتوبة مسموعة مفهّمة لاسمائه الحسنى. وما حقيقتها الا، مرآتيتها لتجلي الاحدية. وما كمالها في سعادتها، الا شعورها بما تمثل فيها مع المحبة والشوق لما هي مرآة له، واما سائر ذوي الحياة فيشاركونك في بعض الغايات المذكورة لكن لا يساوونك، اذ انت المرآة الجامعة كما رُوى :"ما يسعنى ارض ولا سماء ويسعنى قلب عبدي المؤمن" 1
_____________________
1 الحديث "ما وسعني سمائي ولا ارضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن".
ذكره في الاحياء بلفظ مقارب. قال العراقي في تخريجه: لم ار له أصلاً (كشف الخفاء للعجلوني 2/195 باختصار). وقال السيوطي في الدرر المنتثرة: قلت اخرج الامام احمد في الزهد عن وهب بن منبه: ان اللهفتح السموات لحزقيل حتى نظر الى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما اعظمك يارب! فقال الله: ان السموات والارض ضعفن ان يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين« اهـ .
قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلاً منهما كفر، وصالحو الصوفية اعرف الناس بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وانما يريدون بذلك ان قلب المؤمن يسع الايمان بالله ومحبته ومعرفته. ا هـ .



المثنوي العربي النوري - ص: 384
بسم الله الرحمن الرحيم
يا الله، يارحمن، يا رحيم، يافرد، ياحي، يا قيوم، ياحكم، ياعدل، ياقدوس. بحق اسمك الاعظم. وبحق آيات فرقانك الاحكم، صلّ على سيدنا محمد رسولك الاكرم بعدد ذرات وجودنا وبعدد عاشرات دقائق عمرنا وحياتنا، وانزل علينا وعلى (ناشر هذه المجموعة من طلاب النور) وعلى طلبة رسائل النور السكينة والتمكين والاطمئنان كما انزلت على اصحاب وآل نبيّك المختار عليه الصلاة والسلام، وانزل علينا وعلى طلبة رسائل النور السكينة والايمان الخالص واليقين الكامل والنية الصادقة والمتانة الاتم في خدمة القرآن والايمان.. وآمِن فَزَعَنا بدفع البدعيات الهائلات عن شعائر الاسلام، وفرح قلوبنا باعلان الشعائر الاسلامية في العالم عن قريب الزمان. وبنشر رسائل النور بكمال الرواج بين عالم الاسلام. وسلمنا وسلم ديننا وسلم طلبة رسالة النور من تجاوز الملحدين.. وارزقنا وارزق طلبة رسائل النور السلامة، والعافية في الدين والدنيا والآخرة. واشف امراضنا واجعل القرآن شفاء لنا ولهم من كل داء واجعلنا واجعلهم من الحامدين الشاكرين دائما آمين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. اجمعين امين..


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM
المثنوي العربي النوري - لمعات عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 07:27 PM


الساعة الآن 10:02 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir