المثنوي العربي النوري - ص: 333
الرسالة العاشرة
القطعة الثالثة
من شَمَّة 1
من نسيم هداية القرآن
_____________________
1 هذه الرسالة بكاملها غير موجودة في الطبعة الاولى ، وانما هي في المخطوط وفي الطبعة التالية وهى رسالة مستقلة في الترجمة التركية. تضم خلاصة لكثير من مباحث رسالة "المدخل الى النور" والتي فصّلت في »الكلمات«.
المثنوي العربي النوري - ص: 334
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن الله التوفيق لأقوم الطريق
سبحانك يا من انطق السماء بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.
ويامن انطق الارض بحمده وتسبيحه بكلمات الاشجار والنباتات..
وانطق النبات والشجر بكلمات الازهار والثمرات..
وانطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات..
وانطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبات..
سبحانك يامن يسبح بحمدك الضياء بانواره، والهواء باعصاره، والماء بانهاره، والارض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجو بأطياره، و السحاب بامطاره، والسماء باقماره.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس 1 الانبياء، وزبرقان 2 الاصفياء ونيّر 3 الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين 4. وعلى آله نجوم الهدى، واصحابه مصابيح الدجى.
_____________________
1 النبراس: المصباح.
2 بكسر الزاي والباء : اي القمر.
3 بفتح النون وتشديد الياء: المقصود الشمس.
4 افق المشرق والمغرب.
المثنوي العربي النوري - ص: 335
اعلم ! 1 يا من يضيق ذهنُه عن فهم سرّ: (وجَعَلناها رُجُوماً لِلشَّياطين) 2 ان للصعود الى سماء هذه الآية سلّماً ذا درجات سبعة:
الاولى : ان للسموات سكانا يناسبونها يسمون بالملائكة، اذ امتلاء الارض مع حقارتها بالنسبة الى السماء من ذوي الحياة والادراك، يشير بل يصرح بامتلآء السموات ذات البروج - تلك القصور المزينة - من ذوي الادراك.
وكذا ان تزيين الكائنات بجميع هذه التزيينات والمحاسن والنقوش مستلزمةٌ لوجود انظار متفكرين مستحسنين بالحيرة والتقدير؛ اذ لا يُظهَر الحُسن الاّ لعاشق، كما لا يُعطى الطعام الا لجائع. مع انه لا يكفي الجن والانس لعُشر معشار عشير هذه الحشمة والوظيفة، بل لا تقوم بها الا ما لا يعد من انواع الملائكة والروحانيات.
الثانية: ان للارض علاقة مع السماء ومعاملة معها وارتباطا يجئ منها اليها اشياء، من الضياء والحرارة والبركات وغيرها. فبالحدس القطعي نعلم ان للارضيين طريقاً يصعدون فيها الى السماء، اذا خَفّوا بوضع اثقالهم وخلع اجسادهم كالانبياء والاولياء والارواح.
الثالثة: ان سكونة السماء وسكوتها وانتظامها واطرادها تدل على ان اهلها ليس كأهل الارض التي فيها اضطراب وتذبذب واختلافات وامتحان بمشاجرات، بسبب اختلاط الاشرار بالاخيار واجتماع الاضداد، بل كل اهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون.
الرابعة: ان لمالك يوم الدين ولرب العالمين اسماءٌ متغايرةٌ احكامها، فالاسم الذى اقتضى انزال الملائكة للمحاربة في صف الصحابة مع الكفار، يقتضي وقوع المحاربة بين الملائكة والشياطين؛ أي السماويين الاخيار والارضيين الاشرار. الا ترى السلطان كيف يفعل ؟ اذ قد يقتضي شأن سَطوته واسم حشمته تشهير استحقاق المكافأة والمجازاة على رؤوس الأشهاد، او اعلان تعظيم بعض خدامه، بان لا يعامِلهم بعِلْمِه بهم فقط، وبتلفونه الخاص، بل يأمر الوزيرَ فيحشّد الناس لميدان مبارزة محتشمة، وامتحان علوي، واستقبال سياسي..
_____________________
1 تفصيل هذا البحث في الكلمة الخامسة عشرة والكلمة التاسعة والعشرين.
2 الملك: 5
المثنوي العربي النوري - ص: 336
الخامسة: انه لابد ان يقلِّد اشرار الروحانيات اخيارهم في تشبث الذهاب الى مملكة السماء للطافتهم، ولابد ان لايقبلهم اهلُ السماء ، بل يطردونهم لشراراتهم. ولابد في حكمة سلطنة الربوبية ان يكون لهذه المبارزة المعنوية والمعاملة المهمة علامة واشارة في عالم الشهادة لاشهاد الانسان الذي اهم وظيفته المشاهدة والشهادة مع انه لايرى فيما بين الحادثات السماوية انسب من اعلان هذه المبارزة العلوية من رمي الشهب المشابهة للمنجنيقات المرماة من بروج الحصون الرفيعة، مع انه لايرى لهذه الحادثة حكمةً تناسبها غير هذه الحكمة المشهورة المشهودة لجميع أهل الحقيقة، خلاف سائر الحادثات.
السادسة : ان القرآن الحكيم المعجز يرشد البشر ويزجره من العصيان باسلوب غال ومثل عال.. فانظر الى انذار (يَاَ مَعْشَرَ الْجِنِ والانْسِ ان اسْتَطَعْتُمْ انْ تَنْفُذُوا مِنْ اقْطَارِ السَّمواتِ واَلارْضِ فَانْفذُوا لاتَنفذُونَ الاَّ بسلْطان) 1 الآية في تعجيز الثقلين، واعلان عجزهما في جنب وسعة سلطنة الربوبية، كأنّهُ يقول : ايها الانسان الحقير الصغير العاجز! كيف تعصي سلطاناً يطيعه الشموس والاقمار والنجوم والملائكة الذين يرجمون الشياطينَ ببنادقَ كأنها جبالٌ بل اعظم! وكيف تتجاسر على العصيان في مملكة سلطانٍ؛ من جنوده مَن يقتدر ان يرمي في وجه الاعداء بنجومٍ في عظمة ارضكم كما ترمى جوزك وبندقتك.
السابعة: ان النجم كالمَلك والسَمَك له افراد في غاية الصغر وفي غاية الكبر. فكل ما يضئ في وجه السماء فهو نجم، فمن هذا النوع مايُزَيّن به السماء كالجواهر والاثمار والاسماك 2، ومنه مايُرجم به الشياطين كالمنجنيقات المرماة للطرد، او للاشارة الى وجود الحارسين المتيقظين المطيعين المجتنبين عن اختلاط العاصين، او للرمز الى جريان قانون المبارزة في اوسع الدوائر.. ولله الحجة البالغة والحكمة القاطعة.
اعلم ! ان الآيات المصرحة بكتابة الاشياء قبل كونها وبعد كونها كثيرة، كأمثال (ولاَ رَطْبٍ ولاَ يَابِسٍ الاَّ في كِتابٍ مُبينٍ) 3 ويصدقها منظومات مكتوباتُ
_____________________
1 الرحمن : 33
2 اي ان هذه الافراد الكثيرة لنوع النجم تزيّن وجه السماء وتتلألأ كالجواهر ، كما تزين الاثمار البساتين الغناء والاسماك البحار.
3 الانعام : 59
المثنوي العربي النوري - ص: 337
كتاب الكائنات وموزونات آياتها، لاسيّما آيات النظام والميزان والانتظام والتصوير والتزيين والامتياز.
أما قبل الكون، فالدليلُ جميع المبادي والبذور وجميع المقادير والصور، اذ ما البذور: الا صُنيدقات لطيفة اودعت فيها فهرستة ما رسمَه القَدر، فتبني القدرةُ وتستخدم الذرات على هندسته. وما المقادير الا مكتوبات قدرية منظومة، وقوالب علمية موزونة؛ اذ الذرات الصم العمي الجامدة تتحرك في نمو الاشياء ثم تتوقف عند حدود معوجة، توقف سميع بصير بمظانّ الفوائد والثمرات. وهكذا فقس كثرة براهين الكتابة قبل الكون.
واما الدليل على الكتابة بعد الكون؛ فمن العالم جميع الثمرات التي هي كمطويات صحائف اعمال الاشجار والازهار، تَنشرُ على رأس الأشهاد ما جرى على رؤوس اصولها، اذا دُفنت في الارض وحُشرت في الربيع. ومن الانسان قوته الحافظة التي هي في محل كالخردلة في الصغر، وما هي الاّ كسَنَدٍ استنسخته يَدُ القدرة بقلم القدر من صحيفة الاعمال، واعطَتْه ليد الانسان ليتذكّر به وقت المحاسبة، وليطمئن ان خلفَ هذا الهرج والمرج والفناء والزوال: مرايا للبقاء رَسَم فيها القدير هويات الزائلات، والواحٌ يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات..
اعلم ! انه كما ان الساعة غير ثابتة بل متزلزلة مضطربة الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى ايضاً متزلزلة. فبادراج الزمان فيها صار "الليل والنهار" كميلين يعدّان ثوانيها، و"السنة" ابرةً تعد دقائقها، و "العصر" كإبرة تعد ساعاتها. وبادراج المكان فيها صار "الجو" بسرعة تغيره وتحوله وتزلزله كميل الثواني. و"الارض" بتبدل وجهها نباتاً وحيواناً، موتاً وحياةً كميل الدقائق. وبتزلزل بطنها وتولد "جبالها" كميل الساعات. و"السماء" بتغيراتها بحركات اجرامها وظهور ذوي الأذْناب والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعد الايام.
فالدنيا المبنية على هذه الاركان السبعة - مع انها واصفة لشؤونات الاسماء ولكتابة قلم القدرة والقدر - فانية هالكة متزلزلة راحلة كالماء السيال في الحقيقة. لكن تجمّدت صورةً بالغفلة، وتكدّرت بالطبيعة فصارت حجاباً عن الآخرة.
المثنوي العربي النوري - ص: 338
فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودَتها وكُدورَتَها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعية. واما القرآن فينفش الدنيا كالعهن المنفوش بآياته، ويشفّفها ببيّناته، ويذيبها بنيّراته، ويمزق ابديتها الموهومة بنعيّاته، ويفرّق الغفلة المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقة الدنيا المتزلزلة تقرأ بلسان حالها المذكورة آية: (واذا قُرىءَ الْقُرآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرحَمون) 1.
اعلم ! ان مميز الانسان عن الحيوان شمول علاقته بالماضي والمستقبل، وكلية ادراكه بالانفس والآفاق.. وكشفه لترتب العلل الظاهرية في انشاء الاشياء الظاهرية. فاعظم وظيفته واقدمها 2، واتم جهازاته والزمها؛ التسبيحُ والتحميد بالجهاز المخلوق لهما، فيسبح الانسان صانعه بلسان الماضي والحال والمستقبل، وبألسنة الانفس والآفاق 3.. وبسر مشاهدته لتسبيحات المخلوقات وشهادته عليها يثني على صانع الاشياء بقراءة اسمائه المكتوبة بالترتيب والترتب في حكمة صنع الاشياء.
فسبحان الله يتضمن معنى الحيرة والتقدير، ومعنى التعجب والاستحسان، ومعنى التنزيه والتقديس، ومعنى الهَيبة مع المحبة، ومعنى المجهولية للعظمة...
اعلم ! ان لله عطايا، وقضايا، ومقدرات.. ينفذ العطاءُ في القضاء ، والقضاءُ في القدَرَ. اي يخرق العطاءُ قانونَ القضاء. كما تنخرق صلابة الحجر والتراب عند مرور العروق اللينة، وتنكسر مقاومةُ الحديد للمَيل اللطيف من الماء اللطيف عند الانجماد، ويُخرق لسهم القضاء قانونُ القدر كما ينخرق القانون الكلي الذي هو قَدَرُ النوع بشذوذ الجزئيات الخارقة المخصّصة للاشارة الى انه سبحانه فاعلٌ مختار يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ويَحْكُمُ ما يريدُ لامانع لما اعطى ولا راد لما قضى.
فنسبة العطاء الى القضاء كنسبة القضاء الى القدر، اي العطاء شذوذٌ عن قانون القضاء كما يقول العارف بحقيقة الحال: "يا الهي ان حسناتي من عطائك، وسيئاتي من قضائك. لولا عطاؤك لكنت من الهالكين". اي استعداد النفس الامارة بالسوء قانون شر وهلاك.
_____________________
1 الاعراف: 204
2 اي: اولى الوظائف واهمها (ت: 188)
3 اي ان الانسان يحمد ربه ويسبّحه بما أنعم عليه في الماضي والحال وما سينعم عليه من نعم في المستقبل ، وبما يجده منها في نفسه او في الافاق (ت: 188)
المثنوي العربي النوري - ص: 339
اعلم ! ان السر في تختيم الآيات بفذلكات متضمنة للاسماء الحسنى - كامثال آية الملك، او بعين الاسماء كما في كثير من الآيات، هو:
ان القرآن الحكيم ببيانه الاعجازي يبسط الآثار للنظر، ثم يستخرج منها الاسماء، كامثال آية: (وهُو الَّذي يَبْدَؤا الخَلْقَ ثُمَّ يُعيدهُ وهُوَ اهْوَنُ علَيْه ولَهُ المثلُ الاعْلى في السَّموات والارْض وهو العزيز الحكيم) 1
وكذا ينشر للبشر منسوجات صُنعه، ثم يطويها في الاسماء.
وكذا يفصّل أفاعيله ثم يَجْملها باسمائه.
وكذا يرتب المخلوقات ويشفّفها باراءة النظام والميزان والفوائد، ثم يريك فيها الاسماء كأن تلك المخلوقات الفاظ، وهذه الاسماء معانيها او ماؤها او نواتها ايجاداً وخلاصتها علماً.
وكذا يذكر الجزئيات المادية المتكيفة المتغيرة، ثم يجملها بالاسماء الكلية النورانية الثابتة..
وكذا يفرش الكثرة المتوسعة المنتشرة، ثم يضع عليها مظاهر الوحدة كجهة الوحدة..
وكذا يُظهِر باظهارِ غاياتِ المسبَّبات بُعْدَ ما بين الاسباب والمسبَّبات المتصلتين في الظاهر، كما يُرى تماس الافق بالسّماء في ظاهر النظر، مع ان ما بينهما مسافة مدهشة. اذ لا طاقة لأعظم الاسباب بذاته على حمل اخف المسبَّبات، فيُظهر القرآنُ باظهار هذا البُعد محل ظهور الاسماء ومَطَالِعها.
وكذا قد يذكر افاعيل الخلق فيهدّد، ثم يسلّي باسماء تشير الى الرحمة.. وقد يذكر مقاصد جزئية، ثم يقررها باسمآء هي كالقواعد الكلية والبراهين عليها 2..
اعلم 3! ان العجز كالعشق طريقٌ موصلٌ الى الله بل اقرب وأسلم. ثم ان اهل السلوك سلكوا في طرق الخفاء على اللطائف العشرة، وطرق الجهر على النفوس السبع.. وهذا العاجز استفاد من القرآن طريقاً قصيراً، وسبيلاً سوياً هو اربع خطوات:
_____________________
1 الروم:27
2 رسالة "المعجزات القرآنية" تفصّل هذه المسائل بأمثلة كثيرة.
3 تفصيله في ذيل الكلمة السادسة والعشرين.
المثنوي العربي النوري - ص: 340
الخطوة الاولى: ما اشارت اليها آية (فلا تُزكّوا انْفُسكم) 1.
والثانية: ما اشارت اليها آية: (ولاَ تكونُوُا كالذينَ نَسوُا الله فأنسـيهم انفْسَهُم) 2.
والثالثة: ما اشارت اليها آية: (مَا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله ومَا اصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) 3.
والرابعة: ما اشارت اليها آية: (كُلُّ شَيْء هَالِكٌ الاَّ وَجْهَهُ) 4.
وايضاحه: ان الانسان بحسب جبلّته محب لنفسه، بل لا يحب بالذات - في الاول - الا ذاته، فيمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود، ويدافع عن نفسه بشدة وينزّهها عن المعايب ولا يقبل القصور لها ما امكنه، حتى كأنه يصرف الجهاز المخلوق فيه لحمد معبوده وتسبيحه الى نفسه، كمن اتخذ إلهه هواه. فلابد من تزكيتها هنا بعدم تزكيتها.
والثانية: نسيان النفس في مقام الكُلفة والخدمة، وشدة إلتزامها في مقام اخذ الاُجرة والحظوظات. فتزكيتها عكس هذه الحالة اي: عدم النسيان في عين النسيان.
والمرتبة الثالثة: لا يرى من نفسه الاّ القصور والنقص والعجز والفقر، ويرى كل المحاسن نِعَماً من جانب فاطره تقتضي الحمد لا الفخر، فتزكيتُها في هذه المرتبة؛ علمها بان كمالَها في عدم كمالِها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها..
والخطوة الرابعة: دركُ انه في نفسه وبالمعنى الاسمى فان مفقودٌ حادثٌ معدومٌ، وبالمعنى الحرفي - والمرآتية لاسماء صانعه - شاهدٌ مشهودٌ وواجدٌ موجودٌ. فتزكيتُها هنا: معرفةُ ان عدَمَها في وجودها، ووجودها في عدمها، ووِردُها: له الملك وله الحمد.
وكذا ان مشرب اهل وحدة الوجود يذهب الى اعدام الكائنات بنفي وجودها. ومشرب اهل وحدة الشهود يذهب الى حبس الموجودات في سجن النسيان المطلق.
_____________________
1 النجم: 32
2 الحشر: 19
3 النساء: 79
4 القصص: 88
المثنوي العربي النوري - ص: 341
واما ما افهم من منهاج القرآن فهو: عفوها عن الاعدام والحبس، بل استخدامها في وظائف اعلان الاسماء الحسنى بالمظهرية والمرآتية: بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وعزلها عن الخدمة بالمعنى الاسمي وبحساب نفسها..
ثم ان الانسان في وجوده دوائر متداخلة ومصنوعات متراكبة؛ اذ هو نبات، وحيوان، وانسان، ومؤمن.. فالمعاملة للتزكية قد تقع اولاً في الطبقة الرابعة الايمانية. ثم تتنازل الى النباتية التي هي شديدة المقاومة، وقد تقع المعاملة في الكل في اليوم والليلة. ومما غَلَط فيه الانسان عدم الفرق بين تلك المراتب فيقول: خلق لنا ما في الارض جميعا، فاولاً يغلط بظن انحصار الانسانية في معدته النباتية او الحيوانية. ثم يغلط بانحصار غايات الاشياء في ما يؤول الى نفسه. ثم يغلط بتقدير قيمة الاشياء بمقياس مقدار منفعته منها، فلا يشتري نجم الزهرة بزهرةٍ مشمومة..
اعلم 1! ان العبودية نتيجة النعمة السابقة وثمنها، لا مقدمة المكافآت اللاحقة ووسيلتها.
ايها الانسان! اخذت اجرتك؛ اذ صنعك هكذا في احسن تقويم. ثم تَعرَّفَ اليك باعطاء الايمان.
نعم، كما انه باعطاء المعدة أنعمَ عليك بجميع المطعومات.. كذلك باعطاء الحياة صيَّر لك عالمَ الشهادة سفرةً مملؤةً من النعم. فانظر الى تفاوت السفرتين. وكما انه باعطاء النفس الانساني جعل لهذه المعدة عوالم الملك والملكوت مائدةً مشحونة بالنعم.. كذلك باعطاء الايمان فرش لك مع الموائد المزبورة موائد مدخرات كنوز اسمائه.. وباعطاء محبته فتح لك ومنحك ما لا يوصف، فاذا اخذتَ مثل هذه الأجرة، فعليك بالخدمة. فاذا اعطاك بعد العمل نعمة اخرى فما هي الاّ من محض الفضل..
اعلم! ان ما يشاهد من الجود بلا حساب في تكثير افراد الأنواع، لا سيما في صغار المخلوقات مع كمال الاتقان وحسن الانتظام، يشير بل يصرح بعدم التناهي في تجليات الصانع.. وبمباينة ماهيته.. وبتساوي الاشياء بالنسبة الى قدرته.. وبوجوبه.
_____________________
1 تفصيله في الثمرة الثانية من الغصن الخامس للكلمة الرابعة والعشرين.
المثنوي العربي النوري - ص: 342
نعم، ما هذا الجود والايجاد الا من ذلك الوجوب ومن برهانه. والجود في النوع جلالي، والاتقان في الفرد جمالي 1...
اعلم! ان الصنعة الانسانية تسهل على الصانع بدرجة علمه بها، وتَعسر بمقدار جهله، لاسيما في المصنوعات اللطيفة الدقيقة الجهازات. فكلما كان أعلمَ كانت عليه ايسر واسهل. فما يشاهد من السهولة بلا حدّ في السرعة المطلقة والوسعة المطلقة في خلق الاشياء المنتظمة، يدل قطعاً وحدساً على ان لصانعها علماً لا نهاية له. كما تشير الى تلك السهولة آية (ومَا امْرُنَا الاَّ واحِدةٌ كَلَمحٍ بالْبَصَر) 2
اعلم! انه كما ان مَن لف على مصنوعٍ او مصنوعات لفائف مصنوعة، وألبس مكنونةً مزينةً أو مكنوناتٍ اقمصةً نُسجت من جنس مادتها - كالجلود - وادرج متولدات منحوتات من بطونٍ متراكمة في اجوافها، لاشك ولاريب ان المظروفَ كالظرف، والمحاطَ كالمحيط صنع واحدٍ ومالُه وملكُه ..
كذلك لا شك ولا ريب ان من لف لفائف الوحدة الاتصالية والنوعية على الكثرة، كوحدة الكل والكلي والظرف.. وكذا ألبس على قامات جماعات هذه المصنوعات المنثورة اقمصةَ هذه العناصر التي كأمهاتها.. وكذا ادرج هذه المخلوقات لاسيما الحيوانات التي هي تماثيل مصغرة لهذه العوالم الكبيرة في اجواف تلك العوالم اللواتي هن كأبنية متداخلة ضربت على موجودات هن كثمراتها او نواتاتها، ماهو الا واحدٌ احدٌ صمدٌ يتجلى على المحيط بالواحدية، وعلى المحاط بالاحدية..
اعلم! 3 انه كما ان للسلطان عنوانات متنوعة لحاكميته في دوائر حكومته وطبقات رعيته ومراتب سلطنته ووظائف اميريته، كأنه موجودٌ حاضرٌ ومشهودٌ ناظرٌ في كل دائرةٍ وخلفَ كلِّ حجابٍ بممثله وقانون نظامه، كذلك مثلا: ولله المثل الاعلى ان من له الاسماء الحسنى، له تجلٍ في عالَمٍ عالَمٍ بعنوان اسمٍ من اسمائه الحسنى ويستتبع ذلك الاسم في دائرة سلطنته سائرُ الاسماء بل يتضمنها.. وكذا
_____________________
1 اي يتجلى جلاله سبحانه اذا نظر الى النوع - بافراده الكثيرة - اما اذا ما انعم النظر في كل فرد فيتجلى جمال الاتقان في الصنعة . ففي الفرد يتجلى الجمال وفي النوع يتجلى الجلال.
2 القمر: 50
3 تفصيله في الغصن الاول من الكلمة الرابعة والعشرين وفي الكلمة الحادية والثلاثين.
المثنوي العربي النوري - ص: 343
يتصرف في كل طبقةٍ طبقةٍ كلاًّ وجزءاً، كلياً وجزئيا بتجل خاص في ربوبية خاصة بجلوات اسم خاص، اي يتجلى عليه بخصوصية كأنه يخصّه، مع انه يعمُّ ويحيط.
وله سبحانه في مراتب ربوبيته شؤونات متناظرة.. وله في سرادقات الُوهيته اسماءٌ متعاكسة.. وله في مرايا حشمته تمثيلات متفاوتة.. وله في تصرفات قدرته عنوانات متنوعة.. وله في تجليات صفاته ظهورات متزاهرة. وله في جلوات افاعيله تصرفات متظاهرة.. وله في تنويع مصنوعاته ربوبيات متدائرة على تجلي الاحدية على جزئيات محاط الواحدية، كما اشار الى هذه الحقيقة العظيمة الواسعة ترجمان لسان القدم في مناجاته في "الجوشن الكبير" 1 وهذه المناجاة مشتملة على تسعة وتسعين عقدة، وصدفٍ كل منها متضمنة لاثني عشر من جواهر التوحيد صريحاً او ضمناً؛ اذ اذا نودى احدٌ بوصفٍ مطلق في مقام التعيين يدل على انحصار الوصف فيه. مثلاً: "يادائم" أي: يامن لا دائم في العالم الا هو. فله سبحانه حجب نورانية الى سبعين الفاً، كما روي 2.. ولوجود المنافذ في الحجب والتناظر في الشؤونات والتعاكس في الأسماء، والتداخل في التمثيلات، والتمازج في العنوانات، والتشابه في الظهورات، والتساند في التعرفات، والتعاضد في الربوبيات، وتجلي الاحدية في احاطة الواحدية، لزم البتة لمن عرفه سبحانه في واحد مما مرّ، ان لا يستنكره في سائر ذلك، بل يفهم بالبداهة انه هو هو.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الانْسَانَ في احْسَنِ تَقْويمٍ) 3
اعلم! ان من عجائب جامعية فطرة الانسان، ان ادرج الفاطرُ الحكيمُ في هذا الجرم الصغير موازين لا تعد، لوزن مالا يُحدّ من مدخرات رحمته. وادمج فيه آلاتٍ لا تُحصى جهازاتُها المعنوية لفهمِ مالا يتناهي من مكنونات كنوز اسمائه الحسنى.
انظر الى حواسك العشرة كيف احاطت بالوان عوالم المسموعات، والمبصرات، والمذوقات وغيرها.. وكذا اعطاه جزئيات صفات واحوال من الارادة والعلم والسمع
_____________________
1 ) الجوشن : لغة : الصدر والدرع. والمقصود هنا مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم المروية عن زين العابدين رضي الله عنه.
2 عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان الله عز وجل دون سبعين ألف حجاب من نور وظلمة وما يسمع من نفس شيئاً من حس تلك الحجب الاّ زهقت) رواه الطبرانى في الكبير 5802، وابو يعلى 2 / 355
3 التين: 4