أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً طيباً ، وعملاً متقبلاً           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
قديم 02-02-2011
  #51
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

النافذة الخامسة والعشرون

إن المضروب يدل بالضرورة على فاعل، وهو الضارب، والمصنوع المُتْقَنُ يستوجب الصانِعَ المتقِنَ، ووجود الولد يقتضي الوالد، والتحت يستلزم الفوق... وهكذا..

وقد أطلق العلماء على أمثال هذه الصفات مصطلح (الامور الإضافية) أي النسبية، أي لا يحصل الواحد دون الآخر.

فجميع ما في هذه الأمور من (إمكان) سواء في جزئيات الكون أو كلياته، تدل على (الوجوب). وما يُشَاهدُ في الجميع من انفعالات تدل على فعل واحد، وما يشاهد في جميعها من مخلوقية تدل على الخالقية، وما يشاهد فيها من كثرة وتركيب يستلزم الوحدة.

فالوجوب، والفعل، والخالقية، والوحدة، تستلزم بالبداهة والضرورة مَنْ هو الموصوف بــ(الواجب، الفاعل، الخالق، الواحد) الذي هو ليس ممكناً ولا منفعلاً ولا مخلوقاً ولا كثيراً ولا مركّباً.

وعلى هذا الأساس فان ما في الكون من إمكان، وما فيه من إنفعال، وما فيه من مخلوقية، وما فيه من كثرة، وما فيه من تركيب، يشهد شهادة واضحة على ذاتِ واجب الوجود، الواحد الأحد، خالق كل شئ الفعال لما يريد.

الخلاصة: كما يُشاهَدُ (الوجوب) من خلال (الإمكان) ويُشَاهَدُ (الفعل) من خلال (الأفعال) وتُشاهَدُ (الوحدة) من خلال (الكثرة)، وكما يدل وجود كل منها على وجود الآخر دلالة قاطعة، كذلك الصفات المشاهدة على الموجودات كـ (المخلوقية، والمرزوقية) (أي كون الموجود مخلوقاً ومرزوقاً) تدل على شؤون (الخالقية والرزاقية) دلالة قاطعة.. فوجود هذه الصفات أيضاً يدل بالضرورة وبالبداهة على (الخلاّق الرزّاق، والصانع الرحيم)...

أي أن كل موجود يشهد على (الذات الأقدس لواجب الوجود) وعلى مئات من اسمائه الحسنى بما يحمل من مئاتٍ من أمثال تلك الصفات.

فإن لم تقبل أيها الإنسان بجميع هذه الشهادات فينبغي لك إذن إنكار أمثال تلك الصفات كلها.

النافذة السادسة والعشرون (1)

ان أنواع الجمال الزاهر، وأشكال الحسن الباهر، التي تتلألأ على وجوه الكائنات السريعة الأفول، ثم تتابع هذا الجمال وتجدده بتجدد هذه الكائنات، واستمراره باستمرار تعاقبها.. إنما يظهر أنه ظِلٌ من ظلال تجليات جمال سرمدي لا يحول ولا يزول. تماماً كما ان تلألأ الحباب على وجه الماء الرقراق، وتتابع هذا اللمعان في تتابع الحباب يدل على أن الحباب والزبد والتموجات التي تطفو على سطح الماء إنما تمثل مرايا عاكسة لأشعة شمسٍ باقية.. فتلمّع أنواع الجمال أيضاً على الموجودات السيالة في نهر الزمان الجاري يشير الى جمال سرمدي خالد، ويدل على ان تلك الموجودات انما تمثل اشارات وعلامات على ذلك الجمال.

ثمَّ ان ما يخفق به قلب الكون من حُبّ جاد وعشق صادق يدل على معشوق دائمٍ باقٍ... إذ كما لا يظهر شئٌ في الثمرة ما لم يوجد في الشجرة نفسها، فكذلك العشق الإلهي العَذْب الذي يستحوذ على قلب الانسان - وهو ثمرة شجرة الكون - يبين أن عشقاً خالصاً ومحبةً صادقة بأشكال شتّى، مغروزة في كيان الكون كله، وتتظاهر بأشكال شتّى. هذا الحب المالك قلب الكون يفصح عن محبوب خالد سرمدي.

ثُمَّ إنَّ ما تمور به قلوب اليقظين الراشدين من أصفياء الناس، وما يشعرون به من انجذاب، وما يؤرقهم من وَجْد، وما يحسون به من جذبات، وما تتدفق به صدورهم من توق وحنين، إنما يدل على أن حنايا ضلوع الكون تعاني ما يعاني الانسان، وتكاد تتمزق من شدة انجذابها وعظيم جذباتها، التي تتظاهر بصور متنوعة. وهذا الجذب لا ينشأ إلاّ من جاذب حقيقي، وجاذبية باقية أبدية.

ثم ان أرقَّ الناس طبعاً وألطفهم شعوراً، وأنورهم قلباً، وهم الأولياء الصالحون من أهل الكشف والشهود قد أعلنوا متفقين على أنهم قد تبددت ظلمات نفوسهم باشراق أنوار تجليات ذي الجلال، وذاقوا حلاوة تعريف الجميل ذي الجلال، وتودّده اليهم.

فاعلانهم هذا شهادة ناطقة على (الواجب الوجود) وتعريف نفسه عن طريقهم للانسان..

ثم ان قلم التجميل والتحسين الذي يبدع نقوشه في وجه الكائنات، يدل بوضوح على جمال أسماء مالك ذلك القلم المبدع..

وهكذا فالجمال الذي يشع من وجه الكون.. والعشق الذي يخفق به قلبه.. والانجذاب الذي يمتلئ به صدره.. والكشف والشهود الذي تبصره عينه.. والروعة والإبداع في مجموع الكون كله.. يفتح نافذة لطيفة جداً ونورانية ساطعة أمام العقول والقلوب اليقظة، يتجلى منها ذلك الجميل ذو الجلال، الذي له الأسماء الحسنى، وذلك المحبوب الباقي والمعبود الأزلي.

فيا أيها المغرور التائه في ظلمات المادية! ويا أيها الغافل المتقلب في ظلمات الأوهام والمختنق بحبال الشبهات! عُد الى رشدك، واسمُ سمواً لائقاً بالانسان، أنظر من خلال هذه المنافذ الاربعة، وشاهد جمال الوحدانية، وأظفر بكمال الايمان، وكن انساناً حقيقياً.

النافذة السابعة والعشرون

] الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكيلٌ[ (الزمر:62).

سنطل من هذه النافذة على ما في موجودات الكون من (أسباب ومسبـَّبات) فـنرى ان اسمـى الأسبـاب وأشرفها قاصـرةٌ يدُهـا عـلى بلوغ أدنى المسببات وعاجزة عن ادراك ما ينجم عنها. فالأسباب إذن ليست الاّ ستائر وحجباً، فالذي يوجِد (المسبَّبات) هوغير الأسباب. ولنوضح الكلام بمثال:

القوة الحافظة في ذهن الانسان، وهي بحجم حبة من خردل موضوعة في زاوية من زوايا دماغه، نراها وكأنها كتاب جامع شامل، بل مكتبة وثائقية لحياة الانسان، حيث تضم مستندات جميع أحداث حياته من دون اختلاط ولا سهو. تُرى أي سبب من الأسباب يمكن ان يبرز لتوضيح وتفسير هذه المعجزة الظاهرة للقدرة الإلهية؟ أهو تلافيف الدماغ؟ أم أن ذرّات حجيرات الدماغ وهي بلا شعور تستطيع الحفظ والتسجيل؟ ام رياح المصادفات العشوائية؟

فلا يمكن أن تكون هذه المعجزة الباهرة الاّ من إبداع (صانعٍ حكيمٍ) جعلَ تلك (القوة الحافظة) مكتبة أو سجلاً يضم صحائف أعمال الأنسان، ليذكّره بأن ربَّه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ احصاها، وليعرضه أمام المشهد الأعظم يوم الحساب.. خذ (القوة الحافظة) في ذهن الانسان، وقس عليها سائر المسبّبات من بيوض ونوى وبذور وأمثالها من المعجزات البديعة المصغرة، تَرَ أينما وليتَ نظرك وفي أي مصنوع كان، فإنك أمام خوارق إبداع لا يقوى عليها سببٌ من الأسباب، بل حتى لو اجتمعت الأسباب جميعها لأيجاد تلك الصنعة الخارقة لأظهرت عجزها عجزاً تاماً ولو كان بعضها لبعض ظهيراً.

ولنأخذ الشمس مثلاً - التي يُظَنّ أنها سبب عظيم - فلو قيل لها مفترضين فيها الشعور والإختيار: أيتها الشمس العظيمة! هل تستطيعين إيجادَ جسم ذبابة واحدة؟ فلاشك أنها ستردُّ قائلة:

إنَّ ما وهبني ربي من ضياء، وأغدق عليَّ من حرارة وألوان، لا يؤهلني للخلق، ولا يمنحني ما يتطلبه إيجاد ذبابة من عيون وسمع وحياة، لستُ مالكة لشئ منها قط، فهذا الأمر هو فوق طاقتي كلياً.

نعم، كما أن الابداع الظاهر على (المسبَّبات) وروعة جمالها قد عَزَلت الأسباب وسلبتها قدرة الخلق، ودلَّتنا بلسان حالها على مسبِّب الأسباب، وسلَّمتْ الأمور كلها بيد الله كما جاء في الآية الكريمة:] وَالَيه يُرْجَعُ الاَمْرُ كُلُّهُ[ (هود:123) كذلك النـتائج التـي نيطت بالمسبَّبات، والغـايات الناشئة والفـوائد الحاصلة منها، تظهر جميعاً بداهـةً أن وراء حجاب الأسباب ربّاً كريماً، حكيماً، رحيماً، وأن ما نراه من أشياء ليست إلاّ من صنعه وإبداعه سبحانه.

ذلك لأن (الأسباب) التي هي بلا شعور عاجزة كلياً عن ملاحظة - مجرد ملاحظة - غاية لشئٍ مُسَبّبٍ، بينما اي مخلوق يرد الوجود لا تُناط به حكمة واحدة بل حكمٌ عديدة جداً وفوائد جمَّة وغايات شتى. أي أن الرب الحكيم والكريم هو الذي يُوجِد الأشياء ثم يرسلها الى هذا العالم ويجعل تلك الفوائد غاية وجودها. فمثلاً:

ان الأسباب الظاهرة لتكوين المطر، عاجزة عجزاً مطلقاً، وبعيدةٌ كل البعد عن أن تشفق على الحيوانات، أو تلاحظ أمورها وترحمها وتنزل لأجلها.

إذن فالذي تكفّل برزقها هو الخالق الجليل الذي يرسل المطر ويغيثها رحمة بها، وكأنه - أي المطر - رحمة متجسمة لكثرة ما فيه من آثار الرحمة والفوائد الجمة. ومن هنا أطلق على المطر اسم (الرحمة).

ثم ان التزيينات البديعة والجمال المبتسم على النباتات والحيوانات التي تملأ وجه المخلوقات قاطبة، وجميع المظاهر الجمالية عليها، تدل على أن وراء ستار الغيب مدبّراً يريد أن يعرِّف نفسه ويحبّبها بهذه المخلوقات الجميلة البديعة وتدل على وجوب وجوده ووحدانيته.

إذن فالتزيينات الرائعة في الأشياء، وما في مظاهرها من جمال بديع، وكيفياتها المتسمة بالحكمة، كلها تدل قطعاً على صفتي التعريف والتوّدد. وهاتان الصفتان - التعرف والتودّد - تشهدان بالبداهة على صانع قدير معروف ودود، فضلاً عن شهادتهما على وحدانيته سبحانه..

وزبدة الكلام: ان السبب الذي نراه شيئاً عادياً جداً، وعاجزاً عجزاً تاماً، قد استند اليه مسبَّبٌ في منتهى الإتقان والنفاسة. فهذا (المسبَّب) المتقن لا بد أنه يعزل ذلك السبب العاجز عن القيام بايجاده.

ثم ان غاية (المسبَّب) وفوائده ترفع الأسباب الجاهلة والجامدة فيما بينها وتسلمها الى يد الصانع الحكيم.

ثم ان التزيينات المنقوشة على ملامح (المسبَّب) وما يتجلى عليها من عجائب الرحمة تشير الى صانع حكيم يريد ان يُعرِّف قدرتَهُ الى ذوي الشعور من مخلوقاته، ويحبّب نفسه اليهم.

فيا عابد الأسباب. أيها المسكين!. ما تفسير هذه الحقائق المهمة الثلاث التي وضعناها بين يديك؟ وكيف يمكنك ان تقنع نفسك بأوهامك؟ ان كنت راشداً فمزّق حجاب الأسباب وقل: (هو الله وحده لا شريك له) وتحرر من الأوهام المضلّة.

النافذة الثامنة والعشرون

] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلافُ اَلْسِنَتِكُم وَالْوَانِكُمْ اِنَّ في ذلِكَ لاياتٍ لِلْعَالمينَ[ (الروم:22)

لو نتأمل في هذه الكائنات فسنشاهد أنَّ في كل شئ ابتداءً من حجيرات الجسم وانتهاءً بمجموع العالم كله، حكمة شاملة، ونظاماً متقناً.

فلدى فحصنا لحجيرات الجسم نجد أن تدبيراً بالغ الاهمية ينظّم شؤون تلك الحجيرات المتناهية في الصغر؛ ينظمها حسبَ أوامر مَنْ يرى مصالح الجسم كله، ويدير اموره. فكما أن قسماً من الأغذية يدَّخر في الجسم على صورة شحوم داخلية تُصرف عند الحاجة، كذلك نجد في كل من تلك الحجيرات الصغيرة قابلية إدِّخار دقيقة. ثم ننظر الى النباتات فنجد أنها مشمولة بتربية خاصة. وننظر الى الحيوانات فنجد أنها تعيش في بحبوحة من الكرم العميم. وننظر الى أركان الكون العظيمة فنجد أن ادارةً وتنويراًً في منتهى العظمة يكتنفانه من كل جوانبه ويفضيان به الى غايات عظيمة وجليلة. وننظر الى مجموع الكون كله، فاذا به يتجلى أمامنا وكأنه مملكة منسقة الأرجاء، أو مدينة رائعة الجمال، أو قصر منيف باذخ، وإذا بنا أمام أنظمة دقيقة ترقى به لبلوغ حكم عالية وغايات سامية.

فكما أثبتنا في الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين:

ان الموجودات مرتبطة ببعضها ارتباطاً معنوياً وثيقاً الى حد لا يدع مجالاً قط لمداخلة أي شريك، حتى بمقدار ذرة واحدة من المداخلة، ابتداءً من الذّرات وانتهاءً بالمجرات.

فَمَنْ لم يكن مسخِّراً لحُكمه جميع المجرات والنجوم والسيارات ويملك زمام أمورها ويتصرف بمقاليد شؤونها، لا يمكنه ان يُوقِعَ حُكمَهُ، ويُمْضي أمرهُ على ذرة واحدة، أي - بعبارة أخرى - مَنْ يكون رباً حقيقياً على ذرة واحدة ينبغي ايضاً أن يكون مالكاً لمقاليد الكون كله.

وفي ضوء ما أوضحنا وأثبتنا في (الموقف الثاني) من الكلمة الثانية والثلاثين: أنه من يعجز عن الهيمنة على السماوات كلها يعجز عن رسم خطوط سيماء الانسان، أي إن لم يكن ربّاً لما في السماوات والأرض، لا يستطيع أن يخط ملامح وجه انسان، ويضع عليه علاماته الفارقة.

وهكذا تجد أمامك نافذة واسعة سعة الكون كله فإذا ما أطْلَلْتَ منها تجد - حتى بعين العقل - أن الآيات الكريمة الآتية، قد كُتبت بحروف كبيرة واضحة على صفحات الكون كله:

] الله خَالِقُ كُلِّ شـَيْءٍ وَهُوَ عَلىَ كُلِّ شيء وكيلٌ ^ لَهُ مَقَـالـيدُ السَّمواتِ وَالاَرْضِ[ (الزمر:62 - 63).

لذا فَمَنْ لا يستطيع رؤية هذه الحروف البارزة العظيمة المسطرة على صحيفة الكائنات، فما هو إلاّ واحد من ثلاثة إما فاقد عقله..أو فاقد قلبه. أو آدمي الصورة أنعامي التطلعات.

النافذة التاسعة والعشرون

] وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاَّ يسَبِّحُ بِحَمْدِهِ[ (الاسراء:44)

كنت سارحاً في رفقة غربتي، أسوح مع الفكر، وأجول مع الخيال والتأمل، فقادتني قدماي الى سفح رابية مزدانة بالخضرة، فرنت اليَّ - على استحياء - من وسط هذا البساط الأخضر، زهرة صفراء ساطعة الصفرة، وألوت بجيدها اليَّ تناغيني بودّ ومحبَّة، فأثارت مشاعري وأشواقي الى زهرات مثلها كنت التقيَها في ربوع بلدتي (وان) وفي سائر المدن الأخرى التي كانت تحتضن غربتي مرةً بعد أخرى، فانثال هذا المعنى فجأةً على قلبي، وها أنذا أسرده كما ورد:

هذه الزهرة الرقيقة ليست الاّ طغراء على صفحة الجمال، وختم يختم به خالقُ الجمال رسالته الخضراء الى العالم، فَمَنْ كانت هذه الزهرة طغراءه ونقشه على البساط الأخضر فأن جميع الأنواع من هذه الزهرة إذن هي أختامه على بسط الأرض جميعاً، وعلامات وحدة صنعه.

وعقب هذه الصورة المتخيلة ورد الى القلب هذا التصور؛ إن الختم المختوم به أية رسالة كانت إنما يدل على صاحب الرسالة. فهذه الزهرة إنما هي ختم رحماني على رسالة الرحمن. وهذه الرسالة هي سفح التل الصغير المسطور فيها الكلمات البليغة للنباتات والأعشاب، والمحفور فوقها أنواع الزخارف الحكيمة الإتقان. فهذه الرسالة إذن تعود لصاحب الختم هذا.

ثم أوغلت في التأمل أكثر فأكثر. فاذا بهذا السفح الجميل يتحول في نظري ويأخذ صورة ختم كبير وواضح على رسالة هذه الفلاة الممتدة بعيداً. وانتصب السهل المنسبط أمام خيالي رسالةً رحمانيةً رائعةً، ختمُها هذا السفح الجميل. وقد أفضى بي هذا التصور الى هذه الحقيقة:

كما أن كلّ ختم على أية رسالة يشير الى صاحبها، فكل شئ كالختم يُسنِد جميعَ الأشياء التي تحيط به الى خالقه الرحيم، وكأنه ختم رحماني. فكل شئ من حوله يمثل رسالةً لخالقه الرحيم.

وهكذا، فما من شئ الاّ ويغدو نافذة توحيد عظيمة الى حد يسلّم جميع الأشياء الى الواحد الأحد... كل شئ - ولا سيما الأحياء - يملك من النقوش الحكيمة والإتقان البديع بحيث أن الذي خلقه على هذه الصورة البديعة قادرٌ على خلق جميع الأشياء، أي أن الذي لا يستطيع أن يخلق جميع الأشياء لا يمكن أن يخلق شيئاً واحداً.

أيها الغافل!

تأمل في وجه الكائنات تجد أن صحيفة الموجودات ما هي الاّ بمثابة رسائل متداخلة بعضها في البعض الآخر، مبعوثة من قبل الأحد الصمد. وان كل رسالة منها قد خُتِمَتْ بما لا يُعدُّ من أختام التوحيد.تُرى مَنْ يجرأ على تكذيب شهادات هذه الأختام غير المتناهية؟ أية قوة يمكنها أن تكتم أصوات هذه الشهادات الصادقة؟ وأنت إذا ما أنصتَّ بأذن القلب لأيٍ منها تسمعها تردد: اَشْهَدُ اَنْ لآ اِلهَ إلاَّ الله.

النافذة الثلاثون

] لَوْ كَانَ فيهمآ الِهَةٌ اِلاّ الله لَفَسَدَتَا[ (الأنبياء:22)

] كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَاِلَيْهِ تُرجْعَوُنَ[ (القصص:88)

هذه نافذة يطل منها علماء الكلام الذين سلكوا في سبيل إثبات وجود الله سبحانه طريقاً مدعماً بأدلة (الإمكان) و (الحدوث). ونحن إذ نحيل تفاصيل تلك الأدلة الى مظانها من أمهات كتب العلماء الأعلام كـ(شرح المواقف) و (شرح المقاصد) نذكر هنا شعاعات من فيض نور القرآن غمرت القلبَ، ونفذَتْ اليه من خلال هذه النافذة.

إنَّ الآمرية أو الحاكمية تقتضي رفض المنافسة، وردَّ المشاركة، ودفع المداخلة أياً كانت. ومن هنا نرى أنه إذا وجد مختاران في قرية اختلَّ نظام القرية، واضطرب أمن الناس وراحتهم، وإذا ما كان هناك مديران في ناحية، أو محافظان في محافظة واحدة، فان الحابل يختلط بالنابل، وإذا ما وجد سلطانان في بلاد فان الفوضى تضرب اطنابها في أركان البلاد كلها، ويسببان من القلاقل والاضطرابات ما لا يُحمد عقباها.

فلئن كان الانسان الذي هو عاجز ومحتاج الى معاونة الآخرين، والذي يحمل ظلاً جزئياً ضعيفاً من الآمرية أو الحاكمية، لا يقبل مداخلة أحدٍ من مثيله في شؤونه، ويردُّ المنافس رداًّ شديداً. نعم، لئن كان الانسان العاجز هذا شأنه فكيف بآمرية القدير المطلق وحاكمية السلطان الأعظم ربّ العالمين.؟

قِسْ بنفسك كيف سيسود قانون ردّ المداخلة ويهيمن على الكون كله. أي أن الوحدة أو الإنفراد من لوازم الألوهية، ومقتضى الربوبية، التي لا تنفك عنها. فان رُمْتَ برهاناً قاطعاً على هذا، وشاهداً صادقاً عليه، فدونك النظام الأكمل، والإنسجام الأجمل المشاهدان في الكون. فتلمس النظام البديع سائداً في كل شئ ابتداءً من جناح ذبابة وانتهاءً بقناديل السماء، حتى يجعل هذا النظامُ المتقنُ العقلَ مشدوهاً أمامه ويردّد من إعجابه: سبحان الله.. ما شاء الله كان.. تبارك الله.. ويهوي ساجداً لعظمة مُبدعه. فلو كان هناك موضعٌ ولو بمقدار ذرةٍ لشريكٍ مهما كان، أو مداخلة في شــؤون الكون مهما كــان نوعها، لَفَسد نظــام السماوات والأرض ولبدت آثار الفساد عياناً، ولَمَا كانت هذه الصورة البديعة الماثلة أمامنا... وصدق الله العظيم الذي يقول: ] لَوْ كَانَ فيهِمآ الِهَةٌ اِلاَّ الله لَفَسَدتَا[ (الانبياء:22) علما أن الآية الكريمة الآتية:] فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ^ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ اِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسيرٌ[ (الملك:3 - 4).

انه مهما كان الانسان جاداً في تحرّيه القصور، فسيرجع خائباً، مما يدلنا أن النظام والانتظام هما في غاية الكمال. أي أن انتظام الكائنات شاهد قاطع على الوحدانية.

أما بصدد (الحدوث) فقد قال علماء الكلام:

إن العالم متغير، وكل متغير حادث، وكل مُحْدَثٍ لابد له من مُحْدِث، أي: موجِد، لذا فالكون لابد له من (موجِدٍ قديم)..

ونحن نقول:

نعم، ان الكون حادث، حيث نشاهد في كل عصر وفي كل سنة بل في كل موسم عالَماً يرحل ويحطُّ آخرُ مكانه، تمضي كائنات، وتأتي أخرى. فالقدير ذو الجلال هو الذي يوجِد هذا العالم من العدم في كل سنة، بل في كل موسم، بل في كل يوم، ويعرضه امام ارباب الشعور ثم يأخذه الى الغيب، ويأتي مكانه بآخر، وهكذا ينشر الواحدَ تلو الآخر في تعاقب مستمر، معلقاً تلك العوالم بشكل متسلسل على شريط الزمان.

فترى الربيع معجزة باهرة من معجزات القدير الجليل، يُوجِدُ فيه الأشياء من (العدم) ويجدد تلك العوالم الشاسعة من غير شئ مذكور. فالذي يبدل تلك العوالم، ويجددها ضمن العالم الأكبر، ليس الاّ رب العالمين الذي بسط سطح الأرض مائدةً عامرةً لضيوفه الكرام.

أما موضوع (الإمكان) فقد قال المتكلمون:

إنَّ (الإمكان) متساوي الطرفين، أي اذا تساوى العدم والوجود بالنسبة الى شئ ما، فلابُدَّ من مخصّص ومرجّح وموجد.

لأن الممكن لا يمكنه بداهةً ان يُوجِدَ ممكناً آخر مثله. أي لا يمكنُ ان يُوجَدَ الممكنُ الآخر، لأنَّ وجوده يكونُ سلسلةً دائرةً مغلوقةً من (الممكنات). فلابدَّ إذن من (واجب الوجود) يوجِدُ الأشياء كلها..

ولقد فنَّد علماء الكلام فكرة (الدّور والتسلسل) وأثبتوا بطلانها باثنى عشر برهاناً سُميت بالبراهين (العرشية والسلمية) وقطعوا سلسلة الأسباب والمسبَّبات وأثبتوا بذلك (الواجب الوجود).

ونحن نقول:

إنَّ اظهار الختم الخاص للخالق الجليل على كل شئ المختوم به كل شئ لهو أسهل وأقوى وضوحاً من برهان (انقطاع سلسلة الأسباب) ثم بلوغ اثبات الخالق جلَّ وعلا.

ولقد درجت بفيض القرآن جميعُ (الكلمات) و (النوافذ) على هذا المدرج السهل القاطع. ومع ذلك فان بحث (الإمكان) واسع جداً، إذ يبينُ الخالقَ من جهات لا حصر لها، وليس منحصراً بما سلكه المتكلمون من طريقٍ لإثبات الصانع باثبات انقطاع التسلسل، فالطريق واسعة بلا حدود، اذ تؤدي الى معرفة لا حدود لها لمعرفة واجب الوجود.

وتوضيح ذلك كالآتي:

بينما نرى كُلَّ شئٍ، في وجوده وفي صفاته وفي مدة بقائه وحياته، متردداً ضمن طرق إمكانات واحتمالات لا حدَّ لها، إذا بنا نشاهده قد سلك من بين تلك الجهات التي لا حدَّ لها طريقاً منتظماً خاصاً به، وتُمنح كل صفة من صفاته كذلك بهذا الطراز المخصَّص، بل تُوهَبُ له بتخصيص معين صفات وأحوال يبدّلها باستمرار ضمن حياته وبقائه..

إذن فَسَوقُ كل شئٍ الى طريق معينة، واختيار الطريق المؤدية الى حِكَم معينة، من بين طرق غير متناهية. إنما هو بإرادة مخصِّص، وبترجيح مُرجِّح، وبأيجاد موجدٍ حكيم. إذ ترى الشئ يُلبَس لباس صفات منتظمة، وأحوال منسقة معينة مخصصة له، ثم تراه يُساق - أي هذا الشئ - ليكون جزءاً من جسم مركب، فيخرج بهذا من الإنفراد، وعندئذٍ تزداد طرق الإمكانات أكثر، لأنَّ هذا الجزء يمكن أن يتخذ ألوفاً من الأشكال والأنماط في ذلك الجسم المركب، والحال إننا نرى أنه يُمنح له وضع معين ذو فوائد ومصالح، ويُختارُ له هذا الوضع من بين ما لا يُحدّ من الأوضاع التي لا جدوى له فيها. أي يُساق الى أداء وظائف مهمة وبلوغ منافع شتى لذلك الجسم المركب.

ثم نراه قد جُعل جزءاً من جسم مركب آخر، فتزداد طرق الإمكانات أكثر، لأن هذا الجسم كذلك يمكن أن يتشكل بألوف الأنماط، بينما نراه قد أختير له وضعٌ معين ضمن الألوف المؤلفة من الطرز والأنماط، فيساق الى أداء وظائف اخرى... وهكذا كلما اوغلتَ في الإمكانات تبيّن لك بجلاء ان جميع هذه الطرق توصلك الى مدبّر حكيم، وتجعلك تقتنع اقتناعاً تاماً بأن كل شئ يساق الى وظيفة بأمر آمر عليم. حيث أن جميع المركبات مركبة من أجزاء، وهذه مركبة من أجزاء اخرى.. وهكذا فكل جزء موضوع في موضع معين من المركب، وله وظائفه المخصصة في ذلك المكان.. يشبه ذلك علاقة الجندي مع فصيله وسريته ولوائه وفرقته والجيش كله. فله علاقات معينة ذات حكمة مع جميع تلك التشكيلات العسكرية المتداخلة، وله مهمات ذات تناسق معين مع كل منها.. وبمثل الخلية التي في بؤبؤ عينك، لها علاقة وظيفية مع عينك، ولها وظيفة ذات حكمة ومصالح مع الرأس ككل حتى لو اختلط شئ جزئي بتلك الخلية لاختلت ادارة الجسم وصحته، ولها علاقة خاصة مع الشرايين والأوردة والأعصاب، بل علاقة وظيفية مع الجسم كله، مما يثبت لنا أن تلك الخلية قد اعطيَ لها ذلك الموضع المعين في بؤبؤ العين وأختير لها ذلك المكان من بين ألوف الأمكنة، للقيام بتلك المهام. وليس ذلك الاّ بحكمة صانع حكيم.

فكل موجودات الكون على هذا الغرار، فكل منها يعلن بذاته، بصفاته، عن صانعه بلسانه الخاص، ويشهد على حكمته بسلوكه في طريق معينة ضمن طرق امكانات لا حد لها. وكلما دخل الى جسم مركب اعلن بلسان آخر عن صانعه ضمن تلك الطرق التي لا تحد من الإمكانات. وهكذا يشهد كل شئ على صانعه الحكيم وإرادته وإختياره، شهادةً بعدد تلك الطرق من طرق الإمكانات التي لا تحد، وبعدد المركبات وإمكاناتها وعلاقاتها التي فيها، الى أن تصل الى أعظم مركب. لأن الذي يضع شيئاً ما بحكمة تامة في جميع المركبات، ويحافظ على تلك العلاقات فيما بينها لا يمكن أن يكون الاّ خالق جميع المركبات.

أي ان شيئاً واحداً بمثـابة شـاهـد بألـوف الألسنـة عـلـيـه سبحانه وتعالى. بـل ليس هناك ألوف الشهادات على وجوده سبحانه وحكمته واختياره وحدها، بل الشهادات موجودة ايضاً بعدد الكائنات، بل بعدد صفات كل موجود وبعدد مركباته. وهكذا ترد من زاوية (الإمكان) شهادات لا تحدّ على (الواجب الوجود).

فيا أيها الغافل! قل لي بربك أليس صمّ الأذان عن جميع هذه الشهادات التي يملأ صداها الكون كله لهو صمم ما بعده صممٌ، وجهل ما بعده جهل؟

النافذة الحادية والثلاثون

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فى اَحْسَنِ تَقْويمٍ[ (التين:4)

] وَفىِ الاْرضِ آيَاتٌ لِلْموُقنينَ^ وَفى اَنْفُسِكُمْ اَفَلاَ تُبْصِرونَ[ (الذاريات:20ـ21)

نحنُ هنا أمام نافذة الانسان، نتطلع من خلال نفس الانسان الى نور التوحيد، ونحن إذ نحيل تفاصيل ذلك الى الكتب والأسفار المدونة من قبل ألوف الأولياء الصالحين الذين بحثوا في نفس الانسان بأسهاب، نود ان نشير الى بضع اشارات مستلهمة من فيض نور القرآن الكريم، وهي كما يأتي:

ان الانسان هو نسخة جامعة لما في الوجود من خواص، حتى يُشعِرُهُ الحقُّ سبحانه وتعالى جميع اسمائه الحسنى المتجلية بما اودع في نفس الانسان من مزايا جامعة. نكتفي في بيان هذا بما ذكرناه في (الكلمة الحادية عشرة) وفي رسائل أخرى، غير أننا نبين هنا ثلاث نقاط فقط:

النقطة الأولى:

إن (الانسان) مرآةٌ عاكسة لتجليات الأسماء الإلهية الحسنى، وهو مرآة لها ثلاثة أوجه:

الوجه الاول: كما أن الظلام سبب لرؤية النور، أي أن ظلام الليل وشدّته يبين النور ويظهره بشكل أكثر وضوحاً.. فالأنسان ايضاً يُعرِّف بضَعفه وعَجزه وبفقره وحاجاته، وبنقصه وقصوره، قدرةَ القدير ذي الجلال، وقوتَهُ العظيمة، وغناه المطلق، ورحمته الواسعة.

فيكون الانسان بهذا كأنه مرآة عاكسة لكثير من تجليات الصفات الإلهية الجليلة. بل حتى ان ما يحمله من ضعف شـديد، وما يكتـنـفـه من اعـداء لا حد لهم، يجعله يتحرى دائماً عن مرتكز يرتكز عليه، ومستند يستند اليه. فلا يجد وجدانه الملهوف إلاّ الله سبحانه.

وهو مضطر ايضاً الى تحري نقطة استمداد يستمد منها حاجاته التي لا تتناهى، ويسد بها فقره غير المتناهي، ويشبع آماله التي لا نهاية لها، فلا يجد في غمرة تحريه الا الاستناد - من هذه الجهة - الى باب غني رحيم، فيتضرع اليه بالدعاء والتوسل.

أي أن في كل وجدان نافذتين صغيرتين من جهة نقطة الاستناد والاستمداد، فيتطلع الانسان منهما دوماً الى ديوان رحمة القدير الرحيم.

أما الوجه الثاني: فهو أن الانسان مرآة لتجليات الأسماء الحسنى، اذ ان ما وهِبَ من نماذج جزئية من (العلم، والقدرة، والبصر، والسمع، والتملك، والحاكمية) وأمثالها من الصفات الجزئية، يصبح مرآة عاكسة يُعرَف منها الصفات المطلقة لله سبحانه وتعالى، وادراك علمه وقدرته وبصره وسمعه وحاكميته وربوبيته، فيفهم تلك الصفات المطلقة للربوبية بالنسبة لمحدوديتها عنده.. ولا شك أنه بعد ذلك سيحاور نفسه ويقول مثلاً:

كما أنني قد قمت ببناء هذا البيت، وأعلم تفاصيله، وأشاهد جميع جوانبه وأجزائه، وأديره بنفسي، فأنا مالكه، كذلك لابد لهذا الكون العظيم من مبدعٍ ومالكٍ يعرف اجزاءه معرفة كاملة، ويبصر كل صغيرة وكبيرة فيه، ويديره.

الوجه الثالث: لكون الانسان مرآة عاكسة للأسماء الحسنى، فهو ايضاً مرآة عاكسة لها من حيث نقوشها الظاهرة عليه. ولقد وضِحَ هذا بشئ من التفصيل في مستهل (الموقف الثالث) من الكلمة (الثانية والثلاثين( ان (الماهية) الجامعة للأنسان، فيها أكثر من سبعين نقشاً ظاهراً من نقوش الأسماء الإلهية الحسنى، فمثلاً:

يبين الأنسان من كونه مخلوقاً، اسمَ الصانع (الخالق) ويُظهر من حسن تقويمه اسمَ (الرحمن الرحيم) ويدلّ من كيفية تربيته ورعايته على اسم (الكريم) واسم (اللطيف). وهكذا يُبرز الانسان نقوشاً متنوعة ومختلفة للأسماء الحسنى المتنوعة بجميع أعضائه وأجهزته، وجوارحه وبجميع لطائفه ومعنوياته، وبجميع حواسه ومشاعره.

أي كما أن في الأسماء الحسنى أسماً أعظم لله تعالى، فهناك نقش أعظم في نقوش تلك الأسماء وذلك هو الانسان.

فيا مَنْ يعدّ نفسه انساناً حقاً، إقرأ نفسك بنفسك، وإن لم تفعل فلربما تهبط من مرتبة الانسانية الى مرتبة الإنعام.

النقطة الثانية:

تشير هذه النقطة الى سرٍ مهمٍ من أسرار الأحدية، وتوضيحه كما يأتي:

كما أن روح الإنسان، ترتبط بعلاقات وأواصر مع جميع أنحاء جسم الانسان، حتى تجعل جميع اعـضائه وجميع اجزائه، في تعاون تامٍّ فيما بينها، أي أن الروح - التي هي لطيفة ربانية وقانون أمري اُلبس الوجود الخارجي بالأوامر التكوينية التي هي تجلي الإرادة الإلهية - لا يحجبها شئ عن إدارة شؤون كل جزء من اجزاء الجسم، ولا يشغلها شئٌ عن تفقدها، وإيفاء حاجات الجسم بكل جزء من أجزائه، فالبعيد والقريب إزاءها سواء، ولا يمنع شئ شيئاً قط، إذ تقدر على مدّ عضو واحد بأمداد من سائر الأعضاء، وتستطيع ان تسوق الى خدمته الأعضاء الأخرى. بل تقدر أن تعرف جميع الحاجات بكل جزء من أجزاء الجسم، وتُحِسُّ من خلال هذا الجزء بجميع الاحساسات، وتدير من هذا الجزء الواحد الجسمَ بأكمله، بل تتمكن الروح أن ترى وتسمع بكل جزء من اجزاء الجسم ان كانت قد اكتسبت نورانية اكثر..

فما دامت الروح التي هي قانون أمري من قوانين الله سبحانه - لها هذه القدرة لإظهار أمثال هذه الاجراءات في العالم الصغير وهو الانسان، فكيف يصعب إذن على الإرادة المطلقة (ولله المثل الاعلى)، وعلى قدرته المطلقة من القيام بأفعال لا حدَّ لها في العالم الأكبر، وهو الكون، وسماع أصوات لا حد لها فيه، وبأجابة دعوات لا نهاية لها تنطلق من موجوداته؟ فهو سبحانه يفعل ما يشاء في آن واحد، فلا يؤده شئ ولا يحتجب عنه شئ، ولا يمنع منه شئٌ شيئاً، ولا يُشغله شئ عن شئٍ. يرى الكل في آن واحد، ويسمع الكل في آن واحد. فالقريب والبعيد لديه سواء، إذا أراد شيئاً يسوق له كُلَّ شئ، يبصر كُلَّ شئ من أي شئ كان، يسمع أصوات كل شئ، ويعرف كلَّ شئ بكل شئ، فهو ربُّ كل شئ.

النقطة الثالثة:

ان للحياة ماهية عظيمة مهمة، ووظيفة ذات أهمية بالغة، وحيث أن هذا البحث قد فصل في (نافذة الحياة) من (النافذة الثالثة والعشرين) وفي المكتوب العشرين - الكلمة الثامنة منه - لذا نحيل البحث اليهما، وننبه هنا الى ما يأتي:

ان النقوش الممزوجة في الحياة والتي تظهر على صورة حواسّ ومشاعر، هذه النقوش تشير الى اسماء إلهية حسنى كثيرة، والى شؤون ذاتية لله سبحانه وتعالى. فتكون الحياة من هذه الوجهة مرآة عاكسة ساطعة لتجليات الشؤون الذاتية للحي القيوم.

ولما كان وقتنا لا يتسع لأيضاح هذا السر لأولئك الذين لم يرتضوا بالله ربّاً، والذين لم يبلغوا بعد مرتبة الايمان اليقين، لذا سنغلق هذا الباب.







النافذة الثانية والثلاثون

] هُوَ الّذى اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدينِ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّه وكَفى بِاللّهِ شَهيداً^ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله..[ (الفتح:28 - 29)

] قُلْ يَآ اَيُّها النَّاسُ اِنّى رَسُولُ الله اِلَيْكُمْ جَميعاً الَّذى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالاَرْضِ لا إلهَ اِلاّ هُوَ يُحْيي وَيُميتُ..[ (الاعراف:158)

هذه النافذة هي نافذة تخص شمس سماء الرسالة، بل شمس شموس النبوة، حبيب رب العالمين، محمداً عليه أفضل الصلاة والتسليم.

ان هذه النافذة ساطعة سطوع الشمس، وواسعة سعة الكون، ومنورة نورانية النهار. وحيث أننا قد أثبتنا (النبوة) إثباتاً قاطعاً في الكلمة الحادية والثلاثين، رسالة (المعراج) وفي الكلمة التاسعة عشرة، رسالة (دلائل النبوة) وفي المكتوب التاسع عشر، رسالة (المعجزات الأحمدية) لذا فنحن نستعيد هنا بذاكرتنا بعض ما هو مذكور في تلك الرسائل، ونحيل اليها، إلاّ أننا نقول:

ان الرسول الإكرم عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي هو برهان التوحيد الناطق، قد أعلن التوحيد واظهره بجلاء، وبيّنه للبشرية أبلغ بيان، في جميع سيرته العطرة، وبكل ما وهبه الله من قوة، فهو الذي يملك بجناحي الرسالة والولاية قوة إجماع وتواتر جميع الأنبياء الذين أتوا قبله، وقوة تواتر واجماع جميع الأولياء والأصفياء الذين أتوا بعده. وفتح بهذه القوة الهائلة نافذة واسعة عظيمة سَعَة العالم الاسلامي إزاء معرفة الله سبحانه، فبدأ يتطلع منها ملايين العلماء المحققين والأصفياء والصديقين أمثال: الإمام الغزالي والإمام الرباني ومحي الدين بن عربي والشيخ الكيلاني، فهؤلاء وغيرهم يتطلعون من هذه النافذة المفتوحة، ويبينونها للآخرين.

فهل هناك من ستار يا ترى يمكن اسداله على هذه النافذة العظيمة! وهل أنَّ مَنْ لا ينظر من هذه النافذة يملك شيئاً من العقل، فاحكم أنت!





النافذة الثالثة والثلاثون

] اَلْحَمْدُ للهِ الَّذى اَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً[ (الكهف:1)

] الر كِتَابٌ اَنْزَلْنَاهُ اِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلىَ النّورِ[ (ابراهيم:1)

تأمل وأعلم ان ما ذُكر في جميع (النوافذ) السابقة ما هو إلاَّ بضع قطرات من بحر (القرآن الكريم)، فاذا كان الأمر هكذا فانك تستطيع الآن قياس الامداء العظيمة لأنوار التوحيد التي تفيض من بحر الحياة في القرآن الكريم، ولو أننا نظرنا - مجرد نظرة بسيطة ومجملة - الى منبع جميع تلك النوافذ، وكنزها وأصلها وهو القرآن العظيم، لوجدناه نافذة جامعة ساطعة تشع نوراً فياضاً لا حدَّ له، وحيث ان الكلمة الخامسة والعشرين (رسالة إعجاز القرآن) والاشارة الثامنة عشرة من المكتوب التاسع عشر، قد بحثتا سعة هذه النافذة وسطوعها، بما فيه الكفاية، لذا نحيل البحث اليهما.

وختاماً نرفع أكفنا ضارعين أمام عرش الرحمن جل جلاله الذي انزل علينا هذا القرآن الكريم رحمةً ونوراً وهدايةً وشفاءً ونقول:

] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ اِنْ نَسِينآ اَوْ اَخْطَاْنَا[

] رَبَّنَا لاَ تُزغْ قُلوُبَنَا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنَا[

] رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّآ اِنّكَ اَنْتَ السّميعُ الْعَليمُ ^ وَتُب عَلَيْنَآ اِنَّكَ اَنْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ[ .















تنـبيه

هذا المكتوب (الثالث والثلاثون) الذي يضم ثلاثاً وثلاثين نافذة، نسأل الله تعالى أن يكون زاداً لمن لا إيمان له، فيدعوه الى حظيرة الإيمان.. ويشدَّ من إيمان الذي يجد في إيمانه ضعفاً فيقويه.. ويجعل الإيمان القوي التقليدي إيماناً تحقيقياً راسخاً.. ويوسع من آفاق الايمان التحقيقي الراسخ.. ويهب لمن كان إيمانه واسعاً مدارج الرقي في المعرفة الإلهية التي هي الأساس في الكمال الحقيقي، ويفتح أمامه مشاهد أكثر نورانية وأشدّ سطوعاً.

لأجل هذا، فليس لك ان تقول:

أكتفي بنافذة واحدة دون الأخرى، ذلك لأن القلب يطلب حظه رغم أن العقل قد انتفع، والروح هي الأخرى تطالب بحظها، بل حتى الخيال يطالب بقبسٍ من ذلك النور. أي ان كل نافذة من النوافذ لها فوائد متنوعة، ومنافع شتى. ولقد كان المخاطب الأساس في رسالة (المعراج) السابقة، هو المؤمن، وكان الملحد في موضع الاستماع، أما هذه الرسالة فالمخاطب الأساس فيها هو المنكر الجاحد، والمؤمن هو في موضع الاستماع.

ولما كنت قد كتبتُ هذا المكتوب في غاية السرعة - بناءً على سبب مهم - لذا فقد بقي على حاله، ولم أراجع مسودته، ولم أدخل عليها أي تعديل، فلا جرم أنْ سيكون فيه شئٌ من القصور والتشوش في بعض العبارات، وفي طريقة العرض. فأرجو من إخواني ان ينظروا اليه بعين الصفح والسماح، ويصححوا - إن استطاعوا - ما بدر مني من خطأ، ويدعوا لي بالمغفرة. والسلام على مَن اتبع الهدى.. والـمَلامُ على من إتبع الهوى.

] سُبحَانَك لا عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلَّمْتَنا اِنَّكَ انْتَ العليم الحكيمُ[

اللّهم صلِّ على مَنْ أرسلته رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم..

آمين

اللوامع

من بين هلال صومٍ وهلال العيد

ازاهير تفتحت عن نوى الحقائق وديوان شعر إيماني لطلاب النور

تنبيه:

ان هذا الديوان الموسوم بـ(اللوامع) لا يجري مجرى الدواوين الاخرى على نمط واحد متناولاً عدداً من المواضيع؛ ذلك لأن المؤلف المحترم قد وضح فيه المقولات البليغة المختصرة جداً لأحد مؤلفاته القديمة (نوى الحقائق)، ولأنه قد كتب على اسلوب النثر، زد على ذلك لا يجنح الى الخيالات والانطلاق من احاسيس غير موزونة، كما هو في سائر الدواوين. فلا يضم هذا الديوان بين دفتيه الاّ ما هو موزون بميزان المنطق وحقائق القرآن والايمان. فهو درس علمي بل قرآني وايماني ألقاه المؤلف على مسامع ابن أخيه وامثاله من الطلاب الذين لازموه. ولقد اقتدى استاذنا واستفاض من نور ] وما علّمناه الشعر[ فما كان له ميل الى النظم والشعر ولم يشغل نفسه بهما ابداً، كما بيّنه في التنبيه المتصدر للأثر وادركنا نحن ايضاً منه هذا الامر.

وقد تم تأليف هذا الديوان الشبيه بالمنظوم خلال عشرين يوماً، بعد سعي متواصل لساعتين او زيادة نصف ساعة من الزمان يومياً، مع كثرة المشاغل والمهام الجليلة لـ(دار الحكمة الاسلامية). ان تأليفاً كهذا ضمن هذا الوقت القصير جداً، مع ما في كتابة صحيفة واحدة من المنظوم صعوبة تفوق عشر صفحات من غيره، ومع وروده فطرياً وطبعه كما ورد دون أن يطرأ عليه تصحيح أو تشذيب أو تدقيق.. يجعلنا نراه خارقة من خوارق رسائل النور، فلا نعلم ديوان شعر مثل هذا يسهل قراءته نثراً دون تكلّف .

نسأل الله ان يجعل هذا المؤلَّف النفيس بمثابة المثنوي (الرومي) لطلاب النور، اذ هو خلاصة قيمة لرسائل النور وفي حكم فهرس يبشر بقدومها ويشير اشارة مستقبلية اليها، تلك الرسائل التي ظهرت بعد عشر سنوات واكتملت في غضون ثلاث وعشرين سنة.

صنغور، محمد فيضي، خسرو

من طلاب النور

تنـبيه

لم اقدّر النظم والقافية قدرهما، لعدم معرفتي بهما، فالمرء عدوّ لما جهل.

ولم أشأ قط تغيير صورة الحقيقة لتوافِق اهواء القافية، نظير (التضحية بصافية فداء للقافية)(1) ولأجل هذا فقد ألبستُ أسمى الحقائق أردأ الملابس في هذا الكتاب الخالي من القافية والنظم. وذلك:

اولاً:

لأنني لا أعلم أفضل من هذا. فكنت احصر فكري في المعنى وحده، دون اللفظ.

ثانياً:

أردت أن ابين بهذا الاسلوب نقدي لأولئك الشعراء الذين ينحتون الجسد ليوافق اللباس!

ثالثاً:

أردت اشغال النفس ايضاً بالحقائق العالية مع انشغال القلب بها في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان.

ولأجل هذه الاسباب اُختير هذا الاسلوب الشبيه باساليب المبتدئين.

ولكن ايها القارىء الكريم!

لئن كنت قد أخطأت - وانا اعترف به - فإياك أن تخطىء فتنظر الى الاسلوب المتهرئ ولا تنعم النظر في تلك الحقائق الرفيعة، ومن ثم تهوّن من شأنها.

ايضاح

ايها القارئ الكريم!

انني اعترف سلفاً بضجري من فقر قابليتي في صنعة الخطّ وفن النظم، اذ لا استطيع الآن حتى كتابة إسمي كتابة جيدة، ولم اتمكن طوال حياتي من نظم بيتٍ واحد أو من وزنه.

ولكن، وعلى حين غرّة ألحّتْ على فكري رغبةٌ قويةٌ في النظم، وقد كانت روحي ترتاح لما في كتاب (قول نوالاسيسيبان)(1) من نظمٍ فطري عفوي على نمط مدائح تصف غزوات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. فاخترتُ لنفسي طراز نظمه، وكتبتُ نثراً شبيهاً بالنظم. ولم اتكلف للوزن قطعاً. فليقرأه مَن شاء نثراً قراءة سهلة دون تذكّر النظم والاهتمام به، بل عليه أن يعدّه نثراً ليفهم المعنى، اذ هناك ارتباط في المعنى بين القِطعَ، وعليه الاّ يتوقف في القافية(2). فكما تكون الطاقية والطربوش بلا شُرّابة كذلك يكون الوزن ايضاً بلا قافية، والنظم بلا قاعدة. بل اعتقد انه لو كان اللفظ والنظم جذابين صنعةً يُشغلان فكر الانسان بهما ويشدّانه اليهما، فالأولى اذن ان يكون اللفظ بسيطاً من غير تزويق لئلا يصرف النظر اليه.

ان استاذي ومرشدي في هذا الكتاب: القرآن الكريم.

وكتابي الذي أقرأه: الحياة

ومخاطبي الذي أوجّه له الكلام: نفسي.

أما أنت ايها القارئ العزيز، فمستمعٌ ليس الاّ، والمستمع لا يحق له الانتقاد، بل يأخذ ما يعجبه ولا يتعرض لما لا يعجبه.

ولما كان كتابي هذا نابعاً من فيض الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك(3)، فإنني آمل ان يؤثر في قلب اخي في الدين، فيهدي لي بظهر الغيب دعاءً بالمغفرة أو قراءة سورة الفاتحة.

الداعي (1)

قبري المهدّم(2) يضم تسعاً وسبعين جثة (3) لسعيد ذي الآثام والآلام وقد غدا تمام الثمانين شاهد قبري

والكل يبكي(4) لضياع الاسلام.

فيئن ذلك القبر الملئ بالاموات مع شاهده.

وغداً انطلقُ مسرعاً الى ساحة عقباي

وانا على يقينٍ: أن مستقبل آسيا بأرضها وسمائها

يستسلم ليد الاسلام البيضاء

اذ يمينه يمن الايمان

يمنح الطمأنينة والامان للأنام(5).

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

برهانان عظيمان للتوحيد

C هذا الكون بذاته برهان عظيم.

اذ لسان الغيب ولسان الشهادة يسبّحان بالتوحيد، توحيد الرحمن. ويذكُران بصوت هائل: (لا إله الاّ هو).

فكل ذرات الكون، وحجيراته، وأركانه، وأعضائه؛ لسان ذاكر يلهج مع ذلك الصوت الداوي بـ:(لا إله الاّ هو).

في تلك الألسنة تنوّع، وفي تلك الاصوات مراتب، الاّ انها تنطلق معاً بـ: (لا إله إلاّ هو).

هذا الكون انسان أكبر.. يذكر ربَّه بصوت عالٍ، والأصوات الرقيقة لأجزائه وذراته كلها تدوي مع ذلك الصوت الهادر:(لا إله الاّ هو).

نعم ان هذا العالم يتلو آيات القرآن في حلقة ذكر عظيمة.

وهذا القرآن المشرق المنور يترنم مع ذوي الأرواح كلها بـ:(لا إله الاّ هو).

هذا الفرقان الحكيم، برهان ناطق لذلك التوحيد. آياتُه كلها ألسنة صادقة.. وأشعة ساطعة بالايمان.. فالجميع يذكر معاً: (لا إله الاّ هو).

فاذا ما ألصقتَ الأذن بصدر هذا الفرقان، ستسمع من أعمق الأعماق صدىً سماوياً صريحاً ينبعث :(لا إله الاّ هو).

فذلك الصوت اللطيف، صوت رفيع عالٍ، في منتهى الجدية وغاية الإيناس، ونهاية الصدق والاخلاص. ومدعم بالبرهان القاطع المقنع.. يقول مكرراً :(لا إله الاّ هو).

هذا البرهان المنور، جهاتُه الست شفافة رائقة اذ:

عليه نقش الاعجاز الظاهر.

وفيه يلمع نور الهداية، ويقول:(لا إله الاّ هو).

تحته نسيج البرهان والمنطق.

في يمينه استنطاق العقل، ويصدّقه بـ :(لا إله الاّ هو).

وفي شماله - الذي هو يمين - استشهاد الوجدان.

امامه الحسن والخير.

وهدفه السعادة.

مفتاحه دائماً:(لا إله الاّ هو).

ومن ورائه الذي هو أمام. أي استناده؛ سماوي وهو: الوحي المحض.

فهذه الجهات الست منيرة مضيئة، يتجلى في بروجها :(لا إله الاّ هو).

فأنّى للوهم ان يسترق منها السمع، وانّى للشبهة ان تطرق بابها.

أفيمكن ان يدخل ذلك المارق هذا الصرح البارق الشارق!!

فأسوار سوره شاهقة، وكل كلمة منه مَلَك ناطق بــ:(لا إله الاّ هو).

فذلك القرآن العظيم بحر ناطق للتوحيد.

لنأخذ قطرة منه مثالاً؛ (سورة الاخلاص). نتناولها رمزاً قصيراً مما لا يعد من الرموز.

انها تردّ الشرك بجميع أنواعه ردّاً قاطعاً. وتثبت سبعة أنواع من التوحيد في جملها الست: ثلاث جملٍ منها مثبتة وثلاث منها منفية.

الجملة الاولى: (قل هو):اشارة بلا قرينة، أي هو تعيين بالاطلاق، ففي ذلك التعيين تعيّن. أي: لا هو الاّ هو. وهذا اشارة الى توحيد الشهود. فلو استغرقت البصيرةُ النافذة الى الحق في التوحيد، لقالت: (لا مشهود الاّ هو).

الجملة الثانية: (الله أحد) تصريح بتوحيد الألوهية، اذ الحقيقة تقول بلسان الحق: (لا معبود الاّ هو).

الجملة الثالثة: (الله الصمد) صدف لدرّين من درر التوحيد.

الأول: توحيد الربوبية: فلسان نظام الكون يقول: (لا خالق الاّ هو).

الثاني: توحيد القيومية: أي: ان لسان الحاجة الى مؤثر حقيقي في الكون كله يقول: (لا قيوم الاّ هو).

الجملة الرابعة: (لم يلد) يستتر فيها توحيد الجلال، ويردّ أنواع الشرك، ويقطع دابر الكفر:

لان الذي يتغير ويتناسل ويتجزأ لاشك انه ليس بخالق ولا قيوم ولا إله.

و (لم يلد): يردّ مفهوم البنوة والتولد، اذ يقطع قطعاً شرك بنوة عيسى وعزير (عليهما السلام) والملائكة أو العقول. فلقد ضل كثير من الناس، وهووا في غياهب الضلال من هذا الشرك.

خامستها: (ولم يولد) توحيد سرمدي يشير الى اثبات الأحدية.

فمن لم يكن واجباً قديماً أزلياً لا يكون إلهاً، أي: إن كان حادثاً زمانياً، أو متولداً مادةً، أو منفصلاً عن أصل، لا يمكن ان يكون إلهاً لهذا الكون.

هذه الجملة تردّ شرك عبادة الأسباب، وعبادة النجوم، وعبادة الأصنام، وعبادة الطبيعة.

سادستها: (ولم يكن) توحيد جامع، أي: لا نظير له في ذاته، ولا شريك له في أفعاله. ولا شبيه له في صفاته. كل ذلك مندمج معاً يوجه النظر الى (لم).

فهذه الجمل الست متضمنة سبع مراتب من مراتب التوحيد، كل منها نتيجة للأخرى، وبرهان لها في الوقت نفسه.

أي ان (سورة الاخلاص) تشتمل على ثلاثين سورة من سور الاخلاص سورٍٍ منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضاً.

لا يعلم الغيب الا الله.

السبب ظاهري بحت

تقتضي عزة الالوهية وعظمتها، ان تكون الاسباب الطبيعية أستاراً بين يدي قدرته تعالى أمام نظر العقل.

ويقتضي التوحيد والجلال، ان تسحب الاسبابُ الطبيعية يدَها عن التأثير الحقيقي في آثار القدرة الإلهية(1).

الوجود غير منحصر في العالم الجسماني

ان انواع الوجود المختلفة التي لا تحصى، لا تنحصر في هذا العالم، عالم الشهادة.

فالعالم الجسماني (المادي) شبيه بستار مزركش ملقىً على عوالم الغيب المنورة.

الاتحاد في قلم القدرة يعلن التوحيد

ان ظهور أثر الابداع في كل زاوية من زوايا الفطرة يردّ ـ بالبداهة - ايجاد الاسباب لها.

ان نقش القلم نفسه والقدرة عينها، في كل نقطة في الخلقة، يرفض - بالضرورة - وجود الوسائط.

لا شئ دون الاشياء كلها

ان سر التساند والترابط، المستتر في الكائنات كلها، المنتشر فيها.. وكذا انبعاث روح التجاوب والتعاون من كل جانب.. يبين:

أنه ليست الاّ قدرة محيطة بالعالم كله، تخلق الذرة وتضعها في موضعها المناسب.

فكل حرف وكل سطر من كتاب العالم، حيّ، تسوقه الحاجة، وتعرّف الواحد الآخر، فيُلبي النداء اينما انطلق.

وبسر التوحيد تتجاوب الآفاق كلها، اذ توجّه القدرة كل حرف حي الى كل جملة من جمل الكتاب وتبصّرها.

حركة الشمس للجاذبية، وهي لشدّ منظومتها

الشمس شجرة مثمرة، تنتفض لئلا تسقط ثمارها السيارات المنتشية المنجذبة اليها.. ولو سكنتْ بصمتها وسكونها لزالت الجذبةُ، وتبخرت النشوةُ، وبكتْ - شوقاً اليها - مجاذيبُها السيارات المنتظمة في الفضاء الوسيع.

الاشياء الصغيرة مربوطة بالكبيرة

ان الذي خلق عين البعوضة، هو الذي خلق الشمس ودرب التبانة.. والذي نظّم معدة البرغوث هو الذي نظّم المنظومة الشمسية.. والذي ادرج الرؤية في العين وغرز الحاجة في المعدة هو الذي كحّل عين السماء باثمد النور وبسط سفرة الاطعمة على وجه الارض.



في نظم الكون اعجاز عظيم

شاهد الاعجاز في تأليف الكون؛ فلو اصبح كلُ سببٍ من الاسباب الطبيعية فاعلاً مختاراً مقتدراً - بفرضٍ محال - لسجدتْ تلك الاسبابُ عاجزةً ذليلةً أمام ذلك الاعجاز قائلة: سبحانك.. لا قدرة فينا.. ربنا انت القدير الازلي ذو الجلال.

كل شئ امام القدرة سواء

] ما خَلْقُكُمْ ولا بَعْثُكُم الاّ كنفسٍ واحدة[

القدرة الإلهية ذاتية وأزلية لا يتخللها العجز أصلاً، فلا مراتب فيها، ولا تداخلها العوائق قطعاً، فالكل والجزء ازاءها سواء، لا يتفاوتان؛ لأن كل شئ مرتبط بالاشياء كلها.

فمن لا يقدر على خلق كل الاشياء لا يقدر على خلق شئ واحد.

مَن لم يقبـض على زمام الكون كلّه لا يقدر على خلق ذرة

ان من لا يملك قبضة قوية يرفع بها ارضنا والشموس والنجوم التي لا تحصى، ويضعها على هامة الفضاء، وفوق صدره، بانتظام واتقان، ليس له ان يدّعي الخلق والايجاد قطعاً.

احياء النوع كإحياء الفرد

كما ان إحياء ذبابة غطت في نومٍ شبيه بالموت في الشتاء، ليس عسيراً على القدرة الإلهية، كذلك احياء هذه الدنيا بعد موتها، بل احياء ذوي الارواح قاطبة، سهلٌ ويسير علىها.

الطبيعة صنعة إلهية

الطبيعة ليست طابعة، بل مطبع.. ولا نقاشة بل نقش، ولا فاعلة بل قابلة للفعل.. ولا مصدراً، بل مسطر.. ولا ناظماً بل نظام.. ولا قدرة بل قانون.

فهي شريعة ارادية، وليست حقيقة خارجية.

الوجدان يعرف الله بوَجْده ونَشوته

في الوجدان انجذاب وجذب، مندمجان فيه دوماً، لذا ينجذب، والانجذاب انما يحصل بجذبِ جاذبٍ.

وذو الشعور ينجذب انجذاباً، إذا ما بدا ذو الجمال وتجلّى ببهاء دون حُجُب.

هذه الفطرة الشاعرة تشهد شهادة قاطعة على الواجب الوجود ذي الجلال والجمال. شاهدها الاول ذلك الجذب.. والآخر ذلك الانجذاب.

شهادة الفطرة صادقة

لا كذبَ في الفطرة، فما تقوله صدق؛ فميلان النمو الكامن في النواة يقول: سأنمو وأثمر. والواقع يصدّقه.

في داخل البيضة، يقول ميلان الحياة، في تلك الاعماق: سأكون فرخاً .. ويكون باذن الله فعلاً، ويُصدّق كلامه.

واذا نوت غرفة من ماء داخل كرة من حديد الانجماد، فان ميلان انبساطها اثناء البرودة يقول: توسَّع ايها الحديد، أنا محتاج الى مكان اوسع. فيحاول الحديد الصلب الاّ يكذّبه، بل ما فيه من اخلاص وصدق الجنان يفتّت ذلك الحديد.

كلٌ ميلٍ من هذه الميول، أمرٌ تكويني، حكمٌ إلهي، شريعة فطرية، تجلٍّ للإرادة الإلهية في ادارة الاكوان.

فكلُ ميل، وكل امتثال، انقيادٌ لأمر إلهي تكويني.

فالتجلي في الوجدان جلوة كهذه، بحيث أن الانجذاب والجذبة صافيان كالمرآة المجلوة، ينعكس فيهما نور الايمان وتجلّي الجمال الخالد.

النبوة ضـرورية للبشرية

ان القدرة الإلهية التي لا تترك النمل من دون أمير، والنحل من دون يعسوب، لا تترك حتماً البشر من دون نبي، من دون شريعة.

نعم هكذا يقتضي سرٌُ نظام العالم.

المعراج معجزة للملائكة مثلما انشقاق القمر معجزة للانسان

المعراجُ ولايةٌ عظمى في نبوة مسلَّمة بها رأته الملائكة رؤية حقة كرامةً.

ركب النبي الباهر (البُراق) وغدا بَرقاً، فدار الوجود كالقمر مشاهداً عالم النور ايضاً.

فكما ان انشقاق القمر معجزةٌ حسيّة عظمى للانسان المنتشر في عالم الشهادة، فهذا المعراج ايضاً هو أعظم معجزة لساكني عالم الارواح.

كلمة الشهادة برهانها فيها

كلمتا الشهادة: كل منها شاهدة للاخرى، ودليل، وبرهان.

فالأولى: برهان لِمّي للثانية، والثانية: برهان إنّي للاولى(1).

الحياة طراز من تجلّي الوحدة

الحياة نور الوحدة.

فالتوحيد يتجلى بالحياة في هذه الكثرة.

نعم! ان تجلّياً من تجليات الوحدة يجعل الكثرة الكاثرة من الموجودات، وجوداً واحداً؛ لأن الحياة تجعل الشئ الواحد مالكاً لكل شئ.. بينما كل الاشياء عند فاقد الحياة عدم.

الروح قانون اُلبس وجوداً خارجياً

الروح قانون نوراني، وناموس اُلبس وجوداً خارجياً. اُودع فيه الشعور.

فهذا الروح الموجود - وجوداً خارجياً - وذاك القانون المعقول - المدرك عقلاً - اصبحا اخوين وصديقين.

اذ هذا الروح آتٍ من عالم الأمر، ومن صفة الارادة، كالقوانين الفطرية الثابتة الدائمة.

وان القدرة الإلهية تكسو الروحَ وجوداً حسياً، وتودع فيه الشعور، فتجعل سيالة لطيفة صَدَفة لذلك الجوهر.

ولو ألبست قدرةُ الخالق القوانينَ الجارية في الانواع، وجوداً خارجياً، لأصبح كل منها روحاً. ولو نزع الروحُ هذا الوجودَ، وطرح عنه الشعور، لأصبح قانوناً باقياً.

الوجود بلا حياة كالعدم

الضياء والحياة، كلاهما كشّافان للموجودات.

ان لم يكن هناك نور الحياة، فالوجود معرّض للعدم، بل هو كالعدم.

نعم! إن ما لا حياة فيه غريب، يتيم، حتى لو كان قمراً.

النملة بالحياة اكبر من الارض

اذا وازنت النملة بميزان الوجود، فالكون الذي تنطوي عليه النملة بسر الحياة، لا تسعه كرتنا الارضية.

فلو قارنا هذه الكرة الارضية - التي اراها حية ويراها البعض ميتة - مع النملة، فانها لا تعدل نصف رأس هذا الكائن المجهز بالشعور.

النصرانية ستسلِّم أمرها للاسلام

ستجد النصرانية امامها الانطفاء أو الاصطفاء. وسوف تلقي السلاح وتستسلم للاسلام. لقد تمزقت عدة مرات، حتى آلت الى (البروتستانتية) ولم تسعفـها كذلك، وتمـزق الستار مرة اخرى، فوقعت في ضلالة مطلقة. الاّ أن قسماً منها اقترب مـن التوحيد، وسيجد فيه الفلاح. وهي الآن على وشك التمزق(1)، ان لم تنطفىء فانها تتصفّى وتكون ملك الاسلام (اذ تجد نفسها امام الحقائق الاسلامية الجامعة لاسس النصرانية الحقيقية).

هذا سر عظيمٌ اشار اليه الرسول الكريم e بنزول عيسى عليه السلام، وأنه سيكون من امته ويعمل بشريعته.

النظر التقليدي يرى المحال ممكناً

لقد اشتهرت حادثة: انه بينما كان الناس يراقبون هلال العيد، ولم ير أحد شيئاً،اذا بشيخ هرم يحلف أنه قد رأى الهلال، ثم تبين ان ما رآه لم يكن هلالاً بل شعرة بيضاء تقوست من اهدابه. فاصبحت تلك الشعرة هلالاً له. فأين تلك الشعرة المقوسة من الهلال؟.

فهلا فهمت هذا الرمز!

لقد أصبحت حركات الذرات شعرات مظلمة لأهداب العقل، أسدلت على البصر المادي واعمته، فلم يعد يرى الفاعلَ لتشكيل الانواع كلها. وهكذا تقع الضلالة.

فأين حركات الذرات من نظّام الكون؟.

ان توهم صدور تلك الانواع من تلك الحركات محال في محال.

القرآن لا يحتاج الى وكيل بل الى مرآة

ان ما في المصدر من قدسية هي التي تحض جمهور الأمة والعوام على الطاعة وتسوقهم الى امتثال الاوامر اكثر من قوة البرهان.

ان تسعين بالمئة من احكام الشريعة مسلَّمات وضروريات دينية، شبيهة باعمدة من الالماس، أما المسائل الاجتهادية الخلافية الفرعية، فلا تبلغ الاّ عشرة بالمئة. فلا ينبغي ان يكون تسعون عموداً من الالماس تحت حماية عشرة منها من ذهب، ولا تابعة لها.

ان معدن اعمدة الالماس وكنزها: الكتاب والسنة. فهي ملكهما ولا تُطلب الاّ منهما.

اما الكتب الاخرى والاجتهادات فينبغي ان تكون مرايا عاكسة للقرآن أو مناظير اليه ليس الاّ. اذ إن تلك الشمس المنيرة المعجزة لا ترضى لها ظلاً ولا وكيلاً.

المبُطل يأخذ الباطل بظن الحق

ان الانسان يقصد الحق ويتحراه دوماً، لما يحمل من فطرة مكرّمة، وقد يعثر على باطل فيظنه حقاً ويحافظ عليه، وقد يقع عليه الضلالُ من دون اختيار وهو ينقّب عن الحقيقة، فيظنه حقاً ويصدّقه.

مرايا القدرة كثيرة

ان مرايا القدرة الإلهية كثيرة جداً، كلٌ منها يفتح نوافذ أشفّ وألطف من الاخرى الى عالم من عوالم المثال.

فابتداءً من الماء الى الهواء، ومن الهواء الى الاثير، ومن الاثير الى عالم المثال، ومن عالم المثال الى عالم الارواح، ومن عالم الارواح الى الزمان، ومن الزمان الى الخيال، ومن الخيال الى الفكر، كلها مرايا متنوعة تتمثل فيها الشؤون الإلهية السيالة. فتأمل باُذنك في مرآة الهواء ترَ الكلمة الواحدة تصبح مليوناً من الكلمات.

هكذا يسطّر قلمُ القدرة الإلهية سرّ هذا التناسل والاستنساخ العجيب.





اقسام التمثلات مختلفة

ينقسم التمثل في المرآة الى اربع صور:

فإما أنها صورة تمثل الهوية فحسب، او تمثل معها الخاصية، او تمثل الهوية ونور الماهية، أو ماهية الهوية.

فان شئت مثالاً، فدونك الانسان والشمس، والمَلَك والكلمة.

ان تمثلات الكثيف تصبح امواتاً متحركة في المرآة.

وتمثلات روح نورانية في مراياها كل منها حية مرتبطة، ونور منبسط. ان لم يكن عينه فليس هو غيره.

فلو كانت للشمس حياة، لكانت حرارتُها حياتها، وضياؤها شعورَها.فصورتُها المنعكسة في المرآة تملك هذه الخواص.

فهذا هو مفتاح هذه الاسرار:

ان جبرائيل عليه السلام وهو في سدرة المنتهى يتمثل في صورة دحية الكلبي في المجلس النبوي وفي اماكن اخرى كثيرة.

وان عزرائيل يقبض الارواح في مكان وفي اماكن كثيرة لا يعلمها الاّ الله.

وان الرسول e يظهر لأمته في وقت واحد، في كشف الاولياء، وفي الرؤى الصادقة، ويقابلهم جميعاً بشفاعته لهم يوم القيامة يوم الحشر الاعظم. وأن الابدال في الاولياء يظهرون هكذا في اماكن عدة في آن واحد.

قد يكون المستعد مجتهداً لا مشرعاً

كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد وحائز على شروطه، له أن يجتهد لنفسه في غير ما ورد فيه النص، من دون أن يلزم الاخرين به، اذ لا يستطيع أن يشرّع ويدعو الامة الى مفهومه. اذ فهمه يُعدّ من فقه الشريعة ولكن ليس الشريعة نفسها، لذا ربما يكون الانسان مجتهداً ولكن لا يمكن ان يكون مشرّعاً. فالدعوة الى اي فكر كان مشروطة بقبول جمهور العلماء له، والاّ فهو بـدعـة مـردودة. تنحصر بصاحبها ولا تتعداه. لأن الإجماع وجمهور الفقهاء هم الذين يميزون ختم الشريعة عليه.



نور العقل يشعّ من القلب

على المفكرين الذين غشيَهم ظلامٌ ان يدركوا الكلام الآتي:

لا يتنور الفكر من دون ضياء القلب.

فإن لم يمتزج ذلك النور وهذا الضياء، فالفكر ظلامٌ دامس يتفجّر منه الظلم والجهل. فهو ظلام قد لبس لبوس النور (نور الفكر) زوراً وبهتاناً.

ففي عينك نهار لكنه بياض مظلم، وفيها سواد لكنه منور.

فان لم يكن فيها ذلك السواد المنور، فلا تكون تلك الشحمة عيناً، ولا تقدر على الرؤية.

وهكذا، لا قيمة لبصر بلا بصيرة.

فإن لم تكن سويداء القلب في فكرة بيضاء ناصعة، فحصيلةُ الدماغ لا تكون علماً ولا بصيرة.

فلا عقل دون قلب.

مراتب العلم في الدماغ مختلفة وملتبسة

في الدماغ مراتب، يلتبس بعضها ببعض، احكامها مختلفة.

يحصل التخيل اولاً، ثم يأتي التصور، ثم يرد التعقل، ثم التصديق، ثم يصبح اذعاناً ثم يأتي الالتزام، ثم الاعتقاد. فاعتقادك بشئ غير التزامك به.

وعن كلٍ من هذه المراتب تصدر حالة:

فالصلابة تصدر عن الاعتقاد، والتعصب عن الالتزام، والامتثال عن الاذعان، والالتزام عن التصديق، ويحصل الحياد في التعقل، والتجرد في التصور، والسفسطة في التخيل إن عجز عن المزج.

إن تصوير الامور الباطلة تصويراً جيداً جرحٌ للاذهان الصافية واضلال لها.

لا يُلقَّن مالا يُستوعب من علم

ان العالم المرشد الحقيقي يهب للناس علمه في سبيل الله دون انتظار عوض ويصبح كالشاة لا كالطير، فالشاة تُطعم بَهْمتها لبناً خالصاً والطير تلقم فراخها قيئها الملئ باللعاب.



التخريب أسهل والــضعيف يكون مخرّباً

ان وجود الشئ يتوقف على وجود جميع اجزائه، بينما عدمه يحصل بانعدام جزءٍ منه، لذا يكون التخريب أسهل .

ومن هنا يميل الضعيفُ العاجز الى التخريب وارتكابِ اعمال سلبية تخريبية. بل لا يدنو من الايجابية ابداً.

ينبغي للقوة ان تخدم الحق

ان لم تمتزج دساتير الحكمة ونواميس الحكومة وقوانين الحق وقواعد القوة بعضها ببعض ولم يستمد كل من الآخر ولم يستند اليه، فلا تكون مثمرة ولا مؤثرة لدى جمهور الناس. فتُهمَل شعائر الشريعة وتعطّل، فلا يستند اليها الناس في امورهم ولا يثقون بها.

الشئ يتـضمن ضـدَّه احياناً

سيكون زمان يُخفي الضدُّ ضدَّهُ، واذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة. واذا بالظلم(1) يلبس قلنسوة العدالة، واذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد. ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل الله ويسمّى الأسر الحيواني والاستبداد الشيطاني حرية.

وهكذا تتماثل الاضداد، وتتبادل الصور، وتتقابل الاسماء، وتتبادل المقامات المواضعَ.

السياسة الدائرة على المنفعة وحش رهيب

ان السياسة الحاضرة الدائرة رحاها على المنافع وحشٌ رهيبٌ، فالتودد الى وحش جائع لا يدرّ عطفه بل يثير شهيته، ثم يعود ويطلب منك اجرة انيابه واظفاره!

تتعاظم جناية الانسان لعدم تحدد قواه

ان القوى المودعة في الانسان لم تُحدد فطرةً خلافاً للحيوان، فالخير والشر الصادران عنه لا يتناهيان. فاذا ما اقترن غرورٌ من هذا وعنادٌ من ذاك، يولدان ذنباً عظيما(2) الى حد لم يعثر له البشر على إسم. ان هذا دليل على وجود جهنم، اذ لا جزاء له الاّ النار.

ومثلاً: يتمنى احدُهم أن تحل بالمسلمين مصيبة كي يظهر صدق كلامه وصواب تنبؤه!!.

ولقد أظهر هذا الزمان ايضاً: ان الجنة غالية ليست رخيصة وان جهنم ليست زائدة عن الحاجة.

رُبَّ خير يكون وسيلة لشر

ان المزية التي يتحلّى بها الخواص، في الحقيقة سبب لدفعهم الى التواضع وانكار الذات. ولكن مع الاسف اصبحت وسيلة للتحكم بالآخرين والتكبر عليهم.

وكذلك عجز الفقراء وفقر العوام، هما داعيان في الحقيقة للاشفاق عليهم، ولكن مع الاسف انجرا - في الوقت الحاضر - الى سوقهم الى الذل والأسر.

لو حصل شرف ومحاسن في شئٍ ما، فانه يُسند الى الخواص والرؤساء. أما ان حصلت منه السيئات والشرور فانه توزع على الافراد والعوام.

فالشرف الذي نالته العشيرة الغالبة يقابل بـ: احسنت يا شيخ العشيرة!

ولكن لو حصل العكس فيقال: سحقاً لافرادها

وهذا هو الشر المؤلم في البشر!



ان لم تكن للجماعة غاية وهدف فالانانية تقوى

ان لم يكن لفكر الجماعة غاية وهدف مثالي، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت، تحولت الاذهان الى انانيات الافراد وحامت حولها.

اي: يتقوى (أنا) كل فرد، وقد يتحدد ويتصلب حتى لا يمكن خرقه ليصبح (نحن) فالذين يحبون (أنا) أنفسهم لا يحبون الآخرين حباً حقيقياً.

انتعاش الاضـطرابات بموت الزكاة وحياة الربا

ان معدن جميع انواع الاضطرابات والقلاقل والفساد واصلها، وان محرك جميع انواع السيئات والاخلاق الدنيئة ومنبعها كلمتان اثنتان أو جملتان فقط:

الكلمة الاولى: اذا شبعتُ انا فمالي إن مات غيري من الجوع.

الكلمة الثانية: تحمّل انتَ المشاق لأجل راحتي، اعمل انت لآكل أنا. لك المشقة وعليّ الاكل.

والداء الشافي الذي يستأصل شأفة السم القاتل في الكلمة الاولى هو: الزكاة، التي هي ركن من اركان الاسلام.

والذي يجتث عرق شجرة الزقوم المندرجة في الكلمة الثانية هو: تحريم الربا.

فان كانت البشرية تريد صلاحاً وحياة كريمة فعليها ان تفرض الزكاة وترفع الربا.

على البشرية قتل جميع انواع الربا ان كانت تريد الحياة

لقد انقطعت صلة الرحم بين طبقة الخواص والعوام. فانطلقت من العوام اصداء الاضطرابات وصرخات الانتقام،ونفثات الحسد والحقد. ونزلت من الخواص على العوام نار الظلم والاهانة وثقل التكبر ودواعي التحكم.

بينما ينبغي ان يصعد من العوام: الطاعة والتودد والاحترام والانقياد، بشرط ان ينزل عليه من الخواص: الاحسان والرحمة والشفقة والتربية.

فان ارادت البشرية دوام الحياة فعليها ان تستمسك بالزكاة وتطرد الربا.

اذ إن عدالة القرآن واقفة بباب العالم وتقول للربا: (ممنوع، لا يحق لك الدخول ارجع!).

ولكن البشرية لم تصغ الى هذا الأمر، فتلقّت صفعة قوية(1). وعليها ان تصغي اليه قبل أن تتلقى صفعة اخرى أقوى وأمرّ.

لقد كسر الانسان قيد الأسر وسيكسر قيد الأجر

لقد قلتُ في رؤيا:

ان الحروب الطفيفة بين الدول والشعوب تتخلى عن مواضعها الى صراعات اشد ضرواة بين طبقات البشر؛ لأن الانسان لم يرض في ادواره التاريخية بالأسر، بل كسر الاغلال بدمه. ولكن الآن اصبح أجيراً يتحمل أعباءه، وسيكسرها يوماً ما.

لقد اشتعل رأس الانسان شيباً، بعد أن مرّ بادوار خمسة:

الوحشية والبداوة والرق وأسر الاقطاع، وهو الآن أجير. هكذا بدأ وهكذا يمضي.

الطريق غير المشروع يؤدي الى خلاف المقصود

( القاتل لا يرث)(1) دستور عظيم

ان الذي يسلك طريقاً غير مشروع لبلوغ مقصده، غالباً ما يجازى بخلاف مقصوده.. فمحبة اوروبا غير المشروعة وتقليدها والألفة بها كان جزاؤها العداء الغادر من المحبوب! وارتكاب الجرائم.

نعم، فالفاسق محروم لا يجد لذةً ولا نجاة.

في الجبرية والمعتزلة حبة من حقيقة

يا طالب الحقيقة!

ان الشريعة تنظر الى الماضي والى المصيبة غير نظرتها الى المستقبل والى المعصية.

اذ تنظر الى الماضي والى المصائب بنظر القدر الإلهي، فالقول هنا للجبرية.

اما المستقبل والمعاصي فتنظر اليهما بنظر التكليف الإلهي، فالقول هنا للمعتزلة. وهكذا تتصالح الجبرية والمعتزلة.

ففي هذه المذاهب الباطلة تندرج حبة من حقيقة، لها محلها الخاص بها، وينشأ الباطل من تعميمها.

العجز والجزع شأن الـضعفاء

ان رمت الحياة، فلا تتشبث بالعجز فيما يمكن حلّه.

وان رمت الراحة فلا تستمسك بالجزع فيما لا علاج له.

قد يؤدي الشئ الصغير الى عظائم الامور

ستكون هناك احوال، بحيث ان حركة بسيطة عندها تسمو بالانسان الى اعلى عليين.

وكذا تحدث حالات، بحيث أن فعلاً بسيطاً يردي بصاحبه الى اسفل سافلين.

آن واحد يعدل سنة عند بعـضهم

فطرة الانسان قسمان: قسم يسطع في الحال، وقسم آخر يتألق بالتدرج، ويسمو رويداً رويداً.

فطبيعة الانسان تشبه كليهما معاً. وهي تتبدل حسب الشروط والاحوال.

فتمضي احياناً بشكل تدريجي، واحياناً تتفجر ناراً مضيئة تفجر البارود الاسود.

ورب نظرة تحول الفحم ألماساً.

وربّ مسّ يحول الحجر اكسيراً.

فنظرة من النبي e يقلب الاعرابي الجاهل عارفاً بالله منوراً في الحال.

وان سألت ميزاناً، فدونك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الاسلام وبعده.

ومثالهما: البذرة والشجرة التي اعطت ثمارها اليانعة دفعة واحدة.

فحوّل ذاك النظر النبوي وهمّته الفطرَ المتفحمة

في الجزيرة العربية الى ألماسات لامعات.

وتحولت السجايا المظلمة المحرقة - كالبارود الاسود - الى خصال فاضلة نيّرة.

الكذب لفظ كافر

حبة واحدة من صدق تبيد بيدراً من الاكاذيب.

ان حقيقة واحدة تهدم صرحاً من خيال.

فالصدق اساس عظيم وجوهر ساطع،

وربما يتخلى عن مكانه للسكوت، ان كان فيه ضرر، ولكن لا موضع للكذب قطعاً، مهما يكن فيه من فائدة ونفع.

ليكن كلامك كله صدقاً ولتكن احكامك كلها حقاً،

ولكن عليك أن تدرك هذا: انه لاحق لك أن تبوح بالصدق كله.

اتخذ هذه القاعدة دستوراً لك:

(خذ ما صفا دع ما كدر). فانظر بُحسن وشاهد بُحسن ليكون فكرك حسناً، وظُن ظناً حسناً، وفكّر حسناً لتجد الحياة اللذيذة الهانئة.

ان الامل المندرج في حسن الظن ينفخ الحياة في الحياة،

بينما اليأس المخبوء في سوء الظن ينخر سعادة الانسان ويقتل الحياة.

مجلس في عالم المثال

(موازنة بين الحضارة الحاضرة والشريعة الغراء، والدهاء العلمي والهدى الإلهي)

ابان الهدنة، نهاية الحرب العالمية الاولى، وفي ليلة من ليالي الجمعة، دخلت مجلساً مهيباً في عالم المثال، وذلك في رؤيا صادقة، فسألوني:

- ماذا سيحدث لعالم الاسلام عقب هذه الهزيمة؟

اجبت بصفتي ممثلاً عن العصر الحاضر، وهم يستمعون اليّ:

- ان هذه الدولة التي اخذت على عاتقها - منذ السابق - حماية استقلال العالم الاسلامي، واعلاء كلمة الله بالقيام بفريضة الجهاد - فرضاً كفائياً - ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء عن العالم الاسلامي الذي هو كالجسد الواحد حاملة راية الخلافة، اقول: ان هذه الدولة، وهذه الامة الاسلامية، ستعوّض عن هذا البلاء الذي أصابها، سعادة يرفل بها العالم الاسلامي، وحرية يتمتع بها، وستتلافى المصائب والاضرار الماضية، فالذي يكسب ثلاثمائة بدفع ثلاثٍ لا شك انه غير خاسر، وذو الهمة يبدل حاله الحاضرة الى مستقبل زاهر. فهذه المصيبة قد بعثت الشفقة والاخوة والترابط بين المسلمين بعثاً خارقاً.

ان تنامي الاخوة بين المسلمين يُسرع في هزّ المدنية الحاضرة ويقرب دمارها، وستتبدل صورة المدنية الحاضرة، وسيقوض نظامها. وعندها تظهر المدنية الاسلامية، وسيكون المسلمون اول من يدخلونها بارادتهم.

وان اردت الموازنة بين المدنية الشرعية والمدنية الحاضرة، فدقق النظر في اسس كلٍ منهما ثم انظر الى آثارهما.

ان اسس المدنية الحاضرة سلبية، وهي اسس خمسة، تدور عليها رحاها.

فنقطة استنادها: القوة بدل الحق، وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض، ومن هذا تنشأ الخيانة.

هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة، وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم، ومن هذا تنشأ الجناية.

دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون، وشأن الخصام: التنازع والتدافع، ومن هذا تنشأ السفالة.

رابطتها الاساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوى بابتلاع الآخرين وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، وهو المشاهد. ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك.

وخامستها: هي ان خدمتها الجذابة، تشجيع الاهواء والنوازع، وتذليل العقبات امامهما، واشباع الشهوات والرغبات. وشأن الاهواء والنوازع دائماً: مسخ الانسان، وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الانسانية وتمسخ مسخاً معنوياً.

ان معظم هؤلاء المدنيين، لو قلبتَ باطنهم على ظاهرهم، لرأيت في صورتهم سيرة القرد والثعلب والثعبان والدب والخنزير.

نعم! ان خيالك ليمس فراء تلك الحيوانات وجلودها.. وآثارهم تدل عليهم.

انه لا ميزان في الارض غير ميزان الشريعة. انها رحمة مهداة نزلت من سماء القرآن العظيم.

أما اسس مدنية القرآن الكريم، فهي ايجابية تدور سعادتها على خمسة اسس ايجابية.

نقطة استنادها: الحق بدل القوة، ومن شأن الحق دائماً: العدالة والتوازن. ومن هذا ينشأ السلام ويزول الشقاء.

وهدفها: الفضيلة بدل المنفعة، وشأن الفضيلة: المحبة والتقارب، ومن هذا تنشأ السعادة وتزول العداوة.

دستورها في الحياة: التعاون بدل الخصام والقتال، وشأن هذا الدستور: الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات.

وخدمتها للمجتمع: بالهدى بدل الاهواء والنوازع، وشأن الهدى: الارتقاء بالانسان ورفاهه الى ما يليق به مع تنوير الروح ومدّها بما يلزم.

رابطتها بين المجموعات البشرية: رابطة الدين والانتساب الوطني وعلاقة الصنف والمهنة واخوة الايمان. وشأن هذه الرابطة: اخوة خالصة، وطرد العنصرية والقومية السلبية.

وبهذه المدنية يعم السلام الشامل، اذ هو في موقف الدفاع ضد اي عدوان خارجي.

والآن! ندرك لِمَ اعرض العالم الاسلامي عن المدنية الحاضرة، ولم يقبلها، ولم يدخل المسلمون فيها بارادتهم.

انها لا تنفعهم، بل تضرهم. لانها كبّلتهم بالاغلال، بل صارت سماً زعافاً للانسانية بدلاً من ان تكون لها ترياقاً شافياً؛ اذ ألقت ثمانين بالمائة من البشرية في شقاء، لتعيش عشرة بالمائة منها في سعادة مزيفة. اما العشرة الباقية فهم حيارى بين هؤلاء وهؤلاء.

وتتجمع الارباح التجارية بايدي أقلية ظالمة، بينما السعادة الحقة، هي في اسعاد الجميع، أو في الأقل ان تصبح مبعث نجاة الاكثرية.

والقرآن الكريم النازل رحمة للعـالمين لا يقبل الاّ طرازاً من المدنية التي تمنح السعادة للجميع او الاكثرية، بينما المدنية الحاضرة قد اطلقت الاهواء والنوازع من عقالها، فالهوى حر طليق طلاقة البهائم، بل اصبح يستبد، والشهوة تتحكم، حتى جعلتا الحاجات غير الضرورية في حكم الضرورية. وهكذا مُحيت راحة البشرية؛ اذ كـان الانسان في البداوة محتاجاً الى اشياء اربعة، بينما، افقرته المدنية الحاضرة الآن وجعلته في حاجة الى مائة حاجة وحاجة. حتى لم يعد السعي الحـلال كافياً لسد النفقات، فدفعت المدنية البشرية الى ممارسة الخداع والانغماس فـي الحرام. ومن هنا فسدت اسس الاخلاق، اذ أحاطت المجتـمع والبشرية بهالة من الهيبة ووضعت في يدها ثروة الناس فاصبح الفرد فقيراً وفاقداً للأخلاق.

والشاهد على هذا كثير، حتى ان مجموع ما ارتكبته البشرية من مظالم وجرائم وخيانات في القرون الاولى قاءتها واستفرغتها هذه المدنية الخبيثة مرة واحدة. وسوف تصاب بالمزيد من الغثيان في قابل أيامها(1) ومن هنا ندرك لِمَ يتوانى العالم الاسلامي في قبولها ويتحرج. ان استنكافه منها له مغزى، يلفت النظر.

نعم! ان النور الإلهي في الشريعة الغراء يمنحها خاصة مميزة وهي: الاستقلال الذي يؤدي الى الاستغناء.

هذه الخاصية لا تسمح ان يتحكم في ذلك النور دهاء(1) روما - الممثل لروح هذه المدنية - ولا يطعّم بها ولا يمتزج معها. ولن تكون الشريعة تابعة لذلك الدهاء.

اذ الشريعة تربي في روح الاسلام الشفقة وعزة الايمان. فلقد اخذ القرآن بيده حقائق الشريعة. كل حقيقة منها عصا موسى (في تلك اليد). وستسجد له تلك المدنية الساحرة سجدة تبجيل واعجاب.

والآن دقق النظر في هذا:

كانت روما القديمة واليونان يملكان دهاءً، وهما دهاءان توأمان، ناشئان من أصل واحد. احدهما غلب الخيال عليه. والآخر عبد المادة. ولكنهما لم يمتزجا، كما لا يمتزج الدهن بالماء. فحافظ كل منهما على استقلالها، رغم مرور الزمان، ورغم سعي المدنية لمزجهما، ومحاولة النصرانية لذلك. الاّ ان جميع المحاولات باءت بالاخفاق.

والآن، بدلت تلكما الروحان جسديهما، فاصبح الألمان جسد احدهما والفرنسيون جسد الآخر. وكأنهما قد تناسخا منهما.

ولقد أظهر الزمان: ان ذينك الدهاءين التوأمين قد ردّا أسباب المزج بعنف، ولم يتصالحا الى الوقت الحاضر.

فلئن كان التوأمان، الصديقان، الاخوان الرفيقان في الرقي قد تصارعا ولم يتصالحا، فكيف يمتزج هدى القرآن - وهـو من اصل مغاير ومعــدن آخر ومطلع مختلف - مع دهاء روما وفلسفتها؟! فذلك الدهاء، وهذا الهدى مختلفان في المنشأ.

الهدى نزل من السماء.. والدهاء خرج من الارض.

الهدى فعّال في القلب، يدفع الدماغ الى العمل والنشاط. بينما الدهاء فعال في الدماغ، ويعكرّ صفو القلب ويكدّره.

الهدى ينور الروح حتى تثمر حباتها سنابل، فتتنور الطبيعة المظلمة، وتتوجه الاستعدادات نحو الكمال. ولكن يجعل النفس الجسمانية خادمة مطيعة. فيضع في سيماء الانسان الساعي الجاد صورة المَلَك.

أما الدهاء فيتوجّه مقدماً الى النفس والجسم ويخوض في الطبيعة، ويجعل النفس المادية مزرعة لإنماء الاستعداد النفساني وترعرعه. بينما يجعل الروح خادمة، حتى تتيبس بذورها وحباتها، فيضع في سيماء الانسان صورة الشيطان.

الهدى يمنح السعادة لحياة الانسان في الدارين وينشر فيهما النور والضياء، ويدفع الانسان الى الرقي. اما الدهاء الاعور كالدجال، فيفهم الحياة انها دار واحدة فحسب، لذا يدفع الانسان ليكون عبد المادة، متهالكاً على الدنيا حتى يجعله وحشاً مفترساً.

نعم! ان الدهاء يعبد الطبيعة الصماء، ويطيع القوة العمياء.

أما الهدى فانه يعرف الصنعة المالكة للشعور، ويقدّر القدرة الحكيمة.

الدهاء يسدل على الارض ستار الكفران.. والهدى ينثر عليها نور الشكر والامتنان.

ومن هذا السر: فالدهاء أعمى أصم.. والهدى سميع بصير.

اذ في نظر الدهاء: لا مالك للنعم المبثوثة على الارض ولا مولى يرعاها، فيغتصبها دون شكران، اذ الاقتناص من الطبيعة يولد شعوراً حيوانياً.

أما في نظر الهدى فان النعم المبسوطة على الارض هي ثمرات الرحمة الإلهية، وتحت كلٍ منها يد المحسن الكريم. مما يحض الانسان على تقبيل تلك اليد بالشكر والتعظيم.

زد على ذلك:

فمما ينبغي الاّ ننكر ان في المدنية محاسن كثيرة، الاّ انها ليست من صنع هذا العصر، بل هي نتاج العالم وملك الجميع، اذ نشأت بتلاحق الافكار وتلاقحها، وحث الشرائع السماوية - ولا سيما الشريعة المحمدية - وحاجة الفطرة البشرية. فهي بضاعة نشأت من الانقلاب الذي احدثه الاسلام. لذا لا يتملكها احدٌ من الناس.

وهنا عاد رئيس المجلس فسأل قائلاً:

يا رجل هذا العصر! ان البلاء ينزل دوماً نتيجة الخيانة، وهو سبب الثواب. ولقد صفع القدر صفعته ونزل القضاء بهذه الامة. فبأىٍ من اعمالكم قد سمحتم للقضاء والقدر حتى أنزل القضاء الإلهي بكم البلاء ومسّكم الضر؟ فان سبب نزول المصائب العامة هو خطأ الاكثرية من الناس.

قلت:

ان ضلال البشرية وعنادها النمرودي وغرورها الفرعوني، تضخّم وانتفش حتى بلغ السماء ومسّ حكمة الخلق، وأنزل من السموات العلا ما يشبه الطوفان والطاعون والمصائب والبلايا.. تلك هي الحرب العالمية الحاضرة. اذ أنزل الله سبحانه لطمة قوية على النصارى بل على البشرية قاطبة. لأن أحد أسبابها التي يشترك فيها الناس كلهم هو الضلال الناشئ من الفكر المادي، والحرية الحيوانية، وتحكّم الهوى.

أما ما يعود الينا من سبب فهو:

اهمالنا اركان الاسلام وتركنا الفرائض؛ اذ طلب منا سبحانه وتعالى ساعة واحدة من اربع وعشرين ساعة، طلبها لأجلنا نحن، لأداء الصلوات الخمس، فتقاعسنا عنها. واهملناها غافلين، فجازانا بتدريب شاق دائم لأربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات، أي أرغمنا على نوع من الصلاة!

وانه سبحانه طلب منا شهراً من السنة نصوم فيه رحمة بأنفسنا. فعزّت علينا نفوسُنا فأرغمنا على صوم طوال خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا.

وانه سبحانه طلب منا الزكاة عُشراً أو واحداً من اربعين جزءاً من ماله الذي اعطاه لنا، فبخلنا وظلمنا وخلطناه بالحرام، ولم نعطها طوعاً. فأرغمنا على دفع زكاة متراكمة. وانقذنا من الحرام، فالجزاء من جنس العمل.

ان العمل الصالح نوعان:

احدهما: ايجابي واختياري.

والآخر: سلبي واضطراري.

فالآلام والمصائب كلها اعمال صالحة سلبية اضطرارية، كما ورد في الحديث الشريف وفيه سلواننا وعزاؤنا.

ولهذا، فلقد تطهرت هذه الامة المذنبة وتوضأت بدمها. وتابت توبة فعلية.

وكان ثوابها العاجل رفع خُمس هذه الامة العثمانية - اي اربعة ملايين من الناس - الى مرتبة الولاية ومنحهم درجة الشهادة والمجاهدين.. هكذا كفّر عن الذنوب.

استحسن مَن في المجلس الرفيع المثالي هذا الكلام.

وانتبهتُ من نومي، بل قد نمتُ مجدداً باليقظة. لأنني اعتقد ان اليقظة رؤيا والرؤيا نوع من اليقظة.

سعيد النورسي هنا
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #52
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

ممثل العصر هناك

***

اذا تسلَّم الجهلُ المجازَ حوّله الى حقيقة

اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل ينقلب حقيقة ويفتح ابواباً الى الخرافات. فلقد رأيتُ ايام صباي خسوف القمر، سألتُ والدتي عن السبب، فقالت: ابتلعه الثعبان. قلت: لِمَ يشاهد اذن؟. قالت: الثعابين هناك نصف شفافة!

وهكذا ظُن المجاز حقيقة. اذ يخسف القمر بأمر إلهي بحيلولة الارض بين الشمس والقمر وعند نقطتي تقاطع مدارهما وهما الرأس والذنب.

وقد اطلق على ذينك القوسين الموهومين اسم (التنين) اي الثعبان ولكن الاسم الذي اطلق حسب تشبيه خيالي تحوّل الى مسمىً (حقيقي).

المبالغة ذم ضـمني

اذا وصفت شيئاً فصفْه على ما هو عليه. اعتقد ان المبالغة في المدح ذم ضمني. لا احسان اكثر من الاحسان الإلهي.

الشهرة ظالمة

الشهرة مستبدة متحكمة، اذ تُمَلِّكُ صاحبَها مالا يملِكْ

فالخواجة نصر الدين (جحا) لا يملك من لطائفه المنتشرة غير العُشر.

وهالة الخيال التي وضعت حول رستم السيستاني قد أغارت على مفاخر ايران لعصر كامل. فلقد انتعش الغصب وتضخم ذلك الخيال، حتى اختلط بالخرافات والقى الانسان فيها.



***



الذين يعزلون الدين عن الحياة يردون المهالك

ان خطأ (تركيا الفتاة)(1) نابع من عدم معرفتهم أن الدين اساس الحياة. فظنوا ان الامة شئ والاسلام شئ آخر؛ وهما متمايزان! ذلك لأن المدنية الحاضرة. اوحت بذلك واستولت على الافكار بقولها: أن السعادة هي في الحياة نفسها. الاّ ان الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضرّ(2). والتجارب القاطعة اظهرت لنا: أن الدين حياة للحياة ونورها واساسها.

احياء الدين احياء لهذه الأمة. والاسلام هو الذي ادرك هذا.

ان رقي امتنا هو بنسبة تمسكها بالدين، وتدنيها هو بمقدار اهمالها له، بخلاف الدين الآخر. هذه حقيقة تاريخية، قد تنوسيت.

***

الموت ليس مرعباً كما يُتوهم

الموت تبديل مكان وتحويل موضع وخروج من سجن الى بستان. فليطلب الشهادة من يريد الحياة . والقرآن الكريم ينص على حياة الشهيد.

الشهيد الذي لم يذق ألم السكرات يُعدّ نفسه حياً. وهو يرى نفسه هكذا، الاّ أنه يجد حياته الجديدة نزيهة طاهرة اكثر من قبل، فيعتقد انه لم يمت. والنسبة بين الاموات والشهداء شبيهة بالمثال الآتي:

رجلان يتجولان في الرؤيا في بستان زاهر جامع لأنواع اللذائذ.

احدهما يعرف ان الذي يراه هو رؤيا، لذا لا يستمتع كثيراً، وربما يتحسر. والآخر يظن ان ما يراه في الرؤيا حقيقة في عالم اليقظة فيستمتع ويتلذذ حقيقة.

الرؤيا ظلُ عالم المثال، وعالم المثال ظلُ عالم البرزخ، ومن هنا تتشابه دساتير هذه العوالم.

السياسة الحاضـرة شيطان في عالم الافكار ينبغي الاستعاذة منها

ان سياسة المدنية الحاضرة تضحي بالاكثرية في سبيل الاقلية، بل تضحي قلةٌ قليلة من الظلمة بجمهور كبير من العوام في سبيل مقاصدها.

اما عدالة القرآن الكريم، فلا تضحى بحياة برئ واحد، ولا تهدر دمه لأي شئ كان، لا في سبيل الاكثرية، ولا لأجل البشرية قاطبة. اذ الآية الكريمة ] مَن قَتَل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الارض فكأنما قَتَل الناسَ جميعاً[ (المائدة: 32) تضع سرّين عظيمين امام نظر الانسان:

الاول: العدالة المحضة، ذلك الدستور العظيم الذي ينظر الى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة، فهم سواء في نظر العدالة الإلهية مثلما انهم سواء في نظر القدرة الإلهية. وهذه سنة دائمة. الاّ ان الشخص يستطيع - برغبة من نفسه - ان يضحي بنفسه، من دون ان يُضحّى به قطعاً، حتى في سبيل الناس جميعاً. لأن ازهاق حياته وازالة عصمته وهدر دمه بإبطال حق الناس جميعاً شبيه بازالة عصمتهم جميعاً وهدر دمائهم جميعاً.

والسر الثاني: هو لو قتل مغرورٌ بريئاً دون ورع، تحقيقاً لحرصه واشباعاً لنزواته وهوى رغباته، فانه مستعد لتدمير العالم والجنس البشري ان استطاع.

***

الــضعف يشجع الخصم

ايها الخائف الضعيف!

ان خوفك وضعفك يذهبان سدىً، لا طائل وراءه، بل يكونان عليك لا لك. لانهما يشجعان الآخرين ويثيران شهيتهم لإفتراسك.

ان لله ان يختبر عبده وليس للعبد ان يختبر ربه.

أيها المرتاب!

ان مصلحة محققة لا يضحى بها في سبيل مضرة موهومة. فعليك بالسعي والنتيجة موكولة الى الله تعالى. فان لله ان يختبر عبده ويقول لك ان قمتَ بهذا سأكافئك بكذا، ولكن ليس للعبد ان يختبر ربه قائلاً: فليوفقني الله تعالى في هذا لأعمل هذا كذا. فان قال هكذا فقد تجاوز حدّه.

وقد قال ابليس يوماً لعيسى بن مريم عليه السلام: مادام الأمر كله للّه، ولن يصيبك الاّ ما كتبه عليك فارمِ نفسك من ذروة هذا الجبل، وانظر ماذا يفعل بك؟

فقال له عيسى عليه السلام:

يا ملعون إن لله أن يختبر عبده وليس للعبد أن يختبر ربه!

***

لا تفرط فيما يعجبك

قد يكون دواء مرضٍ داءً لداء آخر وينقلب بلسَمُه الشافي سماً زعافاً، اذ لو جاوز الدواءُ حدَّه انقلبَ الى ضدّه.

***

عين العناد ترى المَلَك شيطاناً

امر العناد هو: انه اذا ما ساعد شيطانٌ امرءاً قال له: انه (مَلَكٌ) وترحّم عليه. بينما اذا رأى مَلكاً في صف مَن يخالفه في الرأي؛ قال: (انه شيطان قد بدّل لباسه) فيعاديه ويلعنه.

***

لا تثر الاختلاف لأجل الأحق بعد وجدانك الحق

يا طالب الحقيقة!

ان كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق، يكون الحقُ أحقَّ من الأحقِّ، والحسنُ أحسنَ من الأحسن.

***

الاسلام دين السلام والأمان، يرفـض النزاع والخصام في الداخل

ايها العالم الاسلامي! ان حياتك في الاتحاد.

ان كنت طالباً للاتحاد فاتخذ هذا دستورك:

لابد أن يكون (هو حق) بدلاً من (هو الحق). و (هو حسن) بدلاً من (هو الحسن).

اذ يحق لكل مسلم أن يقول في مسلكه ومذهبه: ان هذا (حق) ولا اتعرض لما عداه. فان يك جميلاً فمذهبي أجمل. بينما لا يحق له القول في مذهبه: ان هذا هو (الحق) وما عداه باطل. وما عندي هو (الحسن) فحسب وغيره قبيح وخطأ!

ان ضيق الذهن وانحصاره على شئ، ينشأ من حب النفس ثم يكون داءً. ومنه ينجم النزاع.

فالادوية تتعدد حسب تعدد الادواء، ويكون تعددها حقاً.. وهكذا الحق يتعدد. والحاجات والاغذية تتنوع، وتنوعها حق.. وهكذا الحق يتنوع.

والاستعدادات ووسائل التربية تتشعب، وتشعبها حق.. وهكذا الحق يتشعب.

فالمادة الواحدة قد تكون داءً ودواءً حسب مزاجين اثنين..

اذ تعطى نسبية مركبة وفق أمزجة المكلفين، وهكذا تتحقق وتتركب.

ان صاحب كل مذهب يحكم حكماً مطلقاً مهملاً من دون ان يعين حدود مذهبه، اذ يدعه لاختلاف الأمزجة، ولكن التعصب المذهبي هو الذي يولد التعميم ولدى الالتزام بالتعميم ينشأ النزاع.

كانت هناك هوّات سحيقة بين طبقات البشر، قبل الاسلام. مع بُعدٍ شاسع عجيب بينهما. فاستوجب تعدد الانبياء وظهورهم في وقت واحد، كما استوجب تنوع الشرائع وتعدد المذاهب.

ولكن الاسلام أوجد انقلاباً في البشرية فتقارب الناس واتحد الشرع واصبح الرسول واحداً.

وما لم تتساو المستويات فان المذاهب تتعدد. ومتى ما تساوت وأوفت التربية الواحدة بحاجات الناس كافة تتحد المذاهب.

***

في ايجاد الاضداد وجمعها حكمة عظيمة

الذرة والشمس في قبـضة القدرة سواء

يا اخي ياذا القلب اليقظ!

ان القدرة تتجلى في جمع الأضداد؛

فوجود الالم في اللذة والشر في الخير والقبح في الحسن والضر في النفع والنقمة في النعمة والنار في النور.. فيه سر عظيم. أتعرف لماذا؟

انه لكي تثبت الحقائق النسبية وتتقرر، وتتولد اشياء كثيرة من شئ واحد وتنال الوجود وتظهر.

فالنقطة تتحول خطاً بسرعة الحركة، واللمعة تتحول بالدوران دائرة من نور. فوظيفة الحقائق النسبية في الدنيا هي حبات تنشأ منها سنابل، اذ هي التي تشكل طينة الكائنات وروابط نظامها وعلائق نقوشها.

اما في الآخرة فهذه الاوامر النسبية تصبح حقائق حقيقية.

فالمراتب التي في الحرارة انما هي ناشئة من تخلل البرودة فيها. ودرجات الحسن هي من تداخل القبح، فالسبب يصبح علة.

فالضوء مدين للظلام، واللذة مدينة للألم، ولا متعة للصحة من دون المرض، ولولا الجنة لما عذبت جهنم، فهي لا تكمل الاّ بالزمهرير، بل لولاه لما احرقت جهنم احراقاً تاماً.

فذلك الخلاّق القديم أظهر حكمته العظيمة في خلق الاضداد، فتجلت هيبته وبهاؤه.

وذلك القدير الدائم اظهر قدرته في جمع الاضداد، فظـهرت عظمته وجلاله.

فما دامت تلك القدرة الإلهية لازمة للذات الجليلة، فبالضرورة لا ضد في تلك الذات. ولا يتخللها العجز، ولا مراتب في القدرة، ونسبتها واحدة لكل شئ، لا يثـقل عليها شئ. وقد اصبحت الشمس مشكاةً لضوء تلك القدرة، وغدا وجه الارض مرآة لتلك المشـكاة بل حتى عيون الندى اصبحت مرايا لها. فالوجه الواسع للبحر مرآة لتلك الشمس كما تظهرهاحبابات ذلك الوجه المتموج. وعيون الندى تتلمع كالنجوم. كل منها يبين الهوية نفسها. فـفي نظر الشمس يتساوى البحر والندى، فالقدرة نظير هذا. اذ بؤبؤ عين الندى شُميسة تلمع، والشمس الضخمة هي ندى صغير، يستلم بؤبؤ عينها الـنور من شمـس القدرة الإلهية فتدور دوران القمر حول تلك القدرة. والسموات بحر عظيم لا ساحل له. تتماوج على وجهها بأمر الرحمن الحبابات، تلك هي الشموس والنجوم.

وهكذا تجلت القدرة ونثرت على تلك القطرات لمعات النور.

فكل شمس قطرة وكل نجم ندى. وكل لمعة صورة.

فتلك الشمس العظيمة - الشبيهة بالقطرة - انعكاس خافت لتجلي ذلك الفيض العظيم فلميعةٌ من ذلك الفيض تُحوّل الشمس كوكباً دريّاً

وذلك النجم الشبيه بالندى يمكّن تلك اللميعة من عينه، وتغدو سراجاً، وعينه زجاجة ، تزيد المصباح ضياءً.

ادفن مزاياك تحت تراب الخفاء لتنمو

ياذا المزايا ويا صاحب الخاصية!

لا تظلِم بالتعيّن والتشخص، فلو بقيتَ تحت ستار الخفاء، منحتَ اخوانك بركةً واحساناً.اذ من الممكن ظهورك في كل أخٍ لك، وان يكون هو أنت بالذات، وبهذا تجلب الانظار والاحترام الى كل اخ.

بينما تلقي الظل هنا، بالتعين والتشخص، بعد ان كنت شمساً هناك. فتُسقط شأن اخوانك وتقلل من احترامهم.

بمعنى ان التعيّن والتشخص امران ظالمان.

فلئن كان هذا هو امر المزايا الصحيحة، وصاحبها الصادق وانت تراه، فكيف بكسب الشهرة والتشخص بالتصنع الكاذب والرياء؟!

فهو اذن سر عظيم وحكمة إلهية ونظام أكمل، ان فرداً خارقاً في نوعه يمنح القيمة والأهمية الى افراد نوعه بالستر والخفاء، ودونك المثال:

الولي في الانسان، والأجل في العمر، فقد ظلا مخفيين. وكذا ساعة الاجابة في الجمعة وليلة القدر في رمضان، والاسم الاعظم في الاسماء الحسنى.

والسر اللطيف في هذه الامثلة وقيمتها العظيمة هي:

ان في الإبهام اظهاراً وفي الإخفاء اثباتاً.

فمثلاً في إبهام الأجل موازنة لطيفة بين الخوف والرجاء، موازنة بين توهم البقاء في الدنيا وثواب العاقبة.

فالعمر المجهول الذي يستغرق عشرين سنة ارجح من الف سنة من عمر معلوم النهاية، لأنه بعد قضاء نصف هذا العمر يكون المرء كأنه يخطو خطوات الى منصة الاعدام. فالحزن المستمر المتلاحق لا يدع صاحبه يتمتع بالراحة والسلوان.





لا رحمة أوسع من رحمته تعالى

ولا غـضب اشد من غـضبه سبحانه

لا رحمة تفوق رحمة الله، ولا غضب يفوق غضبه.

فدع الأمور للعادل الرحيم. اذ فرط الشفقة أليم وفرط الغضب ذميم.

الاسراف باب السفاهة وهي تقود الى السفالة

يا أخي المسرف!

لقمتان مغذيتان؛ أحداهما بقرش والاخرى بعشرة، هما سيّان قبل دخولهما الفم، وسيّان كذلك بعد مرورهما من الحلقوم.

فلا فرق الاّ ذوق يدوم لبضع ثوان، للغافل الأحمق؛ اذ تخدعه حاسة الذوق دوماً بهذا الفرق،

فهذه الحاسة حارسة الجسم وناظرة مفتشة للمعدة.

ولها تأثير سلبي لا ايجابي، ان أصبحت وظيفتها ارضاء الحارس.

كي يديم الذوق للغافل، فيتعكر صفو وظيفتها بدفع احد عشر قرشاً بدلاً من واحد، فيجعلها تابعة للشيطان.

لا تتقرب من هذا، فيسوقك الى أبشع أنواع الاسراف. وأفظع أنواع التبذير.

***

حاسة الذوق مأمورة البرق

لا تجعل اللذة همها فتفسدها

(1)لقد أسـس سبحانه بفضل ربوبيته وحكمته وعنايته في فم الانسان وانفه مركزين : وضع فيهما حراسَ حدودِ هذا العالم الصغير وعيونه. ونصب كل عرق، بمثابة الهاتف، وجعـل كل عصب في حكم البرق. وجعلت عنايته الكريمة حاسةَ الشم مأمورة ارسال المكـالمات الهاتفية، وحاسة الذوق موظفة ارسال البرقيات.

ومن رحمة ذلك الرزاق الحقيقي انه وضع قائمة الاثمان على الأرزاق، تلك هي: الطعم، واللون، والرائحة.

فهذه الخواص الثلاثة - من حيث الإرزاق - لوحة اعلان، وبطاقة دعوة، وتذكرة رخصة، ومنادية الزبائن وجالبة المحتاجين.

وقد منح ذلك الرزاق الكريم، الاحياء المرزوقة أعضاءً للذوق والرؤية والشم. وزين الاطعمة بمختلف ألوان الزينة والجمال.. ليسلّي بها القلوب المشتاقة ويثير شوق غير المبالين.

فحالما يدخل الطعام الفم، تخبر حاسة الذوق انحاء الجسم برقياً به، وتبلّغ الشم هاتفياً نوع الطعام الوارد وصنفه.

فالحيوانات المتباينة في الرزق والحاجات، تتصرف وفق تلك الاخبار وتتهيأ على حسبها. أو يأتي الجواب بالرد، فيلفظ الفم الطعام خارجاً، بل قد يبصق عليه.

ولما كانت حاسة الذوق مأمورة من قبل العناية الإلهية فلا تفسدها بالتذوق المستمر، ولاتخدعها بالتلذذ دوماً.

اذ ستنسى ما الشهية الحقة؟ لورود الشهية الكاذبة اليها، تلك التي تأخذ بلبها.. فيجازى صاحبها بالمرض ويعاقب بالعلل جراء خطئها.

اعلم ان اللذة الحقيقية، انما تنبع من شهية حقيقية.

وان الشهية الحقة الصادقة تنبع من حاجة حقيقية صادقة.

وفي هذه اللذة الحقة - الكافية للانسان ـ يتساوى السلطان والشحاذ.

***

نوع النظر كالنية يقلب العادات الى عبادات

لاحظ بدقة، هذه النقطة:

كما تصبح العادات المباحة بالنية عبادات.

كذلك تكون العلوم الكونية بنوع النظر معارف إلهية.

فاذا ما نظرت الى هذه العلوم نظراً حرفياً، مع دقة الملاحظة والتفكر العميق، من حيث الصنعة والاتقان. أي ان تقول: (ما أبدع خلق هذا! ما أجمل صنع الصانع الجليل!) بدلاً من قولك: (ما أجمله).

نعم، اذا ما نظرت الى الكون من هذه الزاوية تجد ان نقوش المصور الجليل ولمعةَ القصد والاتقان في نظامه وحكمته تنور الشبهات وتبددها.

وعندها تتبدل العلوم الكونية معارف إلهية.

ولكن لو نظرت الى الكائنات بالمعنى الاسمي، ومن حيث «الطبيعة» أي انها تولدت بذاتها، فعندها تتحول دائرة العلوم الى ميدان جهل.

فيا لضياع الحقائق في الأيادي الوضيعة.

وما أكثر الامثلة الشاهدة على هذه الحقيقية.

في مثل هذا الزمان لا يأذن الشرع لنا باختيار الترفّه

كلما نادت اللذائذ ينبغي الاجابة: (كانني أكلت).

فالذي جعل هذا دستوراً له، لم يأكل مسجداً(1).

لم يكن أكثر المسلمين في السابق جائعين. فكان الترفّه جائز الاختيار الى حدٍ ما. اما الآن فمعظمهم يبيتون جياعاً، فلم يعد لناإذنٌ شرعي للتلذذ.

اذ إن معيشة السواد الأعظم وغالبية المسلمين بسيطة. فينبغي الاقتداء بهم في الطعام الكفاف البسيط.

وهذا هو الأفضل بألف مرة من الانسياق وراء أقلية مسرفة أو ثلة من السفهاء في ترفههم في الطعام.

***

سيكون عدم النعمة نعمة

قوة الذاكرة نعمة، ولكن يرجّح عليها النسيان في شخص سفيه وفي زمن البلاء. والنسيان كذلك نعمة، لانه لا يذيق الاّ آلام يوم واحد وينسي الآلام المتراكمة.

***

في كل مصيبة جهة خير

أيها المبتلى ببلية!

ان نعمةً ما مندرجةٌ ضمن كل مصيبة. لاحظها بدقة لتشاهدها.

اذ كما توجد درجة حرارةٍ في كل شئ، ففي كل مصيبة توجد درجة من النعمة.

شاهد درجة النعمة هذه في البلية الصغرى، وفكّر بالعظمى واشكر ربك الرحيم.

والاّ، فكلما استعظمتها جفلتَ منها، لأنك اذا ما تأسفت عليها تستعظم وتكبر حتى تتضخم ويصيبك الرعب منها. واذا ما زدتها بالقلق والأوهام، تتوأمتْ بعد ان كانت واحدة، لأن صورتها الوهمية التي في القلب تنقلب الى حقيقة ثم تعود تُنزل بضرباتها الموجعة على القلب.

لا تظهر بزي الكبير فتصغر

يا من يحمل (أنا) مضاعفاً، ويحمل في رأسه غروراً وكبراً! عليك ان تعرف هذا الميزان!

لكل شخص نافذة يطل منها على المجتمع ـ للرؤية والاراءة ـ تسمى مرتبة. فاذا كانت تلك النافذة أرفع من قامة قيمته، يتطاول بالتكبر. اما اذا كانت أخفض من قامة همته يتواضع بالتحدّب ويتخفض، حتى يشهد في ذلك المستوى ويشاهَد.

ان مقياس العظمة في الكاملين هو التواضع.

اما الناقصون القاصرون فميزان الصُغر فيهم هو التكبر.

***

تتغير ماهية الخصال بتغير المنازل

خصلة واحدة في مواضع متباينة وصورة واحدة تكون تارة غولاً بشعاً وتارة مَلَكاً رقيقاً ومرةً صالحة واخرى طالحة. أمثلة ذلك الآتي:

ان عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي، لو كانت في القوي لكانت تكبراً وغروراً. وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف لو كان في الضعيف لكان تذللاً ورياءً.

ان جدّية ولي الأمر في مقامه وقارٌ، اما لينه فذلةٌ.

كما ان جديته في بيته دليل على الكبر، ولينه دليل على التواضع.

ان صفح المرء عن المسيئين وتضحيته بما يملك، عمل صالح. بينما هو خيانة وعمل طالح ان كان متكلماً عن الجماعة.

ان التوكل في ترتيب المقدمات كسل، بينما تفويض الأمر الى الله في ترتّب النتيجة توكل يأمر به الشرع.

ان رضى المرء عن ثمرة سعيه وقسمته قناعةٌ ممدوحة. تقوي فيه الرغبة في مواصلة السعي. بينما الاكتفاء بالموجود قناعة لا ترغب، بل تقاصر في الهمة.

وهناك أمثلة كثيرة على هذا.

فالقرآن الكريم يذكر الصالحات و التقوى ذكراً مطلقاً. ويرمز في ابهامهما الى تأثير المقامات والمنازل. فايجازه تفصيل. وسكوته كلام واسع.

الحق يعلو

ايها الصديق! سألني احدهم ذات يوم:

لما كان (الحق يعلو) أمراً حقاً لا مراء فيه، فلِمَ ينتصر الكافرُ على المسلم، وتغلُب القوة على الحق؟.

قلت: تأمل في النقاط الاربع الآتية، تنحل المعضلة.

C النقطة الاولى:

لا يلزم ان تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كل حقٍّ حقاً، كما لا يلزم ايضاً ان تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كلِّ باطلٍ باطلاً.

فالنتيجة اذن: ان وسيلةً حقة (ولو كانت في باطل) غالبةٌ على وسيلةٍ باطلة (ولو كانت في الحق).

وعليه يكون: حقٌ مغلوب لباطل، مغلوبٌ بوسيلته الباطلة، اي مغلوبٌ موقتاً، والاّ فليس مغلوباً بذاته، وليس دائماً، لأن عاقبة الأمور تصير للحق دوماً.

أما القوة، فلها من الحق نصيبٌ، وفيها سرٌّ للتفوق كامنٌ في خلقتها.

C النقطة الثانية:

بينما يجب أن تكون كلُّ صفةٍ من صفات المسلم مسلمةً مثله، الا ان هذا ليس أمراً واقعاً، ولا دائماً!

ومثله، لا يلزم ايضاً ان تكون صفات الكافر جميعها كافرةً ولا نابعةً من كفره.

وكذا الأمر في صفات الفاسق، لا يشترط ان تكون جميعُها فاسقة، ولا ناشئة من فسقه.

إذن، صفةٌ مسلمةٌ يتصف بها كافرٌ تتغلب على صفةٍ غير مشروعة لدى المسلم. وبهذه الوساطة (والوسيلة الحقة) يكون ذلك الكافر غالباً على ذلك المسلم (الذي يحمل صفة غير مشروعة).

ثم ان حقّ الحياة في الدنيا شامل وعام للجميع. والكفر ليس مانعاً لحق الحياة الذي هو تجلٍ للرحمة العامة والذي ينطوي على سر الحكمة في الخلق.

C النقطة الثالثة:

لله سبحانه وتعالى تجليان ــ يتجلى بهما على المخلوقات ــ وهما تجليان شرعيان صادران من صفتين من صفات كماله جل وعلا.

اولهما:

الشرع التكويني ـ أو السنة الكونية ـ الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة (الارادة الإلهية).

والثاني:

الشريعة المعروفة الصادرة من صفة (الكلام الرباني).

فكما ان هناك طاعةً وعصياناً تجاه الاوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الاوامر التكوينية.

وغالباً ما يرى الاول ـ مطيع الشريعة والعاصي لها ـ جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني ـ مطيع السنن الكونية والعاصي لها ـ غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.

فكما ان ثواب الصبر النصرُ.

وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل.

كذلك ثواب السعي الغنى،

وثواب الثبات التغلب.

مثلما ان نتيجة السمِّ المرضُ.

وعاقبةَ الترياقِ والدواء الشفاء والعافية.

وتجتمع احياناً اوامر الشريعتين معاً في شئ.. فلكلٍ جهة.

فطاعةُ الأمر التكويني الذي هو حق، هذه الطاعة غالبة ـ لأنها طاعة لأمر إلهي ـ على عصيان هذا الأمر بالمقابل، لأن العصيان ـ لأي أمر تكويني ـ يندرج في الباطل ويصبح جزءاً منه.

فاذا ما اصبح حقٌ وسيلةً لباطلٍ فسينتصر على باطلٍ اصبح وسيلةً لحق، وتظهر النتيجة:

حقٌ مغلوب أمام باطل! ولكن ليس مغلوباً بذاته، وانما بوسيلته. اذن فــ(الحق يعلو) يعلو بالذات، والعقبى هي المرادة ــ فليس العلو قاصراً في الدنيا ـ الاّ ان التقيّد والأخذ بحيثيات الحق مقصود ولابد منه.

C النقطة الرابعة:

ان ظلَّ حقٌ كامناً في طور القوة ـ اي لم يخرج الى طور الفعل المشاهَد ـ أو كان مشوباً بشـئ آخــر، أو مغشــوشــاً، وتطلّب الأمر كشــف الحق وتــزويده بـقــوة جديدة، وجعله خالصاً زكياً، يُسلّط عليه مؤقتاً باطلٌ حتى يخلُص الحق ـ نتيجة التدافع ـ من كل درن فيكون طيباً.

ولتظهر مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جداً.

فاذا ما انتصر الباطل في الدنيا ـ في مكان وزمان معينين ـ فقد كسب معركة ولم يكسب الحرب كلها، لأن (العاقبة للمتقين) هي المآل الذي يؤول اليه الحق.

وهكذ الباطل مغلوب ـ حتى في غلبه الظاهر ـ وفي (الحق يعلو) سرٌّ كامن عميق يدفع الباطل قهراً الى العقاب في عقبى الدنيا أو الآخرة، فهو يتطلع الى العقبى. وهكذا الحق غالب مهما ظهر انه مغلوب!.

***

دساتير اجتماعية

ان شئت دساتير في المجتمع فدونك:

ان العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة اصلاً..

فالتماثل سبب مهم للتضاد.

واما التناسب فهو اساس التساند.

منبع التكبر اظهار صغر النفس

ومنبع الغرور ضعف القلب.

وقد أصبح العجز منشأ الخلاف.

اما حب الاستطلاع فهو استاذ العلم.

الحاجة أم الاختراع.

والضيق معلم السفاهة.

ولقد أصبح الضيق منبع السفاهة. ومنبع الضيق نفسه هو اليأس وسوء الظن.

فالضلالة ضلالة الفكر.

والظلمات تعم القلب.

والاسراف يكون في الأمور الجسدية.

اضلت النساء البشرية بخروجهن من بيوتهن فعليهن العودة اليها

)اذا تأنث الرجال السفهاء بالهوسات اذاً ترجل النساء الناشزات بالوقاحات)(1) لقد اطلقت المدنية السفيهة النساء من أعشاشهن. وامتهنت كرامتهن. وجعلتهن متاعاً مبذولاً.

بينما شرعُ الاسلام يدعو النساء الى اعشاشهن رحمة بهنّ. فكرامتهن فيها، وراحتهن في بيوتهن وحياتهن في دوام العائلة.

الطهـر زينتـهـن

الخُـلق هيبتـهـن

العـفة جـمالهـن

الشفقة كمالهـن

الاطفال لهوهـن.

ولا تصمد ازاء جميع هذه الاسباب المفسدة الاّ ارادة من حديد.

كلما دخلتْ حسناء في مجلس تسود فيه الأخوة، أثارت فيهم عروق الرياء والمنافسة والحسد والأنانية، فتتنبه الأهواء الراقدة.

ان تكشّف النساء تكشفاً دون قيد، أصبح سبباً لتكشّف اخلاق البشر السيئة وتناميها.

هذه الصور التي هي جنائز مصغرة، وأموات متبسمة، لها دور خطير جداً في الروح الرعناء للانسان المتحضر. بل ان تأثيرها مخيف مرعب(1). ان الهياكل والتماثيل الممنوعة شرعاً والصور المحرمة، اما انها ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى منجمد. أو طلسم يجلب تلك الأرواح الخبيثة.

***

سعة تصرف القدرة، تردّ الوسائط

ان شمسنا تصبح كالذرة ازاء تصرف قدرة القدير ذي الجلال وسعة تأثيرها.

ان مساحة تصرفه العظيم في النوع الواحد واسعة جداً.

خذ القوة الجاذبة بين ذرتين، ثم ضعها قرب القوة الجاذبة الموجودة في شمس الشموس وفي درب التبانة.

واجلب المَلَك الذي يحمل حبة البَرَد مع المَلَك الشبيه بالشمس الذي يحمل الشمس.

وضع أصغر سمكة ـ صغر الابرة ـ جنب الحوت العظيم وبعد ذلك تصوَّر التجلي الواسع للقدير ذي الجلال واتقانه الكامل في أصغر شئ وفي أكبره.

عندها تعلم ان الجاذبية والنواميس كلها ان هي الاّ وسائل سيالة وأوامر عرفية، وليست الاّ اسماء وعناوين لتجلي القدرة وتصرف الحكمة.

فهذا هو التفسير لا غير.

فكّر في هذه الأمور معاً تجد بالضرورة؛ ان الاسباب الحقيقية والوسائط المعينة، وكذا الشركاء، ما هي الاّ أمور باطلة وخيال محال في نظر تلك القدرة الجليلة.

ان الحياة كمال الوجود.

ولجلالة مقامها أقول:

لِمَ لا تكون كرتنا وعالمنا مسخراً مطيعاً كالحيوان؟

فللّه سبحانه كثير من أمثال هذه الحيوانات الطائرة منتشرة في الفضاء الواسع تنشر البهاء والجمال والعظمة والهيبة.

انه سبحانه يديرها ويسيّرها في بستان خلقه.

فالنغمات التي تبعثها تلك الكائنات والحركات التي تقوم بها هذه الطيور.. تلك الأقوال والأحوال تسبيحات وعبادات للقديم الذي لم يزل، وللحكيم الذي لا يزال.

ان كرتنا الأرضية كثيرة الشبه بالحيوان، إذ انها تبرز آثار الحياة، فلو صغرت كبيضة صغيرة ــ بفرض محال ــ لتحولت الى حيوان لطيف.

ولو كبر حيوان مجهرى كروي واصبح كالكرة الأرضية، لصار شبيهاً بها.

فلو صغر عالمنا صغر الانسان وانقلبت نجومه الى ما يشبه الذرات، ربما يكون حيواناً ذا شعور. والعقل يجد مجالاً في هذا الاحتمال.

فالعالَم اذن عابدٌ مسبّح بأركانه،

كل ركن مسخّر مطيع، للخالق القدير القديم.

فليس من الضروري ان يكون الكبير كمّاً كبيراً نوعاً.

بل الساعة الصغيرة صغر الخردل ابدع صنعة وأعظم جزالة من كبيرتها التي هي بكبر (ايا صوفيا)..

فخلق الذبابة أعجب من خلق الفيل.

لو كتب قرآنٌ بقلم القدرة بالجواهر الفردات للأثير على جزءٍ فردٍ، فان دقة صفحاته تعادل في صنعة الاتقان القرآن الكريم المكتوب بمداد النجوم في صحيفة السماء. فهما سيّان في الجزالة والابداع.

فالصنعة الباهرة بالجمال والكمال للمصور الازلي مبثوثة هكذا في كل جهة، والاتحاد الكامل الاتم في كمالها يعلن التوحيد.

خذ هذا الكلام البيّن بعين الاعتبار.

***

الملائكة أمة مأمورة لتنفيذ الشريعة الفطرية

الشريعة الإلهية اثنتان:

وهما آتيتان من صفتين إلهيتين، والمخاطب انسانان وهما مكلفان بهما.

اولاهما: الشريعة التكوينية الآتية من صفة الارادة الإلهية، وهي الشريعة والمشيئة الربانية التي تنظّم أحوال العالم ــ الانسان الاكبر ــ وحركاته التي هي ليست اختيارية. وقد يطلق عليها خطأ ً اسم الطبيعة.

اما الأخرى: فهي الشريعة الآتية من صفة الكلام الإلهي، هذه الشريعة تنظم أفعال الانسان الاختيارية، ذلك العالم الأصغر. وتجتمع الشريعتان أحياناً معاً.

اما الملائكة فهم أمة عظيمة، جند الله، حَمَلة الشريعة الاولى وممثلوها وممتثلوها.

قسم منهم عباد مسبّحون.

وقسم منهم مستغرقون في العبادة وهم مقربو العرش الأعظم.

***

كلما رقّت المادة اشتدت الحياة فيها

الحياة أساس الوجود وأصله. والمادة تابعة لها وقائمة بها.

فاذا ما قارنت الحواس الخمس في الانسان والحيوان المجهري تجد:

كم يكبر الانسان عن ذلك المجهري، فان حواسه ادنى من حواسه بالنسبة نفسها. فذلك المجهري يسمع صوت أخيه ويرى رزقه.

فلو كَبُر كبر الانسان لتوسعت حواسه الى حدّ محيّر للالباب. فحياته تنشر الشعاع، وبصرُه نور سماوي يضاهي البرق.

والانسان نفسه ليس كائناً ذا حياة مركّب من كتلة من موات. بل هو حجيرة كبيرة مركبة من مليارات من الحجيرات الحية.

[ان الانسان كصورة (يس) كُتب فيها سورة (يس)].

فتبارك الله أحسن الخالقين.

الفلسفة المادية طاعون معنوي

الفلسفة المادية طاعون معنوي، حيث سبّبت في سريان حمّى مهلكة في البشرية(1)، وعرّضها للغضب الإلهي.

فكلما توسعت قابلية التمرد والانتقاد ـ بالتلقين والتقليد ـ توسّع ذلك الطاعون ايضاً وانتشر.

فانبهار الانسان بالعلوم، وانغماره في تقليد المدنية الحاضرة اعطاه الحرية وروح الانتقاد والتمرد، فظهر الضلال من غروره.

***

لا تعطُّلَ في الوجود، العاطل يسعى في الوجود في سبيل العدم

ان أشد الناس شقاءً واضطراباً وضيقاً هو العاطل عن العمل، لأن العطل هو (عدم) ضمن الوجود، اي موت ضمن حياة.

اما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة.

***

الربا ضرر محض في الاسلام

الربا يسبب العطل، ويطفىء جذوة الشوق الى السعي.

ان ابواب الربا ووسائطه، هذه البنوك، انما تعود بالنفع الى أفسد البشر وأسوأهم. وهم الكفار.. والى أسوأ هؤلاء وهم الظلمة، والى اسوأ هؤلاء وهم أسفههم.

ان ضرر الربا على العالم الاسلامي ضرر محض. والشرع لا يرى تحقيق رفاهية البشر قاطبة في كل حين.اذ الكافر الحربي، لاحرمة له ولاعصمة لدمه.

القرآن يحمي نفسه بنفسه وينفذ حكمه (1)

رأيت شخصاً قد ابتلي باليأس، وأصيب بالتشاؤم. يقول:

لقد قلّ العلماء في هذه الايام، وغلبت الكميةُ النوعيةَ، نخشى ان ينطفئ ديننا في يوم من الايام.

قلت: كما لا يمكن اطفاء نور الكون ولا يمكن اطفاء ايماننا الاسلامي، كذلك سيسطع الاسلام في كل آن ان لم تطفأ منارات الدين، معابد الله، معالم الشرع، تلك هي شعائر الاسلام، الاوتاد الراسخة في الارض.

فلقد اضحى كل معبد من معابد الله معلّماً بطبعه يعلّم الطبائع.

وصار كلُ مَعْلَمٍ من معالم الشرع استاذاً، يلقن الدين بلسان حاله. من دون خطأ ولا نسيان!

واصبحت كل شَعيرة من شعائر الاسلام، عالماً حكيماً بذاته، يدرّس روح الاسلام ويبسطه امام الانظار بمرور العصور.

حتى كأن روح الاسلام قد تجسم في شعائره. وكأن زلال الاسلام قد تصلب في معابده، عموداً سانداً للايمان، وكأن احكام الاسلام قد تجسدت في معالمه. وكأن اركان الاسلام قد تحجرت في عوالمه، كل ركن عمود من الألماس يربط الارض بالسماء. ولا سيما هذا القرآن العظيم، الخطيب المعجز البيان، يلقي خطاباً ازلياً في اقطار عالم الاسلام.. لم تبقَ ناحيةٌ ولا زاوية الاّ واستمعت له واهتدت بهديه. حتى صار حفظُه مرتبة جليلة يسري فيها سر الآية الكريمة ] .. وانا له لحافظون..[ وغدت تلاوته عبادة الانس والجان.

فيه تعليم، فيه تذكير بالمسلّمات. اذ النظريات تنقلب الى مسلّمات بمرور الازمان، ثم الى بديهيات حتى لا تدع حاجة الى بيان.

فقد خرجت الضروريات الدينية من طور النظريات. فالتذكير بها اذن كافٍ والتنبيه وافٍ، والقرآن شاف في كل وقت وآن، اذ فيه التنبيه والتذكير.

ويقظة المسلمين وصحوتهم الاجتماعية تسلّم لكل فرد ما يخص العموم من الدلائل، وتضع لهم الميزان.

فايمان كل شخص لا ينحصر بدليله، ولا يستند الوجدان اليه وحده، بل والى اسباب لا تحد في قلب الجماعة ايضاً.

فلئن كان رفض مذهب ضعيف يصعب كلما مرّ عليه الزمن. فكيف بالاسلام الذي هيمن طوال هذه العصور هيمنة تامة، وهو المستنِد الى اساسين عظيمين هما: الوحي الإلهي، والفطرة السليمة.

لقد التحم الاسلام وتغلغل في اعماق نصف المعمورة، بأسسه الراسخة وآثاره الباهرة. فسرى روحاً فطرياً فيه. فأنّى يستُره كسوفٌ وقد انزاح عنه الكسوف تواً.

ولكن وياللاسف يحاول بعض الكفرة البلهاء واهل السفسطة ان يتعرضوا لأسس هذا القصر الشاهق العظيم، كلما سنحت لهم الفرصة.

ولكن هيهات.. فهذه الاسس لا تتضعضع ابداً.

فليخرس الالحاد الآن، ولقد افلس ذلك الديوث.

ألا تكفيه تجربة الكفران ومزاولة الكذب والبهتان.

كانت هذه الدار، دار الفنون (الجامعة). في مقدمة قلاع عالم الاسلام تجاه الكفر والطغيان، بيد أن اللامبالاة والغفلة والعداوة، تلك الطبيعة الثعبانية المنافية للفطرة، شقّت فرجة خلف الجبهة فهاجم منها الالحاد، واهتزت عقيدة الامة ايّ اهتزاز.

فلابد أن تكون طليعة الحصون المستنيرة بروح الاسلام، اكثَرها صلابة وازيدها انتباهاً ويقظة، هكذا تكون والاّ فلا. فلا ينبـغي ان يُخدع المسلمون.

ان القـلب مستـقر الايمـان، بينما الدماغ مرآة لنوره، وقد يكون مجاهداً وقد يزاول كنس الشبهات وادران الاوهام.

فان لم تدخل الشبهات التي في الدماغ الى القلب لا يزيغ ايمان الوجدان.

ولو كان الايمان في الدماغ ــ كما هو ظن البعض ــ فالاحتمالات الكثيرة والشكوك تصبح اعداءاً ألدّاء لروح الايمان الذي هو حق اليقين.

ان القلب والوجدان محل الايمان.

والحدس والالهام دليل الايمان.

وحسّ سادس طريق الايمان.

والفكر والدماغ حارس الايمان.

تدعو الحاجة الى التذكير بالمسلّمات اكثر من تعليم النظريات

لقد استقرت في القلوب الضروريات، والمسلّمات الشرعية.

ويحصل المطلوب بمجرد التنبيه للاطمئان، والتذكير للاستشعار. والعبارة العربية(1) تنبّه وتذكّر على أفضل وجه واسماه ولهذا؛ فخطبة الجمعة باللغة العربية كافية ووافية للتنبيه على الضروريات والتذكير بالمسلّمات. اذ تعليم النظريات ليس مقصود الخطبة.

ثم ان هذه العبارة العربية تمثل شعار الوحدة الاسلامية في اعماق وجدان الاسلام الذي يرفض التشتت.

الحديث يقول للآية: بلوغك محال

اذا قارنت بين الحديث والآية، ترى بالبداهة ان أبلغ البشر (وهو مبلّغ الوحي الإلهي) لا يبلغ ايضاً شأوَ بلاغة الآية، فالحديث لا يشبهها.

بمعنى إن ما يصدر من فم النبوة من كلام ليس دائماً كلام النبي.

بيان موجز لاعجاز القرآن

رأيت في الماضي فيما يرى النائم: انني تحت جبل (آرارات). انفلق الجبل على حين غرة، وقذف صخوراً بضخامة الجبال الى انحاء العالم، فهزّ العالم وتزلزل.

وفجأة وقف بجنبي رجل، قال لي: بيّن بايجاز ما تعرفه مجملاً من أنواع الاعجاز... اعجاز القرآن.

فكرتُ في تعبير الرؤيا، وأنا ما زلت فيها وقلت:

ان ما حدث هنا من انفلاق مثالٌ لما يحدث في البشرية من انقلاب، وسيكون هدى القرآن بلا ريب عالياً ومهيمناً في هذا الانقلاب. وسيأتي يوم يبين فيه اعجازه.

أجبتُ ذلك السائل قائلاً:

ان اعجاز القرآن يتجلى من سبعة منابع كلية، ويتركب من سبعة عناصر.

المنبع الأول:

سلاسة لسانه من فصاحة اللفظ؛ اذ تنشأ بارقة بيانه من جزالة النظم، وبلاغة المعنى، وبداعة المفاهيم، وبراعة المضامين، وغرابة الاساليب. فيتولد نقش بياني عجيب، وصنعة لسان بديع، من امتزاج كل هذه في نوع اعجاز لا يملّ الانسان من تكراره أبداً.

أما العنصر الثاني:

فهو الاخبار السماوي عن الغيوب في الحقائق الغيبية الكونية والاسرار الغيبية للحقائق الإلهية. فمن أمور الغيب المنطوية في الماضي، ومن الأحوال المستترة الباقية في المستقبل تنشأ خزينة علم الغيوب. فهو لسان عالم الغيوب يتكلم مع عالم الشهادة، في أركان (الايمان) يبينها بالرموز، والهدف هو نوع الانسان، وما هذا الاّ نوع من لمعة نورانية للاعجاز.

اما المنبع الثالث فهو:

ان للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده.

لفظه:يتضمن احتمالات واسعة ووجوهاً كثيرة بحيث ان كل وجهٍ تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسر التشريع.

في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء واذواق العارفين ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها. ففي دلالاته شمولٌ وفي معناه سعة.

فما أوسع هذا الميدان ان أطللت من هذه النافذة!.

الاستيعاب في الاحكام: هذه الشريعة الغراء قد اُستنبطتْ منه، اذ قد تضمن طراز بيانه جميع دساتير سعادة الدارين، ودواعي الأمن والاطمئنان، وروابط الحياة الاجتماعية، ووسائل التربية، وحقائق الأحوال.

استغراق علمه: لقد ضم ضمن سُورِ سوره العلوم الكونية والعلوم الإلهية، مراتب ودلالات ورموزاً واشارات.

في المقاصد والغايات: لقد راعى الرعاية التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، فحافظ على الميزان.

وهكذا الجامعية الباهرة في احاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الاحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات.

اما العنصر الرابع:

فافاضته النورانيةَ حسب درجة فهم كل عصر، ومستوى أدب كل طبقة من طبقاته وعلى وفق استعدادها ورتب قابليتها.

فبابُه مفتوح لكل عصر ولكل طبقة من طبقاته، حتى كأن ذلك الكلام الرحماني ينزل في كل مكان في كل حين.

فكلما شاب الزمان شبّ القرآنُ وتوضحت رموزه، فذلك الخطيب الإلهي يمزق ستار الطبيعة وحجاب الاسباب فيفجّر نورَ التوحيد من كل آية، في كل وقت. رافعاً راية الشهادة شهادة التوحيد على الغيب.

ان علو خطابه يلفت نظر الانسان ويدعوه الى التدبّر؛ اذ هو لسان الغيب يتكلم بالذات مع عالم الشهادة.

يُخلَص من هذا العنصر: أن شبابيته الخارقة شاملة محيطة، وأنسيته جعلته محبوب الانس والجان، وذلك بالتنزلات الإلهية الى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنزيل.

أما المنبع الخامس:

فنُقولُه واخبارُه في اسلوب بديع غزير المعاني، فينقل النقاط الأساس للاخبار الصادقة كالشاهد الحاضر لها. ينقل هكذا لينبّه بها البشر.

ومنقولاته هي الآتية: اخبار الأولين وأحوال الآخرين وأسرار الجنة والجحيم، حقائق عالم الغيب، واسرار عالم الشهادة، والاسرار الإلهية والروابط الكونية. تلك الاخبار المشاهَدة شهود عيان حتى انه لا يردّها الواقع ولا يكذّبها المنطق بل لا يستطيع ردّها ابداً ولو لم يدركها.

فهو مطمَح العالم في الكتب السماوية، اذ ينقل الاخبار عنها مصدّقاً بها في مظان الاتفاق، ويبحث فيها مصححاً لها في مواضع الاختلاف.

ألا انه لمعجزة هذا الزمان ان يصدر مثل هذه الأمور النقلية من " أميّ " !

اما العنصر السادس:

فانه مؤسس دين الاسلام ومتضمنه. ولن تجد مثل الاسلام ان تحريت الزمان والمكان، لا في الماضي ولا في المستقبل. انه حبل الله المتين، يمسك الأرض لئلا تفلت، ويديرها دوراناً سنوياً ويومياً. فلقد وضع وقاره وثقله على الأرض، وساسها وقادها وحال بينها وبين النفور والعصيان.

أما المنبع السابع:

فان الأنوار الستة المفاضة من هذه المنابع الستة يمتزج بعضها مع بعض، فيصدر شعاع حُسنٍ فائق، ويتولد حدس ذهني، وهو الوسيلة النورانية.

والذي يصدر عن هذا: ذوق، يُدرَك به الاعجاز.

لساننا يعجز عن التعبير عنه، والفكر يقصر دونه.

فتلك النجوم السماوية تُشاهَد ولا تُستمسك.

طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان يحمل أعداء القرآن روح التحدي والمعارضة..

وتولدت في أوليائه واحبائه.. روح التقليد والشوق اليه.

وهذا هو بذاته برهان للاعجاز،

اذ كُتبت من جراء هاتين الرغبتين الشديدتين ملايين الكتب بالعربية، فلو قورنت تلك الملايين من الكتب مع القرآن الكريم، لقال كلُ من يشاهد ويسمع، حتى أكثر الناس عامية، دونك الذكي الحكيم:

ان هذه الكتب بشرية.. وهذا القرآن سماوي.

وسيحكم حتماً:

ان هذه الكتب كلها لا تشبه هذا القرآن ولا تبلغ شأوه قطعاً.

لذا فإما انه أدنى من الكل. وهذا معلوم البطلان وظاهر بالبداهة.

اذن فهو فوق الكل.

ولقد فتح أبوابه على مصراعيه للبشر ونشر مضامينه أمامهم طوال هذه المدة الطويلة. ودعا لنفسه الأرواح والأذهان.

ومع هذا لم يستطع البشر معارضته، ولا يمكنهم ذلك. فلقد انتهى زمن الامتحان.

ان القرآن لا يقاس بسائر الكتب ولا يشبهها قطعاً.

اذ نزل في عشرين سنة ونيف نجماً نجماً ــ لحكمة ربانية ــ لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً. ولأسباب نزول مختلفة متباينة. وجواباً لأسئلة مكررة متفاوتة. وبياناً لحادثات أحكام متعددة متغايرة. وفي أزمان نزول مختلفةمتفارقة. وفي حالات تَلَقٍّ متنوعة متخالفة. ولأفهام مخاطبين متعددة متباعدة. ولغايات ارشاداتٍ متدرجة متفاوتة.

وعلى الرغم من هذه الأسس فقد أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني.

وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر: لأنك اذا سمعت كلاماً من أحدٍ فانك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه فالاسلوب مرآة الأنسان.

أيها السائل المثالي!

لقد أردت الاعجاز، وها قد أشرتُ اليه.

وان شئت التفصيل، فذلك فوق حدّي وطوقي. أتقدر الذبابة مشاهدة السماوات؟

وقد بيّن كتاب (اشارات الاعجاز) واحداً من أربعين نوعاً من ذلك الاعجاز، ولم تفِ مائة صفحة من تفسير لبيان نوع واحد.

بل أنا الذي أريد منك التفصيل، فقد تفضّل المولى عليك بفيضٍ من الهامات روحية.

لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الاهواء والنزوات والدهاء..

شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء.

اذ الحالة التي ترضى الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتُطمئنهم، لا تسرّ أصحاب الاهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة، ولا تسلّيهم، فبناءً على هذه الحكمة؛

فان ذوقاً سفيهاً سافلاً، ترعرع في حمأة الشهوة والنفسانية، لا يستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلاً.

فالأدب الحاضر؛ المترشح من أدب أوروبا، عاجز عن رؤية ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع ان يجعل معياره محكّاً له.

والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون ان يحيد عنها:

ميدان الحماسة والشهامة..

ميدان الحسن والعشق..

ميدان تصوير الحقيقة والواقع..

فالأدب الأجنبي:

في ميدان الحماسة؛

لا ينشد الحق، بل يلقّن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده جَور الظالمين وطغيانهم.

وفي ميدان الحسن والعشق؛

لا يعرف العشق الحقيقي، بل يغرز ذوقاً شهوياً عارماً في النفوس.

وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع؛

لا ينظر الى الكائنات على انها صنعة إلهية، ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها.. لذا يكون تلقينه عشق الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكّن حبها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منه بسهولة.

ثم ان ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئاً عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضاً، ولربما يهدئها وينيّمها.

وفي حسبانه انه قد وجد حلاً، وكأن العلاج الوحيد، وهو رواياته. وهي:

في كتاب.. ذلك الحي الميت.

وفي سينما.. وهي أموات متحركة.

وفي مسرح.. الذي تبعث فيه الأشباح وتخرج سراعاً من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!

هذه هي أنواع رواياته.

وأنّى للميت ان يهب الحياة!..

وبلا خجل ولا حياء!.. وضع الأدب الأجنبي لساناً كاذباً في فم البشر.. وركّب عيناً فاسقة في وجه الانسان.. وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة.

فمن أين سيعرف هذا الأدب؛ الحسنَ المجرد.

حتى لو أراد ان يُري القارئ الشمسَ؛ فانه يذّكره بممثلة شقراء حسناء.

وهو في الظاهر يقول: (السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالانسان)..

ثم يبين نتائجها المضرة..

الاّ انه يصورها تصويراً مثيراً الى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، اذ يضرم في الشهوات، ويهيج النزوات. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشئ.

T اما أدب القرآن الكريم:

فانه لا يحرك ساكن الهوى، لا يثيره، بل يمنح الانسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق الى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبداً.

فهو لا ينظر الى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعة إلهية، صبغة رحمانية، دون ان يحير العقول.

فيلقّن نور معرفة الصانع..

ويبين اياته في كل شئ..

والأدبان.. كلاهما يورثان حزناً مؤثراً. الاّ انهما لا يتشابهان.

فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب، وفقدان المالك. ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ .

اذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملاؤه بالالام والهموم حتى يغدو العالم مليئاً بالاحزان، ويلقي الانسان وسط اجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولامالك! فيظل في مأتمه الدائم..

وهكذا تنطفىء أمامه الآمال.

فهذا الشعور الملئ بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الانسان، فيسوقه الى الضلال، والى الالحاد، والى انكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة الى الصواب، بل قد لا يعود أصلاً.

أما أدب القرآن الكريم:

فانه يمنح حزناً سامياً علوياً، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم.

ينظر الى الكائنات؛ على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة بدلاً من طبيعة عمياء. بل لا يذكرها اصلاً، وانما يبين القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلاً من قوة عمياء.

فلا تلبس الكائنات صورة مأتم موحش، بل تتحول ـ امام ناظريه ـ الى جماعة متحابّة، اذ في كل زاوية تجاوب. وفي كل جانب تحابب. وفي كل ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق.

هذا هو شأن الحزن العاشقي.

وسط هذا المجلس يستلهم الانسان شعوراً سامياً، لا حزناً يضيق منه الصدر.

الأدبان.. كلاهما يعطيان شوقاً وفرحاً.

فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون ان يمنح الروح شيئاً من الفرح والسرور.

بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به الى المعالي.

وبناءً على هذا السر:

فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو، وما يُلهي.. فحرّمت بعض آلات اللهو، واباحت أخرى.

بمعنى:

ان الآلة التي تؤثر تأثيراً حزيناً حزناً قرآنياً وشوقاً تنزيلياً، لا تضر. بينما ان أثرت في الانسان تأثيراً يتيمياً وهيّجت شوقاً نفسانياً شهوياً. تحرم الآلة.

تتبدل حسب الاشخاص هذه الحالة..

والناس ليسوا سواء.

الاغصان تقدم الثمرات باسم الرحمة الالهية

ان اغصان شجرة الخليقة تقدم ثمرات النعم وتوصلها ظاهراً الى أيدي الأحياء في كل ناحية من أنحاء العالم.

بل تقدم اليكم تلك الثمرات بتلك الاغصان من يد الرحمة ويد القدرة.

فقبّلوا يد الرحمة تلك، بالشكر،

وقدّسوا يد القدرة تلك، بالامتنان.

بيان الطرق الثلاث المشار اليها في ختام سورة الفاتحة

يا اخي! يا من امتلأ صدره بالامل المشرق! امسكْ خيالك في يدك، وتعال معي.. نحن الآن في ارض واسعة، ننظر الى جوانبها، دون ان يرانا أحد، ولكن اُلقي علينا غيم اسود مظلم فهبط على جبالٍ شمٍ، حتى غطى وجه ارضنا بالظلمات، بل كأنه سقف صلب كثيف.. الاّ انه سقف تُرى الشمس من جهته الاخرى.

ولكننا نحن تحت ذلك الغيم الكثيف، لا نكاد نطيق ضيق الظلمات، ويخنقنا الضجر والانقباض، ففقدان الهواء مميت!.

واذ نحن في هذه الحالة من الضيق الخانق انفتحت امامنا ثلاث طرق تؤدي الى ذلك العالم المضئ. ولقد اتيناه مرةً وشاهدناه من قبل. فمضينا من الطرق الثلاث، كل على انفراد:

T الطريق الاولى:

معظم الناس يمرون منها، فهي سياحة حول العالم؛ والسياحة تشدّنا اليها.. فها نحن ندرج في الطريق نسير مشياً على الاقدام.. فها تجابهنا بحار الرمال في هذه الصحراء الواسعة.. انظر كيف تغضب علينا. وتستطير غيظاً وتزجرنا زجراً.. وانظر الى امواجٍ كالجبال لهذا البحر العظيم.. انها تحتد علينا وها نحن في الجهة الاخرى.. والحمد للّه. نتنفس الصعداء.. نرى وجه الشمس المضئ. ولكن لا أحد يقدّر مدى ما قاسينا من اتعاب وآلام.

ولكن وا أسفى! لقد رجعنا مرة ثانية الى هذه الارض الموحشة التي اطبقت عليها الغيوم بالظلمات ونحن احوج ما نكون الى عالم مضئ يفتح بصيرتنا.

ان كنت ذا شجاعة فائقة فرافقني في الطريق المليئة بالمخاطر، سنخوضها بشجاعة.

وهي طريقنا الثانية:

نثقب طبيعة الارض، ننقب فيها لننفذ ونبلغ الجهة الاخرى. نمضي في انفاق فطرية في الارض والخوف يحيطنا.. فلقد شاهدتُ ــ في زمن ما ــ هذه الطريق ومضيت فيها بوجل واضطراب ولكن كانت في يدي آلة أو مادة تذيب ارض الطبيعة وتخرقها وتمهد السبيل.. تلك المادة اعطانيها القرآن الكريم في الطريق الثالثة.

يا اخي! لا تتركني. اتبعني. لا تخف ابداً. انظر فها امامك كهوف ومغارات كالانفاق تحت الارض، تنتظرنا وتسهّل لنا الطريق الى الجهة الاخرى.

لا تروعك صلابة الطبيعة، فان تحت ذلك الوجه العبوس القمطرير وجه مالكها الباسم. ان تلك المادة القرآنية مادة مشعة كالراديوم.

بشراك يا اخي! فلقد خرجنا الى العالم المنور.. انظر الى الارض الجميلة، والسماء اللطيفة المزينة.. الا ترفع رأسك يا أخي لتشاهد هذا الذي غطى وجه السماء كلها وسما عليها وعلى الغيوم. انه القرآن الكريم.. شجرة طوبى الجنة.. مدّت اغصانها الى ارجاء الكون كله. وما علينا الاّ التعلق بهذا الغصن المتدلي والتشبث به، فهو بقربنا ليأخذنا الى هناك.. الى تلك الشجرة السماوية الرفيعة.

ان الشريعة الغراء نموذج مصغر من تلك الشجرة المباركة.

فلقد كان باستطاعتنا اذن بلوغ ذلك العالم المضئ بتلك الطريق.. طريق الشريعة، من دون ان نرى صعوبة وكللاً.

بيد أننا اخطأنا السير. فلنرجع القهقرى الى ما كنا فيه لنسلك الطريق المستقيم.. فانظر فها هي:

T طريقنا الثالثة:

الداعية العظيم يقف منتصباً على هذه الشواهق الراسية.. انه ينادي مؤذناً بحيهلوا الى عالم النور.. انه يشترط علينا الدعاء والصلاة.. انه المؤذن الاعظم محمد الهاشمي e .

انظر الى هذه الجبال.. جبال الهدى، وقد اخترقت الغيوم، انها تناطح السموات.

وانظر الى جبال الشريعة الشاهقة انها جمّلت وجه ارضنا وأزهرتها. وعلينا أن نحلّق بالهمة لنرى الضياء هناك ونرى نور الجمال.

نعم! فها هنا.. اُحُد التوحيد.. ذلك الجبل الحبيب العزيز.

وها هناك.. جودي الاسلام.. ذلك الجبل الاشم.. جبل السلامة والاطمئنان.

وها هو جبل القمر، القرآن الازهر.. يسيل منه زلال النيل. فاشرب هنيئاً ذلك الماء العذب السلسبيل.

فتبارك الله أحسن الخالقين. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

فيا اخي!

اطرح الآن الخيال، وتقلّد العقل.

ان الطريقين الاُوليين، هما طريق: (المغضوب عليهم والضالين) ففيهما مخاطر كثيرة، فهما شتاء دائم لا ربيع فيهما. بل ربما لا ينجو الاّ واحد من مائة شخص قد سلك فيهما.. كأفلاطون وسقراط.

أما الطريق الثالثة: فهي سهلة قصيرة، لأنها مستقيمة، الضعيف والقوي فيها سيّان. والكل يمكنه ان يمضي فيها.

أما أفضل الطرق واسلمها فهو:

ان يرزقك الله الشهادة أو شرف الجهاد.

فها نحن الآن على عتبة النتيجة.

ان الدهاء العلمي يسلك في الطريقين الأوليين.

أما الهدى القرآني، وهو الصراط المستقيم، فهو الطريق الثالثة فهي التي تبلغنا هناك.

اللّهم اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.

كل الالام في الـضلالة وكل اللذائذ في الايمان

((حقيقة كبرى تزيّت بزي الخيال))

ايها الصديق الفطن!

ان شئت ايها العزيز ان ترى الفرق الواضح بين (الصراط المستقيم) ذلك المسلك المنور (وطريق المغضوب عليهم والضالين) ذلك الطريق المظلم! تناول اذن يا اخي وهْمَك واركب متن الخيال. سنذهب سوية الى ظلمات العدم، تلك المقبرة الكبرى المليئة بالاموات. ان القدير الجليل قد أخرجنا من تلك الظلمات بيد قدرته، واركبنا هذا الوجود، وأتى بنا الى هذه الدنيا.. الخالية من اللذة الحقة.

فها نحن قد اتينا الى هذا العالم، عالم الوجود.. هذه الصحراء الواسعة. وأعيُننا قد فُتحت فنظرْنا الى الجهات الست، وصوّبنا نظرنا الى الامام واذا البلايا والالام تريد الانقضاض علينا كالاعداء.. ففزعنا منها، وتراجعنا عنها.

ثم نظرنا الى اليمين والى الشمال مسترحمين العناصر والطبائع، فرأيناها قاسية القلوب لا رحمة فيها، وقد كشرت عن اسنانها تنظر الينا بنظرات شزرة. لا تسمع دعاءً ولا تلين بكثرة التوسل. فرفعنا ابصارنا مضطرين الى الاعلى مستمدين العون من الاجرام، ولكن رأيناها مرعبة مهيبة، تهددنا، اذ إنها كالقذائف المنطلقة تسير بسرعة فائقة تجوب بها انحاء الفضاء، من دون اصطدام! يا تُرى لو أخطأت سيرها وضلّت، اذاً لانفلق كبد العالم، عالم الشهادة. والعياذ باللّه. أليس امره موكولاً الى المصادفة، هل يأتي منها خير؟! فصرفنا انظارنا عن هذه الجهة يائسين، ووقعنا في حيرة أليمة، وخفـضنا رؤوسنا وفي صدورنا استترنا، ننظر الى نفوسنا ونطالع ما فيها.. فاذا بنا نسمع ألوف صيحات الحاجات والوف أنّات الفاقات، تنطلق كلها من نفوسنا الضعيفة. فنستوحش منها في الوقت الذي ننتظر منها السلوان، لاجدوى اذن من هذه الجهة كذلك. لجأنا الى وجداننا، نبحث عن دواء. ولكن وا أسفاه لا دواء. بل علينا وقع العلاج، اذ تجيش فيه الوف الآمال والرغبات والوف المشاعر والنزعات، الممتدة الى اطراف الكون.. تراجعنا مذعورين.. نحن عاجزون عن اغاثتها. فلقد تزاحمت الآمال في الانسان حتى امتدت اطرافها من الازل الى الأبد، بل لو ابتلعت الدنيا كلها لما شبعت.

وهكذا اينما ولّينا وجوهنا، قابَلَنا البلاء.. هذا هو طريق (الضالين والمغضوب عليهم) لأن النظر مصوّب الى المصادفة والضلال.

وحيث أننا قلّدنا ذلك المنظار، وقعنا في هذه الحال، ونسينا موقتاً الصانع والحشر والمبدأ والمعاد. انها أشد ايلاماً للروح من جهنم واشد احراقاً منها.. فما جنينا من تلك الجهات الست الاّ حالة مركبة من خوف واندهاش وعجز وارتعاش وقلق واستيحاش مع يتم ويأس.. تلك التي تعصر الوجدان..

فلنحاول دفعها ولنجابهها..

فنبدأ مقدماً بالنظر الى قدرتنا. فوا أسفاه! انها عاجزة ضعيفة.

ثم نتوجه الى تطمين حاجات النفس العطشى، تصرخ دون انقطاع ولكن ما من مجيب ولا من مغيث لإسعاف تلك الآمال التي تستغيث!

فظننا كل ما حولنا اعداءً.. كل شئ غريب. فلا نستأنس بشئ، ولا شئ يبعث الاطمئنان.. فلا متعة ولا لذة حقيقية.

ومن بعد ذلك كلما نظرنا الى الاجرام، امتلأ الوجدان خوفاً وهلعاً ووحشة، والعقول اوهاماً وريباً.

فيا أخي!

هذه هي طريق الضلال. وتلك ماهيتها. فلقد رأينا فيها ظلام الكفر الدامس.

هيا الآن يا اخي لنرجع الى العدم، ثم لنعود منه، فطريقنا هذه المرة في (الصراط المستقيم) ودليلنا العناية الإلهية، وإمامُنا القرآن الكريم.

نعم! لما ارادنا المولى الكريم، اخرجتنا قدرتُه من العدم، رحمةً منه وفضلاً. واركبنا قانون المشيئة الإلهية، وسيّرنا على الاطوار والادوار.. ها قد أتى بنا، وخلع علينا خلعة الوجود وهو الرؤوف، واكرمنا منزلة الأمانة، شارتُها الصلاة والدعاء.

كل دور وطور منزل من منازل الضعف في طريقنا الطويلة هذه، وقد كتب القدر على جباهنا أوامره لتيسير امورنا، فاينما حللنا ضيوفاً نُستقبل بالترحاب الاخوى. نسلّمهم ما عندنا ونتسلّم من اموالهم.. هكذا تجري التجارة في محبة ووئام. يغذّوننا، ثم يحمّلوننا بالهدايا، ويشيّعوننا.. هكذا سرنا في الطريق، حتى بلغنا باب الدنيا، نسمع منها الاصوات.

وها قد اتيناها ودخلناها، وطأت اقدامنا عالم الشهادة، معرض الرحمن، مشهر مصنوعاته، وموضع صخب الانسان وضجيجه. دخلناها ونحن جاهلون بكل ما حولنا، دليلنا وإمامنا مشيئة الرحمن، ووكيلها عيوننا اللطيفة.

ها قد فتحت عيونُنا، أجلناها في اقطار الدنيا.. أتذكر مجيئنا السابق الى ههنا؟ كنا ايتاماً غرباء، بين اعداء لا يعدّون من دون حامٍ ولا مولى.

أما الآن، فنور الايمان (نقطة استناد) لنا، ذلك الركن الشديد تجاه الاعداء.

حقاً، ان الايمان بالله نورحياتنا، ضياء روحنا، روح ارواحنا، فقلوبنا مطمئنة بالله لا تعبأ بالاعداء، بل لا تعدّهم اعداء.

في الطريق الاولى، دخلنا الوجدان، سمعنا الوف الصيحات والاستغاثات، ففزعنا من البلاء. اذ الآمال والرغبات والمشاعر والاستعدادات لا ترضى بغير الأبد. ونحن نجهل سبيل اشباعها. فكان الجهل منا، والصراخ منها.

أما الآن، فاللّه الحمد والمنة، فقد وجدنا (نقطة استمداد) تبعث الحياة في الآمال والاستعدادات، وتسوقها الى طريق أبد الآباد. فيتشرب الاستعداد منها والآمال ماء الحياة، وكلٌ يسعى لكماله.

فتلك النقطة المشوقة، نقطة الاستمداد، هي القطب الثاني من الايمان، وهو الايمان بالحشر. والسعادة الخالدة هي درّة ذلك الصدف.

ان برهان الايمان هو القرآن والوجدان، ذلك السر الانساني.

ارفع رأسك يا اخي، وألق نظرة في الكائنات، وحاورها، أما كانت موحشة في طريقنا الاولى والآن تبتسم وتنشر البشر والسرور؟ الا ترى قد اصبحت عيوننا كالنحلة تطير الى كل جهة في بستان الكون هذا، وقد تفتحت فيه الازهار في كل مكان، وتمنح الرحيق الطهور. ففي كل ناحية انس وسلوان، وفي كل زاوية محبة ووئام.. فهي ترتشف تلك الهدايا الطيبة، وتقطّر شهد الشهادة، عسلاًِ على عسل.

وكلما وقعت انظارنا على حركات النجوم والشموس، تسلِّمها الى يد حكمة الخالق، فتستلهم العبرة وجلوة الرحمة. حتى كأن الشمس تتكلم معنا قائلة:

«يا اخوتي! لا تستوحشوا مني ولا تضجروا! فأهلاً وسهلاً بكم. فقد حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً. انتم اصحاب المنزل، وانا المأمور المكلف بالاضاءة لكم. انا مثلكم خادم مطيع سخرّني الأحد الصمد للاضاءة لكم، بمحض رحمته وفضله. فعليّ الاضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصلاة.

فيا هذا! هلاّ نظرت الى القمر.. الى النجوم.. الى البحار.. كل يرحب بلسانه الخاص ويقول: حياكم وبياكم. فأهلاً وسهلاً بكم!

فانظر يا اخي بمنظار التعاون، واستمع بصماخ النظام، كل منها يقول: (نحن ايضاً خدّام مسخرون. نحن مرايا رحمة الرحمن. لا نسأم من العمل ابداً. لا تتضايقوا منا).

فلا تخيفنكم نعرات الزلازل وصيحات الحوادث، فهي ترنمات الاذكار ونغمات التسبيحات، وتهاليل التضرعات.. نعم ان الذي ارسلكم الى هنا، هو ذلك الجليل الجميل الذي بيده زمام كل اولئك.. ان عين الايمان تقرأ في وجوهها آيات الرحمة.

ايها المؤمن ياذا القلب اليقظ!

ندع عيوننا لتخلد الى شئ من الراحة، ونسلّم آذاننا للايمان بدلاً منها.

ولنستمع من الدنيا الى نغمات لذيذة.. فالاصوات التي كانت تتعالى في طريقنا السابقة ــ وظنناها اصوات مآتم عامة ونعيات الموت.. هي اصوات اذكار في هذه الطريق وتسابيح وحمد وشكر.

فترنمات الرياح ورعدات الرعود ونغمات الامواج.. تسبيحات سامية جليلة وهزجات الامطار وسجعات الاطيار.. تهاليل رحمة وعناية..

كلها مجازات تومئ الى حقيقة.

نعم! ان صوت الاشياء، صدى وجودها، يقول: انا موجود.

وهكذا تنطق الكائنات كلها معاً وتقول: ايها الانسان الغافل لا تحسبنا جامدات! فالطيور تنطق، في تذوق نعمةٍ، أو نزول رحمةٍ فتزقزق باصوات عذبة، بافواه دقيقة ترحاباً بنزول الرحمة المهداة. حقاً النعمة تنزل عليها، والشكر يديمها، وهي تقول رمزاً: ايتها الكائنات! يا اخوتي! ما اطيب حالنا! ألا نُربّى بالشفقة والرأفة.. نحن راضون عما نحن عليه من احوال.. وهكذا تبث اناشيدها بمناقيرها الدقيقة، حتى تحول الكائنات كلها الى موسيقى رفيعة.

ان نور الايمان هو الذي يسمع اصداء الاذكار وانغام التسابيح، حيث لا مصادفة ولا اتفاقية عشواء.

ايها الصديق!

ها نحن نغادر هذا العالم المثالي، ونقف على عتبة العقل وندخل ميدانه، لنزن الامور بميزانه كي نميّز الطرق المختلفة.

فطريقنا الاولى: طريق المغضوب عليهم والضالين. تورث الوجدان حساً أليماً وعذاباً شديداً حتى في اعمق اعماقه، فتطفح تلك المشاعر المؤلمة الى الوجوه، فنخادع انفسنا مضطرين للنجاة من تلك الحالة، ونحاول التسكين والتنويم وابطال الشعور وإلغائه.. وإلاّ لا نطيق تجاه استغاثات وصيحات لا تنقطع! فالهوى يبطل الحس ويخدّر الشعور، والشهوات الساحرة تطلب اللهو، كي تخدع الوجدان وتستغفله وتنيم الروح وتسكّنها لئلا تشعر بالألم. لأن ذلك الشعور يحرق الوجدان حتى لا يكاد يطاق صراخه من شدة الالم.. ألا ان ألم اليأس لا يطاق حقاً!

اذ كلما ابتعد الوجدان عن الصراط المستقيم اشتدت عليه تلك الحالة، حتى ان كل لذة تترك أثراً من الألم، ولا تجدي بهرجة المدنية الممزوجة بالشهوات والهوى واللهو.. انها مرهم فاسد وسمّ منوّم للضيق الذي يولده الضلال.

فيا صديقي العزيز!

لقد شعرنا بالراحة من حالتنا في الطريق الثانية المنورة، فتلك هي منبع اللذات وحياة الحياة، بل تنقلب فيها الآلام الى لذائذ.. هكذا عرفناها، فهي تبعث الاطمئنان الى الروح ــ حسب قوة الايمان ــ والجسد متلذذ بلذة الروح، والروح تتنعم بنعم الوجدان.

ان في الوجدان سعادة عاجلة مندرجة فيه، انها فردوس معنوي مندمج في سويداء القلب. والتفكر يقطّرها ويذيقها الانسان. أما الشعور فهو الذي يُظهرها.

ونعلم الآن: انه بمقدار تيقظ القلب، وحركة الوجدان، وشعور الروح، تزداد اللذة والمتعة، وتنقلب نار (الحياة) نوراً وشتاؤها صيفاً.

وهكذا تنفتح ابواب الجنان على مصراعيها في الوجدان، وتغدو الدنيا جنة واسعة تجول فيها ارواحنا، بل تعلو علو الصقور، بجناحي الصلاة والدعاء.

واستودعكم الله يا صديقي الحميم. ولندع معاً كلٌ لأخيه. نفترق الآن والى لقاءٍ.

اللّهم اهدنا الصراط المستقيم.

جواب موجّه الى الكنيسة الانكليكية

سأل ذات يوم قسيس حاقد، ذلك السياسي الماكر، العدوّ الألدّ للاسلام، عن اربعة امور طالباً الإجابة عنها في ستمائة كلمة. سألها بغية اثارة الشبهات، مستنكراً ومتعالياً، وبشماتة متناهية، وفي وقت عصيب حيث كانت دولته تشد الخناق في مضايقنا.

فينبغي الإجابة بـ: تباً لك! تجاه شماتته، وبالسكون عليه بسخط تجاه مكره ودسيسته، فضلاً عن جواب مسكت ينزل به كالمطرقة تجاه انكاره. فأنا لا أضعه موضع خطابي، بل اجوبتنا لمن يلقي السمع وينشد الحق وهي الاتية:

فلقد قال في السؤال الأول: ما دين محمد e ؟. قلت: انه القرآن الكريم. أساس قصده ترسيخ اركان الايمان الستة وتعميق اركان الاسلام الخمسة.

ويقول في الثاني: ماذا قدّم للفكر وللحياة؟ قلت: التوحيد للفكر، والاستقامة للحياة. وشاهدي في هذا: قوله تعالى ] قل هو الله أحد[ ] فاستقم كما اُمرت[ .

ويقول في الثالث: كيف يعالج الصراعات الحاضرة؟. اقول: بتحريم الربا وفرض الزكـاة. وشاهـدي قوله تعـالى: ] واحل الله البيـع وحرم الربـا[ ] يمحـق الله الــربا[ ] واقيموا الصلاة واتوا الزكاة[ .

ويقول في الرابع: كيف ينظر الى الاضطرابات البشرية؟ اقول: السعي هو الاساس، والاّ تتكدس ثروة الانسان بيد الظالمين، ولا يكنزوها. وشاهدي قوله تعالى: ] وأن ليس للانسان الاّ ما سعى[ ] والذين يكنزون الذهـب والفـضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم[ (1).

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل. يا قدوس

بحق الاسم الاعظم وبحرمة القرآن المعجز البيان وبكرامة الرسول الاعظم e ، ادخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنة الفردوس والسعادة الابدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الايمان والقرآن دوماً وابداً.. آمين واكتب في صحيفة حسناتهم ألف حسنة لكل حرف من حروف كتاب (الكلمات)... آمين. وأحسن اليهم الثبات والدوام والاخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا ارحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والانس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

بإسم جميع طلاب النور

سعيد النورسي



باسمه سبحانه

لقد كانت ترجمة كليات رسائل النور الى اللغة العربية ونشرها غاية المنى لمؤلّفها الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وقد حث عليها في رسائل عديدة. حتى أنه كان يأمل قيام علماء من الازهر أو من بلاد الشام على ترجمة (مجموعة عصا موسى). وقبل ارتحاله الى دار البقاء ارسل احد طلبته الى العراق ومصر بغية الاتصال بالعلماء هناك على أمل الشروع بترجمة الرسائل. وفعلاً تمت ترجمة ونشر عدد قليل من رسائل صغيرة في الشام.

ولما درّس الاستاذ من كان حوله من الطلاب (المثنوي العربي النوري) و تفسير (اشارات الاعجاز) وهما مؤلفان باللغة العربية، أمر بطبعهما (بالرونيو) ونشرهما، كما بعث (المثنوي العربي النوري) الى علماء في العالم ولا سيما الى علماء في العالم الاسلامي. وقد نشرت وقتئذٍ بعض الرسائل من قبل عدد من الفضلاء.

أما الآن فقد ظهرت ولله الحمد، الترجمة الأمينة الكاملة لكليات رسائل النور بفضل الله وكرمه وشمول عنايته، بجهود ذوي علم فاضلين متعاونين مخلصين صادقين وهمتهم كشخص معنوي جاد وهيئة علمية دؤوبة، اذ قام الأخ احسان قاسم الصالحي واخوة صادقون معه في خدمة نور القرآن والايمان بترجمتها ونشرها.

ومن التوافق العجيب والتشابه الغريب أن تظهر هذه المترجمات في ظروف عصيبة واوقات صعبة تمر على العراق شبيهة تماماً بالسنين الحالكة الاولى لتأليف رسائل النور. ولم تظهر هذه المترجمات إلا بفضل إمداد معنوي وحماية شاملة ورعاية تامة القتها رحمة الرحمن الرحيم على اولئك الاخوة الصادقين فوجّهت انظارهم الى حقائق رسائل النور وعزفتهم عن الاحداث السياسية المتقلبة. وهكذا تجلت العناية الربانية، فبذلوا ما وسعهم لنشر انوار القرآن والايمان، واصبحت الادعية المرفوعة من انحاء العالم الاسلامي والتهاني القلبية بظهور المترجمات مدداً لهم يشد من عزائمهم على مواصلة العمل. فللّه الحمد والمنة ان تمت ترجمة كليات رسائل النور على هذه الصورة الكاملة وعرضت أمام انظار العالم الاسلامي على هيئة مجموعات.

ولما كان استاذنا المحترم بديع الزمان سعيد النورسي يكتب دعاءً جامعاً ختام كل مجموعة من مجموعات رسائل النور المنشورة، لذا ثبّتنا الدعاء نفسه اعلاه لما نعتقد بأن كتابته ختام المترجمات العربية ايضاً كانت من رغبات استاذنا المعنوية.

ونلفت نظر القراء الكرام الى ما يأتي:

كان استاذنا يقول: ان رسائل النور درس قرآني يوافق أفهام هذا العصر. وقد علق هذه اللوحة على ظهر الباب الخارجي لمحل اقامته في كل من اسبارطة واميرداغ، وكان يستقرئها كل زائر له:

الى جميع اخوتي الاعزاء الراغبين في مقابلتي وزيارتي ابيّن لهم الاتي:

انني لا اطيق مقابلة الناس ما لم تكن هناك ضرورة، اذ التسمم الحالي، والـضعف الذي اعترى جسمي، وكذا الشيخوخة والمرض.. كل ذلك جعلني عاجزاً عن التكلم كثيراً. ولأجل هذا ابلّغكم يقيناً أن كل كتاب من رسائل النور انما هو (سعيد). فما من رسالة تطالعونها إلاّ وتستفيدون فوائد افـضل من مواجهتي بعشرة اضعاف، بل تواجهونني مواجهة حقيقية. فلقد قررت: ان اذكر في دعواتي وقراءاتي صباح كل يوم اولئك الراغبين في لقائي لوجه الله بديلاً عن عدم استطاعتهم من اللقاء، وسأستمر على هذا القرار.

سعيد النورسي

وبعد وفاة استاذنا الجليل تبين أنه يواصل خدمة الايمان والقرآن برسائله، رسائل النور وكأنه على قيد الحياة مرشداً كاملاً وإماماً للعصر.

اجل.. اجل.. ان التحاق ابناء الجيل الجديد افواجاً افواجاً في كل مكان بقافلة النور واسترشادهم برسائل النور يثبت اثباتاً فعلياً مجسماً هذه الحقيقة. ونحن على ثقة من ان الرسائل المترجمة الى العربية تؤدي العمل نفسه وتحمل المعنى نفسه والروح نفسها.

والحمد لله هذا من فضل ربي والخير والنور والسعادة كلها من الله وحده.

ومن الله التوفيق والسداد.



من طلاب النور الذين خدموا

الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي

عبدالله، حسني، بايرام، صونغور



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واما بنعمة ربك فحدّث[

حمداً لله بما لا يتناهى من الحمد، حمداً لله بما يليق من الحمد، حمداً لله بما هو أهله. فاللّهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام الأصفياء والمتقين وحبيب رب العالمين وعلى آله الأطهار وصحبه الابرار.

واذ أبتهل الى المولى القدير أن مَنّ علينا هذه النعمة العظمى، نعمة ترجمة رسائل النور. أتضرع اليه تعالى أن يوزعني شكر نعمته هذه، ويديمها علينا جميعاً.. ولقد عزمنا على نشر (كليات رسائل النور) كاملة في مجموعات بإذن الله تعالى وسنفرد منها مجلداً كاملاً لحياة الاستاذ المؤلف مع دراسة مفصلة عن رسائل النور، لذا لم نَر داعياً الى تقديم الكتاب بنبذة عن المؤلف والمؤلَّف كما هو معتاد.

ومع هذا أراني مضطراً الى ان اضع هذه الملاحظات امام القارئ الكريم في ختام هذه (الكلمات):

ان الذي يواكب خيالاً زمن تأليف رسائل النور ونشرها يجد أن الأمة، أمة الإسلام تمر في أحلك فترات حياتها، حيث تجتاح سيول الظلمات، ظلمات الفتن العاتية أرجاء العالم الاسلامي كافة، وتغزو الشبهات والأفكار الباطلة العقول والقلوب من كل صوب، فأظلمت النفوس واختنقت الارواح حتى انقطع الرجاء..

في هذه الفترة الحرجة من حياة الامة مَنّ الله عزوجل على هذه الأمة فقيّض الاستاذ سعيد النورسي للذود عن حياض الإيمان وبيان انوار القرآن، وشرح صدره للتتلمذ على يدي القرآن العظيم والتزود من نبعه الفيّاض، حتى استنار قلبه وسطع فكره وارتوت روحه من زلال القرآن ونور الايمان فأملى على من حوله من محبيه ما استلهمه من نور الكتاب المبين هذه اللفتات القرآنية والمعارف الإلهية والفيوضات الإيمانية، فكانت هذه الرسائل التي أطلق عليها اسم (رسائل النور).

وهذه المجموعة (الكلمات) التي تضم ثلاثاً وثلاثين كلمة هي عمدة رسائل النور، اذ الكلمة الثالثة والثلاثون منها عبارة عن ثلاث وثلاثين مكتوباً، جُمعت في مجموعة مستقلة سميت بـ (االمكتوبات). وانبثقت من المكتوب الحادي والثلاثين ثلاث وثلاثون لمعة هي مجموعة (اللمعات). وتشعبت من اللمعة الحادية والثلاثين منها مجموعة (الشعاعات) التي تضم خمسة عشر شعاعاً.

فرسائل النور مائة وثلاثون ونيف من الرسائل مع خمس عشرة رسالة باللغة العربية.. كل منها رسالة مستقلة بحد ذاتها اي لا تلجئ القارئ الكريم الى البحث عن الرسائل الاولى كي يحيط فهماً بالتالية منها، بل هو حر في اختيار الرسالة من أية مجموعة كانت بغير اعتبار لتسلسلها. وإن لقيه شئ من الغموض سواء في العبارة أو في المعنى فسيلاقيه حتماً توضيح وبيان في موضع آخر.

وقد وضعنا هوامش لتوضيح بعض العبارات أو المصطلحات، كما وضعنا ارقام الآيات الكريمة واسماء سورها، وكذا خرّجنا الاحاديث الشريفة من مظانها من الكتب الموثوقة، وأبقينا ما لم نستطع على تخريجه كما هو، علّنا نظفر في قابل الأيام بنصيحة أخوية من عالم ضليع بالحديث النبوي الشريف.

وقد يلفت نظر القارئ الكريم ما يذكره الاستاذ المؤلف من مفاهيم علمية أو مصطلحاتها التي كانت دارجة زمن تأليف الرسالة، الاّ انها تبدلت وتغيرت بمرور الزمن، كمولّد الحموضة ومولّد الماء، أو عدد المسلمين في العالم.. أو ما شابهها من الامور، فترجمناها نصاً دون أن نحشر فيها شيئاً من عندنا الاّ ما اشرنا اليه بهامش، وذلك حفاظاً على امانة الترجمة.

واسم هذه المجموعة (سوزلر) ترجمناه بـ(الكلمات) لأن الاستاذ المؤلف نفسه قد ذكر في الشعاع الأول: ان (سوزلر) تعنى (الكلمات) باللغة العربية. أما اسم الديوان الملحق بهذه المجموعة (لمعات) فقد ترجمناه بـ(اللوامع) لئلا يلتبس مع اسم مجموعة (اللمعات).

ولقد حرصت كل الحرص في الترجمة ان اكون اميناًً ما استطعت، محافظاً على المعنى الذي يقصده الاستاذ المؤلف، مما تطلب مني طول النظر في الرسائل كلها والتأمل في عباراتها والامعان في معانيها. لذا تحاشيت التقيد بحرفية النص، لاعتقادي بعدم إيفائه الغرض، اذ لا يوحي المعنى الذي يريده المؤلف الى روح القارئ، ولا يخفى مدى الصعوبة البالغة في نقل المعنى من لغة الى اخرى ولا سيما المعاني الواسعة العميقة التي يحصرها الاستاذ النورسي في عبارات دقيقة وجمل موجزة، ولكن بفضل الله العميم وبعنايته الشاملة ذُللت تلك الصعوبات، اذ هيأ سبحانه وتعالى للأمر اساتذة كرماء ممن درسوا ودرّسوا قواعد اللغة العربية وآدابها، وعلماء أفاضل ممن لهم الباع الطويل في التفسير والحديث والعلوم الاسلامية، واخوة صادقين تولوا مهمة التبييض والتنقيح ومقابلة النصوص. بل كنت استنصح كل قارئ واستشير كل من له خبرة في هذا الموضوع ليدلّني على الصواب. مما أضفى على الترجمة جمالاً في العبارة ودقّة في التعبير وبعداً عن الاخطاء ما امكن وتطابقاً في المعنى، حتى سلمت - في نظري - من عورات الركاكة وعيوب العجمة. والحمدلله اولاً وآخراً، وهذا من فضل ربي الذي أسبغ عليّ نعمه ظاهرة وباطنة رحمةً منه تعالى لضعفي ورأفة بعجزي فأمدّني باولئك الميامين من ذوي الاقلام القوية والفكر الخصب والرأي السديد، الذين آزروني وشدّوا من عزيمتي على الاستمرار في العمل بغير كلل، حتى ظهرت المترجمات الى ساحة النشر ببركة اخلاصهم وصدق نواياهم. ولولا علمي بأن هؤلاء الاخوة البررة لا يحبذون ذكر اسمائهم، لما ترددت في ذكرهم فرداً فرداً. ولئن لم اذكرهم باسمائهم فهم مذكورون لدى العلي القدير بما قدّموا من عمل جليل خالص زكي في سبيل نشر الايمان ورفع راية القرآن.

فالى كل اولئك الاخوة الأكارم، والى الاخوات الفاضلات، والى كل من أعانني في أيّ شأن من شؤون الترجمة، تصحيحاً وتهذيباً وتشذيباً وتبييضاً ودعاءً وحثاً، أقدم عظيم شكري ومزيد امتناني راجياً المولى القدير ان يجزل ثواب عملهم الخالص ويرزقهم واياي حبّه وحب من يحبّه والعمل الذي يبلغنا الى حبه.

وأملي في الله عظيم ان يكون القارئ العزيز ايضاً كريماً يصفح عن الزلات ويغض الطرف عن الهفوات ويدعو لنا بظهر الغيب خالص الدعوات ويرشدنا الى مافيه الخير والسداد.

ومما يزيد شكري وحمدي لله تعالى ان مسك الختام لهذه المجموعة الاولى هو دعاء الاستاذ النورسي نفسه بقلم أوصيائه وطلابه الذين رافقوه ولازموه طوال سني حياته المباركة حتى وافاه الأجل ورحل الى عالم الآخرة فرحمة الله عليه رحمة واسعة ونفعنا بعلومه القرآنية وخدمته الأيمانية.

والله نسأل أن يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

احسان قاسم الصالحي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 05-27-2011
  #53
وراثة النبوة
محب جديد
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 5
معدل تقييم المستوى: 0
وراثة النبوة is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

جزاكم الله خيرا على هذا الجهد المبارك
وراثة النبوة غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عاتب نفسك بهذه الكلمات هبة الله المواضيع الاسلامية 5 09-01-2010 11:05 PM
عاتب نفسك بهذه الكلمات عبدالرحمن الحسيني السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 1 06-21-2010 01:11 PM
كلمات فوق الكلمات عبدالقادر حمود القسم العام 8 01-09-2009 01:58 PM
كلمات ليست كا الكلمات بنت الاسلام القسم العام 11 10-27-2008 10:48 AM


الساعة الآن 07:36 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir