أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم أهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت           
العودة   منتدى الإحسان > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - لا سيما


المثنوي العربي النوري - ص: 81
الرسالة الثالثة
لا سيما
[ المقام الثاني العربي من الكلمة الثامنة والعشرين ]
[ واساس الكلمة العاشرة ] 1
_____________________
1 هذه الرسالة عبارة عن خلاصة قيمة لرسالة "الحشر" وهي الكلمة العاشرة التي فصّلت فيها مسائل هذه الرسالة بأمثلة كثيرة ، وتنسيق جديد وفق تجليات الاسماء الحسنى بعد تمهيد للاذهان بحوار لطيف وبيان صور الحشر.



المثنوي العربي النوري - ص: 83
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شهدتْ على وجوب وجوده ووحدته ذراتُ الكائنات ومركباتُها بلسان عجزها وفقرها.
والصلاة والسلام على نبيّه الذي هو كشاف طلسمِ الكائنات ومفتاحُ آياتها، وعلى آله وصحبه وعلى اخوانه من النبيين والمرسلين وعلى الملائكة المقربين وعلى عباد الله الصالحين من أهل السموات والأرضين.
اعلم! يامن سدت عليه الطبيعةُ والاسباب بابَ الشكر، وفتحتْ له باب الشرك! ان الشرك والكفر والكفران تأسست على محالات غير محدودة، فانظر من تلك المحالات الى هذا المحال الواحد؛ وهو:
ان الكافر اذا ترك سُكْر الجهالة ونظر الى كفره بعين العلم، يَضطر - للاذعان بكفره - أن يحمل على ظهر ذرةٍ واحدةٍ الفَ قنطار، وأن يقبل في كل ذرةٍ ذرّةٍ ملايين مطبعات للطبيعة، واطلاع - مع مهارة - على جميع دقائق الصنعة في جميع المصنوعات؛ اذ كل ذرة من الهواء - مثلا - تصلُح أن تمرّ على كل نباتٍ وزهرة وشجرة وثمرة، وان تعمل في بنيتها، فلابد لهذه الذرة والقوة البسيطة المستترة فيها - إن لم تكن مأمورة، تعمل باسم مَن بيده ملكوت كل شئ - أن تعرف كيفية جهازات كل مادخلت الذرةُ في بنيتها وكيفية صنعته وتشكيله، مع أن الثمرة مثلا متضمنةٌ لمثال مصغر للشجر، وان نواتها كصحيفة أعمال الشجر، وفيها تاريخ حياته. فالثمرة تنظر الى كل الشجرة بل الى نوعها بل الى الارض ايضاً. ومن هذه الحيثية فالثمرة بعظمة صنعتها ومعناها في جسامة صنعة الارض بوجه، فمَن بناها بهذه العظمة المعنوية الصنعوية، لابد أن لايعجز عن حمل الارض وبنائها.


المثنوي العربي النوري - ص: 84
فياعجباً للكافر المنكِر كيف يدّعي العقل والذكاوة مع انه يتبطن - بكفره - في قلبه مثل هذا الحمق والبلاهة..
واعلم! ان لكل شئ صورتين:
اما احداهما:
فمادية محسوسة كقميصة قُدّتْ على مقدار قامة الشئ بتقدير القدر بغاية الانتظام..
واما الاُخرى:
فمعقولة مركبة من أشتات صُوَر الشئ في حركته في بحر الزمان، او مرور نهر الزمان عليه، كصورة الدائرة النورانية المخيلة الحاصلة من جولان الشعلة، فهذه الصورة المعنوية للشئ هي تاريخ حياة الشئ، وهي مدارُ القَدَر المشهور وهي المسماة بـ"مقدّرات الأشياء". فكما أن الشئ - كالشجرة مثلاً - في الصورة المادية له نهايات منتظمة مثمرة، وله غايات موزونة متضمنة لمصالح حِكَمية، كذلك له في صورته المعنوية ايضاً نهايات منتظمة متضمنة لمصالح، وله حدود معينة تعينت لحِكَم خفية. فكأن القُدرة في الصورة الاولى كالباني، والقَدر كالهندسة، وفي الثانية كالمصدر، والقَدَر كالمِسطر. 1 فتكتب القدرةُ كتابَ المعاني على رسوم مِسطَر القدر.
فيا ايها الكافر!.. تضطر في كفرانك وكفرك، عند المراجعة الى العلم والحقيقة أن تقبل في كل ذرةٍ وقوتها الجزئية الصغيرة معرفة صنعة خياطةٍ بدرجة تقتدر تلك الذرة - وطبيعة السببية - على أن تقدّ وتخيط ألبسةً وأقمصة مختلفة متنوعة بعدد أشتات الأشياء، التي يمكن أن تذهب اليها الذرة مع اقتدارها على تجديد الصور المتخرقة بأشواك الحادثات في مرور الزمان، مع أن الانسان الذي هو ثمرةُ شجرة الخلقة واقدر الاسباب - بزعمه - وأوسعها اختياراً، لو جمع كل قابلية صنعة خياطته ثم أراد أن يخيط قميصاً لشجرة ذات أشواك على مقدار أعضائها، ما اقتدر. مع ان صانعَها الحكيم يُلبسها في وقت نَمائها أقمصةً متجددة، منتظمة طرية

_____________________
1 المِسطَر: ما يسطَر به الكُتّاب



المثنوي العربي النوري - ص: 85
لاتشففها الشمس وحُللا خضرة متزينة موزونة بكمال السهولة والسرعة بلا كلفة ولا معالجة. فسبحان مَن: (انَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أنْ يقولَ لهُ كُنْ فيكونُ _ فَسُبحانَ الَّذي بيدِهِ مَلَكوتُ كُلِّ شَيءٍ واليهِ تُرجَعونَ) 1.
اعلم! ان للاحد الصمد على كل شئ سكةً وخاتماً وآيةً، بل آياتٍ تشهد بأنه له وملكُه وصُنعه. فان شئت فانظر - مما لايحد ولايعد من سكات أحديته وخواتم صمديته - الى هذه السكة المضروبة على صحيفة الارض في فصل الربيع بمرصاد هذه الفقرات الآتية المتسلسلة المتعانقة المتداخلة، لترى السكةَ كالشمس في رابعة النهار، وهي:
انا نشاهد في صحيفة الارض ايجاداً بديعاً حكيماً: في جُودٍ واسع عظيم في سخاوة مطلقة في اتقان مطلق، في سهولةٍ مطلقة في انتظام مطلق، في سرعة مطلقة في اتزان مطلق، في وُسعة مطلقة في حُسن صُنع مطلق، في رخيصيةٍ مطلقة وقيمته في غلو مطلق، في خِلطة مطلقة في امتياز مطلق، في بُعدةٍ مطلقة في اتفاق مطلق، في كثرة مطلقة في أحسن خلقة.
على أن كلاً من هذه الفقرات بانفرادها تكفي لاظهار السكة؛ اذ:
نهاية السخاوة نوعاً مع غاية الاتقان وحسن الصنعة في فردٍ فردٍ، تختص بمَن لا يُشغلهُ شئ عن شئ، وله قدرة بلا نهاية.
وكذا ان نهاية السهولة مع غاية الانتظام، تختص بمن لا يُعجزه شئ، وله علم بلا نهاية.
وكذا ان نهاية السرعة مع غاية الاتزان والموزونية، تختص بمن استسلم كل شئ لقدرته وأمره.
وكذا ان نهاية وُسعة التصرف - بانتشار النوع - مع غاية حسن صنع كل فردٍ فرد، تختص بمن ليس عند شئ، وهو عند كل شئ بقدرته وعلمه.
وكذا ان نهاية الرخيصية والمبذولية مع غاية غلوّ قيمة الفرد باعتبار الصنعة تختص بمَن له غَناء بلا غاية وخزائن بلا نهاية.

_____________________
1 يس : 82، 83




المثنوي العربي النوري - ص: 86
وكذا ان نهاية الاختلاط والاشتباك - في افراد الانواع المختلفة - مع غاية الامتياز والتشخيص بلا مَرْج 1 ومزج وبلا خلط وغلط، تختص بمن هو بصير بكل شئ، وشهيد على كل شئ لايمنعه فعل عن فعل، ولايختلط عليه سؤال بسؤال.
وكذا انّ الفعالية؛ مع نهاية التباعد بين الافراد المنتشرة في اقطار الارض، مع غاية التوافق في الصورة والتشكيل والايجاد والوجود، حتى كأن افراد كل نوعٍ نوعٍ منتظر أمراً يخصّها من مدبرٍ واحد، تختص بمن الارض جميعا في قبضةِ تصرّفه وعلمه وحكمه وحكمته.
وكذا ان نهاية الكثرة في افراد النوع مع غاية مكملية خلقة فردٍ فردٍ وحسن ايجاد جزءٍ جزءٍ، تختص بالقدير المطلق الذى تتساوى بالنسبة اليه الذرات والنجوم والقليل والكثير.
على أن في كل فقرة آيةً اخرى على صنع القدير المطلق وهي التضاد بين السخاوة والاتقان الاقتصادي، وبين السرعة والموزونية، وبين الرخيصية وغلو القيمة، وبين الاختلاط الاطم والامتياز الاتم... وهكـذا.
فاذا كان كـل فقرة بانـفرادها كـافيـــةً لاظهــار خاتم الاحديـــــة، فكيف اذا اجتمعت متداخلة متآخذة في فـعاليــة واحــدة؟! .. ومــن هــذا تــرى ســر:
(ولَئِن سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والارضَ لَيَقُولُنَّ الله) 2 اي: ان المنكِر المتعنّد اذا سُئل منه - بتنبيه عقله - يضطر لان يقول: الله ..
اعلم! ان بين الايمان بالله والايمان بالنبي والايمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازماً قطعياً، وارتباطاً تاماً للتلازم في نفس الامر، بين وجوب الالوهية وثبوت الرسالة، ووجود الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة. اذ:
كما لايمكن وجود كتاب لاسيما اذا تضمن كل كلمة منه كتاباً وكل حرف قصيدة منتظمة، بلا كاتب.. كذلك لايمكن شهود كتاب الكائنات - بدون سُكر - بلا ايمان بوجوب وجود نقاشه الأزلي.

_____________________
1 مَرَج الشئ بالشئ : خَلَطَه
2 الزمر : 38



المثنوي العربي النوري - ص: 87
وكما لايمكن وجود بيت لاسيما اذا اشتمل على خوارق الصنعة وعجائب النقوش وغرائب التزيينات - حتى في كل حجر منه - بلا بانٍ وصانع، بلا منشئ وصاحب.. كذلك لايمكن التصديق بوجود هذا العالم - بدون سُكر الضلالة - بلا تصديق بوجود صانعه.
وكما لايمكن شهود تلمعات الحَبابات في وجه البحر، وتلألؤ القطرات المائية وتشعشع الزُجيجات الثلجية في وسط النهار مع انكار وجود الشمس، اذ يلزم حينئذ قبول وجود شُميسات بالاصالة بعدد الحبابات والقطرات والزجيجات الثلجية.. كذلك لايمكن، لمن له عقل لم يفسد، شهود هذه الكائنات المتحولة دائماً في انتظام، المتجددة في انسجام، بلا تصديقٍ بوجوب وجود خالقها وبانيها، الذي أسس ذلك البيت المحتشم، والشجر المعظم، باصول مشيئته وحكمته، وفصّله بدساتير قضائه وقَدَره، ونظّمه بقوانين عادته وسنته، وزيّنه بنواميس عنايته ورحمته، ونوّره بجلوات أسمائه وصفاته..
نعم! وبعدم قبول الخالق الواحد يُضطر الى قبول آلهات غير متناهية بعدد ذرات الكائنات ومركباتها، بحيث يقتدر إله كلِّ واحدٍ، على خلق الكل؛ بسر أن كل جزئيٍ ذي حياة كانموذج للكل؛ فخالقهُ لابد أن يقتدر على خلق الكل !!
ثم انه كما لايمكن وجود الشمس بلا نشر ضياء، كذلك لايمكن الالوهية بلا تظاهر بإرسال الرسل..
ولا يمكن جمال في نهاية الكمال بلا تبارز وبلا تعرُّف بواسطة رسول معرِّف..
ولايمكن كمال صنعةٍ في غاية الجمال بلا تشهير بواسطة دلال ينادي عليه..
ولايمكن سلطنة ربوبية عامة، بلا عبودية كلية، باعلان وحدانيته وصمديته في طبقات الكثرة بواسطة مبعوث ذي الجناحين..
ولايمكن حُسنٌ لانهاية له، بلا طلب ذي الحسن، ومحبته لمشاهدة محاسن جماله ولطائف حسنه في مرآة، وبلا ارادته لإشهاد انظار المستحسنين عليه واراءته لهم بواسطة عبد حبيب يتحبب اليه، ورسول يحببه الى الناس. اي هو بعبوديته مرآةٌ لشهود ذي الجمال، جمال ربوبيته، وبرسالته مدار إشهاده..


المثنوي العربي النوري - ص: 88
ولايمكن وجود كنوز، مشحونة بعجائب المعجزات، وغرائب المرصعات، بلا ارادة صاحبها ومحبته لعرضها على الانظار، واظهارها على رؤوس الاشهاد، لتبيّن كمالاته المستورة بواسطة معرّف صرّاف ومُشهِر وصّاف.
فاذ هذا هكذا، فهل ظهر في العالم أجمعَ لهذه الاوصاف من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ كلا، بل هو أجمعُ وأكملُ وأرفع وأفضلُ. فهو سلطان الرسل المظهرين المبلّغين المعرّفين المُشهرين الدلالين العابدين المعلنين المرشدين الشاهدين المشهدين المشهودين المحبوبين المحبين المحببين الهادين المهديين المهتدين، عليه وعليهم وعلى آلهم أفضل الصلوات وأجمل التسليمات، مادامت الارض والسمــوات.
***
ثم انظر الى قوة حقانية الحشر والآخرة، وهي انه:
كما لايمكن سلطان بلا مكافأة للمطيعين وبلا مجازاة للعاصين:
لاسيما: اذا كان له كرم عظيم يقتضي الاحسان، وعزة عظيمة تقتضي الغيرة..
ولاسيما: اذا كان له رحمة واسعة تقتضي فضلا يليق بوسعة رحمته، وله جلالُ حيثيةٍ تقتضي تربية مَن يستخف به، ولايوقّره..
ولاسيما: اذا كان له حكمة عالية، تقتضي حماية شأن سلطنته بتلطيف الملتجئين الى جناحه، وله عدالة محضة تقتضي محافظة حشمة مالكيته بمحافظة حقوق رعيته..
ولاسيما: اذا كان له خزائن مشحونة مع سخاوة مطلقة، تقتضي وجود دار ضيافة دائمة، وتقتضي دوام وجود محتاجين بأنواع الحاجات فيها. وكذا له كمالات مستورة تقتضي التشهير على رؤوس المشاهدين المقدرين المستحسنين. وكذا له محاسن جمال معنوي بلا مثل، وله لطائف حسن مخفي بلا نظير، تقتضي الشهود لحُسنه بنفسه في مرآة، والاشهاد لغيره، والاراءة بوجود مستحسنين متنزهين ومشتاقين متحيرين بل دوام وجودهم؛ اذ الجمال الدائم لايرضى بالمشتاق الزائل! ..
المثنوي العربي النوري - ص: 89
ولاسيما: اذا كان له شفقة رحيمة في اغاثة الملهوف، واجابة الداعي، بدرجة يُراعي أدنى حاجة من أدنى رعية تقتضي تلك الشفقة اقتضاءً قطعياً يقيناً، أن تُسعِف أعظم الحاجة من مقبول السلطان، وبالخاصة اذا كانت الحاجة عامة مع انها يسيرة سهلة عليه، ومع اشتراك العموم في تضرع مقبول السلطان.
ولاسيما: اذا شوهد من اجراآته آثار سلطنته في نهاية الاحتشام، مع أن مايرى من رعيته انما اجتمعوا في منزل معدّ للمسافرين، يُملأ ويُفرغ في كل يومٍ، وحضروا في ميدان امتحان يتبدل في كل وقت، وتوقفوا قليلاً في مَشهَر قد أُعد لاراءة انموذجات غرائب صنعة المَلك، ونمونات 1 احساناته؛ وهذا المشهر يتحول في كل زمان. فهذه الحالة تقتضي بالضرورة أن يوجَد خلفَ هذا المنزل والميدان والمشهر وبعدَها قصورٌ دائمة ومساكن مستمرة وخزائن مفتحة الابواب مشحونة بجيدات اصول الانموذجات المغشوشات.
ولاسيما: اذا كان الملك في نهاية الدقة في وظيفة الحاكمية، بحيث يكتب ويستكتب أدنى حاجة وأهون عمل وأقل خدمة، ويأمر بأخذ صورة كل مايجري في ملكه ويستحفظ كل فعل وعمل. فهذه الحفيظية تقتضي المحاسبة، وبالخاصة في أعظم الاعمال من أعاظم الرعية.
ولاسيما: اذا كان الملك قد وعد وأوعد مكرراً، بما ايجادُهُ عليه هين يسير، ووجودُهُ للرعية في نهاية الاهمية، وخُلفُ الوعدِ في غاية الضدية لعزة اقتداره.
ولاسيما: اذا أخبر كل مَن ذهب الى حضور ذلك الملك، انه أعدّ للمطيعين والعاصين دار مكافأة ومجازاة، وانه يَعِد وَعداً قوياً ويُوعِد وعيداً شديداً، وهو أجلّ وأعز من أن يذل ويتنزل بخُلف الوعد، مع ان المخبرين متواترون قد أجمعوا على أن مدار سلطنته العظيمة انما هو في تلك المملكة البعيدة عنا. وما هذه المنازل في ميدان الامتحان الاّ مؤقتة، سيبدّلها البتة بقصور دائمة؛ اذ لايقوم مثل هذه السلطنة المستقرة المحتشمة على هذه الامور الزائلة الواهية المتبدلة السيالة.
ولاسيما: اذا أظهر ذلك المَلِك في كل وقت، في هذا الميدان المؤقت، كثيراً من أمثال ذلك الميدان الاكبر ونموناته. فيُعلَم من هذه الكيفية، أن ما يُشاهد من هذه

_____________________
1 نماذج وعينات.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - لا سيما

المثنوي العربي النوري - ص: 90
الاجتماعات والافتراقات، ليست مقصودة لذاتها، بل انما هي تمثيل وتقليد لتؤخذ صورها، وتُركَّب وتُحفظ نتائجها، وتُكتب لتدوم. وتدور المعاملة في المجمع الاكبر، والمشاهدة في ذلك المحضر عليها، فتثمر الفانية صوراً ثابتة وأثماراً باقية.
ولاسيما: اذا أظهر ذلك الملك في تلك المنازل الزائلة والميادين الهائلة والمشاهر الراحلة؛ آثار حكمة باهرة، وعناية ظاهرة، وعدالة عالية، ومرحمة واسعة، بدرجة يَعرف باليقين مَن له بصيرة أنه لايمكن ان يوجد أكمل من حكمته، وأجمل من عنايته، وأشمل من مرحمته، وأجلّ من عدالته. فلو لم يكن في دائرة مملكته أماكن دائمة عالية ومساكن قائمة غالية، وسواكن مقيمة خالدة لتكون مظاهر لحقيقة تلك الحكمة والعناية والمرحمة والعدالة، للزم حينئذ انكار هذه الحكمة المشهودة، وانكار هذه العناية المبصرة، وانكار هذه المرحمة المنظورة، وانكار هذه العدالة المرئية؛ وللزم قبول كون صاحب هذه الافاعيل الحكيمة الكريمة سفيهاً لعّاباً وظالماً غداراً. فيلزم انقلاب الحقائق بأضدادها، وهو محال باتفاق جميع أهل العقل غير السوفسطائي الذي ينكر وجود الاشياء حتى وجود نفسه.
وهكذا مما لايعد ولايحصى من دلائل، أنه سينقل رعيته من هذه المنازل المؤقتة الى مقر سلطنته الدائمة، ومما لايحد ولايستقصى من امارات تبديله، هذه المملكة السيارة بتلك المملكة المستمرة.
كذلك 1 لا يمكن بوجه من الوجوه قطعاً وأصلاً، أن يوجد هذا العالم ولايوجد ذلك العالم، وان يبدع الفاطر هذه الكائنات ولايُبدع تلك الكائنات، وان يخلق الصانع هذه الدنيا ولايخلق تلك الآخرة؛ اذ شأن سلطنة الربوبية يقتضي المكافأة والمجازاة.
ولاسيما: يُعلَم بالآثار ان لصاحب هذه الدار كرماً عظيماً، ومثلُ هذا الكرم يقتضي كمال الاحسان، وحسن المكافأة. وان له عزة عظيمة تقتضي كمالَ الغيرة وشدة المجازاة؛ مع ان هذه الدار لاتفي بعُشر مِعشار عَشير ما يقتضيه ذلك الكرم وتلك العزة..

_____________________
1 جواب كما لا يمكن سلطان بلا مكافأة...
المثنوي العربي النوري - ص: 91
ولاسيما: ان لصاحب هذا العالم رحمة وسعت كل شئ، ومن لطائف تلك الرحمة شفقة الوالدات مطلقاً، حتى النباتات على اولادها، وسهولة أرزاق أطفال الحيوانات وضعفائها، وهذه الرحمة تقتضي فضلا واحساناً يليقان بها. انظر أين مقتضى هذا الرحمة، ثم أين هذه التنعمات الزائلة المنغصة، في هذه الدنيا الفانية - في هذا العمر القصير - التي لاتفي بقطرة من بحر تلك الرحمة؟ بل الزوال بلا اعادة يصيّر النعمةَ نقمة، والشفقة مصيبة، والمحبة حرقة، والعقل عقاباً، واللذة الماً، فتنقلب حقيقةُ الرحمة. فتلزم المكابرة بانكار الرحمة المشهودة، كانكار الشمس مع شهود امتلاء النهار من ضيائها. وكذا يُعلم من تصرفات صاحب هذا العالم ان له جلالَ حيثيةٍ وعزةٍ، يقتضيان تأديب من لا يوقّره وقهر من يستخف به، كما فعل بالقرون السالفة في هذه الدنيا مايدل على انه لايهمل وإن امهل.وكذا يفهم من اجراآته ان له غيرة عظيمة على استخفاف أوامره ونواهيه.
نعم، ومن شأن من يتعرف الى الناس بأمثال هذه المصنوعات المنظومات، ويتودد اليهم بأمثال هذه الازاهير الموزونات، ويترحّم اليهم بأمثال هذه الثمرات المزينات؛ ثم لايعرفونه بالايمان، ولايتحببون اليه بالعبادة، ولايحترمونه بالشكر الا قليل.. ان يعدّ لهم في مقر ربوبيته الابدية دار مجازاة ومكافأة.
ولاسيما: ان لمتصّرف هذا العالم حكمةً عامةً عالية، بشهادات رعاية المصالح والفوائد في كل شئ، وبدلالات الانتظامات والاهتمامات وحسن الصنعة في جميع المخلوقات. فهذه الحكمة الحاكمة في سلطنة الربوبية، تقتضي تلطيف المطيعين الملتجئين الى جناحها.. وكذا يشاهد ان له عدالة محضة حقيقية بشهادات وضعه كل شئ في الموضع اللائق، واعطاء كل ذي حق حقه الذي يستعد له؛ واسعاف كل ذي حاجة حاجته التي يطلبها - لوجوده او حفظ بقائه - واجابة كل ذي سؤال سؤاله. وبالخاصة: اذا سئل بلسان الاستعداد او بلسان الاحتياج الفطري او بلسان الاضطرار.. فهذه العدالة تقتضي محافظة حشمة مالكيته، وربوبيته، بمحافظة حقوق عباده في محكمة كبرى؛ مع أن هذه الدار الفانية أقل وأحقر وأضيق وأصغر من أن تكون مظهراً لحقيقة تلك العدالة؛ فلابد حينئذ لهذا الملك العادل والرب الحكيم ذي الجمال الجليل والجلال الجميل من جنة باقية وجهنم دائمة.
المثنوي العربي النوري - ص: 92
ولاسيما: أن لصاحب هذا العالم والمتصرف فيه بهذه الافعال، سخاوة وجوداً عظيماً، وخزائن مشحونة. ومن ظرائف ظروف تلك الخزائن هذه الشموس المملوءة من الانوار، وهاتيك الاشجار المشحونة من الاثمار، وهذه السخاوة السرمدية مع هذه الثروة الابدية تقتضيان وجود دار ضيافة أبدية، ودوام وجود محتاجين بأنواع الحاجات فيها؛ اذ الكرم بلا نهاية يقتضي الامتنان والتنعيم بلا نهاية؛ وهما يقتضيان قبول المنة والتنعم بلا نهاية؛ وهما يقتضيان دوام وجود الشخص المكْرَم عليه، ليقابل بدوامه في التنعم شكرَ المنة الدائمة، وإلاّ لانحصر مقابلة كل واحد في دقائق عمره الزائل، ولصار بحيث لايهتم بما لايرافقه، بل يتنغص عليه ذلك التنعم الجزئي ايضاً.
وكذا لفاعل هذه الافعال الحكيمة الكريمة كمالات مستورة. يفهم من تظاهره بهذه المعجزات المزينات، انه يحب أن يشهر تلك الكمالات على رؤوس الاشهاد المستحسنين المقدرين.
نعم، ان من شأن الكمال الدائم، التظاهر بالدوام، ووجود نظر المستحسن الدائمي.. فالناظر الذي لايدوم يسقط من نظر محبته قيمة الكمالات.
وكذا لصانع هذه المصنوعات الجميلات المليحات المزينات المنورات، محاسنُ جمالٍ مجرد معنوي بلا مثل، وله لطائف حسن مخفي يليق به بلا نظير؛ بل في كل اسم من أسمائه كنوز مخفية من جلوات ذلك الحسن المنزّه والجمال المجرد.
نعم! أين عقولنا وأين فهم جمال مَن: مِن بعض مراياه الكثيفة وجه الارض المتجددة التي تظهر وتصف لنا في كل عصر، بل في كل فصل، بل في كل وقت، ظلال جلوات ذلك الجمال الدائم التجلي، مع تفاني المرايا وسيالية المظاهر.. ومِن بعض أزاهيره ونقشه: الربيع.؟
ثم انه من الحقائق المستمرة الثابتة: ان كل ذي جمال فائق يحب أن يشاهد جماله بنظره، وبنظر غيره؛ وينظر الى محاسنه بالذات، وبالواسطة؛ ويشتاق الى مرآةٍ فيها جلوة جماله المحبوب، والى مشتاق فيه مقاييس درجات حسنه المرغوب. فالحسن والجمال يقتضيان الشهود والاشهاد؛ وهما يقتضيان وجود مستحسنين متنزهين في مناظرهما، ووجود مشتاقين متحيرين في لطائفهما. ثم لأن الجمال
المثنوي العربي النوري - ص: 93
سرمدي، يقتضي أبدية المستحسن المتحير؛ اذ الجمال الدائم الكامل لايرضى بالمشتاق الزائل الآفل؛ اذ بسرّ أن الشخص المقيد بنفسه، له نوع عداوة لما لايصل اليه فهمهُ او يدهُ، ولمن يردهّ او يطرده من دائرة حضوره، فيحتمل حينئذ أن يقابل هذا الشخص ذلك الجمال - الذي يستحق أن يقابل بمحبة بلا نهاية، بشوق بلا غاية واستحسان بلا حد - بعداوة وحقد وانكار.
الحاصل: ان هذا العالم كما يستلزم صانعه بالقطع واليقين، كذلك يستلزم صانعهُ الآخرةَ بلا شك ولاريب..
ولاسيما: ان لمالك هذا العالم رحيمية شفيقة في سرعة اغاثة الملهوف المستغيث، وفي اجابة الداعي المستجير؛ اذ قد نرى انه يراعي ادنى حاجة من أدنى خلقه، بدليل قضائها وقت وجودها من حيث لايحتسب، وانه يسمع اخفى نداء من أخفى خلقه، بدليل إسعاف مسؤوله ولو بلسان حاله.
فانظر! الى حسن تربية أطفال ذوي الحياة وضعفائها، كي ترى هذه الشفقة كالشمس في ضيائها. فهذه الشفقة الرحيمة الكريمة تقتضي اقتضاء ضروريا قطعيا أن تسعف أعظم حاجة وأشدها، من أعظم عباده وأحب خلقه اليه..
وبالخاصة اذا كانت الحاجة عامة بحيث يؤمِّن على دعاء ذلك الحبيب جميعُ الخلق بألسنةِ الاقوال والاحوال..
وبالخاصة اذا كانت مهمة عند كل شئ، لكونها سبباً لصعود قيمة الاشياء الى أعلى عليين، وبدونها تسقط قيمة كل شئ الى أسفل سافلين. فحينئذ يشترك في تضرع ذلك الحبيب جميعُ الموجودات بألسنة استعداداتها..
وبالخاصة اذا كانت مطلوبة لكل الاسماء المتجلية في الكائنات. نعم! تلك الحاجة كمخزن الغايات لتلك الاسماء ولكمالاتها في ظهورها باجراء أحكامها، فحينئذ تشفع جميع الاسماء عند مسمّاها لاسعاف حاجة ذلك الحبيب..
وبالخاصة اذا كانت تلك الحاجة كلمح البصر سهلة يسيرة على مالكها الكريم..
المثنوي العربي النوري - ص: 94
وبالخاصة اذا تضرع ذلك الحبيب بأنواع التضرعات الحزينة، متذللا بأنواع الافتقارات المشفعة، متحبباً بأنواع العبادات المقبولة. وقد اصطف خلفه مؤتمين به مؤمّنين على دعائه، جميعُ أفاضل ثمرات شجرة الخلقة من الانبياء والاولياء والاصفياء، وهو انما يطلب من ربه الكريم الجنة، والبقاء، والسعادة الابدية والرضاء.
فبالضرورة لايمكن بوجه من الوجوه أن يقبل جمالُ هذه الشفقة الشاملة المشهودة بآثارها، قبحاً غداراً بعدم قبول مثل هذا المطلوب المعقول، من مثل ذلك المحبوب المقبول!.. نعم كما ان ذلك الحبيب الذي هو مدار الشهود والاشهاد للشاهد الازلي رسولٌ؛ وبرسالته كاشفُ طلسم الكائنات، ودلاّل الوحدة في غمرات الكثرة، وسببٌ لوصول السعادة في الجنة.. كذلك عبدٌ؛ فبعبوديته كشافُ خزائن الرحمة، ومرآة ٌلجمال الربوبية، وسببٌ لحصول مدار السعادة، وسبب لوجود الجنة. فلو فُرض عدم جميع الاسباب الغير المحصورة المقتضية للجنة الاّ مثل هذا الطلب من مثل ذلك الحبيب، لكفى لإيجاد هذه الجنة ووجودها من جُود جَوادٍ يوجد في كل ربيع جناناً مزينة كانموذجات تلك الجنة. فما هذه بأسهل من تلك، وما هي بأصعب عليه من هذه. فكما يحقّ، وحقٌ ان يُقال، وقد قيل: (لولاك لولاك لما خلقت الافلاك) يستحق أن يقال: لو لم يكن الاّ دعاؤك لخلقت الجنة لاجلك.
اللهم صلّ وسلّم على ذلك الحبيب الذي هو سيدُ الكَونين وفخرُ العالَمين وحياةُ الدارَين ووسيلةُ السعادتين وذو الجناحين ورسولُ الثقلين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى اخوانه من النبيين والمرسَلين. آمين.
ولاسيما: انه يُشاهَد في جريان هذا العالم آثار سلطنة محتشمة في تسخير الشموس والاقمار والاشجار والانهار. فيُعلم أن لمتصرف هذه الموجودات، سلطنة محتشمة في ربوبية معظمة؛ مع ان هذه الدار بسرعة تحوّلها أو زوالها، كمنزلٍ في خانٍ اُعد للمسافرين، يُملأ ويفرغ في كل يوم، وكميدان امتحان يتبدل في كل وقت، وكمشهر اُحضر لاراءة انموذجات غرائب صنعة صاحب الموجودات، ونمونات احساناته. وهذا المشهر يتحول في كل زمان. مع أن الخلق والعباد الذين هم كالرعية ومدار السلطنة اجتمعوا في ذلك المنزل، وهم على جناح السفر في كل آن. وحضروا
المثنوي العربي النوري - ص: 95
ذلك الميدان مستمعين ناظرين بمقدار سؤال وجواب، وهم على نية الخروج في كل زمان. وتوقفوا قليلاً في ذلك المشهر وهم على قصد التفرق في كل وقت وأوان.
فهذه الحالة تقتضي بالضرورة ان يوجد خلف هذا المنزل الفاني والميدان المتغير وبعد هذا المشهر المتبدل، قصورٌ دائمةٌ ومساكن أبدية وخزائن مفتحة الابواب مشحونة من جيّدات اصول تلك الانموذجات المغشوشات لتقوم تلك السلطنة السرمدية المشهودة عليها؛ اذ من المحال أن يكون قيام هذه الربوبية المحتشمة بأمثال هذه الفانيات الوانيات 1 الزائلات الذليلات!
نعم، كما يتفطن مَن له أدنى شعور إذا صادف في طريقه منزلاً اعده ملكٌ كريم في الطريق لمسافريه الذين يذهبون اليه. ثم ان الملك قد صرف ملايين الدنانير لتزيين المنزل لتنزه ليلة واحدة. ثم رأى ان أكثر المزينات صور وانموذجات!.. ثم رأى المسافرين يذوقون من هذا وذلك للطعم لا للشبع، اذ لايشبعون من شئ، ويأخذ كل واحد (بفوطوغرافه) المخصوص صور ما في المنزل، ويأخذ خدام الملك ايضاً صور معاملاتهم بغاية الدقة.. ثم رأى ان الملك يخّرب في كل يوم أكثر تلك المزينات الغاليات القيمة، ويجدد لضيوفه الجديدين مزينات اخرى.. ويتفهم بلاشك ان لصاحب هذا المنزل المؤقت منازل عالية دائمة، وثروة غالية مخزونة، وسخاوة عظيمة كريمة؛ وهو يريد ان يشوّق الى ما عنده ويرغّبهم فيما ادخره لهم..
كذلك؛ لابد ان يتفطن الانسان:
ان هذه الدنيا ليست لذاتها وبذاتها، بل انما هي منزلٌ تُملأ وتُفرغ بحلول وارتحال، وان ساكنيها مسافرون، يدعوهم رب كريم الى دار السلام.. وان هذه التزيينات ليست للتلذذ بالتنزه فقط، بدليل انها تُلذّك آناً، ثم تؤلمك بفراقها أزماناً، وتذيقك وتفتح اشتهاءك، ثم لاتشبعك لقصر عُمرها او قصر عمرك، بل انما هي للعبرة وللشكر، وللشوق الى اصولها الدائمة ولغايات علوية.. وان هذه المزينات صور وانموذجات لما ادّخره الرحمن في الجنان لأهل الإيمان، وأن هذه المصنوعات الفانيات ليست للفناء، بل اجتمعت اجتماعاً قصيراً لتؤخذ صورها وتماثيلها ومعانيها ونتائجها، فيُنسج منها مناظر دائمة لاهل الأبد، او يَصنع منها مُحَوّلُها ما يشاء في عالم البقاء.
_____________________
1 ونى : فَتَر وضعف قال تعالى: (ولا تنيا في ذكري)
المثنوي العربي النوري - ص: 96
ومن الدليل على ان الاشياء للبقاء لا للفناء، بل الفناء الصوري تمام الوظيفة وترخيص له، أن الفاني يفنى بوجهٍ ويبقى بوجوهٍ غير محصورة!.. مثلا: انظر من كلمات القدرة الى هذه الزهرة التي تنظر الينا في وقت قصير، ثم تفنى؛ تراها كالكلمة التي تزول لكن تودِع باذن الله في الآذان الوف تماثيلها، وفي العقول - بعدد العقول معانيها؛ اذ هي وقت تمام الوظيفة تُبقي وتودع في حافظتنا، وفي حافظة كل مَن رآها في الشهادة، وفي بذورها في الغيب صورها ومعانيها؛ حتى كأن حافظة كلِّ مَن نظر اليها وكل بذيراتها (فوطوغرافات) لحفظ زينة صورها، ومنازل لبقائها. وقس عليها ما فوقها وما فوق ما فوقها من ذوي الارواح الباقية.
وان الانسان ليس سدىً غاربهُ على عنقه 1: يسرح كيف يشاء، بل تؤخذ صور أعماله، وتكتب وتحفظ نتائج أفعاله ليحاسب؛ وان التخريبات الخريفية للمصنوعات الجميلات الربيعية، انما هي ترخيصات بتمام الوظيفات وتفريغات لوفود مخلوقات جديدات، واحضارات لنزول مصنوعات موظفات، وتنبيهات للغفلات والسكرات. وان لصانع هذا العالم عالماً آخر باقياً يسوق اليه عباده ويشوقهم اليه، وانه قد أعد لهم مالاعين رأت ولااذن سمعت ولاخطر على قلب بشر. 2
ولاسيما: ان لمتصرف هذا العالم حفيظية تامة بحيث لاتغادر صغيرة ولاكبيرة الا تحفظها في كتاب مبين. ومن أبواب هذا الكتاب المبين النظام والميزان المشهودان، اذ نشاهد ان كل ما تمّ عمرهُ بتمام وظيفته، وذهب عن الوجود في عالم الشهادة، يثبت فاطرهُ كثيراً من صوره في ألواح محفوظة، وينقش أكثر تاريخ حياته في نواتاته ونتائجه، ويبقيه في مرايا متعددة غيباً وشهادة، حتى كأن كثيراً من الاشياء موظفون بأخذ صورة جريان معاملة الاشياء المجاورين لها.
فان شئت فانظر الى حافظة البشر وثمرة الشجر ونواة الثمر وبذر الزهر، لتفهم عظمة احاطة قانون الحفظ والحفيظية، حتى في السيالات الزائلات. فقس من هذا

_____________________
1 اصل المثل: حبلك على غاربك . والغارب: اعلى السنام. وهذا كناية عن الطلاق اي: اذهبي حيث شئت (مجمع الامثال) والمثل يقال لمن تركتَهُ يذهب حيث يريد ويفعل ما يشاء.
2 عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : "اعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا اذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر. واقرأوا ان شئتم : (فلا تعلم نفسٌ ما أخفى لهم من قرة أعيُن) السجدة : 17". رواه البخاري ومسلم برقم ( 2824) ولم يذكر الآية والترمذي (3195) تحقيق احمد شاكر.
المثنوي العربي النوري - ص: 97
قوة جريان هذه الحفيظية في الامور المهمة المثمرة في العوالم الغيبية والاخروية. فيفهم من هذه المحافظة التامة ان لصاحب هذه الموجودات اهتماماً عظيماً بانضباط مايجري في ملكه، وان له نهاية دقةٍ في وظيفة حاكميته، وانتظاماً تاماً في سلطنة ربوبيته، بحيث يكتب ويستكتب أدنى حادثة وأهون عمل وأقل خدمة، ويأمر بالامر التكويني بأخذ صورة كل ما يجري في ملكه، ويحفظ ويستحفظ كل فعل وعمل. فهذه الحفيظية تشير بل تصرح بل تستلزم المحاسبة. وبالخاصة في أعظم الاعمال وأهمها من اكرم المخلوقات وأشرفها اي الانسان، لان الانسان كالشاهد على كليات شؤون الربوبية وكالدلال على الوحدانية الالهية في دوائر الكثرة وكالمشاهد والضابط على تسبيحات الموجودات، وهكذا.. مما لايعد من اسباب تكريمه بالامانة وتقليده بالخلافة.
فمع هذا
(ايَحسَبُ الانسَانُ اَنْ يُترَكَ سُدىً) 1 ولايُسأل غداً؟ كلا.. بل ليحاسَب على السَبَد واللَبد 2، وسيذهب الى الحشر والابد. وما الحشر والقيامة بالنسبة الى قدرته الاّ كالربيع والخريف. فكل الوقوعات الماضية معجزات قدرته تشهد قطعاً على انه قدير على كل الامكانات الاستقبالية.
ولاسيما: ان مالك هذا العالم قد وعد مكرراً بما ايجاده عليه هيّن سهل يسير، ووجوده لخلقه وعباده مهمّ بلا نهاية، وغال بلا غاية. مع ان خُلف الوعد في غاية الضدية لعزّه اقتداره ومرحمة ربوبيته؛ اذ خُلفُ الوعد نتيجة الجهل اولاً والعجز آخراً. فخلف الوعد محال على العليم المطلق والقدير المطلق. فليس ايجاد الحشر بانقلاباته وبجنّاته بأعسر عليه من ايجاد الربيع بتحولاته وبجنانه. واما وعدُه سبحانه فثابت بتواتر كل الانبياء باجماع جميع الاصفياء. استمع قوة وعده سبحانه من هذه الآية :
(الله لا إلهَ الاّ هُوَ لَيَجمَعَنَّكُمْ الى يَومِ القيــمةِ لاريبَ فيهِ ومَنْ اَصْدقُ من الله حديثاً) 3 قُتلَ الانسانُ ما اكفره لايصدِّق حديث من هذه الموجودات كلماته الصادقة بالحق، وهذه الكائنات آياته الناطقة بالصدق؛ ويعتمد على

_____________________
1 القيامة : 36
2 السبد: ج اسباد: القليل من الشعر ، يقال : ماله سبد ولا لبد، اي لا شعر له ولا صوف ، يقال لمن لا شيء له (مجمع الامثال)
3 النساء : 87
المثنوي العربي النوري - ص: 98
هذيانات وهمِه وحماقات نفسِه واباطيل شيطانه، نعوذ بالله من الخذلان ومن شر النفس والشيطان..
ولاسيما: انا نشاهد في هذا العالم تظاهرات ربوبية محتشمة سرمدية، وآثار سلطنة مشعشعة مستقرة. وقس عظمة صاحب هذه الربوبية من كون هذه الارض بسكنتها كحيوان مسخّر مذلل تحت امره يحييها ويميت، ويربّيها ويدبّر. والشمس بسياراتها مسخرة منظمة بقدرته ينظمها ويدَوِّر، ويقدرها ويكوّر. مع ان هذه الربوبية السرمدية المستمرة والسلطنة المستقرة المحيطة بشهادة تصرفاتها العظيمة المحيّرة للعقول، لاتقومان على هذه الامور الزائلة الواهية المتبدلة السيّالة، ولاتبنيان على مثل هذه الدنيا الفانية المغيّرة المتخاذلة المنغّصة. بل لايمكن ان تكون هذه الدنيا في سرادقات هذه الربوبية الا كميدان بُنيت فيها منازل مؤقتة للتجربة والامتحان والتشهير والاعلان، ثم تُخرَّب وتبدل بقصور دائمة ويساق اليها الخلق. فبالضرورة لابدّ ان يوجد لربّ هذا العالم الفاني المتغير؛ عالمٌ آخر باقٍ مستقر. ومع ذلك قد اخبر كلُّ مَن ذهب من الظاهر الى الحقيقة من ذوي الارواح النيّرة والقلوب المنوّرة والعقول النورانية، ودخل في حضور قُربه سبحانه، انه اعدّ للمطيعين والعاصين دار مكافأة ومجازاة، وانه يَعِدُ وعداً قوياً ويوعد وعيداً شديداً، وهو اجلّ واقدس من ان يذلّ ويتذلّل بخلف الوعد، وأعلى واعزّ من ان يعجز عن انجاز الوعيد. مع ان المخبرين الذين هم الانبياء والاولياء والاصفياء متواترون، واهل اختصاص لمثل هذه المسألة وقد اجمعوا واتفقوا - مع تخالفهم في المسالك والمشارب والمذاهب - على هذا الإخبار الذي تؤيده الكائنات بآياتها. فهل عندك ايها الانسان حديثٌ اصدق من هذا الحديث؟ فهل يمكن ان يكون خبر اصدق من هذا الخبر وأحق؟.
ولاسيما: ان متصرف هذا العالم يُظهِر في كل وقت - يوماً وسنة وقرناً ودوراً - في ميدان الارض الموقت الضيّق كثيراً من امثال ذلك الميدان الاكبر الأوسع، ومن نموناته ومن اشاراته.. فان شئت فتأمل في كيفية إحياء الارض في الحشر الربيعي، كي ترى قريباً من ثلاثمائة الف حشر ونشر بكمال الانتظام في مقدار ستة ايام، وبكمال الامتياز والتشخيص مع غاية اختلاط تلك الاموات الغير المحصورة المشتبكة المنتشرة، متداخلة في صحيفة الارض!.. فمن يفعل هذا كيف يؤوده شئ؟..
المثنوي العربي النوري - ص: 99
وكيف لايخلق السموات والارض في ستة ايام؟.. وكيف لايكون حشر الانسان كلمح البصر بالنسبة اليه؟!..
نعم، مَن يكتب ثلاثمائة ألف كتاب قد انمحت حروفها في صحيفة واحدة معاً، ومختلطاً بلا غلط ولامرج ولامزج، كيف يعجز عن استـنـســاخ كتـاب عن حافظته - هو الّفـــه اولاً ثم محـاه - كتـابـــةً ثـانيــةً؟ فــان شئت فانـظر الى آيـــة:
(فَانظُر الى آثارِ رَحمَتِ الله كيفَ يُحييِ الارضَ بعدَ موتِها إنَّ ذَلِكَ لَمُحيي المَوتى وهوَ عَلى كلِّ شيءٍ قَديرٌ) 1 لترى في تلك الكيفية حقيقة هذا التمثيل. فيفهم من هذه التصرفات ويتحدس من هاتيك الشؤونات، ان ما يشاهَد من هذه الاجتماعات والافتراقات، ليست مقصودةً لذاتها، لعدم المناسبة بين تلك الاحتفالات المهمة وبين الثمرات الجزئية الفانية في زمان قصير!.. بل انما هي تمثيل وتقليد لتؤخذ صورُها، وتُركب وتحفظ نتائجُها، وتكتب لتدور المعاملة في المجمع الاكبر عليها، وتدوم المشاهدة في المحضر الاشهر بها؛ فتثمر هذه الفانيات صوراً دائمة واثماراً باقية ومعاني ابدية وتسبيحات ثابتة، فما هذه الدنيا الاّ مزرعة، والبيدر الحشر، والمخزنُ الجنة والنار.
ولاسيما: اذا اظهر ذلك الرب السرمدي والسلطان الازلي الابدي، في تلك المنازل الزائلة والميادين الآفلة والمشاهر الراحلة، آثار حكمة باهرة ماهرة، وعناية ظاهرة زاهرة، وعدالة عالية غالية، ومرحمة واسعة جامعة؛ بدرجة يعرف باليقين مَن لم يكن على عينه غين وفي قلبه رين، أنه ليس في الامكان اكمل من حكمته، واجمل من عنايته، واشمل من مرحمته، واجلّ من عدالته. فلو لم تكن في دائرة مملكته - في ملكه وملكوته - اماكن دائمة عالية، ومساكن قائمة غالية، وسواكن مقيمة خالدة، لتكون تلك الامور مظاهر لتظاهر حقائق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، للزم حينئذٍ انكار هذه الحكمة المشهودة لذي عقل، وانكار هذه العناية المبصرة لذي بصيرة، وانكار هذه الرحمة المنظورة لذي قلب، وانكار هذه العدالة المرئية لذي فكر؛ وللزم قبول كون صاحب هذه الافعال الحكيمة الرحيمة الكريمة العادلة.. حاشا، ثم حاشا!.. سفيهاً لعّاباً وظالماً غدّاراً، فيلزم انقلاب الحقائق
_____________________
1 الروم : 50
المثنوي العربي النوري - ص: 100
باضدادها. وهو محال باتفاق جميع اهل العقل غير السوفسطائي الذي ينكر وجود الاشياء، حتى وجود نفسه. فمن لم يصدّق فهو كالسوفسطائي، احمقَ من هبنقة المشهور الذي كان لايعرف الاّ نفسَه، ولايعرف نفسَه الاّ بقلنسوته، حتى اذا رآها على رأس أحد ظن انه نفسه!.. ففكرُ المنكِر كقلنسوة هذا!..
***
فيامن رافقني بفهمه من اول المسألة الى هنا! لاتظنّن انحصار الدلائل فيما سبق. كلا!.. بل يشير القرآن الحكيم الى مالايعد ولايحصى من امارات: ان خالقنا سينقلنا من هذا المشهر المؤقت الى مقرّ سلطنة ربوبيته الدائمة.. ويلوّح الى مالايحد ولايستقصى من علامات: أنه سيبدل هذه المملكة السيّالة السيارة بتلك المملكة المستمرة السرمدية..
وكذا لاتحسبنّ أنّ ما يقتضي الآخرة والحشر من الاسماء الحسنى، منحصرٌ على "الحكيم والكريم والرحيم والعادل والحفيظ". كلا، بل كل الاسماء المتجلية في تدبير الكائنات، تقتضيها بل تستلزمها.
الحاصل: ان مسألة الحشر مسألة قد اتفق عليها:
الحقُ سبحانه بجماله وجلاله وجميع اسمائه..
والقرآنُ المبين المتضمن لإجماع كل كتب الانبياء والاولياء والاصفياء..
واكملُ الخلق محمد الامين عليه الصلاة والسلام، الحامل لسرّ اتفاق ذوي الارواح النيّرة الصافية العالية، من الرسل والنبيين ومن اهل الكشف والصديقين..
وهذه الكائنات بآياتها، حتى ان لكلٍ من هذه الموجودات كلاً وجزءً وكلياً وجزئيا، وجهين:
فوجه؛ ينظر الى خالقه وفي ذلك الوجه ألسنةٌ كثيرة، تشهد وتشير الى الوحدانية..
المثنوي العربي النوري - ص: 101
ووجه آخر؛ ينظر الى الغاية والآخرة، وفي هذا الوجه ايضاً ألسنةٌ كثيرة تدل وتشهد على الدار الآخرة واليوم الآخر.
مثلا: كما تدل انت بوجودك في حُسن صنعةٍ، على وجوب وجود صانعك ووحدته.. كذلك تدل بزوالك بسرعة مع جامعية استعدادك الممتد آمالهُ الى الابد على الآخرة، فتأمل!..
وقد يتحد الوجهان. مثلا: ان ما يشاهد على كل الموجودات من انتظام الحكمة، وتزيين العناية، وتلطيف الرحمة، وتوزين العدالة، وحسن الحفظ؛ كما تشهد على الصانع الحكيم الكريم الرحيم العادل الحفيظ، كذلك تشير بل تصرح بحقانية الآخرة وبقرب الساعة وبتحقيق السعادة.
اللهم اجعلنا من اهل السعادة واحشرنا في زمرة السعداء وادخلنا الجنة مع الابرار بشفاعة نبيك المختار.
فصلّ عليه وعلى آله كما يليق برحمتك وبحرمته وسلّم وسلمّنا وسلم ديننا.
آمــيــن.
والحمد لله رب العالمين.
***

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM
المثنوي العربي النوري - لمعات عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 07:27 PM


الساعة الآن 12:05 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir