«العجمي» فن دمشقي يحافظ على ألقه
حرفة الزخرفة على الخشب
«العجمي» فن دمشقي يحافظ على ألقه مستفيداً من الاستثمار السياحي
من المصدر ©بيوت قديمة مزينة بمشغولات العجمي
عمّار أبو عابد
فورة المطاعم في دمشق القديمة أنعشت فناً دمشقياً عريقاً، هو فن الزخرفة على الخشب أو ما يسمى بالعجمي الشامي، وأسهمت الفنادق الحديثة في العاصمة السورية في ازدهار هذا الفن الرفيع من جديد، حيث اختار معظمها أن يخصص قاعات مزينة بالعجمي في محاولة للتميز واكتساب مسحة جمالية تراثية. وهكذا، فإن الاستثمار السياحي ومنشآته أنقذا فناً ثميناً كاد أن يندثر.
عودة الروح
يجمع حرفيو العجمي على أن الروح عادت إلى مهنتهم بقوة، بعد أن كادت تتلاشى وتندثر. يقول سامر الخياط “كان في دمشق أربع ورش صغيرة تعمل في العجمي، ولم تكن حال العمل القليل تسر القلب، لكن منذ خمسة عشر عاماً وحتى الآن، أصبح في دمشق أكثر من عشر ورشات، تعمل باستمرار، والطلب عليها ملح”. ويضيف “إعادة إحياء البيوت الشامية القديمة والحمامات واستثمار معظمها سياحياً جعلت الطلب على فن العجمي شديداً، مما دفع بالكثيرين ممن هجروا هذه المهنة إلى العودة لها، كما أن هذا شجع عدداً جيداً من الشباب على تعلم المهنة على أيدي المعلمين والانخراط فيها”. ويشير إلى أن الطلب سيستمر على فن العجمي بقوة، وسيوفر لهذا الفن انتشاراً أكبر، وعودة إلى ساحة الجمال الشامي، إذ إن أصحاب الفنادق والمطاعم في دمشق الحديثة، وأصحاب المنشآت السياحية في غوطة دمشق وعلى طريق المطار يحرصون على إقامة قاعات شرقية تزين سقوفها وجدرانها بالعجمي الشامي، كما أن أصحاب المحال الفخمة في الحميدية وأبو رمانة أصبحوا يختارون العجمي في الديكور نظراً لجماليته، ويتمنى الخياط ألا تكون هذه الفورة موجة عابرة، رغم اعتقاده أن العجمي بدأ ينتصر، وأنه سيستمر في الازدهار مع تضاعف عدد الورش وعدد الفنيين الموهوبين العاملين في هذا الفن الأصيل.
ويعد المسجد الأقصى المبارك أول مكان شهد بزوغ فن الزخرفة على الخشب في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك على أيدي صناع دمشقيين مهرة. وبعد أن تمت زخرفة الأقصى المبارك دهش الخليفة الأموي بما رأى، وأمر أن تبدأ فوراً عملية زخرفة الجامع الأموي الكبير على نمط ما تم تنفيذه في الأقصى، ثم انتقل هذا الفن بعد أن توطد إلى البيوتات الشامية القديمة، فأصبح سمة تميز القصور والدور. والآن، وبعد أن مضى على ظهور هذا الفن ما يزيد على ألف وأربعمئة عام، فإنه يتجدد وينهض من جديد.
العائلات التي واكبت ظهور هذا الفن وورثته أباً عن جد، تكاد تختصر في عائلات شامية عدة معروفة، مثل عائلات الخياط والرز والدهان وأوطه باشي والجزماتي والقصير. ويتحدث أحمد الدهان عن فن العجمي قائلاً “إن العمل به يتم يدوياً في جميع المراحل، وهذا ما يفسر كلفته العالية”. وبعد أن يشرح بالتفصيل مراحل العمل بدءاً من الرسم على ورق الزبدة بالإبرة، مروراً بخلطة العجينة إلى الحف والتلوين، يقول “إن ورق الذهب يثبت على الأماكن النافرة، كما أن بعض الزخارف تعتق بمادة خاصة”.
ثم يشرح أنواع الزخارف، فيقول “هناك الزخرفة النباتية والزخرفة الهندسية، وهناك الزخرفة بالألوان فقط، كما يمكن للوحة الواحدة أن تجمع بين زخارف عدة تميز بها هذا الفن عبر الممالك المتتالية من أموية إلى فاطمية فمملوكية. أما التزيين بالخط العربي فدخل إلى فن الزخرفة عبر الخطوط الفنية المختلفة، مثل الكوفي والديواني، وهو ما يميز فن الزخرفة العربي عموماً والدمشقي خصوصاً”.
ويقدم الخبير في فن العجمي أحمد حسنية تعريفاً لهذا الفن، قائلاً “إنه مادة نافرة يدخل في تركيبها الزنك والسبيداج والجبس والسلر المائي أو الغراء الطبيعي مع بياض البيض النيء وتخلط جميعاً لتعطي الزخرفة الدمشقية النافرة”. ويضيف أن كلمة عجمي الموصوف بها هذا الفن، لا تعني أنه أجنبي، وإنما تشير إلى ما هو جديد وغير مألوف، فهذا الفن دمشقي الروح والهوية والأصل والمنشأ. إنه سمة من سمات الفن الدمشقي الأصيل، حتى أنه لا يوجد في أية مدينة سورية أخرى غير دمشق.
الآلة والغش
يقول محمد الرز “إننا نعمل في العجمي، وفي ذهننا أن التحفة التي نصعنها ستدوم لمئات السنين، ونصر على العمل اليدوي الخالص، لكن في المقابل هناك بعض المهندسين وخريجي كلية الفنون الجميلة الذين أدخلوا الآلة إلى فن العجمي بحجة مواكبة روح العصر ومتطلباته، لكن فناني العجمي يعتبرون ذلك نوعاً من الغش، وأن ما تنتجه الآلة قصير العمر، بينما يدافع أنصار الآلة عن توجههم بالقول إنهم يعتمدون العلم لا التقليد، وإنهم استطاعوا ابتكار تصاميم حديثة تحافظ على روح القديم وجماليته”. ويضيف “فنانو العجمي يقولون إن ما تنتجه الآلات يمكن تسميته بأي اسم إلا العجمي. فالأخير يصنّع باليد من أوله إلى آخره، وإن استخدام الآلات هو لعب على الناس وتشويه لتراث دمشقي أصيل، بينما يتمسك أنصار الآلة برأيهم قائلين إن الآلة توفر لهم إمكانات لإنتاج أنواع مختلفة من الزخرفة، ولا يزال الصراع بين الطرفين في أوله، وكل طرف يتمسك بوجهة نظره.
ويقول ياسين الرز إن دخول الآلة إلى مجال هذا الفن هو خراب وتخريب. والرز من حرفيي العجمي في حي مئذنة الشحم، يقول “لا يمكن للسائح الذي يبهر بفن العجمي أن يشتري غرفة وينقلها لبلده، فذلك يعتبر نكتة. لذا صنع لهم حرفيو العجمي الدمشقيون قطعاً صغيرة الحجم كنماذج عن الأعمال الكبيرة، مثل اللوحات الجدارية والطاولات والأبواب، وهي تباع بأسعار معقولة، تشجع السياح على اقتنائها”. أما بالنسبة لأسعار العجمي فتبدو ـ بحسبه ـ أقل من عادية، إذ إن تكلفة المتر المربع الواحد بما فيه أجرة التركيب تتراوح بين مائة ومائتي دولار أميركي، رغم صعوبة العمل وإرهاقه وحاجته إلى وقت طويل لإنجازه.
لكن ما يعتبره الرز نكتة، حصل في الواقع، إذ إن إحدى المغتربات السوريات في الولايات المتحدة حضرت إلى دمشق خصيصاً لتحمل معها إلى مغتربها ديكور غرفة كاملة من العجمي، وذلك كي تنقل إلى بيتها في الولايات المتحدة جزءاً من تراث وروح دمشق الفني الأصيل.
قيمة فنية عالمية
لفن العجمي الشامي شهرة عالمية واسعة، حيث يضم “متروبوليتان” أشهر متاحف العالم، قاعة تحمل اسم دمشق، وهي مزخرفة بفن العجمي، كما أن قاعة مكتبة جامعة نيويورك مزخرفة بهذا الفن الشامي. وهناك مدن غربية أخرى تميل إلى أن تقيم قاعات وغرف شامية في مكتباتها العامة وجامعاتها، على أن أبرز إبداعات فن العجمي التي تدهش الزوار والسائحين تتجلى في قاعة اجتماعات مجلس النواب السوري في دمشق والتي تعتبر تحفة فنية لا نظير لها. كما تتجلى في القاعة الشامية والبيت الشامي اللذين يعودان إلى مديرية الآثار العامة.
كما تشهد على إبداعات هذا الفن قاعات البيوت الشامية في دمشق القديمة، كبيت دار الثقافة وبيت نظام وغيرهما من بيوت دمشق القديمة العريقة، إضافة إلى قاعة الاجتماعات في مبنى محافظة دمشق، وقاعة العرش في قلعة حلب. ويبدو في ظل الانتعاش الحالي لهذا الفن أننا سنرى إبداعات جديدة تحافظ على هذا التراث العريق.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات