أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم أهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
قديم 02-02-2011
  #21
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السادسة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] انما اَمُرهُ اِذَا ارادَ شيئاً اَن يقولَ لهُ كُنْ فيكون ^ فسُبْحان الذي بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ واليهِ تُرجعون[ (يس: 82 ـ 83)



كتبت هذه الكلمة لتمنح نفسي العمياء بصيرة، ولتبدد الظلمات من حولها، ولتكون مبعثاً لاطمئنانها، وذلك باراءتها اربع أشعات من نور هذه الآية الكريمة.

C الشعاع الاول:

يا نفسي الجاهلة تقولين: أن أحدية ذات الله سبحانه وتعالى، مع كلية أفعاله.. ووحدة ذاته مع عمومية ربوبيته دون معين.. وفرديته مع شمول تصرفاته دون شريك.. وحضوره في كل مكان مع تنزّهه عن المكان.. ورفعته المطلقة مع قربه الى كل شئ.. ووحدانيته مع ان كل شئ في قبضته بالذات.. جميعها من الحقائق القرآنية.. وتقولين: ان القرآن حكيم، والحكيم لا يحمّل العقل ما لايقبله. بيد أن العقل يرى منافاة ظاهرة في هذه الامور. لذا اطلب ايضاحاً يسوق العقل الى التسليم.

الجواب: مادام الأمر هكذا، وتطلبين ذلك لبلوغ الاطمئنان، فاننا نقول مستندين الى فيض القرآن الكريم:

ان اسم ((النور)) وهو من الاسماء الحسنى قد حلّ كثيراً من مشكلاتنا، ويحلّ باذن الله هذه المسألة ايضاً.

نقول كما قال الامام الرباني احمد الفاروقي السرهندي، منتقين طريق التمثيل الواضح للعقل والمنور للقلب:

نه شبم نه شب برستم من غلام شمسم از شمس مى كويم خبر(1)

لما كان التمثيل اسطع مرآة عاكسة لإعجاز القرآن، فنحن ايضاً سننظر الى هذا السر من خلال التمثيل وذلك:

ان شخصاً واحداً يكسب صفة كلية بوساطة مرايا مختلفة، فبينما هو جزئي حقيقي يصبح بمثابة كلي مالك لشؤون شاملة عامة، فمثلاً:

الشمس، وهي جزئي مشخّص، ولكن بوساطة الاشياء الشفافة تصبح بحكم الكلي حتى انها تملأ سطح الارض بصورها وانعكاساتها، بل تكون لها من الجلوات بعدد القطرات والذرات الساطعة.

وحرارة الشمس وضياؤها، وما فيه من الوان سبعة، يحيط كل منها بالاشياء التي تقابلها ويشملها ويعمّها وفي الوقت نفسه فان كل شئ شفاف يخبئ في بؤبؤ عينه ـ مع صورة الشمس ـ الحرارة والضياء والالوان السبعة ايضاً، جاعلاً من قلبه الطاهر عرشاً لها.

بمعنى ان الشمس مثلما تحيط بصفة واحديتها بجميع الاشياء التي تقابلها، فهي من حيث أحديتها توجد بنوعٍ من تجلي ذاتها في كل شئ مع (خاصيتها) واوصافها الكثيرة.

وما دمنا قد انتقلنا من التمثيل الى التمثّل، فسنشير الى ثلاثة انواع من التمثيل ليكون محور مسألتنا هذه.

اولها: الصور المنعكسة للاشياء المادية الكثيفة، هي غيرٌ وليست عيناً، وهي موات وليست مالكةً لأية خاصية غير هويتها الصورية الظاهرية.

فمثلاً: اذا دخلتَ ـ يا سعيد ـ الى مخزن المرايا، فيكون سعيدٌ واحد ألف سعيد، ولكن الذي يملك الحياة من هذه الالوف، هو أنت فقط لا غير، والبقية أموات ليست لهم خواص الحياة.

ثانيها: الصور المنعكسة للنورانيات المادية؛ هذه الصور المنعكسة ليست عيناً، وليست غيراً في الوقت نفسه، اذ لا تستوعب ماهية النوراني المادية، ولكنها مالكة لأكثر خواص ذلك النوراني، فتعتبر ذات حياة مثله.

فمثلاً: عندما تنشر الشمس اشعتها على الكرة الارضية تظهر صورتها في كل مرآة، فكل صورة منعكسة منها تحمل ما يماثل خصائص الشمس، من ضوء والوان سبعة. فلو افترضت الشمس ذات شعور، واصبحت حرارتها عين قدرتها، وضياؤها عين علمها، والوانها السبعة صفاتها السبع، لكانت توجد تلك الشمس الوحيدة الفريدة في كل مرآة، في اللحظة نفسها، ولاتخذت من كل منها عرشاً لها يخصها، ومن كل منها نوعاً من هاتف، فلا يمنع شئ شيئاً. ولأمكنها ان تقابل كلاً منا بالمرآة التي في ايدينا، ومع اننا بعيدون عنها، فانها اقرب الينا من انفسنا.

ثالثها: الصور المنعكسة للارواح النورانية؛ هذه الصور حية، وهي عينٌ في الوقت نفسه، ولكن لأن ظهورها يكون وفق قابليات المرايا، فالمرآة لا تسع ماهية الروح بالذات. فمثلاً: في الوقت الذي كان سيدنا جبريل عليه السلام يحضر في مجلس النبوة على صورة الصحابي دحية الكلبي، كان يسجد في الحضور الإلهي باجنحته المهيبة امام العرش الاعظم، وهو في اللحظة نفسها موجود في اماكن لا تعدّ ولا تحصى، اذ كان يبلّغ الاوامر الآلهية. فما كان فعلٌ يمنع فعلاً.

ومن هذا السر نفهم كيف يسمع الرسول e ، صلوات امته كلها، في الانحاء كافة، في الوقت نفسه، اذ ماهيته نور وهويته نورانية.. ونفهم كذلك كيف انه e يقابل الاصفياء يوم القيامة في وقت واحد، فلا يمنع الواحدُ الآخر.. بل حتى الاولياء الذين اكتسبوا مزيداً من النورانية والذين يطلق عليهم اسم "الابدال" هذا القسم يقال انهم يشاهَدون في اللحظة نفسها، في اماكن متعددة. ويروى عنهم أن الشخص نفسه ينجز اعمالاً متباينة كثيرة جداً. اذ كما يصبح الزجاج والماء وامثالهما من المواد مرايا للاجسام المادية، كذلك يصبح الهواء والاثير وموجودات من عالم المثال، بمثابة مرايا للروحانيات ووسائط سير وتجوال لها في سرعة البرق والخيال. فتتجول تلك الروحانيات وتسيح في تلك المنازل اللطيفة والمرايا النظيفة بسرعة الخيال، فتدخل في الوف الاماكن في آن واحد.

فمخلوقات عاجزة ومسخّرة كالشمس، ومصنوعات شبه نورانية مقيدة بالمادة كالروحاني ان كان يمكن ان يوجد في موضع واحد وفي عدة مواضع في الوقت نفسه، بسر النورانية، اذ بينما هو جزئي مقيد يكسب حكماً كلياً مطلقاً، يفعل باختيار جزئي اعمالاً كثيرة في آن واحد.. فكيف اذن بمن هو مجرد عن المادة ومقدس عنها، ومن هو منزّه عن التحديد بالقيد وظلمة الكثافة ومبرأ عنها.. بل ما هذه الانوار والنورانيات كلها الاّ ظلال كثيفة لأنوار اسمائه الحسنى، بل ما جميع الوجود والحياة كلها، وعالم الارواح وعالم المثال الاّ مرايا شبه شفافة لإظهار جمال ذلك القدوس الجليل الذي صفاته محيطة بكل شئ وشؤونه شاملة كل شئ.. تُرى اي شئ يستطيع ان يتستر عن توجه احديته التي هي ضمن تجلي صفاته المحيطة وتجلي افعاله بارادته الكلية وقدرته المطلقة وعلمه المحيط.. واي شئ يصعب عليه واي شئ يستطيع أن يتخفى عنه.. واي فرد يمكنه ان يظل بعيداً عنه.. واية شخصية يمكنها ان تقترب منه دون ان تكتسب الكلية؟

نعم! ان الشمس بوساطة نورها الطليق غير المقيد، وبوساطة صورتها المنعكسة غير المادية، اقرب اليك من بؤبؤ عينك، ومع هذا فانت بعيد عنها بعداً مطلقاً، لأنك مقيد، فيلزم التجرد من كثير من القيود، وقطع كثير من المراتب الكلية وتجاوزها كي تتقرب اليها، وهذا يستلزم ان تكبر كبر الكرة الارضية وتعلو علو القمر، ومن بعد ذلك يمكن ان تتقرب من المرتبة الاصلية للشمس ـ الى حدٍ ما ـ وتتقابل معها دون حجاب.

فكما ان الامر هكذا في الشمس، كذلك في الجليل ذي الجمال، والجميل ذي الكمال (ولله المثل الاعلى) فهو أقرب اليك من كل شئ، وانت بعيد عنه سبحانه بعداً لا حد له. فان كانت لك قوة في القلب، وعلوٌ في العقل، فحاول ان تطبق النقاط الواردة في التمثيل على الحقيقة.

C الشعاع الثاني:

قوله تعالى: ] إنما امُره اذا اراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون[ (يس:82) وقوله تعالى:

] ان كانت الاّ صيحة واحدة فاذا هم جميعٌ لدينا محـضرون[ (يس:53)

يا نفسي الغافلة! تقولين ان هذه الآيات الكريمة وامثالها تفيد ان الاشياء خلقت بمجرد أمر إلهي، وظهرت للوجود دفعة واحدة، بينما الآيات الكريمة الآتية: ] صُنعَ الله الذي أتقنَ كلَّ شيء[ (النمل:88) و ] أحسنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه[ (السجدة:7) وامثالها من الآيات تبين ان الاشياء وجدت تدريجياً، بقدرة عظيمة، وعلم محيط، واتقان في الصُنع ضمن حكمة بالغة. فاين وجه التوفيق بينهما؟

الجواب: نقول مستندين الى فيض القرآن:

اولاً: لا منافاة بين الآيات. اذ قسم من الموجودات يخلق كما في الآيات الاولى، كالايجاد في البدء، وقسم آخر يكون كما في الآيات التالية كإعادة المثل.

ثانياً: ان ما يشاهد في الموجودات من منتهى النظام وغاية الاتقان ومنتهى الحسن في الصنعة وكمال الخلقة، ضمن سهولة وسرعة وكثرة وسعة، يشهد بوجود حقائق هذين القسمين من الآيات شهادة مطلقة. لذا لا داعي لأن يكون مدار البحث تحقق هذه الامور في الخارج. وانما يصح ان يقال: ما سر حكمة هذين القسمين من الايجاد والخلق؟

لذا نشير الى هذه الحكمة بقياس تمثيلي؛ فنقول مثلاً:

ان صانعاً ماهراً ـ كالخياط مثلاً ـ يصرف مبالغ ويبذل جهداً ويزاول مهارة وفناً، لكي يوجد شيئاً جميلاً يخص صنعته، فيعمل منه انموذجاً (موديلاً) لمصنوعاته، اذ يمكنه ان يعمل امثال تلك الصنعة بلا مصاريف ولا تكاليف وفي سرعة تامة، بل قد يكون الامر احياناً سهلاً ويسيراً الى درجة وكأنه يأمر والعمل يُنجَز، وذلك لأنه قد كسب انتظاماً واطراداً دقيقاً كالساعة وكأن العمل يتم بمجرد الأمر له.

(ولله المثل الاعلى) فان الصانع الحكيم والمصور العليم، قد ابدع قصر العالم مع جميع ما فيه، ثم اودع في كل شئ فيه، جزئياً كان أم كلياً، جزءاً كان أم كلاً، مقداراً معيناً، بنظام قدري شبيه بنموذج ذلك الشئ.

فان تأملت في اعماله سبحانه، وهو المصور الازلي، تراه يجعل من كل عصر انموذجاً (موديلا) يُلبسه عالماً بكراً جديداً لطيفاً مزيناً بمعجزات قدرته، ويجعل من كل سنة مقياساً ينسج ـ بخوارق رحمته ـ كائنات بكر على قدّه، ويجعل من كل يوم سطراً يكتب فيه موجودات بكر جديدة مزينة بدقائق حكمته. ثم ان ذلك القدير المطلق كما جعل كل عصر وكل سنة وكل يوم انموذجاً، فانه قد جعل سطح الارض ايضاً، بل كل جبل وصحراء، وكل حديقة وبستان وكل شجر وزهر أنموذجاً وينشئ كائنات جديدة غضة متجددة مترادفة على الارض، فيخلق دنيا جديدة، ويأتي بعالم منسق جديد بعد أن سحب ما سبق من عالم.

وهكذا يُظهر في كل موسم معجزات بكر لقدرته المطلقة ويبرز هدايا مجددة لرحمته في كل حديقة وبستان، فيكتب كتاب حكمة جديدة بكر، وينصب مطبخ رحمته متجدداً ويُلبس الوجود حلّة بديعة جديدة، ويخلع على كل شجر في كل ربيع وشاح السندس ويزيّنه بمرصعات جديدة بكر كالنجوم المتلألئة، ويملأ ايديها بهدايا الرحمة..

فالذي يقوم بهذه الاعمال في منتهى الاتقان وكمال الانتظام والذي يبدّل هذه العوالم السيارة المنشورة على حبل الزمان، يعقب بعضها بعضاً، وهي في منتهى الحكمة والعناية وفي منتهى القدرة والاتقان، لاريب انه قدير مطلق وحكيم مطلق وبصير مطلق وعليم مطلق، لا يمكن بحال من الاحوال أن تبدو منه المصادفة قطعاً، فذلكم الخالق الجليل يقول: ] إنما أمره اذا أراد شيئاً ان يقولَ له كُن فيكون) (يس:82) (وما امرُ الساعةِ الاّ كلمحِ البصر أو هو أقرب[ (النحل:77) فيعلن قدرته المطلقة ويبين ان الحشر والقيامة بالنسبة لتلك القدرة هي في منتهى السهولة واليسر، وان الاشياء كلها مسخّرة لأوامره ومنقادة اليها كمال الانقياد، وانه يخلق الاشياء دون معالجة ولا مزاولة ولا مباشرة، ولأجل الإفادة عن السهولة المطلقة في ايجاد الاشياء عبّر القرآن المبين انه سبحانه وتعالى يفعل ما يريد بمجرد الأمر.

والخلاصة: ان قسماً من الآيات الكريمة يعلن منتهى الاتقان وغاية الحكمة في خلق الاشياء ولا سيما في بداية الخلق. وقسماً آخر يبين السهولة المطلقة والسرعة المطلقة ومنتهى الانقياد وعدم الكلفة في ايجاد الاشياء ولا سيما في تكرار ايجادها واعادتها.

C الشعاع الثالث:

يا نفسي الموسوسة! يا من تجاوزت حدكِ ! انك تقولين: ان قوله تعالى ] ما مِن دابةٍ الاّ هو آخذٌ بناصيتها[ وكذا قوله تعالى ] بيده ملكوتُ كلّ شيء[ (يس:83) وكذا قوله تعالى ] ونحنُ اقربُ اليه من حبل الوريد[ .. هذه الآيات الجليلة تبين منتهى القرب الإلهي بينما آيات اخرى مثل قوله تعالى: ] واليه ترجعون[ ] تعرُج الملائكةُ والروحُ اليه في يوم كان مقدارُه خمسين الف سنة[ (المعارج:4) وكذا قول الرسول الكريم e في الحديث الشريف ((...سبعين الف حجاب)) وكذا حقيقة المعراج.. كل هذه تبين منتهى بعدنا عنه سبحانه.

فأريد ايضاحاً لتقريب هذا السر الغامض الى الاذهان!

الجواب: ولهذا استمع!

اولاً: لقد ذكرنا في ختام الشعاع الأول؛ ان الشمس بنورها غير المقيد، ومن حيث صورتها المنعكسة غير المادية، اقرب اليك من بؤبؤ عينك ـ التي هي مرآة لنافذة روحك ـ الاّ انك بعيد عنها غاية البعد، لانك مقيد ومحبوس في المادة. ولا يمكنك ان تمس الاّ قسماً من صورها المنعكسة وظلالها ولا تقابل الاّ نوعاً من جلواتها الجزئية، ولا تتقرب الاّ لألوانها التي هي في حكم صفاتها، ولطائفة من اشعتها التي هي بمثابة طائفة من اسمائها.

ولو اردت ان تتقرب الى المرتبة الاصلية للشمس، واردت ان تقابلها بذاتها، لزم عليك التجرد عن كثير جداً من القيود والمضي من مراتب كلية كثيرة جداً، وكأنك تكبر معنىً ـ من حيث التجرد ـ بقدر الكرة الارضية وتنبسط روحاً كالهواء، وترتفع عالياً كالقمر، وتقابل الشمس كالبدر. ومن بعد ذلك يمكنك ان تدّعي نوعاً من القرب دون حجاب.

(ولله المثل الاعلى) فالجليل ذو الكمال والجلال، ذلك الواجب الوجود، الموجد لكل موجود، النور السرمد، سلطان الازل والابد، اقرب اليك من نفسك، وانت بعيد عنه بعداً مطلقاً.

فان كانت لديك قوة الاستنباط، فطبّق ما في التمثيل من الدقائق على الحقائق.

ثانياً: ان اسم القائد ـ مثلا ـ من بين اسماء السلطان الكثيرة ـ يظهر في دوائر متداخلة في دولته، فابتداءً من الدائرة الكلية للقائد العام العسكري ودائرة المشير والفريق حتى يبلغ دائرة الملازم والعريف. اي أن تجلي ظهوره يكون في دوائر واسعة ودوائر ضيقة وبشكل كلي وجزئي.

فالجندي، أثناء خدمته العسكرية، يتخذ من مقام العريف مرجعاً له، لما فيه من ظهور جزئي جداً للقيادة. ويتصل بقائده الاعلى بهذا التجلي الجزئي لإسمه، ويرتبط به بعلاقة، ولكن لو اراد هذا الجندي ان يتصل بالقائد الاعلى باسمه الأصلي، وان يقابله بذلك العنوان ينبغي له الصعود وقطع المراتب كلها من مرتبة العريف الى المرتبة الكلية للقائد العام.

اي ان السلطان قريب من ذلك الجندي باسمه وحكمه وقانونه وعلمه وهاتفه وتدبيره، وان كان ذلك السلطان نورانياً ومن الاولياء الأبدال، فانه يكون قريباً اليه بحضوره بالذات، اذ لا يمنع شيء من ذلك ولا يحول دونه شئ. ومع أن ذلك الجندي بعيد عن السلطان، غاية البعد وهناك الالوف من المراتب التي تحول بينه وبين السلطان وهناك الالوف من الحجب تفصله عنه، ولكن السلطان يشفق احياناً على أحد الجنود فيأخذه الى حضور ديوانه ـ خلاف المعتاد ـ ويسبغ عليه من افضاله وألطافه.

(ولله المثل الاعلى) فالمالك لأمر ] كن فيكون[ المسخّر للشموس والنجوم كالجنود المنقادة، فهو سبحانه وتعالى اقرب الى كل شئ من اي شئ كان، مع ان كل شئ بعيد عنه بعداً لا حدود له.

واذا اريد الدخول الى ديوان قربه وحضوره المقدس بلا حجاب، فانه يستلزم المرور من بين سبعين الف حجاب من الحجب النورانية والمظلمة، اي المادية والكونية والاسمائية والصفاتية، ثم الصعود الى كل اسم من الاسماء الذي له الوف من درجات التجليات الخصوصية والكلية والمرور الى طبقات صفاته الجليلة والرفيعة ثم العروج الى عرشه الاعظم الذي حظي بالاسم الاعظم. فان لم يكن هناك جذب ولطف إلهي يلزم الوفاً من سنيّ العمل والسلوك.

مثال: اذا أردت أن تتقرب اليه سبحانه باسم ((الخالق)) فعليك الارتباط وتكوين علاقة اولاً من حيث انه خالقك الخاص، ثم من حيث انه خالق جميع الناس، ثم بعنوان انه خالق جميع الكائنات الحية، ثم باسم خالق الموجودات كلها. لذا فان لم تتدرج هكذا تبقى في الظل ولاتجد الاّ جلوة جزئية.

تنبيه: ان السلطان المذكور في المثال السابق قد وضع في مراتب اسم القيادة وسائط كالمشير والفريق، وذلك لعجزه عن القيام بالاعمال بنفسه. أما الذي بيده ملكوت كل شيء، وذلك القدير، فهو مستغن عن الوسائط، بل ليست الوسائط الاّ اموراً ظاهرية بحتة. تمثل ستار العزة والعظمة ودلائل تشير الى سلطان الربوبية من خلال عبودية وعجز وافتقار وانبهار امام العظمة الإلهية، وليست تلك الوسائط مُعينة له سبحانه ولا يمكنها ان تكون شريكة في سلطنة الربوبية قطعاً لأنها ليست الاّ وسائل للمشاهدة والتفرج.

C الشعاع الرابع:

يا نفسي الكسولة!.

ان حقيقة الصلاة التي هي كمعراج المؤمن شبيهة بقبول دخول جندي بسيط الى ديوان السلطان الاعظم بمحض لطفه ـ كما ذكر في المثال السابق ـ فقبولك ايضاً الى المثول امام جلاله سبحانه انما هو بمحض لطف الجليل ذي الجمال والمعبود ذي الجلال. فانت عندما تقول: الله اكبر. تمضي معنىً وتقطع خيالاً أو نيّةً الدنيا والآخرة، حتى تتجرد عن القيود المادية فتصعد مكتسباً مرتبة عبودية كلية او ظلاً من ظلال المرتبة الكلية أو بصورة من صورها وتتشرف بنوع من الحضور القلبي والمثول بين يديه تعالى فتنال حظوة عظمى بخطاب ] اياك نعبد[ كل حسب درجته.

حقاً ان كلمة ((الله اكبر.. الله اكبر)) وتكرارها في حركات الصلاة وافعالها هي اشارة لقطع المراتب والعروج الى مراتب الرقي المعنوي، والصعود من الدوائر الجزئية الى الدوائر الكلية، فهي عنوان لمجمل كمالات كبرياء الله سبحانه، والتي هي خارج نطاق معرفتنا، وكأن كل كلمة من ((الله اكبر)) اشارة الى قطع مرتبة من مراتب المعراج.

وهكذا فان البلوغ الى ظلٍ أو شعاعٍ من حقيقة الصلاة هذه، معنىً أو نيةً أو تصوراً أو خيالاً لهو نعمة عظمى وسعادة كبرى.

ولأجل هذا يُردد ذكر ((الله اكبر)) في الحج بكثرة هائلة. لأن الحج؛ عبادة في مرتبة كلية لكل حاج بالاصالة.

فالجندي البسيط يذهب الى الحضور الملكي في يوم خاص ـ كالعيد ـ مثلما يذهب الفريق فينال لطف مليكه وكرمه. كذلك الحاج ـ مهما كان من العوام ـ فهو متوجه الى ربه الجليل بعـنـوان رب العـالمـين، كالـولي الـذي قطـع المـراتب، فهـو مشرّف بعبودية كلية، فلابد أن المراتب الكلية للربوبية التي تفـتـح بمفـتـاح الحـج، وآفاق عظمة الالوهية التي تشاهد بمنظار الحج، ودوائر العبودية التي تتوسـع في قلـب الحاج وخياله، كلما قام وادّى مناسك الحج، ومراتب الكبرياء والعظمة واُفق التجليات التي تمنـح حــرارة الشـــوق، والاعجاب والانبــهـار، امــام عظمة الالوهية وهيبة الربوبية، لا يسكّن الاّ بــ ((الله اكبر.. الله اكبر))! وبه يمكن ان يعلن عن المراتب المنكشفة المشهودة أو المتصورة.

وهذه المعاني انما تتجلى بعد الحج في صلاة العيد، بدرجات علوية وكلية ومتفاوتة، وكذا في صلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف والخسوف وصلاة الجماعة.

ومن هذا تظهر اهمية الشعائر الاسلامية حتى لو كانت من قبيل السنن النبوية.

سبحان من جعل خزائنه بين الكاف والنون.

] فَسبحانَ الذي بيده مَلكوتُ كُلِّ شيءٍ والَيْهِ تُرْجَعُون[

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا[

] ربنا لا تُزغ قلوبَنا بعدَ إذ هَدَيتَنا وهبْ لنا مِن لدُنك رحمةً إنكَ انتَ الوهّاب[

وصلّ وسلم على رسولك الأكرم، مظهر اسمك الاعظم،

وعلى آله واصحابه واخوانه واتباعه

آمين يا ارحم الراحمين.

ذيل صغير

ان القدير العليم والصانع الحكيم، يُظهر قدرته وحكمته، وعدم تدخل المصادفة في اي فعل من افعاله قطعاً، بالنظام والتناسق الذي تظهره عاداتُه التي هي على صورة القوانين الكونية.. وكذا يُظهر سبحانه بشواذ القوانين الكونية، وبخوارق عاداته، وبالتغيرات الظاهرية، وباختلاف التشخصات، وبتبدل زمان النزول والظهور.. يُظهر مشيئته وارادته، وانه الفاعل المختار، وان اختياره لا يرضخ لأي قيد كان، ممزقاً بهذا ستار الرتابة والاطراد، فيُعِلم: ان كل شيء، في كل آن، في كل شأن من شؤونه، في كل ما يخصه ويعود اليه، محتاج اليه سبحانه، منقاد لربوبيته.. وبهذا يشتت الغفلة، ويصرف الانظار، انظار الجن والانس عن الاسباب الى مسبب الاسباب.

وعلى هذا الاساس تتوجه بيانات القرآن الكريم.

فمثلاً: يحدث في اغلب الاماكن، أن قسماً من الاشجار المثمرة، تثمر سنة، اي تُعطى اليها من خزينة الرحمة، وهي بدورها تسلّمها الينا. ولكن السنة الاخرى تستلم الثمرة الاّ انها لا تعطيها، رغم وجود الاسباب الظاهرية للاثمار.

ومثلاً: ان اوقات نزول المطر ـ بخلاف الامور اللازمة الاخرى ـ متحولة ومتغيرة الى درجة دخلت ضمن المغيّـبات الخمسة إذ إن أهم موقع في الوجود هو للحياة والرحمة، والمطر منشأ الحياة والرحمة الخالصة، لذا فان ذلك الماء الباعث على الحياة، والرحمة المهداة، لا يدخل ضمن القاعدة المطردة التي تحجب عن الله وتورث الغفلة، بل تكون في قبضة ذي الجلال مباشرة من دون حجاب وضمن تصرف المنعم المحيي الرحمن الرحيم. وذلك لكي تبقى ابواب الدعاء والشكر مفتوحة دائماً.

ومثلاً: ان اعطاء الرزق، وتشخيص سيماء الانسان وملامحه وصورته، انما هو احسان إلهي يوهبه له من حيث لا يحتسب، مما يبين بجلاء طلاقة المشيئة الإلهية والاختيار الرباني.

وقس على هذا تصريف الرياح وتسخير السحاب وامثالها من الشؤون الإلهية.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #22
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] انّا جَعَلْنا ما عَلى الارض زِينَةً لها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسنُ عَمَلاً ^ وإنَّا لَجاعلونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزاً[ (الكهف:7ـ8)

] وما الحياةُ الدنيا الاّ لعبٌ ولَهْوٌ[ (الانعام:32)

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين عاليين وذيل ساطع ]

ان الخالق الرحيم والرزاق الكريم والصانع الحكيم قد جعل هذه الدنيا على صورة عيد بهيج واحتفال مهيب ومهرجان عظيم لعالم الارواح والروحانيات، وزيّنها بالآثار البديعة لاسمائه الحسنى، وخلع على كل روح صغيراً كان أم كبيراً، عالياً كان ام سافلاً، جسداً على قدّه وقدره، وجهّزه بالحواس والمشاعر وكل ما يوافقه للاستفادة من الالاء المختلفة والنعم المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى، والمبثوثة في ذلك العيد البهيج، والمعروضة في ذلك المهرجان العظيم. ومنح سبحانه لكل روح من تلك الارواح وجوداً جسمانياً (مادياً) وارسلها الى ذلك العيد والمهرجان مرة واحدة، ثم قسّم ذلك العيد الواسع جداً زماناً ومكاناً الى عصور وسنوات ومواسم، بل حتى الى ايام واجزاء ايام، جاعلاً من كل عصر، من كل سنة، من كل موسم، من كل يوم، من كل جزء من يوم، مهرجاناً سامياً وعيداً رفيعاً واستعراضاً عاماً لطائفة من مخلوقاته ذوات ارواح ومن مصنوعاته النباتية، ولا سيما سطح الارض، ولا سيما في الربيع والصيف، جاعلاً اعياداً متعاقبة، الواحد تلو الآخر، لطوائف مصنوعاته الصغيرة جداً، حتى غدا ذلك العيد عيداً رائعاً جذاباً لفت انظار الروحانيات الموجودة في الطبقات العليا والملائكة واهل السموات الى مشاهدته، وجلب انظار اهل الفكر الى مطالعته بمتعة الى حد يعجز العقل عن استكناه متعتها.. ولكن هذه الضيافة الإلهية والعيد الرباني، وما فيهما من تجليات اسم ((الرحمن والمحيي)) يكتنفها الفراق والموت، حيث يبرز اسم الله ((القهار والمميت)) وربما هذا لا يوافق - كما يبدو - شمول رحمته تعالى المذكور في قوله ] ورحمتي وسعت كل شيء[ (الاعراف:156).

ولكن في الحقيقة هناك جهات عدة يظهر فيها الانسجام والموافقة الكاملة مع الرحمة الإلهية، نذكر منها جهة واحدة فقط وهي:

انه بعد انتهاء الاستعراض الرباني لكل طائفة من الطوائف، وبعد استحصال النتائج المقصودة من ذلك العرض، يتفضل الفاطر الرحيم والصانع الكريم على كل طائفة من الطوائف فيمنحهم رغبة في الراحة واشتياقاً اليها وميلاً الى الانتقال الى عالمٍ آخر، ويُسئمهم من الدنيا باشكال من النفور والسأم رحمةً بهم.

وحينما يُرخّصون من تكاليف الحياة ويُسّرحون من وظائفها، ينبّه سبحانه في أرواحهم رغبة قوية وحنيناً الى موطنهم الأصلي. وكما يمنح سبحانه مرتبة الشهادة لجندي بسيط يُقتل في سبيل اداء الخدمة ويهلك في مهمة الجهاد، وكما يمنح الشاة الأضحية وجوداً مادياً في الآخرة ويكافؤها بجعلها مطية كالبراق لصاحبها مارة به على الصراط المستقيم، فليس بعيداً من ذلك الرحمن الكريم ان يمنح لذوي الارواح والحيوانات ثواباً روحانياً يلائمهم وأجراً معنوياً يوافق استعدادهم، من خزينة رحمته الواسعة، بعد ما قاسوا المشقات وهلكوا أثناء اداء وظائفهم الفطرية الربانية الخاصة بهم، وعانوا ما عانوا في طاعتهم للاوامر السبحانية. وذلك لئلا يتألموا ألماً شديداً لدى تركهم الدنيا، بل يكونون راضين مرضيين.. ولا يعلم الغيب الاّ الله.

بيد أن الانسان الذي هو أشرف ذوي الارواح واكثرهم استفادة من هذا العيد - من حيث الكمية والنوعية - يوهب له برحمة من الله ولطف منه حالةً من الشوق الروحي تنفّره عن الدنيا التي ابتلي بها، كي يعبر الى الآخرة بأمان. فالانسان الذي لم تغرق انسانيته في الضلالة يستفيد من تلك الحالة الروحية فيرحل عن الدنيا وقلبه مطمئن بالايمان.

نبين هنا خمسةً من الوجوه التي تورث تلك الحالة الروحية على سبيل المثال:

الوجه الأول: انه سبحانه وتعالى يُظـهر للانســان - بحلـول الشيـخوخة - ختم الفناء والزوال على الاشياء الدنيوية الفتانة، ويفهّمه معانيها المريرة، مما يجعله ينفر من الدنيا ويسرع للتحري عن مطلوب باق خالد بدلاً من هذا الفاني الزائل.

الوجه الثاني: انه تعالى يُشعر الانسان شوقاً ورغبة في الذهاب الى حيث رحل تسعٌ وتسعون بالمائة من أحبته الذين يرتبط معهم والذين استقروا في عالم آخر، فتدفع تلك المحبة الجادة الانسان ليستقبل الموت والأجل بسرور وفرح.

الوجه الثالث: انه تعالى يدفع الانسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواءً بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور اخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود الى الراحة وشوقاً خالصاً للمضي الى ديار اخرى.

الوجه الرابع: انه تعالى يبيّن للانسان المؤمن - بنور الايمان - ان الموت ليس اعداماً بل تبديل مكان، وان القبر ليس فوهة بئر عميق بل باب لعوالم نورانية، وان الدنيا مع جميع مباهجها في حكم سجن ضيق بالنسبة لسعة الآخرة وجمالها. فلا شك ان الخروج من سجن الدنيا والنجاة من ضيقها الى بستان الجنان الاخروية، والانتقال من منغصات الحياة المادية المزعجة الى عالم الراحة والطمأنينة وطيران الارواح، والانسلاخ من ضجيج المخلوقات وصخبها الى الحضرة الربانية الهادئة المطمئنة الراضية، سياحة بل سعادة مطلوبة بألف فداء وفداء.

الوجه الخامس: انه تعالى يفهّم المنصت للقرآن الكريم ما فيه من علم الحقيقة، ويعلّمه بنور الحقيقة ماهية الدنيا، حتى يغدو عشقها والركون اليها تافهاً لا معنى له.. اي يقول له ويثبت:

ان الدنيا كتاب رباني صمداني مفتوح للانظار، حروفه وكلماته لا تمثل نفسها، بل تدل على ذات بارئها وعلى صفاته الجليلة واسمائه الحسنى، ولهذا، افهم معانيها وخذ بها، ودَع عنك نقوشها وامض الى شانك..

واعلم انها مزرعة للآخرة، فازرع واجنِ ثمراتها واحتفظ بها، واهمل قذاراتها الفانية..

واعلم انها مجاميع مرايا متعاقبة، فتعرّف الى مَن يتجلى فيها، وعاين انواره، وادرك معاني اسمائه المتجلية فيها واحبب مسمّاها، واقطع علاقتك عن تلك القطع الزجاجية القابلة للكسر والزوال.. واعلم انها موضع تجارة سيار، فقم بالبيع والشراء المطلوب منك، دون ان تلهث وراء القوافل التي اهملتك وجاوزتك، فتتعب..

واعلم انها متنزّه مؤقت فاسرح ببصرك فيها للعبرة، ودقق في الوجه الجميل المتستر، المتوجه الى الجميل الباقي، واعرض عن الوجه القبيح الدميم المتوجه الى هوى النفس، ولا تبك كالطفل الغرير عند انسدال الستائر التي تريك تلك المناظر الجميلة..

واعلم انها دار ضيافة، وانت فيها ضيف مكرم، فكل واشرب باذن صاحب الضيافة والكرم، وقدّم له الشكر، ولا تتحرك الاّ وفق اوامره وحدوده، وارحل عنها دون ان تلتفت الى ورائك.. واياك أن تتدخل بفضول بامور لا تعود اليك ولا تفيدك بشئ، فلا تغرق نفسك بشؤونها العابرة التي تفارقك.

وهكذا بمثل هذه الحقائق الظاهرة يخفف سبحانه وتعالى عن الانسان كثيراً من آلام فراق الدنيا، بل قد يحببه الى النابهين اليقظين، بما يظهر سبحانه عليه من اسرارحقيقة الدنيا، وانه اثرٍ من آثار رحمته الواسعة في كل شئ، وفي كل شأن. واذ يشير القرآن الكريم الى هذه الوجوه الخمسة، فان آيات كريمة تشير الى وجوه خاصة اخرى كذلك.

فيا لتعاسة من ليس له حظ من هذه الوجوه الخمسة.

المقام الثاني



من الكلمة السابعة عشرة (1)

((انما الشكوى بلاء))

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام وعناء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر. فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

P P P

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

P P P

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

ايها المغرور اعلم!

ان السعادة في هذه الدنيا، في تركها.

اما في الترجمة، فقد اقتصرنا على المعنى وحده.ــ المترجم.

ان كنت بالله مؤمناً..فهو حسبك، فلو ادبرتَ عن الدنيا أقبلتْ عليك.

P P P

وان كنت معجباً بنفسك، فذلك الهلاك المبين.

ومهما عملت فالاشياء تعاديك.

فلابد من الترك اذن في كلتا الحالتين.

P P P

وتركها يعني: انها مُلك الله، يُنظر اليها بإذنه وبإسمه،

وان كنت تبغي تجارة رابحة، فهي

في استبدال عمر باقٍ لا يزول بعمرك الفاني الزائل.

P P P

وان كنت تريد رغبات نفسك، فهي زائلة، تافهة، واهية.

وان كنت تتطلع الى الآفاق، فختم الفناء عليها.

P P P

فالمتاع في هذا السوق مزيف. لا يستحق الشراء اذن.

لذا دعه، فالاصيل منه قد اعدّ خلفه..

((غرباء الحيرة))

[ على قمة شجرة التوت الاسود المباركة، ذكر سعيد القديم بلسان سعيد الجديد هذه الحقائق ].

مخاطبي ليس ((ضياء باشا(1))) بل المفتونون باوروبا.

والمتكلم ليس نفسي، بل قلبي تلميذ القرآن.

P P P

ان ((الكلمات)) السابقة حقائق. اياك ان تحار، احذر ان تجاوز حدّها

لا تُزغ، ولا تصغِ الى فكر الاجانب، انه ضلال، يسوقك الى الندم.

P P P

ألا ترى الأوسعَ فكراً والأحدَّ نظراً يقول دوماً في حيرته:

آه! وا أسفى! ممن اشكو، ولمن! فقد ذهلت!

P P P

وأنا أقول ولا اتردد فالقرآن ينطقني:

اشكو منه اليه، ولا اتحير مثلك!

P P P

استغيث من الحق بالحق، لا أتجاوز حدّي.

ادعو من الارض الى السماء، ولا اهرب مثلك!

P P P

في القرآن الكريم: الدعوة كلها؛ من النور والى النور، لا انكث مثلك.

في القران الكريم: الحكمة الصائبة. اثبتها، ولا اعير للفلسفة المخالفة أي اهتمام!

في القرآن الكريم: جواهر الحقائق.

افديها بروحي.. لا ابيعها مثلك!

P P P

أجيل طرفي من الخلق الى الحق، لا اضل مثلك!

اطير فوق الطريق الشائك، لا اطؤها مثلك!

يصعد شكري الى عنان السماء، لا اعصي مثلك!

P P P

ارى الموت صديقاً، لا اخافه مثلك!

ادخل القبر باسماً، لا ارتعد مثلك!

P P P

فمَ تنّين، فِراشَ الوحشة، عتبةَ العدم.. لا اراه مثلك!

بل موضع تلاقي الاحباب.. لا اضجر منه، لا ابغضه مثلك!

P P P

لا اتضايق منه، ولا أهابه.

فهو باب الرحمة، باب النور، باب الحق

اقرعه باسم الله، ولا التفت، ولا تأخذني الدهشة.

سأرقُد قرير العين، حامداً ربي، لا اقاسي ضيقاً، ولا اظل في وحشة.

سأقوم على صدى أذان اسرافيل في فجر الحشر، قائلاً.. ((الله اكبر)).

لا ارهب من المحشر الاكبر!

لا اتخلف من المسجد الاعظم!

P P P

من لطف الله ونور القران الكريم وفيض الإيمان.. لا أيأس اصلاً.

بل اسعى واجري طائراً الى ظل عرش الرحمن.

ولا احار مثلك.. ان شاء الله.

P P P



هذه المناجاة تخطرت في القلب هكذا بالبيان الفارسي

[ كتبت هذه المناجاة كما خطر على القلب، باللغة الفارسية، وقد نشرت ضمن رسالة ((حباب من عمان القرآن الحكيم)).]

يا رب! به شش جهت نظر مىكردم درد خودرا درمان نمىديدم

يا رب! لقد سرحت نظري في الجهات الست، علّني أجد دواءً لدائي، وانا مستند الى اقتداري واختياري غافلاً لا متوكلاً، ولكن وا اسفى لم استطع أن أجد دواءً لدائي.. وقيل لي معنىً: ألا يكفيك الداءُ دواءً.

در راست مي ديدم كه: دى روز مزار بدر من است

نعم! لقد نظرت ـ بغفلة ـ الى الزمان الماضي في يميني، لأجد فيه السلوان، ولكني رأيت ان الأمس قبرُ أبي، وتراءت لي الأيام الخوالي مقبرة كبيرة لأجدادي. فأورثتني هذه الجهة وحشة بدل السلوان(1).

(1) ولكن الايمان يُري تلك المقبرة الكبرى مجلساً منوراً ومجمعاً مؤنساً للأحباب.

ودر جب ديدم كه: فردا قبر من است

ثم نظرت الى المستقبل في اليسار، فلم أستطع أن أجد فيه دواءً. بل تراءى لي الغد في صورة قبري، وتراءى لي المستقبل قبراً لأمثالي ومقبرة للجيل المقبل، فاورثتني هذه الجهة الوحشة بدل السلوان(2).

(2) ولكن الايمان وما يورثه من الاطمئنان يُري تلك المقبرة العظمى دعوة رحمانية الى قصور السعادة اللطيفة.

و امروز: تابوت جسم بر اضطراب من است

وحيث لا جدوى من اليسار، نظرت الى اليوم الحاضر، فرأيت وكأن هذا اليوم تابوت يحمل جنازة جسمي الذي ينتفض انتفاضة المذبوح بين الموت والحياة.(3)

(3) ولكن الايمان يُري ذلك التابوت دار تجارة ودار ضيافة باهرة.

بر سر عمر جنازهء من ايستاده است

فلم أعثر على الدواء في هذه الجهة، ورفعت رأسي ونظرت الى قمة شجرة عمري، ورأيت أن جنازتي هي الثمرة الوحيدة لتلك الشجرة، وهي ترقبني من هناك(4)

(4) ولكن الايمان يُري ان تلك الثمرة ليست جنازة، بل هي انطلاقٌ لروحي المرشّحة للأبد من وكرها القديم لتسرح في النجوم.

در قدم: آب خاك خلقت من وخاكستر عظام من است

فيئستُ من تلك الجهة أيضاً، ،طأطأت رأسي، فرأيت ان رميم عظامي قد اختلط مع تراب مبدأ خلقتي وهو يُداس تحت الأقدام. فزادت - هذه الجهة - داءً لدائي ولم تسعفني بشئ(5).

(5) اما الايمان فقد أظهر ذلك التراب باباً للرحمة،وستاراً دون صالة الجنة.

جون در بس مىنكرم، بينم: اين دنياى بى بنياد هيج در هيج است

فصرفت نظري عن تلك الجهة مولّياً وجهي الى الوراء، ورأيت: ان دنياً فانية تتدحرج في وديان العبث وظلمات العدم. فنفثتْ هذه الجهة سمّ الوحشة والخوف في دائي بدلاً من ان تمنحني العزاء(6).

(6) اما الايمان فقد أظهر ان تلك الدنيا المتدحرجة في الظلمات ما هي الا مكاتيب صمدانية وصحائف نقوش سبحانية أنهت مهامها، وأفادت معانيها، وتركت نتائجها في الوجود بدلاً عنها.

ودر بيش: اندازهء نظر مىكنم، در قبر كشاده است و راه ابد بدورودراز به ديداراست

ولما لم أجد خيراً ايضاً في هذه الجهة رنوت بنظري الى الأمام، ورأيت ان باب القبر مفتوح في بداية طريقي، وتتراءى وراءه من بعيد طريقٌ ممتدة الى الأبد(7).

(7) أما الايمان فقد جعل باب القبر ذاك باباً الى عالم النور، وتلك الطريق طريقاً الى السعادة الخالدة، فأصبح الايمان، بحقٍ مرهماً شافياً لدائي.

مرا جز جزء اختيارى جيزى نيست در دست

وهكذا لم أعثر في هذه الجهات الست على أي سلوانٍ وعزاءٍ بل وجدت استيحاشاً وهلعاً، ولم يكن لي تجاهها مستند سوى جزء اختياري(8).

(8) اما الايمان فانه يسلّمني بدلاً من ذلك الجزء الاختياري وثيقة لأستند بها الى قدرة عظيمة مطلقة، بل الايمان هو الوثيقة نفسها.

كه او جزء هم عاجز، هم كوتاه، وهم كم عيار است

وان ذلك الجزء الاختياري الذي هو سلاح الانسان، عاجز، قاصر، ناقص، لا يمكنه الخلق وليس له الاّ الكسب(9).

(9) الاّ ان الايمان يجعل ذلك الجزء الاختياري كافياً لكل شئ اذ يستعمله في سبيل الله، كالجندي الذي إنسلك في جيش الدولة فينجز ألوف أضعاف قوته من الأعمال.

نه در ماضى مجال حلول، نه در مستقبل مدار نفوذاست

لأن ذلك الجزء الاختياري ليس له القدرة للحلول في الماضي، ولا النفوذ في المستقبل. لذا لا نفع له لآمالي وآلامي الماضية والمستقبلة(10)

(10) ولكن الايمان يأخذ زمام ذلك الجزء الاختياري من الجسم الحيواني ويسلّمه الى القلب والروح، لذا يستطيع ان يحلّ في الماضي وينفذ في المستقبل. حيث دائرة حياة القلب والروح واسعة جداً.

ميدان أو إين زمان حال، ويك آن سيّال است

ان ميدان جولان ذلك الجزء الاختياري هو الوقت الحاضر القصير وهو آن سيّال ليس الاّ.

با إين همه فقرها وضعفها، قلم قدرت تو آشكاره

نوشته است، ((در فطرت ما)): ميل ابد وامل سرمد

علاوة على جميع حاجاتي هذه، وضعفي وفقري وعجزي، وانا تحت هجمات الاستيحاش والمخاوف الواردة من هذه الجهات، فقد اُدرجتْ في ماهيتي آمال ممتدة الى الأبد، وفي فطرتي رغبات سطرت بوضوح بقلم القدرة.

بلكه هرجه هست، هست

بل كل ما في الدنيا، نماذجُه في فطرتي، فأنا على علاقة بجميع تلك الرغبات والآمال، بل أسعى لها، واُدفع الى السعي لها.

دائرهء إحتياج مانند دائرهء نظر بزركى داراست

ان دائرة الحاجة واسعة سعة دائرة النظر.

خيال كدام رسد احتياج نيزرسد، در دست هرجه نيست در إحتياج هست

حتى ان الخيال أينما ذهب، تذهب دائرة الحاجة الى هناك. فالحاجة اذاً هناك أيضاً، بل كل ما ليس في متناول اليد فهو ضمن الحاجة، وما ليس في اليد لا حدّ له.

دائرهء اقتدار همجو دائرهء دست كوتاه كوتاه است

بينما دائرة القدرة ضيقة وقاصرة بقدر ما تصل اليه يدي القاصرة

بس فقر و حاجات ما به قدر جهان است

بمعنى ان فقري وحاجاتي بقدر الدنيا كلها.

سر مايهء ما همجو: ((جزء لايتجزأ)) است

أما رأس مالي فهو شئ جزئي ضئيل.

اين جزء كدام واين كائنات حاجات كدام است؟

أين الحاجات التي بقدر هذا العالم، ولا تستحصل الاّ بالمليارات من هذا الجزء الاختياري الذي لايساوي شيئاً؟.

انه لا يمكن شراء تلك الحاجات بهذا الثمن الزهيد جداً. ولا يمكن ان تستحصل تلك بهذا!.

فلابد اذن من البحث عن وسيلة أخرى.

بس در راه تو أزين جزء نيز بازمىكذشتن جارهء من است

وتلك الوسيلة هي التبرؤ من ذلك الجزء الاختياري وتفويض أمره الى الارادة الإلهية، وتبرؤ المرء من قوة نفسه وحوله والالتجاء الى حول الله وقوته. وبذلك يكون الاعتصام بحبل التوكل.

فيا رب! لما كانت وسيلة النجاة هي هذه. فانني أتخلى عن ذلك الجزء الاختياري واتبرأ من أنانيتي، في سبيلك.

تا عنايت تو دستكير من شود، رحمت بى نهايت توبناه من است

لتأخذ عنايتك بيدي، رحمةً بعجزي وضعفي، ولتكون رحمتك مستندي، رأفة بفقري واحتياجي.. ولتفتح لي بابها.

آن كس كه بحر بى نهايت رحمت يافت، تكيه

نكند برين جزء اختيارى كه يك قطره سراب است

نعم، كل مَن وجد بحر الرحمة الذي لا ساحل له، لا يعتمد على جزئه الاختياري وهو كقطرة سراب، ولا يفوض اليه أمره، من دون تلك الرحمة.

أيواه! اين زندكانى همجو خواب است

وين عمر بى بنياد همجو باد است

يا اسفى، لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرة دائمة. وأضعنا بهذا الظن كل شئ.

نعم، ان هذه الحياة غفوة قد مضت كرؤيا عابرة!

وهذا العمر الذي لا قرار له يذهب ذهاب الريح.

انسان به زوال دنيا به فنا است، آمال بى بقا آلام به بقا است

ان الانسان المغرور، المعتد بنفسه، ويحسبها أبدياً، محكوم عليه بالزوال. انه يذهب سريعاً.

اما الدنيا التي هي مأواه، فستهوي في ظلمات العدم، فتذهب الآمال أدراج الرياح وتبقى الآلام محفورة في الأرواح.

بيا أي نفس نا فرجام! وجود فانى خودرا فدا كن

خالق خودرا كه اين هستى وديعه هست

فتعالى يا نفسي المشتاقة الى الحياة، والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حدّ لها وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية انتبهي وعودي الى رشدك، ألا ترين ان اليراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم، بينما النحل التي لا تعتد بنفسها، تجد ضياء النهار، وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهّبة بضوء الشمس.. كذلك أنتِ، ان اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك، فستكونين كاليراعة. ولكن ان ضحيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك سوف تكونين كالنحل. وتجدين نور وجود لا حدّ له. فضحي بنفسك، اذ هذا الوجود وديعة عندك وامانة لديك.

وملك او أوداه فنا كن تا بقا يابد، ازان

سرى كه: ((نفى النفى)) إثبات است

ثم ان الوجود ملكُه سبحانه وهو الذي وهبه لك، لذا إفديه من دون منّة ولا إحجام، وإفنيه كي يجد البقاء، لأن نفي النفي إثبات.

أي: ان كان العدم معدوماً فهو موجود، وان انعدم المعدم يكون موجوداً.

خداى بر كرم خود ملك خودرا مىخرد أزتو

بهاي بى كران داده براى تو نكهدارد

ان الله يشتري منك ملكه، ويعطيك ثمنه عظيماً، وهو الجنة. وانه يحفظ لك ذلك الملك ويرفع قيمته وثمنه وسيعيده اليك بأبقى صورة واكملها. فيا نفسي! انفذي هذه التجارة فوراً، انها تجارة رابحة في خمسة أرباح، أي تكسبين خمسة أرباح معاً في صفقة واحدة، وتنجين من خمسة خسائر معاً.

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَلَمّا أفلَ قالَ لاَ أحِبُّ الآفلين[

[ لقد أبكاني نعي:] لا أحب الآفلين[ من خليل الله ابراهيم عليه السلام الذي ينعي به زوال الكائنات، فصبّت عينُ قلبي قطراتٍ باكيات من شؤون الله، كل قطرة تحمل من الحزن والكمد ما يثير الاشجان ويدفع الى البكاء والنحيب. تلك القطرات هي هذه الابيات التي وردت الى القلب بالفارسية.. وهي نمط من تفسير لكلام خليل الرحمن ونبيه الحكيم كما تضمنته الآية الكريمة: :] لا أحب الآفلين[ ].

نمى ز يباست ((افولده)) كم شدن محبوب

محبوب، يغرق في أفق المغيب! ليس بمحبوب جميل، فالمحكوم عليه بالزوال لن يكون جميلاً حقاً ولا يحبه القلب، اذ القلب الذي خلق أصلاً ليعشق خالداً، ويعكس أنوار الصمد، لا يود الزوال ولا ينبغي له.

نمى ارزد ((غروبده)) غيب شدن مطلوب

مطلوب، محكوم عليه بالأفول! ليس أهلاً أن يرتبط به القلب، ولا يشد معه الفكر؛ لأنه عاجز عن أن يكون مرجعاً للاعمال وموئلاً للآمال. فالنفس لا تذهب عليه حسرات، أتراك يعشقه القلب أو ينشده ويعبده؟.

نمى خواهم ((فناده)) محو شدن مقصود

مقصود، يُمحى في الفناء ويزول! لا أريده. أنا لا أريد فانيا، لاني الفاني المسكين، فماذا يُغني الفانون عني؟

نمى خوانم ((زوالده)) دفن شدن معبود

معبود، يدفن في الزوال! لا أدعوه، ولا أسأله، ولا التجئ اليه، اذ من كان عاجزاً لا يستطيع حتماً من ان يجد دواءً لأدوائي الجسيمة ولا يقدر على ضماد جراحاتي الابدية، فكيف يكون معبوداً من لا يقدر على انقاذ نفسه من قبضة الزوال؟

عقل فرياد مى دارد، نداءِ : ] لا أحب الآفلين[ مى زند روح

أمام هذه الكائنـات المضطربة المنسابة الى الزوال، يصـرخ ((العقـل)) المفتــون بالمظاهر يائساً من الاعماق، كلما رأى زوال معشوقاته.. وتئن ((الروح)) الساعية الى محبوب خالد أنين :] لا أحب الآفلين[ .

لا.. لا أريد الفراق.. لا.. لا اطيق الفراق.

نمي خواهم نمى خوانم نمى تابم فراقي

نمى ارزد ((مراقه)) إين زوال در بس تلاقي

وصال يعقبه الزوال مؤلم، هذه اللقاءات المكدرة بالزوال غير جديرة باللهفة، بل لا يستحق شوقاً وصال يعقبه فراق؛ لان زوال اللذة مثلما هو ألم فان تصور زوال اللذة كذلك ألم مثله، فدواوين جميع شعراء الغزل والنسيب - وهم عشاق مجازيون - وجميع قصائدهم انما هي صراخات تنطلق من آلام تنجم من تصور الزوال هذا، حتى اذا ما استعصرتَ روح ديوان أيٍ منهم فلا تراها الاّ وتقطر صراخاً أليماً ناشئاً من تصور الزوال.

أزان دردى كزين :] لا أحب الآفلين[ مى زند قلبم

فتلك اللقاءات المشوبة بالزوال، وتلك المحبوبات المجازية المورثة للألم، تعصر قلبي حتى يجهش بالبكاء قائلاً: :] لا أحب الآفلين[ على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام.

فان كنت طالباً للبقاء حقاً، وأنت ما زلت في الدنيا الفانية فاعلم:

درين فاني بقا خوازى بقا خيزد ((فنادن)).

ان البقاء ينبثق من الفناء، فجُد بفناء النفس الامارة لتحظى بالبقاء!

فنا شد، هم فدا كن ، هم عدم بين ، كه از دنيا ((بقايه)) راه ((فنادن))

تجرّد من كل خلق ذميم هو مبعث عبادة الدنيا. افنِهِ من نفسك، جُد بماتملكه في سبيل المحبوب الحق. أبصر عقبى الموجودات الماضية نحو العدم فالسبيل في الدنيا الى البقاء انما تمر من درب الفناء.

فكر فيزار مى دارد، أنين :] لا أحب الآفلين[ مى زند وجدان

ويظل "فكر" الانسان السارح في الاسباب المادية في حيرة وقلق أمام مشهد زوال الدنيا، فيستغيث في قنوط.

بينما ((الوجدان)) الذي ينشد وجوداً حقيقياً يتبع خطى سيدنا ابراهيم عليه السلام في أنينه: :] لا أحب الآفلين[ ويقطع أسبابه مع المحبوبات المجازية ويحل حباله مع الموجودات الزائلة،معتصماً بالمحبوب السرمدي..بالمحبوب الحقيقي.

بدان اي نفس نادانم ! كه : درهر فرد أز فاني دو راه هست با باقي ، دو سرّ جان جانانى

فيا نفسي الغافلة الجاهلة! يا سعيد اعلم! انك تستطيع وجدان سبيلين الى البقاء من كل شئ فانٍ في هذه الدنيا الفانية، حتى يمكنك أن تشاهد فيهما لمعتين وسرّين من أنوار جمال المحبوب الدائم، فيما اذا قدرت على تجاوز الصورة الفانية وخرقت حدود نفسك.

كه در نعمتها إنعام هست وبس آثارها أسما بكير مغزى، رميزن در فنا آن قشر بى معنا

نعم!! ان الإنعام يشاهَد طي النعمة، ولطف الرحمن يُستشعر في ثنايا النعمة. فان نفذت من خلال النعمة الى رؤية الإنعام فقد وجدت المنعم.

ثم ان كل أثر من آثار الأحد الصمد انما هو رسالته المكتوبة. كل منه يبين أسماء صانعه الحسنى. فان استطعت العبور من النقش الظاهر الى المعنى الباطن فقد وجدت طريقاً الى الاسماء الحسنى من خلال المسميات.

فما دام في وسعك - يا نفسي - الوصول الى مغزى هذه الموجودات الفانيات ولبّها، فاستمسكي بالمعنى، ودعي قشورها يجرفها سيل الفناء، مزقي الاستار دون حسرة عليها.

بلى اثارها كونيد: ز اسما لفظ بر معنا نجوان معنا، وميزن در هوا آن لفظ بى سودا

نعم! ليس في الموجودات من شئ الا هو لفظ مجسم يفصح عن معاني جليلة، بل يستقرىء أغلب اسماء صانعه البديع.

فما دامت هذه المخلوقات ألفاظ القدرة الإلهية وكلماتها المجسدة، فاقرأيها - يا نفسي - وتأملي في معانيها واحفظيها في أعماق القلب، وارمي بألفاظها التافهة أدراج الرياح دون أسف عليها.. ودون انشغال بها.

عقل فرياد مى دارد، غياث :] لا أحب الآفلين[ ميزن اي نفسم

والعقل المبتلى بمظاهر الدنيا ولا يملك الا معارف آفاقية خارجية، تجره سلسلة أفكاره الى حيث العدم والى غير شئ. فتراه يضطرب من حيرته ويرتعد من هول الموقف فيصرخ يائساً جزعاً، باحثاً عن مخرج من هذا المأزق ليبلغه طريقاً سوياً يوصله الى الحقيقة.

فما دامت الروح قد كفت يدها عن الآفلين الزائلين، والقلب قد ترك المحبوبات المجازية، والوجدان قد أعرض عن الفانيات.. فاستغيثي يا نفسي المسكينة بغياث ابراهيم عليه السلام:] لا أحب الآفلين[ وانقذي نفسك.

جه خوش كويد أو شيدا ((جامي)) عشق خوى:

وانظري! ما أجمل قول ((جامي))(1) ذلك الشاعر العاشق الولهان حتى لكأن فطرته قد عجنت بالحب الإلهي حينما أراد ان يولي الانظار شطر التوحيد ويصرفها عن التشتت في الكثرة... اذ قال:

يكى خواه، يكى خوان، يكى جوى، يكى بين، يكى دان، يكى كوى(2)

أقصد الواحد، فسواه ليس جديراً بالقصد.

أدع الواحد، فما عداه لا يستجيب دعاء

اطلب الواحد، فغيره ليس أهلاً للطلب

شاهد الواحد، فالآخرون لا يشاهَدون دائماً، بل يغيبون وراء ستار الزوال.

اعرف الواحد، فما لا يوصل الى معرفته لا طائل من ورائه.

اذكر الواحد، فما لا يدل عليه من أقوال وأذكار هراء لا يغني المرء شيئاً.

نعم! صدقت أي جامي:

كه ((لا اله الاّ هو)) برابر ميزند عالم

هو المطلوب، هو المحبوب، هو المقصود، هو المعبود.

فالعالم كله، أشبه بحلقة ذكر، وتهليل كبرى يردد بألسنته المتنوعة ونغماته المختلفة: (لا إله الا هو) ويشهد الكل على التوحيد، فيداوي به الجرح البالغ الغور الذي يفجره: :] لا أحب الآفلين[ وكأنه يقول: هيا الى المحبوب الدائم الباقي.. انفضوا أيديكم من كل محبوباتكم المجازية الزائلة.

((لوحتان))

[ كنت قبل خمسة وعشرين عاماً(1) على تل يوشع المطل على البسفور باستانبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب اعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدونني الى حالتي الاولى، فقلت لهم: دعوني وشأني الى الغد، كي استخير ربي. وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان الى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، الاّ انهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة. وقد ألحقتا بختام ((الكلمة الثالثة والعشرين)).ولمناسبة المقام أدرجتا هنا ].



اللوحة الأولـى

[ وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة ]

لا تدعُني الى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

اذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترت نور الحق..

رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة

ان قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم .

وان قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.

اذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً

والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.

والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.

والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.

والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاماً.

والاصوات نعيات، والأحياء أموات.

وانقلبت العلوم أوهاماً، وفي الحِكَم ألف سقم.

وتحولت اللذائذ آلاماً، وفي الوجود ألفِ عدم.

وان قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.

اللوحة الثانية

[ وهي لوحة تشير الى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية ]

لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً.

واذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..

واذا العقل مفتاح الكنز، والفناء باب البقاء.

وانطفأت لمعة الكمال، واشرقت شمس الجمال..

فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.

والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.

والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..

وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكراً..

فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.

ولقد وجدت الفقر كنز الغنى وابصرت القوة في العجز.

إن وجدت الله فالاشياء كلها لك.

نعم ان كنت عبداً لمالك الملك، فملكه لك..

وان كنت عبداً لنفسك معجباً بها، فابصر بلاءً وعبئاً بلا عدٍّ، وذقها عذاباً بلا حد.

وان كنت عبداً لله حقاً مؤمناً به، فابصر صفاءً بلا حدٍ، وذق ثواباً بلا عد، ونِل سعادة بلا حدٍ.

مناجاة

[ لقد قرأت قصيدة الاسماء الحسنى للشيخ الكيلاني (قُدس سره) بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، وذلك قبل خمس وعشرين سنة، فوددت ان اكتب مناجاة بالاسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ انني اردت كتابة نظيرة لمناجاة استاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فاني لا املك موهبة في النظم. لذا عجزت، وظلت المناجاة مبتورة.

وقد ألحقت هذه المناجاة برسالة ((النوافذ)) وهي المكتوب الثالث والثلاثون ولكن لمناسبة المقام اُخذت الى هنا ].

هو الباقي

حكيمُ القضايا نحـن في قَبْض حُكمه هو الحَكَمُ العـدلُ له الارضُ والســـماءُ

عليمُ الخـفايـا والغيوبُ فـي مُلكـه هو القادرُ القـيـومُ له الـعـــرش والـثراء

لطيفُ المزايا والنقـــوش في صُنعــه هو الفـاطرُ الـودودُ له الحـُــسن والبهاءُ

جليـلُ المرايا والشـؤون في خلقـــه هو الملكُ القـدوسُ له العز والكبريــــاء

بديـع البرايا نحـن من نقش صـُنعـه هو الـدائـمُ الباقي لـــه المـلك والـبـقاءُ

كريمُ العطايا نحن مِن ركبِ ضيفه هو الـرزاقُ الكـافي له الحـمـد والثنـــاء

جميل الهدايا نحن من نسـج علـمـه هو الخالـقُ الـوافـي له الجــودُ والـعـطاء

سميـعُ الشكايـا والدعــاءِ لخـَلــْقِه هو الراحمُ الشـافي له الشـكر والثنــــاء

غـفور الخـطايــا والذنـوبِ لعبده هو الغفّـار الرحـيمُ له الـعـفوُ والـرضـاء

ويا نفسي! استغيثي وابكي مثل قلبي وقولي:

انا فانٍ مَن كان فانيا لا اريد

انا عاجز من كان عاجزاً لا اريد

سلّمت روحي للرحمن، سواه لا اريد

بل اريد .. حبيباً باقياً اريد

انا ذرة.. شمساً سرمداً اريد

انا لا شئ، ومن غير شئ، الموجودات كلَّها اريد.



ثمرة تأمل

في مراعي بارلا، واشجار الصنوبر والقَطِران، والعرعر والحَور الأسود.

[ وهي قطعة من المكتوب الحادي عشر. اخذت هنا لمناسبة المقام ].

بينما كنت على قمة جبل في (بارلا) ايام منفاي، أسرح النظر في اشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمل في هيبة أوضاعها وروعة اشكالها وصورها. اذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع الى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. واذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عبراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ (أحمد الجزري)(1).

هر كس بتماشا كه حسناته زهر جاى تشبيه نكاران بجمالا ته دنازن

أي لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، انهم بجمالك يتغنجون ويدللون.

وتعبيراً عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:

يا رب! هر حى بتماشاكه صنع تو زهر جاى بتازى

يارب! ان كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً الى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.

زنشيب از فرازى مانند دلالان بنداء بآوازى

فهم كالدعاة الادلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى الى جمالك.

دم دم ز جمال نقش تو در رقص بازى

فترقص تلك الاشجار، الادلاّء الدعاة، جذلة من بهجة جمال نقوشك في الوجود.

ز كمال صنع تو خوش خوش بكازى

فتصدر أنغاماً شديَّة واصداءً ندية من نشوة رؤيتهم لكمال صنعتك..

ز شيرينى آواز خود هى هى دنازى

فكأن حلاوة أصدائها، تزيد نشوتها وتهزّها طرباً، فتتغنج بحركات الدلال.

أز وى رقص آمد جذبه خوازى

ولأجل هذا هبّت هذه الاشجار للرقص الجميل، راغبة في الانتشاء والانجذاب.

أزين آثار رحمت يافت هر حى درس تسبيح نمازى

يستلهم كل حي صلاته الخاصة وتسبيحاته المخصوصة من اثار هذه الرحمة الإلهية.

ايستاده هر يكى بر سنك بالا سرفرازى

وبعد التزود بالدرس البليغ، تنتصب كل شجرة قائمة فوق صخرة شماء، فاتحة أيديها متطلعة الى العرش.

دراز كرده است دستهارا بدركاه إلهى همجو شهبازى

لقد تسربلت كل شجرة بسربال العبودية، ومدّت مئات أيديها ضارعة امام عتبة الحضرة الإلهية، كأنها (شهباز قلندر)(1)

به جنبيد است زلفهارا به شوق انكيز شهنازى

وتهز أغصانها الرقيقة كأنها الضفائر الفاتنة لـ (شهناز الجميلة)(2) مثيرة في المشاهد أشواقاً لطيفة وأذواقاً سامية.

به بالا ميزنند أز برده هاى ((هاى هوى)) عشق بازى (1)

لكأن هذا الجمال يهزّ طبقات العشق، بل يمسّ أعمق الأوتار وأشدها حساسية.

ميدهد (هوشه) كيرينهاى درينهاى زوالى أز حب مجازى

امام هذا المنظر المعبّر يرد الفكر هذا المعنى:

يذكّره بأنين حزين، وبكاء مرير، ينبعثان من أعمق الأعماق. المكلوم بألم الزوال الذي يصيب الأحبة المجازية.

بر سر محمودها نغمهاى حزن انكيز أيازى

انه يُسمع انغام الفراق والالم الشجية على رؤوس اشهاد العاشقين المفارقين عن أحبتهم، كما فارق السلطان محمود محبوبه.

مردهارا نغمهاى أزلِى أز حزن انكيز نوازى

وكأن هذه الاشجار بنغماتها الرقيقة الحزينة، تؤدي مهمة إسماع اصداء الخلود لأولئك الأموات الذين انقطعوا عن محاورات الدنيا واصدائها.

((روحه)) مى آيد أزو زمزمهء ناز ونيازى

اما الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد:

ان الأشياء تتوجه الى تجليات اسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها.

قلب مي خواند أزين آياتها: سر توحيد ز علو نظم اعجازى

اما القلب فانه يقرأ من النظم الرفيع لهذا الاعجاز، سر التوحيد في هذه الاشجار كأنها آيات مجسمات.

أي ان في خلق كل منها من خوارق النظام وابداع الصنعة واعجاز الحكمة، ما لو اتحدت أسباب الكون كلها، وأصبحت فاعلة مختارة، لعجزت عن تقليدها.

نفس ميخواهد درين ولوله ها! زلزله ها: ذوق باقى در فناى دنيابازى

اما النفس؛ فكلما شاهدت هذا الوضع للاشجار، رأت كأن الوجود يتدحرج في دوّامات الزوال والفراق. فتحرّت عن ذوقٍ باقٍ، فتلقت هذا المعنى: ((انك ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا)).

عقل مي بيند ازين زمزمه ها دمدمه ها: نظم خلقت نقش حكمت كنز رازى

اما العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الاشجار والحيوانات معاً، ومن انداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم ان كل شئ يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى.

آرزو ميدارد هوا ازين همهمه ها هوهوها مرك خود در ترك اذواق مجازى

اما هوى النفس، فانه يلتذ ويستمتع من حفيف الاشجار وهبوب النسيم ذوقاً لطيفاً ينسيها الأذواق المجازية كلها، حتى انه يريد ان يموت ويفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركه الأذواق المجازية، التي هي جوهر حياته.

خيال بيند ازين اشجار: ملائك را جسد آمد سماوى باهزاران نى

اما الخيال فانه يرى كأن الملائكة الموكلين بهذه الاشجار قد دخلوا جذوعها ولبسوا أغصانها المالكة لقصيبات الناي بانواع كثيرة. وكأن السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب مع آلاف انغام الناي، كي تُظهِر تلك الاشجار أوضاع الشكر والامتنان له بشعور تام، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور.

ازين نيها شنيدت هوش ستايشهاى ذات حى

فتلك النايات مؤثرة الانغام صافيتها، اذ تخرج أصواتاً لطيفة كأنها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق وفي مقدمتهم (مولانا جلال الدين الرومي) بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم الى الحي القيوم.

ورقهارا زبان دارند همه ((هو هو)) ذكردارند به در معناي: حى حى

وإذ صارت الاشجار أجساداً. فقد صارت الأوراق كذلك ألسنة. كل منها تردد بآلاف الالسنة ذكر الله بـ ((هو.. هو..)) بمجرد مسّ الهواء لها. وتعلن بتحيات حياته الى صانعه الحي القيوم

جو ((لاَ اله الا هو)) برابر مى زند هرشى

لاَن جميع الأشياء تقول: ((لا اِله الا هو)) وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى.

دمادم جويدند ((يا حق)) سراسر كويدند: ((يا حي)) برابر ميزنند: ((الله))

فتسأل كل حين من خزينة الرحمة الإلهية، بلسان الاستعداد والفطرة، وتطلب حقوق حياتها، بترديدها: ((يا حق)).

وتذكر جميعاً اسم ((يا حي)) بلسان نيلها لمظاهر الحياة.

فيا حي يا قيوم بحق اسم حى قيوم

حياتى ده به إين قلب بريشان را استقامت ده به إين عقل مشوش را...

آمين

رسالة تستنطق النجوم

كنت يوماً على ذروة قمة من قمم جبل ((جام)) نظرت الى وجه السماء في سكون الليل، واذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنني استمعت خيالاً الى ما تنطق به النجوم بلسان الحال.. كتبتها كما خطرت دون تنسيق على قواعد النظم والشعر لعدم معرفتي بها.

وقد اُخذت الى هنا من المكتوب الرابع، ومن ختام الموقف الاول من الكلمة الثانية والثلاثين.

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

P P P

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

P P P

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

P P P

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة(1).

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

P P P

فنحن لأهل السموات مساجدٌ سيارة ومساكنٌ دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

P P P

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

P P P

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيّرة، ولا يسمع اقوالنا البيّنة.. فنحن آيات ناطقة بالحق.

P P P

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #23
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

] انّا جَعَلْنا ما عَلى الارض زِينَةً لها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسنُ عَمَلاً ^ وإنَّا لَجاعلونَ ما عَلَيْها صَعيداً جُرُزاً[ (الكهف:7ـ8)

] وما الحياةُ الدنيا الاّ لعبٌ ولَهْوٌ[ (الانعام:32)

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين عاليين وذيل ساطع ]

ان الخالق الرحيم والرزاق الكريم والصانع الحكيم قد جعل هذه الدنيا على صورة عيد بهيج واحتفال مهيب ومهرجان عظيم لعالم الارواح والروحانيات، وزيّنها بالآثار البديعة لاسمائه الحسنى، وخلع على كل روح صغيراً كان أم كبيراً، عالياً كان ام سافلاً، جسداً على قدّه وقدره، وجهّزه بالحواس والمشاعر وكل ما يوافقه للاستفادة من الالاء المختلفة والنعم المتنوعة التي لا تعد ولا تحصى، والمبثوثة في ذلك العيد البهيج، والمعروضة في ذلك المهرجان العظيم. ومنح سبحانه لكل روح من تلك الارواح وجوداً جسمانياً (مادياً) وارسلها الى ذلك العيد والمهرجان مرة واحدة، ثم قسّم ذلك العيد الواسع جداً زماناً ومكاناً الى عصور وسنوات ومواسم، بل حتى الى ايام واجزاء ايام، جاعلاً من كل عصر، من كل سنة، من كل موسم، من كل يوم، من كل جزء من يوم، مهرجاناً سامياً وعيداً رفيعاً واستعراضاً عاماً لطائفة من مخلوقاته ذوات ارواح ومن مصنوعاته النباتية، ولا سيما سطح الارض، ولا سيما في الربيع والصيف، جاعلاً اعياداً متعاقبة، الواحد تلو الآخر، لطوائف مصنوعاته الصغيرة جداً، حتى غدا ذلك العيد عيداً رائعاً جذاباً لفت انظار الروحانيات الموجودة في الطبقات العليا والملائكة واهل السموات الى مشاهدته، وجلب انظار اهل الفكر الى مطالعته بمتعة الى حد يعجز العقل عن استكناه متعتها.. ولكن هذه الضيافة الإلهية والعيد الرباني، وما فيهما من تجليات اسم ((الرحمن والمحيي)) يكتنفها الفراق والموت، حيث يبرز اسم الله ((القهار والمميت)) وربما هذا لا يوافق - كما يبدو - شمول رحمته تعالى المذكور في قوله ] ورحمتي وسعت كل شيء[ (الاعراف:156).

ولكن في الحقيقة هناك جهات عدة يظهر فيها الانسجام والموافقة الكاملة مع الرحمة الإلهية، نذكر منها جهة واحدة فقط وهي:

انه بعد انتهاء الاستعراض الرباني لكل طائفة من الطوائف، وبعد استحصال النتائج المقصودة من ذلك العرض، يتفضل الفاطر الرحيم والصانع الكريم على كل طائفة من الطوائف فيمنحهم رغبة في الراحة واشتياقاً اليها وميلاً الى الانتقال الى عالمٍ آخر، ويُسئمهم من الدنيا باشكال من النفور والسأم رحمةً بهم.

وحينما يُرخّصون من تكاليف الحياة ويُسّرحون من وظائفها، ينبّه سبحانه في أرواحهم رغبة قوية وحنيناً الى موطنهم الأصلي. وكما يمنح سبحانه مرتبة الشهادة لجندي بسيط يُقتل في سبيل اداء الخدمة ويهلك في مهمة الجهاد، وكما يمنح الشاة الأضحية وجوداً مادياً في الآخرة ويكافؤها بجعلها مطية كالبراق لصاحبها مارة به على الصراط المستقيم، فليس بعيداً من ذلك الرحمن الكريم ان يمنح لذوي الارواح والحيوانات ثواباً روحانياً يلائمهم وأجراً معنوياً يوافق استعدادهم، من خزينة رحمته الواسعة، بعد ما قاسوا المشقات وهلكوا أثناء اداء وظائفهم الفطرية الربانية الخاصة بهم، وعانوا ما عانوا في طاعتهم للاوامر السبحانية. وذلك لئلا يتألموا ألماً شديداً لدى تركهم الدنيا، بل يكونون راضين مرضيين.. ولا يعلم الغيب الاّ الله.

بيد أن الانسان الذي هو أشرف ذوي الارواح واكثرهم استفادة من هذا العيد - من حيث الكمية والنوعية - يوهب له برحمة من الله ولطف منه حالةً من الشوق الروحي تنفّره عن الدنيا التي ابتلي بها، كي يعبر الى الآخرة بأمان. فالانسان الذي لم تغرق انسانيته في الضلالة يستفيد من تلك الحالة الروحية فيرحل عن الدنيا وقلبه مطمئن بالايمان.

نبين هنا خمسةً من الوجوه التي تورث تلك الحالة الروحية على سبيل المثال:

الوجه الأول: انه سبحانه وتعالى يُظـهر للانســان - بحلـول الشيـخوخة - ختم الفناء والزوال على الاشياء الدنيوية الفتانة، ويفهّمه معانيها المريرة، مما يجعله ينفر من الدنيا ويسرع للتحري عن مطلوب باق خالد بدلاً من هذا الفاني الزائل.

الوجه الثاني: انه تعالى يُشعر الانسان شوقاً ورغبة في الذهاب الى حيث رحل تسعٌ وتسعون بالمائة من أحبته الذين يرتبط معهم والذين استقروا في عالم آخر، فتدفع تلك المحبة الجادة الانسان ليستقبل الموت والأجل بسرور وفرح.

الوجه الثالث: انه تعالى يدفع الانسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواءً بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور اخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود الى الراحة وشوقاً خالصاً للمضي الى ديار اخرى.

الوجه الرابع: انه تعالى يبيّن للانسان المؤمن - بنور الايمان - ان الموت ليس اعداماً بل تبديل مكان، وان القبر ليس فوهة بئر عميق بل باب لعوالم نورانية، وان الدنيا مع جميع مباهجها في حكم سجن ضيق بالنسبة لسعة الآخرة وجمالها. فلا شك ان الخروج من سجن الدنيا والنجاة من ضيقها الى بستان الجنان الاخروية، والانتقال من منغصات الحياة المادية المزعجة الى عالم الراحة والطمأنينة وطيران الارواح، والانسلاخ من ضجيج المخلوقات وصخبها الى الحضرة الربانية الهادئة المطمئنة الراضية، سياحة بل سعادة مطلوبة بألف فداء وفداء.

الوجه الخامس: انه تعالى يفهّم المنصت للقرآن الكريم ما فيه من علم الحقيقة، ويعلّمه بنور الحقيقة ماهية الدنيا، حتى يغدو عشقها والركون اليها تافهاً لا معنى له.. اي يقول له ويثبت:

ان الدنيا كتاب رباني صمداني مفتوح للانظار، حروفه وكلماته لا تمثل نفسها، بل تدل على ذات بارئها وعلى صفاته الجليلة واسمائه الحسنى، ولهذا، افهم معانيها وخذ بها، ودَع عنك نقوشها وامض الى شانك..

واعلم انها مزرعة للآخرة، فازرع واجنِ ثمراتها واحتفظ بها، واهمل قذاراتها الفانية..

واعلم انها مجاميع مرايا متعاقبة، فتعرّف الى مَن يتجلى فيها، وعاين انواره، وادرك معاني اسمائه المتجلية فيها واحبب مسمّاها، واقطع علاقتك عن تلك القطع الزجاجية القابلة للكسر والزوال.. واعلم انها موضع تجارة سيار، فقم بالبيع والشراء المطلوب منك، دون ان تلهث وراء القوافل التي اهملتك وجاوزتك، فتتعب..

واعلم انها متنزّه مؤقت فاسرح ببصرك فيها للعبرة، ودقق في الوجه الجميل المتستر، المتوجه الى الجميل الباقي، واعرض عن الوجه القبيح الدميم المتوجه الى هوى النفس، ولا تبك كالطفل الغرير عند انسدال الستائر التي تريك تلك المناظر الجميلة..

واعلم انها دار ضيافة، وانت فيها ضيف مكرم، فكل واشرب باذن صاحب الضيافة والكرم، وقدّم له الشكر، ولا تتحرك الاّ وفق اوامره وحدوده، وارحل عنها دون ان تلتفت الى ورائك.. واياك أن تتدخل بفضول بامور لا تعود اليك ولا تفيدك بشئ، فلا تغرق نفسك بشؤونها العابرة التي تفارقك.

وهكذا بمثل هذه الحقائق الظاهرة يخفف سبحانه وتعالى عن الانسان كثيراً من آلام فراق الدنيا، بل قد يحببه الى النابهين اليقظين، بما يظهر سبحانه عليه من اسرارحقيقة الدنيا، وانه اثرٍ من آثار رحمته الواسعة في كل شئ، وفي كل شأن. واذ يشير القرآن الكريم الى هذه الوجوه الخمسة، فان آيات كريمة تشير الى وجوه خاصة اخرى كذلك.

فيا لتعاسة من ليس له حظ من هذه الوجوه الخمسة.

المقام الثاني



من الكلمة السابعة عشرة (1)

((انما الشكوى بلاء))

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام وعناء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر. فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

P P P

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في هباء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

P P P

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

ايها المغرور اعلم!

ان السعادة في هذه الدنيا، في تركها.

اما في الترجمة، فقد اقتصرنا على المعنى وحده.ــ المترجم.

ان كنت بالله مؤمناً..فهو حسبك، فلو ادبرتَ عن الدنيا أقبلتْ عليك.

P P P

وان كنت معجباً بنفسك، فذلك الهلاك المبين.

ومهما عملت فالاشياء تعاديك.

فلابد من الترك اذن في كلتا الحالتين.

P P P

وتركها يعني: انها مُلك الله، يُنظر اليها بإذنه وبإسمه،

وان كنت تبغي تجارة رابحة، فهي

في استبدال عمر باقٍ لا يزول بعمرك الفاني الزائل.

P P P

وان كنت تريد رغبات نفسك، فهي زائلة، تافهة، واهية.

وان كنت تتطلع الى الآفاق، فختم الفناء عليها.

P P P

فالمتاع في هذا السوق مزيف. لا يستحق الشراء اذن.

لذا دعه، فالاصيل منه قد اعدّ خلفه..

((غرباء الحيرة))

[ على قمة شجرة التوت الاسود المباركة، ذكر سعيد القديم بلسان سعيد الجديد هذه الحقائق ].

مخاطبي ليس ((ضياء باشا(1))) بل المفتونون باوروبا.

والمتكلم ليس نفسي، بل قلبي تلميذ القرآن.

P P P

ان ((الكلمات)) السابقة حقائق. اياك ان تحار، احذر ان تجاوز حدّها

لا تُزغ، ولا تصغِ الى فكر الاجانب، انه ضلال، يسوقك الى الندم.

P P P

ألا ترى الأوسعَ فكراً والأحدَّ نظراً يقول دوماً في حيرته:

آه! وا أسفى! ممن اشكو، ولمن! فقد ذهلت!

P P P

وأنا أقول ولا اتردد فالقرآن ينطقني:

اشكو منه اليه، ولا اتحير مثلك!

P P P

استغيث من الحق بالحق، لا أتجاوز حدّي.

ادعو من الارض الى السماء، ولا اهرب مثلك!

P P P

في القرآن الكريم: الدعوة كلها؛ من النور والى النور، لا انكث مثلك.

في القران الكريم: الحكمة الصائبة. اثبتها، ولا اعير للفلسفة المخالفة أي اهتمام!

في القرآن الكريم: جواهر الحقائق.

افديها بروحي.. لا ابيعها مثلك!

P P P

أجيل طرفي من الخلق الى الحق، لا اضل مثلك!

اطير فوق الطريق الشائك، لا اطؤها مثلك!

يصعد شكري الى عنان السماء، لا اعصي مثلك!

P P P

ارى الموت صديقاً، لا اخافه مثلك!

ادخل القبر باسماً، لا ارتعد مثلك!

P P P

فمَ تنّين، فِراشَ الوحشة، عتبةَ العدم.. لا اراه مثلك!

بل موضع تلاقي الاحباب.. لا اضجر منه، لا ابغضه مثلك!

P P P

لا اتضايق منه، ولا أهابه.

فهو باب الرحمة، باب النور، باب الحق

اقرعه باسم الله، ولا التفت، ولا تأخذني الدهشة.

سأرقُد قرير العين، حامداً ربي، لا اقاسي ضيقاً، ولا اظل في وحشة.

سأقوم على صدى أذان اسرافيل في فجر الحشر، قائلاً.. ((الله اكبر)).

لا ارهب من المحشر الاكبر!

لا اتخلف من المسجد الاعظم!

P P P

من لطف الله ونور القران الكريم وفيض الإيمان.. لا أيأس اصلاً.

بل اسعى واجري طائراً الى ظل عرش الرحمن.

ولا احار مثلك.. ان شاء الله.

P P P



هذه المناجاة تخطرت في القلب هكذا بالبيان الفارسي

[ كتبت هذه المناجاة كما خطر على القلب، باللغة الفارسية، وقد نشرت ضمن رسالة ((حباب من عمان القرآن الحكيم)).]

يا رب! به شش جهت نظر مىكردم درد خودرا درمان نمىديدم

يا رب! لقد سرحت نظري في الجهات الست، علّني أجد دواءً لدائي، وانا مستند الى اقتداري واختياري غافلاً لا متوكلاً، ولكن وا اسفى لم استطع أن أجد دواءً لدائي.. وقيل لي معنىً: ألا يكفيك الداءُ دواءً.

در راست مي ديدم كه: دى روز مزار بدر من است

نعم! لقد نظرت ـ بغفلة ـ الى الزمان الماضي في يميني، لأجد فيه السلوان، ولكني رأيت ان الأمس قبرُ أبي، وتراءت لي الأيام الخوالي مقبرة كبيرة لأجدادي. فأورثتني هذه الجهة وحشة بدل السلوان(1).

(1) ولكن الايمان يُري تلك المقبرة الكبرى مجلساً منوراً ومجمعاً مؤنساً للأحباب.

ودر جب ديدم كه: فردا قبر من است

ثم نظرت الى المستقبل في اليسار، فلم أستطع أن أجد فيه دواءً. بل تراءى لي الغد في صورة قبري، وتراءى لي المستقبل قبراً لأمثالي ومقبرة للجيل المقبل، فاورثتني هذه الجهة الوحشة بدل السلوان(2).

(2) ولكن الايمان وما يورثه من الاطمئنان يُري تلك المقبرة العظمى دعوة رحمانية الى قصور السعادة اللطيفة.

و امروز: تابوت جسم بر اضطراب من است

وحيث لا جدوى من اليسار، نظرت الى اليوم الحاضر، فرأيت وكأن هذا اليوم تابوت يحمل جنازة جسمي الذي ينتفض انتفاضة المذبوح بين الموت والحياة.(3)

(3) ولكن الايمان يُري ذلك التابوت دار تجارة ودار ضيافة باهرة.

بر سر عمر جنازهء من ايستاده است

فلم أعثر على الدواء في هذه الجهة، ورفعت رأسي ونظرت الى قمة شجرة عمري، ورأيت أن جنازتي هي الثمرة الوحيدة لتلك الشجرة، وهي ترقبني من هناك(4)

(4) ولكن الايمان يُري ان تلك الثمرة ليست جنازة، بل هي انطلاقٌ لروحي المرشّحة للأبد من وكرها القديم لتسرح في النجوم.

در قدم: آب خاك خلقت من وخاكستر عظام من است

فيئستُ من تلك الجهة أيضاً، ،طأطأت رأسي، فرأيت ان رميم عظامي قد اختلط مع تراب مبدأ خلقتي وهو يُداس تحت الأقدام. فزادت - هذه الجهة - داءً لدائي ولم تسعفني بشئ(5).

(5) اما الايمان فقد أظهر ذلك التراب باباً للرحمة،وستاراً دون صالة الجنة.

جون در بس مىنكرم، بينم: اين دنياى بى بنياد هيج در هيج است

فصرفت نظري عن تلك الجهة مولّياً وجهي الى الوراء، ورأيت: ان دنياً فانية تتدحرج في وديان العبث وظلمات العدم. فنفثتْ هذه الجهة سمّ الوحشة والخوف في دائي بدلاً من ان تمنحني العزاء(6).

(6) اما الايمان فقد أظهر ان تلك الدنيا المتدحرجة في الظلمات ما هي الا مكاتيب صمدانية وصحائف نقوش سبحانية أنهت مهامها، وأفادت معانيها، وتركت نتائجها في الوجود بدلاً عنها.

ودر بيش: اندازهء نظر مىكنم، در قبر كشاده است و راه ابد بدورودراز به ديداراست

ولما لم أجد خيراً ايضاً في هذه الجهة رنوت بنظري الى الأمام، ورأيت ان باب القبر مفتوح في بداية طريقي، وتتراءى وراءه من بعيد طريقٌ ممتدة الى الأبد(7).

(7) أما الايمان فقد جعل باب القبر ذاك باباً الى عالم النور، وتلك الطريق طريقاً الى السعادة الخالدة، فأصبح الايمان، بحقٍ مرهماً شافياً لدائي.

مرا جز جزء اختيارى جيزى نيست در دست

وهكذا لم أعثر في هذه الجهات الست على أي سلوانٍ وعزاءٍ بل وجدت استيحاشاً وهلعاً، ولم يكن لي تجاهها مستند سوى جزء اختياري(8).

(8) اما الايمان فانه يسلّمني بدلاً من ذلك الجزء الاختياري وثيقة لأستند بها الى قدرة عظيمة مطلقة، بل الايمان هو الوثيقة نفسها.

كه او جزء هم عاجز، هم كوتاه، وهم كم عيار است

وان ذلك الجزء الاختياري الذي هو سلاح الانسان، عاجز، قاصر، ناقص، لا يمكنه الخلق وليس له الاّ الكسب(9).

(9) الاّ ان الايمان يجعل ذلك الجزء الاختياري كافياً لكل شئ اذ يستعمله في سبيل الله، كالجندي الذي إنسلك في جيش الدولة فينجز ألوف أضعاف قوته من الأعمال.

نه در ماضى مجال حلول، نه در مستقبل مدار نفوذاست

لأن ذلك الجزء الاختياري ليس له القدرة للحلول في الماضي، ولا النفوذ في المستقبل. لذا لا نفع له لآمالي وآلامي الماضية والمستقبلة(10)

(10) ولكن الايمان يأخذ زمام ذلك الجزء الاختياري من الجسم الحيواني ويسلّمه الى القلب والروح، لذا يستطيع ان يحلّ في الماضي وينفذ في المستقبل. حيث دائرة حياة القلب والروح واسعة جداً.

ميدان أو إين زمان حال، ويك آن سيّال است

ان ميدان جولان ذلك الجزء الاختياري هو الوقت الحاضر القصير وهو آن سيّال ليس الاّ.

با إين همه فقرها وضعفها، قلم قدرت تو آشكاره

نوشته است، ((در فطرت ما)): ميل ابد وامل سرمد

علاوة على جميع حاجاتي هذه، وضعفي وفقري وعجزي، وانا تحت هجمات الاستيحاش والمخاوف الواردة من هذه الجهات، فقد اُدرجتْ في ماهيتي آمال ممتدة الى الأبد، وفي فطرتي رغبات سطرت بوضوح بقلم القدرة.

بلكه هرجه هست، هست

بل كل ما في الدنيا، نماذجُه في فطرتي، فأنا على علاقة بجميع تلك الرغبات والآمال، بل أسعى لها، واُدفع الى السعي لها.

دائرهء إحتياج مانند دائرهء نظر بزركى داراست

ان دائرة الحاجة واسعة سعة دائرة النظر.

خيال كدام رسد احتياج نيزرسد، در دست هرجه نيست در إحتياج هست

حتى ان الخيال أينما ذهب، تذهب دائرة الحاجة الى هناك. فالحاجة اذاً هناك أيضاً، بل كل ما ليس في متناول اليد فهو ضمن الحاجة، وما ليس في اليد لا حدّ له.

دائرهء اقتدار همجو دائرهء دست كوتاه كوتاه است

بينما دائرة القدرة ضيقة وقاصرة بقدر ما تصل اليه يدي القاصرة

بس فقر و حاجات ما به قدر جهان است

بمعنى ان فقري وحاجاتي بقدر الدنيا كلها.

سر مايهء ما همجو: ((جزء لايتجزأ)) است

أما رأس مالي فهو شئ جزئي ضئيل.

اين جزء كدام واين كائنات حاجات كدام است؟

أين الحاجات التي بقدر هذا العالم، ولا تستحصل الاّ بالمليارات من هذا الجزء الاختياري الذي لايساوي شيئاً؟.

انه لا يمكن شراء تلك الحاجات بهذا الثمن الزهيد جداً. ولا يمكن ان تستحصل تلك بهذا!.

فلابد اذن من البحث عن وسيلة أخرى.

بس در راه تو أزين جزء نيز بازمىكذشتن جارهء من است

وتلك الوسيلة هي التبرؤ من ذلك الجزء الاختياري وتفويض أمره الى الارادة الإلهية، وتبرؤ المرء من قوة نفسه وحوله والالتجاء الى حول الله وقوته. وبذلك يكون الاعتصام بحبل التوكل.

فيا رب! لما كانت وسيلة النجاة هي هذه. فانني أتخلى عن ذلك الجزء الاختياري واتبرأ من أنانيتي، في سبيلك.

تا عنايت تو دستكير من شود، رحمت بى نهايت توبناه من است

لتأخذ عنايتك بيدي، رحمةً بعجزي وضعفي، ولتكون رحمتك مستندي، رأفة بفقري واحتياجي.. ولتفتح لي بابها.

آن كس كه بحر بى نهايت رحمت يافت، تكيه

نكند برين جزء اختيارى كه يك قطره سراب است

نعم، كل مَن وجد بحر الرحمة الذي لا ساحل له، لا يعتمد على جزئه الاختياري وهو كقطرة سراب، ولا يفوض اليه أمره، من دون تلك الرحمة.

أيواه! اين زندكانى همجو خواب است

وين عمر بى بنياد همجو باد است

يا اسفى، لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرة دائمة. وأضعنا بهذا الظن كل شئ.

نعم، ان هذه الحياة غفوة قد مضت كرؤيا عابرة!

وهذا العمر الذي لا قرار له يذهب ذهاب الريح.

انسان به زوال دنيا به فنا است، آمال بى بقا آلام به بقا است

ان الانسان المغرور، المعتد بنفسه، ويحسبها أبدياً، محكوم عليه بالزوال. انه يذهب سريعاً.

اما الدنيا التي هي مأواه، فستهوي في ظلمات العدم، فتذهب الآمال أدراج الرياح وتبقى الآلام محفورة في الأرواح.

بيا أي نفس نا فرجام! وجود فانى خودرا فدا كن

خالق خودرا كه اين هستى وديعه هست

فتعالى يا نفسي المشتاقة الى الحياة، والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حدّ لها وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية انتبهي وعودي الى رشدك، ألا ترين ان اليراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم، بينما النحل التي لا تعتد بنفسها، تجد ضياء النهار، وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهّبة بضوء الشمس.. كذلك أنتِ، ان اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك، فستكونين كاليراعة. ولكن ان ضحيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك سوف تكونين كالنحل. وتجدين نور وجود لا حدّ له. فضحي بنفسك، اذ هذا الوجود وديعة عندك وامانة لديك.

وملك او أوداه فنا كن تا بقا يابد، ازان

سرى كه: ((نفى النفى)) إثبات است

ثم ان الوجود ملكُه سبحانه وهو الذي وهبه لك، لذا إفديه من دون منّة ولا إحجام، وإفنيه كي يجد البقاء، لأن نفي النفي إثبات.

أي: ان كان العدم معدوماً فهو موجود، وان انعدم المعدم يكون موجوداً.

خداى بر كرم خود ملك خودرا مىخرد أزتو

بهاي بى كران داده براى تو نكهدارد

ان الله يشتري منك ملكه، ويعطيك ثمنه عظيماً، وهو الجنة. وانه يحفظ لك ذلك الملك ويرفع قيمته وثمنه وسيعيده اليك بأبقى صورة واكملها. فيا نفسي! انفذي هذه التجارة فوراً، انها تجارة رابحة في خمسة أرباح، أي تكسبين خمسة أرباح معاً في صفقة واحدة، وتنجين من خمسة خسائر معاً.

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] فَلَمّا أفلَ قالَ لاَ أحِبُّ الآفلين[

[ لقد أبكاني نعي:] لا أحب الآفلين[ من خليل الله ابراهيم عليه السلام الذي ينعي به زوال الكائنات، فصبّت عينُ قلبي قطراتٍ باكيات من شؤون الله، كل قطرة تحمل من الحزن والكمد ما يثير الاشجان ويدفع الى البكاء والنحيب. تلك القطرات هي هذه الابيات التي وردت الى القلب بالفارسية.. وهي نمط من تفسير لكلام خليل الرحمن ونبيه الحكيم كما تضمنته الآية الكريمة: :] لا أحب الآفلين[ ].

نمى ز يباست ((افولده)) كم شدن محبوب

محبوب، يغرق في أفق المغيب! ليس بمحبوب جميل، فالمحكوم عليه بالزوال لن يكون جميلاً حقاً ولا يحبه القلب، اذ القلب الذي خلق أصلاً ليعشق خالداً، ويعكس أنوار الصمد، لا يود الزوال ولا ينبغي له.

نمى ارزد ((غروبده)) غيب شدن مطلوب

مطلوب، محكوم عليه بالأفول! ليس أهلاً أن يرتبط به القلب، ولا يشد معه الفكر؛ لأنه عاجز عن أن يكون مرجعاً للاعمال وموئلاً للآمال. فالنفس لا تذهب عليه حسرات، أتراك يعشقه القلب أو ينشده ويعبده؟.

نمى خواهم ((فناده)) محو شدن مقصود

مقصود، يُمحى في الفناء ويزول! لا أريده. أنا لا أريد فانيا، لاني الفاني المسكين، فماذا يُغني الفانون عني؟

نمى خوانم ((زوالده)) دفن شدن معبود

معبود، يدفن في الزوال! لا أدعوه، ولا أسأله، ولا التجئ اليه، اذ من كان عاجزاً لا يستطيع حتماً من ان يجد دواءً لأدوائي الجسيمة ولا يقدر على ضماد جراحاتي الابدية، فكيف يكون معبوداً من لا يقدر على انقاذ نفسه من قبضة الزوال؟

عقل فرياد مى دارد، نداءِ : ] لا أحب الآفلين[ مى زند روح

أمام هذه الكائنـات المضطربة المنسابة الى الزوال، يصـرخ ((العقـل)) المفتــون بالمظاهر يائساً من الاعماق، كلما رأى زوال معشوقاته.. وتئن ((الروح)) الساعية الى محبوب خالد أنين :] لا أحب الآفلين[ .

لا.. لا أريد الفراق.. لا.. لا اطيق الفراق.

نمي خواهم نمى خوانم نمى تابم فراقي

نمى ارزد ((مراقه)) إين زوال در بس تلاقي

وصال يعقبه الزوال مؤلم، هذه اللقاءات المكدرة بالزوال غير جديرة باللهفة، بل لا يستحق شوقاً وصال يعقبه فراق؛ لان زوال اللذة مثلما هو ألم فان تصور زوال اللذة كذلك ألم مثله، فدواوين جميع شعراء الغزل والنسيب - وهم عشاق مجازيون - وجميع قصائدهم انما هي صراخات تنطلق من آلام تنجم من تصور الزوال هذا، حتى اذا ما استعصرتَ روح ديوان أيٍ منهم فلا تراها الاّ وتقطر صراخاً أليماً ناشئاً من تصور الزوال.

أزان دردى كزين :] لا أحب الآفلين[ مى زند قلبم

فتلك اللقاءات المشوبة بالزوال، وتلك المحبوبات المجازية المورثة للألم، تعصر قلبي حتى يجهش بالبكاء قائلاً: :] لا أحب الآفلين[ على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام.

فان كنت طالباً للبقاء حقاً، وأنت ما زلت في الدنيا الفانية فاعلم:

درين فاني بقا خوازى بقا خيزد ((فنادن)).

ان البقاء ينبثق من الفناء، فجُد بفناء النفس الامارة لتحظى بالبقاء!

فنا شد، هم فدا كن ، هم عدم بين ، كه از دنيا ((بقايه)) راه ((فنادن))

تجرّد من كل خلق ذميم هو مبعث عبادة الدنيا. افنِهِ من نفسك، جُد بماتملكه في سبيل المحبوب الحق. أبصر عقبى الموجودات الماضية نحو العدم فالسبيل في الدنيا الى البقاء انما تمر من درب الفناء.

فكر فيزار مى دارد، أنين :] لا أحب الآفلين[ مى زند وجدان

ويظل "فكر" الانسان السارح في الاسباب المادية في حيرة وقلق أمام مشهد زوال الدنيا، فيستغيث في قنوط.

بينما ((الوجدان)) الذي ينشد وجوداً حقيقياً يتبع خطى سيدنا ابراهيم عليه السلام في أنينه: :] لا أحب الآفلين[ ويقطع أسبابه مع المحبوبات المجازية ويحل حباله مع الموجودات الزائلة،معتصماً بالمحبوب السرمدي..بالمحبوب الحقيقي.

بدان اي نفس نادانم ! كه : درهر فرد أز فاني دو راه هست با باقي ، دو سرّ جان جانانى

فيا نفسي الغافلة الجاهلة! يا سعيد اعلم! انك تستطيع وجدان سبيلين الى البقاء من كل شئ فانٍ في هذه الدنيا الفانية، حتى يمكنك أن تشاهد فيهما لمعتين وسرّين من أنوار جمال المحبوب الدائم، فيما اذا قدرت على تجاوز الصورة الفانية وخرقت حدود نفسك.

كه در نعمتها إنعام هست وبس آثارها أسما بكير مغزى، رميزن در فنا آن قشر بى معنا

نعم!! ان الإنعام يشاهَد طي النعمة، ولطف الرحمن يُستشعر في ثنايا النعمة. فان نفذت من خلال النعمة الى رؤية الإنعام فقد وجدت المنعم.

ثم ان كل أثر من آثار الأحد الصمد انما هو رسالته المكتوبة. كل منه يبين أسماء صانعه الحسنى. فان استطعت العبور من النقش الظاهر الى المعنى الباطن فقد وجدت طريقاً الى الاسماء الحسنى من خلال المسميات.

فما دام في وسعك - يا نفسي - الوصول الى مغزى هذه الموجودات الفانيات ولبّها، فاستمسكي بالمعنى، ودعي قشورها يجرفها سيل الفناء، مزقي الاستار دون حسرة عليها.

بلى اثارها كونيد: ز اسما لفظ بر معنا نجوان معنا، وميزن در هوا آن لفظ بى سودا

نعم! ليس في الموجودات من شئ الا هو لفظ مجسم يفصح عن معاني جليلة، بل يستقرىء أغلب اسماء صانعه البديع.

فما دامت هذه المخلوقات ألفاظ القدرة الإلهية وكلماتها المجسدة، فاقرأيها - يا نفسي - وتأملي في معانيها واحفظيها في أعماق القلب، وارمي بألفاظها التافهة أدراج الرياح دون أسف عليها.. ودون انشغال بها.

عقل فرياد مى دارد، غياث :] لا أحب الآفلين[ ميزن اي نفسم

والعقل المبتلى بمظاهر الدنيا ولا يملك الا معارف آفاقية خارجية، تجره سلسلة أفكاره الى حيث العدم والى غير شئ. فتراه يضطرب من حيرته ويرتعد من هول الموقف فيصرخ يائساً جزعاً، باحثاً عن مخرج من هذا المأزق ليبلغه طريقاً سوياً يوصله الى الحقيقة.

فما دامت الروح قد كفت يدها عن الآفلين الزائلين، والقلب قد ترك المحبوبات المجازية، والوجدان قد أعرض عن الفانيات.. فاستغيثي يا نفسي المسكينة بغياث ابراهيم عليه السلام:] لا أحب الآفلين[ وانقذي نفسك.

جه خوش كويد أو شيدا ((جامي)) عشق خوى:

وانظري! ما أجمل قول ((جامي))(1) ذلك الشاعر العاشق الولهان حتى لكأن فطرته قد عجنت بالحب الإلهي حينما أراد ان يولي الانظار شطر التوحيد ويصرفها عن التشتت في الكثرة... اذ قال:

يكى خواه، يكى خوان، يكى جوى، يكى بين، يكى دان، يكى كوى(2)

أقصد الواحد، فسواه ليس جديراً بالقصد.

أدع الواحد، فما عداه لا يستجيب دعاء

اطلب الواحد، فغيره ليس أهلاً للطلب

شاهد الواحد، فالآخرون لا يشاهَدون دائماً، بل يغيبون وراء ستار الزوال.

اعرف الواحد، فما لا يوصل الى معرفته لا طائل من ورائه.

اذكر الواحد، فما لا يدل عليه من أقوال وأذكار هراء لا يغني المرء شيئاً.

نعم! صدقت أي جامي:

كه ((لا اله الاّ هو)) برابر ميزند عالم

هو المطلوب، هو المحبوب، هو المقصود، هو المعبود.

فالعالم كله، أشبه بحلقة ذكر، وتهليل كبرى يردد بألسنته المتنوعة ونغماته المختلفة: (لا إله الا هو) ويشهد الكل على التوحيد، فيداوي به الجرح البالغ الغور الذي يفجره: :] لا أحب الآفلين[ وكأنه يقول: هيا الى المحبوب الدائم الباقي.. انفضوا أيديكم من كل محبوباتكم المجازية الزائلة.

((لوحتان))

[ كنت قبل خمسة وعشرين عاماً(1) على تل يوشع المطل على البسفور باستانبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب اعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدونني الى حالتي الاولى، فقلت لهم: دعوني وشأني الى الغد، كي استخير ربي. وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان الى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، الاّ انهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة. وقد ألحقتا بختام ((الكلمة الثالثة والعشرين)).ولمناسبة المقام أدرجتا هنا ].



اللوحة الأولـى

[ وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة ]

لا تدعُني الى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

اذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترت نور الحق..

رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة

ان قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم .

وان قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.

اذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً

والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.

والعمل عين الرياء، والأمل عين الألم.

والوصال عين الزوال، والدواء عين الداء.

والأنوار ظلمات، والأحبابُ أيتاماً.

والاصوات نعيات، والأحياء أموات.

وانقلبت العلوم أوهاماً، وفي الحِكَم ألف سقم.

وتحولت اللذائذ آلاماً، وفي الوجود ألفِ عدم.

وان قلتَ: الحبيب! فقد وجدته، آه! كم في الفراق من ألم.

اللوحة الثانية

[ وهي لوحة تشير الى حقيقة الدنيا لدى أهل الهداية ]

لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً.

واذا الوجود برهان ذاته، والحياة مرآة الحق..

واذا العقل مفتاح الكنز، والفناء باب البقاء.

وانطفأت لمعة الكمال، واشرقت شمس الجمال..

فصار الزوال عين الوصال، والألم عين اللذة.

والعمر هو العمل نفسه، والأبد عين العمر.

والظلامُ غلاف الضياء، وفي الموت حياة حقة..

وشاهدت الأشياء مؤنسة، والأصوات ذكراً..

فالموجودات كلها ذاكرات مسبحات.

ولقد وجدت الفقر كنز الغنى وابصرت القوة في العجز.

إن وجدت الله فالاشياء كلها لك.

نعم ان كنت عبداً لمالك الملك، فملكه لك..

وان كنت عبداً لنفسك معجباً بها، فابصر بلاءً وعبئاً بلا عدٍّ، وذقها عذاباً بلا حد.

وان كنت عبداً لله حقاً مؤمناً به، فابصر صفاءً بلا حدٍ، وذق ثواباً بلا عد، ونِل سعادة بلا حدٍ.

مناجاة

[ لقد قرأت قصيدة الاسماء الحسنى للشيخ الكيلاني (قُدس سره) بعد عصر يوم من أيام شهر رمضان المبارك، وذلك قبل خمس وعشرين سنة، فوددت ان اكتب مناجاة بالاسماء الحسنى، فكُتب هذا القدر في حينه، إذ انني اردت كتابة نظيرة لمناجاة استاذي الجليل السامي، ولكن هيهات، فاني لا املك موهبة في النظم. لذا عجزت، وظلت المناجاة مبتورة.

وقد ألحقت هذه المناجاة برسالة ((النوافذ)) وهي المكتوب الثالث والثلاثون ولكن لمناسبة المقام اُخذت الى هنا ].

هو الباقي

حكيمُ القضايا نحـن في قَبْض حُكمه هو الحَكَمُ العـدلُ له الارضُ والســـماءُ

عليمُ الخـفايـا والغيوبُ فـي مُلكـه هو القادرُ القـيـومُ له الـعـــرش والـثراء

لطيفُ المزايا والنقـــوش في صُنعــه هو الفـاطرُ الـودودُ له الحـُــسن والبهاءُ

جليـلُ المرايا والشـؤون في خلقـــه هو الملكُ القـدوسُ له العز والكبريــــاء

بديـع البرايا نحـن من نقش صـُنعـه هو الـدائـمُ الباقي لـــه المـلك والـبـقاءُ

كريمُ العطايا نحن مِن ركبِ ضيفه هو الـرزاقُ الكـافي له الحـمـد والثنـــاء

جميل الهدايا نحن من نسـج علـمـه هو الخالـقُ الـوافـي له الجــودُ والـعـطاء

سميـعُ الشكايـا والدعــاءِ لخـَلــْقِه هو الراحمُ الشـافي له الشـكر والثنــــاء

غـفور الخـطايــا والذنـوبِ لعبده هو الغفّـار الرحـيمُ له الـعـفوُ والـرضـاء

ويا نفسي! استغيثي وابكي مثل قلبي وقولي:

انا فانٍ مَن كان فانيا لا اريد

انا عاجز من كان عاجزاً لا اريد

سلّمت روحي للرحمن، سواه لا اريد

بل اريد .. حبيباً باقياً اريد

انا ذرة.. شمساً سرمداً اريد

انا لا شئ، ومن غير شئ، الموجودات كلَّها اريد.



ثمرة تأمل

في مراعي بارلا، واشجار الصنوبر والقَطِران، والعرعر والحَور الأسود.

[ وهي قطعة من المكتوب الحادي عشر. اخذت هنا لمناسبة المقام ].

بينما كنت على قمة جبل في (بارلا) ايام منفاي، أسرح النظر في اشجار الصنوبر والقَطِران والعَرعرَ، التي تغطي الجهات. وأتأمل في هيبة أوضاعها وروعة اشكالها وصورها. اذ هَبّ نسيم رقيق حوّل ذلك الوضع المهيب الرائع الى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل. واذا بذلك المشهد البهيج السار يتقطر عبراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع. وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ (أحمد الجزري)(1).

هر كس بتماشا كه حسناته زهر جاى تشبيه نكاران بجمالا ته دنازن

أي لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك، انهم بجمالك يتغنجون ويدللون.

وتعبيراً عن معاني العبرة، بكى قلبي على هذه الصورة:

يا رب! هر حى بتماشاكه صنع تو زهر جاى بتازى

يارب! ان كل حي، يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً الى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك.

زنشيب از فرازى مانند دلالان بنداء بآوازى

فهم كالدعاة الادلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى الى جمالك.

دم دم ز جمال نقش تو در رقص بازى

فترقص تلك الاشجار، الادلاّء الدعاة، جذلة من بهجة جمال نقوشك في الوجود.

ز كمال صنع تو خوش خوش بكازى

فتصدر أنغاماً شديَّة واصداءً ندية من نشوة رؤيتهم لكمال صنعتك..

ز شيرينى آواز خود هى هى دنازى

فكأن حلاوة أصدائها، تزيد نشوتها وتهزّها طرباً، فتتغنج بحركات الدلال.

أز وى رقص آمد جذبه خوازى

ولأجل هذا هبّت هذه الاشجار للرقص الجميل، راغبة في الانتشاء والانجذاب.

أزين آثار رحمت يافت هر حى درس تسبيح نمازى

يستلهم كل حي صلاته الخاصة وتسبيحاته المخصوصة من اثار هذه الرحمة الإلهية.

ايستاده هر يكى بر سنك بالا سرفرازى

وبعد التزود بالدرس البليغ، تنتصب كل شجرة قائمة فوق صخرة شماء، فاتحة أيديها متطلعة الى العرش.

دراز كرده است دستهارا بدركاه إلهى همجو شهبازى

لقد تسربلت كل شجرة بسربال العبودية، ومدّت مئات أيديها ضارعة امام عتبة الحضرة الإلهية، كأنها (شهباز قلندر)(1)

به جنبيد است زلفهارا به شوق انكيز شهنازى

وتهز أغصانها الرقيقة كأنها الضفائر الفاتنة لـ (شهناز الجميلة)(2) مثيرة في المشاهد أشواقاً لطيفة وأذواقاً سامية.

به بالا ميزنند أز برده هاى ((هاى هوى)) عشق بازى (1)

لكأن هذا الجمال يهزّ طبقات العشق، بل يمسّ أعمق الأوتار وأشدها حساسية.

ميدهد (هوشه) كيرينهاى درينهاى زوالى أز حب مجازى

امام هذا المنظر المعبّر يرد الفكر هذا المعنى:

يذكّره بأنين حزين، وبكاء مرير، ينبعثان من أعمق الأعماق. المكلوم بألم الزوال الذي يصيب الأحبة المجازية.

بر سر محمودها نغمهاى حزن انكيز أيازى

انه يُسمع انغام الفراق والالم الشجية على رؤوس اشهاد العاشقين المفارقين عن أحبتهم، كما فارق السلطان محمود محبوبه.

مردهارا نغمهاى أزلِى أز حزن انكيز نوازى

وكأن هذه الاشجار بنغماتها الرقيقة الحزينة، تؤدي مهمة إسماع اصداء الخلود لأولئك الأموات الذين انقطعوا عن محاورات الدنيا واصدائها.

((روحه)) مى آيد أزو زمزمهء ناز ونيازى

اما الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد:

ان الأشياء تتوجه الى تجليات اسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها.

قلب مي خواند أزين آياتها: سر توحيد ز علو نظم اعجازى

اما القلب فانه يقرأ من النظم الرفيع لهذا الاعجاز، سر التوحيد في هذه الاشجار كأنها آيات مجسمات.

أي ان في خلق كل منها من خوارق النظام وابداع الصنعة واعجاز الحكمة، ما لو اتحدت أسباب الكون كلها، وأصبحت فاعلة مختارة، لعجزت عن تقليدها.

نفس ميخواهد درين ولوله ها! زلزله ها: ذوق باقى در فناى دنيابازى

اما النفس؛ فكلما شاهدت هذا الوضع للاشجار، رأت كأن الوجود يتدحرج في دوّامات الزوال والفراق. فتحرّت عن ذوقٍ باقٍ، فتلقت هذا المعنى: ((انك ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا)).

عقل مي بيند ازين زمزمه ها دمدمه ها: نظم خلقت نقش حكمت كنز رازى

اما العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الاشجار والحيوانات معاً، ومن انداء الشجيرات والنسائم. وسيفهم ان كل شئ يسبّح للصانع الجليل بجهات شتى.

آرزو ميدارد هوا ازين همهمه ها هوهوها مرك خود در ترك اذواق مجازى

اما هوى النفس، فانه يلتذ ويستمتع من حفيف الاشجار وهبوب النسيم ذوقاً لطيفاً ينسيها الأذواق المجازية كلها، حتى انه يريد ان يموت ويفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركه الأذواق المجازية، التي هي جوهر حياته.

خيال بيند ازين اشجار: ملائك را جسد آمد سماوى باهزاران نى

اما الخيال فانه يرى كأن الملائكة الموكلين بهذه الاشجار قد دخلوا جذوعها ولبسوا أغصانها المالكة لقصيبات الناي بانواع كثيرة. وكأن السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب مع آلاف انغام الناي، كي تُظهِر تلك الاشجار أوضاع الشكر والامتنان له بشعور تام، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور.

ازين نيها شنيدت هوش ستايشهاى ذات حى

فتلك النايات مؤثرة الانغام صافيتها، اذ تخرج أصواتاً لطيفة كأنها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق وفي مقدمتهم (مولانا جلال الدين الرومي) بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم الى الحي القيوم.

ورقهارا زبان دارند همه ((هو هو)) ذكردارند به در معناي: حى حى

وإذ صارت الاشجار أجساداً. فقد صارت الأوراق كذلك ألسنة. كل منها تردد بآلاف الالسنة ذكر الله بـ ((هو.. هو..)) بمجرد مسّ الهواء لها. وتعلن بتحيات حياته الى صانعه الحي القيوم

جو ((لاَ اله الا هو)) برابر مى زند هرشى

لاَن جميع الأشياء تقول: ((لا اِله الا هو)) وتعمل ضمن حلقة ذكر الكائنات العظمى.

دمادم جويدند ((يا حق)) سراسر كويدند: ((يا حي)) برابر ميزنند: ((الله))

فتسأل كل حين من خزينة الرحمة الإلهية، بلسان الاستعداد والفطرة، وتطلب حقوق حياتها، بترديدها: ((يا حق)).

وتذكر جميعاً اسم ((يا حي)) بلسان نيلها لمظاهر الحياة.

فيا حي يا قيوم بحق اسم حى قيوم

حياتى ده به إين قلب بريشان را استقامت ده به إين عقل مشوش را...

آمين

رسالة تستنطق النجوم

كنت يوماً على ذروة قمة من قمم جبل ((جام)) نظرت الى وجه السماء في سكون الليل، واذا بالفقرات الآتية تخطر ببالي، فكأنني استمعت خيالاً الى ما تنطق به النجوم بلسان الحال.. كتبتها كما خطرت دون تنسيق على قواعد النظم والشعر لعدم معرفتي بها.

وقد اُخذت الى هنا من المكتوب الرابع، ومن ختام الموقف الاول من الكلمة الثانية والثلاثين.

واستمع الى النجوم ايضاً، الى حلو خطابها الطيب اللذيذ.

لترى ما قرّره ختم الحكمة النيّر على الوجود.

P P P

انها جميعاً تهتف وتقول معاً بلسان الحق:

نحن براهين ساطعة على هيبة القدير ذي الجلال

P P P

نحن شواهد صدق على وجود الصانع الجليل وعلى وحدانيته وقدرته.

نتفرج كالملائكة على تلك المعجزات اللطيفة التي جمّلت وجه الارض.

P P P

فنحن الوف العيون الباصرة تطل من السماء الى الارض وترنو الى الجنة(1).

نحن الوف الثمرات الجميلة لشجرة الخلقة، علّقتنا يدُ حكمة الجميل ذي الجلال على شطر السماء وعلى اغصان درب التبانة.

P P P

فنحن لأهل السموات مساجدٌ سيارة ومساكنٌ دوّارة وأوكار سامية عالية ومصابيح نوّارة وسفائن جبارة وطائرات هائلة!

P P P

نحن معجزات قدرة قدير ذي كمال وخوارق صنعة حكيم ذي جلال. ونوادر حكمة ودواهي خلقة وعوالم نور.

P P P

هكذا نبيّن مائة الف برهان وبرهان، بمائة الف لسان ولسان، ونُسمعها الى مَن هو انسان حقاً.

عميت عين الملحد لا يرى وجوهنا النيّرة، ولا يسمع اقوالنا البيّنة.. فنحن آيات ناطقة بالحق.

P P P

سكتنا واحدة، طُرتنا واحدة، مسبّحات نحن عابدات لربنا، مسخّرات تحت امره.

نذكره تعالى ونحن مجذوبات بحبّه، منسوبات الى حلقة ذكر درب التبانة.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #24
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثامنة عشرة



[ لهذه الكلمة مقامان . ولم يكتب بعدُ المقام الثاني. والمقام الاول عبارة عن ثلاث نقاط ].

C النقطة الاولى:

بسم الله الرحمن الرحيم

] لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبّون ان يُحمَدوا بما لم يفعَلوا، فلا تحسبنّهم بمفازةٍ من العذاب ولهم عذابٌ أليمٌ [ (آل عمران: 188)



لطمةُ تأديب لنفسي الامارة بالسوء!

يا نفسي المغرمة بالفخر، المعجبة بالشهرة، الهائمة وراء المدح والثناء!

يا نفسي الغويّة!

ان كانت بذيرة التين التي هي منشأ ألوف الثمرات، والساق النحيفة الصلبة التي تعلقت بها مئات العناقيد.. ان كانت هذه الثمرات والعناقيد من عمل تلك البذيرة والساق ومن مهارتهـما لزم كل من يستفيد من تلـك النتائج ان يبدي المدح ويظهر الثناء لهما! اقول: ان كانت هذه الدعوى حقاً، فلربما يكون لكِِ - يا نفسي - حقٌ ايضاً في الفخر والغرور لما حُمّلتِ من النعم.

بينما انتِ لا تستحقين الاّ الذم، لانك لستِ كتلك البذيرة ولا كتلك الساق، وذلك لما تحملين من جزء اختياري. فتنتقصين بفخركِ وغروركِ من قيمة تلك النعم وتبخسين حقها، وتبطلينها بكفرانك النعم، وتغتصبينها بالتملك.

فليس لكِ الفخر، بل الشكر. ولا تليق بكِ الشهرة، بل التواضع والحياء. وما عليكِ الا الاستغفار، وملازمة الندم، لا المدح، فليس كمالك في الانانيةِ، بل في الاستهداء.

نعم! يا نفسي! انتِ في جسمي تشبهين الطبيعة في العالم، فانتما (النفس والطبيعة) قد خُلقتما قابلين للخير، مرجعيَن للشر. اي انتما لستما الفاعل ولا المصدر، بل المنفعل ومحل الفعل، الاّ ان لكما تأثيراً واحداً فقط وهو تسببكما في الشر، عند عدم قبولكما الخير الوارد من الخير المطلق قبولاً حسناً.

ثم انكما قد خُلقتما ستارين، كي تُسند اليكما المفاسد والقبائح الظاهرية التي لا يُشاهد جمالُها، لتكونا وسيلتين لتنزيه الذات الإلهية الجليلة. ولكنكما قد لبستما صورة تخالف وظيفتكما الفطرية، اذ تقلبان الخير الى شر لإفتقاركما الى القابليات، فكأنكما تشاركان خالقكما في الفعل!

فالذي يعبد النفس ويعبد الطبيعة اذاً في منتهى الحماقة ومنتهى الظلم.

فيا نفسي!

لا تقولي: انني مظهر الجمال، فالذي ينال الجمال يكون جميلاً.. كلا، انكِ لم تتمثلي الجمال تمثلاً تاماً، فلا تكونين مظهراً له بل ممراً اليه.

ولا تقولي ايضاً:

انني قد اُنتُخبتُ من دون الناس كلهم، وهذه الثمرات انما تظهر بوساطتي، بمعنى ان لي فضلاً ومزيّة! كلا.. وحاشَ لله.. بل قد اُعطيتِ تلك الثمرات لانكِ أحوج الناس اليها، واكثرهم إفلاساً واكثرهم تألماً(1).

C النقطة الثانية:

نوضح سراً من أسرار الآية الكريمة:] أحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ[ (السجدة:8)

نعم، إنَّ كل شئ في الوجود، بل حتى ما يبدو أنه أقبح شئ، فيه جهة حُسنٍ حقيقية، فما من شئ في الكون، وما من حادث يقع فيه إلاّ وهو جميل بذاته، أو جميل بغيره، أي جميل بنتائجه التي يفضي اليها..

فهناك من الحوادث التي يبدو في ظاهر أمرها قبيحاً مضطرباً ومشوشاً، الاّ أنَّ تحت ذلك الستار الظاهري أنواعاً من جمال رائق، وأنماطاً من نظم دقيقة.

فتحت حجاب الطين والغبار والعواصف والأمطار الغزيرة في الربيع تختبئ ابتسامات الأزهار الزاهية بروعتها، وتحتجب رشاقة النباتات الهيفاء الساحرة الجميلة..

وفي ثنايا العواصف الخريفية المدمرة المكتسحة للأشجار والنباتات، والهازة للأوراق الخضراء من فوق الأفنان، حاملةً نذر البين، وعازفةً لحن الشجن والموت والأندثار، هناك بشارة الانطلاق من أسر العمل لملايين الحشرات الرقيقة الضعيفة التي تتفتح للحياة في أوان تفتح الأزهار، فتحافظ عليها من قَرّ الشتاء وضغوط طقسه، فضلاً عن أن أنواء الشتاء القاسية الحزينة تهئ الأرض استعداداً لمقدم الربيع بمواكبه الجميلة الرائعة.

نعم! إن هناك تفتحاً لأزهار معنوية كثيرة تختبئ تحت ستار عصف العواصف إذا عصفت وزلزلة الأرض إذا تزلزلت، وانتشار الأمراض والأوبئة إذا انتشرت.

فبذور القابليات، ونوى الاستعدادات الكامنة - التي لم تستنبت بعدُ - تتسنبل وتتجمل نتيجة حوادث تبدو قبيحة في ظاهر شأنها، حتى كأن التقلبات العامة، والتحولات الكلية في الوجود إن هي الاّ امطارٌ معنوية تنزل على تلك البذور لتستنبتها.

بَيْدَ ان الأنسان المفتون بالمظاهر والمتشبث بها والذي لا ينظر الى الامور والأحداث الاّ من خلال أنانيته ومصلحته بالذات، تراه تتوجه أنظارُه الى ظاهر الامور، وتنحصر فيها، فيحكم عليها بالقبح!..

وحيث أنه يزن كل شئ بحسب نتائجه المتوجهة اليه فحسب تراه يحكم عليه بالشر! علماً أن الغاية من الأشياء إنْ كانت المتوجهة منها الى الانسان واحدةً، فالمتوجهة منها الى أسماء صانعها الجليل تعدُّ بالالوف. فمثلاً:

الاشجار والاعشاب ذات الاشواك التي تدمي يد الانسان الممتدة اليها يتضايق منها الانسان ويراها شيئاً ضاراً لا جدوى منه، بينما هي لتلك الاشجار والأعشاب في منتهى الأهمية حيث تحرسها وتحفظها مِمّنْ يريد مسَّها بسوء.

ومثلاً: انقضاض العقاب على العصافير والطيور الضعيفة يبدو منافياً للرحمة، والحال ان انكشاف قابليات تلك الطيور الضعيفة وتحفيزها للظهور لا يتحقق الاّ اذا أحسَّت بالخطر المحدق بها، وشعرت بقدرة الطيور الجارحة على التسلّط عليها..

ومثلاً: ان هطول الثلوج الذي يغمر الأشياء في فصل الشتاء ربما يثير بعض الضيق لدى الأنسان، لأنه يحرمه من لذة الدفء ومناظر الخضرة، بينما تختفي في قلب هذا الجليد غايات دافئة جداً ونتائج حلوة يعجز الانسان عن وصفها.

ثم ان الانسان من حيث نظره القاصر يحكم على كل شئ بوجهه المتوجه الى نفسه، لذا يظن أن كثيراً من الامور التي هي ضمن دائرة الآداب المحضة أنها مجافية لها، خارجة عنها... فالحديث عن عضو تناسل الانسان - مثلاً - مخجل فيما يتبادله من أحاديث مع الآخرين. فهذا الخجل منحصر في وجهه المتوجه للانسان، الاّ أن أوجهه الأخرى، أي من حيث الخلقة ومن حيث الاتقان ومن حيث الغايات التي وجد لأجلها، موضع أعجاب وتدبر.. فكلُّ من هذه الأوجه التي فطر عليها إنما هي وجهٌ جميل من أوجه الحكمة، واذا هي - بهذا المنظار - محض أدب لا يخدش الحديث عنها الذوق والحياء..

حتى أن القرآن الكريم - الذي هو منبع الأدب الخالص - يضم بين سوره تعابير تشير إشارات في غاية اللطف والجمال الى هذه الوجوه الحكيمة والستائر اللطيفة، فما نراه قبحاً في بعض المخلوقات، والآلام والأحزان التي تخلفها بعض الأحداث والوقائع اليومية لا تخلو أعماقُها قطعاً من أوجه جميلة، وأهداف خيرة، وغايات سامية، وحكم خبيئة، تتوجه بكل ذلك الى خالقها الكريم كما قدّر وهدى وأراد. فالكثير من الامور التي تبدو - في الظاهر - مشوشة مضطربة ومختلطة، إن انعمتَ النظر الى مداخلها طالعتك - من خلالها - كتابات ربانية مقدسة رائعة، وفي غاية الجمال والانتظام والخير والحكمة.

C النقطة الثالثة:

قال تعالى ] قل إن كنتم تُحبّون الله فاتّبعوني يُحْببكُم الله[ (آل عمران:31)

ما دام حسن الصنعة موجوداً في الكون، وهو أمر قطعي كما يشاهد، يلزم اذاً ثبوت الرسالة الأحمدية عليه الصلاة والسلام بقطعية يقينية بدرجة الشهود؛ لأن حسن الصنعة وجمال الصورة في هذه المصنوعات، يدلان على أن في صانعها إرادة تحسين وطلب تزيين في غاية القوة، وان ارادة التحسين وطلب التزيين يدلان على أن في صانعها محبة علوية ورغبة قدسية لإظهار كمالات صنعته التي في مصنوعاته، وان تلك المحبة والرغبة تقتضيان قطعاً تمركزهما في اكمل وأنور المصنوعات وأبدعها، الا وهو الانسان. ذلك لأن الانسان هو الثمرة المجهّزة بالشعور والادراك لشجرة الخلق، وان الثمرة هي اجمع جزء وأبعده من جميع اجزاء تلك الشجرة، وله نظر عام وشعور كلي.

فالفرد الذي له نظر عام، وشعور كلي هو الذي يصلح ان يكون المخاطب للصانع الجميل والماثل في حضوره، ذلك لأنه يصرف كل نظره العام وعموم شعوره الكلي الى التعبد لصانعه والى استحسان صنعته وتقديرها والى شكر آلائه ونعمه.. فبالبداهة يكون ذلك الفرد الفريد هو المخاطب المقرب والحبيب المحبوب.

والآن تشاهَد لوحتان ودائرتان:

احداهما: دائرة ربوبية في منتهى الانتظام وغاية الروعة والهيبة ولوحة صنعة بارعة الجمال وفي غاية الاتقان.

والاخرى: دائرة عبودية منوّرة مزهّرة للغاية، ولوحة تفكر واستحسان وشكر وايمان في غاية الجامعية والسعة والشمول، بحيث ان دائرة العبودية هذه تتحرك بجميع جهاتها باسم الدائرة الاولى وتعمل بجميع قوتها لحسابها.

وهكذا يفهم بداهة أن رئيس هذه الدائرة الذي يخدم مقاصد الصانع المتعلقة بمصنوعاته تكون علاقته مع الصانع قوية متينة، ويكون لديه محبوباً مرضياً عنده.

فهل يقبل عقلٌ الاّ يبالي ولا يهتم صانع هذه المصنوعات المزينة بانواع المحاسن ومنعم هذه النعم، المراعي لدقائق الاذواق حتى في أفواه الخلق، هل يعقل الاّ يبالي بمثل هذا المصنوع الأجمل الاكمل، المتوجه اليه بالتعبد، والاّ يهتم بمثل هذا المخلوق الذي هزّ العرش والفرش بتهليلات استحسانه وتكبيرات تقديراته لمحاسن صنعة ذلك الصانع، فاهتزّ البر والبحر انتشاءً من نغمات حمده وشكره وتكبيراته لنعم ذلك الفاطر الجليل؟ وهل يمكن الاّ يتوجه اليه؟ وهل يمكن الاّ يوحي اليه بكلامه؟ وهل يمكن الاّ يجعله رسولاً؟ والاّ يريد ان يسري خُلُقه الحسن وحالاته الجميلة الى الخلق اجمعين؟

كلا! بل لا يمكن ألاّ يمنحه كلامه والاّ يجعله رسولاً للناس كافة .

] ان الدين عند الله الاسلام[ (آل عمران: 19)

] محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم[ (الفتح:29)

* * *

أنّات بكاء لقلب آسٍ، فجر أيام اسر مليئة بالفراق والاغتراب

نسيم التجلي يهبّ وقت الاسحار، فأنتبهى يا عيني في السحر، واسألي المولى العناية، فالسحر متابة المذنبين، فهب يا قلبي تائباً في الفجر مستغفراً لدى باب مولاك.

سحر حشريست ، درو هشيار در تسبيح همه شى..

بخواب غفلت سرسم نفسم حتى كى؟..

عمر عصريست سفر با قبرمى بايد زهر حى..

بيرخيز نمازى جونيازى كو بكن آوازى جون نى..

بكو: يارب بشيمانم خجيلم شرمسارم از كناه بى شمارم بريشانم ذليلم اشك بارم از حيات بىقرارم غريبم بى كسم ضعيفم ناتوانمم عليلم عاجزم اختيارم بى اختيارم الأمان كويم عفو جويم مدد خواهم ز دركاهت إلهي.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #25
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة التاسعة عشرة

تخص الرسالة الأحمدية

وما مدحتُ محمداً بمقالتي ولكن مدحتُ مقالتي بمحمد عليه الصلاة والسلام.

نعم! ان هذه الكلمة جميلة، ولكن الشمائل المحمدية التي تفوق الحسن هي التي جمّلتها.

تتضمن هذه الكلمة ((اللمعة الرابعة عشرة)) أربع عشرة رشحة(1):

C الرشحة الأولى:

إن ما يُعرّف لنا ربَّنا هو ثلاثة معرّفين أدلاّء عظام:

أوله: كتاب الكون، الذي سمعنا شيئاً من شهادته في ثلاث عشرة لمعة (من لمعات المثنوي العربي النوري).

ثانيه: هو الآية الكبرى لهذا الكتاب العظيم، وهو خاتم ديوان النبوة e .

ثالثه: القرآن الحكيم.

فعلينا الآن أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق، وهو خاتم الانبياء وسيد المرسلين e وننصت اليه خاشعين.

إعلم! ان ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة. فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟

قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجده، ومكةُ محرابه، والمدينة منبره.. وهو امام جميع المؤمنين يأتمون به صافّين خَلْفَه.. وخطيب جميع البشر يبيّن لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيس جميع الأنبياء يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيد جميع الأولياء يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرة حلقة ذكر تركّبَت من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء باساساتهم السماوية، واغصانها الخضرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيّرة هي الأولياء بمعارفهم الالهامية. فما من دعوى يدّعيها الاّ ويشهدُ له جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوىً من دعاويه خواتمُ جميع الكاملين، اذ بينما تراه قال: (لا إله الا الله) وادّعى التوحيد فاذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفّين النورانيين – أي شموس البشر ونجومه القاعدين في دائرة الذكر – عينَ تلك الكلمة، فيكررونها ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالاجماع: ((صَدَقت وبالحق نطقت)). فأنّى لوهمٍ أن يَمدَّ يده لردِّ دعوىً تأيّدتْ بشهادات مَنْ لا يُحَد من الشاهدين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.

C الرشحة الثانية:

إعلم! إن هذا البُرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشر اليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه نبوةً وولايةً من الاجماع والتواتر.. كذلك تصدّقُه مئاتُ إشارات الكتب السماوية من بشارات التوراة والانجيل والزبور وُزُبرِ الأولين(1).. وكذلك تصدِّقُه رموز ألوف الارهاصات الكثيرة المشهودة، وكذا تصدِّقُه دلالات معجزاته من أمثال: شق القمر، ونبعان الماء من الأصابع كالكوثر ومجئ الشجر بدعوته، ونزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلّم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر، الى ألفٍ من معجزاته كما بيّنها الرواة والمحدثون المحققون.. وكذا تصدِّقه الشريعة الجامعة لسعادات الدارين.

واعلم! أنه كما تصدِّقه هذه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدقّه الدلائل الأنفسية؛ اذ اجتماع اعالي جميع الاخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضل جميع السجايا الغالية والخصائل النزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سيره، وكمال جدّيته وكمال متانته، وكذا قوة أمنيته في حركاته بشهادة قوة إطمئنانه.. تصدِّقه كالشمس الساطعة في دعوى تمسّكه بالحق وسلوكه الحقيقة.

C الرشحة الثالثة:

إعلم! إن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول. فإن شئت فتعال لنذهب الى خير القرون وعصر السعادة النبوية لنحظى بزيارته الكريمةe ولو بالخيال - وهو على رأس وظيفته يعمل. فافتح عينيك وانظر! فإنّ أولَ ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارق، له حسنُ صورة فائقة، في حُسن سيرة رائقة. فها هو آخذٌ بيده كتاباً معجِزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً، يبلّغ خطبةً أزليةً ويتلوها على جميع بَني آدم، بل على جميع الجن والانس، بل على جميع الموجودات.

فيا للعجب! ما يقول؟.. نعم! إنه يقول عن أمرٍ جسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم، إذ يشرح ويحل اللغز العجيب في سرِّ خِلْقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سرِّ حكمة الكائنات، ويوضِّح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقول وأوقعتها في الحيرة، إذ هي الأسئلة التي يَسأل عنها كلُّ موجود. وهي: مَنْ أنتَ؟ ومِن أين؟ والى أين؟.

C الرشحة الرابعة:

انظر! الى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نوّاراً، ومن الحق نوراً مضيئاً، حتى صيَّر ليلَ البشر نهاراً وشتاءه ربيعاً؛ فكأن الكائنات تبدَّل شكلُها فصار العالَم ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً.. فإذا ما نظرت الى الكائنات خارجَ نور إرشاده؛ ترى في الكائنات مأتماً عمومياً، وترى موجوداتها كالأجانب الغرباء والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضاً، بل يعاديه، وترى جامداتها جنائز دهّاشة، وترى حيواناتها واناسيّها أيتاماً باكين بضربات الزوال والفراق.

فهذه هي ماهية الكائنات عند مَنْ لم يدخل في دائرة نوره. فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، الى الكائنات. كيف تراها؟.. فانظر! قد تبدّل شكلُ العالم، فتحوّل بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر ومجلسَ الجذبة والشكر، وتحوّل الأعداءُ الأجانب من الموجودات أحباباً وإخواناً، وتحوّل كلٌ من جامداتها الميتة الصامتة حيّاً مؤنساً مأموراً مسخَّراً ناطقاً بلسان حاله آيات خالقه، وتحوّل ذوو الحياة منها - الأيتام الباكون الشاكون - ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لتسريحهم عن وظائفهم.

C الرشحة الخامسة:

لقد تحوّلت بذلك النور حركاتُ الكائنات وتنوعاتُها وتغيراتُها من العبثية والتفاهة وملعبة المصادفة الى مكاتيب ربانية، وصحائف آياتٍ تكوينية، ومرايا اسماء إلهية . حتى ترقّى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.

وانظر الى الانسان كيف ترقَّى من حضيض الحيوانية الذي هوى اليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل، ترقّى الى أوج الخلافة بتنور ذلك العقل والعجز والفقر. فانظر كيف صارت أسبابُ سقوطه - من عجز وفقر وعقل - أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني.

فعلى هذا، لو لم يوجد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والأنسان، وكلُ شئ الى درجة العدم؛ لاقيمة ولا أهمية لها. فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة من مثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكن الكائنات، اذ لا معنى لها بالنسبة إلينا.

C الرشحة السادسة:

فان قلت: مَنْ هذا الشخص الذي نراه قد صار شمساً للكون، كاشفاً بدينه عن كمالات الكائنات؟ وما يقول؟.

قيل لك: انظر واستمع الى ما يقول: ها هو يُخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعو الناس اليها. وهو دلالُ محاسن سلطنة الربوبية ونَظَّارُها، وكشّافُ مخفيّات كنوز الأسماء الألهية ومعرِّفُها.

فانظر اليه من جهة وظيفته (رسالته)؛ تَرهُ برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.

ثم انظر اليه من جهة شخصيته (عبوديته)؛ تَرَهُ مثالَ المحبة الرحمانية وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الأنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمرات شجرة الخلقة.

ثم انظر! كيف أحاط نورُهُ ودينُه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب ما يقرُب من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته، بحيث تُفدي لها ارواحَها. فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بلا مغالطة في مدّعيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعياته، وهو: ((لا إله إلا الله)) بجميع مراتبها؟…

C الرشحة السابعة:

فإن شئت أن تعرف ان ما يحرّكه، إنما هو قوة قدسية، فانظر الى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميعَ أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة؟ وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيّرهم معلمي العالم الأنساني وأساتيذ الامم المتمدنة.

فانظر! ليست سلطنتُه على الظاهر فقط؛ بل ها هو يفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الأرواح والنفوس، حتى صار محبوبَ القلوب ومعلّمَ العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.

C الرشحة الثامنة:

من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة - كالتدخين مثلاً - من طائفة صغيرة بالكلية، قد يَعْسَرُ على حاكم عظيم، بهمّةٍ عظيمة، مع انا نرى هذا النبي الكريم e قد رفع بالكلّية، عاداتٍ كثيرة، من أقوام عظيمة، متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسيّاتهم، رفعها بقوةٍ جزئية، وهمّة قليلة في ظاهر الحال، وفي زمان قصير، وغَرَسَ بدَلَها برسوخ تامٍ في سجيتهم عادات عالية، وخصائلَ غالية. فيتراءى لنا من خوارق اجراآته الأساسية ألوفَ ما رأينا، فمَن لم يَر هذا العصر السعيد نُدخل في عينه هذه الجزيرة ونتحداه. فليجربْ نفسه فيها. فليأخذوا مائةً من فلاسفتهم وليذهبوا اليها وليعملوا مائة سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله e في سنة بالنسبة الى ذلك الزمان؟!



C الرشحة التاسعة:

إعلم! إن كنت عارفاً بسجية البشر أنه لا يتيسّر لعاقل أن يدّعي - في دعوىً فيها مناظرة - كذباً يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حرج وبلا تردد وبلا إضطراب يشير الى حيلته، وبلا تصنع وتهيج يوميان الى كذبه، أمام أنظار خصومه النقّادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بمكانة حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لحماية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، مقابل خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوىً عظيمة؟

وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا تحرج وبلا تخوف وبلا إضطراب وبصفوة صميمية، وبجدّية خالصة، وبطرز يثير اعصاب خصومه، بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزتهم، باسلوب شديد علويّ. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص، في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلا! ] إن هو إلاّ وحْيٌ يُوحى[ .

نعم! إن الحق أغنى من أن يَدلس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلس عليه! نعم! إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرَه النفّاذ منزّهٌ من أن يلتبس عليه الخيالُ بالحقيقة..

C الرشحة العاشرة:

انظر واستمعْ الى ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة، ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، جالبة للعقول الى الدقة والنظر؛ إذ من المعلوم أن شوق كشف حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل حب الاستطلاع واللهفة والاهتمام الى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لو قيل لك: إن افديت نصفَ عمرك، أو نصفَ مالك؛ لنزل من القمر أو المشتري شخصٌ يُخبرك بغرائب أحوالهما، ويخبرك بحقيقة مستقبل أيامك؟ أظنك ترضى بالفداء. فيا للعجب؟ ترضى لدفع ما تتلهف اليه بنصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هـذا النـبي الـكريم e ويصـدِّقه إجماعٌ اهل الشهود وتواتر أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين! بينما هو يبحث عن شؤون سلطانٍ، ليس القمر في مملكته إلاّ كذباب يطير حول فراش، وهذا يحوم حول سراج من بين ألوف من القناديل التي أسرجها في منزل من بين ألوف منازله الذي أعدّه لضيوفه.. وكذا يخبر عن عالمٍ هو محل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، بحيث لو انفلقت الارضُ وتطايرت جبالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار غرائب ذلك الانقلاب. فإن شئت فاستمع من لسانه أمثال السور الجليلة:

] اِذا الشَّمْسُ كُوِّرتْ [ و ] اِذا السّمآء انْفَطَرَتْ[ و] اِذا زُلْزِلَت الأرضُ زِلْزَالَها[ و] الْقارعة[ .

وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة اليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة الى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة اليها الاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة الى شمس سرمدية.

C الرشحة الحادية عشرة:

ان تحت حجاب هذه الكائنات - ذات العجائب والأسرار - تنتظرنا أمورٌ أعجب. ولابدَّ للإخبار عن تلك العجائب والخوارق من شخصٍ عجيبٍ خارقٍ يُستَشفّ من أحواله أنه يشاهِد ثم يَشهد، ويَبصُر ثم يُخبر.

نعم! نشاهد من شؤونه واطواره أنه يشاهد ثم يشهَد فيُنذر ويبشر. وكذا يُخبر عن مرضيات رب العالمين - الذي غمرنا بنعمه الظاهرة والباطنة - ومطالبه منا وهكذا...

فيا حسرة على الغافلين! ويا خسارة على الضالين! ويا عجبا من بلاهة اكثر الناس! كيف تعامَوا عن هذا الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة؟ لا يهتمون بكلام هذا النبي الكريم e مع أن من شأن مِثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع اليه بترك الدنيا وما فيها؟

C الرشحة الثانية عشرة:

اعلم أن هذا النبي الكريم e المشهود لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية، كما أنه برهانٌ ناطق صادق على الوحدانية، ودليل حقٍ بدرجة حقانية التوحيد، كذلك هو برهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصول السعادة الأبدية ووسيلة وصولها، كذلك بدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة الأبدية ووسيلة ايجادها ..

فإن شئت فانظر اليه وهو في الصلاة الكبرى، التي بعظمة وسعتها صيّرت هذه الجزيرة بل الارض مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر انه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجة كأنه هو امامٌ في محراب عصره واصطفَّ خلفَه، مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم(عليه السلام) الى هذا العصر الى آخر الدنيا في صفوف الاعصار مؤتميّن به ومؤمِّنين على دعائه. ثم استمع ما يفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة.. فها هو يدعو لحاجةٍ شديدة عظيمة عامة بحيث تشترك معه في دعائه الأرضُ بل السماء بل كل الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: نعم يا ربنا تقبّل دعاءه؛ فنحن ايضاً بل مع جميع ما تجلّى علينا من أسمائك نطلب حصولَ ما يطلب هو.. ثم انظر الى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرع؛ بافتقار عظيم، في اشتياق شديد، وبحزن عميق، في محبوبية حزينة؛ بحيث يهيّج بكاء الكائنات فيبكيها فيُشركها في دعائه. ثم انظر لأي مقصد وغاية يتضرع؟ ها هو يدعو لمقصد لولا حصول ذاك المقصد لسقط الانسانُ، بل العالم، بل كل المخلوقات الى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقّى الموجودات الى مقامات كمالاتها.. ثم انظر كيف يتضرع باستمداد مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرش والسموات، ويهيّج وَجْدها، حتى كأن العرشَ والسموات يقول: آمين اللّهم آمين.. ثم انظر ممن يطلب مسؤلَه؛ نعم! يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمَع أخفى دعاء من أخفى حيوان في أخفى حاجة؛ إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياةٍ في أدنى غايةٍ، اذ يوصله اليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويكرم ويرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم. لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير من سميع عليم ومن بصير حكيم.

C الرشحة الثالثة عشرة:

فيا للعجب!.. ما يطلب هذا الذي قام على الأرض، وجَمَع خلفه جميع افاضل بني آدم ورفع يديه متوجهاً الى العرش الاعظم يدعو دعاءً يؤمّن عليه الثقلان. ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوع الانسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن، ويستشفع بجميع الاسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعو وتطلب تلك الأسماء عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هو يطلب البقاء واللقاء والجنة والرضا. فلو لم يوجد مالا يعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات - المتوقف كونها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة - وكذا جميع الأسماء القدسية أسباباً مقتضية لها، لكفى دعاء هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُه له ولأبناء جنسه الجنة، كما يُنشئ لنا في كل ربيع جناناً مزينة بمعجزات مصنوعاته. فكما صارت رسالته سبباً لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سبباً لفتح دار الآخرة للمكافآت والمجازاة.

فهل يمكن أن يقبل هذا الانتظام الفائق، في هذه الرحمة الواسعة، في هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، في هذا الجمال بلا قبح - بدرجة أنطق أمثال الغزالي بـ (ليس في الامكان أبدع مما كان) أن تتغير هذه الحقائق الى قبح خشين، وظلم موحش، وتشوش عظيم. أي بعدم مجئ الآخرة؟ إذ سماع أدنى صوت من أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولها بأهمية تامة، مع عدم سماع أرفع صوت ودعاء في أشد حاجة، وعدم قبول أحسن مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح وقصور لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلاّ.. لا يقبل مثل هذا الجمال المشهود بلا قصور مثل هذا القبح المحض.

فيا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردت الإحاطة فلا يمكن، بل لو بقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما احطنا ولا مللنا من النظر بجزء واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب اجراآته..

فلنرجع القهقرى، ولننظر عصراً عصراً، كيف اخضرت تلك العصور واستفاضت من فيض هذا العصر؟ نعم، ترى كل عصر تمر عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمر كلُ عصر من امثال أبي حنيفة والشافعي وأبي يزيد البسطامي وجنيد والشيخ عبد القادر الكيلاني.. والامام الغزالي والشاه النقشبندي والامام الرباني ونظـائـرهم ألوف ثمـراتٍ منـوراتٍ من فيض هـداية ذلك الشخص النـورانـي. فلنؤخر تفـصيلات مشـهـوداتـنا في رجوعـنـا الـى وقـت آخـر، ونصـلّي ونسلّم

على ذلك الذات النوراني الهادي، ذي المعجزات بصلوات وسلام تشير الى قسم من معجزاته:

على من اُنزل عليه القرآن الحكيم من الرحمن الرحيم من العرش العظيم.

على سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد أنفاس أمته.

على مَن بشّر برسالته التوراة والانجيل والزبور والزبر. وبشّر بنبوّته الارهاصات وهواتف الجن وكواهن البشر وانشقّ باشارته القمر..

سيدنا محمد ألفُ ألفِ صلاةٍ وسلام بعدد حسنات أمته.

على من جاءت لدعوته الشجرُ، ونزل سرعةً بدعائه المطر، واظلّته الغمامة من الحر، وشبع من صاعٍ من طعامه مآتٌ من البشر، ونبع الماء من بين أصابعه ثلاث مرات كالكوثر، وانطق الله له الـضب والظبي والذئب والجذع والذراع والجمل والجبل والحجر والمدر والشجر.. صاحب المعراج وما زاغ البصر..

سيدنا وشفيعنا محمد ألف ألف صلاة وسلام بعدد كل الحروف المتشكلة في الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول الى آخر الزمان

واغفر لنا وأرحمنا يا الهنا بكل صلاة منها.. آمين.

[ إعلم: إن دلائل النبوة الأحمدية لا تعدّ ولا تحدّ، ولقد صنّف في بيانها أعاظم المحققين. وأنا مع عجزي وقصوري قد بينّت شعاعاتٍ من تلك الشمس في رسالة تركية مسّماة بـ ((شعاعات من معرفة النبي e )) وفي (( المكتوب التاسع عشر)). وكذا بينت اجمالاً وجوه إعجاز معجرته الكبرى – أي القرآن – وقد اشرتُ بفهمي القاصر الى أربعين وجهاً من وجوه أعجاز القرآن في رسالة (( اللوامع))، وقد بينت من تلك الوجوه واحداً وهو البلاغة الفائقة النظمية في مقدار أربعين صحيفة من تفسيري العربي المسمى بـ (( اشارات الاعجـاز)). فإن شـئـت فارجع الى هذه الكتب الثلاثة..].

C الرشحة الرابعة عشرة:

اعلم! ان القرآن الكريم الذي هو بحر المعجزات والمعجزة الكبرى يثبت النبوة الأحمدية والوحدانية الإلهية إثباتاً، ويقيم حججاً ويسوق براهين ويبرز أدلة تغني عن كل برهان آخر.

فنحن هنا سنشير الى تعريفه، ثم نشير الى لمعاتٍ من اعجازه تلك التي اثارت تساؤلاً لدى البعض.

فالقرآن الحكيم الذي يعرّف ربّنا لنا:

هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّر كتاب العالم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السموات والارض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المـُضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينة المخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية… وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي.. وكذا هو خريطة للعالم الأخروي.. وكذا هو قولٌ شارحٌ وتفسير واضحٌ وبرهان قاطعٌ وترجمان ساطعٌ لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني.. وكالماء وكالــضياء للأنسانية الكبرى التي هي الاسلامية... وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للأنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك هو كتاب حكمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد، لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه ابرز لمشرب كل واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلكِ كل واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل.

~ فانظر الـى بيان لمعة الاعـجاز في تكرارات القرآن التي يتوهمها القاصرون نقصاً في البلاغة.

اعلم! أن القرآن لأنه كتاب ذكر، وكتاب دعاء، وكتاب دعوة، يكون تكراره أحسن وأبلغ بل ألزم، وليس كما ظنّه القاصرون، إذ الذكر يُكرَّر، والدعاء يُردَّد. والدعوة تؤكَّد. إذ في تكرير الذكر تنويرٌ وفي ترديد الدعاء تقريرٌ وفي تكرار الدعوة تأكيدٌ.

واعلم انه لا يمكن لكلِ أحدٍ في كل وقتٍ قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لكل أحدٍ في كل وقت. فلهذا أدْرَجَ الحكيمُ الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سوره؛ لا سيما الطويلة منها، حتى صارت كلُ سورة قرآناً صغيراً، فسهّل السبيلَ لكل أحدٍ، دون أن يَحْرُمَ أحداً، فكرر التوحيد والحشر وقصة موسى عليه السلام.

اعلم! أنه كما أن الحاجات الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات؛ كذلك الحاجات المعنوية الأنسـانية ايضاً مختلفة الأوقـات. فالى قسـمٍ في كل آن كـ (هو الله) للروح - كحاجة الجسم الى الهواء - والى قسم في كل ساعة كـ (بسم الله) وهكذا فقس.

فتكرار الآيات والكلمات اذن للدلالة على تكرّر الاحتياج، وللاشارة الى شدة الاحتياج اليها، ولتنبيه عرق الاحتياج وإيقاظه، وللتشويق على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج الى تلك الأغذية المعنوية.

اعلم! أن القرآن مؤسسٌ لهذا الدين العظيم المتين، وأساسات لهذا العالم الاسلامي، ومقلِّبٌ لاجتماعيات البشر ومحوّلها ومبدّلها. وجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية بألسنة الأقوال والأحوال.. ولابدَّ للمؤسس من التكرير للتثبيت، ومن الترديد للتأكيد، ومن التكرار للتقرير والتأييد.

اعلم! أن القرآن يبحث عن مسائل عظيمة ويدعو القلوب الى الايمان بها، وعن حقائق دقيقة ويدعو العقول الى معرفتها. فلابدَّ لتقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة من التكرار في صور مختلفة وأساليب متنوعة.

اعلم! ان لكل آيةٍ ظهراً وبطناً وحدّاً ومَطـلعاً، ولكــل قصــةٍ وجوهاً وأحـكاماً وفوائد ومقاصد، فتُذكر في موضعٍ لوجهٍ، وفي آخر لأخرى، وفي سورةٍ لمقصدٍ وفي اُخرى لآخر وهكذا. فعلى هذا لا تكرار إلاّ في الصورة.

اما إجمال القرآن الكريم بعض المسائل الكونية وإبهامه في بعض آخر فهو لمعة اعجاز ساطع وليس كما توهمه أهلُ الألحاد من قصور ومدار نقد.

~ فإن قلت:

لأي شئ لا يبحث القرآن عن الكائنات كما يبحث عنها فن الحكمة والفلسفة؟ فَيَدع بعض المسائل مجملاً ويذكر أخرى ذكراً ينسجم مع شعور العوام وافكارهم فلا يمسّها بأذى ولا يرهقها بل يذكرها سلساً بسيطاً في الظاهر؟

نقول جواباً:

لأن الفلسفة عَدِلتْ عن طريق الحقيقة وضلَّت عنها، وقد فهمتَ حتماً من الدروس والكلمات السابقة أن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطراداً، للاستدلال على ذات الله وصفاته واسمائه الحسنى، أي يُفهم معاني هذا الكتاب، كتاب الكون العظيم كي يعرِّف خالقه.

أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها. فضلاً عن أنه يخاطب الجمهور.

وعلى هذا، فمادام القرآن يستخدم الموجودات دليلاً وبرهاناً، فمن شرط الدليل أن يكون ظاهراً وأظهرَ من النتيجة أمام نظر الجمهور.

ثم إن القرآن مادام مرشداً فمن شأن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام، ومراعاة حسّ العامةِ ومؤانسة فكر الجمهور، لئلا يتوحش نظرُهم بلا طائل ولا يتشوش فكرُهم بلا فائدة، ولا يتشرّد حسُّهم بلا مصلحة، فأبلغُ الخطاب معهم والارشاد أن يكون ظاهراً بسيطاً سهلاً لا يعجزهم، وجيزاً لا يُملّهم، مجملاً فيما لا يلزم تفصيله لهم، ويضرب بالأمثال لتقريب مادقَّ من الأمور الى فهمهم.

فلأن القرآن مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغةُ الارشاد أن لا يذكر ما يوقع الاكثرية في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزوم ما هو متعارف محسوس عندهم، وان يهمل أو يجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.

فمثلاً: يبحث عن الشمس لا للشمس، ولا عن ماهيتها، بل لِمن نورَّها وجعلها سراجاً، وعن وظيفتها بصيرورتها محوراً لانتظام الصنعة ومركزاً لنظام الخلقة، وما الانتظام والنظام إلاّ مرايا معرفة الصانع الجليل. فيعرّفنا القرانُ باراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم، فيقول: ] والشمسُ تجري[ ويفهِّم بها وينبه الى تصرفات القدرة الإلهية العظيمة في اختلاف الليل والنهار وتناوب الصيف والشتاء. وفي لفت النظر اليها تنبيه السامع الى عظمة قدرة الصانع وانفراده في ربوبيته. فمهما كانت حقيقة جريان الشمس وبأي صورة كانت لا تؤثر تلك الحقيقة في مقصد القرآن في اراءة الانتظام المشهود والمنسوج معاً.

ويقول أيضاً:

] وَجَعَلَ الشمسَ سراجاً[ (نوح:16) ففي تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر، وتصوير الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازم ذلك القصر، ومزيّناته، ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ أنه قد أحضَرتها لضيوفه وخدّامه يدُ كريمٍ رحيم. وما الشمسُ إلاّ مأمور مسخَّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهامُ إحسانه في سعة رحمته، واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته.

فالآن استمع ماذا يقول الفلسفي الثرثار في الشمس. يقول: ((هي كتلة عظيمة من المائع الناري تدور حول نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة.. ضخامتها كذا.. ماهيتها كذا..)).

فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غيرَ الحيرة المدهشة والدهشة الموحشة، فلم تُفِدْك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية.

فقس على هذا لتقدّر قيمة المسائل الفلسفية التي ظاهرُها مزخرفة وباطنُها جهالة فارغة. فلا يغرّنك تشعشع ظاهرها وتُعرِض عن بيان القرآن المعجز.

اللّهم اجعل القرآن شفاءً لنا ولكاتبه وأمثاله من كل داء، ومؤنساً لنا ولهم في حياتنا وبعد موتنا، وفي الدنيا قريناً، وفي القـبر مؤنســاً، وفي القـيامة شفيعاً، وعلى الصراط نوراً، ومن النار ستراً وحجاباً، وفي الجنة رفيقاً، والى الخيرات كلها دليلاً وإماماً، بفـضلك وجودك وكرمك ورحمتك يا اكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين آمين.

اللّهم صلِ وسلم على مَن أنزل عليه الفرقان الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين ..

آمين . آمين.

تنبيه:

لقد ذكرنا في المثنوي العربي النوري خمسة عشر نوعاً من انواع اعجاز القرآن البالغ اربعين نوعاً وذلك في ست قطرات للرشحة الرابعة عشرة، ولا سيما النكت الدقيقة الست للقطرة الرابعة.

لذا اجملنا هنا مكتفين بما ذكرناه هناك، فمن شاء فليراجعه.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #26
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة العشرون

((وهي مقامان))



المقام الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)

] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)

] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)

كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:

قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟

ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.

ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟

وصورة النكت الملهمة هي الآتية:

C النكتة الاولى:

ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.

فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:

ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة.. ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.

واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.

واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.

C النكتة الثانية:

من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.

وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.

فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.

فافهم قياساً على هذا:

ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.

C النكتة الثالثة:

قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)

عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:

ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟

فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:

نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.

ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..

زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.

فبناء على هذا:

يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات: يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها! ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً. فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).



ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.

فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:

يا بني اسرائيل ويا بنى آدم! ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم! انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل، فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم، نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.

فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.

تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..

وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:

ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك

الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.

فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى، فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.

فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.

والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.

وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.

والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.

فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:

يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.

ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:

يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.

ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:

انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.

بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:

ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:

يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.

ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟

فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.

فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..

آمين

برحمتك يا ارحم الراحمين.

اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة العشرين

لمعة اعجاز قرآني تتلألأ على وجه معجزات الانبياء

((أنعم النظر في الجوابين المذكورين في الختام))

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[ (الانعام:59)

لقد كتبتُ قبل أربع عشرة سنة(1) بحثاً يخص سراً من أسرار هذه الآية الكريمة في تفسيري الذي كتبته باللغة العربية الموسوم بـ ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) والآن استجابة لطلب أخوين كريمين عزيزين عندي اكتب ايضاحاً باللغة التركية لذلك البحث، مستعيناً بتوفيق العلي القدير ومستلهماً من فيض القرآن الكريم، فأقول:

ان ((كتاب مبين)) - على قول - هو القرآن الكريم. فهذه الآية الكريمة تبيّن أنه: ما من رطب ولا يابس إلاّ وهو في القرآن الكريم.

أتراه كذلك؟

-نعم! ان في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم، فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات. ويرد كل من هذه الدرجات؛ اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً. فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة.

فمثلاً: ان الطائرة والكهرباء والقطار واللاسلكي وامثالها من منجزات العلم والصناعة - التكنلوجيا الحديثة - والتي تعدّ حصيلة التقدم الانساني ورقيه في مضمار الصناعة والعلم، أصبحت هذه الاختراعات موضع اهتمام الانسان، وتبوأت مكانة خاصة في حياته المادية.

لذا فالقرآن الكريم الذي يخاطب البشرية قاطبة لم يهمل هذا الجانب من حياة البشر، بل قد أشار الى تلك الخوارق العلمية من جهتين:

الجهة الاولى: اشار اليها عند اشارته الى معجزات الانبياء عليهم السلام.

الجهة الثانية: اشار اليها عند سرده بعض الحوادث التاريخية.

فعلى سبيل المثال: فقد اشار الى القطار في الآيات الكريمة الآتية:

] قُتلَ اصحابُ الاخدود ^ النارِ ذاتِ الوَقُودِ ^ اذ هُم عليها قُعودٌ^ وهُم على ما يفعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ^ وما نَقَموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيزِ الحميد[ .(1) (البروج: 4ـ 8)

وايضاً:

] في الفُلك المشحون ^ وخَلقنا لهم مِن مثلِهِ ما يَركبون[ (يس:41 - 42)

والآية الكريمة الآتية ترمز الى الكهرباء علاوة على اشارتها الى كثير من الأنوار والاسرار:

] الله نورُ السمواتِ والارض مثلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجُة كأنها كوكبٌ درّيٌّ يوقَدُ مِن شجرةٍ مُباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيٍة ولا غربيةٍ يكادُ زيتُها يُـضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدى الله لنوره مَن يشاءُ [ (2) (النور:35)

ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا الى هذا القسم، وبذلوا جهوداً كثيرة في توضيحه علماً ان القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطاً للموضوع اكثر من هذا وايضاحاً وافياً. فضلاً عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة.

اما القسم الاول الذي يشير الى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن اشارات القرآن الى معجزات الانبياء.. سنذكر نماذج منه.



المقدمة:

يبيّن القرآن الكريم ان الانبياء عليهم السلام قد بُعثوا الى مجتمعات انسانية ليكونوا لهم ائمة الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي. ويبين في الوقت نفسه ان الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّاداً للبشرية واساتذة لها في تقدمها المادي ايضاً. أي انه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعاً كاملاً في الامور المادية والمعنوية؛ اذ كما يحض القرآنُ الكريم الانسانَ على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلى بها الانبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فانه عند بحثه عن معجزاتهم المادية ايضاً يومئ الى إثارة شوق الانسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في ايديهم، ويشير الى حضّه على بلوغ نظائرها، بل يصح القول: ان يد المعجزة هي التي أهدت الى البشرية الكمال المادي وخوارقه لاول مرة، مثلما أهدت اليها الكمال المعنوي. فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي احدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي احدى معجزاته. فقد قدمتهما يدُ المعجزة لاول مرة هدية ثمينة الى البشرية. وهناك اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصناع نبياً من الانبياء رائداً لصنعتهم وقطباً لمهنتهم. فالملاحون - مثلاً - اتخذوا سيدنا نوحاً عليه السلام رائدهم والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام امامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا ادريس عليه السلام مرشدهم..

ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعاً ان لكل آية كريمة وجوهاً عدة للارشاد، وجهات كثيرة للهداية، فلا يمكن اذاً ان تكون أسطع الآيات وهي آيات المعجزات، سرداً تاريخياً، بل لابد انها تتضمن ايضاً معاني بليغة جمة للارشاد والهداية.

نعم، ان القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء انما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن ان يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها الى أبعد نهاياتها، وغاية ما يمكن ان تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعد الاهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها اليها. اذ كما ان الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل ايضاً حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله.

وسنبين بضعة نماذج مثالاً، من ذلك النبع الفياض الواسع:

C فمثلاً: ] ولسليمنَ الريح غدوّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ[ (سبأ:12).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام.

وهي تسخير الريح له، أي أنه قد قطع في الهواء ما يقطع في شهرين في يوم واحد.

فالآية تشير الى ان الطريق مفتوح امام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.

فيا ايها الانسان! حاول ان تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك.

فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة:

((ان عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحمّلتُه فوق متون الهواء. وانت ايها الانسان! ان نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك ايضاً ان تمتطي صهوة الهواء)).

C ومثلاً: ] فقلنا اضربْ بعصاكَ الحجَر فانفجرتْ منه اثنتا عشرةَ عيناً..[ (البقرة:60)

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير الى انه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الارض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من ارض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.

فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى:

يمكنكم ان تجدوا الماء الذي هو ألطف فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه.

فالله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية:

((ما دمتُ اسلّم بيد عبد يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها ان يفجّر الماء أينما شاء. فانت ايها الانسان ان اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً ان تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة)).

فانت ترى كيف ان هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الانسان من استخراج الماء في اغلب الاماكن، والتي هي احدى وسائل رقي البشرية. بل ان الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الاولى أبعد النقاط النهائية، واقصى ما يمكن ان تبلغ اليه الطائرة الحاضرة.

C ومثلاً: ] وابرئ الاكمهَ والأبرصَ واُحيي الموتى بإذن الله..[ (آل عمران:49).

فالقرآن الكريم اذ يحث البشرية صراحة على اتباع الاخلاق النبوية السامية التي يتحلى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزاً الى النظر الى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.

فهذه الآية الكريمة تشير الى:

((انه يمكن ان يُعثر على دواء يشفي أشد الامراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس ايها الانسان، ولا تقنط ايها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من الوان الحياة الموقتة)).

فالله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَركَ الدنيا لأجلي، وعافها في سبيلي، هديتين: احداهما دواء للاسقام المعنوية، والاخرى علاج للامراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الاموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرأون به. وانت ايها الانسان! بوسعك ان تجد في صيدلية حكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فانك لا محالة واجده وظافر به.

وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآية الكريمة أقصى المدى وأبعد الأهداف التي يصبو اليها الطب البشري من تقدم.

فالآية تشير الى ذلك الهدف وتحث الانسان على الوصول اليه.

C ومثلاً: ] وألنّا لَهُ الحديدَ[ (سبأ:10)

] وآتيناهُ الحكمةَ وفصلَ الخطاب[ (ص:20)

هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة ] وأسَلنا له عَينَ القِطرِ[ (سبأ:12) تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير الى:

ان تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، اذ يبين الله به فضل نبيٍ عظيم. فتليين الحديد وجعله كالعجين، واذابة النحاس وايجاد المعادن وكشفها هو اصل جميع الصناعات البشرية، واساسها. وهو أم التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه.

فهذه الآية تشير الى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله اسلاكاً رفيعة واسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفة للارض عظيم. فما دام سبحانه قد كرم مَن هو رسولٌ وخليفة معاً، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم الى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد ان هناك اشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.

فسبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيت عبداً من عبادي اطاع اوامري وخضع لما كلفته به، آتيت لسانه فصل الخطاب، وملأتُ قلبه حكمةً ليفصل كل شئ على بينة ووضوح.

ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديد كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء اركان خلافته وادامة دولته وحكمه. فما دام هذا الامر ممكناً وواقعاً فعلاً، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية فانتم يابني آدم إن اطعتم اوامري التكوينية تُوهَب لكم ايضاً تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن ان تقتربوا منهما وتبلغوهما.

وهكذا فان بلوغ البشرية أقصى امانيها في الصناعة، وكسبها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، انما هو بتليين الحديد وباذابة النحاس - القطرـ فهذه الآيات

الكريمة تستقطب انظار البشرية عامة الى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين اليها، فتنبه اولئك الذين لا يقدرونها حق قدرها.

C ومثلاً: ] قالَ الذي عندهُ علمٌ ِمن الكتابِ أنا اتيكَ به قبلَ أن يرتدّ اليكَ طرفُكَ فلما رآهُ مستقراً عندهُ..[ (النمل:40).

فهذه الآية تشير الى ان احضار الاشياء من مسافات بعيدة - عيناً أو صورة - ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحد وزرائه الذي اوتي علماً غزيراً في ((علم التحضير)): انا اتيك بعرش بلقيس.

ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلك والنبوة معاً، واكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على احوال رعاياه، ومشاهدة اوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصونه من الشطط في امور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على ارجاء المملكة.

فمن يعتمد على الله سبحانه اذاً ويطمئن اليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية، يمكن ان تتحول له الدنيا الواسعة كأنها مدينة منتظمة امامه كما حدث لسليمان عليه السلام الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضار عرش بلقيس فأحضر في طرفة عين وصار ماثلاً امامه - بعينه أو بصورته - في بلاد الشام بعد ان كان في اليمن. ولاشك ان اصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صورهم.

فهذه الآية تشير اشارة رائعة الى احضار الصور والاصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب:

«ايها الحكام! ويا من تسلمتم امر البلاد! ان كنتم تريدون ان تسود العدالة انحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله الى مشاهدة ما يجري في الارض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع ارجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع الى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والســلطان الــذي يرعـى شؤون ابناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل الى مبتـغــاه إلا اذا اسـتـطـــاع الاطـلاع - مـتى شاء - على اقطار مملكته. وعندئذٍ تعم العـدالة حـقاً، وينقذ نفـسه من المـحـاســبة والتبـعات المعنوية.

فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيتُ عبداً من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الارجاء، ومنحته الاطلاع المباشر على احوال الارض واحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقاً كاملاً، ولما كنتُ قد وهبت لكل انسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنى قد زوّدتُه - بمقتضى حكمتي - ما يناسب تلك القابلية الفطرية من مواهب واستعدادات يتمكن بها من ان يشاهد الارض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أن الانسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه الا انه يتمكن من بلوغها بنوعه. وان لم يستطع بلوغها مادياً، فانه يبلغها معنوياً - كما يحصل للاولياء الصالحين - فباستطاعتكم اذاً الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا الى العمل الجاد واسعوا سعياً حثيثاً كي تحوّلوا الارض الى ما يشبه حديقة صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلها وتسمعون احداثها واخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبروا الآية الكريمة:

] هوَ الذي جعلَ لكمُ الارضَ ذلولاً فامشوا في مناكِبها وكُلوا مِن رزقه واليه النشور[ (الملك:15).

وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال الى اثارة همة الانسان، وبعث اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها احضار الصور والاصوات من أبعد الاماكن واقصاها ضمن ادق الصناعات البشرية.

C ومثلاً: ] وآخرين مقرّنين في الأصفاد[ (ص:38).

] ومنِ الشياطين مَن يغُوصونَ لهُ ويعملونَ عملاً دونَ ذلكَ وكنّا لهُم حافظين[ (الانبياء:82).

هذه الآيات الكريمة تفيد تسخير سيدنا سليمان عليه السلام الجن والشياطين والارواح الخبيثة، ومنعه شرورهم واستخدامهم في أمور نافعة. فالآيات تقول:

ان الجن الذين يلون الانسان في الأّهمية في سكنى الأرض من ذوي الشعور، يمكن ان يصبحوا خداماً للانسان، ويمكن ايجاد علاقة ولقاء معهم، بل يمكن للشياطين ان يضعوا عداءَهم مع الانسان ويخدموه مضطرين كما سخّرهم الله سبحانه وتعالى لعبدٍ من عباده المنقادين لأوامره.

بمعنى ان الله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآيات: ((أيها الانسان! اني اسخّر الجن والشياطين واشرارهم لعبدٍ قد أطاعني واجعلهم منقادين اليه مسخرين له، فانت ان سخّرت نفسك لأمري واطعتني، قد تُسخّر لك موجودات كثيرة بل حتى الجن والشياطين)) .

فالآية الكريمة تخط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السبل القويمة للانتفاع، بل تفتح السبيل أيضاً الى تحضير الارواح ومحادثة الجن الذي ترشح من امتزاج فنون الانسان وعلومه، وتظاهر مما تنطوي عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الامر في الوقت الحاضر حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضع استهزاء بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتحلون أحياناً اسماء الأموات. وغدوا مسخّرين للشياطين والارواح الخبيثة، وانما يكون ذلك بتسخير أولئك باسرار القرآن الكريم مع النجاة من شرورهم.

C ثم ان الآية الكريمة:

] فارسلنا اليها روحَنا فتمثلَ لها بشراً سَويّاً[ (مريم:17).

هذه الآية وامثالها التي تشير الى تمثل الارواح، وكذا الآيات المشيرة الى جلب سيدنا سليمان - عليه السلام - للعفاريت وتسخيرهم له . هذه الآيات الكريمة مع اشارتها الى تمثل الروحانيات فهي تشير الى تحضير الأرواح ايضاً. غير ان تحضير الارواح الطيبة - المشار اليه في الآيات - ليس هو بالشكل الذي يقوم به المعاصرون من إحضار الارواح الى مواضع لهوهم واماكن ملاعبهم والذي هو هزل رخيص واستخفاف لا يليق بتلك الارواح الموقرة الجادة، التي تعمر عالماً كله جدّ لا هزل فيه، بل يمكن تحضيرالارواح بمثل ما قام به اولياء صالحون لأمر جاد ولقصد نبيل هادف - من امثال محي الدين بن عربي - الذين كانوا يقابلون تلك الارواح الطيبة متى شاؤا، فاصبحوا هم منجذبين اليها ومنجلبين لها ومرتبطين معها ومن ثم الذهاب الى مواضعها والتقرب الى عالمها والاستفادة من روحانياتها، فهذا هو الذي تشير اليه الآيات الكريمة وتُشعر في اشارتها حضاً وتشويقاً للانسان وتخطّ اقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية، وتعرض أجمل صوره وأفضلها.

C ومثلاً:] إنّا سخّرنا الجبالَ معه يسبّحنَ بالعشيّ والإشراق[ (ص:18).

] يا جبالُ أوّبي مَعَه والطيرَ وألنّا له الحديد[ (سبأ:10).

] عُلِّمنا منطقَ الطير..[ (النمل:16).

هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام تدل على أن الله سبحانه قد منح تسبيحاته واذكاره من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبال في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردد تسبيحاتٍ واذكاراً. أو كأنها انسان ضخم يسبّح في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة.

اتُراك هذه حقيقة؟ وهل يمكن ان يحدث هذا فعلاً؟!

نعم! انها لحقيقة قاطعة، أليس كل جبل ذي كهوف يمكن ان يتكلم مع كل انسان بلسانه، ويردد كالببغاء ما يذكره؟ فان قلت (الحمد لله) أمام جبل،فهو يقول ايضاً: (الحمد لله) وذلك برجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن اذاً أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط اكثر من هذا. وحيث ان الله سبحانه قد خص سيدنا داود عليه السلام بخلافة الأرض فضلاً عن رسالته، فقد كشف بذرة تلك القابلية لديه ونماها وبسطها بسطاً معجزاً عنده، بما يلائم شؤون الرسالة الواسعة والحاكمية العظيمة، حتى غدت الجبال الشم الرواسي منقادة اليه كأي جندي مطيع لأمره، وكأي صانع أمين لديه، وكأي مريد خاشع لذكره. فأصبحت تلك الجبال تسبح بحمد الخالق العظيم جلّ جلاله بلسانه عليه السلام وبأمره. فما كان سيدنا داود يذكر ويسبّح إلاّ والجبال تردد ما يذكره.

نعم، ان القائد في الجيش يستطيع ان يجعل جنوده المنتشرين على الجبال يرددون: (الله اكبر) بما لديه من وسائل الاتصال والمخابرات، حتى كأن تلك الجبال هي التي تتكلم وتهلل وتكبر! فلئن كان قائداً من الانس يستطيع أن يستنطق (مجازياً) الجبال بلسان ساكنيها، فكيف بقائد مهيب لله سبحانه وتعالى؟ الا يستطيع أن يجعل تلك الجبال تنطق نطقاً (حقيقياً) وتسبح تسبيحاً حقيقياً؟. هذا فضلاً عن اننا قد بينا في (الكلمات) السابقة ان لكل جبل شخصية معنوية خاصة به، وله تسبيح خاص ملائم له، وله عبادة مخصوصة لائقة به. فمثلما يسبّح كل جبل برجع الصدى باصوات البشر، فان له تسبيحات للخالق الجليل بألسنته الخاصة.

C وكذلك: ] والطيرَ محشورةً[ (ص:19).

] و عُلّمنا منطقَ الطير[ (النمل:16) هذه الآيات تبين ان الله سبحانه قد علّم سيدنا داود وسليمان عليهما السلام منطق انواع الطيور، ولغة قابلياتها واستعداداتها، أي: أيّ الاعمال تناسبها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟

نعم! هذه الحقيقة هي الحقيقة الجليلة، إذ ما دام سطح الارض مائدة رحمانية اقيمت تكريماً للانسان، فيمكن اذاً ان تكون معظم الحيوانات والطيور التي تنتفع من هذه المائدة مسخّرة للانسان، ضمن تصرفه وتحت خدمته. فالانسان الذي استخدم النحل ودودة القز - تلكم الخَدَمة الصغار - وانتفع مما لديهم من إلهام إلهي، والذي استعمل الحمام الزاجل في بعض شؤونه وأعماله، واستنطق الببغاء وأمثاله من الطيور، فضمَّ الى الحضارة الانسانية محاسن جديدة، هذا الانسان يمكنه ان يستفيد اذاً كثيراً اذا ما عَلِم لسان الاستعداد الفطري للطيور، وقابليات الحيوانات الاخرى، حيث هي انواع وطوائف كثيرة جداً، كما استفاد من الحيوانات الأليفة. فمثلاً: اذا عَلِم الانسان لسان استعداد العصافير (من نوع الزرازير) التي تتغذى على الجراد ولا تدعها تنمو، واذا ما نسّق اعمالها فانه يمكن ان يسخّرها لمكافحة آفة الجراد. فيكون عندئذٍ قد انتفع منها واستخدمها مجاناً في امور مهمة.

فمثل هذه الانواع من استغلال قابليات الطيور والانتفاع منها، واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ، تخط له الآية الكريمة المذكورة المدى الاقصى والغاية القصوى.

فيقول الله سبحانه بالمعنى الرمزي لهذه الآيات الكريمة:

يا بني الانسان! لقد سخرتُ لعبد من بني جنسكم، عبد خالص مخلص، سخرتُ له مخلوقات عظيمة في ملكي وانطقتها له، وجعلتها خداماً امناء وجنوداً مطيعين له، كي تعصم نبوته، وتصان عدالته في ملكه ودولته. وقد أتيتُ كلاً منكم استعداداً ومواهب ليصبح خليفة الارض، واودعتُ فيكم أمانة عظمى، أبتِ السموات والارض والجبال ان يحملنها، فعليكم اذاً ان تنقادوا وتخضعوا لأوامر مَن بيده مقاليد هذه المخلوقات وزمامها، لتنقاد اليكم مخلوقاته المبثوثة في ملكه. فالطريق ممهد أمامكم ان استطعتم ان تقبضوا زمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم، واذا سموتم الى مرتبة تليق باستعداداتكم ومواهبكم..

فما دامت الحقيقة هكذا فاسعَ ايها الانسان ان لا تنشغل بلهو لا معنى له، وبلعب لا طائل من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحمام والببغاء.. بل اسعَ في طلب لهوٍ من ألطف اللهو وازكاه، وتسلَّ بتسلية هي من ألذ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك، كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنّف سمعك بنغمات ذكر وتسبيح الاشجار والنباتات التي تخرج أصواتاً رقيقة عذبة بمجرد مس النسيم لها وكأنها اوتار آلات صوتية.. فبهذا الذكر العلوي تُظهر الجبال لك الوفاً من الألسنة الذاكرة المسبحة، وتبرز أمامك في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذٍ تتزيا معظم الطيور وتلبس - كأنها هدهد سليمان - لباسَ الصديق الحميم والانيس الودود، فتصبح خداماً مطيعين لك. فتسليك أيما تسلية، وتلهيك لهواً بريئاً لا شائبة فيه، فضلاً عن ان هذا الذكر السامي يسوقك الى انبساط قابليات ومواهب كانت مغمورة في ماهيتك، فتحول بينك وبين السقوط من ماهية الانسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بعدُ اضراب اللهو التي لا مغزى لها الى حضيض الهاوية.

C ومثلاً: ] قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على ابراهيم[ (الانبياء:69).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة سيدنا ابراهيم عليه السلام، وفيها ثلاث اشارات لطيفة:

أولاها: النار - كسائر الاسباب - ليس أمرها بيدها، فلا تعمل كيفما تشاء حسب هواها وبلا بصيرة، بل تقوم بمهمتها وفق أمر يُفرض عليها. فلم تحرق سيدنا ابراهيم لانها أُمرت بعدم الحرق.

ثانيتها: ان للنار درجة تحرق ببرودتها، أي تؤثر كالاحتراق. فالله سبحانه يخاطب البرودة بلفظة:((سلاماً))(1) بأن لا تحرقي انتِ كذلك ابراهيم، كما لم تحرقه الحرارة. أي أن النار في تلك الدرجة تؤثر ببرودتها كأنها تحرق، فهي نار وهي برد.

نعم ان النار - كما في علم الطبيعيات - لها درجات متفاوتة، منها درجة على صورة نار بيضاء لا تنشر حرارتها بل تكسب مما حولها من الحرارة، فتجمد بهذه البرودة ما حولها من السوائل، وكأنها تحـرق ببرودتــها. وهكـذا الزمهــرير لـون من الوان النار تحرق ببرودتها، فوجوده اذن ضروري في جهنم التي تضم جميع درجات النار وجميع أنواعها.

ثالثتها: مثلما الايمان الذي هو (مادة معنوية) يمنع مفعول نار جهنم، وينجي المؤمنين منها. وكما ان الاسلام درع واقٍ وحصن حصين من النار، كذلك هناك (مادة مادية) تمنع تأثير نار الدنيا، وهي درع أمامها، لان الله سبحانه يجري اجراءاته في هذه الدنيا - التي هي دار الحكمة - تحت ستار الاسباب وذلك بمقتضى اسمه (الحكيم)، لذا لم تحرق النار جسم سيدنا ابراهيم عليه السلام مثلما لم تحرق ثيابه وملابسه ايضاً. فهذه الآية ترمز الى:

((يا ملة ابراهيم! اقتدوا بابراهيم! كي يكون لباسكم لباس التقوى وهو لباس ابراهيم، وليكون حصناً مانعاً ودرعاً واقياً في الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الاكبر، النار. فلقد خبأ سبحانه لكم مواداً في الارض تحفظكم من شر النار، كما يقيكم لباس التقوى والايمان الذي ألبستموه أرواحكم، شر نار جهنم.. فهلموا واكتشفوا هذه المواد المانعة من الحرارة واستخرجوها من باطن الارض والبسوها)).

وهكذا وجد الانسان حصيلة بحوثه واكتشافاته مادة لا تحرقها النار، بل تقاومها فيمكنه ان يصنع منها لباساً وثياباً.

فقارن هذه الآية الكريمة، وقس مدى سموها وعلوها على اكتشاف الانسان للمادة المضادة للنار، واعلم كيف انها تدل على حلة قشيبة نسجت في مصنع (حنيفاً مسلماً) لا تتمزق ولا تخلق وتبقى محتفظة بجمالها وبهائها الى الابد.

C ومثلاً: ] وعلّم آدمَ الاسماءَ كلها[ (البقرة:31).

تبين هذه الآية ان المعجزة الكبرى لآدم عليه السلام - في دعوى خلافته الكبرى - هي تعليم الاسماء.

فمثلما ترمز معجزات سائر الانبياء الى خارقة بشرية خاصة لكل منهم، فان معجزة ابي الانبياء وفاتح ديوان النبوة آدم عليه السلام تشير اشارة قريبة من الصراحة الى منتهى الكمال البشري، وذروة رقيه، والى أقصى أهدافه، فكأن الله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

((يا بني آدم!.. ان تفوّق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمتُه الاسماء كلها، وأنتم بنوه ووارثو استعداداته ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الاسماء كلها لتثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتسنم الامانة العظمى، فلقد مُهّد الطريق أمامكم لبلوغ اسمى المراتب العالية في الكون، وسُخرت لكم الارض، هذه المخلوقة الضخمة، فهيا انطلقوا وتقدموا، فالطريق مفتوح أمامكم.. واستمسكوا بكل اسم من اسمائي الحسنى، واعتصموا به، لتسموا وترتفعوا. واحذروا! فلقد أغوى الشيطان أباكم مرة واحدة، فهبط من الجنة - تلك المنزلة العالية - الى الارض موقتاً. فاياكم ان تتبعوا الشيطان في رقيكم وتقدمكم، فيكون ذريعة ترديكم من سموات الحكمة الإلهية الى ضلالة المادية الطبيعية.. ارفعوا رؤوسكم عالياً، وانعموا النظر والفكر في اسمائي الحسنى، واجعلوا علومكم ورقيكم سلماً ومراقي الى تلك السموات، لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا الى منابعها الاصلية، تلك هي أسمائي الحسنى.

وانظروا بمنظار تلك الاسماء ببصيرة قلوبكم الى ربكم)).

بيان نكتة مهمة وايـضاح سر أهم

ان كل ما ناله الانسان - من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادات - من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصوله الى خوراق الصناعات والاكتشافات، تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الاسماء: ] وعلم آدم الاسماء كلها[ . وهذا التعبير ينطوي على رمزٍ رفيع ودقيق، وهو:

ان لكل كمال، ولكل علم، ولكل تقدم، ولكل فن - أياً كان - حقيقة سامية عالية. وتلك الحقيقة تستند الى اسم من الاسماء الحسنى، وباستنادها الى ذلك الاسم - الذي له حُجُب مختلفة، وتجليات متنوعة، ودوائر ظهور متباينة - يجد ذلك الفن وذلك الكمال وتلك الصنعة، كلٌ منها كمالَه، ويصبح حقيقةً فعلاً، وإلا فهو ظل ناقص مبتور باهت مشوش.

فالهندسة - مثلاً - علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول الى اسم (العدل والمقدِّر) من الاسماء الحسنى، وبلوغ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها في مرآة علم (الهندسة).

والطب - مثلاً - علم ومهارة ومهنة في الوقت نفسه، فمنتهاه وحقيقته يستند ايضاً الى اسم من الاسماء الحسنى وهو (الشافي). فيصل الطب الى كماله ويصبح حقيقة فعلاً بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم (الشافي) في الادوية المبثوثة على سطح الارض الذي يمثل صيدلية عظمى.

والعلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات - كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان .. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..

فاليك الامثلة الثلاثة كما مرت.. قس عليها بقية العلوم والفنون والكمالات..

وهكذا يضرب القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة يد التشويق على ظهر البشرية مشيراً الى اسمى النقاط وأبعد الحدود واقصى المراتب التي قصرت كثيراً عن الوصول اليها في تقدمها الحاضر، وكأنه يقول لها: هيا تقدمي.

نكتفي بهذا الجوهر النفيس من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، ونغلق هذا الباب.

ومثلاً: ان خاتم ديوان النبوة، وسيد المرسلين، الذي تعدّ جميع معجزات الرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالته، والذي هو فخر العالمين، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الاسماء الحسنى كلها التي علمها الله سبحانه آدم عليه السلام تعليماً مجملاً.. ذلكم الرسول الحبيب محمد e الذي رفع اصبعه عالياً بجلال الله فشق القمر وخفض الاصبع المبارك نفسه بجمال الله ففجر ماء كالكوثر.. وأمثالها من المعجزات الباهرات التي تزيد على الألف.. هذا الرسول الكريم أظهر القرآن الكريم معجزة كبرى تتحدى الجن والانس: ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً[ (الاسراء:88) فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات تجلب انظار الانس والجن الى ابرز وجوه الاعجاز في هذه المعجزة الخالدة واسطعها، فتلفتها الى ما في بيانه -الحقَ والحقيقةَ- من جزالة، والى ما في تعابيره من بلاغة فائقة، والى ما في معانيه من جامعية وشمول، والى ما في اساليبه المتنوعة من سمـو ورفعة وعــذوبة.. فتحدّى القرآن المعجز، وما زال كذلك يتحدى الانس والجن قاطبة، مثيراً الشوق في اوليائه، محركاًَ ساكن عناد اعدائه، دافعاً الجميع الى تقليده، بشوق عظيم وترغيب شديد، للاتيان بنظيره، بل انه سبحانه يضع هذه المعجزة الكبرى أمام انظار الانام في موقع رفيع لكأن الغاية الوحيدة من مجئ الانسان الى هذه الدنيا ليست سوى اتخاذه تلك المعجزة العظمى دستور حياته، وغاية مناه.

نخلص مما تقدم: ان كل معجزة من معجزات الانبياء عليهم السلام تشير الى خارقة من خوارق الصناعات البشرية. أما معجزة سيدنا آدم عليه السلام فهي تشير الى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات، وتشوق اليها جميعاً مع اشارتها الى اسس الصنعة اشارة مجملة مختصرة.

أما المعجزة الكبرى للرسول الاعظم e وهي القرآن الكريم ذو البيان المعجر، فلأن حقيقة تعليم الاسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتم، فانه يبين الاهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويُظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر اليها ويوجهه نحوها، مثيراً فيه رغبة شديدة فيها، حتى انه يبين بأسلوب التشويق أن« أيها الانسان! المقصد الاسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه تظاهر الربوبية، وان الغاية القصوى من خلقك انت هي بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات».

فيعبر بتعابير متنوعة رائعة معجزة مشيراً بها الى:

ان البشرية في أواخر ايامها على الارض ستنساب الى العلوم، وتنصب الى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة.

ولما كان القرآن الكريم يسوق جزالة البيان وبلاغة الكلام مقدماً ويكررهما كثيراً، فكأنه يرمز الى ان البلاغة والجزالة في الكلام - وهما من اسطع العلوم والفنون - سيلبسان ازهى حللهما واروع صورهما في آخر الزمان، حتى يغدو الناس يستلهمون أمضى سلاحهم من جزالة البيان وسحره، ويستلمون أرهب قوتهم من بلاغة الاداء، وذلك عند بيان أفكارهم ومعتقداتهم لإقناع الاخرين بها، أو عند تنفيذ آرائهم وقراراتهم..

نحصل مما سبق: أن أكثر الآيات الكريمة انما هي مفتاح لخزينة كمال فائق، ولكنز علمي عظيم. فان شئت ان تبلغ سماوات القرآن الكريم ونجوم الايات فاجعل (الكلمات العشرين السابقة) عشرين درجاً لسلم الوصول اليها(1)، وشاهدْ بها مدى سطوع شمس القرآن العظيم، وتأملْ كيف ينشر القرآن نوره باهراً على حقيقة الالوهية وحقائق الموجودات، والمخلوقات، وكيف ينشر الضياء الساطع على كل الموجودات.

النتيجة: ما دامت الآيات التي تخص معجزات الانبياء عليهم السلام لها نوع من الاشارة الى خوارق التقدم العلمي والصناعي الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنه يخط أبعد الحدود النهائية لها.. وحيث أنه ثابت قطعاً أن لكل آية دلالات على معانٍ شتى بل هذا متفق عليه لدى العلماء.. ولما كان هناك أوامر مطلقة لإتباع الانبياء عليهم السلام والاقتداء بهم، لذا يصح القول:

انه مع دلالة الآيات المذكورة سابقاً على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّقة باسلوب الاشارة الى أهم العلوم البشرية وصناعاتها.

جوابان مهمان عن سؤالين مهمين

C أحدهما:اذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نزل لأجل الانسان، فَلِمَ لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وانما يكتفي برمز مستتر، وايماء خفي، واشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟

فالجواب: ان خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، اذ إن الوظيفة الاساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.

لذا فان حق تلك الخوارق البشرية وحصتها من تلك الدائرتين مجرد رمز ضعيف واشارة خفية ليس إلاّ.. فانها لو ادّعت حقوقها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلاّ على حق ضئيل جداً.

فمثلاً: اذا طالبت الطائرة البشرية(1) القرآن الكريم قائلة:

((أعطني حقاً للكلام، وموقعاً بين آياتك)). فان طائرات دائرة الربوبية تلك الكواكب السيّارة والارض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم:

- ((انكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جرمك لا أكثر)).

واذا أرادت الغواصة البشرية موقعاً لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الارض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة:

- ((ان مكانك بيننا ضئيل جداً يكاد لا يُرى!)).

واذا ارادت الكهرباء ان تدخل حرم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فان مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشهب والانجم المزيّنة لوجه السماء، سترد عليها قائلة:

-((انك تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء!!)).

ولو طالبت الخوارق الحضارية - بلسان صناعاتها الدقيقة - حقوقها وارادت لها مقاماً بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة:

- اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحيّ هذين! ولئن اجتمع كل ما فيكم من المصنوعات والأختراعات - التي اكتشف إكتساباً بارادة الانسان الجزئية - مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجب بمقدار ما في جسمي الصغير جداً من لطائف الاجهزة ودقائق الصنعة. وان هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعاً:

] إنَّ الذينَ تَدعون مِن دونِ الله لن يَخلُقوا ذباباً ولو اجتَمعوا له، وإن يسلُبْهم الذبابُ شيئاً لا يستنقنذوهُ منه، ضعُفَ الطالبُ والمطلوبُ[ (الحج:73)

واذا ذهبت تلك الخوارق الى دائرة العبودية وطلبت منها حقها فستتلقى منها مثل هذا الجواب:

-ان علاقتكم معنا واهية وقليلة جداً، فلا يمكنكم الدخول إلى دائرتنا بسهولة، لأن منهجنا هو:

ان الدنيا دار ضيافة، وان الانسان ضيف يلبث فيها قليلاً، وله وظائف جمة، وهو مكلف بتحضير وتجهيز ما يحتاجه لحياته الأبدية الخالدة في هذا العمر القصير، لذلك يجب عليه ان يقدّم ما هو الأهم والألزم.

إلاّ أنه تبدو عليكم - على اعتبار الأغلبية - ملامح نسجت بحب هذه الدنيا الفانية تحت أستار الغفلة واللهو وكأنها دار للبقاء ومستقر للخلود. لذا فان حظكم من دائرة العبودية المؤسّسة على هدى الحق والتفكر في آثار الآخرة، قليل جداً.

ولكن.. ان كان فيكم - أو من ورائكم - من الصناع المهرة والمخترعين الملهمين - وهم قلة - وكانوا يقومون بأعمالهم مخلصين لأجل منافع عباد الله - وهي عبادة ثمينة - ويبذلون جهدهم للمصلحة العامة وراحتهم لرقي الحياة الاجتماعية وكمالها، فان هذه الرموز والارشادات القرآنية كافية بلا ريب لأولئك الذوات المرهفي الاحساس، ووافية لتقدير مهاراتهم وتشويقهم الى السعي والاجتهاد.

C السؤال الثاني:

واذا قلت: لم تبق لديّ الآن بعد هذا التحقيق شبهة، فقد ثبت عندي بيقين وصدّقت؛ أن القرآن الكريم فيه جميع ما يلزم السعادة الدنيوية والأخروية كل حسب قيمته وأهميته، فهناك رموز واشارات الى خوارق المدنية الحاضرة بل الى أبعد منها من الحقائق الأخرى مع ما فيه من حقائق جليلة ولكن لِمَ لم يذكر القرآن الكريم تلك الخوراق بصراحة تامة كي تجبر الكفرة العنيدين على التصديق والايمان وتطمئن قلوبنا فتستريح؟.

الجواب:

ان الدين امتحان، وان التكاليف الإلهية تجربة واختبار من أجل أن تتسابق الارواح العالية والارواح السافلة، ويتميز بعضها عن بعض في حلبة السباق.

فمثلما يختبر المعدن بالنار ليتميز الالماس من الفحم والذهب من التراب؛ كذلك التكاليف الإلهية في دار الامتحان هذه. فهي ابتلاء وتجربة وسَوق للمسابقة حتى تتميز الجواهر النفيسة لمعدن قابليات البشر واستعداداته من المعادن الخسيسة.

فما دام القرآن قد نزل - في دار الابتلاء هذه - بصورة اختبار للانسان ليتم تكامله في ميدان المسابقة، فلابد انه سيشير - اشارة فحسب - الى هذه الأمور الدنيوية الغيبية التي ستتوضح في المستقبل للجميع، فاتحاً للعقل باباً بمقدار اقامة حجته. وإلاّ فلو ذكرها القرآن الكريم صراحة، لاختلتْ حكمة التكليف اذ تصبح بديهية مثل كتابة (لا إله إلاّ الله) واضحاً بالنجوم على وجه السماء، والذي يجعل الناس - أرادوا أم لم يريدوا - عندئذ مرغمين على التصديق، فما كانت ثمة مسابقة ولا اختبار ولا تمييز فحينئذٍ تتساوى الارواح السافلة التي هي كالفحم مع التي هي كالالماس(1).



والخلاصة:

ان القرآن العظيم، حكيمٌ يعطي لكل شئ قدره من المقام، ويرى القرآن من ثمرات الغيب التقدمَ الحضاري البشري قبل ألف وثلاثمائة سنة المستترة في ظلمات المستقبل، أفضل واوضح مما نراها نحن وسنراها. فالقرآن اذاً كلام مَن ينظر الى كل الأزمنة بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد..

فتلك لمعة من الأعجاز القرآني، تلمع في وجه معجزات الأنبياء.

اللهمَّ فَـهِّمنا أسرارَ القرآنِ وَوفِّقْنا لِخدْمتِهِ في كلِّ آنٍ وزمانٍ.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا[

اللّهم صلّ وسلّم وبارك وكرِّم على سيدنا ومولانا محمدٍ، عبدِك ونبيك ورسولِك النبي الأمّي وعلى آلهِ واصحابه وأزواجه وذرياته وعلى النبيين والمرسلين والملائكة المقربين والاولياء والصالحين، أفـضل صلاةٍ وأزكى سلامٍ وأنمى بركاتٍ، بعدد سُوَر القرآن وآياته وحروفه وكلماته ومعانيه واشاراته ورموزه ودلالاته، واغفر لنا وارحمنا والطف بنا يا إلهنا، يا خالقنا، بكل صلاة منها برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين

آمين
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #27
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة العشرون

((وهي مقامان))



المقام الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)

] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)

] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)

كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:

قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟

ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.

ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟

وصورة النكت الملهمة هي الآتية:

C النكتة الاولى:

ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.

فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:

ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة.. ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.

واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.

واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.

C النكتة الثانية:

من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.

وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.

فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.

فافهم قياساً على هذا:

ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.

C النكتة الثالثة:

قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)

عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:

ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟

فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:

نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.

ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..

زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.

فبناء على هذا:

يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات: يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها! ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً. فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).



ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.

فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:

يا بني اسرائيل ويا بنى آدم! ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم! انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل، فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم، نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.

فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.

تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..

وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:

ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك

الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.

فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى، فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.

فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.

والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.

وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.

والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.

فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:

يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.

ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:

يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.

ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:

انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.

بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:

ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:

يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.

ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟

فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.

فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..

آمين

برحمتك يا ارحم الراحمين.

اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة العشرين

لمعة اعجاز قرآني تتلألأ على وجه معجزات الانبياء

((أنعم النظر في الجوابين المذكورين في الختام))

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[ (الانعام:59)

لقد كتبتُ قبل أربع عشرة سنة(1) بحثاً يخص سراً من أسرار هذه الآية الكريمة في تفسيري الذي كتبته باللغة العربية الموسوم بـ ((اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) والآن استجابة لطلب أخوين كريمين عزيزين عندي اكتب ايضاحاً باللغة التركية لذلك البحث، مستعيناً بتوفيق العلي القدير ومستلهماً من فيض القرآن الكريم، فأقول:

ان ((كتاب مبين)) - على قول - هو القرآن الكريم. فهذه الآية الكريمة تبيّن أنه: ما من رطب ولا يابس إلاّ وهو في القرآن الكريم.

أتراه كذلك؟

-نعم! ان في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم، فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات. ويرد كل من هذه الدرجات؛ اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً. فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة.

فمثلاً: ان الطائرة والكهرباء والقطار واللاسلكي وامثالها من منجزات العلم والصناعة - التكنلوجيا الحديثة - والتي تعدّ حصيلة التقدم الانساني ورقيه في مضمار الصناعة والعلم، أصبحت هذه الاختراعات موضع اهتمام الانسان، وتبوأت مكانة خاصة في حياته المادية.

لذا فالقرآن الكريم الذي يخاطب البشرية قاطبة لم يهمل هذا الجانب من حياة البشر، بل قد أشار الى تلك الخوارق العلمية من جهتين:

الجهة الاولى: اشار اليها عند اشارته الى معجزات الانبياء عليهم السلام.

الجهة الثانية: اشار اليها عند سرده بعض الحوادث التاريخية.

فعلى سبيل المثال: فقد اشار الى القطار في الآيات الكريمة الآتية:

] قُتلَ اصحابُ الاخدود ^ النارِ ذاتِ الوَقُودِ ^ اذ هُم عليها قُعودٌ^ وهُم على ما يفعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ^ وما نَقَموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيزِ الحميد[ .(1) (البروج: 4ـ 8)

وايضاً:

] في الفُلك المشحون ^ وخَلقنا لهم مِن مثلِهِ ما يَركبون[ (يس:41 - 42)

والآية الكريمة الآتية ترمز الى الكهرباء علاوة على اشارتها الى كثير من الأنوار والاسرار:

] الله نورُ السمواتِ والارض مثلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجُة كأنها كوكبٌ درّيٌّ يوقَدُ مِن شجرةٍ مُباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيٍة ولا غربيةٍ يكادُ زيتُها يُـضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدى الله لنوره مَن يشاءُ [ (2) (النور:35)

ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا الى هذا القسم، وبذلوا جهوداً كثيرة في توضيحه علماً ان القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطاً للموضوع اكثر من هذا وايضاحاً وافياً. فضلاً عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة.

اما القسم الاول الذي يشير الى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن اشارات القرآن الى معجزات الانبياء.. سنذكر نماذج منه.



المقدمة:

يبيّن القرآن الكريم ان الانبياء عليهم السلام قد بُعثوا الى مجتمعات انسانية ليكونوا لهم ائمة الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي. ويبين في الوقت نفسه ان الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّاداً للبشرية واساتذة لها في تقدمها المادي ايضاً. أي انه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعاً كاملاً في الامور المادية والمعنوية؛ اذ كما يحض القرآنُ الكريم الانسانَ على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلى بها الانبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فانه عند بحثه عن معجزاتهم المادية ايضاً يومئ الى إثارة شوق الانسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في ايديهم، ويشير الى حضّه على بلوغ نظائرها، بل يصح القول: ان يد المعجزة هي التي أهدت الى البشرية الكمال المادي وخوارقه لاول مرة، مثلما أهدت اليها الكمال المعنوي. فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي احدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي احدى معجزاته. فقد قدمتهما يدُ المعجزة لاول مرة هدية ثمينة الى البشرية. وهناك اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصناع نبياً من الانبياء رائداً لصنعتهم وقطباً لمهنتهم. فالملاحون - مثلاً - اتخذوا سيدنا نوحاً عليه السلام رائدهم والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام امامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا ادريس عليه السلام مرشدهم..

ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعاً ان لكل آية كريمة وجوهاً عدة للارشاد، وجهات كثيرة للهداية، فلا يمكن اذاً ان تكون أسطع الآيات وهي آيات المعجزات، سرداً تاريخياً، بل لابد انها تتضمن ايضاً معاني بليغة جمة للارشاد والهداية.

نعم، ان القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء انما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن ان يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها الى أبعد نهاياتها، وغاية ما يمكن ان تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعد الاهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها اليها. اذ كما ان الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل ايضاً حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله.

وسنبين بضعة نماذج مثالاً، من ذلك النبع الفياض الواسع:

C فمثلاً: ] ولسليمنَ الريح غدوّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ[ (سبأ:12).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام.

وهي تسخير الريح له، أي أنه قد قطع في الهواء ما يقطع في شهرين في يوم واحد.

فالآية تشير الى ان الطريق مفتوح امام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.

فيا ايها الانسان! حاول ان تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك.

فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة:

((ان عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحمّلتُه فوق متون الهواء. وانت ايها الانسان! ان نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك ايضاً ان تمتطي صهوة الهواء)).

C ومثلاً: ] فقلنا اضربْ بعصاكَ الحجَر فانفجرتْ منه اثنتا عشرةَ عيناً..[ (البقرة:60)

هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير الى انه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الارض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من ارض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.

فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى:

يمكنكم ان تجدوا الماء الذي هو ألطف فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه.

فالله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية:

((ما دمتُ اسلّم بيد عبد يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها ان يفجّر الماء أينما شاء. فانت ايها الانسان ان اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً ان تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة)).

فانت ترى كيف ان هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الانسان من استخراج الماء في اغلب الاماكن، والتي هي احدى وسائل رقي البشرية. بل ان الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الاولى أبعد النقاط النهائية، واقصى ما يمكن ان تبلغ اليه الطائرة الحاضرة.

C ومثلاً: ] وابرئ الاكمهَ والأبرصَ واُحيي الموتى بإذن الله..[ (آل عمران:49).

فالقرآن الكريم اذ يحث البشرية صراحة على اتباع الاخلاق النبوية السامية التي يتحلى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزاً الى النظر الى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.

فهذه الآية الكريمة تشير الى:

((انه يمكن ان يُعثر على دواء يشفي أشد الامراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس ايها الانسان، ولا تقنط ايها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من الوان الحياة الموقتة)).

فالله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَركَ الدنيا لأجلي، وعافها في سبيلي، هديتين: احداهما دواء للاسقام المعنوية، والاخرى علاج للامراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الاموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرأون به. وانت ايها الانسان! بوسعك ان تجد في صيدلية حكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فانك لا محالة واجده وظافر به.

وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآية الكريمة أقصى المدى وأبعد الأهداف التي يصبو اليها الطب البشري من تقدم.

فالآية تشير الى ذلك الهدف وتحث الانسان على الوصول اليه.

C ومثلاً: ] وألنّا لَهُ الحديدَ[ (سبأ:10)

] وآتيناهُ الحكمةَ وفصلَ الخطاب[ (ص:20)

هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة ] وأسَلنا له عَينَ القِطرِ[ (سبأ:12) تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير الى:

ان تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، اذ يبين الله به فضل نبيٍ عظيم. فتليين الحديد وجعله كالعجين، واذابة النحاس وايجاد المعادن وكشفها هو اصل جميع الصناعات البشرية، واساسها. وهو أم التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه.

فهذه الآية تشير الى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله اسلاكاً رفيعة واسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفة للارض عظيم. فما دام سبحانه قد كرم مَن هو رسولٌ وخليفة معاً، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم الى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد ان هناك اشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.

فسبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيت عبداً من عبادي اطاع اوامري وخضع لما كلفته به، آتيت لسانه فصل الخطاب، وملأتُ قلبه حكمةً ليفصل كل شئ على بينة ووضوح.

ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديد كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء اركان خلافته وادامة دولته وحكمه. فما دام هذا الامر ممكناً وواقعاً فعلاً، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية فانتم يابني آدم إن اطعتم اوامري التكوينية تُوهَب لكم ايضاً تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن ان تقتربوا منهما وتبلغوهما.

وهكذا فان بلوغ البشرية أقصى امانيها في الصناعة، وكسبها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، انما هو بتليين الحديد وباذابة النحاس - القطرـ فهذه الآيات

الكريمة تستقطب انظار البشرية عامة الى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين اليها، فتنبه اولئك الذين لا يقدرونها حق قدرها.

C ومثلاً: ] قالَ الذي عندهُ علمٌ ِمن الكتابِ أنا اتيكَ به قبلَ أن يرتدّ اليكَ طرفُكَ فلما رآهُ مستقراً عندهُ..[ (النمل:40).

فهذه الآية تشير الى ان احضار الاشياء من مسافات بعيدة - عيناً أو صورة - ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحد وزرائه الذي اوتي علماً غزيراً في ((علم التحضير)): انا اتيك بعرش بلقيس.

ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلك والنبوة معاً، واكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على احوال رعاياه، ومشاهدة اوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصونه من الشطط في امور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على ارجاء المملكة.

فمن يعتمد على الله سبحانه اذاً ويطمئن اليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية، يمكن ان تتحول له الدنيا الواسعة كأنها مدينة منتظمة امامه كما حدث لسليمان عليه السلام الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضار عرش بلقيس فأحضر في طرفة عين وصار ماثلاً امامه - بعينه أو بصورته - في بلاد الشام بعد ان كان في اليمن. ولاشك ان اصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صورهم.

فهذه الآية تشير اشارة رائعة الى احضار الصور والاصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب:

«ايها الحكام! ويا من تسلمتم امر البلاد! ان كنتم تريدون ان تسود العدالة انحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله الى مشاهدة ما يجري في الارض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع ارجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع الى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والســلطان الــذي يرعـى شؤون ابناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل الى مبتـغــاه إلا اذا اسـتـطـــاع الاطـلاع - مـتى شاء - على اقطار مملكته. وعندئذٍ تعم العـدالة حـقاً، وينقذ نفـسه من المـحـاســبة والتبـعات المعنوية.

فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيتُ عبداً من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الارجاء، ومنحته الاطلاع المباشر على احوال الارض واحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقاً كاملاً، ولما كنتُ قد وهبت لكل انسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنى قد زوّدتُه - بمقتضى حكمتي - ما يناسب تلك القابلية الفطرية من مواهب واستعدادات يتمكن بها من ان يشاهد الارض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أن الانسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه الا انه يتمكن من بلوغها بنوعه. وان لم يستطع بلوغها مادياً، فانه يبلغها معنوياً - كما يحصل للاولياء الصالحين - فباستطاعتكم اذاً الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا الى العمل الجاد واسعوا سعياً حثيثاً كي تحوّلوا الارض الى ما يشبه حديقة صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلها وتسمعون احداثها واخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبروا الآية الكريمة:

] هوَ الذي جعلَ لكمُ الارضَ ذلولاً فامشوا في مناكِبها وكُلوا مِن رزقه واليه النشور[ (الملك:15).

وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال الى اثارة همة الانسان، وبعث اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها احضار الصور والاصوات من أبعد الاماكن واقصاها ضمن ادق الصناعات البشرية.

C ومثلاً: ] وآخرين مقرّنين في الأصفاد[ (ص:38).

] ومنِ الشياطين مَن يغُوصونَ لهُ ويعملونَ عملاً دونَ ذلكَ وكنّا لهُم حافظين[ (الانبياء:82).

هذه الآيات الكريمة تفيد تسخير سيدنا سليمان عليه السلام الجن والشياطين والارواح الخبيثة، ومنعه شرورهم واستخدامهم في أمور نافعة. فالآيات تقول:

ان الجن الذين يلون الانسان في الأّهمية في سكنى الأرض من ذوي الشعور، يمكن ان يصبحوا خداماً للانسان، ويمكن ايجاد علاقة ولقاء معهم، بل يمكن للشياطين ان يضعوا عداءَهم مع الانسان ويخدموه مضطرين كما سخّرهم الله سبحانه وتعالى لعبدٍ من عباده المنقادين لأوامره.

بمعنى ان الله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآيات: ((أيها الانسان! اني اسخّر الجن والشياطين واشرارهم لعبدٍ قد أطاعني واجعلهم منقادين اليه مسخرين له، فانت ان سخّرت نفسك لأمري واطعتني، قد تُسخّر لك موجودات كثيرة بل حتى الجن والشياطين)) .

فالآية الكريمة تخط أقصى الحدود النهائية، وتعيّن أفضل السبل القويمة للانتفاع، بل تفتح السبيل أيضاً الى تحضير الارواح ومحادثة الجن الذي ترشح من امتزاج فنون الانسان وعلومه، وتظاهر مما تنطوي عليه من قوى ومشاعر فوق العادة، المادية منها والمعنوية. ولكن ليس كما عليه الامر في الوقت الحاضر حيث أصبح المشتغلون بهذه الأمور موضع استهزاء بل ألعوبة بيد الجن الذين ينتحلون أحياناً اسماء الأموات. وغدوا مسخّرين للشياطين والارواح الخبيثة، وانما يكون ذلك بتسخير أولئك باسرار القرآن الكريم مع النجاة من شرورهم.

C ثم ان الآية الكريمة:

] فارسلنا اليها روحَنا فتمثلَ لها بشراً سَويّاً[ (مريم:17).

هذه الآية وامثالها التي تشير الى تمثل الارواح، وكذا الآيات المشيرة الى جلب سيدنا سليمان - عليه السلام - للعفاريت وتسخيرهم له . هذه الآيات الكريمة مع اشارتها الى تمثل الروحانيات فهي تشير الى تحضير الأرواح ايضاً. غير ان تحضير الارواح الطيبة - المشار اليه في الآيات - ليس هو بالشكل الذي يقوم به المعاصرون من إحضار الارواح الى مواضع لهوهم واماكن ملاعبهم والذي هو هزل رخيص واستخفاف لا يليق بتلك الارواح الموقرة الجادة، التي تعمر عالماً كله جدّ لا هزل فيه، بل يمكن تحضيرالارواح بمثل ما قام به اولياء صالحون لأمر جاد ولقصد نبيل هادف - من امثال محي الدين بن عربي - الذين كانوا يقابلون تلك الارواح الطيبة متى شاؤا، فاصبحوا هم منجذبين اليها ومنجلبين لها ومرتبطين معها ومن ثم الذهاب الى مواضعها والتقرب الى عالمها والاستفادة من روحانياتها، فهذا هو الذي تشير اليه الآيات الكريمة وتُشعر في اشارتها حضاً وتشويقاً للانسان وتخطّ اقصى الحدود النهائية لمثل هذه العلوم والمهارات الخفية، وتعرض أجمل صوره وأفضلها.

C ومثلاً:] إنّا سخّرنا الجبالَ معه يسبّحنَ بالعشيّ والإشراق[ (ص:18).

] يا جبالُ أوّبي مَعَه والطيرَ وألنّا له الحديد[ (سبأ:10).

] عُلِّمنا منطقَ الطير..[ (النمل:16).

هذه الآيات الكريمة التي تذكر معجزات سيدنا داود عليه السلام تدل على أن الله سبحانه قد منح تسبيحاته واذكاره من القوة العظيمة والصوت الرخيم والأداء الجميل ما جعل الجبال في وجدٍ وشوق، وكأنها حاكٍ عظيم تردد تسبيحاتٍ واذكاراً. أو كأنها انسان ضخم يسبّح في حلقة ذكر حول رئيس الحلقة.

اتُراك هذه حقيقة؟ وهل يمكن ان يحدث هذا فعلاً؟!

نعم! انها لحقيقة قاطعة، أليس كل جبل ذي كهوف يمكن ان يتكلم مع كل انسان بلسانه، ويردد كالببغاء ما يذكره؟ فان قلت (الحمد لله) أمام جبل،فهو يقول ايضاً: (الحمد لله) وذلك برجع الصدى.. فما دام الله سبحانه وتعالى قد وهب هذه القابلية للجبال، فيمكن اذاً أن تنكشف هذه القابلية وتنبسط اكثر من هذا. وحيث ان الله سبحانه قد خص سيدنا داود عليه السلام بخلافة الأرض فضلاً عن رسالته، فقد كشف بذرة تلك القابلية لديه ونماها وبسطها بسطاً معجزاً عنده، بما يلائم شؤون الرسالة الواسعة والحاكمية العظيمة، حتى غدت الجبال الشم الرواسي منقادة اليه كأي جندي مطيع لأمره، وكأي صانع أمين لديه، وكأي مريد خاشع لذكره. فأصبحت تلك الجبال تسبح بحمد الخالق العظيم جلّ جلاله بلسانه عليه السلام وبأمره. فما كان سيدنا داود يذكر ويسبّح إلاّ والجبال تردد ما يذكره.

نعم، ان القائد في الجيش يستطيع ان يجعل جنوده المنتشرين على الجبال يرددون: (الله اكبر) بما لديه من وسائل الاتصال والمخابرات، حتى كأن تلك الجبال هي التي تتكلم وتهلل وتكبر! فلئن كان قائداً من الانس يستطيع أن يستنطق (مجازياً) الجبال بلسان ساكنيها، فكيف بقائد مهيب لله سبحانه وتعالى؟ الا يستطيع أن يجعل تلك الجبال تنطق نطقاً (حقيقياً) وتسبح تسبيحاً حقيقياً؟. هذا فضلاً عن اننا قد بينا في (الكلمات) السابقة ان لكل جبل شخصية معنوية خاصة به، وله تسبيح خاص ملائم له، وله عبادة مخصوصة لائقة به. فمثلما يسبّح كل جبل برجع الصدى باصوات البشر، فان له تسبيحات للخالق الجليل بألسنته الخاصة.

C وكذلك: ] والطيرَ محشورةً[ (ص:19).

] و عُلّمنا منطقَ الطير[ (النمل:16) هذه الآيات تبين ان الله سبحانه قد علّم سيدنا داود وسليمان عليهما السلام منطق انواع الطيور، ولغة قابلياتها واستعداداتها، أي: أيّ الاعمال تناسبها؟ وكيف يمكن الاستفادة منها؟

نعم! هذه الحقيقة هي الحقيقة الجليلة، إذ ما دام سطح الارض مائدة رحمانية اقيمت تكريماً للانسان، فيمكن اذاً ان تكون معظم الحيوانات والطيور التي تنتفع من هذه المائدة مسخّرة للانسان، ضمن تصرفه وتحت خدمته. فالانسان الذي استخدم النحل ودودة القز - تلكم الخَدَمة الصغار - وانتفع مما لديهم من إلهام إلهي، والذي استعمل الحمام الزاجل في بعض شؤونه وأعماله، واستنطق الببغاء وأمثاله من الطيور، فضمَّ الى الحضارة الانسانية محاسن جديدة، هذا الانسان يمكنه ان يستفيد اذاً كثيراً اذا ما عَلِم لسان الاستعداد الفطري للطيور، وقابليات الحيوانات الاخرى، حيث هي انواع وطوائف كثيرة جداً، كما استفاد من الحيوانات الأليفة. فمثلاً: اذا عَلِم الانسان لسان استعداد العصافير (من نوع الزرازير) التي تتغذى على الجراد ولا تدعها تنمو، واذا ما نسّق اعمالها فانه يمكن ان يسخّرها لمكافحة آفة الجراد. فيكون عندئذٍ قد انتفع منها واستخدمها مجاناً في امور مهمة.

فمثل هذه الانواع من استغلال قابليات الطيور والانتفاع منها، واستنطاق الجمادات من هاتف وحاكٍ، تخط له الآية الكريمة المذكورة المدى الاقصى والغاية القصوى.

فيقول الله سبحانه بالمعنى الرمزي لهذه الآيات الكريمة:

يا بني الانسان! لقد سخرتُ لعبد من بني جنسكم، عبد خالص مخلص، سخرتُ له مخلوقات عظيمة في ملكي وانطقتها له، وجعلتها خداماً امناء وجنوداً مطيعين له، كي تعصم نبوته، وتصان عدالته في ملكه ودولته. وقد أتيتُ كلاً منكم استعداداً ومواهب ليصبح خليفة الارض، واودعتُ فيكم أمانة عظمى، أبتِ السموات والارض والجبال ان يحملنها، فعليكم اذاً ان تنقادوا وتخضعوا لأوامر مَن بيده مقاليد هذه المخلوقات وزمامها، لتنقاد اليكم مخلوقاته المبثوثة في ملكه. فالطريق ممهد أمامكم ان استطعتم ان تقبضوا زمام تلك المخلوقات باسم الخالق العظيم، واذا سموتم الى مرتبة تليق باستعداداتكم ومواهبكم..

فما دامت الحقيقة هكذا فاسعَ ايها الانسان ان لا تنشغل بلهو لا معنى له، وبلعب لا طائل من ورائه، كالانشغال بالحاكي والحمام والببغاء.. بل اسعَ في طلب لهوٍ من ألطف اللهو وازكاه، وتسلَّ بتسلية هي من ألذ أنواع التسلية.. فاجعل الجبال كالحاكي لأذكارك، كما هي لسيدنا داود عليه السلام، وشنّف سمعك بنغمات ذكر وتسبيح الاشجار والنباتات التي تخرج أصواتاً رقيقة عذبة بمجرد مس النسيم لها وكأنها اوتار آلات صوتية.. فبهذا الذكر العلوي تُظهر الجبال لك الوفاً من الألسنة الذاكرة المسبحة، وتبرز أمامك في ماهية عجيبة من أعاجيب المخلوقات. وعندئذٍ تتزيا معظم الطيور وتلبس - كأنها هدهد سليمان - لباسَ الصديق الحميم والانيس الودود، فتصبح خداماً مطيعين لك. فتسليك أيما تسلية، وتلهيك لهواً بريئاً لا شائبة فيه، فضلاً عن ان هذا الذكر السامي يسوقك الى انبساط قابليات ومواهب كانت مغمورة في ماهيتك، فتحول بينك وبين السقوط من ماهية الانسان السامية ومقامه الرفيع، فلا تجذبك بعدُ اضراب اللهو التي لا مغزى لها الى حضيض الهاوية.

C ومثلاً: ] قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على ابراهيم[ (الانبياء:69).

هذه الآية الكريمة تبين معجزة سيدنا ابراهيم عليه السلام، وفيها ثلاث اشارات لطيفة:

أولاها: النار - كسائر الاسباب - ليس أمرها بيدها، فلا تعمل كيفما تشاء حسب هواها وبلا بصيرة، بل تقوم بمهمتها وفق أمر يُفرض عليها. فلم تحرق سيدنا ابراهيم لانها أُمرت بعدم الحرق.

ثانيتها: ان للنار درجة تحرق ببرودتها، أي تؤثر كالاحتراق. فالله سبحانه يخاطب البرودة بلفظة:((سلاماً))(1) بأن لا تحرقي انتِ كذلك ابراهيم، كما لم تحرقه الحرارة. أي أن النار في تلك الدرجة تؤثر ببرودتها كأنها تحرق، فهي نار وهي برد.

نعم ان النار - كما في علم الطبيعيات - لها درجات متفاوتة، منها درجة على صورة نار بيضاء لا تنشر حرارتها بل تكسب مما حولها من الحرارة، فتجمد بهذه البرودة ما حولها من السوائل، وكأنها تحـرق ببرودتــها. وهكـذا الزمهــرير لـون من الوان النار تحرق ببرودتها، فوجوده اذن ضروري في جهنم التي تضم جميع درجات النار وجميع أنواعها.

ثالثتها: مثلما الايمان الذي هو (مادة معنوية) يمنع مفعول نار جهنم، وينجي المؤمنين منها. وكما ان الاسلام درع واقٍ وحصن حصين من النار، كذلك هناك (مادة مادية) تمنع تأثير نار الدنيا، وهي درع أمامها، لان الله سبحانه يجري اجراءاته في هذه الدنيا - التي هي دار الحكمة - تحت ستار الاسباب وذلك بمقتضى اسمه (الحكيم)، لذا لم تحرق النار جسم سيدنا ابراهيم عليه السلام مثلما لم تحرق ثيابه وملابسه ايضاً. فهذه الآية ترمز الى:

((يا ملة ابراهيم! اقتدوا بابراهيم! كي يكون لباسكم لباس التقوى وهو لباس ابراهيم، وليكون حصناً مانعاً ودرعاً واقياً في الدنيا والآخرة تجاه عدوكم الاكبر، النار. فلقد خبأ سبحانه لكم مواداً في الارض تحفظكم من شر النار، كما يقيكم لباس التقوى والايمان الذي ألبستموه أرواحكم، شر نار جهنم.. فهلموا واكتشفوا هذه المواد المانعة من الحرارة واستخرجوها من باطن الارض والبسوها)).

وهكذا وجد الانسان حصيلة بحوثه واكتشافاته مادة لا تحرقها النار، بل تقاومها فيمكنه ان يصنع منها لباساً وثياباً.

فقارن هذه الآية الكريمة، وقس مدى سموها وعلوها على اكتشاف الانسان للمادة المضادة للنار، واعلم كيف انها تدل على حلة قشيبة نسجت في مصنع (حنيفاً مسلماً) لا تتمزق ولا تخلق وتبقى محتفظة بجمالها وبهائها الى الابد.

C ومثلاً: ] وعلّم آدمَ الاسماءَ كلها[ (البقرة:31).

تبين هذه الآية ان المعجزة الكبرى لآدم عليه السلام - في دعوى خلافته الكبرى - هي تعليم الاسماء.

فمثلما ترمز معجزات سائر الانبياء الى خارقة بشرية خاصة لكل منهم، فان معجزة ابي الانبياء وفاتح ديوان النبوة آدم عليه السلام تشير اشارة قريبة من الصراحة الى منتهى الكمال البشري، وذروة رقيه، والى أقصى أهدافه، فكأن الله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

((يا بني آدم!.. ان تفوّق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمتُه الاسماء كلها، وأنتم بنوه ووارثو استعداداته ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الاسماء كلها لتثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتسنم الامانة العظمى، فلقد مُهّد الطريق أمامكم لبلوغ اسمى المراتب العالية في الكون، وسُخرت لكم الارض، هذه المخلوقة الضخمة، فهيا انطلقوا وتقدموا، فالطريق مفتوح أمامكم.. واستمسكوا بكل اسم من اسمائي الحسنى، واعتصموا به، لتسموا وترتفعوا. واحذروا! فلقد أغوى الشيطان أباكم مرة واحدة، فهبط من الجنة - تلك المنزلة العالية - الى الارض موقتاً. فاياكم ان تتبعوا الشيطان في رقيكم وتقدمكم، فيكون ذريعة ترديكم من سموات الحكمة الإلهية الى ضلالة المادية الطبيعية.. ارفعوا رؤوسكم عالياً، وانعموا النظر والفكر في اسمائي الحسنى، واجعلوا علومكم ورقيكم سلماً ومراقي الى تلك السموات، لتبلغوا حقائق علومكم وكمالكم، وتصلوا الى منابعها الاصلية، تلك هي أسمائي الحسنى.

وانظروا بمنظار تلك الاسماء ببصيرة قلوبكم الى ربكم)).

بيان نكتة مهمة وايـضاح سر أهم

ان كل ما ناله الانسان - من حيث جامعية ما أودع الله فيه من استعدادات - من الكمال العلمي والتقدم الفني، ووصوله الى خوراق الصناعات والاكتشافات، تعبّر عنه الآية الكريمة بتعليم الاسماء: ] وعلم آدم الاسماء كلها[ . وهذا التعبير ينطوي على رمزٍ رفيع ودقيق، وهو:

ان لكل كمال، ولكل علم، ولكل تقدم، ولكل فن - أياً كان - حقيقة سامية عالية. وتلك الحقيقة تستند الى اسم من الاسماء الحسنى، وباستنادها الى ذلك الاسم - الذي له حُجُب مختلفة، وتجليات متنوعة، ودوائر ظهور متباينة - يجد ذلك الفن وذلك الكمال وتلك الصنعة، كلٌ منها كمالَه، ويصبح حقيقةً فعلاً، وإلا فهو ظل ناقص مبتور باهت مشوش.

فالهندسة - مثلاً - علم من العلوم، وحقيقتُها وغاية منتهاها هي الوصول الى اسم (العدل والمقدِّر) من الاسماء الحسنى، وبلوغ مشاهدة التجليات الحكيمة لذلك الاسم بكل عظمتها وهيبتها في مرآة علم (الهندسة).

والطب - مثلاً - علم ومهارة ومهنة في الوقت نفسه، فمنتهاه وحقيقته يستند ايضاً الى اسم من الاسماء الحسنى وهو (الشافي). فيصل الطب الى كماله ويصبح حقيقة فعلاً بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم (الشافي) في الادوية المبثوثة على سطح الارض الذي يمثل صيدلية عظمى.

والعلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات - كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان .. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..

فاليك الامثلة الثلاثة كما مرت.. قس عليها بقية العلوم والفنون والكمالات..

وهكذا يضرب القرآن الكريم بهذه الآية الكريمة يد التشويق على ظهر البشرية مشيراً الى اسمى النقاط وأبعد الحدود واقصى المراتب التي قصرت كثيراً عن الوصول اليها في تقدمها الحاضر، وكأنه يقول لها: هيا تقدمي.

نكتفي بهذا الجوهر النفيس من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، ونغلق هذا الباب.

ومثلاً: ان خاتم ديوان النبوة، وسيد المرسلين، الذي تعدّ جميع معجزات الرسل معجزة واحدة لتصديق دعوى رسالته، والذي هو فخر العالمين، وهو الآية الواضحة المفصلة لجميع مراتب الاسماء الحسنى كلها التي علمها الله سبحانه آدم عليه السلام تعليماً مجملاً.. ذلكم الرسول الحبيب محمد e الذي رفع اصبعه عالياً بجلال الله فشق القمر وخفض الاصبع المبارك نفسه بجمال الله ففجر ماء كالكوثر.. وأمثالها من المعجزات الباهرات التي تزيد على الألف.. هذا الرسول الكريم أظهر القرآن الكريم معجزة كبرى تتحدى الجن والانس: ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً[ (الاسراء:88) فهذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات تجلب انظار الانس والجن الى ابرز وجوه الاعجاز في هذه المعجزة الخالدة واسطعها، فتلفتها الى ما في بيانه -الحقَ والحقيقةَ- من جزالة، والى ما في تعابيره من بلاغة فائقة، والى ما في معانيه من جامعية وشمول، والى ما في اساليبه المتنوعة من سمـو ورفعة وعــذوبة.. فتحدّى القرآن المعجز، وما زال كذلك يتحدى الانس والجن قاطبة، مثيراً الشوق في اوليائه، محركاًَ ساكن عناد اعدائه، دافعاً الجميع الى تقليده، بشوق عظيم وترغيب شديد، للاتيان بنظيره، بل انه سبحانه يضع هذه المعجزة الكبرى أمام انظار الانام في موقع رفيع لكأن الغاية الوحيدة من مجئ الانسان الى هذه الدنيا ليست سوى اتخاذه تلك المعجزة العظمى دستور حياته، وغاية مناه.

نخلص مما تقدم: ان كل معجزة من معجزات الانبياء عليهم السلام تشير الى خارقة من خوارق الصناعات البشرية. أما معجزة سيدنا آدم عليه السلام فهي تشير الى فهرس خوارق العلوم والفنون والكمالات، وتشوق اليها جميعاً مع اشارتها الى اسس الصنعة اشارة مجملة مختصرة.

أما المعجزة الكبرى للرسول الاعظم e وهي القرآن الكريم ذو البيان المعجر، فلأن حقيقة تعليم الاسماء تتجلى فيه بوضوح تام، وبتفصيل أتم، فانه يبين الاهداف الصائبة للعلوم الحقة وللفنون الحقيقية، ويُظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر اليها ويوجهه نحوها، مثيراً فيه رغبة شديدة فيها، حتى انه يبين بأسلوب التشويق أن« أيها الانسان! المقصد الاسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه تظاهر الربوبية، وان الغاية القصوى من خلقك انت هي بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات».

فيعبر بتعابير متنوعة رائعة معجزة مشيراً بها الى:

ان البشرية في أواخر ايامها على الارض ستنساب الى العلوم، وتنصب الى الفنون، وستستمد كل قواها من العلوم والفنون فيتسلم العلم زمام الحكم والقوة.

ولما كان القرآن الكريم يسوق جزالة البيان وبلاغة الكلام مقدماً ويكررهما كثيراً، فكأنه يرمز الى ان البلاغة والجزالة في الكلام - وهما من اسطع العلوم والفنون - سيلبسان ازهى حللهما واروع صورهما في آخر الزمان، حتى يغدو الناس يستلهمون أمضى سلاحهم من جزالة البيان وسحره، ويستلمون أرهب قوتهم من بلاغة الاداء، وذلك عند بيان أفكارهم ومعتقداتهم لإقناع الاخرين بها، أو عند تنفيذ آرائهم وقراراتهم..

نحصل مما سبق: أن أكثر الآيات الكريمة انما هي مفتاح لخزينة كمال فائق، ولكنز علمي عظيم. فان شئت ان تبلغ سماوات القرآن الكريم ونجوم الايات فاجعل (الكلمات العشرين السابقة) عشرين درجاً لسلم الوصول اليها(1)، وشاهدْ بها مدى سطوع شمس القرآن العظيم، وتأملْ كيف ينشر القرآن نوره باهراً على حقيقة الالوهية وحقائق الموجودات، والمخلوقات، وكيف ينشر الضياء الساطع على كل الموجودات.

النتيجة: ما دامت الآيات التي تخص معجزات الانبياء عليهم السلام لها نوع من الاشارة الى خوارق التقدم العلمي والصناعي الحاضر، ولها طراز من التعبير كأنه يخط أبعد الحدود النهائية لها.. وحيث أنه ثابت قطعاً أن لكل آية دلالات على معانٍ شتى بل هذا متفق عليه لدى العلماء.. ولما كان هناك أوامر مطلقة لإتباع الانبياء عليهم السلام والاقتداء بهم، لذا يصح القول:

انه مع دلالة الآيات المذكورة سابقاً على معانيها الصريحة هناك دلالات مشوّقة باسلوب الاشارة الى أهم العلوم البشرية وصناعاتها.

جوابان مهمان عن سؤالين مهمين

C أحدهما:اذا قلت: لما كان القرآن الكريم قد نزل لأجل الانسان، فَلِمَ لا يصرّح بما هو المهم في نظره من خوارق المدنية الحاضرة؟ وانما يكتفي برمز مستتر، وايماء خفي، واشارة خفيفة، وتنبيه ضعيف فحسب؟

فالجواب: ان خوارق المدنية البشرية لا تستحق أكثر من هذا القدر، اذ إن الوظيفة الاساسية للقرآن الكريم هي تعليم شؤون دائرة الربوبية وكمالاتها ووظائف دائرة العبودية وأحوالها.

لذا فان حق تلك الخوارق البشرية وحصتها من تلك الدائرتين مجرد رمز ضعيف واشارة خفية ليس إلاّ.. فانها لو ادّعت حقوقها من دائرة الربوبية، فعندها لا تحصل إلاّ على حق ضئيل جداً.

فمثلاً: اذا طالبت الطائرة البشرية(1) القرآن الكريم قائلة:

((أعطني حقاً للكلام، وموقعاً بين آياتك)). فان طائرات دائرة الربوبية تلك الكواكب السيّارة والارض والقمر، ستقول بلسان القرآن الكريم:

- ((انكِ تستطيعين أن تأخذي مكانكِ هنا بمقدار جرمك لا أكثر)).

واذا أرادت الغواصة البشرية موقعاً لنفسها بين الآيات الكريمة فستتصدى لها غواصات تلك الدائرة؛ التي هي الارض السابحة في محيط الهواء، والنجوم العائمة في بحر الأثير قائلة:

- ((ان مكانك بيننا ضئيل جداً يكاد لا يُرى!)).

واذا ارادت الكهرباء ان تدخل حرم الآيات بمصابيحها اللامعة أمثال النجوم، فان مصابيح تلك الدائرة التي هي الشموس والشهب والانجم المزيّنة لوجه السماء، سترد عليها قائلة:

-((انك تستطيعين أن تدخلي معنا في مباحث القرآن وبيانه بمقدار ما تمتلكين من ضوء!!)).

ولو طالبت الخوارق الحضارية - بلسان صناعاتها الدقيقة - حقوقها وارادت لها مقاماً بين الآيات.. عندها ستصرخ ذبابة واحدة بوجهها قائلة:

- اسكتوا.. فليس لكم حق. ولو بمقدار أحد جناحيّ هذين! ولئن اجتمع كل ما فيكم من المصنوعات والأختراعات - التي اكتشف إكتساباً بارادة الانسان الجزئية - مع جميع الآلات الدقيقة لديكم، لن تكون أعجب بمقدار ما في جسمي الصغير جداً من لطائف الاجهزة ودقائق الصنعة. وان هذه الآية الكريمة تبهتكم جميعاً:

] إنَّ الذينَ تَدعون مِن دونِ الله لن يَخلُقوا ذباباً ولو اجتَمعوا له، وإن يسلُبْهم الذبابُ شيئاً لا يستنقنذوهُ منه، ضعُفَ الطالبُ والمطلوبُ[ (الحج:73)

واذا ذهبت تلك الخوارق الى دائرة العبودية وطلبت منها حقها فستتلقى منها مثل هذا الجواب:

-ان علاقتكم معنا واهية وقليلة جداً، فلا يمكنكم الدخول إلى دائرتنا بسهولة، لأن منهجنا هو:

ان الدنيا دار ضيافة، وان الانسان ضيف يلبث فيها قليلاً، وله وظائف جمة، وهو مكلف بتحضير وتجهيز ما يحتاجه لحياته الأبدية الخالدة في هذا العمر القصير، لذلك يجب عليه ان يقدّم ما هو الأهم والألزم.

إلاّ أنه تبدو عليكم - على اعتبار الأغلبية - ملامح نسجت بحب هذه الدنيا الفانية تحت أستار الغفلة واللهو وكأنها دار للبقاء ومستقر للخلود. لذا فان حظكم من دائرة العبودية المؤسّسة على هدى الحق والتفكر في آثار الآخرة، قليل جداً.

ولكن.. ان كان فيكم - أو من ورائكم - من الصناع المهرة والمخترعين الملهمين - وهم قلة - وكانوا يقومون بأعمالهم مخلصين لأجل منافع عباد الله - وهي عبادة ثمينة - ويبذلون جهدهم للمصلحة العامة وراحتهم لرقي الحياة الاجتماعية وكمالها، فان هذه الرموز والارشادات القرآنية كافية بلا ريب لأولئك الذوات المرهفي الاحساس، ووافية لتقدير مهاراتهم وتشويقهم الى السعي والاجتهاد.

C السؤال الثاني:

واذا قلت: لم تبق لديّ الآن بعد هذا التحقيق شبهة، فقد ثبت عندي بيقين وصدّقت؛ أن القرآن الكريم فيه جميع ما يلزم السعادة الدنيوية والأخروية كل حسب قيمته وأهميته، فهناك رموز واشارات الى خوارق المدنية الحاضرة بل الى أبعد منها من الحقائق الأخرى مع ما فيه من حقائق جليلة ولكن لِمَ لم يذكر القرآن الكريم تلك الخوراق بصراحة تامة كي تجبر الكفرة العنيدين على التصديق والايمان وتطمئن قلوبنا فتستريح؟.

الجواب:

ان الدين امتحان، وان التكاليف الإلهية تجربة واختبار من أجل أن تتسابق الارواح العالية والارواح السافلة، ويتميز بعضها عن بعض في حلبة السباق.

فمثلما يختبر المعدن بالنار ليتميز الالماس من الفحم والذهب من التراب؛ كذلك التكاليف الإلهية في دار الامتحان هذه. فهي ابتلاء وتجربة وسَوق للمسابقة حتى تتميز الجواهر النفيسة لمعدن قابليات البشر واستعداداته من المعادن الخسيسة.

فما دام القرآن قد نزل - في دار الابتلاء هذه - بصورة اختبار للانسان ليتم تكامله في ميدان المسابقة، فلابد انه سيشير - اشارة فحسب - الى هذه الأمور الدنيوية الغيبية التي ستتوضح في المستقبل للجميع، فاتحاً للعقل باباً بمقدار اقامة حجته. وإلاّ فلو ذكرها القرآن الكريم صراحة، لاختلتْ حكمة التكليف اذ تصبح بديهية مثل كتابة (لا إله إلاّ الله) واضحاً بالنجوم على وجه السماء، والذي يجعل الناس - أرادوا أم لم يريدوا - عندئذ مرغمين على التصديق، فما كانت ثمة مسابقة ولا اختبار ولا تمييز فحينئذٍ تتساوى الارواح السافلة التي هي كالفحم مع التي هي كالالماس(1).



والخلاصة:

ان القرآن العظيم، حكيمٌ يعطي لكل شئ قدره من المقام، ويرى القرآن من ثمرات الغيب التقدمَ الحضاري البشري قبل ألف وثلاثمائة سنة المستترة في ظلمات المستقبل، أفضل واوضح مما نراها نحن وسنراها. فالقرآن اذاً كلام مَن ينظر الى كل الأزمنة بما فيها من الأمور والأشياء في آن واحد..

فتلك لمعة من الأعجاز القرآني، تلمع في وجه معجزات الأنبياء.

اللهمَّ فَـهِّمنا أسرارَ القرآنِ وَوفِّقْنا لِخدْمتِهِ في كلِّ آنٍ وزمانٍ.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا[

اللّهم صلّ وسلّم وبارك وكرِّم على سيدنا ومولانا محمدٍ، عبدِك ونبيك ورسولِك النبي الأمّي وعلى آلهِ واصحابه وأزواجه وذرياته وعلى النبيين والمرسلين والملائكة المقربين والاولياء والصالحين، أفـضل صلاةٍ وأزكى سلامٍ وأنمى بركاتٍ، بعدد سُوَر القرآن وآياته وحروفه وكلماته ومعانيه واشاراته ورموزه ودلالاته، واغفر لنا وارحمنا والطف بنا يا إلهنا، يا خالقنا، بكل صلاة منها برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين

آمين
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #28
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الحادية والعشرون



عبارة عن مقامين

المقام الاول

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً[ (النساء: 103)

قال لي احدهم يوماً وهو كبير سناً وجسماً ورتبة: ان اداء الصلاة حسنٌ وجميل، ولكن تكرارها كل يوم، وفي خمسة اوقات كثير جداً فكثرتها هذه تجعلها مملّة!..

وبعد مرور فترة طويلة على هذا القول، اصغيت الى نفسي فاذا هي ايضاً تردد الكلام نفسه!!. فتأملت فيها مليّاً، واذا بها قد أخذت بطريق الكسل الدرسَ نفسه من الشيطان، فعلمتُ عندئذ ان ذلك الرجل كأنه قد نطقَ بتلك الكلمات بلسان جميع النفوس الامّارة بالسوء، أو اُنطق هكذا.. فقلت: ما دامت نفسي التي بين جنبيّ امارةٌ بالسوء فلابد أن ابدأ بها أولاً لأن من عجز عن اصلاح نفسه فهو عن غيرها اعجز.. فخاطبتها:

يا نفسي!.. اسمعيها مني ((خمسة تنبيهات)) مقابل ما تفوهتِ به، وانتِ منغمسة في الجهل المركب، سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل..

C التنبيه الاول:

يا نفسي الشقية!.. هل ان عمركِ ابدي؟وهل عندك عهد قطعي بالبقاء الى السنة المقبلة بل الى الغد؟ فالذي جعلكِ تملّين وتسأمين من تكرار الصلاة هو توهمكِ الابدية والخلود، فتظهرين الدلال وكأنك بترفك مخلّدة في هذه الدنيا.

فان كنت تفهمين ان عمركِ قصير، وانه يمضي هباء دون فائدة، فلا ريب أن صرف جزء من اربعة وعشرين منه في اداء خدمة جميلة ووظيفة مريحة لطيفة، وهي رحمة لك ووسيلة لحياة سعيدة خالدة، لا يكون مدعاة الى الملل والسأم، بل وسيلة مثيرة لشوق خالص ولذوقٍ رائع رفيع.

C التنبيه الثاني:

يا نفسي الشرهة!.. انكِ يومياً تاكلين الخبز، وتشربين الماء، وتتنفسين الهواء، أما يورث هذا التكرار مللاً وضجراً؟.. كلا.. دون شك.. لان تكرار الحاجة لا يجلب الملل بل يجدّد اللذة، لهذا؛ فالصلاة التي تجلب الغذاء لقلبي، وماء الحياة لروحي، ونسيم الهواء للّطيفة الربانية الكامنة في جسمي، لابد انها لا تجعلك تملّين ولا تسأمين ابداً.

نعم! ان القلب المتعرض لأحزانٍ وآلام لا حدّ لها، المفتون بآمال ولذائذ لا نهاية لها، لا يمكنه ان يكسب قوةً ولا غذاء الاّ بطرقِ باب الرحيم الكريم، القادر على كل شئ بكل تضرع وتوسل.

وان الروح المتعلقة باغلب الموجودات الآتية والراحلة سريعاً في هذه الدنيا الفانية، لا تشرب ماء الحياة الاّ بالتوجه بالصلاة الى ينبوع رحمة المعبود الباقي والمحبوب السرمدي.

وان السر الانساني الشاعر الرقيق اللطيف، وهو اللطيفة الربانية النورانية، والمخلوق للخلود، والمشتاق له فطرةً والمرآة العاكسة لتجليات الذات الجليلة.. لابد انه محتاج أشد الحاجة الى التنفس، في زحمة وقساوة وضغوط هذه الاحوال الدنيوية الساحقة الخانقة العابرة المظلمة، وليس له ذلك الاّ بالاستنشاق من نافذة الصلاة.

C التنبيه الثالث:

يا نفسي الجزعة!.. انك تضطربين اليوم من تذكر عناء العبادات التي قمت بها في الأيام الماضية، ومن صعوبات الصلاة وزحمة المصائب السابقة، ثم تتفكرين في واجبات العبادات في الايام المقبلة وخدمات اداء الصلوات، وآلام المصائب، فتظهرين الجزع، وقلة الصبر ونفاده. هل هذا أمرٌ يصدر ممَّن له مسكة من عقل؟.

ان مثلكِ في عدم الصبر هذا مثلُ ذلك القائد الاحمق الذي وجَّه قوةً عظيمة من جيشه الى الجناح الأيمن للعدو، في الوقت الذي إلتحقَ ذلك الجناح من صفوف العدو الى صفّه، فاصبح له ظهيراً. ووجّه قوته الباقية الى الجناح الايسر للعدو، في الوقت الذي لم يكن هناك أحدٌ من الجنود. فأدرك العدو نقطة ضعفه فسدد هجومَه الى القلب فدمّره هو وجيشَه تدميراً كاملاً.

نعم انك تشبهين هذا القائد الطائش، لأن صعوبات الايام الماضية وأتعابها قد ولّت، فذهبت آلامُها وظلت لذّتها وانقلبت مشقتها ثواباً، لذا لا تولّد مللاً بل شوقاً جديداً وذوقاً نديّاً وسعياً جاداً دائماً للمضي والاقدام. أما الايام المقبلة، فلأنها لم تأتِ بعدُ، فان صرف التفكير فيها من الآن نوعٌ من الحماقة والبله، اذ يشبه ذلك، البكاء والصراخ من الآن، لما قد يحتمل ان يكون من العطش والجوع في المستقبل!.

فما دام الامر هكذا، فان كان لك شئ من العقل، ففكري من حيث العبادة في هذا اليوم بالذات. قولي: سأصرف ساعة منه في واجبٍ مهم لذيذ جميل، وفي خدمةٍ سامية رفيعة ذات أجر عظيم وكلفة ضئيلة.. وعندها تشعرين أن فتورك المؤلم قد تحوّل الى همة حلوة، ونشاط لذيذ.

فيا نفسي الفارغة من الصبر.. انك مكلفة بثلاثة أنواع من الصبر.

الأول: الصبر على الطاعة.

الثاني: الصبر عن المعصية.

الثالث: الصبر عند البلاء.

فان كنتِ فطنة فخذي الحقيقة الجلية في مثال القائد - في هذا التنبيه - عبرةً ودليلاً، وقولي بكل همة ورجولة: يا صبور. ثم خذي على عاتقك الانواع الثلاثة من الصبر. واستندي الى قوة الصبر المودعة فيك وتجمّلي بها، فانها تكفي للمشقات كلها، وللمصائب جميعها ما لم تبعثريها خطأ في أمور جانبية..

C التنبيه الرابع:

يا نفسي الطائشة!.. يا تُرى هل ان اداء هذه العبودية دون نتيجة وجدوى؟! وهل ان أجرتها قليلة ضئيلة حتى تجعلك تسأمين منها؟. مع ان أحدنا يعمل الى المساء ويكدّ دون فتور إن رغّبه احدٌ في مالٍ أو أرهبه.

ان الصلاة التي هي قوتٌ لقلبك العاجز الفقير وسكينةٌ له في هذا المضيف الموقت وهو الدنيا. وهي غذاءٌ وضياء لمنزلك الذي لابد انك صائرة اليه، وهو القبر. وهي عهدٌ وبراءةٌ في محكمتك التي لا شك انك تحشرين اليها. وهي التي ستكون نوراً وبُراقاً على الصراط المستقيم الذي لابد انك سائرة عليه.. فصلاة هذه نتائجها هل هي بلا نتيجة وجدوى؟ أم انها زهيدة الاجرة؟..

واذا وَعَدَكِ أحدٌ بهدية مقدارها مائة ليرة، فسوف يستخدمك مائة يوم وانت تسعَين وتعملين معتمدة على وعده دون ملل وفتور، رغم انه قد يخلف الوعد. فكيف بمن وعدك، وهو لا يخلف الوعد قطعاً؟ فخُلف الوعد عنده محال! وعدك اجرةً وثمناً هي الجنة، وهدية عظيمة هي السعادة الخالدة، لتؤدي له واجباً ووظيفة لطيفة مريحة وفي فترة قصيرة جداً. ألا تفكرين في أنك ان لم تؤدي تلك الوظيفة والخدمة الضئيلة، أو قمتِ بها دون رغبة أو بشكلٍ متقطع، فانك اذن تستخفين بهديته، وتتهمينه في وعده! الا تستحقين اذن تأديباً شديداً وتعذيباً اليماً؟. الا يثير همتك لتؤدي تلك الوظيفة التي هي في غاية اليسر واللطف خوف السجن الابدي وهو جهنم، علماً انك تقومين باعمال مرهقة وصعبة دون فتور خوفاً من سجن الدنيا، واين هذا من سجن جهنم الابدي؟!

C التنبيه الخامس:

يا نفسي المغرمة بالدنيا!.. هل ان فتورك في العبادة وتقصيرك في الصلاة ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ ام انك لا تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!

فيا عجباً هل أنتِ مخلوقة للدنيا فحسب، حتى تبذلي كل وقتك لها؟. تأملي!! انك لا تبلغين اصغرَ عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحياة الدنيا رغم انك أرقى من جميع الحيوانات فطرةً. لِمَ لا تفهمين من هذا أن وظيفتكِ الاصلية ليس الانهماك بالحياة الدنيا والاهتمام بها كالحيوانات، وانما السعيُ والدأبُ لحياة خالدة كالانسان الحقيقي. مع هذا فان اغلب ما تذكرينه من المشاغل الدنيوية، هي مشاغل ما لا يعنيك من الامور، وهي التي تتدخلين فيها بفضول، فتهدرين وقتك الثمين جداً فيما لا قيمة له ولا ضرورة ولا فائدة منه.. كتعلّم عدد الدجاج في امريكا!! أو نوع الحلقات حول زحل. وكأنك تكسبين بهذا شيئاً من الفَلك والاحصاء!! فتَدَعين الضروري والأهم والألزم من الامور كأنك ستعمّرين آلاف السنين؟.

فان قلت: ان الذي يصرفني ويفترني عن الصلاة والعبادة ليس مثل هذه الامور التافهة، وانما هي امور ضرورية لمطالب العيش. اذن فاسمعي مني هذا المثل:

ان كانت الاجرة اليومية لشخصٍ مائة قرش وقال له أحدهم تعال واحفر لعشر دقائق هذا المكان فانك ستجد حجراً كريماً كالزمرد قيمتُه مائة ليرة، كم يكون عذراً تافهاً بل جنوناً إن رفض ذلك بقوله: لا.. لا أعمل.. لأن اجرتي اليومية ستنقص!..

وكذلك حالك، فان تركت الصلاة المفروضة، فان جميع ثمار سعيك وعملك في هذا البستان ستنحصر في نفقةٍ دنيوية تافهة دون ان تجنى فائدتها وبركتها. بينما لو صرفت وقت راحتك بين فترات العمل في اداء الصلاة، التي هي وسيلةٌ لراحة الروح، ولتنفس القلب، يضاف عندئذٍ الى نفقتك الاخروية وزاد آخرتك مع نفقتك الدنيوية المباركة، ما تجدينه من منبع عظيم لكنزَين معنويين دائمين وهما:

الكنز الأول: ستأخذ(1) حظك ونصيبك من (تسبيحات) كل ما هيأته بنيّة خالصة، من ازهار وثمار ونباتات في بستانك.

الكنز الثاني: ان كل مَن يأكل من محاصيل بستانك - سواء أكان حيواناً أم انساناً شارياً أو سارقاً - يكون بحكم (صدقةٍ جارية) لك، فيما اذا نظرت الى نفسك كأنك وكيلٌ وموظف لتوزيع مال الله سبحانه وتعالى على مخلوقاته. اي تتصرف باسم الرزاق الحقيقي وضمن مرضاته.

والآن تأمل في الذي ترك الصلاة، كم هو خاسرٌ خسراناً عظيماً؟. وكم هو فاقد من تلك الثروة الهائلة؟. وكيف انه سيبقى محروماً ومفلساً من ذينك الكنزين الدائمين اللذين يمدان الانسان بقوة معنوية للعمل ويشوّقانه للسعي والنشاط؟.. حتى اذا بلغ ارذل عمره، فانه سوف يملّ ويضجر مخاطباً نفسه: وما عليّ؟! لِمَ أتعب نفسي؟ لأجل مَن أعمل؟ فانني راحل من هذه الدنيا غداً!.. فيلقي نفسه في احضان الكسل.

بينما الرجل الاول يقول: سأسعى سعياً حثيثاً في العمل الحلال بجانب عبادتي المتزايدة كيما أرسل الى قبري ضياءاً أكثر وادّخر لآخرتي ذخيرة أزيد.

والخلاصة: اعلمي ايتها النفس!. ان الامس قد فاتكِ. أما الغد فلم يأت بعد، وليس لديك عهد أنك ستملكينه، لهذا فاحسبي عمرك الحقيقي هو هذا اليوم. وأقل القليل ان تلقي ساعة منه في صندوق الادّخار الاُخروي، وهو المسجد أو السجادة لتضمني المستقبل الحقيقي الخالد.

واعلمي كذلك أن كل يوم جديد هو بابٌ ينفتح لعالم جديد - لك ولغيرك - فان لم تؤدي فيه الصلاة فان عالم ذلك اليوم يرحل الى عالم الغيب مُظلماً شاكياً محزوناً، وسيشهد عليك..

وان لكلٍ منا عالمه الخاص من ذلك العالم، وان نوعيته تتبع عملنا وقلبنا، مَثلُه في ذلك مثلُ المرآة، تظهر فيها الصورة تبعاً للونها ونوعيتها، فان كانت مسودّة فستظهر الصورة مسودّة.. وان كانت صقيلة فستظهر الصورة واضحة، وإلا فستظهر مشوهة تضخم أتفه شئ واصغره.. كذلك أنت، فبقلبك وبعقلك وبعملك يمكنك ان تغيري صورَ عالمكِ، وباختيارك وطوع ارادتك يمكنك ان تجعلي ذلك العالم يشهد لك أو عليك.

وهكذا ان ادّيت الصلاة وتوجهت بصلاتك الى خالق ذلك العالم ذي الجلال، فسيتنور ذلك العالم المتوجه اليك حالاً، وكأنك قد فتحت بنيّة الصلاة مفتاح النور فاضاءه مصباح صلاتك، وبدّد الظلمات فيه.. وعندها تتحول وتتبدل جميع الاضطرابات والاحزان التي حولك في الدنيا فتراها نظاماً حكيماً، وكتابة ذات معنى بقلم القدرة الربانية، فينساب نورٌ من انوار ] الله نور السموات والارض[ الى قلبك، فيتنور عالم يومك ذاك، وسيشهد بنورانيته لك عند الله..

فيا أخي! حذار ان تقول: أين صلاتي من حقيقة تلك الصلاة؟. اذ كما تحمل نواةُ التمرفي طياتها صفات النخلة الباسقة، الفرق فقط في التفاصيل والاجمال. كذلك صلاة العوام - من هم امثالي وامثالك - فيها حظٌ من ذلك النور وسرٌ من اسرار تلك الحقيقة، كما هي في صلاة ولي من أولياء الله الصالحين ولو لم يتعلق بذلك شعوره. أما تنورها فهي بدرجات متفاوتة، كتفاوت المراتب الكثيرة التي بين نواة التمر الى النخلة. ورغم أن الصلاة فيها مراتب اكثر فان جميع تلك المراتب فيها أساس من تلك الحقيقة النورانية.

اللّهم صل وسلم على من قال : (الصلاة عماد الدين)(1) وعلى آله وصحبه اجمعين.

المقام الثاني

من الكلمة الحادية والعشرين

[ يتضمن خمسة مراهم لخمسة جروح قلبية ]

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] وقل ربِّ اعوذُ بكَ من هَمَزات الشياطين ^ واَعوذُ بكَ ربِّ اَن يَحـضُرون[ (المؤمنون: 97 - 98)

ايها الاخ المبتلى بداء الوسوسة! ليت شعري هل تعلم بماذا تشبه وسوستك؟. إنها أشبه بالمصيبة؛ تبدأ صغيرة ثم تكبر شيئاً فشيئاً على مدى اهتمامك بها، وبقدر اهمالك اياها تزول وتفنى، فهي تعظم اذا استعظمتَها وتصغر اذا استصغرتَها. واذا ما خفتَ منها داستك ودوّختك بالعلل، وان لم تَخَفْ هانَتْ وخَنَستْ وتوارت. وان لم تعرف حقيقتها استمرت واستقرت، بينما اذا عرفت حقيقتها وسَبَرتَ غورها تلاشت واضمحلت. فما دام الأمر هكذا فسأشرح لك خمسة وجوه، من وجوهها التي تحدث كثيراً. عسى ان يكون بيانها - بعون الله - شفاء لصدورنا نحن كلينا. ذلك لأن الجهل مجلبةٌ للوساوس، بينما العلم على نقيضه دافع لشرها. فلو جهلتها أقبلت ودنتْ واذا ما عرفتها ولّت وادبرت.

C الوجه الاول - الجرح الأول:

ان الشيطان يلقى اولاً بشبهته في القلب، ثم يراقب صداها في الاعماق، فاذا انكرها القلب انقلب من الشبهة الى الشتم والسبّ، فيصوّر أمام الخيال ما يشبه الشتم من قبيح الخواطر السيئة والهواجس المنافية للآداب، مما يجعل ذلك القلب المسكين يئن تحت وطأة اليأس ويصرخ: واحسرتاه!. وامصيبتاه!.. فيظن الموسوس ان قلبه آثم، وانه قد اقترف السيئات حيال ربه الكريم، ويشعر باضطراب وانفعال وقلق، فينفلت من عقال السكينة والطمأنينة، ويحاول الانغماس في اغوار الغفلة.

أما ضماد هذا الجرح فهو:

ايها المبتلى المسكين! لا تخف ولا تضطرب! لأن ما مرّ أمام مرآة ذهنك ليس شتماً ولا سبّاً، وانما هو مجـرد صورٍ وخــيالاتٍ تمــر مــروراً أمــام مرآة ذهـنك وحيث ان تخيل الكفر ليس كفراً، فان تخيل الشتم ايضاً ليس شتماً، اذ من المعلوم في البديهية المنطقية: ان التخيل ليس بحكم بينما الشتم حُكمٌ. فضلاً عن هذا فان تلك الكلمات غير اللائقة لم تكن قد صدرت من ذات قلبك، حيث أن قلبك يتحسر منها ويتألم. ولعلها آتية من لمـّة شيطانية قريبة من القلب. لذا فان ضرر الوسوسة انما هو في توهم الضرر، اي ان ضرره على القلب هو ما نتوهمه نحن من اضرارها. لأن المرء يتوهم تخيلاً - لا اساس له - كأنه حقيقة، ثم ينسب اليه من اعمال الشيطان ما هو برئ منه، فيظن ان همزات الشيطان هي من خواطر قلبه هو، ويتصور اضرارها فيقع فيها. وهذا هو ما يريده الشيطان منه بالذات.

C الوجه الثاني:

عندما تنطلق المعاني من القلب تنفذ في الخيال مجردةً من الصور، وتكتسي الاشكال والصور هناك. والخيال هو الذي ينسج دائماً ولأسباب معينة، نوعاً من الصور، ويعرض ما يهتم به من الصور على الطريق، فأيما معنىً يرد فالخيال إما يُلبسه ذلك النسيج أو يعلقه عليه أو يلطخه به، أو يستره به فإن كانت المعاني منزّهة ونقية، والصور والانسجة ملوثة دنيئة فلا إلباس ولا إكساء، وانما مجرد مسّ فقط، فمن هنا يلتبس على الموسوس أمر التماس فيظنه تلبساً وتلبيساً، فيقول في نفسه: ((يا ويلتاه! لقد تردى قلبي في المهاوي، وستجعلني هذه الدناءة والخساسة النفسية من المطرودين من رحمة الله)) فيستغل الشيطان هذا الوتر الحساس منه استغلالاً فظيعاً.

ومرهم هذا الجرح العميق هو:

كما لا يؤثر في صلاتك ولا يفسدها ما في جوفك من نجاسة، بل يكفي لها طهارة حسية وبدنية، كذلك لا تضر مجاورة الصور الملوثة بالمعاني المنزّهة والمقدسة. مثال ذلك:

قد تكون متدبراً في آية من آيات الله، واذا بأمر مهيّج من مرضٍ يفاجئك، أو من تدافع الأخبثين، يلحّ على خيالك بشدة، فلاشك أن خيالك سينساق الى حيث الدواء، أو قضاء الحاجة ناسجاً ما يقتضيه من صور دنيئة. فتمر المعاني الواردة في تدبرك من بين الصور الخيالية السافلة. دعها تمر، فليس ثمة ضرر ولا لوثة ولا خطورة. انما الخطورة فقط هي في تركيز الفكر فيها، وتوهم الضرر منها.

C الوجه الثالث:

هناك بعض علاقات خفية تسود بين الاشياء، وربما توجد خيوط من الصلة حتى بين ما لا نتوقعه من الاشياء، هذه الخيوط إما انها قائمة بذاتها، اي انها حقيقية، أو أنها من نتاجات خيالك الذي صنع هذه الخيوط - حسب ما ينشغل به من عمل - وهذا هو السر في توارد خيالات سيئة احياناً عند النظر في ما يخص اموراً مقدسة، اذ ((التناقض الذي يكون سبباً للابتعاد في الخارج يكون مدعاة للقرب والتجاور في الصور والخيال)) كما هو معلوم في علم البيان. أي ان ما يجمع بين صورتي الشيئين المتناقضين ليس إلاّ الخيال. ويطلق على هذه الخواطر الناتجة بهذه الوسيلة: تداعى الافكار. مثال ذلك:

بينما انت تناجي ربك في الصلاة بخشوع وتضرع وحضور قلب مستقبلاً الكعبة المعظمة، اذا بتداعي الافكار هذا يسوقك الى امور مشينة مخجلة لا تعنيك بشئ. فاذا كنت يا اخي مبتلى بتداعي الافكار، فاياك اياك ان تقلق أو تجزع، بل عُد الى حالتك الفطرية حالما تنتبه لها. ولا تشغل بالك قائلاً: لقد قصّرت كثيراً.. ثم تبدأ بالتحري عن السبب.. بل مر عليها مرّ الكرام لئلا تقوى تلك العلاقات الواهية العابرة بتركيزك عليها، اذ كلما اظهرت الأسى والاسف وزاد اهتمامك بها انقلب ذلك التخطر الى عادة تتأصل تدريجياً حتى تتحول الى مرض خيالي. ولكن لا.. لا تخش ابداً، انه ليس بمرض قلبي، لأن هذه الهواجس النفسية والتخطر الخيالي هي في اغلب الحالات تتكون رغماً عن ارادة الانسان وهي غالباً ما تكون لدى مرهفي الحس والأمزجة الحادة. والشيطان يتغلغل عميقاً مع هذه الوساوس.

أما علاج هذا الداء فهو:

اعلم انه لا مسؤولية في تداعي الافكار، لأنها لا ارادية غالباً، اذ لا اختلاط ولا تماس فيها، وانما هي مجرد مجاورة ولا شئ بعد ذلك، لذا فلا تسري طبيعة الافكار بعضها ببعض. ومن ثم فلا يضر بعضها بعضاً. اذ كما ان مجاورة ملائكة الالهام للشيطان حول القلب لا بأس فيها، ومجاورة الابرار للفجار وقرابتهم ووجودهم في مسكن واحد لا ضرر فيه، كذلك اذا تداخلت خواطر سيئة غير مقصودة بين أفكار طاهرة نزيهة لا تضرّ في شـئ إلاّ اذا كانــت مقصــودة، أو أن تشــغل بهـا نفـسك كثيراً، متوهماً ضررها بك. وقد يكون القلب احيـاناً مرهقاً فينشــغــل الفــكر بــشئ ما كيفما اتفق دون جدوى، فينتهز الشيطان هذه الفرصة ويقدّم الاخيلة الخبيثة وينثرها هنا وهناك.

C الوجه الرابع:

هو نوع من الوسوسة الناشئة من التشدد المفرط لدى التحري عن الأكمل الاتم من الاعمال. فكلما زاد المرء في التشدد هذا - باسم التقوى والورع - ازداد الأمر سوءاً وتعقيداً، حتى ليوشك أن يقع في الحرام في الوقت الذي يبتغي الوجه الأولى والأكمل في الاعمال الصالحة. وقد يترك ((واجباً)) بسبب من تحرّيه عن ((سنّة)) حيث يسأل نفسه دائماً عن مدى صحة عمله وقبوله، فتراه يعيده ويكرره، قائلاً: ((ترى هل صحّ عملي؟)) حتى يطول به الأمر فييأس، ويستغل الشيطان وضعه هذا فيرميه بسهامه ويجرحه من الاعماق.

ولهذا الجرح دواءان اثنان:

الدواء الاول: اعلم ان أمثال هذه الوساوس لا تليق الاّ بالمعتزلة الذين يقولون: ((ان افعال المكلفين من حيث الجزاء الاخروي حسنة أو قبيحة في ذات نفسها، ثم يأتي الشرع فيقرر ان هذا حسن وهذا قبيح. اي ان الحسن والقبح أمران ذاتيان موجودان في طبيعة الاشياء - حسب الجزاء الاخروي - أما الاوامر والنواهي فهي تابعة لذلك ولأقرارها)). ولذلك فان طبيعة هذا المذهب تؤدي بالانسان الى أن يستفسر دائماً عن اعماله: ((ترى هل تم عملي على الوجه الاكمل المُرضي كما هو في ذاته أم لا؟)).. اما اصحاب الحق وهم أهل السنة والجماعة فيقولون: ((ان الله سبحانه وتعالى يأمر بشئ فيكون حسناً وينهى عن شئ فيكون قبيحاً)) فبالأمر والنهي يتحقق الحُسن والقبح. اي أن الحسن والقبح يتقرران من وجهة نظر المكلّف، ويتعلقان بحسب خواتيمهما في الآخرة دون النظر اليها في الدنيا، مثال ذلك:

لو توضأت أو صليت، وكان هناك شئ ما خفي عليك يفسد صلاتك أو وضوءك، ولم تطلع عليه. فصلاتك ووضوءك في هذه الحالة صحيحان وحسنان في آن واحد. وعند المعتزلة: انهما قبيحان وفاسدان حقيقةً ولكنهما مقبولان منك لجهلك، اذ الجهل عذر.

وهكذا ايها الأخ المبتلى، فأخذاً بمذهب أهل السنة والجماعة يكون عملك صحيحاً لا غبار عليه، نظراً لموافقته ظاهر الشرع. واياك ان توسوس في صحة عملك، ولكن اياك ان تغتر به ايضاً، لانك لا تعلم علم اليقين، أهو مقبول عند الله أم لا؟.

الدواء الثاني: اعلم ان الاسلام دين الله الحق، دين يسر لا حرج فيه، وان المذاهب الأربعة كلها على الحق. فان ادرك المرء تقصيره تلافاه بالاستغفار الذي هو أثقل ميزاناً من الغرور الناشئ من اعجابه بالاعمال الصالحة. لذا فان يرى مثل هذا الموسوس نفسه مقصراً في عمله ويستغفر ربه خيرٌ له ألف مرة من أن يغتر اعجاباً بعمله. فما دام الأمر هكذا، فاطرح الوساوس واصرخ في وجه الشيطان: ان هذا الحال حرجٌ، وان الاطلاع على حقيقة الاحوال أمرٌ صعب جداً، بل ينافي اليُسر في الدين، ويخالف قاعدة ((لا حرج في الدين)) و((الدين يُسر)). ولابد أن عملي هذا يوافق مذهباً من المذاهب الاسلامية الحقة، وهذا يكفيني. حيث يكون وسيلة لأن ألقي بنفسي بين يدي خالقي ومولاي ساجداً متضرعاً أطلب المغفرة، واعترف بتقصيري في العمل، وهو السميع المجيب.

C الوجه الخامس:

وهو الوساوس التي تتقمص اشكال الشبهات في قضايا الايمان:

فكثيراً ما يلتبس على الموسوس المحتار خلجات الخيال، فيظن انها من بنات عقله، اي يتوهم ان الشبهات التي تنتاب خياله كأنها مقبولة لدى عقله، اي أنها من شبهات عقله، فيظن ان اعتقاده قد مسّه الخلل.. وقد يظن الموسوس احياناً اخرى ان الشبهة التي يتوهمها انما هي شك يضرّ بايمانه.. وقد يظن تارة اخرى ان ما يتصوره من رؤى الشبهات كأن عقله قد صدّقه.. وربما يحسب ان كل تفكير في قضايا الكفر كفراً، اي أنه يحسب ان كل تحرٍ وتمحيص، وكل متابعة فكرية ومحاكمة عقليه محايدة لمعرفة اسباب الضلالة انه خلاف الايمان. فأمام هذه التلقينات الشيطانية الماكرة يرتعش ويرتجف، ويقول : ((ويلاه! لقد ضاع قلبي وفسد اعتقادي واختل)). وبما أنه لا يستطيع ان يصلح تلك الاحوال بارادته الجزئية وهي غير ارادية على الأغلب، يتردى الى هاوية اليأس القاتل.

أما علاج هذا الجرح فهو:

ان توهم الكفر ليس كفراً كما ان تخيل الكفر ليس كفراً وان تصور الضلالة ليس ضلالة مثلما أن التفكير في الضلالة ليس ضلالة، ذلك لأن التخيل والتوهم والتصور والتفكر.. كل اولئك متباين ومتغاير كلياً عن التصديق العقلي والاذعان القلبي. اذ التخيل والتوهم والتصور والتفكر امور حرة طليقة الى حدٍ ما، لذلك فهي لا تحفل بالجزء الاختياري المنبثق من ارادة الانسان، ولا ترضخ كثيراً تحت التبعات الدينية. بينما التصديق والاذعان ليسا كذلك، فهما خاضعان لميزان، ولأن كلاً من التخيل والتوهم والتصور والتفكر ليس بتصديق وإذعان فلا يعدّ شبهةً ولا تردداً. لكن اذا تكررت هذه الحالة - دون مبرر - وبلغت حالة من الاستقرار في النفس فقد يتمخض عنها لون من الشبهات الحقيقية، ثم قد ينزلق الموسوس، بالتزامه الطرف المخالف باسم المحاكمات العقلية الحيادية أو باسم الانصاف، الى حالة يلتزم المخالف دون اختيار منه، وعندها يتنصل من الالتزامات الواجبة عليه تجاه الحق، فيهلك؛ اذ تتقرر في ذهنه حالة اشبه ما يكون بالمفوّض والمخوّل من قبل الطرف المخالف اي الخصم أو الشيطان.

ولعل أهم نوع من هذه الوسوسة الخطيرة هو:

ان الموسوس يلتبس عليه ((الامكان الذاتي)) و ((الامكان الذهني)) أي أنه يتوهم بذهنه ويشك بعقله ما يراه ممكناً في ذاته، علماً بأن هنالك قاعدة كلامية في ((علم المنطق)) تنص على: ((ان الامكان الذاتي لا ينافي اليقين العلمي، ومن ثم فلا تعارض ولا تضاد بينه وبين الضرورات الذهنية وبديهياتها)) ولتوضيح ذلك نسوق هذا المثال:

من الممكن ان يغور البحر الاسود الآن، فهذا شئ محتمل الوقوع بالامكان الذاتي، الاّ اننا نحكم يقيناً بوجود البحر المذكور في موقعه الحالي، ولا نشك في ذلك قطعاً. فهذا الاحتمال الامكاني والامكان الذاتي لا يولدان شبهة ولا شكاً، بل لا يخلان بيقيننا أبداً.

ومثال آخر: من الممكن الاّ تغيب الشمس اليوم، ومن الممكن الاّ تشرق غدا، الاّ أن هذا الامكان والاحتمال لا يخل بيقيننا بأي حال من الاحوال، ولا يطرأ اصغر شبهة عليه. وهكذا على غرار هذين المثالين فالاوهام التي ترد من الامكان الذاتي على غروب الحياة الدنيا وشروق الآخرة التي هي من حقائق الغيب الايمانية لا تولد خللاً في يقيننا الايماني قطعاً. ولهذا فالقاعدة المشهورة في اصول الدين واصول الفقه: ((لا عبرة للاحتمال غير الناشئ عن الدليل)).

C واذا قلت: ((تُرى ما الحكمة من ابتلاء المؤمنين بهذه الوساوس المزعجة للنفس المؤلمة للقلب؟)).

الجواب: اننا اذا ما نحّينا الافراط والغلبة جانباً فان الوسوسة تكون حافزة للتيقظ، وداعية للتحري، ووسيلة للجدية، وطاردة لعدم المبالاة، ودافعة للتهاون.. ولأجل هذا كله جعل العليم الحكيم الوسوسة نوعاً من سوط تشويق واعطاه بيد الشيطان كي يحث به الانسان في دار الامتحان وميدان السباق الى تلك الحِكَم. واذا ما افرط في الأذى، فررنا الى العليم الحكيم وحده مستصرخين: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #29
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثانية والعشرون

[ هذه الكلمة عبارة عن مقامين ]

المقام الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

] وَيـَضْرِبُ الله الاَمْثَالَ لِلْنّاسِ لَعَلَهُمْ يَتَذَكَّروُنَ[ (ابراهيم: 25)

] وَتِلْكَ الاَمْثَالُ نـَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَهُمْ يَتَفَكَّرونَ[ (الحشر:21)

استحم شخصان ذات يوم في حوض كبير، فغشيهما ما لا طاقة لهما به ففقدا وَعيَهما. وما ان أفاقا حتى وجَدا أنهما قد جئ بهما الى عالمٍ غير عالَمهما، الى عالم عجيب، وعجيب فيه كل شئ. فهو من فرط انتظامه الدقيق كأنه مملكة منسّقة الاطراف، ومن روعة جماله بمثابة مدينةٍ عامرة، ومن شدة تناسق اركانه بحكم قصر بديع. وبدأا ينظران بلهفةٍ فيما حولهما وقد امتلأا حَيرة واعجاباً بما رأيا أمامهما من عالم عظيم حقاً، اذ لو نُظر الى جانبٍ منه لشوهدت مملكةٌ منتظمة، واذا ما نُظر اليه من جانب آخر لتراءت مدينةٌ كاملة الجوانب، بينما اذا نُظر اليه من جانب آخر فاذا هو بقصر عظيم شاهق يضم عالَماً مهيباً.. وطفقا يتجولان معاً في أرجاء هذا العالم العجيب فوقع نظرهما على مخلوقات يتكلمون بكلام معين لا يفقهانه، الاّ أنهما أدركا من إشاراتهم وتلويحاتهم أنهم يؤدون أعمالاً عظيمة وينهضون بواجبات جليلة.

قال أحدهما للآخر:

- لاشك ان لهذا العالم العجيب مدبّراً يدبّر شؤونَه، ولهذه المملكة البديعة مالكاً يرعاها، ولهذه المدينة الرائعة سيداً يتولى أمورها، ولهذا القصر المنيف صانعاً بديعاً قد أبدعه، فأرى لزاماً علينا أن نسعى لمعرفته، اِذ يبـدو أنه هـو الذي قــد أتـى بنا الى هاهنا، وليس أحد غيره. فلو لم نعرفه فمن ذا غيرهُ يُسعفنا ويُغيثنا ويقضي حوائجنا ونحن في هذا العالم الغريب؟ فهل ترى بصيصَ أملٍ نرجوه من هؤلاء العاجزين الضعفاء ونحن لا نفقه لسانهم ولا هم يصغون الى كلامنا؟. ثم ان الذي جعل هذا العالم العظيم على صورة مملكة منسقة وعلى هيئة مدينة رائعة وعلى شكل قصر بديع، وجعله كنزاً لخوارق الأشياء، وجمّله بأفضل زينة وأروع حُسن، ورصّع نواحيه كلها بمعجزات معبّرة حكيمة.. أقول أن صانعاً له كل هذه العظمة والهيبة وقد أتى بنا - وبمَن حولنا - الى هاهنا، لاشك أن له شأناً في هذا. فوَجَب قبل كل شئ أن نعرفه معرفة جيدة وأن نعلم منه ما يريد منا وماذا يطلب؟.

قال له صاحبه:

- دع عنك هذا الكلام. فانا لا أصدّق أن واحداً احداً يدير هذا العالم الغريب!

فأجابه:

- مهلاً يا صاحبي! هلاّ أعرتني سمعَك! فنحن لو أهملنا معرفته فلا نكسب شيئاً قط، واِن كان في اهمالنا ضررٌ فضرره جدُّ بليغ. بينما اذا سعَينا الى معرفته فليس في سعينا هذا مشقة ولا نلقى من ورائه خسارة، بل منافع جليلة وعظيمة. فلا يليق بنا اذن ان نبقى مُعرِضين هكذا عن معرفته.

ولكن صاحبه الغافل قال:

- أنا لست معك في كلامك هذا. فأنا أجد راحتي ونشوتي في عدم صرف الفكر الى مثل هذه الأمور، وفي عدم معرفة ما تدّعيه عن هذا الصانع البديع. فلا أرى داعياً ان أجهد نفسي فيما لا يسعه عقلي. بل أرى هذه الأفعال جميعها ليست الاّ مصادفات وأموراً متداخلة متشابكة تجري وتعمل بنفسها؟ فما لي وهذه الأمور؟..

فردّ عليه العاقل:

- أخشى أن يلقي بنا عنادُك هذا وبالآخرين الى مصائب وبلايا. ألم تُهدَم مدنٌ عامرةٌ من جـراء سفاهة شقيِّ وأفعالِ فاسق؟

ومرة اخرى اِنبرى له الغافل قائلاً:

- لنحسم الموضوع نهائياً فإما أن تثبت لي اثباتاً قاطعاً لا يقبل الشك بأن لهذه المملكة الضخمة مالكاً واحداً وصانعاً واحداً احداً، أو تَدَعني وشأني.



أجابه صديقه:

- ما دمتَ يا صاحبي تصرّ على عنادك الى حد الجنون والهذيان مما يسوقنا والمملكة بكاملها الى الدمار! فسأضع بين يديك أثني عشر برهاناً أثبت بها أن لهذا العالم الرائع روعةَ القصر، ولهذه المملكة المنتظمة اِنتظام المدينة، صانعاً بديعاً واحداً احداً هو الذي يدبّر الأمور كلَّها. فلا ترى من فطورٍ في شئ، ولا ترى من نقصٍ في أمر. فذلك الصانع الذي لا نراه يبصُرنا ويبصر كلّ شئ، ويسمع كلام كل شئ، فكلُّ أفعاله معجزات وآيات وخوارق وروائع. وما هذه المخلوقات التي لا نفهم ألسنتهم اِلاّ مأمورون وموظفون في مملكته.

C البرهان الاول

تعال معي يا صاحبي لنتأمل ما حولنا من أشياء وأمور. ألا ترى ان يداً خفية تعمل من وراء الأمور جميعها؟ أوَ لا ترى ان ما لا قوة له أصلاً ولا يقوى على حمل نفسه(1) يحمل آلاف الأرطال من الحمل الثقيل؟ أوَ لا تشاهد أن ما لا اِدراك له ولا شعور يقوم بأعمالٍ في غاية الحكمة؟(2)… فهذه الأشياء اذن لا تعمل مستقلة بنفسها، بل لابد ان مولى عليماً، وصانعاً قديراً يديرها من وراء الحجب. اذ لو كانت مستقلةً بذاتها، وأمرُها بيدها، للزم أن يكون كلُّ شئ هنا صاحبَ معجزة خارقة. وما هذه الا سفسطة لا معنى لها!

C البرهان الثاني

تعال معي يا صاحبي لنُمعِن النظر في هذه الاشياء التي تزيّن الميادين والساحات، ففي كل زينة منها أمور تخبرنا عن ذلك المالك وتدلنا عليه. كأنها سكّتُه وختمهُ. كما تدلنا طغـراء السـلـطـان وختـمـه على وجـوده، وتنبـئنا سـكّته التي علـى مســكوكاته عن عظمته وهيبته. فان شئت فانظر الى هذا الجسـم الصغير جداً الذي لا يكاد الانسان يعرف له وزناً(3)، قد صنع منه المولى اطوالاً من نسيج ملون بالوان زاهية ومزركش بزخارف باهرة، ويُخرج منه ما هو ألذّ من الحلويات والمعجنات المعسلة، فلو لبس آلافٌ من أمثالنا تلك المنسوجات وأكل من تلك المأكولات لما نفدت.

ثم أنظر، انه يأخذ بيده الغيبية هذا الحديد والتراب والماء والفحم والنحاس والفضة والذهب ويصنع منها جميعاً قطعة لحم(1).

فيا أيها الغافل.. هذه الأشياء والافعال انما تخصّ بمن زمام هذه المملكة بيده، ومَن لا يعزُب عنه شئ، وكل شئ منقاد لإرادته.

C البرهان الثالث

تعال لننظر الى مصنوعاته العجيبة المتحركة(2). فقد صُنع كلّ منها كأنه نسخةٌ مصغرةٌ من هذا القصر العظيم، اذ يوجد فيه ما في القصر كله. فهل يمكن ان يُدرج أحدٌ هذا القصر مصغّراً في ماكنةٍ دقيقة غير صانعه البديع؟ أو هل يمكن أن ترى عبثاً أو مصادفة في عالَمٍ ضُمَّ داخل ماكنة صغيرة؟

أي أن كل ما تشاهده من مكائن انما هي بمثابة آية تدل على ذلك الصانع البديع، بل كل ماكنة دليلٌ عليه، واعلان يفصح عن عظمته، ويقول بلسان الحال:

((نحن من اِبداع مَن أبدع هذا العالَم بسهولة مطلقة كما أوجدَنا بسهولة مطلقة)).

C البرهان الرابع

أيها الأخ العنيد! تعال اُرِكَ شيئاً اكثر اثارة للاعجاب! انظر، فها قد تبدّلت الأمور في هذه المملكة، وتغيّرت جميع الاشياء، وها نحن أولاء نرى باعيننا هذا التبدل والتغير، فلا ثبات لشئ مما نراه بل الكل يتغيرويتجدد.

أنظر الى هذه الأجسام الجامدة المشاهَدة التي لا نرى فيها شعوراً، كأن كلاً منها قد اتخذ صورةَ حاكمٍ مطلق والآخرون محكومون تحت سيطرته، وكأن كلاً منها يسيطر على الأشياء كلها. انظر الى هذه الماكنة التي بقربنا(3). كأنها تأمر فيهرع اليها من بعيد ما تحتاجه من لوازم لزينتها وعملها، وانظر الى ذلك الجسم الذي لا شعور له(1)، كأنه يسخـِّر باشارةٍ خفيّة منه أضخَم جسمٍ وأكبره في شؤونه الخاصة ويجعله طوع اشارته.. وقس الأمور الأخرى على هذين المثالين.

فان لم تفوَّض امر إدارة المملكة الى ذلك المالك الذي لا نراه، فعليك اذن أن تحيل الى كل مصنوعٍ ما للبديع من إتقان وكمالات، حتى لو كان حجراً أو تراباً أو حيواناً أو اِنساناً أو أي مخلوق من المخلوقات.

فاذا ما استبعد عقلُك ان بديعاً واحداًً احداً هو المالك لهذه المملكة وهو الذي يديرها، فما عليك الاّ قبول ملايين الملايين من الصانعين المبدعين، بل بعدد الموجودات! كل منها نِدُّ للآخر ومثيله وبديلُه ومتدخل في شؤونه! مع أن النظام المتقن البديع يقتضي عدم التدخل، فلو كان هناك تدخل مهما كان طفيفاً ومن أي شئ كان، وفي أي أمر من امور هذه المملكة الهائلة، لظهر أثره واضحاً، اذ تختلط الأمور وتتشابك اِن كان هناك سيدان في قرية أو محافظان في مدينة أو سلطانان في مملكة. فكيف بحكامٍ لا يعدّون ولا يحصون في مملكة منسقة بديعة؟!

C البرهان الخامس

أيها الصديق المرتاب! تعال لندقق في نقوش هذا القصر العظيم، ولنمعن النظر في تزيينات هذه المدينة العامرة، ولنشاهد النظام البديع لهذه المملكة الواسعة، ولنتأمل الصنعة المتقنة لهذا العالم. فها نحن نرى انه إن لم تكن هذه النقوش كتابةَ قلمِ المالك البديع الذي لا حدّ لمعجزاته وإبداعه، واُسندت كتابتُها ونقشُها الى الأسباب التي لا شعورَ لها، والى المصادفة العمياء، والى الطبيعة الصماء، للزم اذن ان يكون في كل من أحجار هذه المملكة وعشبها مصّورٌ معجِزٌ وكاتبٌ بـديعٌ يستـطيع أن يكتـب ألـوف الكـتـب في حـرف واحـد، ويمكنه أن يُدرِج مـلايـين الاعمـال المتقـنة البديعة في نقشٍ واحد!! لأنك ترى أن هذا النقش الذي أمامك في هذه اللبنة(2) يضم نقوش جميع القصر، وينطوي على جميع قوانين المدينة وانظمتها، ويتضمن خطط أعمالها. أي ان ايجاد هذه النقوش الرائعة معجزةٌ عظيمةٌ كايجاد المملكة نفسها، فكل صنعة بديعة ليست إلاّ لوحةُ اعلانٍ تُفصح عن أوصاف ذلك الصانع البديع، وكل نقش جميل هو ختمٌ واضحٌ من أختامه الدالة عليه.

فكما انه لا يمكن لحرفٍ الاّ أن يدل على كاتبه، ولا يمكن لنقشٍ الاّ أن ينبئ عن نقاشه، فكيف يمكن اذن الاّ يدل حرفٌ كُتب فيه كتاب عظيم على كاتبه، ونقشٌ نُقشَت ألوف النقوش على نقّاشه؟ ألا تكون دلالتُه أظهرَ وأوضحَ من دلالته على نفسه؟

C البرهان السادس

تعال يا صديقي لنذهب الى نزهة نتجول في هذه الفلاة الواسعة(1) المفروشة امامنا.. ها هو ذا جبلٌ أشمُّ، تعال لنصعد عليه حتى نتمكن من مشاهدة جميع الأطراف بسهولة، ولنحمل معنا نظارات مكبّرة تقرب لنا ما هو بعيد عن أنظارنا. فهذه المملكة فيها من الأمور العجيبة والحوادث الغريبة ما لا يخطر على بال أحد. أنظر الى تلك الجبال والسهول المنبسطة والمدن العامرة، انه أمر عجيب حقاً إذ يتبدل جميعُها دفعة واحدة، بل ان ملايين الملايين من الأفعال المتشابكة تتبدل تبدلاً بكل نظام وبكل تناسق، فكأن ملايين الاطوال من منسوجات ملونةرائعة تنسج امامنا في آن واحد.. حقاً ان هذه التحولات عجيبة جداً. فاين تلك الأزاهير التي ابتسمت لنا والتي اَنِسنا بها؟.. لقد غابت عنا، وحلّت محلها أنواعٌ مخالفة لها صورةً، مماثلة ماهية. وكأن هذه السهول المنبسطة وهذه الجبال المنصوبة صحائف كتاب يُكتب في كل منها كتبٌ مختلفة في غاية الاتقان دون سهو أو خطأ ثم تُمسح تلك الكتب ويُكتب غيرُها.. فهل ترى يا صديقي ان تبدّل هذه الأحوال وتحوّل هذه الأوضاع الذي يتم بكل نظام وميزان يحدث من تلقاء نفسه؟. أليس ذلك محالاً من أشد المحالات؟

فلا يمكن إحالة هذه الاشياء التي أمامنا وهي في غاية الاتقان والصنعة الى نفسها قط، فذلك محال في محال. بل هي أدلة واضحة على صانعها البديع أوضحَ من دلالتها على نفسها، اذ تبيّن أن صانعَها البديع لا يعجزه شئ، ولا يؤوده شئ، فكتابةُ ألف كتاب أمرٌ يسير لديه ككتابة حرف واحد. ثم تأمل يا أخي في الأرجاء كافة ترى ان الصانع الاعظم قد وضع بحكمةٍ تامة كلّ شئ في موضعه اللائق به. وأسبغ على كل شئ نِعَمه وكرمه بلطفه وفضله العميم. وكما يفتح أبواب نعمه وآلائه العميمة أمامَ كل شئ، يسعف رغبات كل شئ ويرسل اليه ما يطمئنه.

وفي الوقت نفسه ينصب موائد فاخرة عامرة بالسخاء والعطاء بل ينعم على مخلوقات هذه المملكة كافة من حيوان ونبات نِعَماً لا حدّ لها، بل يرسل الى كل فرد باسمه ورسمه نعمتَه التي تلائمه دون خطأ أو نسيان. فهل هناك محال أعظم من أن تظن ان في هذه الأمور شيئاً من المصادفة مهما كان ضئيلاً؟ أو فيه شيئاً من العبث وعدم الجدوى؟ أو أن احداً غير الصانع البديع قد تدخل في أمور المملكة؟ أو أن يُتصوَّر أن لا يدين له كل شئ في ملكه؟.. فهل تقدر يا صديقي أن تجد مبرراً لأنكار ما تراه؟..

C البرهان السابع

لنَدَع الجزئيات يا صاحبي، ولنتأمل في هذا العالم العجيب، ولنشاهد أوضاع اجزائه المتقابلة بعضها مع البعض الآخر.. ففي هذا العالم البديع من النظام الشامل والانتظام الكامل كأن كل شئ فاعل مختار حي يشرف على نظام المملكة كلها، ويتحرك منسجماً مع ذلك النظام العام. حتى ترى الأشياء المتباعدة جداً يسعى الواحد منها نحو الآخر للتعاون والتآزر.

أنظر! ان قافلة مهيبة تنطلق من الغيب(1) مُقبلةً علينا. فهي قافلة تحمل صحون ارزاق الاحياء.. ثم أنظر الى ذلك المصباح الوضئ(2) المعلق في قبة المملكة فهي تنير الجميع وتُنضج المأكولات المعلقة بخيط دقيق(3) والمعروضة أمامه بيدٍ غيبية. الا تلتفت معي الى هذه الحيوانات النحيفة الضعيفة العاجزة كيف يسيل الى أفواهها

غذاءٌ لطيف خالص يتدفق من مضخات(4) متدلية فوق رؤوسها، وحسبها ان تلصق أفواهها بها!

نخلص من هذا: انه ما من شئ في هذا العالم الاّ وكأنه يتطلع الى الآخر فيغيثه، أو يرى الآخر فيشد من ازره ويعاونه.. فيكمل الواحد عمل الآخر ويكون ظهيره وسنده، ويتوجه الجميع جنباً الى جنب في طريق الحياة.. وقس على ذلك فهذه الظواهر جميعها تدلنا دلالة قاطعة وبيقين جازم إلى انه ما من شئ في هذا القصر العجيب الاّ وهو مسخر لمالكه القدير ولصانعه البديع ويعمل باسمه وفي سبيله، بل كل شئ بمثابة جندي مطيع متأهب لتلقي الأوامر. فكل شئ يؤدي ما كلّف به من واجب بقوة مالكه وحوله، فيتحرك بأمره، وينتظم بحكمته، ويتعاون بكرمه وفضله، ويغيث الآخرين برحمته. فان كنتَ تستطيع يا أخي ابداء شئ من الاعتراض والشك أمام هذا البرهان فهاته.

C البرهان الثامن

تعال يا صاحبي المتعاقل ويا مثيل نفسي الأمّارة بالسوء التي تعدّ نفسها رشيدة وتُحسن الظن بنفسها.. أراك يا صاحبي ترغب عن معرفة صاحب هذا القصر البديع، مع أن كل شئ يدل عليه، وكل شئ يشير اليه، وكل شئ يشهد بوجوده. فكيف تجرأ على تكذيب هذه الشهادات كلها؟. اذن عليك أن تنكر وجود القصر نفسه، بل عليك أن تعلن انه لا قصر ولا مملكة ولا شئ في الوجود. بل تنكر نفسَك وتعدّها معدومةً لا وجود لها.!.. أو عليك ان تعود الى رُشدك وتصغي اليّ جيداً، فها أنا أضع بين يديك هذا المنظر:

تأمل في هذه العناصر والمعادن(1) التي تعم هذه المملكة والتي توجد في كل أرجاء هذا القصر. ومعلوم انه ما من شئ ينتج في هذه المملكة الاّ من تلك المواد. فَمن كان مالكاً لتلك المواد والعناصر فهو اذن مالك لكل ما يُصنع وينتج فيها. اذ مَن كان مالكاً للمزرعة فهو مالك المحاصيل، ومَن كان مالكاً للبحر فهو مالك لما فيه.

ثم أنظر يا صاحبي الى هذه المنسوجات والاقمشة الملونة المزدانة بالأزهار. انها تُصنع من مادة واحدة. فالذي هيأ تلك المادة وغَزَلها لابد أنه واحد، لأن تلك الصنعة لا تقبل الاشتراك، فالمنسوجات المتقنة تخصّه هو. ثم التفت الى هذا: ان اجناس هذه المنسوجات موجودة في كل جزء من أجزاء هذا العالم العجيب وقد انتشرت انتشاراً واسع النطاق حتى انها تُنسَج معاً وبتداخل في آن واحد وبنمط واحد في كل مكان. أي أنه فعلُ فاعلٍ واحد، فالجميع يتحرك بأمرٍ واحد. والاّ فمحال أن يكون هناك انسجامٌ تام وتوافق واضح في العمل وفي آن واحد وبنمط واحد وبنوعية واحدة وهيأة واحدة في جميع الانحاء، لذا فان كل ما هو متقن الصنع يدل دلالة واضحة على ذلك الفاعل الذي لا نراه، بل كأنه يعلن عنه صراحةً، بل كأن كل نسيج مغرز بالزهور، وكل ماكنة بديعة، وكل مأكول لذيذ، انما هو علامة الصانع المعجز وخاتمه وآيته وطغراؤه فكل منه يقول بلسان الحال: ((مَن كنتُ انا مصنوعُه، فموضعي الذي أنا فيه مُلكُه)). وكل نقش يقول: ((مَن قام بنسجي ونقشي فالطَول الذي أنا فيه هو منسوجُه)). وكل لقمة لذيذة تقول: ((مَن يصنعني ويُنضجني فالقِدر الذي أطبخُ فيه مُلكُه)). وكل ماكنة تقول: ((مَن قام بصنعي فكل ما في العالم من امثالي مصنوعه وهو مالكه. اي من كان مالكاً للمملكة والقصر كله فهو الذي يمكـنه ان يملّكنا)). وذلك بمثـل مَن اراد أن يدّعي تملّك أزرار البزة العسكرية ووضع شعار الدولة عليها لابد أن يكون مالكاً لمصانعها كلها حتى يكون مالكاً حقيقياً، والا فليس له إلاّ الادعاء الكاذب، بل يعاقب على عمله ويؤاخذ على كلامه.

الخلاصة: كما ان عناصر هذه المملكة موادٌ منتشرةٌ في جميع ارجائها فمالكُها اذن واحدٌ يملك ما في المملكة كلها، كذلك المصنوعات المنتشرة في أرجاء المملكة لأنها متشابهةٌ تُظهِر علامة واحدة وناموساً واحداً، فجميعها اذن تدل على ذلك الواحد المهيمن على كل شئ.

فيا صديقي! ان علامة الوحدة ظاهرة في هذا العالم، وآية التوحيد واضحة بيّنة، ذلك لأن قسماً من الأشياء رغم انه واحد فهو موجود في العالم كله، وقسمٌ آخر رغم تعدد اشكاله فانه يُظهِر وحدةً نوعيةً مع أقرانه لتشابهه وانتشاره في الأرجاء، وحيث أن الوحدة تدل على الواحد كما هو معلوم لذا يلزم أن يكون صانع هذه الاشياء ومالــكهـا واحداً أحداً. زد على هـذا فانـك ترى انها تُقدَّم إلينـا هـدايــا ثمـينـة من وراء ستار الغيب، فتتدلى منه خيوط وحبال(1) تحمل ما هو اثمن من الماس والزمرد من الآلاء والاحسان.

اذن فقدّر بنفسك مدى بلاهة مَن لا يعرف الذي يدير هذه الامور العجيبة ويقدّم هذه الهدايا البديعة؟ قدّر مدى تعاسة مَن لا يؤدي شكره عليها! إذ إن جهله به يُرغمه على التفوّه بما هو من قبيل الهذيان، فيقول - مثلاً ــ: ان تلك اللآلئ المرصعات تَصنعُ نفسها بنفسها!. أي يُلزمه جهلُه ان يمنح معنى السلطان لكل حبلٍ من تلك الحبال! والحال اننا نرى ان يداً غيبية هي التي تمتد الى تلك الحبال فتصنعها وتقلدها الهدايا. أي أن كل ما في هذا القصر يدل على صانعه المبدع دلالة أوضح من دلالته على نفسه. فان لم تعرفه - يا صاحبي - حق المعرفة فستهوي اِذن في درك أحط من الحيوانات، لأنك تضطر الى انكار جميع هذه الاشياء.

C البرهان التاسع

أيها الصديق الذي يطلق أحكامه جزافاً، انك لا تعرف مالك هذا القصر ولا تَرغب في معرفته، فتستبعد ان يكون له مالك وتنساق الى إنكار احواله لعجز عقلك عن أن يستوعب هذه المعجزات الباهرة والروائع البديعة، مع ان الاستبعاد الحقيقي، والمشكلات العويصة والصعوبات الجمة في منطق العقل انما هو في عدم معرفة المالك والذي يفضي بك الى انكار وجود هذه المواد المبذولة لك، باثمانها الزهيدة ووفرتها العظيمة. بينما اذا عرفناه يكون قبول ما في هذا القصر، وما في هذا العالم سهلاً ومستساغاً ومعقولاً جداً، كأنه شئ واحد، اذ لو لم نعرفه ولولاه، لكان كل شئ عندئذٍ صعباً وعسيراً بل لا ترى شيئاً مما هو متوفر ومبذول امامك. فان شئت فانظر فحسب الى علب الـمُربيات(1) المتدلية من هذه الخيوط. فلو لم تكن من انتاج مطبخ تلك القدرة المعجزة، لما كان باستطاعتك الحصول عليها ولو باثمان باهظة.

نعم ان الاستبعاد والمشكلات والصعوبة والهلاك والمحال انما هو في عدم معرفته، لأن ايجاد ثمرة - مثلاً - يكون صعباً ومشكلاً كالشــجرة نفـسها فيما اذا ربط كل ثمرة بمراكز متعددة وقوانين مختلفة، بينما يكون الأمر سهلاً مستساغاً اذا ما كان ايجاد الثمرة بقانون واحد ومن مركز واحد فيكون ايجاد آلاف الاثمار كايجاد ثمرة واحدة. مَثلُه في هذا كمثل تجهيز الجيش بالعتاد، فان كان من مصدر واحد وبقانون واحد ومن معمل واحد، فالأمر سهلٌ ومستساغ عقلاً. بينما اذا جُهّز كلُّ جندي بقانون خاص ومن مصدر خاص ومن معمل يخصه، فالأمر صعب ومشكل جداً، بل سيحتاج ذلك الجندي حينئذٍ الى مصانع عتاد ومراكز تجهيزات وقوانين كثيرة بعدد أفراد جيش كامل.

فعلى غرار هذين المثالين، فان ايجاد هذه الاشياء في هذا القصر العظيم والمدينة الرائعة، وفي هذه المملكة الراقية والعالم المهيب اذا ما اُسند الى واحدٍ أحد فان الأمر سهل ومستساغ حيث يكون ما نراه من وفرة الاشياء وكثرتها واضحاً، بينما ان لم يسند الأمر اليه يكون ايجاد اي شئ كان عسيراً جداً، بل لا يمكن ايجاده اصلاً حتى لو اعطيت الدنيا كلها ثمناً له.

C البرهان العاشر

أيها الصديق ويا من يتقرب شيئاً فشيئاً الى الانصاف.. فها نحن هنا منذ خمسة عشر يوماً(1)، فان لم نعرف انظمة هذه البلاد وقوانينها ولم نعرف مليكها فالعقاب يحق علينا، اذ لا مجال لنا بعدُ للاعتذار. فلقد أمهلونا طوال هذه الأيام، ولم يتعرضوا لنا بشئ. الاّ اننا لا شك لسنا طلقاء سائبين، فنحن في مملكة رائعة بديعة فيها من الدقّة والرقة والعبرة في المصنوعات المتقنة ما ينم عن عظمة مليكها، فلابد أن جزاءه شديد ايضاً. وتستطيع أن تفهم عظمة المالك وقدرته من هذا:

انه ينظمّ هذا العالم الضخم بسهولة تنظيم قصر منيف، ويدير أمور هذا العالم العجيب بيسر ادارة بيتٍ صغير، ويملأ هذه المدينة العامرة بانتظام كامل دون نقص ويخلّيها من سكانها بحكمة تامة بمثل سهولة ملء صحن وافراغه. وينصب الموائد الفخمة المتنوعة(2) ويعد الاطعمة اللذيذة بكمال كرمه بيد غيبية ويفرشها من أقصى العالم الى أقصاه ثم يرفعها بسهولة وضع سُفرة الطعام ورفعها. فان كنت فطناً فستفهم ان هذه العظمة والهيبة لابد أنها تنـطوي على كـرم لا حـد له وسخاء لا حدود له.

ثم أنظر كما ان هذه الاشياء شاهدةُ صدقٍ على عظمة المالك القدير وعلى هيمنته، وعلى انه سلطان واحد أحد، كذلك القوافل المتعاقبة والتحولات المترادفة دليل على دوام ذلك السلطان وبقائه، لأن الأشياء الزائلة انما تزول معها أسبابُها أيضاً. فالأشياء والاسباب تزولان معاً، بينما التي تعقبها تأتي جديدة ولها آثارٌ كسابقتها، فهي اذن ليست من فعل تلك الأسباب، بل ممن لا يطرأ عليه الزوال! فكما ان بقاءَ اللمعان والتألّق - بعد زوال حَباب النهر الجاري - في التي تعقبها من الحباب، يفهمنا ان هذا التألق ليس من الحباب الزائلة بل من مصدر نور دائم، كذلك تبدل الأفعال بالسرعة المذهلة، وتلوّن التي تعقبها وانصباغها بصفاتها يدلنا على أن تلك الأفعال انما هي تجلياتُ مَن هو دائم لا يزول وقائمٌ لا يحول. والاشياء جميعاً نقوشُه ومراياه وصنعتُه ليس الاّ.

C البرهان الحادي عشر

تعال أيها الصديق لأبين لك برهاناً يملك من القوة ما للبراهين العشرة السابقة. دعنا نتأهب لسفرة بحرية، سنركب سفينة(1) لنذهب الى جزيرة بعيدة عنا. أتعلم لماذا نذهب اليها؟. ان فيها مفاتيح ألغاز هذا العالَم ومغاليق اسراره وأعاجيبه. ألا ترى أنظار الجميع محدقة بها، ينتظرون منها بلاغاًً ويتلقون منها الاوامر.. فها نحن نبدأ بالرحلة.. وها قد وصلنا اليها ووطئت أقدامُنا أرضَ الجزيرة.. نحن الآن امام حشد عظيم من الناس وقد أجتمـع اشراف المملكة جميعـُهم هنا.. أمعن النظر يا صديقي الى رئيس الاجتماع المهيب.. هلاّ نتقرب اليه قليلاً فنعرفه عن كثب.. فها هو ذا متقلّد أوسمةً راقية تزيد على الألف(2) ويتحدث بكلام ملؤه الطيب والثقة والاطمئنان. وحيث اني كنت قد تعلمت شيئاً مما يقـول خلال خمسة عشر يوماً السابقة فسوف أعلّمك إياه.. انه يتحدث عن سلطان هذه المملكة ذى المعجزات ويقول: انه هو الذي أرسله اليكم. أنظر انه يُظهر خوارق عجيبة ومعجزات باهرة بحيث لا يدع شبهة في انه مُرسَلٌ خصيصاً من لدن السلطان العظيم. اِصغِ جيداً الى حديثه وكلامه، فجميع المخلوقات آذانٌ صاغية له، بل المملكة برمّتها تصغى اليه، حيث الجميع يسعون الى سماع كلامه الطيب ويتلهفون لرؤية محياه الزاهر. أوَ تظن ان الانسان وحده يصغي اليه فحسب؟ بل الحيوانات ايضاً، بل حتى الجبال والجمادات تصغى لأوامره وتهتز من خشيتها وشوقها اليه. انظر الى الاشجار كيف تنقاد الى أوامره وتذهب الى ما اشار اليه من مواضع، انه يفجّر الماء اينما يريد، بل حتى من بين أصابعه، فيرتوي الناس من ذلك الماء الزلال. انظر الى ذلك المصباح المتدلي من سقف المملكة(1) انه ينشق الى شقين اثنين بمجرد اشارة منه. فكأن هذه المملكة وبما فيها تعرفه جيداً وتعلم يقيناً انه موظف مرسل بمهمة من لدن السلطان، ومبلّغ امين لأوامره الجليلة. فتراهم ينقادون له انقياد الجندي المطيع. فما من راشد عاقل ممن حوله الاّ ويقول انه رسول كريم، ويصدقونه ويذعنون لكلامه، ليس هذا فحسب بل يصدّقه ما في المملكة من الجبال والمصباح العظيم(2). والجميع يقولون بلسان الحال وبخضوع: نعم.. نعم ان كل ما ينطق به صدق وعدل وصواب...

فيا ايها الصديق الغافل! هل ترى انه يمكن ان يكون هناك أدنى احتمال لكذبٍ أو خداع في كلام هذا الكريم؟ حاش لله أن يكون من ذلك شئ من كلامه ابداً. وهو الذي اكرمه السلطان بألفٍ من الانواط والشارات، وهي علامات تصديقه له، وجميعُ اشراف المملكة يصدّقونه، وكلامُه كله ثقة واطمئنان، فهو يبحث في أوصاف السلطان المعجِز وعن أوامره البليغة. فان كنت تجد في نفسك شيئاً من احتمال الكذب، فيلزم عليك أن تكذّب كل الجماعات المصدّقة به، بل تنكر وجود القصر والمصابيح وتنكر وجود كل شئ وتكذّب حقيقتهم، والاّ فهات ما عندك ان كان لديك شئ، فالدلائل تتحدى.

C البرهان الثاني عشر

أيها الأخ لعلك استرشدت بما قلنا شيئاً فشيئاً. فسأبين لك الآن برهاناً أعظم من جميع البراهين السابقة.

انظر الى هذه الأوامر السلطانية النازلة من الأفق الأعلى، الجميع يوقرونها وينظرون اليها باجلال واعجاب، وقد وقف ذلك الشخص الكريم المجلل بالاوسمة بجانب تلك الأوامر النورانية(1) ويفسّر للحشود المجتمعة معاني تلك الأوامر. انظر الى اسلوب الأوامر انه يشع ويسطع حتى يسوق الجميع الى الاعجاب والتعظيم. إذ يبحث في مسائل جادّة تهمّ الجميع بحيث لا يدع احداً الاّ ويصغي اليه. انه يفصّل تفصيلاً كاملاً شؤون السلطان وافعاله وأوامره وأوصافه. فكما ان على تلك الأوامر السلطانية طغراء السلطان نفسه فعلى كل سطر من سطورها ايضاً شارته بل اذا أمعنت النظر فعلى كل جملة بل كل حرف فيها خاتمه الخاص فضلاً عن معانيها ومراميها وأوامرها ونواهيها.

الخلاصة: ان تلك الأوامر السلطانية تدل على ذلك السلطان العظيم كدلالة الضوء على النهار.

* * *

فيا أيها الصديق: أظنك قد عُدت الى صوابك وأفَقْت من نوم الغفلة، فانّ ما ذكرناه لك وبسطناه من براهين لكافٍ ووافٍ. فان بدا لك شئٌ فاذكره.

فما كان من ذلك المعاند الاّ أن قال:

لا أقول إلاّ: ((الحمد لله، لقد آمنت وصدقت، بل آمنت ايماناً واضحاً أبلج كالشمس وكالنهار، ورضيت بان لهذه المملكة ربّاً ذا كمال، ولهذا العالَم مولى ذا جلال، ولهذا القصر صانعاً ذا جمال. ليـرضَ الله عنك يا صديقي الحمـيم فقد أنقذتني من أسار العناد والتعصب الممقوت الذي بلغ بي حَّد الجنون والبلاهة، ولا أكتمك يا أخـي، فان ما سقـتَه من براهـين، كلُّ واحـد منها كـان بـرهـانـاً كافياً ليوصلني الى هذه النتيجة، الاّ انني كنت أصغي اليك لأن كل برهان منها قد فتح آفاقاً أرحب ونوافذ أسطع الى معرفة الله والى محبته الخالصة)).

* * *

وهكذا تمت الحكاية التي كانت تشير الى الحقيقة العظمى للتوحيد والايمان بالله.

وسنبين في المقام الثاني بفضل الرحمن وفيض القرآن الكريم ونور الايمان - مقابل ما جاء من اثنى عشر برهاناً في الحكاية التمثيلية إثنتي عشرة لمعة من لمعات شمس التوحيد الحقيقي بعد ان نمهّد لها بمقدمة.

نسأل الله التوفيق والهداية.

المقام الثاني

من الكلمة الثانية والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

] الله خَالِقُ كُلِ شَيءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيْءٍ وَكيلٌ ^ لهُ مَقاليدُ السَمواتِ والارض[ (الزمر: 62ــ 63)

] فَسُبحان الذى بيدهِ مَلَكُوتُ كلِّ شيْءٍ واِليه تُرجعُونَ[ (يس:83)

] وَاِنْ مِنْ شيْءٍ الاّ عندَنا خَزَائِنُهُ ومَا نُنَزِّلُهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[ (الحجر: 21)

] مَا مِنْ دَابَةٍ الاّ هُوَ آخِذٌ بنَاصِيَتِها اِنّ رَبّى على صِرَاطٍ مُسْتَقيم[ (هود:56)



المقدمة

لقد بيّنا اجمالاً في رسالة ((قطرة من بحر التوحيد)) قطبَ اركان الايمان وهو (الايمان بالله). واثبتنا ان كل موجود من الموجودات يدل علـى وجوب وجود الله سبحانه ويشهد على وحدانيته بخمسة وخمسين لساناً. وذكرنا كذلك في رسالة (نقطة من نور معرفة الله جل جلاله) أربعة براهين كليّة على وجوب وجوده سبحانه ووحدانيته، كل برهان منها بقوة ألف برهان. كما ذكرنا مئات من البراهين القاطعة التي تبيّن وجوبَ وجوده سبحانه ووحدانيته فيما يقرب من اثنتي عشرة رسالة باللغة العربية، لذا نكتفي بما سبق ولا ندخل في تفاصيل دقيقة، الاّ أننا نسعى في هذه (الكلمة الثانية والعشرين) لإظهار (اثنتي عشرة) لمعة من شمس (الايمان بالله) تلك التي ذكرتُها اجمالاً في رسائل النور.

C اللمعة الاولى

التوحيد توحيدان، لنوضح ذلك بمثال:

اذا وردت الى سوقٍ او الى مدينة بضائع مختلفة وأموال متنوعة لشخص عظيم، فهذه الأموال تُعرف مُلكيتها بشكلين اثنين:

الاول: شكل إجمالي عامي (أي لدى العامة من الناس) وهو : (( ان مثل هذه الأموال الطائلة ليس بمقدور أحدٍِ غيره ان يمتلكها)) ولكن ضمن نظرة الشخص العامي هذه يمكن أن يحدث اغتصاب، فيدّعي الكثيرون امتلاك قِطَعها.

الثاني: أن تُقرأ الكتابة الموجودة على كل رزمة من رزم البضاعة، وتُعرف الطغراءُ الموجودة على كل طَول، ويُعلم الختمُ الموجود على كل مَعْلمَ. أي كلّ شئ في هذه الحالة يدل ضمناً على ذلك المالك.

فكما ان البضاعة يُعرف مالكُها بشكلين، كذلك التوحيد فانه على نوعين:

الاول: التوحيد الظاهري العامي: وهو ((أنّ الله واحد لا شريك له ولا مثيل، وهذا الكون كلّه ملكه)).

الثاني: التوحيد الحقيقي: وهو الايمان بيقين أقرب ما يكون الى الشهود، بوحدانيته سبحانه، وبصدور كلّ شئ من يد قدرته، وبأنه لا شريكَ له في ألوهيته، ولا معينَ له في ربوبيته، ولا ندَّ له في مُلكه، إيماناً يَهب لصاحبه الاطمئنان الدائم وسكينة القلب، لرؤيته آية قدرته وختمَ ربوبيته ونقشَ قلمه، على كل شئ. فينفتح شباكٌ نافذٌ من كل شئ الى نوره سبحانه.

وسنذكر في هذه ((الكلمة)) شعاعاتٍ تبيّن ذلك التوحيد الحقيقي الخالص السامي.

تنبيه ضمن اللمعة الاولى:

ايها الغافل الغارق في عبادة الأسباب!

إعلم أن الاسباب ليست الاّ ستائر امام تصرف القدرة الإلهية، لأن العزة والعظمة تقتضيان الحجاب، اما الفاعل الحقيقي فهو القدرة الصمدانية، لأن التوحيد والجلال يتطلبان هذا، ويقتضيان الاستقلال.

وأعلم أن مأموري السلطان الأزلي وموظفيه ليسوا هم المنفّذين الحقيقيين لأمور سلطنة الربوبية، بل هم دالّون على تلك العظمة والسلطان، والداعون اليها، ومشاهدوها المعجَبون، فما وُجدوا الاّ لإظهار عزّة القدرة الربانية وهيبتها وعظمتها، وذلك لئلا تظهر مباشرةُ يد القدرة في امور جزئية خسيسة لا يدرك نظر اكثر الغافلين حُسنَها ولا يعـرف حكمــتهــا فيشــتكي بغــير حــق ويعتــرض بغــيــر عــلــم. وهم ليسوا كموظفي السلطان البشري الذي لم يعيّنهم ولم يُشركهم في سلطنته الاّ نتيجة عجزه وحاجته.

فالاسباب اذن انما وُضعَت لتبقى عزةُ القدرة مصونةً من جهة نظر العقل الظاهري؛ اذ ان لكل شئ جهتين – كوجهي المرآة – احداهما جهة (المُلك) الشبيهة بالوجه المطلي الملوّن للمرآة الذي يكون موضع الألوان والحالات المختلفة، والاخرى جهة (الملكوت) الشبيهة بالوجه الصقيل للمرآة. ففي الوجه الظاهر - أي جهة المُلك - هناك حالات منافية ظاهراً لعزة القدرة الصمدانية وكمالِها، فوُضعَت الأسبابُ كي تكون مرجعاً لتلك الحالات ووسائلَ لها. أما جهةُ الملكوت والحقيقة فكلُّ شئٍ فيها شفافٌ وجميلٌ وملائمٌ لمباشرةِ يدِ القدرة لها بذاتها، وليس منافياً لعزّتها، لذا فالاسباب ظاهرية بحتة، وليس لها التأثير الحقيقي في الملكوتية او في حقيقة الأمر.

وهناك حكمة اخرى للأسباب الظاهرية وهي:

عدم توجيه الشكاوي الجائرة والاعتراضات الباطلة الى العادل المطلق جلّ وعلا. أي وُضعت الأسبابُ لتكونَ هدفاً لتلك الاعتراضات وتلك الشكاوي، لأن التقصيرَ صادرٌ منها ناشئ من افتقار قابليتها.

ولقد روي لبيان هذا السر مثالٌ لطيف ومحاورة معنوية هي:

ان عزرائيل عليه السلام قال لرب العزة:

((ان عبادك سوف يشتكون مني ويسخطون عليّ عند أدائي لوظيفة قبض الأرواح)).

فقال الله سبحانه وتعالى له بلسان الحكمة:

((ساضع بينَك وبين عبادي ستائرَ المصائب والأمراض لتتوجه شكاواهم الى تلك الأسباب)).

وهكذا، تأمل! كما أن الأمراضَ ستائرُ يرجع اليها ما يُتوهّم من مساوئ في الأجَل، وكما أن الجمال الموجود في قبض الأرواح - وهو الحقيقة - يعود الى وظيفة عزرائيل عليه السلام، فان عزرائيل عليه السلام هو الآخر ستار، فهو ستار لأداء تلك الوظيفة وحجاب للقدرة الإلهية، اذ أصبح مرجِعاً لحالات تبدو ظاهراً انها غير ذات رحمة ولا تليق بكمال القدرة الربانية.

نعم، ان العزّة والعظمة تستدعيان وضع الأسباب الظاهرية امام نظر العقل، الاّ ان التوحيد والجلال يردّان أيدي الاسباب عن التأثير الحقيقي.

C اللمعة الثانية

تأمل في بستان هذه الكائنات، وانظر الى جنان هذه الارض، وأنعم النظر في الوجه الجميل لهذه السماء المتلألئة بالنجوم. تَرَ أن للصانع الجليل جل جلاله ختماً خاصاً بمن هو صانع كل شئ على كل مصنوع من مصنوعاته، وعلامة خاصة بمن هو خالقُ كل شئ على كل مخلوق من مخلوقاته، وآية لا تقلَّد خاصة بسلطان الأزل والأبد على كل منشورٍ من كتابات قلم قدرته على صحائف الليل والنهار وصفحات الصيف والربيع.

سنذكر من تلك الاختام والعلامات بضعاً منها نموذجاً ليس الاّ، انظر مما لا يحصى من علاماته الى هذه العلامة التي وضعها على (الحياة):

(انه يخلق من شئ واحد كلَّ شئ، ويخلق من كلِّ شئ شيئاً واحداً). فمن ماء النطفة بل من ماء الشرب، يخلق ما لا يعد من أجهزة الحيوان واعضائه، فهذا العمل لاشك انه خاص بقدير مطلق القدرة.

ثم ان تحويل الأطعمة المتنوعة - سواء الحيوانية أو النباتية - الى جسم خاص بنظام كامل دقيق، ونسج جلد خاص للكائن وأجهزة معينة من تلك المواد المتعددة لا شك أنه عمل قدير على كل شئ وعليم مطلق العلم.

نعم، ان خالق الموت والحياة يدير الحياة في هذه الدنيا، إدارة حكيمة بقانون أمري معجِز، بحيث لا يمكن أن يطبّق ذلك القانون وينفّذه الاّ مَن يصرّف جميع الكون في قبضته.

وهكذا إن لم تنطفىء جذوة عقلك ولم تفقد بصيرة قلبك فستفهم أنّ جعل الشئ الواحدِ كل شئ بسهولة مطلقة وانتظام كامل، وجعل كلَّ شئٍ شيئاً واحداً بميزانٍ دقيق وانتظام رائع وبمهارة وابداع، ليس الاّ علامة واضحة وآية بيّنة لخالق كل شئ وصانعه.

فلو رأيت - مثلاً - أن أحداً يملـك أعمالاً خارقة: ينســج من وزنِ درهــمٍ من القطن مائة طَولٍ من الصوف الخالص وأطوالاً من الحـــرير وانــواعاً من الأقمشة، ورأيت أنه يُخرجِ علاوة على ذلك، من ذلك القطن حلويات لذيذة وأطعمة متنوعة كثيرة، ثم رأيت أنه يأخذ في قبضته الحديد والحجر والعسل والدهن والماء والتراب فيصنع منها الذهب الخالص، فستحكم حتماً أنه يملك مهارة معجِزة تخصّه وقدرة مهيمنة على التصرف في الموجودات، بحيث أن جميع عناصر الأرض مسخّرة بأمره، وجميع ما يتولد من التراب منفّذ لحكمه. فان تعجَبْ من هذا فان تجلي القدرة الإلهية وحكمتها في ((الحياة)) لهو أعجب من هذا المثال بألف مرّة.. فاليك علامة واحدة من علامات عديدة موضوعة على الحياة.

C اللمعة الثالثة

أنظر الى (ذوي الحياة) المتجولة في خضم هذه الكائنات السيالة، وبين هذه الموجودات السيارة، تَرَ ان على كل كائن حيّ، أختاماً كثيرة، وضعها الحيُّ القيوم. أنظر الى ختم واحدٍ منها:

ان ذلك الكائن الحيّ - وليكن هذا الانسان - كأنه مثال مصغَّر للكون، وثمرة لشجرة الخِلقة، ونواةٌ لهذا العالَم، حيث أنه جامعٌ لمعظم نماذج أنواع العوالم، وكأن ذلك الكائن الحيّ قطرةٌ محلوبة من الكون كلّه، مستخلصةٌ بموازين علمية حساسة، لذا يلزم لخلقِ هذا الكائن الحيّ، وتربيته ورعايته ان يكون الكون قاطبة في قبضة الخالق وتحت تصرفه. فان لم يكن عقلك غارقاً في الأوهام، فستفهم ان جعلَ النحلة التي تمثل كلمةً من كلمات القدرة الربانية بمثابة فهرس مصغّر لكثير من الأشياء.. وكتابة أغلب مسائل كتاب الكون في كيان الانسان الذي يمثّل صحيفةً من قدرته سبحانه.. وادراج منهاج شجرة التين الضخمة في بُذيراتها التي تمثل نقطةً في كتاب القدرة.. وإراءة آثار الأسماء الحسنى المحيطة المتجلية على صفحات هذا الكون العظيم في قلب الانسان الذي يمثل حرفاً واحداً من ذلك الكتاب.. ودرج ما تضمّه مكتبة ضخمة من مفصل حياة الانسان في ذاكرته المتناهية في الصغر.. كل ذلك دون شك، ختمٌ يخصّ بمن هو خالق كل شئ ورب العالمين.

فلئن أظهر ختمٌ واحد - من بين أختامٍ ربانية كثيرة - على (ذوي الحياة) نورَه باهراً حتى استقرأ آياته قراءة واضحة، فكيف اذا استطعتَ ان تنظر الى جميع (ذوي الحياة) وتشاهد تلك الأختام معاً، و ان تراها دفعةً واحدة، أما تقول: (سبحان من اختفى بشدة ظهوره)؟

C اللمعة الرابعة

أنظر الى هذه الموجودات الملونة الزاهية المبثوثة على وجه الارض، والى هذه المصنوعات المتنوعة السابحة في بحر السماوات، تأمل فيها جيداً.. تَرَ: ان على كل موجود منها طغراء لا تقلد للمنور الأزلي (جلّ وعلا). فكما تشاهَد على (الحياة) آياتُه وشاراته، وعلى (ذوي الحياة) أختامُه - وقد رأينا بعضاً منها - تشاهد آيات وشارات ايضاً على (الإحياء)، اي منح الحياة. سننظر الى حقيقتها بمثال، اذ المثال يقرب المعاني العميقة للأفهام.

انه يشاهد على كل من السيارات السابحة في الفضاء، وقطرات الماء، وقطع الزجاج الصغيرة، وبلورات الثلج البراقة... طغراءٌ لصورة الشمس وختم لانعكاسها، وأثرٌُ نوراني خاص بها، فان لم تقبل ان تلك الشُميسات المشرقة على الأشياء غير المحدودة، هي انعكاسات نور الشمس وتجليها، فستضطر ان تقبل بوجود شمس بالأصالة في كل قطرة، وفي كل قطعة زجاجٍ معرّضة للضوء، وفي كل ذرة شفافة تقابل الضوء، مما يلزم ترديك في منتهى البلاهة ومنتهى الجنون!

وهكذا، فللّه سبحانه وهو نور السموات والارض تجليات نورانية، من حيث ((الإحياء)) وافاضة الحياة، فهو آية جلية وطغراء واضحة يضعها سبحانه على كل ذي حياة، بحيث لو افترض اجتماع جميع الأسباب واصبح كلُّ سبب فاعلاً مختارا فلن تستطيع منحَ حياةٍ لموجود. أي انها تعجز عجزاً مطلقاً عن أن تقلّد شيئاً الختم الرباني في الإحياء. ذلك لأن كل ذي حياة هـو بحدّ ذاتـه معجزةٌ من معجزات القدرة الإلهية، اذ هو على صورة نقطة مركزية (كالبؤرة) لتجليات الاسماء الحسنى، التي كل منها بمثابة شعاع من نوره ســبحانه. فلـو لم يُسنَد ما يــشاهَد علـى الكائن الحيّ من صنعةٍ بديعة في الصورة، وحكمةٍ بالغة في النظام وتجلٍّ باهر لسر الأحدية، الى الأحد الصمد جلّ جلالُه، للزم قبول قدرةٍ فاطرة مطلـقة غير متـناهية مـستـترة في كل ذي حياة، ووجود علمٍ محيط واســع فيـه، مـع ارادة مطــلقة قـادرة عـلى ادارة الـكون، بل يجب قبول وجود بقية الصفات التي تخص الخالق سبــحانه في ذلك الكائن، حتى لو كان الـكائن الحــي ذبـابـة أو زهـرة! أي اعـطـاء صـفـات الألوهـــيـة الى كل ذرة من ذرات اي كائن! أي قبـول افتراضـات محالة من أمثــال هذه الافـتـراضـات التي تـوجب السقــــوط الــى أدنــى بلاهات الضـلالة وحمــاقـات الخرافة! ذلك لأنه سبحانه وتعالى قد أعطى لذرات كل شئ - لا سيما اذا كانت من امثال البذرة والنواة - وضعاً معيناً، كأن تلك الذرة تنظر الى ذلك الكائن الحي كله - رغم أنها جزء منه - وتتخذ موقفاً معيناً وفق نظامه، بل تتخذ هيئة خاصة بما يفيد دوام ذلك النوع، وانتشاره ونصب رايته في كل مكان، وكأنها تتطلع الى جميع أنواع ذلك الكائن في الارض - فتزود البذرة مثلاً بما يشبه جُنيحات لأجل الطيران والانتشار - ويتخذ ذلك الكائن الحيّ موقفاً يتعلق بجميع موجودات الأرض التي يحتاجها لأدامة حياته وتربيته ورزقه ومعاملاته. فان لم تكن تلك الذرة مأمورة من لدن قدير مطلق القدرة، وقُطِعت نسبتها من ذلك القدير المطلق، لزم ان يُعطى لها بصرٌ تبصر به جميع الأشياء، وشعورٌ يحيط بكل شئ!!.

حاصل الكلام: كما انه لو لم تُسنَد صُور الشميسات المشرقة وانعكاسات الألوان المختلفة في القطرات وقطع الزجاج الى ضوء الشمس، ينبغي عندئذٍ قبول شموس لا تحصى بدلاً من شمس واحدة. مما يقتضي التسليم بخرافة محالة، كذلك لو لم يُسند خلق كل شئ الى القدير المطلق، للزم قبول آلهة غير متناهية بل بعدد ذرات الكون بدلاً من الله الواحد الأحد سبحانه. أي قبول محال بدرجة مائة محال، أي ينبغي السقوط الى هذيان الجنون.

نخلص من هذا: ان هناك في كل ذرة ثلاثة شبابيك نافذة مفتّحة الى نور وحدانية الله جلّ جلاله والى وجوب وجوده سبحانه وتعالى:

` النافذة الاولى:

ان كل ذرة كالجندي، الذي له علاقة مع كل دائرة من الدوائر العسكرية أي مع رهطه وسرّيته وفوجه ولوائه وفرقته وجيشه، وله حسب تلك العلاقة وظيفة هناك، وله حسب تلك الوظيفة حركة خاصة ضمن نطاق نظامها. فالذرة الجامدة الصغيرة جداً، التي هي في بؤبؤ عينك لها علاقة معينة ووظيفة خاصة، في عينك ورأسك وجسمك، وفي القوى المولدة والجاذبة والدافعة والمصّورة وفي الأوردة والشرايين والأعصاب، بل لها علاقة حتى مع نوع الانسان.

فوجود هذه العلاقات والوظائف للذرة، يدلّ بداهة - لذوي البصائر - على ان الذرة انّما هي أثرٌ من صنعِ القدير المطلق، وهي مأمورة موظّفة تحت تصرفه سبحانه وتعالى.

` النافذة الثانية:

ان كل ذرة من ذرات الهواء تستطيع ان تزور أية زهرة أو ثمرة كانت، وتتمكن من الدخول والعمل فيها، فلو لم تكن الذرة مأمورة مسخّرة من لدن القدير المطلق البصير بكل شئ، للزم ان تكون تلك الذرة التائهة عالمةً بجميع أجهزة الأثمار والأزهار وبكيفيات بنائها، ومدركةً صنعتها الدقيقة المتباينة ومحيطة بنسج وتفصيل ما قدّ عليها من صور وأشكال، ومتقنةً صناعة نسيجها اتقاناً تاماً!!

وهكذا تشع هذه الذرة شعاعاً من شعاعات نور التوحيد كالشمس واضحة.. وقس الضوء على الهواء، والماء على التراب حيث أن منشأ الاشياء من هذه المواد الاربعة وقس ما في العلوم الحاضرة من مولد الماء ومولد الحموضة (الاوكسجين والهيدروجين) والآزوت والكاربون على تلك العناصر المذكورة.

` النافذة الثالثة:

يمكن ان تكون كتلة من التراب المركب من ذرات دقيقة منشأً ومصدراً لنموّ أي نبات من النباتات المزهرة والمثمرة الموجودة في الأرض كافة، فيما لو وُضعت فيها بُذيراتُها الدقيقة، تلك البذيرات المتشابهة - كالنُطف - والمركبة من كربون وآزوت واوكسجين وهيدروجين، فهي متماثلة ماهيةً، رغم انها مختلفة نوعيةً، حيث أودع فيها بقلم القَدَر، برنامجُ أصلها الذي هو معنوي بحت. فاذا ما وضعنا بالتعاقب تلك البذور في سندانة، فستنمو كل بذرة بلا ريب بشكل يُبرز أجهزتَها الخارقة وأشكالها الخاصة وتراكيبها المعينة. فلو لم تكن كل ذرة من ذرات التراب مأمورة وموظفة ومتأهبة للعمل تحت أمرة عليم بأوضاع كل شئ وأحواله، وقديرٍ على إعطاء كل شئ وجوداً يليق به ويديمه، اي لو لم يكن كل شئ مسخراً أمام قدرته سبحانه، للزم ان تكون في كل ذرة من ذرات التراب، مصانع ومكائن ومطابع معنوية، بعدد النباتات، كي تصبح منشأً لتلك النباتات ذات الأجهزة المتباينة والأشكال المختلفة!.. أو يجب إسناد علم يحيط بجميع الموجودات الى كل ذرة، وقدرة تقدر على القيام بعمل جميع الأجهزة والأشكال فيها، كي تكون مصدراً لجميعها!!

أي انه اذا ما انقطع الانتساب الى الله سبحانه وتعالى، ينبغي قبول وجود آلهة بعدد ذرات التراب!! وهذه خرافة مستحيلة في ألـف محال ومحـال. بينما الأمر يكون مستساغاً عقلاً وسهلاً ومقبولاً عندما تصبح كل ذرة مأمورة، اذ كما ان جندياً إعتيادياً لدى سلطان عظيم يستطيع - باسم السلطان واستناداً الى قوته - أن يقوم بتهجير مدينة عامرة من أهلها، أو يصل بين بحرين واسعين، أو يأسر قائداً عظيماً، كذلك تستطيع بعوضة صغيرة أن تطرح نمروداً عظيماً على الأرض، وتستطيع نملة بسيطة ان تدمّر صرح فرعون، وتستطيع بذرة تين صغيرة جداً ان تحمل شجرة التين الضخمة على ظهرها، كل ذلك بأمر سلطان الأزل والأبد وبفضل ذلك الانتساب.

وكما رأينا هذه النوافذ الثلاث المفتحة على نور التوحيد في كل ذرة ففيها ايضاً شاهدان صادقان آخران على وجود الصانع سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته.

أولهما: هو حمل الذرة على كاهلها وظائف عظيمة جداً ومتنوعة جداً، مع عجزها المطلق.

والآخر: هو توافق حركاتها بانتظام تام وتناسقها مع النظام العام، حتى تبدو وكأن فيها شعوراً عاماً كلياً مع انها جماد.

أي أن كل ذرة تشهد بلسان عجزها على وجود القدير المطلق، وتشهد باظهارها الانسجام التام مع نظام الكون العام على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى.

وكما ان في كل ذرة شاهدين على ان الله واجب الوجود وواحد، كذلك في كل (حي) له آيتان على أنه (أحد صمدٌ).

نعم! ففي كل حيّ هناك آيتان:

احداهما: آيةُ الأحدية.

والأخرى: آيةُ الصمدية.

لأن كل (حيّ) يُظهر تجليّات الأسماء الحسنى، المشاهَدة في أغلب الكائنات، يُظهرها دفعةً واحدة في مرآته، وكأنه نقطةٌ مركزية - كالبؤرة - تبيّن تجلي اسم الله الأعظم، الحي القيوم، أي أنه يحمل آية الأحدية باظهاره نوعاً من ظل أحدية الذات تحت ستار اسم المحيي.

ولما كان الكائن الحيّ بمثابة مثال مصغر للكائنات، وبمثابة ثمرة لشجرة الخليقة، فان إحضار حاجـاته المـتراميـة في الكـائنـات الى دائــرة حياته الصغيرة جداً، بسهولة كاملة، وبدفعة واحدة، يُبرز للعيان آية الصمدية ويبينها، أي ان هذا الوضع يبيّن ان لهذا الكائن الحيّ ربّاً - نِعمَ الرب - بحيث أن توجّهاً منه اليه يُغنيه عن كل شئ، ونظرةً منه اليه تكفيه عن جميع الأشياء، ولن يحلّ جميعُ الأشياء محل توجهٍ واحدٍ منه سبحانه.

((نعم يكفي لكل شئ شئ عن كل شئ، ولا يكفي عنه كل شئ ولو لشئ واحد)).

وكذا يبيّن ذلك الوضع أن ربّه ذاك - جلّ شأنه - كما انه ليس محتاجاً الى شئ أيّاً كان، فان خزائنه لا ينقص منها شئ أيضاً، ولا يصعب على قدرته شئ.. فاليك مثالاً من آيةٍ تُظهر ظل الصمدية.

أي، ان كل ذي حياة يرتّل بلسان الحياة: ((قل هو الله أحدٌ. الله الصمد))..

هذا وان هناك عدة نوافذ مهمة اخرى عدا ما ذكرناه قد اُختصرت هنا فيما فُصلت في أماكن أخرى.

فما دامت كل ذرة من ذرات هذا الكون تفتح ثلاث نوافذ، وكُوّتين، والحياة نفسُها تفتح بابين دفعة واحدة الى وحدانية الله سبحانه، فلابدّ انك تستطيع الآن قياس مدى ما تنشره طبقات الموجودات - من الذرات الى الشمس - من أنوار معرفة الله ذي الجلال.. فافهم من هذا سعة درجات الرقي المعنوي في معرفة الله سبحانه ومراتب الاطمئنان والسكينة القلبية، وقس عليها.

C اللمعة الخامسة

من المعلوم أنه يكفي لاخراج كتابٍ ما، قلمٌ واحدٌ اِن كان مخطوطاً. وتلزم أقلامٌ عديدة بعدد حروفه إن كان مطبوعاً، أي حروفاً معدنية عديدة. ولو كُتب معظمُ ما في الكتاب في بعض حروفه بخط دقيق جداً - ككتابة سورة يس مصغرة في لفظ يس - فيلزم عندئذٍ ان تكون جميع الحروف المعدنية مصغّرة جداً لطبع ذلك الحرف الواحد.

فكما ان الأمر هكذا في الكتاب المستنسخ أو المطبوع كذلك كتاب الكون هذا، اذا قلتَ انه كتابة قلمِ قدرة الصمد، ومكتوبُ الواحد الأحد، فقد سلكتَ اذن طريقاً سهلة بدرجة الوجوب، ومعقــولةً بــدرجـة الضــرورة، ولكــن اذا ما أســندته الى الطبيعة والى الأسباب، فقد سلكت طريقاً صعبة بدرجة الامتناع، وذات اشكالات عويصة بدرجة المحال، وذات خرافات لاشك فيها، اذ يلزم ان تنشئ الطبيعةُ في كل جزء تراب، وفي كل قطرة ماء، وفي كل كتلة هواء ملايين الملايين من مطابع معدنية، وما لا يحد من مصانع معنوية، كي يُظهر كلُّ جزءٍ من تلك الأجزاء وينشىء ما لا يعد ولا يحصى من النباتات المزهرة والمثمرة.. أو تضطر الى قبول وجود علمٍ محيط بكل شئٍ، وقوةٍ مقتدرة على كل شئ في كل منها، كي يكون مصدراً حقيقياً لهذه المصنوعات؛ لأن كل جزءٍ من أجزاء التراب والماء والهواء يمكن ان يكون منشأ لأغلب النباتات. والحال ان تركيب كل نباتٍ منتظمٌ، وموزون، ومتمايز، ومختلف نوعاً، فكلٌ منه اذاً بحاجة الى معمل معنوي خاص به وحده والى مطبعة تخصّه هو فقط. فالطبيعة اذن اذا خرجت عن كونها وحدةَ قياسٍ للموجودات الى مصدرٍ لوجودها، فما عليها الاّ احضار مكائن جميع الأشياء في كل شئ!!.

وهكذا فان أساس فكرة عبادة الطبيعة هذه خرافة بئست الخرافة!. حتى الخرافيون أنفسهم يخجلون منها. فتأمل في أهل الضلالة الذين يعدّون انفسهم عقلاء كيف تمسكوا بفكرة غير معقولة بالمرة.. ثم اعتبر!!.

الخلاصة:

ان كل حرف في أي كتاب كان، يظهر نفسه بمقدار حرف، ويدل على وجوده بصورة معينة، الاّ انه يعرّف كاتبه بعشر كلمات، ويدل علىه بجوانب عديدة، فيقول مثلاً: ((ان كاتبي خطه جميل، وان قلمه أحمر، وانه كذا وكذا..)).

ومثل ذلك كل حرف من كتاب العالم الكبير هذا، يدل على ذاته بقدر جرمه (مادته) ويُظهِر نفسه بمقدار صورته، الاّ انه يعرّف اسماء البارىء المصوّر سبحانه بمقدار قصيدة، ويظهر تلك الأسماء الحسنى ويشير اليها بعدد أنواعه شاهداً على مسمّاه، لذا ينبغي ألا يزلّ الى انكار الخالق ذي الجلال حتى ذلك السوفسطائي الأحمق الذي ينكر نفسه وينكر الكون.

C اللمعة السادسة

ان الخالق ذا الجلال كما وضع على جبين كل (فرد) من مخلوقاته وعلى جبهة كل (جزء) من مصنوعاته، آية أحديته (وقد رأيت قسماً منها في اللمعات السابقة)، فانه سبحانه قد وضع على كل (نوع) كثيراً من آية الأحدية بشكل ساطع لامع، وعلى كل (كلّ) عديداً من أختام الواحدية، بل وضع على مجموع العالم أنواعاً من طغراء الوحدة. واذا تأملنا ختماً واحداً، من تلك الاختام والعلامات العديدة الموضوعة على صحيفة سطح الأرض في موسم الربيع تبين لنا ما يأتي:

ان البارئ المصوّر سبحانه وتعالى قد حشر ونشر اكثر من ثلاثمائة ألف نوعٍ من النباتات والحيوانات على وجه الأرض في فصل الربيع والصيف بتمييز وتشخيص بالغين، وبانتظام وتفريق كاملين - رغم اختلاط الأنواع اختلاطاً كاملاً - فأظهر لنا اية واسعة ساطعة للتوحيد، واضحة وضوح الربيع. أي ان ايجاد ثلاثمائة ألف نموذج من نماذج الحشر بانتظام كامل عند إحياء الأرض الميتة في موسم الربيع، وكتابةَ الأفراد المتداخلة لثلاثمائة ألف نوع مختلف على صحيفة الأرض كتابةً دون خطأ ولا سهو ولا نقص، وفي منتهى التوازن والانتظام، وفي منتهى الاكتمال، لاشك أنه آية خاصة بمن هو قدير على كل شئ بيده ملكوت كل شئ، وبيده مقاليد كل شئ، وهو الحكيم العليم.

هذه الآية من الوضوح بحيث يدركها كل من له ذرة من شعور.

ولقد بيّن القرآن الكريم هذه الآية الساطعة في قوله تعالى:

] فانظُر الى آثارِ رَحْمَتِ الله كيفَ يُحيِي الأرضَ بَعْدَ مَوتها انّ ذلك لَمحيي الموتى وهو على كل شيءٍ قدير[ (الروم:50).

نعم، ان قدرة الفاطر الحكيم التي أظهرت ثلاثمائة ألف نوع من نماذج الحشر في إحياء الأرض خلال بضعة أيام، لابَّد ان يكون حشرُ الانسان - لديها - سهلاً ويسيراً. إذ هل يصح أن يقال - مثلاً - لمن له خوارق بحيث يزيل جبلاً عظيماً باشارة منـه، أيستطـيع ان يزيـل هـذه الصخـرة العظـيمة التـي سدّت طـريقنا مـن هذا الوادي؟. ومثـِلَه كـذلــك لا يجـرأ ذو عقـل أن يـقول بصـيغة الاسـتبعاد للقـدير الحكـيم والكريم الرحيم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والذي يملأهما ويفرغهما حيناً بعد حين: ((كيف يستطيع أن يزيل طبقة التراب هذه التي علينا والتي سدت طريقنا المفروشة الى مستضافه الخالد؟)).

فهذا مثالُ آيةٍ واحدة للتوحيد تَظهر على سطح الأرض في فصل الربيع والصيف! فتأمل اذن كيف يظهر ختمُ الواحدية بجلاء على تصريف الأمور في الربيع الهائل على سطح الارض وهو في منتهى الحكمة والبصر، ذلك لأن هذه الاجراءات المشاهَدة، هي في انتظام مطلق، وخلقة تامة، وصنعة كاملة بديعة، مع انها تجري في سعة مطلقة، ومع هذه السعة فهي تتم في سرعة مطلقة، ومع هذه السرعة فهي ترد في سخاء مطلق. ألا يوضح هذا أنه ختمٌ جلّي بحيث لا يمكن ان يمتلكه الاّ مَن يملك علماً غير متناهٍ وقدرة غير محدودة.

نعم، اننا نشاهد على سطح الأرض كافة، ان هناك خلقاً وتصرفاً وفعاليةً تجري في سعة مطلقة، ومع السعة تُنجَز في سرعة مطلقة، ومع السرعة والسعة يُشاهد سخاءٌ مطلق في تكثير الأفراد، ومع السخاء والسعة والسرعة تتضح سهولةٌ مطلقة في الأمر مع انتظامٍ مطلق وابداع في الصنعة وامتياز تام، رغم الاختلاط الشديد والامتزاج الكامل. ويُشاهد كذلك آثارٌ ثمينة جداً، ومصنوعاتٌ نفيسة جداً رغم الوفرة غير المحدودة، مع انسجام كامل في نطاق واسع جداً، ودقة الصنعة وبدائعها وروعتها وهي في منتهى السهولة واليسر. فايجاد كل هذا في آن واحد، وفي كل مكان، وبالطراز نفسه، وفي كل فرد، مع اظهار الصنعة الخارقة والفعالية المعجزة، لاشك مطلقاً انه برهان ساطع وختم يخص مَن لا يحدّه مكان، مثلما أنه في كل مكان، حاضر وناظر رقيب حسيب، ومَن لا يخفى عليه شئ مثلما انه لا يعجزه شئ. فخلق الذرات والنجوم سواء امام قدرته.

لقد أحصيتُ ذات يوم عناقيد ساق نحيفة لعنب متسلق - بغلظ اصبعين - تلك العناقيد التي هي معجزات الرحيم ذي الجمال في بستان كرمه. فكانت مائة وخمسة وخمسين عنقوداً. واحصيتُ حبّات عنقود واحد منها فكانت مائة وعشرين حبة. فتأملت وقلت: لو كانت هذه الساق الهزيلة خزانة ماء معسّل، وكانت تعطي ماءً باستمرار لما كانت تكفي أمام لفح الحرارة ما ترضعه لمئاتِ الحبات المملوءة من شراب سكر الرحمة. والحال أنها قد لا تنال الاّ رطوبة ضئيلة جداً، فيلزم ان يكون القائم بهذا العمل قادراً على كل شئ. فـ ((سبحان من تَحيَّرُ في صنعه العقول)).

C اللمعة السابعة

كما انك تتمكن من رؤية اختام الأحد الصمد سبحانه، المختومة بها صحيفة الأرض، وذلك بنظرة إمعان قليلة، فارفع رأسك وافتح عينيك، وألق نظرةً على كتاب الكون الكبير تَرَ أنه يقرأ على الكون كله، ختمَ الوحدة بوضوح تام، بقدر عظمته وسعته ذلك لأن هذه الموجودات كأجزاء معمل منتظم، وأركان قصر معظم، وأنحاء مدينة عامرة، كُّل جزءٍ ظهير للآخر، كل جزء يمدّ يد العون للآخر، ويجدّ في اسعاف حاجاته. والاجزاء جميعاً تسعى يداً بيد بانتظام تام في خدمة ذوي الحياة، متكاتفة متساندة متوجهة الى غاية معينة في طاعة مدبّر حكيمٍ واحدٍ.

نعم، ان دستور ((التعاون)) الجاري الظاهر ابتداءً من جري الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار وترادف الشتاء والصيف.. الى إمداد النباتات للحيوانات الجائعة، والى سعي الحيوانات لمساعدة الانسان الضعيف المكرم، بل الى وصول المواد الغذائية على جناح السرعة لاغاثة الأطفال النحاف، وامداد الفواكه اللطيفة. بل الى خِدمة ذرات الطعام لحاجة حجيرات الجسم... كل هذه الحركات الجارية وفق دستور ((التعاون)) تُري لمن لم يفقد بصيرته كلّياً انها تجري بقوةِ مربٍّ واحد كريم مطلق الكرم، وبأمر مدبّر واحد حكيم مطلق الحكمة.

فهذا التساند، وهذا التعاون، وهذا التجاوب، وهذا التعانق، وهذا التسخير، وهذا الانتظام، الجاري في هذا الكون، يشهد شهادة قاطعة، أن مدبراً واحداً هو الذي يديره، ومربياً احداً يسوق الجميع في الكون. زد عليه، فان الحكمة العامة الظاهرة بداهة في خلق الاشياء البديعة وما تتضمنه من عناية تامة وما في هذه العناية من رحمة واسعة وما على هذه الرحمة من ارزاق منثورة تفي بحاجة كل ذي حياة وتعيّشه وفق حاجاته... كل ذلك ختم عظيم للتوحيد له من الظهور والوضوح ما يفهمه كل مَن لم تنطفىء جذوة عقله، ويراه كل من لم يُعمَ بصرُه؟.

نعم، ان حُلّة ((الحكمة)) التي يتراءى منها القصد والشعور والارادة قد أسبغت على الكون كله وجُلّلت كل جوانبه. وخُلعَتْ على حلة الحكمة هذه حلّةُ (العناية) التي تشف عن اللّطف والتزيين والتحسين والاحسان، وعلى هذه الحلة القشيبة للعناية ألقيت حلّةُ (الرحمة) التي يتألق منها بريق التودد والتعرف والانعام والاكرام وهي تغمر الكون كله وتضمه. وصفَّت على هذه الحلّة المنوّرة للرحمة العامة (الارزاقٌُ العامة)، ومُدّت موائدها التي تعرض الترحم والاحسان والاكرام والرأفة الكاملة وحسن التربية ولطف الربوبية.

نعم، ان هذه الموجودات؛ ابتداءً من الذرات الى الشموس، سواءً أكانت أفراداً أم أنواعاً وسواءً أكانت صغيرة أم كبيرة، قد اُلبست ثوباً رائعاً جداً، نُسج هذا الثوب من قماش (الحكمة) المزيّن بنقوش الثمرات والنتائج والغايات والفوائد والمصالح.. وأكسيت بحلّةِ (العناية) المطرزة بأزاهير اللطف والاحسان قدّت وفصلت حسب قامة كل شئ ومقاس كل موجود.. وعلى حلّة العناية هذه قُلّدت شارات (الرحمة) الساطعة ببريق التودد والتكرم والتحنن، والمتلألئة بلمعات الانعام والافضال… وعلى تلك الشارات المرصعة المنورة نُصبت مائدةُ (الرزق) العام على امتداد سطح الأرض بما يكفي جميع طوائف ذوي الحياة وبما يفي سد جميع حاجاتهم.

وهكذا، فهذا العمل يشير اشارة واضحة وضوح الشمس، الى حكيم مطلق الحكمة، وكريم مطلق الكرم، ورحيم مطلق الرحمة، ورزاق مطلق الرزق.

أحقاً ان كل شئ بحاجة الى الرزق؟

نعم، كما اننا نرى ان كل فرد بحاجة الى رزق يديم حياته، كذلك جميع موجودات العالم - ولا سيما الأحياء - الكلّي منها والجزئي، أو الكلّ والجزء، لها في كيانها، وفي بقائها، وفي حياتها وادامتها، مطاليب كثيرة، وضروريات عديدة، مادةً ومعنىً، ومع انها مفتقرةٌ ومحتاجة الى اشياء كثيرة مما لا يمكن أن تصل يدُها الى أدناها، بل لا تكفي قوّةُ ذلك الشئ وقدرتُه للحصول على أصغر مطاليبه، نشاهد ان جميع تلك المطاليب والارزاق المادية والمعنوية تُسلَّم الى يديه من حيث لا يحتسب وبانتظام كامل وفي الوقت المناسب تسليماً موافقاً لحياته متّسماً بالحكمة الكاملة.

ألا يدل هذا الافتقار، وهذه الحاجة في المخلوقات وهذا النمط من الإمداد والإعانة الغيبية، على رب حكيمٍ ذي جلال ومدبّر رحيم ذي جمال؟.

C اللمعة الثامنة

مثلما ان زراعة بذورٍ في حقلٍ ما، تدل على ان ذلك الحقل هو تحت تصرف مالك البذرة، وان تلك البذرة هي كـذلك تحــت تصــرفه، فان كلية العنـاصر في مزرعة الارض وفي كل جزء منها مع انها واحدة وبسيطة، وانتشار المخلوقات من نباتات وحيوانات في معظم الاماكن - وهي تمثل ثمرات الرحمة الإلهية ومعجزات قدرته وكلمات حكمته - مع انها متماثلة ومتشابهة ومتوطنة في كل طرف.. ان هذه الكلية والانتشار يدلان دلالة جَلية على انهما تحت تصرف ربّ واحد أحد، حتى كأن كلّ زهرة، وكل ثمرة، وكل حيوان، آية ذلكم الرب الكريم وختمه وطغراؤه، فاينما يحل - أيُّ منها - يقول بلسان حاله:

((مَنْ كنتُ آيتَه، فهذه الأرض مصنوعته، ومَنْ كنتُ ختمه فهذا المكان مكتوبُه، ومَنْ كنتُ علامتَه فهذا الموطن منسوجُهُ..)).

فالربوبية اذن على أدنى مخلوق، انما هي من شأن مَن يُمسك في قبضة تصرّفه جميعَ العناصر، ورعايةُ أدنى حيوان انما هي من شأن مَن لا يعجزه تربية جميع الحيوانات والنباتات والمخلوقات ضمن قبضة ربوبيته!.

هذه الحقيقة واضحة لمن لم يعم بصره!

نعم، ان كل فرد يقول بلسان مماثلته ومشابهته مع سائر الأفراد: ((مَنْ كان مالكاً لجميع نوعي يمكنه ان يكون مالكي، والاّ فلا)). وان كل نوع يقول بلسان انتشاره مع سائر الأنواع، وكذا الارض تقول بلسان ارتباطها بسائر السيارات بشمس واحدة وتساندها مع السموات: ((مَنْ كان مالكاً للكون كله يمكنه ان يكون مالكي، وإلاّ فلا)).

فلو قيل لتفاحةٍ ذات شعور: (أنتِ مصنوعتي أنا) فسترد عليه تلك التفاحة بلسان الحال قائلة:

صه.. لو استطعت ان تكون قادراً على تركيب ما على سطح الأرض من تفاح، بل لو اصبحت متصرفاً فيما على الأرض من نباتات مثمرة من جنسنا، بل متصرفاً في هدايا الرحمن التي يجود بها من خزينة الرحمة. فادَّعِ آنذاك الربوبية علَّي!!.

فتلطم تلك التفاحة بهذا الجواب فمَ ذلك الأحمق لطمة قوية..!.

C اللمعة التاسعة

لقد أشرنا الى آيات وأختام موضوعة على (الجزء والجزئي)، وعلى (الكل والكلّي)، وعلى (العالم الكلّي)، وعلى (الحياة) وعلى (ذوي الحياة) وعلى (الإحياء)، ونشير هنا الى آية واحدةٍ مما لا يحصى من الآيات في (الأنواع).

ان تكاليف أثمار عديدة لشجرة مثمرة تتسهل، ومصاريفها تتذلل، حتى تتساوى مع تكاليف ومصاريف ثمرة واحدة تربّت بايدي الكثرة، ذلك لأن الشجرة الواحدة المثمرة تُدار من مركز واحد، وبتربية واحدة، وبقانون واحد، أي ان الكثرة وتعدد المراكز يستدعيان ان تكون لكل ثمرة مصاريف وتكاليف وأجهزة - كميةً - بقدر ما تحتاجه شجرة كاملة. والفرق في النوعية ليس إلاّ. مثله في هذا مثل عمل عتاد لجندي، وتوفير تجهيزاته العسكرية، اذ يحتاج معامل بقدر المعامل التي يحتاجها الجيش بأكمله، فالعمل إذن اذا انتقل من يد الوحدة الى يد الكثرة فان التكاليف تزداد من حيث الكمية بعدد الأفراد. وهكذا فان ما يشاهد من أثر اليسر والسهولة الظاهرة في النوع انما هو ناشىء من السهولة الفائقة في الوحدة والتوحيد.

الخلاصة:

كما ان التشابه والتوافق في الأعضاء الاساس لأنواع جنسٍ واحد وافراد نوعٍ واحد، يثبتان ان تلك الأنواع والأفراد انما هي مخلوقات خالق واحد، كذلك السهولة المطلقة المشهودة، وانعدام التكاليف، تستلزمان بدرجة الوجوب ان يكون الجميع آثار صانع واحد، لأن وحدة القلم ووحدة السكة والختم تقتضيان هذا، والاّ لساقت الصعوبة التي هي في درجة الامتناع. ذلك الجنس الى الانعدام، وذلك النوع الى العدم.

نحصل من هذا: انه اذا اُسند الخلق الى الحق سبحانه وتعالى فان جميع الأشياء حُكْمها في سهولة الخلق كخلق شئ واحد، وان اُسند الى الاسباب فان كل شئ يكون حُكمه في الخلق صعباً كصعوبة خلق جميع الأشياء. ولما كان الأمر هكذا، فالوفرة الفائقة المشاهدة في العالم، والخصب الظاهر امام العين يظهران كالشمس آية الوحدة. فان لم تكن هذه الفواكه الوفيرة التي نتناولها مُلكاً لواحدٍ أحد، لما أمكننا ان نأكل رمانةً واحدة ولو أعطينا ما في الدنيا كلها ثمناً لصنعها.

C اللمعة العاشرة

كما ان الحياة التي تُظهر تجلي الجمال الرباني هي برهان الأحدية، بل هي نوع من تجلي الوحدة، فالموت الذي يُظهر تجلي الجلال الإلهي هو الآخر برهان الواحدية.

فمثلاً: ان الفقاعات والزبد والحباب المواجهة للشمس، والتي تنساب متألقة على سطح نهرٍ عظيم، والمواد الشفافة المتلمعة على سطح الأرض، شواهدٌ على وجود تلك الشمس، وذلك باراءتها صورة الشمس وعكسها لضوئها. فدوامُ تجلي الشمس ببهاء مع غروب تلك القطرات وزوال لمعان المواد، واستمرار ذلك التجلي دون نقص على القطرات والمواد الشفافة المقبلة مجدداً، لهي شهادة قاطعة على ان تلك الشُميسات المثالية، وتلك الأضواء المنعكسة، وتلك الأنوار المشاهدة التي تنطفئ وتضئ وتتغير وتتبدل متجدّدةً، انما هي تجليات شمسٍ باقية، دائمةٍ، عالية، واحدةٍ لا زوال لها. فتلك القطرات اللماعة اذن بظهورها وبمجيئها تدل على وجود الشمس وعلى دوامها ووحدتها.

وعلى غرار هذا المثال (ولله المثل الأعلى) نجد أن:

هذه الموجودات السيالة اذ تشهد بوجودها وحياتها على وجوب وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى أحديته فانها تشهد بزوالها وموتها أيضاً على وجود الخالق سبحانه وعلى أزليته وسرمديته وأحديته.

نعم، ان تجدد المصنوعات الجميلة وتبدّل المخلوقات اللطيفة، ضمن الغروب والشروق وباختلاف الليل والنهار، وبتحول الشتاء والصيف، وتبدل العصور والدهور، كما انها تشهد على وجود ذي جمال سرمدي رفيع الدرجات دائم التجلي، وعلى بقائه سبحانه ووحدته، فان موت تلك المصنوعات وزوالها - باسبابها الظاهرة - يبيّن تفاهة تلك الاسباب وعجزها، وكونها ستاراً وحجاباً ليس إلاّ.. فيثُبت لنا هذا الوضع - اثباتاً قاطعاً - ان هذه الخِلقة والصَنعة، وهذه النقوش والتجليات انما هي مصنوعاتٌ ومخلوقاتٌ متجددةٌ للخالق جل جلاله الذي جميع أسمائه حُسنى مقدّسة، بل هي نقوشه المتحولة، ومراياه المتحركة وآياته المتعاقبة، وأختامه المتبدلة بحكمة.

الخلاصة: ان كتاب الكون الكبير هذا اذ تعلّمنا آياته التكوينية الدالة على وجوده سبحانه وعلى وحدانيته، يشهد كذلك على جميع صفات الكمال والجمال والجلال للذات الجليلة. ويثبت أيضاً كمال ذاته الجليلة المبرأة من كل نقص، والمنزّهة عن كل قصور. ذلك لأن ظهور الكمال في أثرٍ ما، يدل على كمال الفعل الذي هو مصدره، كما هو بديهي، وكمال الفعل هذا يدلّ على كمال الأسم، وكمال الأسم يدل على كمال الصفات، وكمال الصفات يدل على كمال الشأن الذاتي، وكمال الشأن الذاتي يدل على كمال الذات - ذات الشؤون - حَدساً وضرورة وبداهة.

فمثلاً: ان النقوش المتقنة والتزيينات البديعة لقصر كامل رائع، تدل على ما وراءها من كمال الأفعال التامة لبنّاء ماهر خبير.. وان كمال تلك الأفعال واتقانها ينطق بتكامل الأسماء لرتب وعناوين ذلك البنّاء الفاعل.. وتكامل الأسماء والعناوين يُفصح عن تكامل صفاتٍِ لا تحصى لذلك الصانع من جهة صنعته وتكامل تلك الصفات وابداع الصنعة يشهدان على تكامل قابليات ذلك الصانع وإستعداداته الذاتية المسماة بالشؤون. وتكامل تلك الشؤون والقابليات الذاتية تدل على تكامل ماهية ذات الصانع.

وهكذا الأمر في الصنعة المبدعة المبرّأة من النقص والفطور في الآثار المشهودة في العالم، وفي هذه الموجودات المنتظمة في الكون، التي لفتت اليها الأنظار الآية الكريمة: ] هَل تَرى مِن فُطُور[ (الملك:3)، فهي تدل بالمشاهدة على كمال الأفعال لمؤثرٍ ذي قدرة مطلقة، وكمال الأفعال ذاك يدل بالبداهة على كمال أسماء الفاعل ذي الجلال، وذلك الكمال يدل ويشهد بالضرورة على كمالِ صفاتِ مسمّى ذي جمال لتلك الأسماء، وكمال الصفات ذاك يدل ويشهد يقيناً على كمال موصوف ذي كمال، وكمال الشؤون ذاك يدل بحق اليقين على كمال ذاتٍ مقدسة ذات شؤون، دلالةً واضحة بحيث ان ما في الكون من أنواع الكمالات المشاهدة ليس الاّ ظلاً ضعيفاً منطفئاً - ولله المثل الأعلى - بالنسبة لآيات كماله ورموز جلاله واشارات جماله سبحانه وتعالى.

C اللمعة الحادية عشرة الساطعة كالشموس

لقد عُرّف في (الكلمة التاسعة عشرة) بان اعظم آية في كتاب الكون الكبير، واعظم اسمٍ في ذلك القرآن الكبير، وبذرة شجرة الكون، وأنور ثمارها، وشمس قصر هذا العالم، والبدر المنوّر لعالم الاسلام، والدال على سلطان ربوبية الله، والكشّاف الحكيم للغز الكائنات، هو سيدنا محمد الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي ضم الأنبياء جميعاً تحت جناح الرسالة، وحمى العالم الاسلامي تحت جناح الاسلام، فحلّق بهما في طبقات الحقيقة متقدماً موكبَ جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصديقين، وجميع الأصفياء والمحققين مبيّناً الوحدانية واضحة جلية بكل ما أوتي من قوة، فاتحاً طريقاً سوياً الى عرش الأحدية، دالاً على طريق الايمان بالله، مثبتاً الوحدانية الحقة.. فأنّى لوهمٍ أو شبهةٍ أن يكون لهما الجرأة ليسدا أو يحجبا ذلك الطريق السوي؟

ولما كنّا قد بيّنا إجمالاً في (الكلمة التاسعة عشرة) و (المكتوب التاسع عشر) ذلك البرهان القاطع – الذي هو الماء الباعث للحياة ـ بأربع عشرة رشحة، وتسع عشرة اشارة، مع بيان أنواع معجزاته e ، لذا نكتفي بهذه الاشارة هنا، ونختمها بالصلاة والسلام على ذلك البرهان القاطع للوحدانية، صلاةً وسلاماً تشيران الى تلك الأسس التي تزكّيه وتشهد على صدقه:

اللّهم صلّ على مَن دلّ على وجوب وجودك ووحدانيتك، وشَهِد على جلالك وجمالك وكمالك.. الشاهدُ الصادق المصدَّق والبرهان الناطق المحقق.. سيد الأنبياء والمرسلين، الحاملُ سرَّ اجماعهم وتصديقهم ومعجزاتهم.. وإمامُ الأولياء والصديقين الحاوي سرّ اتفاقهم وتحقيقهم وكراماتهم، ذو المعجزات الباهرة والخوارق الظاهرة والدلائل القاطعة المحققة المصدّقة له.. ذو الخصال الغالية في ذاته، والأخلاق العالية في وظيفته، والسجايا السامية في شريعته المكملة المنزّهة عن الخلاف، مهبط الوحي الرباني باجماع المنزِل والمنزَل والمنزّل عليه.. سيّار عالم الغيب والملكوت.. مشاهد الأرواح ومصاحب الملائكة.. انموذج كمال الكائنات شخصاً ونوعاً وجنساً.. أنور ثمرات شجرة الخلقة، سراج الحق برهان الحقيقة، تمثال الرحمة، مثال المحبة، كشاف طلسم الكائنات، دلاّل سلطنة الربوبية، المرمِز بعلوية شخصيته المعنوية الى أنه نصبَ عين فاطر العالم في خلق الكائنات.. ذو الشريعة التي هي بوسعة دساتيرها وقوتها تشير الى أنها نظام ناظم الكون ووضع خالق الكائنات.

نعم، ان ناظم الكائنات بهذا النظام الأتم الأكمل هو ناظم هذا الدين بهذا النظام الأحسن الأجمل، سيّدنا نحن معاشر بني آدم ومهدينا الى الايمان نحن معاشر المؤمنين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه افـضل الصلوات واتمّ التسليمات ما دامت الأرض والسماوات فان ذلك الشاهد الصادق المصدّق يشهد على رؤوس الاشهاد منادياً، ومعلماً لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار، نداءً علوياً بجميع قوته وبغاية جدّيته وبنهاية وثوقه وبقوة اطمئنانه وبكمال إيمانه:

((أشهد ان لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له)).

C اللمعة الثانية عشرة الساطعة كالشموس

ان هذه اللمعة الثانية عشرة من هذه الكلمة الثانية والعشرين لهي بحر الحقائق ويا له من بحر عظيم بحيث ان الكلمات الاثنتين والعشرين السابقة لا تكون الاّ مجرد اثنتين وعشرين قطرة منه. وهي منبع الأنوار ويا له من منبع عظيم بحيث ان تلك الكلمات الاثنتين والعشرين ليست سوى اثنتين وعشرين لمعة من تلك الشمس.

نعم ان كل كلمة من تلك الكلمات ((الاثنتين والعشرين)) السابقة ما هي الاّ لمعة واحدة لنجمِ آيةٍ واحدة تسطع في سماء القرآن الكريم. وما هي الاّ قطرة واحدة من نهر آية تجري في بحر الفرقان الكريم، وما هي الاّ لؤلؤة واحدة من صندوق جواهر آيةٍ واحدة من كتاب الله الذي هو الكنز الأعظم، لذا ما كانت الرشحة الرابعة عشرة من الكلمة التاسعة عشرة الاّ نبذة من تعريف ذلك الكلام الإلهي العظيم، كلام الله الذي نزل من الاسم الأعظم.. من العرش الاعظم.. من التجلّي الأعظم للربوبية العظمى، في سعة مطلقة، وسموّ مطلق، يربط الأزل بالأبد، والفرش بالعرش، والذي يقول بكل قوته ويردد بكل قطعية آياته: ((لا إله إلاّ هو)) مشهداً عليه الكون قاطبة.

حقاً ان العالم كله ينطق معاً ((لا إله الاّ هو)).

فاذا نظرتَ الى ذلك القرآن الكريم ببصيرة قلب سليم، ترى ان جهاته الست ساطعة نيّرة، وشفافة رائقة، بحيث لا يمكن لظلمةٍ ولا لضلالة ولا لشبهة ولا لحيلة أيّاً كانت ان ترى لها شقاً وفرجة للدخول في رحابه المقدس قط، حيث ان عليه: شارة الاعجاز، تحته: البرهان والدليل، خلفه (نقطة استناده): الوحي الرباني المحض، أمامه: سعادة الدارين، يمينه: تصديق العقل باستنطاقه، شماله: تثبيت تسليم الوجدان باستشهاده. داخله: هداية رحمانية خالصة بالبداهة، فوقه: أنوار إيمانية خالصة بالمشاهدة. ثماره: الأصفياء والمحققون والأولياء والصديقون المتحلّون بكمالات الانسانية بعين اليقين.

فاذا ألصقت أذنك الى صدر لسان الغيب مصغياً فانك ستسمع من أعمق الأعماق صدىً سماوياً في غاية الأيناس والامتاع، وفي منتهى الجدية والسموّ المجهّز بالبرهان، يردّد: (لا اِله الاّ هو) ويكررها بقطعية جازمة ويفيض عليك من العلم اليقين بدرجة عين اليقين بما يقوله من حق اليقين.

زبدة الكلام: ان الرسول الكريم e ، والفرقان الحكيم الذي كل منهما نور باهر، أظهرا حقيقة واحدة؛ هي حقيقة التوحيد.

فأحدهما: لسان عالم الشهادة، أشار الى تلك الحقيقة بأصابع الاسلام والرسالة وبيّنها بجلاء، بكل ما أوتي من قوة من خلال ألف من معجزاته وبتصديق جميع الأنبياء والأصفياء.

والآخر: هو بمثابة لسان عالم الغيب أظهر الحقيقة نفسها وأشار اليها بأصابع الحق والهداية، وعرضها بكل جدّ واصالة، من خلال أربعين وجهاً من وجوه الاعجاز، وتصديق من قبل جميع الآيات التكوينية للكون.. ألا تكون تلك الحقيقة أبهر من الشمس وأسطع منها، وأوضح من النهار وأظهر منه؟!!.

أيها الانسان الحقير المتمرّد السادر في الضلالة(1) كيف تتمكن ان تضارع هذه الشموس بما في رأسك من بصيص خافت هزيل؟ وكيف يمكنك الاستغناء عن تلك الشموس، وتسعى الى اطفائها بنفخ الأفواه؟ تباً لعقلك الجاحد، كيف تجحد ما قاله لسان الغيب ولسان الشهادة من كلام باسم رب العالمين ومالك الكون وتنكر ما دعا اليه من دعوة.

أيها الشقي الأعجز من الذباب والأحقر منه، مَن أنت حتى تورط نفسك في تكذيب مالك الكون ذي الجلال والاكرام؟

الخاتمة

أيها الصديق يا ذا العقل المنوّر والقلب المتيقظ! ان كنت قد فهمت هذه (الكلمة الثانية والعشرين) من بدايتها، فخذ بيدك الاثنتي عشرة لمعة دفعة واحدة، واظفر بها سراجاً للحقيقة، بقوة آلافٍ من المصابيح، واعتصم بالآيات القرآنية الممتدة من العرش الأعظم، وامتطِ براق التوفيق واعرج في سماوات الحقائق واصعد الى عرش معرفة الله سبحانه وقل:

أشهد ان لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك

وأعلن في المسجد الكبير للعالم على رؤوس موجودات الكون الوحدانية قائلاً:

لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربَّنا لا تُؤاخذنا إن نَسينا او اخطأنا ربَّنا ولا تحمِل علينا إصراً كما حَمَلته على الذين من قَبلنا رَبَّنا ولا تُحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين[

] ربَّنا لا تُزغْ قلوبَنا بعد إذ هَدَيْتَنا وَهَبْ لنا مِن لَدُنكَ رحمةً إنك انتَ الوهّاب[

] ربّنا انك جامعُ الناس ليومٍ لا ريب فيه ان الله لا يُخلف الميعاد[

اللّهم صل على من أرسلتَه رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه اجمعين

وارحمنا وارحم أمته برحمتك يا أرحم الراحمين

آمين

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 02-02-2011
  #30
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الثالثة والعشرون

وهي مبحثان

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ

] لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْويمٍ ^ ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ ^ إلاّ الذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غيرُ مَمْنونٍ[ (التين: 4- 6)

المبحث الأول

نبين خمس محاسن من بين آلاف محاسن الايمان وذلك في خمسِ نقاط

C النقطة الاولى:

إن الانسانَ يسمو بنور الايمان الى اعلى عليين فيكتسب بذلك قيمةً تجعلُه لائقاً بالجنة، بينما يتردّى بظلمةِ الكفر إلى اسفل سافلين فيكون في وضعٍ يؤهّلُه لنار جهنم، ذلك لأنّ الايمانَ يربطُ الانسانَ بصانعهِ الجليل، ويربطه بوثاق شديد ونسبةٍ اليه، فالايمانُ انما هو إنتسابٌ؛ لذا يكتسب الانسانُ بالايمان قيمة سامية من حيث تجلِّي الصنعةِ الإلهية فيه، وظهورِ آيات نقوشِ الأسماء الربانية على صفحةِ وجوده. أما الكفرُ فيقطع تلك النسبةَ وذلك الانتسابَ، وتغشى ظلمته الصنعةَ الربانية وتطمِس على معالمها، فَتنقُص قيمةَ الانسانِ حيث تنحصر في مادّته فحسب؛ وقيمةُ المادة لا يُعتدّ بها فهي في حكم المعدوم، لكونها فانية، زائلة، وحياتُها حياةٌ حيوانيةٌ مؤقتة.

وها نحن أولاء نبيّنُ هذا السرَّ بمثال توضيحي:

أن قيمةَ المادة تختلف عن قيمة الصنعة ومدى الاجادة فيما يصنعه الانسانُ، فنرى أحياناً القيمتين متساويتين، وقد تكون المادةُ اكثرَ قيمةً من الصنعة نفسِها، وقد يحدث ان تحتوي مادة حديد على قيمة فنيةٍ وجمالية عاليةٍ جداً، ويحدث أن تحوز صنعةٌ نادرة نفيسة جداً قيمةَ ملايين الليرات رغم كونها من مادة بسيطة جداً. فاذا عُرضَت مثل هذه التحفة النادرة في سوق الصنّاعين والحرفيين الـمُجيدين وعرفوا صانعها الباهر الماهر الشهير فانها تحوز سعر مَليون ليرة، أما إذا اُخذت التحفةُ نفسُها الى سوق الحدادين - مثلاً - فقد لا يتقدم لشرائها أحدٌ، وربما لا ينفق أحدٌ في شرائها شيئاً.

وهكذا الانسانُ، فهو الصنعة الخارقة للخالق الصانع سبحانه، وهو أرقى معجزةٍ من معجزات قدرته وألطفُها، حيث خلقه الباري مظهراً لجميع تجليات أسمائه الحسنى، وجعله مداراً لجميع نقوشه البديعة جلّت عظمته، وصيرّه مثالاً مصغراً ونموذجاً للكائنات بأسرها.

فإذا استقر نورُ الايمان في هذا الانسان لبيّن - ذلك النور - جميع ما على الانسان من نقوش حكيمة، بل يستقرئها الآخرين؛ فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعُر بها في نفسه شعوراً كاملاً، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملّونَها، أي كأنه يقول: ((ها أنا ذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقُه. انظروا كيف تتجلى فيّ رحمتُه، وكرمُه)). وبما شابهها من المعاني الواسعة تتجلّى الصنعة الربانية في الانسان.

اذن الايمان - الذي هو عبارة عن الانتساب الى الصانع سبحانه - يقوم باظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الانسان، فتتعين بذلك قيمةُ الانسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعان تلك المرآة الصمدانية. فيتحول هذا الانسان - الذي لا أهمية له - الى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي، وينال شرفاً يؤهله للضيافة الربانية في الجنة.

أما إذا تسلّل الكفر - الذي هو عبارةٌ عن قطع الانتساب الى الله - في الانسان، فعندئذٍ تسقط جميع معاني نقوش الاسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام وتمحى نهائياً، ويتعذر مطالعتها وقراءتها؛ ذلك لانه لا يمكن ان تُفهَم الجهات المعنوية المتوجهة فيه الى الصانع الجليل، بنسيان الصانع سبحانه، بل تنقلب على عقبيها، وتندرس اكثر آيات الصنعة النفيسة الحكيمة واغلب النقوش المعنوية العالية، أما ما يتبقى منـها مـمـا يتـــراءى للعـين فـــسوف يُعزى الى الاسبــاب التـافهــة، الى الطبـيـعة، والمصادفة، فتسقط نهائياً وتزول، حـيث تتحول كل جــوهرةٍ مــن تـلك الجــواهر المتلألئة الى زجاجةٍ سوداء مظلمة، وتقتصر أهميتها آنذاك على المادة الحيوانية وحدها. وكما قلنا ان غاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول.. وهكذا يهدم الكفر الماهية الانسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة الى فحمة خسيسة.

C النقطة الثانية:

كما ان الايمان نور يضئُ الانسانَ وينوِّرُه ويُظهر بارزاً جميعَ المكاتيب الصمدانية المكتوبة عليه ويستقرِئُها، كذلك فهو يُنير الكائنات أيضاً، وينقذ القرون الخالية والآتية من الظلمات الدامسة.

وسنوضح هذا السرّ بمثال؛ استناداً الى أحد اسرار هذه الآية الكريمة:

] الله وليُّ الذين آمَنوا يُخرجُهُم مِن الظُلماتِ الى النّور[ (البقرة: 257)

لقد رأيتُ في واقعةٍ خيالية أن هناك طودين شامخين متقابلين، نُصبَ على قمتيهما جسرٌ عظيم مدهش، وتحته وادٍ عميقٌ سحيق. وأنا واقف على ذلك الجسر، والدنيا يخيّم عليها ظلامٌ كثيف من كل جانب، فلا يكاد يرى منها شئ. فنظرت الى يميني فوجدت مقبرةً ضخمة تحت جنح ظلمات لا نهاية لها، اي هكذا تخيلت، ثم نظرت الى طرفي الأيسر فكأني وجدت أمواجَ ظلماتٍ عاتية تتدافع فيها الدواهي المذهلة والفواجع العظيمة وكأنها تتأهب للانقضاض، ونظرتُ الى أسفل الجسر فتراءت لعيني هوةٌ عميقةٌ لا قرار لها، وقد كنتُ لا أملك سوى مصباحٍ يدوي خافتِ النور أمامَ كل هذا الهدير العـظـيم من الظـلمات. فاستـخدمته، فبـدا لـي وضـعٌ رهيب، اذ رأيت اُسوداً وضواري ووحوشاً وأشباحاً في كل مكان حتى في نهايات وأطراف الجسر، فتمنيتُ أن لم أكن أملكُ هذا المصباحَ الذي كشف لي كلَّ هذه المخلوقات المخيفة؛ إذ إنني أينما وجَّهتُ نـورَ المصباح شهــدتُ المخــاطر المدهـشة نفـسَها، فتحسرتُ في ذات نفسي وتأوّهتُ قائلاً: ((إن هذا المصباحَ مصيبةٌ وبلاءٌ عليّ)). فاستشاط غيظي فالقيت المصباح الى الأرض وتحطَّمَ، وكأن بتحطُّمه قد أصبتُ زرّاً لمصباح كهربائي هائل، فإذا به يُنور الكائـناتِ جمـيعاً فانـقـشــعتْ تلك الظــلماتُ، وانكشفت وزالت نهائياً، وامتلأ كلُّ مكانٍ وكلُّ جــهةٍ بـذلك النور. وبَدَتْ حقيقةُ كلّ شئ ناصعةً واضحة. فوجدتُ أن ذلك الجسر المعلّقَ الرهيبَ ما هو إلاّ شارعٌ يـمرّ من سهلٍ مـنـبـسط. وتبـيّـنتُ أن تلــك المقـبــرةَ الهــائــلةَ التــي رأيتُها على جهة اليمين ليست الاّ مجالسَ ذكرٍ وتهليلٍ وندوة كريمة لطيفة وخِدمة جليلة، وعبادة سامية تحت إمرة رجالٍ نورانيين في جنائن خُضرٍ جميلة تشعُّ بهجةً ونوراً وتبعث في القلب سعادةً وسروراً. أما تلك الأودية السحيقةُ والدواهي المدهشةُ والحوادثُ الغامضةُ التي رأيتُها عن يساري، فلم تكن الاّ جبالاً مشجرّةً خضراء تسرُّ الناظرين، ووراءَها مضيفٌ عظيمٌ ومروجٌ رائعةٌ ومتنزَّهٌ رائع.. نعم، هكذا رأيتُها بخيالي، أما تلك المخلوقاتُ المخيفة والوحوشُ الضارية التي شاهدتُها فلم تكن الاّ حيوانات أليفة أنيسة؛ كالجمل والثور والضأن والماعز، وعندها تلوتُ الآيةَ الكريمة:

] الله وِليُّ الذينَ آمَنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ الى النّورِ[

وبدأتُ أردّد: الحمدلله على نور الايمان.

ثَمَّ أفقتُ من تلك الواقعةِ.

وهكذا، فذاكما الجبلان هما: بدايةُ الحياةِ ومُنتهاها، أي هما عالمُ الأرض وعالمُ البرزخ.. وذلك الجسرُ هو طريقُ الحياة.. والطرفُ الايمنُ هو الماضي من الزمن، والطرفُ الأيسرُ هو المستقبلُ منه . أما المصباحُ اليدوي فهو أنانيةُ الانسان المعتدةُ بنفسها والمتباهيةُ بما لديها من علم، والتي لا تصغي الى الوحي السماوي.. أما تلك الغيلانُ والوحوشُ الكاسرة فهي حوادثُ العالم العجيبة وموجوداته.

فالانسانُ الذي يعتمد على أنانيته وغروره ويقع في شِراكِ ظلماتِ الغفلةِ ويُبتلى بأغلال الضلالة القاتلة، فإنه يشبه حالتي الأُولى في تلك الواقعة الخيالية، حيث يرى الزمنَ الماضي - بنور ذلك المصباح الناقص الذي هو معرفةُ ناقصةُ منحرفة للضلالة كمقبرةٍ عظيمة في ظلمات العدم، ويصوِّرُ الزمن من المستقبلِ موحشاً تَعبثُ فيه الدواهي والخطوب محيلاً إياه الى الصدفةِ العمياء. كما يصوِّرُ جميعَ الحوادث والموجودات - التي كل منها موظفةٌ مسخرةٌ من لدن ربّ رحيم حكيم - كأنها وحوشٌ كاسرةٌٌ وفواتك ضارية. فيحقّ عليه حُكمُ الآية الكريمة:

] والذينَ كَفَروا أوليَاؤهُم الطّاغوتُ يُخرجُونَهُم من النّورِ الى الظُلُمات[ (البقرة: 257)

اما إذا أغاثت الانسانَ الهدايةُ الإلهيةُ، ووجد الايمانُ الى قلبه سبيلاً، وانكسرت فرعونيةُ النفسِ وتحطّمتْ، وأصغى الى كتاب الله، فيكونُ أشبهَ بحالتي الثانيةِ في تلك الواقعةِ الخيالية، فتصطبغُ الكائناتُ بالنهار وتمتلىءُ بالنور الإلهي، وينطق العالمُ برمَّته : ] الله نورُ السمواتِ والأرض[ (النور:35)

فليس الزمنُ الغابرُ اذ ذاك مقبرةً عظمى كما يُتوهم، بل كل عصرٍ من عصوره كما تشهدُه بصيرةُ القلب، زاخرٌ بوظائفَ عبوديةٍ تحت قيادة نبيّ مُرسَلِ، أو طائفةٍ من الأولياء الصالحين، يديرُ تلك الوظيفة السامية وينشرها ويرُسِّخُ اركانَها في الرعية على أتمِّ وجهٍ وأكمل صورة. ومن بعد انتهاء هذه الجماعات الغفيرة من ذوي الأرواح الصافية من اداء وظائفها الحياتية وواجباتها الفطرية تحلّق مُرتَقيةً الى المقامات العالية مُردّدةً: (الله اكبرُ) مخترقةً حجابَ المستقبل. وعندما يلتفتُ الى يساره يتراءى له من بعيد - بمنظار نور الايمان - أن هناك وراءَ انقلاباتٍ برزخيةٍ واُخروية - وهي بضخامة الجبال الشواهق - قصور سعادة الجنان، قد مُدَّت فيها مضايفُ الرحمن مَداً لا أولَ لها ولا آخر. فيتيقن بأَن كلَّ حادثةٍ من حوادث الكون - كالأعاصير والزلازل والطاعون وامثالها - انما هي مُسخرّات موظفاتٌ مأموراتٌ، فيرى أن عواصفَ الربيع والمطر وأمثالَها من الحوادث التي تبدو حزينةً سمجةً، ما هي في الحقيقة والمعنى الا مدارُ الحِكَمِ اللطيفة، حتى إنه يرى الموتَ مقدمةً لحياةٍ أبديةٍ، ويرى القبرَ بابَ سعادةٍ خالدة.. وقسْ على هذا المنوال سائَر الجهاتِ بتطبيق الحقيقةِ على المثال.

C النقطة الثالثة:

كما أن الايمانَ نورٌ وهو قوةٌ ايضاً. فالانسانُ الذي يظفر بالايمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائناتِ ويتخلصَ من ضيق الحوادثِ، مستنداً الى قوةِ ايمانهفَيبحرُ متفرجاً على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام قائلاً: تَوكَّلتُ على الله، ويسلّم أعباءه الثقيلةَ أمانةً الى يدِ القُدرةِ للقدير المطلق، ويقطعُ بذلك سبيلَ الدنيا مطمئنّ البال في سهولةٍ وراحةٍ حتى يصل الى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع ان يرتفعَ طائراً الى الجنة للدخول الى السعادة الأبدية.

أما اِذا ترك الانسانُ التوكل فلا يستطيع التحليقَ والطيرانَ الى الجنة فحسب بل ستجذبه تلك الأثقالُ الى أسفلَ سافلين.

فالايمان اذن يقتضي التوحيدَ، والتوحيدُ يقودُ الى التسليم، والتسليم يُحقق التوكلَ، والتوكلُ يسهّل الطريقَ الى سعادة الدارَين. ولا تظنن أن التوكل هو رفضُ الأسباب وردّها كلياً، وإنما هو عبارةٌ عن العلمِ بأن الأسبابَ هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أما التشبثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدعاء الفعلي. فطلبُ المسَبَّباتِ اذن وترقّب النتائج لا يكون الاّ مِن الحقِّ سبحانه وتعالى، واَنّ المنةَ والحمدَ والثناءَ لا ترجعُ الاّ اِليه وحدَه.

ان مَثلَ المتوكلِ على الله وغيرَ المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل اعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلت على رأسهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ احدهُما ما على كاهِله حالما دخل السفينة وجلسَ عليه يرقُبُه أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له:

((ضع عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟)). فقال:
- ((كلا، اني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فانا على قوةٍ لا أعبأُ بحملي، وسأحتفظ بما أملُكه فوقَ رأسي وعلى ظهري)). فقيل له ثانية:

- ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عوداً منا جميعاً. وبامكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا اكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن انك تفقُد قوتَك رويداً رويداً، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقاً، واذا رآك ربّان السفينة على هذه الحالة فيسظنــُّك مصاباً بَمسٍ من الجنون وفاقداً للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجاً، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلاً: ان هذا خائنٌ يتهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك باظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعفاً - كما يراه أهلُ البصائر - وبغرورِك الذي يحمل عَجزاً، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك اُضحوكةً ومهزلةً. ألا ترى ان الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..! وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ الى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال:

الحمد لله... ليرضَ الله عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية.

فيا أيها الانسان البعيدُ عن التوكل! ارجع الى صوابك وعُد الى رُشدك كهذا الرجل وتوكّل على الله لتتخلص من الحاجة والتسوّل من الكائنات، ولتنجوَ من الإرتعاد والهلع أمام الحادثات، ولتنقذَ نفسَك من الرياء والاستهزاء ومن الشقاء الابدي ومن أغلال مضايقات الدنيا.

C النقطة الرابعة:

إن الايمانَ يجعل الانسانَ انساناً حقاً، بل يجعله سلطاناً؛ لذا كانت وظيفتُه الأساس: (الايمانُ بالله تعالى والدعاء اليه). بينما الكفرُ يجعل الانسانَ حيواناً مفترساً في غاية العجز.

وسنورد هنا دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً من بين آلاف الدلائل على هذه المسألة، وهو: التفاوتُ والفروقُ بين مجئ الحيوان والانسان الى دار الدنيا.

نعم، ان التفاوتَ بين مجئ الحيوان والانسان الى هذه الدنيا يدل على أن اكتمالَ الانسانيةِ وارتقاءها الى الانسانية الحقة إنما هو بالايمان وحدَه، وذلك لأن الحيوانَ حينما يأتي الى الدنيا يأتي اليها كأنه قد إكتملَ في عالمٍ آخرٍ، فيرُسَلُ اليها متكاملاً حسب إستعداده. فيتعلم في ظرف ساعتين أو يومين أو شهرين جميع شرائط حياته وعلاقاته بالكائنات الأخرى وقوانينَ حياته، فتحصلُ لديه مَلَكةٌ؛ فيتعلّم العصفورُ أو النحلةُ - مثلاً - القدرةَ الحياتية والسلوكَ العملي عن طريق الإلهامِ الرباني وهدايتِه سبحانه. ويحصلُ في عشرين يوماً على ما لا يتعلمه الانسانُ الاّ في عشرين سنة. اذن الوظيفةُ الاساس للحيوان ليست التكمّل والإكمتال بالتعلّم، ولا الترقي بكسب العلم والمعرفة، ولا الاستعانة والدعاء باظهار العجز. وانما وظيفتُه الأصلية: العمل حسب استعداده، اي العبودية الفعلية.

أما الانسانُ فعلى العكس من ذلك تماماً، فهو عندما يَقِدم الى الدنيا يقدِمُها وهو محتاجٌ الى تعلّم كل شئ وادراكه؛ اذ هو جاهلٌ بقوانين الحياة كافة جهلاً مطبقاً، حتى إنه قد لا يستوعب شرائطَ حياته خلال عشرين سنة. بل قد يبقى محتاجاً الى التعلم والتفهم مدى عمره. فضلاً عن أنه يُبعث الى الحياة وهو في غاية الضَعف والعَجز حتى إنه لا يتمكن من القيام منتصباً الاّ بعد سنتين من عمره، ولا يكاد يميّز النفَع من الضرّ الا بعد خمس عشرة سنة، ولا يمكنه أن يحقّق لنفسه منافع حياته ومصالحها ولا دفـع الضرر عنها إلاّ بالتعـاون والانخـراط فـي الحيـاة الاجتماعية البشرية.

يتضح من هذا ان وظيفة الانسان الفطرية انما هي التكمل "بالتعلم" أي الترقي عن طريق كسب العلم والمعرفة، والعبودية (بالدعاء). أي أن يدرك في نفسه ويستفسر: (برحمةِ مَنْ وشَفقته اُدارى بهذه الرعاية الحكيمة؟! وبمَكْرَمةِ مَنْ وسخائِه اُربّى هذه التربية المفعمةَ بالشفقة والرحمة؟ وبألطافِ مَنْ بوجُودِه اُغذّى بهذه الصورة الرازقة الرقيقة؟!). فيرى أن وظيفته حقاً هو الدعاءُ والتضرعُ والتوسلُ والرجاءُ بلسان الفقر والعجز الى قاضي الحاجات ليقضي له طلباته وحاجاته التي لا تصل يدُه الى واحدةٍ من الألفِ منها. وهذا يعني ان وظيفته الأساس هي التحليق والارتفاع بجناحَي (العجز والفقر) الى مقام العبودية السامي.

اذن فلقد جئ بهذا الانسان الى هذا العالم لأجل أن يتكامل بالمعرفة والدعاء؛ لأن كل شئ فيه موجَّه الى العلم ومتعلقٌ بالمعرفة حسبَ الماهية والاستعداد. فأساسُ كلِّ العلوم الحقيقية ومعدنها ونورُها وروحها هو (معرفة الله تعالى) كما ان اُسَّ هذا الاساس هو (الايمانُ بالله جل وعلا).

وحيث ان الانسان متعرضٌ لما لا يحصى من أنواع البلايا والمصائب ومهاجمة الاعداء لما يحمل من عجزٍ مطلقٍ. وله مطالبُ كثيرةٌ وحاجاتٌ عديدة مع أنه في فقرٍ مدقع لا نهاية له؛ لذا تكون وظيفتُه الفطريةُ الأساس (الدعاءَ) بعد الايمان، وهو أساسُ العبادة ومخّها. فكما يلجأ الطفلُ العاجز عن تحقيق مرامه أو تنفيذ رغبته بما لا تصل اليه يدُه، الى البكاء والعويل أو يطلب مأمولَه، أي يدعو بلسان عجزه إما قولاً أو فعلاً فيوفَّق الى مقصوده ذاك، كذلك الانسانُ الذي هو ألطفُ أنواع الأحياء وأعجزُها وأفقرُها وهو بمنزلة صبيٍّ ضعيفٍ لطيفٍ، فلابدّ له من أن يأوى الى كنفِ الرحمن الرحيم والانطراحَ بين يديه إما باكياً معبراً عن ضعفه وعجزه، أو داعياً بفقره واحتياجـه، حتـى تُلبّى حاجتُه وتُنفَّذ رغبتُهُ. وعندئذٍ يكون قد أدّى شكرَ تلك الإغاثات والتلبيات والتسخيرات. والاّ فاذا قال بغرورٍ كالطفل الأحمق. ((أنا أتمكن أن اُسخّرَ جميع هذه الأشياء واستحوذَ عليها بافكاري وتدبيري)) وهي التي تفوق ألوف المرات قوتَه وطاقَته! فليس ذلك الاّ كفرانٌ بنَعم الله تعالى، ومعصيةٌ كبيرة تنافي الفطرة الانسانية وتناقضها، وسببٌ لجعل نفسه مستحقّاً لعذابٍ أليمٍ.

C النقطة الخامسة:

كما أن الايمانَ يقتضي (الدعاء) ويتّخذه وسيلةً قاطعةً ووساطةً بين المؤمن وربّه، وكما اَن الفطرةَ الانسانية تتلهف اليه بشدةٍ وشوق، فان الله سبحانه وتعالى ايضاً يدعو الانسانَ الى الأمر نفسه بقوله:

] قُلْ مَا يَعْبَؤا بكُم ربّي لَولا دُعَاؤكُم[ (الفرقان: 77)

وبقوله تعالى: ] اُدْعوني أستَجِبْ لكُم[ (غافر: 60)

ولعلك تقول: ((إننا كثيراً ما ندعو الله فلا يُستجابُ لنا رغم ان الآية عامةٌ تُصرّح بأنّ كل دعاءٍ مستجابٌ)).

الجواب:

ان إستجابةَ الدعاء شئ، وقبولَه شئ آخر. فكلُّ دعاءٍ مستجابٌ، الاّ أن قبولَه وتنفيذَ المطلوب نفسه منوطٌ بحكمة الله سبحانه.

فمثلاً: يستصرخ طفلٌ عليل الطبيبَ قائلاً:

((أيها الطبيب انظر اليّ واكشف عني)).

فيقول الطبيب: ((أمرُك يا صغيري)). فيقول الطفل:

((اعطني هذا الدواء)). فالطبيب حينذاك إمّا انه يُعطيه الدواء نفسَه، أو يعطيه دواءً أكثر نفعاً وأفضل له، أو يمنع عنه العلاجَ نهائياً. وذلك حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ.

وكذلك الحق تبارك وتعالى (وله المثل الاعلى) فلأنه حكيمٌ مطلقٌ ورقيبٌ حسيب في كل آن، فهو سبحانه يستجيب دعاءَ العبد، وباستجابته يُزيل وحشَته القاتمةَ وغربته الرهيبة، مُبدلاً إياها أملاً واُنساً وإطمئناناً. وهو سبحانه إما أنه يَقبل مَطلبَ العبد ويستجيب لدعائه نفسه مباشرة، أو يمنحه أفضل منه، أو يردّه، وذلك حسب اقتضاء الحكمة الربانية، لا حسبَ أهواء العبد المتحكمة وأمانيّه الفاسدة.

وكذا، فالدعاء هو ضربٌ من العبودية، وثمار العبادة وفوائدُها أخرويةٌ. أما المقاصدُ الدنيوية فهي ((أوقاتُ)) ذلك النوع من الدعاء والعبادة، وليست غاياتها.

فمثلاً: صلاةُ الاستسقاء نوعٌ من العبادة، وانقطاع المطر هو وقتُ تلك العبادة. فليست تلك العبادةُ وذلك الدعاء لأجل نزولِ المطر. فلو اُدّيَتْ تلك العبادةُ لأجل هذه النية وحدَها اذن لكانت غير حريّة بالقبول، حيث لم تكن خالصةً لوجه الله تعالى..

وكذا وقتُ غروبِ الشمس هو اعلانٌ عن صلاة المغرب، ووقتُ كسوف الشمس وخسوف القمر هو وقتُ صلاةِ الكسوف والخسوف. أي أن الله سبحانه يدعو عبادَه الى نوعٍ من العبادة لمناسبة انكساف آية النهار وانخساف آية الليل اللتين تومئان وتُعلنان عظمتَهُ سبحانه. والاّ فليست هذه العبادة لإنجلاء الشمس والقمر الذي هو معلومٌ عند الفلكي..

فكما ان الأمر في هذا هكذا فكذلك وقتُ انحباس المطر هو وقتُ صلاةِ الاستسقاء، وتهافتُ البلايا وتسلطُ الشرور والأشياء المضرة هو وقتُ بعض الادعية الخاصة، حيث يدرك الانسانُ حينئذٍ عجزَه وفقرَه فيلوذ بالدعاء والتضرع الى باب القدير المطلق. واذا لم يدفع الله سبحانه تلك البلايا والمصائب والشرور مع الدعاء الملحّ، فلا يقالُ: إن الدعاءَ لم يُستجبْ، بل يقال: إن وقت الدعاء لم ينقضِ بعدُ. وإذا ما رفع سبحانه بفضله وكرمه تلك البلايا وكشف الغمة فقد انتهى وقتُ الدعاء اذن وانقضى. وبهذا فالدعاء سرٌ من أسرار العبودية.

والعبودية لابد أن تكون خالصةً لوجه الله، بأن يأوي الانسانُ الى ربَّه بالدعاء مُظهراً عجزَه، مع عدم التدخل في اجراءات ربوبيته، أو الاعتراضِ عليها، وتسليمُ الأمر والتدبير كلّه اليه وحدَه، مع الاعتماد على حكمته من دون إتهامٍ لرحمته ولا القنوطِ منها.

نعم! لقد ثبت بالآيات البيّنات أن الموجودات في وضعِ تسبيح لله تعالى؛ كلٌ بتسبيحٍ خاصٍ، في عبادة خاصة، في سجود خاص، فتتمخض عن هذه الأوضاع العبادية التي لا تعدّ ولا تحصى سبلُ الدعاء المؤدية إلى كنف ربٍّ عظيم.

اما عن طريق لسان الاستعداد والقابلية؛ كدعاء جميع النباتات والحيوانات قاطبة، حيث يبتغي كلُّ واحدٍ منهما من الفيّاض المطلق صورةً معينةً له فيها معانٍ لأسمائه الحسنى، أو عن طريق لسان الحاجة الفطرية كأدعية جميع أنواع الاحياء للحصول على حاجاتها الضـرورية التــي هــي خــارجة عن قدرتهــا، فيطــلب كـلُّ حيٍ من الجواد المطلق؛ بلســان حــاجته الفطرية عناصرَ اســتمــرار وجوده التي هي بمثابة رزقها.

أو عن طريق لسان الاضطرار، كدعاء المضطرّ الذي يتضرع تضرعاً كاملاً الى مولاه المغيب، بل لا يتوجّه الاّ الى ربه الرحيم الذي يلّبي حاجته ويقبل التجاءه.

فهذه الانواع الثلاثة من الدعاء مقبولةٌ إن لم يطرأ عليها ما يجعلها غير مقبولة.

النوع الرابع من الدعاء، هو دعاؤنا المعروف، فهو أيضاً نوعان:

احدهما: دعاءٌ فعلي وحالي.

وثانيهما: دعاء قلبي وقولي.

فمثلاً: الأخذُ بالأسباب هو دعاء فعلي، علماً أن اجتماع الأسباب ليس المرادُ منه ايجاد المسَّبب. وانما هو لإتخاذ وضعٍ ملائمٍ ومُرضٍ لله سبحانه لِطَلَب المسَّبب منه بلسان الحال. حتى إن الحراثةَ بمنزلةِ طَرْقِ بابِ خزينةِ الرحمةِ الإلهية. ونظراً لكون هذا النوع من الدعاء الفعلي موجّهٌ نحو اسم (الجواد) المطلق والى عنوانه فهو مقبولٌ لا يُردُّ في أكثر الأحيان.

أما القسم الثاني: فهو الدعاءُ باللسان والقلب. أي طلبُ الحصولِ على المطالب غير القابلة للتحقيق والحاجات التي لا تصلُ اليها اليدُ. فأهمُّ جهةٍ لهذا الدعاء وألطفُ غاياته وألذُّ ثمراته هو أن الداعي يدرك ان هناك مَن يسمع خواطر قلبه، وتصل يدُه الى كل شئ، ومَن هو القادرُ على تلبية جميع رغباته وآمالِه، ومَن يرحم عجزه ويُواسي فقرَه.

فيا أيها الانسان العاجز الفقير! اياك ان تتخلّى عن مفتاح خزينةِ رحمة واسعة ومصدر قوة متينة، ألا وهو الدعاءُ. فتشبَّث به لترتقيَ الى اعلى عليي الانسانية، واجعل دعاءَ الكائنات جزءاً من دعائك. ومن نفسك عبداً كلياً ووكيلاً عاماً بقولك ] إياكَ نَسْتَعينُ[ وكن أحسنَ تقويمٍ لهذا الكون.

















المبحث الثاني

(وهو عبارة عن خمسِ نكات تدورحول سعادة الانسان وشقاوته)

ان الانسانَ نظراً لكونه مخلوقاً في أحسنِ تقويمٍ وموهوباً بأتمّ استعدادٍ جامع، فانه يتمكن من أن يدخل في ميدان الامتحان هذا الذي اُبتلي به ضمن مقاماتٍ ومراتبَ ودرجاتٍ ودركات مصفوفة ابتداءً من سجين ((أسفل سافلين)) الى رياض ((أعلى عليين)) فيسمو أو يتردى، ويرقى أو يهوي ضمن درجاتٍ من الثرى الى العرش الأعلى، من الذرة الى المجرّة، اذ قد فُسِحَ المجالُ أمامَه للسلوك في نجدين لا نهاية لهما للصعود والهبوط. وهكذا اُرسل هذا الانسانُ معجزةَ قدرةٍ، ونتيجةَ خلقةٍ، وأعجوبةَ صنعةٍ.

وسنبين هنا اسرار هذا الترقي والعروج الرائع، أو التدنّي والسقوط المرعب في ((خمسِ نكات)).

C النكتة الأولى

ان الانسانَ محتاجٌ الى اكثر انواع الكائنات وهو ذو علاقة صميمية معها. فلقد انتشرت حاجاتُه في كل طرف من العالم، وامتدت رغباتُه وآمالُه الى حيث الأبد، فمثلـما يطلب أقحـوانةً، يطلب أيضاً ربيعاً زاهياً فسيحاً، ومثلما يرغب في مَرجٍ مبهج يرغب أيضاً في الجنة الأبدية، ومثلما يتلهّف لرؤية محبوبٍ له يشتاق ايضاً ويتوق الى رؤية الجميل ذي الجلال في الجنة، ومثلما أنه محتاجٌ الى فتح باب غرفة لرؤية صديق حميم قابعٍ فيها، فهو محتاجٌ أيضاً الى زيارة عالمِ البرزخ الذي يقبعُ فيه تسـع وتسعون بالمائة من أحبابه وأقرانه. كما هـو محتاج الى اللواذ بباب القدير المطـلـق الـذي سيغـلق بابَ الكـون الأوسـع ويفتـح بابَ الآخـرة الزاخـرة والمحــشـورة بالعجـائب، والذي سيرفع الدنيا ليضـع مكانَها الآخرةَ انقاذاً لهذا الانسان المسكينِ من ألمِ الفراق الأبدي.

لذا فلا معبود لهذا الانسان وهذا وضعُه، الاّ مَن بيده مقاليدُ الأمور كلها، ومَن عنده خزائنُ كل شئ. وهو الرقيبُ على كل شئ، وحاضرٌ في كل مكان، ومنزّهٌ من كل مكان، ومبرّأٌ من العجز، ومقدَّسٌ من القصور، ومتـعـالٍ عن النقـص، وهو القادر ذو الجلال، وهو الرحيم ذو الجمال، وهـو الحكيـــم ذو الكــمــال. ذلك لأنه لايستطيع أحدٌ تلبـية حاجات انــسانٍ بآمــالٍ ومطــامــحَ غــير محــدودة الاّ مَن له قـُـدرة لا نهاية لها وعلم محيط شامل لا حدود له إذ لا يستحق العبادة الاّ هو.

فيا أيها الانسان! اذا آمنتَ بالله وحدَه وأصبحتَ عبداً له وحدَه، فُزتَ بموقعٍ مرموقٍ فوق جميع المخلوقات. أما اذا استنكفتَ من العبودية وتجاهلتَها فسوف تكون عبداً ذليلاً أمام المخلوقات العاجزة، واذا ما تباهيتَ بقدرتك وأنانيتك، وتخلّيتَ عن الدعاء والتوكل، وتكبرّتَ وزِغتَ عن طريق الحق والصواب، فستكون أضعفَ من النملة والنحلة من جهة الخير والايجاد، بل أضعف من الذبابة والعنكبوت. وستكون أثقلَ من الجبل وأضرّ من الطاعون من جهة الشر والتخريب.

نعم، ايها الانسانُ! اِنّ فيك جهتين:

الاولى: جهةُ الايجاد والوجودِ والخير والايجابية والفعل.

والاخرى: جهةُ التخريب والعدم والشر والسلبية والانفعال.

فعلى اعتبار الجهة الاولى (جهة الايجاد) فانك أقلُّ شأناً من النحلة والعصفور وأضعفُ من الذبابة والعنكبوت. أما على اعتبار الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك ان تتجاوز الأرضَ والجبال والسموات، وبوسعِكَ ان تحمل على عاتقك ما أشفقن منه فتكسبَ دائرةً أوسعَ ومجالاً أفسح؛ لأنك عندما تقوم بالخير والايجاد فانك تعمل على سعةِ طاقتك وبقدر جهدك وبمدى قوتك، أما اذا قمتَ بالإساءةِ والتخريب، فإن اساءتكَ تتجاوز وتستشري، وان تخريبَك يعم وينتشر.

فمثلاً: الكفرُ إساءةٌ وتخريبٌ وتكذيبٌ، ولكن هذه السيئةَ الواحدة تُفضي الى تحقير جميع الكائنات وازدرائها واستهجانها، وتتضمن أيضاً تزييف جميع الاسماء الإلهية الحسنى وإنكارها. وتتمخّض كذلك عن إهانة الانسانية وترذيلها؛ ذلك لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً رفيعاً، ووظيفةً ذات مغزى، حيث انها مكاتيب ربانية، ومرايا سبحانية، وموظفات مأمورات إلهية. فالكفر فضـلاً عن إسقاطهِ تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنزلة التسخير ومهمة العبودية، فانه كذلك يُرديها الى درك العَبَث والمصادفة ولا يرى لها قيمةً ووزناً بما يعتريها من زوالٍ وفراق يبدّلان ويفسّخان بتخريبهما وأضرارهما الموجودات الى مواد فــانيـة تافهة عـقيــمة لا أهمية لها ولا جدوى منها. وهو في الوقت نفسه يُنكر الأسماء الإلهية ويتجاهلها، تلك الاسماء التي تتراءى نقــوشُها وتجــليـــاتُها وجـمالاتُها في مــرايا جميــع الكائــنات، حتى إن ما يُطلق عليه: (الانسانية) التي هي قصيدة حكيمةٌٍ منظومةٌ تعلن اعلاناً لطيفاً جميع تجليات الأسماء الإلهية القدسية، وهي معجزةُ قدرةٍ باهرة جامعةٍ كالنواة لأجهزة شجرةٍ دائمةٍ باقية. هذه (الانسانية) يقذفُها الكفرُ من صورتها الحيّة التي تفوّقت بها على الارض والجبال والسماوات بما أخذتْ على عاتقها من الأمانة الكبري وفُضّلت على الملائكة وترجّحت عليها حتى أصبحت صاحبةَ مرتبةِ خلافة الأرض - يقذفها من هذه القمة السامية العالية الى دَركات هي أذلُّ وأدنى من أي مخلوقٍ ذليل فانٍ عاجزٍ ضعيف فقير، بل يُرديها الى دركة أتفهِ الصور القبيحة الزائلة سريعاً.

وخلاصة القول: ان النفس الأمارة بإمكانها اقتراف جنايةٍ لا نهاية لها في جهة الشر والتخريب، أما في الخير والايجاد فان طاقتها محدودة وجزئية؛ اذ الانسان يستطيع هدمَ بيتٍ في يوم واحد الاّ أنه لا يستطيع أن يشيّده في مائة يوم. أما إذا تخلى الانسانُ عن الانانية، وطلب الخير والوجود من التوفيق الإلهي وأرجَعَ الامرَ اليه، وابتعد عن الشر والتخريب، وترك اتباعَ هوى النفس. فاكتمل عبداً لله تعالى تائباً مستغفراً، ذاكراً له سبحانه. فسيكون مَظهراً للآية الكريمة: ] يُبدّلُ الله سَيّئاتِهم حَسَنات[ (الفرقان: 70) فتنقلب القابلية العظمى عندَه للشر الى قابلية عظمى للخير. ويكتسب قيمة (أحسن تقويم) فيحلق عالياً الى أعلى عليين.

أيها الانسان الغافل! انظر الى فضل الحق تبارك وتعالى وكرمِه، ففي الوقت الذي تقتضي العدالةُ أن يكتب السيئةَ مائة سيئةٍ ويكتب الحسنةَ حسنةً واحدة او لا يكتبها حيث أن خيرها ومصلحتها يعودان على الانسان فهو جلّت قدرته يكتب السيئة سيئةً واحدةً والحسنةَ يزنها بَعشر أمثالها أو بسبعين أو بسبعمائة أو بسبعة آلاف أمثالها.

فأفهم من هذه النكتة ان الدخول في جهنم هو جزاء عمل وهو عين العدالة، وأما دخول الجنة فهو فضل إلهي محض ومَكرمةٌ خالصة، ومرحمة بحتة.

C النكتة الثانية

في الانسان وجهان:

الاول: جهة الانانية المقصورة على الحياة الدنيا.

والآخر: جهةُ العبودية الممتدة الى الحياة الأبدية.

فهو على اعتبار الوجه الاول مخلوقٌ مسكينٌ. إذ رأسماله من الارادة الجزئية جزءٌ ضيئل كالشعرة، وله من الاقتدار كسبٌ ضعيف، وله من الحياة شعلةٌ لا تلبث أن تنطفئ، وله من العمر فترةٌ عابرة خاطفة، وله من الوجود جسمٌ يبلى بسرعة. ومع هذا فالانسان فردٌ لطيف رقيق ضعيف من بين الأفراد غير المحدودة والأنواع غير المعدودة المتراصة في طبقات الكائنات.

أما على اعتبار الوجه الثاني وخاصة من حيث العجز والضعف المتوجهين الى العبودية، فهو يتمتع بفسحة واسعة، وأهمية عظيمة جداً؛ لأن الفاطرَ الحكيم قد أودع في ماهيته المعنوية عجزاً عظيماً لا نهاية له، وفقراً جسيماً لا حد له، وذلك ليكون مرآةً واسعة جامعة جداً للتجليات غير المحدودة (للقدير الرحيم) الذي لا نهاية لقدرته ورحمته و (للغني الكريم) الذي لا منتهى لغناه وكرمه.

نعم، ان الانسان يشبه البذرة، فلقد وُهبت للبذرة اجهزةٌ معنوية من لدن (القُدرة) واُدرجت فيها خطةٌ دقيقة ومهمة جداً من لدن (القَدَر) لتتمكن من العمل داخل التربة، ومن النمو والترعرعِ والانتقالِ من ذلك العالم المظلم الضيق الى عالم الهواء الطليق والدنيا الفسيحة، وأخيراً التوسل والتضرع لخالقها بلسان الاستعداد والقابليات لكي تصير شجرةً، والوصولِ الى الكمال اللائق بها. فاذا قامت هذه البذرةُ بجلب المواد المضرة بها، وصرفِ أجهزتها المعنوية التي وُهبت لها الى تلك المواد التي لا تعنيها بشئ وذلك لسوء مزاجها وفساد ذوقها، فلاشك ان العاقبةَ تكون وخيمةً جداً؛ اذ لا تلبث أن تتعفن دون فائدة، وتبلى في ذلك المكان الضيق. أما اذا اخضَعتْ أجهزتَها المعنوية لتتمثل أمر ] فالق الحبِّ والنَّوى[ (الانعام:95) التكويني واحسنتْ استعمالَها، فانها ستنبثق من عالمها الضيق لتكتملَ شجرةً مثمرةً باسقة، ولتأخذ حقيقتُها الجزئية، وروحُها المعنوية الصغيرة صورتَها الحقيقية الكلية الكبيرة.

فكما ان البذرة هكذا فالانسانُ كذلك. فقد اُودعتْ في ماهيته اجهزةٌ مهمةٌ من لدن القدرة الإلهية، ومُنحَ برامجَ دقيقة وثمينة من لدن القَدَر الإلهي. فاذا أخطأ هذا الانسانُ التقديرَ والاختيار، وصَرَف اجهزتَه المعنوية تحت ثرى الحياة الدنيا وفي عالم الارض الضيق المحدود، الى هوى النفس، فسوف يتعفّنُ ويتفسّخ كتلك البذرة المتعفنة، لأجل لذةٍ جزئيةٍ ضمن عمرٍ قصيرٍ وفي مكانٍ محصور وفي وضع متأزم مؤلم، وستتحمل روحُه المسكينة تبعات المسؤولية المعنوية فيرحلُ من الدنيا خائباً خاسراً.

أما اذا ربّى الانسانُ بذرةَ استعداده وسقاها بماءِ الأسلام، وغذّاها بضياءِ الايمان تحت تراب العبودية موجهاً أجهزتَها المعنوية نحو غاياتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية. فلابد أنها ستنشقّ عن أوراقٍ وبراعم واغصانٍ تمتدّ فروعُها وتتفتّح أزاهيرُها في عالم البرزخ وتولّد في عالم الآخرة وفي الجنة نِعَماً وكمالاتٍ لا حد لها. فيصبح الانسان بذرةً قيّمةً حاوية على أجهزة جامعة لحقيقة دائمة ولشجرة باقية، ويغدو آلةً نفيسة ذات رونق وجمال، وثمرةً مباركة منورة لشجرة الكون.

نعم ان السموَّ والرقي الحقيقي انما هو بتوجيه القلب، والسرِ، والروح، والعقل، وحتى الخيال وسائر القوى الممنوحة للانسان، الى الحياة الأبدية الباقية، وأشتغال كلٍّ منها بما يخصّها ويناسبها من وظائف العبودية. أما ما يتوهمه أهلُ الضلالة من الانغماس في تفاهات الحياة والتلذّذِ بملذاتها الهابطة والإنكباب على جزئيات لذاتها الفانية دون الالتفات الى جمال الكليات ولذائذها الباقية الخالدة مسخّرين القلب والعقل وسائر اللطائف الانسانية تحت إمرةِ النفس الأمارة بالسوء وتسييرها جميعاً لخدمتها، فان هذا لا يعني رقياً قط، بل هو سقوطٌ وهبوط وانحطاط.

ولقد رأيت هذه الحقيقة في واقعة خيالية سأوضحها بهذا المثال:

دخلتُ في مدينة عظيمة، وجدت فيها قصوراً فخمة ودُوراً ضخمة، كانت تُقام أمام القصور والدور حفلات ومهرجانات وأفراح تجلب الانظار كأنها مسارحُ وملاهٍ، فلها جاذبية وبهرجة. ثم امعنت النظر فاذا صاحبُ قصر واقفٌ أمام الباب وهو يداعب كلبه ويلاعبه. والنساء يرقصن مع الشباب الغرباء، وكانت الفتيات اليافعات ينظّمن العابَ الأطفال. وبوّاب القصر قد اتخذ طورَ المشرف يقودُ هذا الحشد. فأدركت ان هذا القصر خالٍ من أهله وأنه قد عُطلّت فيه الوظائف والواجبات. فهؤلاء السارحون من ذويه السادرون في غيّهم قد سقطت أخلاقُهم وماتت ضمائرهم وفرغت عقولُهم وقلوبُهم فأصبحوا كالبهــائم يهـيمون علـى وجوههم ويلعبون أمام القصر. ثم مشــيتُ قــلــيلاً فـفاجأني قصرٌ آخر. رأيت كلباً نائماً امام بابه. ومعه بوّاب شهمٌ وقور هادئ، وليس امام القصر ما يثير الانتباه، فتعجبت من هذا الهدوء والســكـيــنــة واستغـربت! واستفـــسرتُ عن الســـبــب، فــدخلت القصرَ فوجدته عامراً بأهله، فهناك الوظائف المتباينة والواجبات المهمة الدقيقة ينجزها أهلُ القصر، كلٌّ في طابقه المخصص له في جوّ من البهاء والهناء والصفاء بحيث يبعث في الفؤاد الفرحة والبهجة والسعادة. ففي الطابق الأول هناك رجالٌ يقومون بإدارة القصر وتدبير شؤونه، وفي طابقٍ أعلى هناك البناتُ والاولاد يتعلمون ويتدارسون. وفي الطابق الثالث السيداتُ يقمن بأعمال الخياطة والتطريز ونسج الزخارف الملونة والنقوش الجميلة على انواع الملابس، أما الطابق الأخير فهناك صاحبُ القصر يتصل هاتفياً بالملكِ لتأمين الراحةِ والسلامةِ والحياة الحرّة العزيزة المرضية لأهل القصر، كلٌّ يمارس اعماله حسب اختصاصه وينجز وظائفه اللائقة بمكانته الملائمة بكماله ومنزلته. ونظراً لكوني محجوباً عنهم فلم يمنعني أحدٌ من التجوّل في انحاء القصر؛ لذا استطلعت الأمور بحرّية تامة. ثم غادرتُ القصر وتجولت في المدينة فرأيتُ انها منقسمةٌ الى هذين النوعين من القصور والبنايات، فسألت عن سبب ذلك ايضاً فقيل لي: "ان النوع الاول من القصور الخاليةِ من أهلها والمبهرجِ خارجُها والمزينةِ سطوحُها وافنيتُها ما هي الاّ مأوى ائمة الكفر والضلالة. أما النوع الثاني من القصور فهي مساكن أكابر المؤمنين من ذوي الغيرة والشهامة والنخوة". ثم رأيت أن قصراً في زاوية من زوايا المدينة مكتوبٌ عليه اسم (سعيد) فتعجبت، وعندما أمعنت النظر أبصرت كأن صورتي قد تراءت لي، فصرختُ من دهشتي واسترجعت عقلي وافقتُ من خيالي.

واريد أن أفسر بتوفيق الله هذه الواقعة الخيالية:

فتلك المدينة هي الحياة الاجتماعية البشرية ومدنية الحضارة الانسانية، وكل قصر من تلك القصور عبارة عن انسان، أما أهلُ القصر فهم جوارحُ الانسان كالعين والاذن، ولطائفُه كالقلب والسر والروح، ونوازعُه كالهوى والقوة الشهوانية والغضبية. وكلُّ لطيفةٍ من تلك اللطائف معدّةٌ لأداءِ وظيفةِ عبوديةٍ معينة ولها لذائذُها وآلامُها، أما النفس والهوى والقوة الشهوانية والغضبية فهي بحكم البوّاب وبمثابة الكلب الحارس. فإخضاع تلك اللطائف السامية اذن لأوامر النفس والهوى وطمس وظائفها الاصلية لا شك يعتبر سقوطاً وانحطاطاً وليس ترقياً وصعوداً.. وقس أنت سائر الجهات عليها.

C النكتة الثالثة

ان الانسان من جهة الفعل والعمل وعلى اساس السعي المادي حيوانٌ ضعيفٌ ومخلوق عاجز، دائرة تصرفاته وتملكه في هذه الجهة محدودةٌ وضيقةٌ، فهي على مدّ يده القصيرة، حتى ان الحيوانات الأليفة التي أعطي زمامُها بيد الانسان قد تسرّبتْ اليها من ضعف الانسان وعجزِه وكَسَله حصة كبيرة. فاذا ما قيس مثلاً الغنم والبقر الأهلي بالغنم والبقر الوحشي لظَهر فرقٌ هائلٌ وبونٌ شاسعٌ.

الاّ ان الانسان من جهة الانفعال والقبول والدعاء والسؤال ضيفٌ عزيزٌ كريمٌ في دار ضيافة الدنيا، قد استضافه المولى الكريمُ ضيافةً كريمةً حتى فتح له خزائن رحمته الواسعة وسخرّ له خَدَمه ومصنوعاته البديعة غير المحدودة، وهيأ لتنزهه واستجمامه ومنافعه دائرةً عظيمة واسعة جداً، نصفُ قطرها مدُّ البصر بل مدُّ انبساط الخيال.

فإذا استند الانسان الى أنانيته وغروره واتخذ الحياة الدنيا غاية آماله، وكان جهدُه وكدُّه لأجل الحصول على لذاتٍ عاجلةٍ في سعيه وراء معيشته. فسوف يغرق في دائرة ضيقة ويذهب سعيه ادراجَ الرياح، وستشهد عليه يوم الحشر جميعُ الاجهزة والجوارح واللطائف التي اُودعت فيه شاكيةً ضده، ساخطةً ثائرة عليه. أما إذا أدرك انه ضيفٌ عزيز، وتحرك ضمن دائرة مرضاة مَنْ نَزَل عليه ضيفاً وهو الكريمُ ذو الجلال، وصرَفَ رأسمال عمره ضمن الدائرة المشروعة فسوف يكون نشاطه وعمله ضمن دائرة فسيحة رحبة جداً تمتد الى الحياة الأبدية الخالدة، وسيعيش سالماً آمناً مطمئناً، ويتنفس تنفس الصعداء ويستروح، وبإمكانِهِ الصعودُ والرقي الى أعلى عليين. وستشهد له في الآخرة ما منحه الله من الاجهزة والجوارح واللطائف.

نعم، ان الاجهزة التي زُرعت في الانسان ليست لهذه الحياة الدنيا التافهة، وانما اُنعم عليه بها لحياةٍ باقية دائمة، لها شأنها وأيُّ شأن. ذلك لأننا إذا قارنّا بين الانسان والحيوان نرى ان الانسان أغنى من الحيوان بكثير من حيث الأجهزة والآلات، بمائة مرة، ولكنه من حيث لذّتِه وتمتّعه بالحياة الدنيا أفقرُ منه بمائة درجة، لأن الانسان يجد في كل لذةٍ يلتذّ بها ويتذوقها آثارَ آلاف من الآلامِ والمنغّصات. فهناك آلامُ الماضي، وغصصُ الزمن الخالي، ومخاوفُ المستقبل، وأوهامُ الزمان الآتي، وهناك الآلامُ الناتجة من زوال اللذات. كلُّ ذلك يُفسد عليه مزاجَه وأذواقَه ويكدِّر عليه صفوَه ونشوتَه، حيث تترك كلُّ لذةٍ أثراً للألم. بينما الحيوانُ ليس كذلك، فهو يتلذّذُ دون ألمٍ، ويتذوق الاشياء صافيةً دون تكدِّرٍ وتعكر، فلا تعذّبه آلامُ الماضي ولا ترهبهُ مخاوفُ المستقبل، فيعيش مرتاحاً ويغفو هانئاً شاكراً خالقَه،حامداً له.

اذن فالانسان الذي خُلق في (أحسن تقويم) إذا حَصَر فكرَه في الحياة الدنيا وحدَها فسيهبط ويتَّضع ويصبح أقل شأناً بمائة درجة من حيوان كالعصفور وان كان أسمى وأتم من الحيوان من حيث رأسماله بمائة درجة. ولقد وضّحتُ هذه الحقيقة بمَثَلٍ أوردتُه في موضع آخر وسأعيدُه هنا بالمناسبة:

ان رجلاً منح خادَمه عشرَ ليراتٍ ذهبية وأمره أن يفصّل لنفسه بدلةً من أجود أنواع الأقمشة. وأعطى لخادمه الآخر ألفَ ليرة ذهبية الاّ انه أرفق بالمبلغ قائمة صغيرة فيها ما يطلبُه منه، ووضع المبلغَ والقائمةَ في جيب الخادم. وبعثهما الى السوق. اشترى الخادم الأول بدلةً أنيقة كاملة من أفخر الأقمشة البديعة بعشر ليرات. أما الخادمُ الثاني فقد قلّد الخادم الأول وحذا حذوه، ومن حماقته وسخافة عقله لم يراجع القائمة الموجودة لديه، فدفع لصاحب محلٍ كلَّ ما عنده ألفَ ليرة. وطلب منه بدلةً رجاليةً كاملة، ولكن البائع غيرَ المُنصف اختار له بدلةً من أردأ الأنواع، وعندما قفل هذا الخادمُ الشقيُ راجعاً الى سيّده، ووقف بين يديه، عنَّفه سيدُه أشدَّ التعنيف وأنّبه أقسى التأنيب وعذَّبه عذاباً أليماً.

فالذي يملك أدنى شعورٍ وأقلَّ فطنةٍ يدرك مباشرةً بأن الخادم الثاني الذي مُنح ألف ليرة لم يُرسَل الى السوق لشراء بدلة، وانما للأتّجار في تجارة مهمة جداً.

فكذلك الانسان الذي وُهب له هذه الاجهزةُ المعنوية واللطائف الانسانية التي إذا ما قيست كلُّ واحدةٍ منها بما في الحيوان لظهرتْ انها أكثرُ انبساطاً واكثرُ مدى بمائة مرّة. فمثلاً: أين عينُ الانسان التي تميّز جميعَ مراتب الحسن والجمال؟ وأين حاستُه الذوقية التي تميّز بين مختلف المطعومات بلذائذها الخاصة؟ وأين عقلُه الذي ينفذ الى قرارة الحقائق والى أدق تفاصيلها؟ وأين قلبُه المشتاق المتلهّف الى جميع انواع الكمال؟ أين كل هذه الأجهزة وأمثالها مما في الآلات الحيوانية البسيطة التي قد لا تنكشف الاّ لحد مرتبتين اوثلاث!! فيما عدا الاعمال الخاصة المناطة بجهاز خاص في حيوان معين، والذي يؤدي عمله بشكل قد يفضل ما عند الانسان الذي ليس من مهمته مثل هذه الاعمال والوظائف.

والسرُّ في وَفْرَةِ الأجهزة التي مُنحت للانسان وغِناها هو: ان حواسَّ الانسان ومشاعره قد اكتسبت قوةً ونماءً وانكشافاً وانبساطاً اكثر؛ لما يملك من الفكر والعقل، فقد تبايَن كثيراً مدى استقطاب حواسه،نظراً لتباين وكثرة احتياجاته. لذا تنوعت أحاسيُسه وتعددت مشاعرُه.. ولأنه يملك فطرةً جامعةً فقد أصبح محوراً لآمالٍ ورغباتٍ عدة ومداراً للتوجّه الى مقاصدَ شتّى.. ونظراً لكثرة وظائفه الفطرية فقد انفرجت اجهزتُه وتوسّعت.. وبسبب فطرته البديعة المهيأة لشتى انواع العبادة فقد مُنح استعداداً جامعاً لبذور الكمال؛ لذا لا يمكن ان تُمنح له هذه الأجهزة الوفيرة الى هذه الدرجة الكثيفة لتحصيل هذه الحياة الدنيوية المؤقتة الفانية فحسب، بل لابد أن الغايةَ القصوى لهذا الانسان هي أن يفي بوظائفه المتطلعة الى مقاصدَ لا نهاية لها، وأن يعلن عجزَه وفقره بجنب الله تعالى بعبوديته، وان يرى بنظره الواسع تسبيحات الموجودات، فيشهد على ذلك ويطّلع على ماتمدّه الرحمة الإلهية من إنعام وآلاء فيشكر الله عليها، وأن يعاين معجزات القدرة الربانية في هذه المصنوعات فيتفكر فيها ويتأمل وينظر اليها نظر العبرة والاعجاب.

فيا عابدَ الدنيا وعاشقَ الحياة الفانية الغافلَ عن سر (أحسَنِ تقويم)! استمع الى هذه الواقعة الخيالية التي تتمثل فيها حقيقةُ حياةِ الدنيا. تلك الواقعة التمثيلية التي رآها (سعيد القديم) فحوّلته الى (سعيد الجديد) وهي:

رأيتُ نفسي كأني أسافر في طريقٍ طويل، أي اُرسَل الى مكانٍ بعيد، وكان سيدي قد خصّص لي مقدارَ ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كلَّ يومٍ شيئاً، حتى دخلتُ الى فندقٍ فيه ملهى فطفقتُ أبذّر ما أملك - وهي عشرُ ليرات - في ليلةٍ واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والاعجاب. فاصبحتُ وأنا صفر اليدين لم أتجّر بشئ، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج اليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبتْ من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة اذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:

(أنفقَت جميع رأسمالك سدىً، وصرتَ مستحقاً للعقاب، وستذهب الى البلد الذي تريدُه خاويَ اليدين. فان كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. فبإمكــانــك ان تدّخر نصـــف ما تحــصـل علــيه، مما بقي لك من الـلــيرات الخمس عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج اليه في ذلك المكان..) فاستشرتُ نفسي فاذا هي غير راضية بذلك، فقال الرجل:

- ((فادّخر اذن ثُلُثَه)). ولكن وجدتُ نفسي غير راضية بهذا ايضاً. فقال:

- ((فادّخر ربُعَهَ)). فرأيتُ نفسي لا تريد أن تَدَع العادةَ التي اُبتلَيت بها. فأدار الرجلُ رأسه وأدبر في حدّةٍ وغيظٍ ومضى في طريقه. ثم رأيتُ كأن الأمور قد تغيّرت. فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الارض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهابُ يميناً ولا شمالاً. ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفَي القطار أزهارٌ جميلة جذابة وثمارٌ لذيذة متنوعة فمددتُ يدي - كالاغبياء - نحوَها اُحاول قطفَ أزهارها واحصل على ثمراتها، الاّ انها كانت بعيدةَ المنال، الأشواكُ فيها انغرزتْ في يدي بمجرد ملامستها فأدْمَتها وجرحَتها والقطارُ كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيتُ نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار: ((اعطني خمسة قروش لأنتقيَ لك الكميةَ المناسبة التي تريدُها من تلك الأزهار والأثمار، فانك تخسر بجروحك هذه اضعافَ اضعافِ ما تحصل عليه بخمسة قروش فضلاً عن ان هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث أنك تقطفها من غير إذن.)) فاشتدّ عليّ الكربُ في تلك الحالة فنظرت اتطلّع من النافذة الى الامام لأتعرّف نهايةَ النفق، فرأيت أن هناك نوافذَ كثيرةً وثغوراً عدة قد أحلّت محلَّ نهاية النفق وأن مسافري القطار يُقذَفون خارجاً من القطار الى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات اُقيمَ على طرفيه حجرٌ اشبهُ ما يكونُ بشواهدِ القبر، فنظرت اليها بكل دقة وامعان فرأيتُ أنه قد كُتب عليهما بحروفٍ كبيرة اسم ((سعيد)) فصرختُ من فرقي وحيرتي: يا ويلاه!! وآنذاك سمعتُ صوت ذلك الرجل الذي أطال عليّ النصح في باب الملهى وهو يقول:

((هل استرجعتَ عقلك يا بني وأفقتَ من سكرتك؟)) فقلت:

((نعم ولكن بعد فوات الاوان، بعد أن خارتْ قواي ولم يبقَ لي حولٌ ولا قوة)).

فقال:

- ((تُب وتوكّل)) فقلت:

- ((قد فعلت)).

ثم أفقتُ وقد أختفى سعيدٌ القديم ورأيتُ نفسي سعيداً جديداً.

ونرجو من الله أن يجعل هذه الواقعة الخيالية خيراً. وسأفسر قسماً منها وعليك تفسير الباقي وهو:

ان ذلك السفر هو السفرُ الذي يمرُّ من عالَم الأرواح، ومن أطوار عالم الرَّحم، ومن الشباب، ومن الشيخوخة، ومن القبر، ومن البرزخ، الى الحشر والى الصراط والى أبد الآباد.

وتلك الليرات الذهبية البالغة ستين هي العمر البالغ ستين عاماً. وحينما رأيت تلك الواقعة الخيالية كنت في الخامسة والأربعين من العمر حسب ظني، ولم يكن لي سندٌ ولا حجةٌ من أن أعيش الى الستين من العمر، إلاّ أنه أرشدني أحدُ تلاميذ القرآن المخلصين أن اُنفق نصفَ ما بقي من العمر الغالب - وهو خمسة عشر عاماً - في سبيل الآخرة.

وذلك الفندق هو مدينةُ استانبول بالنسبة اليّ.

وذلك القطار هو الزمن، وكلُّ عامٍ بمنزلة عربة منه.. وذلك النفقُ هو الحياة الدنيا.. وتلك الأزهارُ والثمار الشائكة هي اللذات غير المشروعة واللهو المحظور حيث أن الألمَ الناشئ من تصوّر زوالها يُدمي القلبَ ويَجرح النفسَ فيقاسي الانسان من توقّع فراقِها مرارةَ العذاب. وان معنى ما قاله الخادم في القطار: ((اعطني خمسة قروش اعطك من أحسن ما تحتاجه)) هو: ان اللذات والأذواقَ التي يحصل عليها الانسانُ عن طريق السعي الحلال ضمن الدائرة المشروعة كافيةٌ لسعادته وهنائه وراحته فلا يدع مجالاً للدخول في الحرام.. ويمكنك ان تفسّر ما بقي.

C النكتة الرابعة

ان الانسان في هذا الكون أشبَه ما يكون بالطفل الضعيف المحبوب يحمل في ضعفِه قوةً كبيرةً وفي عجزه قدرةً عظيمة؛ لأنه بقوة ذلك الضعفِ وقدرةِ ذلك العجز سُخِّرت له هــذه الموجــوداتُ وانقــادت. فإذا ما أدرك الانســانُ ضعفَه ودعــا ربَّه قولاً وحالاً وطـوراً، وأدرك عجزَه فاستــنجد واســتغاث ربَّه، وادّى الشــكرَ والثناءَ على ذلك التسخير، فسيوفّق الى مطلوبه وستخضع له مقــاصدُه وتتحــقـق مآربُه وتأتي اليه طائعةً منقادةً مع أنه يعجز عن أن ينال بقدرته الذاتية الجزئية المحدودة بل ولا يتسنّى له عُشر معشار ذلك. الاّ انه يحيل خطأً أحياناً ما ناله بدعاء لسان الحال الى قدرته الذاتية. وعلى سبيل المثال: ان القوة الكامنة في ضعف فرخ الدجاج تجعل أمَّه تدفع عنه الأسدَ بما تملك من قوة. وان القوة الكامنة في ضعف شبل الأسد تسخِّر أمَّه المفترسة الضارية لنفسه، بحيث يبقى الأسدُ يتضوَّرُ من الجوع بينما يشبع هو مع صِغَره وضَعفه. وانه لجدير بالملاحظة؛ القوةُ الهائلةُ في الضعف، بل حريٌّ بالمشاهدة والاعجاب: تجلي الرحمة في ذلك الضعف.

وكما ان الطفل المحبوبَ الرقيقَ يحصل بضعفه على شفقة الآخرين، وببكائه على مطالبه، فيَخضع له الأقوياءُ والسلاطين فينال ما لا يمكنه أن ينال واحداً من الألف منه بقوته الضئيلة. فضعفُه وعجزُه اذن هما اللذان يحرّكان ويثيران الشفقة والحماية بحقه حتى إنه يذلّل بسبابته الصغيرة الكبارَ وينقاد اليه الملوكُ والأمراءُ. فلو أنكر ذلك الطفلُ تلك الشفقةَ واتّهم تلك الحمايةَ وقال بحماقة وغرور: ((أنا الذي سخرتُ كل هؤلاء الأقوياء بقوتي وارادتي))! فلاشك انه يستحق أن يقابَلَ باللطمة والصفعة. وكذلك الانسانُ اذا أنكر رحمةَ خالقه وأتهم حكمتَه وقال مثل ما قال قارون جاحداً النعمة. ] إنّما اُوتيتُهُ على عِلمٍ عندي[ (القصص: 78) فلاشك انه يعرِّض نفسَه للعذاب. فهذه المنزلة والسلطنة التي يتمتع بها الانسانُ اذن وهذه الترقيات البشرية والآفاق الحضارية ليست ناشئة من تفّوقه وقوةِ جدالِه وهيمنةِ غلبتِه ولا هو بجالب لها، بل مُنحت للانسان لضَعفه ومُدّت له يدُ المعاونة لعجزه، واُحسنتُ اليه لفقره، واُكرم بها لإحتياجه. وأن سبب تلك السلطنةِ ليس بما يملك من قوةٍ ولا بما يقدِرُ عليه من علمٍ بل هو الشفقةُ الربانيةُ ورأفتُها والرحمةُ الإلهية وحكمتُها التي سَخَّرت له الأشياءَ وسلَّمتْها اليه. نعم ان الانسان المغلوبَ أمام عقرب بلا عيون وحية بلا ارجل ليست قدرتُه هي التي ألبَستْه الحريرَ من دودة صغيرة واطعمته العسلَ من حشرة سامة، وانما ذلك ثمرةُ ضعفه الناتجة من التسخير الرباني والإكرام الرحماني.

فيا أيها الانسان! ما دامت الحقيقة هكذا فدع عنك الغرورَ والأنانية، وأعلن أمامَ عتبة باب الألوهية عجزَك وضعفَك، اعلنهما بلسان الإستمداد، وأفصِح عن فقرك وحاجتك بلسان التضرع والدعاء، وأظهِر بانك عبدٌ لله خالص قائلاً:

((حَسْبُنا الله ونِعَم الوكيلُ)) فارتفعْ وارتقِ في مدارج العلا.

ولا تقل: ((أنا لست بشئ وما أهميتي حتى يُسخرَّ لي هذا الكون من لدن الحكيم العليم عن قصد وعناية وحتى يطلب مني الشكر الكلي)).

ذلك وان كنتَ بحسب نفسِك وصورتِك الظاهرية في حكم المعدم، إلاّ انك بحسب وظيفتك ومنزلتك مُشاهدٌ فَطِنٌ، ومتفرجٌ ذكي على الكائنات العظيمة. وانك اللسانُ الناطق البليغ ينطق باسم هذه الموجودات الحكيمة.. وانك القارئ الداهي والمطالعُ النبيه لكتاب العالم هذا.. وانك المشرف المتفكر في هذه المخلوقات المسبّحة.. وانك بحكم الاستاذ الخبير والمعمار الكريم لهذه المصنوعات العابدة الساجدة.

نعم ايها الانسان! انك من جهة جسمِك النباتي ونفسِك الحيوانية جزءٌ صغير وجزئيٌ حقيرٌ ومخلوقٌ فقير وحيوانٌ ضعيف تخوض في الأمواج الهادرة لهذه الموجودات المتزاحمة المدهشة. إلاّ أنك من حيث انسانيتك المتكاملة بالتربية الاسلامية المنوَّرة بنور الايمان المتضمن لضياء المحبة الإلهية سلطانٌ في هذه العبدية.. وانك كليٌ في جزئيتك.. وانك عالمٌ واسع في صغرك.. ولك المقامُ السامي مع حقارتك فانت المشرفُ ذو البصيرة النيرّة على هذه الدائرة الفسيحة المنظورة، حتى يمكنك القول: ((ان ربيَ الرحيمَ قد جعلَ لي الدنيا مأوىً ومسكناً، وجعل لي الشمس والقمر سراجاً ونوراً، وجعل لي الربيعَ باقةَ وردٍ زاهية، وجعلَ لي الصيفَ مائدةَ نعمةٍ، وجعل لي الحيوانَ خادماً ذليلاً، وأخيراً جعل لي النباتَ زينةً واثاثاً وبهجة لداري ومسكني)).

وخلاصة القول:

انك اذا ألقيتَ السمعَ الى النفس والشيطان فستسقط الى أسفل سافلين واذا أصغيتَ الى الحق والقرآن فسترتقي الى أعلى عليين وكنتَ ((أحسن تقويم)) في هذا الكون.

C النكتة الخامسة:

ان الانسان اُرسل الى الدنيا ضيفاً وموظفاً ووُهبتْ له مواهبٌ واستعدادات مهمة جداً، وعلى هذا اسُندت اليه وظائفٌ جليلة. ولكي يقوم الانسانُ باعماله وليكدّ ويسعى لتلك الغايات والوظائف العظيمة فقد رُغِّب ورُهَّب لإنجاز عمله.

سنجمل هنا الوظائف الانسانية وأساسات العبودية التي أوضحناها في موضع آخر، وذلك لفهم وادراك سر ((أحسن تقويم)) فنقول:

ان الانسان بعد مجيئه الى هذا العالم له عبوديةٌ من ناحيتين:

الناحية الاولى: عبوديةٌ وتفكرٌ بصورة غيابية.

الناحية الثانية: عبوديةٌ ومناجاةٌ بصورة مخاطبة حاضرة.

الناحية الاولى هي:

تصديقُه بالطاعة لسلطان الربوبية الظاهر في الكون والنظرُ الى كماله سبحانه ومحاسنه باعجاب وتعظيم.

ثم استنباط العبرة والدروس من بدائع نقوش اسمائه الحسنى القدسية وإعلانها ونشرها واشاعتها.

ثم وزنُ جواهر الاسماء الربانية ودررها - كلُّ واحدٍ منها خزينة معنوية خفية - بميزان الإدراك والتبصّر وتقييمها بانوار التقدير والعظمة والرحمة النابعة من القلب.

ثم التفكر بإعجاب عند مطالعة أوراق الأرض والسماء وصحائف الموجودات التي هي بمثابة كتابات قلم القدرة.

ثم النظرُ باستحسان بالغ الى زينة الموجودات والصنائع الجميلة اللطيفة التي فيها والتحببُ لمعرفة الفاطر ذي الجمال والتلهّفُ الى الصعود الى مقام حضورٍ عند الصانع ذى الكمال ونيل التفاته الرباني.

الناحية الثانية هي:

مقامُ الحضور والخطاب الذي ينفذ من الأثر الى المؤثر، فيرى أن صانعاً جليلاً يريد تعريف نفسه اليه بمعجزات صنعته. فيقابله هو بالايمان والمعرفة.

ثم يرى أن ربّاً رحيماً يريد أن يحبب نفسه اليه بالأثمار الحلوة اللذيذة لرحمته، فيقابله هو بجعل نفسه محبوباً عنده بالمحبة الخالصة والتعبد الخالص لوجهه.

ثم يرى: أن مُنعماً كريماً يغرقه في لذائذ نِعَمِه المادية والمعنوية، فيقابله هو بفعله وحاله وقوله بكل حواسه وأجهزته - ان استطاع - بالشكر والحمد والثناء عليه.

ثم يرى: أن جليلاً جميلاً يُظهر في مرآة هذه الموجودات كبرياءَه وعظمتَه وكمالَه ويُبرز جلالَه وجمالَه فيها بحيث يجلب اليها الأنظار فيقابل هو ذلك كله: بترديد ((الله اكبر.. سبحان الله..)) ويسجد سجودَ مَن لا يمل بكل حيرة واعجاب وبمحبة ذائبة في الفناء.

ثم يرى: ان غنياً مطلقاً يعرض خزائنه وثروتَه الهائلة التي لا تنضب في سخاء مطلق، فيقابله هو بالسؤال والطلب بكمال الافتقار في تعظيم وثناء.

ثم يرى: ان ذلك الفاطرَ الجليل قد جعل الأرض معرضاً عجيباً لعرض جميع الصنائع الغريبة النادرة فيقابل هو ذلك بقوله (ما شاء الله) مستحسناً لها، وبقوله (بارك الله) مقدراً لها، وبقوله (سبحان الله) معجباً بها، وبقوله (الله اكبر) تعظيماً لخالقها.

ثم يرى: أن واحداً يختم على الموجودات كلها ختمَ التوحيد وسكّتَه التي لا تقلد وطغراءَه الخاصة به، وينقش عليها آيات التوحيد، وينصبُ رايةَ التوحيد في آفاق العالم معلناً ربوبيتَه، فيقابله هو بالتصديق والايمان والتوحيد والاذعان والشهادة والعبودية.

فالانسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح انساناً حقاً ويُظهر نفسه أنه في (أحسن تقويم) فيصير بيُمن الايمان وبركته لائقاً للأمانة الكبرى وخليفة أميناً على الأرض.

فيا أيها الانسان الغافلُ المخلوقُ في (أحسَن تقويم) والذي ينحدر أسفلَ سافلين لسوء اختياره ونزقه وطيشه. اسمعني جيداً وانظر الى اللوحتين المكتوبتين في المقام الثاني من (الكلمة السابعة عشرة) حتى ترى أنت ايضاً كيف كنتُ أرى الدنيا مثلَك حلوةً خضرة عندما كنتُ في غفلة الشباب وسُكره. ولكن لما أفقتُ من سكر الشباب وصحوتُ منه بصبحِ المشيب رأيت أن وجهَ الدنيا غير المتوجه الى الآخرة والذي كنتُ اعدُّه جميلاً رأيته وجهاً قبيحاً. وان وجه الدنيا المتوجه الى الآخرة حسن جميل.

فاللوحة الأولى:

تصوّر دنيا أهل الغفلة. فقد رأيتها من دون أن اسكر فيها شبيهة بدنيا اهل الضلالة الذين اَطبقت عليهم حجب الغفلة.



اللوحة الثانية:

تشير الى حقيقة أهل الهداية وذوى القلوب المطمئنة.

فلم ابدل شيئاً من تلكما اللوحتين بل تركتهما كما كانتا من قبل، وهما وان كانتا تشبهان الشعر الاّ انهما ليسا بشعر.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربّ اشرح لي صدري ^ ويسر لي امري ^

واحلل عقدةً من لساني ^ يفقهوا قولي[

اللّهم صلِّ على الذات المحمدية اللطيفة الأحدية شمسِ سماء الأسرار، ومَظهرِ الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطبِ فلكِ الجمال.

اللّهم بسرّه لديك، وبسيره إليكِ، آمِنْ خوفي، واَقِل عَثرتي، واَذهِب حُزني وحرصي، وكُن لي، وخذني إليك مني، وارزقني الفناءَ عني، ولا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسي، واكشف لي عن كل سرّ مكتوم.

ياحي يا قيوم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم.

وارحمني وارحم رفقائي وارحم اهلَ الايمان والقرآن.

آمين آمين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

] وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عاتب نفسك بهذه الكلمات هبة الله المواضيع الاسلامية 5 09-01-2010 11:05 PM
عاتب نفسك بهذه الكلمات عبدالرحمن الحسيني السِــيرْ وتـراجم أعــلام الإســـلام 1 06-21-2010 01:11 PM
كلمات فوق الكلمات عبدالقادر حمود القسم العام 8 01-09-2009 01:58 PM
كلمات ليست كا الكلمات بنت الاسلام القسم العام 11 10-27-2008 10:48 AM


الساعة الآن 01:27 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir