أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم إني أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً طيباً ، وعملاً متقبلاً           
العودة   منتديات البوحسن > الشريعة الغراء > المواضيع الاسلامية

إضافة رد
قديم 11-20-2014
  #1
عبد القادر الأسود
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبد القادر الأسود
 
تاريخ التسجيل: Feb 2010
المشاركات: 216
معدل تقييم المستوى: 15
عبد القادر الأسود is on a distinguished road
افتراضي فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 155

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
(155)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى ـ عَلَيهِ السَّلاَمُ ـ بِأَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَعْتَذِرُونَ إِليهِ عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَوَاعَدَهُمْ مَوْعِداً. فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلاً مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدُوا العِجْلَ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ. فقالوا: أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فأخَذَتهمُ الرَّجْفَةُ عِقاباً لهم عَلى قَولهم هذا، قيلَ: إنما أَخذتهم الرَجفةُ لِعبادتهمُ العِجْلَ أَوْ لِسُكوتهم على عبادتِهِ، ويحتَمَلُ أنْ تَكونَ رَجْفَةَ مَوْتٍ أَوْ إغْماءٍ، والأوَّلُ أَظْهَر لِقولِهِ تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم}. الآية: 56 سورة البقرة.
وهذه القصة أيْضاً مِنْ مَواقِعِ الموعِظَةِ والعِبْرَةِ بينَ العِبرِ المأخوذةِ مِنْ قِصَّةِ سيدنا موسى معَ بني إسرائيل، فإنَّ فيها عبرةٌ بِعَظَمَةِ اللهِ تَعالى ورحمتِهِ، ودُعاءِ مُوسى بما فيه جماعُ الخيراتِ.
وقد وقعَ اختيارُ موسى هذا عندما أَمَرَهُ اللهُ بالمجيءِ للمُناجاةِ التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} سورة الأعراف: 142. فقد جاءَ في سفر الخروج من التَوراةِ الإصحاح الرابع والعشرين: أنَّ اللهَ أَمَرَ موسى ـ عليه السلامُ ـ أَنْ يَصْعَدَ طُورَ سِيناءَ هُوَ وهارونَ و ناداب و أبيهو و يَشوع وسَبْعونَ مِنْ شيوخِ بَني إسْرائيلَ، ويَكونَ شُيوخُ بني إسرائيلَ في مَكانٍ مُعينٍ مِنَ الجبلِ ويَتقدم موسى حتى يَدْخُلَ في السَّحابِ لِيَسْمَعَ كلامَ اللهِ، وأَنَّ اللهَ لمَّا تجلَّى للجبلِ ارْتجَفَ الجبلُ ومَكَثَ مُوسى أَربعين يوماً. وجاءَ في الإصحاح، الثاني والثلاثين والذي بعدَه، بعدَ ذِكْرِ عبادَتهمُ العِجلَ وكَسْرِ الأَلْواحِ، أَنَّ اللهَ أَمَرَ مُوسى بأنْ يَنْحِتَ لَوْحَين مِنْ حَجَرٍ مِثْلَ الأَوَّلين لِيَكْتُبَ عليهما الكَلِماتِ العَشْرِ المكتوبَةِ على اللَّوحَين المُنْكَسِريْن، وأنْ يَصْعَدَ إلى طُورِ سيناءَ، وذُكِرتْ صِفَةُ صُعودٍ تُقارِبَ ا لصِفَةَ التي في الإصْحاحِ الرابعِ والعِشْرين، وأنَّ اللهَ قالَ لموسى مَنْ أَخْطأَ أَمحوهُ مِنْ كِتابي، وأَنَّ مُوسى سَجَدَ للهِ تَعالى واسْتَغْفَرَ لِقَوْمِهِ قِلَّةَ امْتِثالهم، وقالَ فإنْ غَفَرْتَ خَطيئَتَهم وإلاَّ فامْحُني مِنْ كِتابِكَ. وجاءَ في الإصْحاحِ التاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَثْنِيَةِ: أَنَّ مُوسى لما صَعِدَ الطُورَ في المناجاةِ الثانيةِ صامَ أَرْبَعينَ يَوْماً وأَرْبَعينَ لَيْلَةً لا يَأْكُلُ طَعاماً ولا يَشْرَبُ ماءً اسْتِغْفاراً لخطيئةِ قَوْمِهِ، وطَلَباً للعفْوِ عَنْهم. فتبيَّنَ مما في التوراةِ أَنَّ اللهَ جَعَلَ لِموسى مِيقاتَيْنِ للمُناجاةِ، وأَنَّهُ اخْتَارَ سَبعينَ رَجُلاً للمُناجاةِ الأُولى، ولم تَذْكُرِ التوراةُ اختيارَهم للمُناجاةِ الثانيةِ. ولما كانتِ المناجاةُ الثانيةُ كالتَكْمِلَةِ للأُولى تَعَيَّنَ أَنَّ موسى اسْتَصْحَبَ مَعَهُ السَبْعينَ المُختارين، ولذلكَ وَقَعَتْ فيها الرَّجْفَةُ مِثلَ المَرَّةِ الأُولى، ولم يَذْكُرِ القُرآنُ الكريمُ أَنَّ الرَجفَةَ أَخَذَتْهم في المرَّةِ الأُولى، وإنَّما ذَكَرَ أَنَّ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ خَرَّ صَعِقاً، ويَتَعَيَّنُ أَنْ يَكونَ السَبْعونَ قَدْ أَصابَهم ما أَصابَ مُوسى لأنَّهم كانوا في الجَبَلِ أَيْضاً، وذَكَرَ الرَجْفَةَ في المرَّةِ الثانيةِ ولم تَذْكُرْها التَوراةُ. والضَميرُ في أَخَذَتهمُ الرَجفةُ للسبعينَ. فالظاهرُ أَنَّ المُرادَ في هذِهِ الآيةِ هُوَ حِكايةُ حالِ مِيقاتِ المُناجاةِ الثانيةِ التي وقعَ فيها الاستِغفارُ لِقَوْمِهِ، وأَنَّ الرَجْفَةَ المَحْكِيَّةَ هُنا رَجْفَةٌ أَخذَتْهم مِثْلَ الرَجْفةِ التي أَخَذَتْهم في المناجاةِ الأُولى، لأنَّ الرَجْفَةَ تَكونُ مِنْ تَجَلِّي أَثَرٍ عَظيمٍ مِنْ آثارِ الصِفاتِ الإلهيَّةِ، كما تَقَدَّمَ بيانُهُ، فإنَّ قولَ مُوسى: "أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا" يُؤذِنُ بِأَنَّهُ يَعْنى بِهِ عِبادَتَهمُ العِجْلَ، وحُضورَهم ذلك، وسُكوتَهم، وهو المعنيُّ بقولِهِ: "إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ"، وقدْ خَشِيَ مُوسى أَنَّ تلكَ الرَّجفةَ مُقدِّمَةُ عذابٍ، كما كانَ سيدُنا محمَّدٌ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ يخشى الرِيحَ أَنْ تَكونَ مَبْدَأَ عَذابٍ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ ذَلكَ في المُناجاةِ الأُولى، وأَنْ يكون عنى بقولِهِ: "بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا" ما صَدَرَ مِنْ بَني إسرائيلَ مِنْ تَصَلُّبٍ قبلَ المُناجاةِ، كَما حكى في الآية: 61 من سورة البقرة، قوْلَهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}، وسُؤالَهم رُؤْيَةَ اللهِ تعالى. لَكِنِ الظاهِرَ أَنَّ مِثلَ ذَلكَ لا يُطلَقُ عليه "فَعَلَ" في قوله: "بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا". والحاصِلُ أَنَّ مَوْضِعَ العِبْرَةِ في هذِهِ القِصَّةِ هُوَ تَوَقِّي غَضَبَ اللهِ، وخَوفُ بَطْشِهِ، ومَقامُ الرُسُلِ ـ عليهم صَلَواتُ الله وسلامُه ـ مِنَ الخَشيَةِ، ودُعاءُ مُوسى، الخ.
والميقاتُ الأَوَّلُ، وهو المِيقاتُ الكَلامِيُّ، قالوا: إنَّه ـ عليه السلامُ ـ اختارَ لِذلِكَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ سِتَّةً حتّى تَتَامُّوا اثنين وسَبْعين، فقالَ ـ عليه السلامُ: لِيَتَخَلَّفْ مِنْكُمْ رَجُلانِ فَتَشاحُّوا، فقالَ: لِمَنْ قَعَدَ مِنْكُمْ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَرَجَ، فقَعَدَ كالِبُ ويُوشَعُ. ورُوِيَ أَنَّهُ لمْ يُصِبَ إلاَّ سِتينَ شَيْخاً فأَوْحَى اللهُ تَعالى إليه أَنْ يَختارَ مِنَ الشُبّانِ عَشَرَةً، فاخْتارَهم فأَصْبَحوا شُيوخاً. وقِيلَ: كانوا أبناءَ ما عَدا العِشرينَ ولمْ يَتَجاوَزِ الأَرْبَعين، فَذَهَبَ عَنْهمُ الجَهْلُ والصِبا فأَمَرَهم موسى ـ عليه السلام ـ أَنْ يَصوموا ويَتَطَهَّروا ويُطَهِّروا ثِيابَهم ثمَّ خَرَجَ بهم إلى طُورِ سِيناءَ فلَمَّا دَنا مِنَ الجَبَلِ وَقَعَ عَليْه عَمودُ الغَمامِ حَتّى تَغَشّى الجَبَلَ كُلَّهُ ودَنا مُوسى ودَخَلَ فِيهِ، وقالَ للقومِ: ادْنُوا فَدَنَوا حتّى إذا دَخَلوا الغَمامِ وَقَعُوا سُجَّداً فَسَمِعوهُ ـ سبحانَه ـ يُكلِّمُ مُوسى، يَأْمُرُهُ ويَنْهاهُ: افْعَلْ ولا تَفْعَلْ ثمَّ انْكَشَفَ الغَمامُ فأَقْبَلوا إليْه فَطَلَبُوا الرُؤْيَةَ فوَعَظَهم وكانَ ما كانَ. وذَهَبَ آخرونَ وهُوَ المَرْوِيُّ عَنِ الحَسَنِ البصريِّ ـ رضي الله عنه ـ إلى أَنَّ هذا غيرُ الميقاتِ الأَوَّلِ وإنَّ اللهَ ـ سبحانَه ـ أَمَرَ مُوسى ـ عليه السَّلامُ ـ أنْ يَأْتِيَهُ في أُناسٍ مِنْ بَني إسرائيلَ يَعْتَذِرونَ إليْهِ مِنْ عِبادَةِ العِجْلِ، فاختارَ مَنِ اخْتارَهُ، فلمَّا أَتَوا الطُورَ قالوا ما قالوا، ورُويَ ذلك عَنِ السُدِّيِّ، وعَنِ ابْنِ إسْحاقَ وأنَّهُ ـ عليه السلامُ ـ إنَّما اخْتارَهم لِيَتوبوا إلى اللهِ تعالى ويَسْأَلوهُ التوبةَ لمن تَرَكوا وراءَهم مِنْ قومِهم. ورَجَّحَ ذلك الطِيبيُّ مُدَّعِياً أَنَّ الأوَّلَ خِلافَ نَظْمِ الآياتِ وأَقْوالِ المُفَسِّرين. أَمَّا الأوَّلُ فلَمّا ذَكَرَ تعالى قِصَّةَ مِيقاتِ الكَلامِ وطَلَبِ الرُؤْيَةِ ثمَّ أَتْبَعَها بِقِصَّةِ العِجْلِ، وما يَتَّصِلُ بها، فظاهرُ الحالِ أَنْ تَكونَ هذِه القِصَّةُ مُغايِرَةً للمُتَقَدِّمَةِ، إذْ لا يَليقُ بالفَصاحَةِ ذِكْرُ بَعْضِ القِصَّةِ ثمَّ النَّقْلُ إلى أُخْرى، ثمَّ الرُّجوعُ إلى الأُولى، وإنَّهُ اضْطِرابٌ يُصانُ عَنْهُ كلامُهُ تَعالى. وأَيْضاً ذِكْرُ بَعْضِ القِصَّةِ ثمَّ النقلُ إلى أُخرى، ثمَّ الرُجوعُ إلى الأُولى، وإنَّهُ اضْطِرابٌ يُصانُ عَنْه كلامُهُ تَعالى، وأيضاً ذَكَرَ في الأُولى خُرورَ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ صَعِقاً، وفي الثانيةِ قولُهُ بعدَ أَخْذِ الرَّجْفَةِ: "لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم من قبلُ وإيّايَ"، وأَيْضاً لو كانتِ الرَّجْفَةُ بِسَبَبِ طَلَبِ الرُؤْيَةِ لَقيلَ: أَتُهْلِكُنا بما قالَ السُفهاءُ ولمَا قالوا "أتُهلِكُنا بما فعلَ السفهاء" وأَنَّهُ تَعالى حيثُ ذَكَرَ صاعِقَتَهم لم يَذْكُرْ صَعْقَ مُوسى ـ عليه السلام ـ وبالعَكْسِ، فَدَلَّ على التَغايُرِ، وأمَّا الثاني فلِما نُقِلَ عَنِ السُدّيِّ مما ذُكِرَ آنِفاً، وتُعُقِّبَ ما ذُكِرَ في التَرْجيحِ أَوّلاً بأنَّ الإنِصافَ أَنَّ المجموعَ قِصَّةٌ واحدةٌ في شأنِ ما مَنَّ اللهُ تعالى به على بَني إسرائيلَ بعدَ إنجائهم، مِنْ تحقيقِ وَعْدِ إيتاءِ الكِتابِ وضَرْبِ مِيقاتِهِ، وعبادةُ العِجلِ وطَلَبُ الرُؤْيَةِ كان في تلكَ الأيّامِ، وفي ذَلِكَ الشَأْنِ فإنَّ بَعْضَ القِصَّةِ مَربوطٌ ببعضٍ. بَقيَ إيثارُ هذا الأُسلوبِ وهُوَ بَيِّنٌ لأنَّ الأوَّلَ في شَأْنِ الامْتِنانِ عَليهِمْ وتَفضيلِهم، فقد عَطفَ {واعدنا} الأعراف: 142 على {أنجيناكم} الأعرافَ: 141 وبَيّنَ أَنَّهُ تَبْيينٌ للتَفْضيلِ، وتَعقيبُ حديثِ الرُؤْيَةِ مُسْتَطْرَدٌ للفرقِ بَين الطَلَبين عندنا، ولِيُلَقِّمَهم الحَجَرَ عندَ المعتزلة. أمّا الثاني ففي شأنِ جِنايَتِهم بَعدَ ذلك الإحْسانِ البالِغِ بأنِ اتِّخذوا العِجْلَ، والمُلاحَّةُ والافْتِراقُ مِنْ لَوازِمِ النَّظْمِ، وتُعُقِّبَ ما ذُكِرَ فيه ثانياً بِأَنَّ قولَ السُدّيِّ وحدَهُ لا يَصْلُحُ رَدّاً، كيفَ وهذا يُخالِفُ ما نُقِلَ في قولِهِ سُبحانَه: "لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم" من أنهم كانوا لَهُ وُزَراءَ مُطيعين، فاشْتَدَّ عَلَيْهَ ـ عليه السلام ـ فَقْدُهُم، فَرَحِمَهم، وخافَ عليهِمُ الفَوْتَ، وأَيْنَ {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} البقرة: 55. مِنَ الطاعَةِ وحُسْنِ الاسْتِئْزارِ؟! قالَ: ثمَّ إنَّ الظاهرَ مِنْ قولِهِ تَعالى في سورة النساء: {فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجلَ} الآية: 153. أنَّ اتخاذَ العِجْلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَقالَتِهم تِلْكَ، بخلافِ ما نُقِلَ عَنِ السُدِّيِّ، والحَمْلُ عَلى تَراخي الرُتْبَةِ لا بُدَّ لَهُ مِنْ سَنَدٍ، ولا بُدَّ مِنْ دليلٍ يَخُصُّهُ بِهِ. هذا وَقَدِ اعْتَرَفَ المُفَسِّرونَ في سُورَةِ طَهَ بأنَّهُ اخْتَارَ سَبعين لَميقاتِ الكَلامِ، ذَكروهُ عندَ قولِهِ تَعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يا موسى} سورة طه، الآية: 83. وما قاله الطِيبيُّ بأنَّ اختيارَ السبعينَ كانَ مرَّتَيْنِ، ولَيس في النقلِ أَنَّهم كانوا مَعَهُ عِنْدَ المُكالَمَةِ وطَلَبِ الرُؤْيَةِ، فظهَرَ سُقوطُه.
وذُكِرَ في توهين ما نُقِلَ عَنِ السُدِّيِّ بأنَّ الخُروجَ للاعْتِذارِ، إنْ كان بعدَ قتلِ أَنْفُسِهم ونًزولِ التَوبَةِ فلا مَعنى للاعْتِذارِ، وإنْ كانَ قبلَ قَتْلِهم فالعَجَبُ مِنِ اعْتِذارٍ ثمرَتُهُ قَتْلُ الأَنْفُسِ، ولا ريبَ أَنَّها قِصَّةٌ واحدةٌ تَتَكَرَّرُ في القُرآنِ يُذْكَرُ في سورةٍ بعضُها، وفي أُخْرى بَعْضٌ أَخَرُ، وليسَ ذَلَكَ إلاَّ لِتَكْرارِ اعْتِبارِ المُعْتَبِرينَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلكَ القِصَّةِ، فإذا جازَ ذِكْرُ قِصَّةٍ في سُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ في كُلِّ سورةٍ شيءٌ مِنها، فلِمَ لا يَجوزُ ذلك في مَواضِعَ مِنْ سُورَةٍ واحدةٍ لِيَتَكَرَّرَ الاعْتِبارُ، وهو ظاهرٌ في تَرْجيحِ ما ذَهَبَ إليْهِ الأَوَّلون، وإنَّ القولَ بِأَنَّ هذا الميقاتَ هو الميقاتُ الأوَّلُ ليسَ بِعاطِلٍ مِنَ القولِ، وبِهِ قالَ جمعٌ، كَما أَشَرْنا إليه، وإلى القولِ بأنَّ القصةَ غيرها ذَهَبَ جُلٌّ مِنَ المُفَسِّرين. فقد أَخْرَجَ عَبدُ بْنِ حميدٍ مِنْ طريقِ أَبي سَعْدٍ عَنْ مُجاهِد أنَّ مُوسى ـ عليه السلام ـ خَرَجَ بالسّبْعينَ مِنْ قومِهِ يَدْعونَ اللهَ تَعالى ويَسْألونَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمُ البَلاءَ فلَمْ يَسْتَجِبْ لهم، فعَلِمَ مُوسى أَنَّهم أَصابوا مِنَ المَعْصِيَةِ ما أَصابَ قومُهم، قال أبو سَعدٍ: فحَدَّثني محمَّدُ بْنُ كعبٍ القرَظِيُّ أَنَّه لم يُسْتَجَبْ لهم مِنْ أَجْلِ أَنَّهم لم يَنْهَوْهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ولم يَأْمُروهُمْ بالمَعروفِ. وأخرجَ أيضاً عَنِ الفَضْلِ بْنِ عيسى بْنِ أَخِي الرَقاشِي أَنَّ بَني إسرائيلَ قالوا ذاتَ يَوْمٍ لموسى ـ عليه السلام ـ أَلَسْتَ ابْنَ عَمِّنا ومِنَّا وتَزْعمُ أَنَّكَ كَلَّمتَ رَبَّ العِزَّةِ؟ فإنَّا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى اللهَ جَهْرَةً، فلمّا أَبَوا إلاَّ ذلك أَوْحى اللهُ تَعالى إلى مُوسى أَنِ اخْتَرْ مِنْ قومِكَ سَبْعينَ رَجُلاً فاختارَ سَبْعين خِيرةً، ثمَّ قالَ لهم: اخْرُجوا، فلمَّا بَرَزوا جاءهم ما لا قِبَلَ لهمْ بِهِ، الخَبَرَ. وهُو ظاهرٌ في أنّ هذا الميقاتَ ليسَ هُوَ الأوَّل. نَعَمْ إنَّهُ مُخالِفٌ لِما رُوِيَ عَنِ السُدّيِّ لَكنَّهُما مُتَّفِقانِ على القولِ بالغَيْرِيَّةِ ويُوافِقُ السُدّيَّ في ذلك الحَسَنُ أَيْضاً فلَيْسَ هُو مُتفرداً بذلك كما ظنَّه بعضُهم، وما ذَكَرَهُ مِنْ مُخالفةِ كلامِ السُدِيِّ لِما نَقَلَهُ مُحْيي السُنَّةِ في حَيِّزِ المَنْعِ، وقولُه: فإنَّا لَنْ نُؤمِن لكَ الخ. يَظهَرُ جوابُه مما ذَكَرْناهُ في البَقرَةِ عِنْدَ هذِهِ الآيةِ مِنَ الاحْتمالات، والقولُ بأنَّ الاخْتِيارَ كانَ مَرَّتينِ غيرُ بَعيدٍ وبِهِ قالَ بعضُهم، وما ذُكِرَ مِنَ التَرَدُّدِ في الخروجِ للاعْتِذارِ ظاهرُ بعضِ الرِواياتِ عنِ السُدِّيِّ يقتضي تَعيُّنَ الشِقِّ الأَوَّلِ مِنْه. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنْهُ أَنَّه قال: انْطَلَقَ مُوسى إلى ربِّهِ فَكَلَّمَهُ، فلمَّا كَلَّمَهُ قال: {مَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يا موسى} سورة طه، الآية: 83، فأجابَه مُوسى بما أَجابَهُ، فقال سبحانَهُ: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} سورة طه، الآية: 85. فرجَعَ موسى إلى قومِهِ غَضْبانَ أَسِفاً فأبى اللهُ تَعالى أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهم إلاَّ بالحال التي كَرِهوا فَفَعلوا، ثمَّ أَمَر اللهَ تَعالى نبيَّه موسى ـ عليه السلام ـ أَنْ يَأْتِيَهُ في ناسٍ مِنْ بَني إسرائيلَ يَعْتَذِرونَ مِنْ عِبادَةِ العِجْلِ فوَعَدَهم مَوْعِداً فاخْتارَ مُوسى سَبْعينَ رَجُلاً .. الخ. وهو كما تَرى ظاهرٌ فيما قُلناهُ. والقولُ بأنَّهُ لا مَعنى للاعتِذارِ بعدَ قتْلِ أَنْفُسِهم ونُزولِ التَوْبَةِ، أُجيبَ عَنْهُ بأنَّ المعنى يَحْتَمِلُ أنْ يَكونَ طَلَباً لِزِيادَةِ الرِضى، واسْتِنْزالِ مَزيدِ الرَحمةِ، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكونوا أُمِروا بِذلكَ تَأْكيداً للإيذانِ بِعِظَمِ الجِنايَةِ وزِيادَةً فيه وإشارةً إلى أَنَّه بَلَغَ مَبْلَغاً في السُوءِ لا يَكْفي في العفوِ عَنْه قتلُ الأَنْفُسِ، بَل لا بُدَّ فِيهَ مَعَ ذَلِك الاعْتِذارِ، ويُمكنُ أُنْ يُقالَ إنّهُ كانَ قبلَ قَتْلِهم أَنْفُسَهم: والسِرُّ في أَنَّهم أُمِروا بِهِ أَنْ يَعْلَموا أَيْضاً عِظَمَ الجِنايَةِ عَلى أَتَمِّ وَجْهٍ بِعدَمِ قَبولِهِ واللهُ تَعالى أَعْلَم.
قولُهُ: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة} أَيْ الصاعقةُ أَوْ رَجْفَةُ الجَبَلِ فَصُعِقوا مِنْها والكثيرُ عَلى أَنَّهم ماتوا جميعاً ثمَّ أَحْياهُمُ اللهُ تَعالى. وقيلَ: غُشِيَ عَليهم ثمَّ أَفاقوا وذَلكَ لأنَّهم قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} سورة البقرة، الآية: 55. على ما في بَعْضِ الرِواياتِ، أَوْ لِيَتَحَقَّقَ عِنْدَ القائلينَ ذَلِكَ مِنْ قومِهمْ مَزيدُ عَظَمَتِهِ ـ سبحانه ـ على ما في بعضِ الرواياتِ الآخَرِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ التَأْديبِ على ما في خَبَرِ كعبٍ القرَظِيِّ، وقد تقدَّم. والظاهرُ أَنَّ قولَهم: "لن نؤمن ..الخ" صَدَرَ مِنْهم في ذلك المكان، لا بَعْدَ الرُجوعِ، كما قيل، وحينئذٍ يَبْعُدُ القولُ بأنَّ هذا الميقاتَ هُوَ الميقاتُ الأوَّلُ لأنَّ فيهِ طَلَبُ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ الرُؤيةَ بَعدَ كلامِ اللهَ تَعالى لَهُ مِنْ غيرِ فَصلٍ على ما هُو الظاهِرُ، وبَعيدٌ أنْ يَطْلُبوا ذَلك بعدَ أَنْ رَأَوْا ما وَقَعَ لِنبيِّهم موسى ـ عليه السلام. وما أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي الدُنيا، وابْنُ جَريرٍ وغيرُهما عَنْ أميرِ المؤمنينَ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ وجهَهُ ـ أَنَّهُ قال: (لمّا حَضَرَ أَجَلُ هارونَ، أَوْحى اللهُ تَعالى إلى موسى أَنْ اْنطَلِقْ أَنْتَ وهارونَ وابْنُه إلى غارٍ في الجَبَلِ فإنَّا قابِضُو رُوحَهُ. فانْطَلَقوا جميعاً فدَخَلوا الغارَ، فإذا سَريرٌ فاضْطَّجَعَ عليه موسى ثمَّ قامَ عَنْهُ فقالَ: ما أَحْسَنَ هذا المكانَ يا هارونُ فاضْطَّجَعَ عليْهِ هارونُ فَقُبِضَ رُوحُهُ، فرَجَعَ مُوسى وابْنُ أَخيهِ إلى بني إسرائيلَ حَزينَيْنِ فقالوا له: أَيْنَ هارونُ؟: قالَ مات. قالوا: بَلْ قَتَلْتَهُ، كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّا نُحِبُّهُ. فقال لهم: ويْلَكم أَقْتُلُ أَخي وقد سألتُهُ اللهَ تَعالى وزَيراً؟! ولو أنّي أَرَدْتُ قَتْلَهُ، أَكانَ ابْنُهُ يَدَعُني؟!. قالوا بَلى: قَتَلْتَهُ حَسَداً، قالَ: فاخْتاروا سَبْعين رَجُلاً فانْطَلَقَ بهم فمَرِضَ رَجُلانِ في الطَّريقِ فَخَطَّ عليهِما خَطّاً فانْطَلَقَ هو وابْنُ هارون. وبَنو إسرائيلَ حتى انْتَهَوا إلى هارونَ، فقالَ موسى: يا هارونُ مَنْ قَتَلَكَ؟ قال: لم يَقْتُلْني أَحَدٌ ولَكِنّي مِتُّ، قالوا: ما تُعْصى يا مُوسى، ادْعُ لَنا رَبَّكَ يَجْعَلْنا أَنْبِياءَ فأَخَذَتْهُمُ الرَجْفَةُ، فَصُعِقوا وصُعِقَ الرَجُلانَ اللذانِ خُلِّفوا، وقامَ موسى ـ عليه السلامُ ـ يَدْعو رَبَّهُ فأَحْياهمُ اللهُ تَعالى، فَرَجَعوا إلى قومِهمْ أَنْبِياءَ). وهذا النقلُ عن سيدنا علي، لا يََكادُ يَصِحُّ لتظافُرِ الآثارِ بِخِلافِهِ، وظاهِرُ الآياتِ يأباه.
قولُه: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} فَلَمَّا أَتَوُا المَكَانَ المَوْعُودَ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ عِيَاناً وَجَهْرَةً، فَأَنْتَ كَلَّمَتُهُ فَاجْعَلْنَا نَرَاهُ. فأخَذتهمُ الرجفة.
قولُهُ: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا، كَمَا جَاءَ فِي آيةِ أُخْرَى، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللهَ تَعَالى وَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلى المِيقَاتِ وَأَهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ، لِيَرَى ذلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلاَ يَتَّهِمُونِي بِقَتْلِهِمْ، "قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ" عَرْضٌ للعَفْوِ السابِقِ لاسْتِجلاب العَفْوِ اللاحِقِ، يَعني أَنَّك قَدرتَ على إهلاكهم قبلَ ذلك بِحَمْلِ فِرْعونَ على إهْلاكِهِمْ وبإغراقِهم في البحرِ وغيرِهِما، فَتَرَحَّمْتَ عَلَيْهم ولم تُهْلِكْهُم فارْحَمْهم الآنَ كما رحِمْتَهم مِنْ قبلُ جَرْياً على مُقتَضى كَرَمِكَ، وإنَّما قال: "وإياي" تَسليماً منهُ وتَواضُعاً. وقيلَ: أَرادَ بِقولِهِ: "أَهلكتهم مِنْ قَبْلُ" حينَ فَرَّطُوا في النَّهيِ عَنْ عِبادَةِ العِجْلِ، وما فارقوا عَبَدَتَهُ حين شاهدوا إصْرارَهم عَلَيْها، أي: لو شِئْتَ إهْلاكَهم بِذُنوبِهم إذْ ذاكَ، وإيايَ أَيْضاً حين طَلَبْتُ مِنْكَ الرُؤْيَةَ، وقيل: حين قَتَلَ القُبْطِيَّ، وقيل: هو تَمَنٍّ منْهُ ـ عليهِ السلامُ ـ للإهلاكِ جميعاً بِسَبَبِ مَحَبَّتِهِ أَنْ لا يَرى ما يَرى مِنْ مُخالَفَتِهم لَهُ ـ مَثَلاً ـ أوْ بِسَبَبٍ آخَرَ.
قولُهُ: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} فَلاَ تُهْلِكُنَا يَا رَبِّ بِمَا فَعَلَهُ الجُهَّالُ مِنَّا، مِنْ عنادٍ وسوءِ أَدَبٍ، أوْ مِنْ عِبادَةِ العِجْلِ، والهمزةُ إمَّا لإنْكارِ وُقوعِ الإهْلاكِ ثِقَةً بِلُطْفِ الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أوْ للاسْتِعْطافِ، أيْ لا تُهْلِكنا، وقولُ بَعضِهم: كان ذلك ما قالَه بعضُهم غيرُ ظاهرٍ ولا داعي إليه، والقولُ بأنَّ الداعيَ ما فيه مِنَ التَضَجُّرِ الذي لا يَليقُ بِمقامِ النُبُوَّةِ ولا يخفى ما فيه، ولَعَلَّ مُرادَ القائلِ بِذلكَ أَنَّ هذا القولَ مِنْ مُوسى عليه السلام ـ يُشْبِهُ قَوْلَ أَحَدِ السبعين فكأنَّه قالَهُ على لِسانِهم لأنَّهم الذين أُصيبوا بما أُصيبوا بِهِ.
قولُهُ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} فَمَا مِحْنَةُ عِبَادَةِ العِجْلِ إِلاَّ ابْتِلاءٌ مِنْكَ وَفِتْنَةٌ أَضْلَلْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ إِضْلاَلَهُ مِمَّنْ سَلَكُوا سَبِيلَ الغوَايةِ، وَهَدَيْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ هِدَايَتَهُ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وهو استئنافٌ مُقرِّرٌ لما قبلَهُ واعْتِذارُ عَمَّا وَقَعَ منهم، و "إنْ" نافيةٌ للفِتْنَةِ المعلومةِ في السياق، أيْ: وما الفتنةُ إلاَّ فِتْنَتُك، أيْ مِحنَتُك، وابِتلاؤك حيثُ أَسمعتَهم كلامَكَ فَطَمِعوا في رُؤْيَتِكَ واتَّبَعوا القَياسَ في غيرِ مَحلِّهِ، أَوْ أَوْجَدْتَ في العِجْلِ خُواراً فزاغُوا به.
أخرجَ ابنُ أَبي حاتمٍ عن راشدٍ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ اللهَ تَعالى لمَّا قالَ لموسى ـ عليه السلام: إنَّ قومَكَ اتَّخَذوا عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ قال: يا رَبِّ فمَنْ جَعَلَ فيهِ الرُوحَ؟ قالَ: أَنَا. قال: فأَنْتَ أَضبَبْتَهم يا رَبُّ. قالَ: يا رأسَ النَّبِيّينَ يا أَبا الحُكَماءِ إني رَأَيْتُ ذلكَ في قُلوبهم فَيَسَّرْتُهُ لهم. ولَعلَّ هذا إشارةٌ إلى الاستعدادِ الأَزَلِيِّ. وقيلَ: الضميرُ راجعٌ على الرَجْفَةِ، أي: ما هي إلاَّ تشديدُك التَعَبُّدَ والتَكليفَ عَلينا بالصَبرِ على ما أنزلتَه بِنَا، ورُوي هذا عَنِ الرَبيعِ. وابْنِ جُبَيرٍ. وأَبي العاليةَ، وقيلَ: الضميرُ لَمَسْأَلَةِ الإراءةِ وإنْ لم تُذْكَرْ.
قولُه: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء} اسْتِئْنافٌ مُبَيِّنٌ لِحُكْمِ الفِتْنَةِ، وقيل: حالٌ مِنَ المُضافِ إليْهِ أَوِ المُضافِ، أيْ تُضِلُّ بِسَبَبِها مَنْ تَشاءُ إضْلالَهُ بالتَجاوُزِ عَنِ الحَدِّ أَوْ باتِّباعِ المَخايِلِ أوْ بِنَحْوِ ذلك، وتُهْدي مَنْ تَشاءُ هُداهُ فَيَقْوى بِها إيمانُهُ، وقِيلَ: المعنى تُصيبُ بهذِهِ الرَجْفَةِ مَنْ تَشاءُ وتَصْرِفُها عَمَّنْ تَشاءُ، وقيلَ: تُضِلُّ بِتَرْكِ الصَبْرِ على فِتْنَتِكَ وتَرْكِ الرِضا بها مَنْ تَشاءُ عَنْ نَيْلِ ثوابِكَ ودُخولِ جَنَّتِكَ، وتُهدي بالرِضا لَها والصَبْرِ عَلَيْها مَنْ تَشاءُ.
قولُهُ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} "أَنتَ وَلِيُّنَا" أيْ: أَنْتَ القائمُ بأُمورِنا الدُنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ لا غيرُك، "فاغفر لَنَا" ما يَتَرَتَّبُ عَليْهِ مُؤاخَذَتُكَ، "وارْحمنا" بإفاضَةِ آثارِ الرَّحمةِ الدُنْيِويَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ عَلَيْنا، والفاءُ لِتَرتيبِ الدُعاءِ على ما قبلَهُ مِنَ الوِلايَةِ، لأنَّ مِنْ شأنِ مَنْ يَلي الأُمورَ ويَقومُ بها، دَفْعُ الضُرِّ وجَلْبُ النَّفْعِ، وقدَّمَ طَلَبَ المَغْفِرَةِ على طَلَبِ الرَّحمةِ لأنَّ التَخْلِيَةَ أَهَمُّ مِنَ التَحْلِيَةِ، وسُؤالُ المَغفِرَةِ لِنَفْسِهِ ـ عليه السلام ـ في ضِمْنِ سُؤالِها لِمَنْ سَأَلَها لَهُ، مما لا ضَيْرَ فيهِ وإنْ لمْ يَصْدُرْ مِنْهُ نَحْوُ ما صَدَرَ مِنْهُ كَما لا يَخْفى، والقَوْلُ بِأَنَّ إقدامَهُ ـ عليه السلام ـ على أَنْ يَقولَ: "إِنْ هِي إِلاَّ فِتْنَتُكَ" جُرْأَةٌ عَظيمةٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللهِ تَعالى غُفْرانَها والتَجاوُزَ عَنْها ممّا يَأباهُ السَّوقُ عِنْدَ أَرْبابِ الذّوْقِ، ولا أَظُنُّ أَنَّ اللهَ تَعالى عَدَّ ذَلكَ ذَنْباً مِنْهُ لِيَسْتَغْفِرَه عَنْه، وفي نِدائهِ السابِقِ ما يُؤيِّدُ ذَلك، "وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين" إذ كُلُّ غافرٍ سِواك إنَّما يَغْفِرُ لِغَرَضٍ نَفْسانِيٍّ كَحُبِّ الثَناءِ، ودَفْعِ الضَرّاءِ، أما أنتَ فتَغفِرُ لا لِطَلَبِ عِوَضٍ ولا لغَرَضٍ بَلْ لمحضِ الفَضْلِ والكَرَمِ. والجملةُ اعتراضٌ تَذْييلِيٌّ مُقَرِّرٌ لما قبلَه. وتخصيصُ المَغْفِرَةِ بالذِكْرِ لأنها الأَهَمّ.
قوله تعالى: {واختار موسى} اختار: يَتَعدَّى لاثنين الأوّلُ يتعدى إليه بنفسه والثاني يتعدَّى إليه بحرف جرٍّ، ويجوز حَذْفُه، تقول: اخترت زيداً من الرجال، ثم تَتَّسِعُ فتحذف "مِنْ" فتقول: زيداً الرجال. قال:
اخْتَرْتُكَ الناسَ إذ رثَّتْ خلائِقُهُمْ...واعتلَّ مَنْ كان يُرجى عنده السُّؤلُ
وقال الراعي:
فقلْتُ له اخترها قَلوصاً سمينة .......... ونابٌ علينا مثل نابِكَ في الحيا
وقال الفرزدق:
منا الذي اختير الرجالَ سماحةً ....... وجوداً إذا هَبَّ الرياح الزعازعُ
وهذا النوعُ مقصورٌ على السماع، حَصَره النحاة في ألفاظ، وهي: اختار وأَمَر كقولِ عَمْرٍو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ الزُّبَيْدِي:
أمَرْتٌكَ الخيرَ فافعلْ ما أُمِرتَ به ........ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ
واستغفر كقولِ الفرزدق:
أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ محصيَه ........... ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ
وسمَّى نحو: سَمَّيْتُ ابني بزيد، وإن شئت: زيداً. و "دعا" بمعناه قال:
دَعَتْني أمُّ عمرو أخاها ولم أكن .............. أخاها ولم أَرْضَعْ لها بلَبانِ
و "كَنَى" تقول: كَنَيْته بفلان، وإن شئت فلاناً. و "صَدَق" قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} آل عمران: 152. و "زوَّج" قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} الأحزاب: 37. ولم يَزِدِ الشيخُ أبو حيّان عليها. ومِنْها أَيْضاً "حَدَّثَ" و "أَنْبَأَ" و "نَبّأَ" و "أَخْبرَ" و "خَبَّرَ" إذا لم تُضَمَّن معنى أَعْلَمَ. قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} التحريم: 3 وقال: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} التحريم: 3. وتقول : حَدَّثْتك بكذا، وإن شئت: كذا، قال:
لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادقاً ..... أَصُمْ في نهارِ القيظِ للشمس باديا
و "قومه" مفعولٌ ثانٍ على أوَّلهما، والتقدير: واختار موسى سَبعين رجلاً من قومه. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أن "قومَه" مفعول أول و "سبعين" بدل، أي: بدلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، ثمَّ قال: وأَرى أَنّ البدلَ جائزٌ على ضَعْفٍ وأنّ التّقديرّ: سَبْعينَ رَجُلاً مِنْهم. وإنما كان ممتنِعاً أَوْ ضَعيفاً لأنَّ فيه حَذْفَ شيئين: أَحدُهما المختارُ مِنْهُ، فإنَّه لا بدَّ للاختيار من مختارٍ ومختار منه، وعلى البدل إنما ذُكِر المختارُ دونَ المختار منه. والثاني: أنه لا بد من رابط بين البدل والمبدل منه وهو "منهم" كما قدَّره أبو البقاء، وأيضاً فإن البدلَ في نية الطَّرْح.
وأَصلُ اختارَ: اختَيَرَ على وزن "افْتَعَلَ" مِنْ لَفْظِ الخَيرِ ك "اصطفى" من "الصفوة". و "لميقاتنا" مُتعلقٌ بِه، أي: لأجلِ ميقاتنا. ويجوزُ أَنْ يَكونَ معناها الاختصاصَ، أيْ: اختارهم مخصصاً بهم الميقات كقولك: اختير لك هذا.
قوله: {لَوْ شِئْتَ} مفعولُ المشيئة محذوف أي: لو شِئْتَ إهْلاكَنا، و "أَهْلَكْتَهم" جَوابُ لَوْ، والأكثر الإِتيانُ باللام في هذا النحو، ولذلك لم يَأْتِ مجرداً منها إلا هنا، وفي قوله {أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} الأعراف: 100 وفي قوله: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} الواقعة: 70. ومعنى "من قبل" أي: قبل الاختيار وأَخْذ الرجفة.
قوله: {وَإِيَّايَ} قد يتعلَّق به مَنْ يرى جواز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يمكنُ أن يُقال: أهلكتنا، وهو تعلُّقٌ واهٍ جداً لأنَّ مقصودَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التنصيص على هلاك كلٍ على حِدَتِه تعظيماً للأمر، وأيضاً فإن موسى لم يتعاطَ ما يقتضي إهلاكَه بخلاف قومه، وإنما قال ذلك تسليماً منه لربِّه، فعطَف ضميرَه تنبيهاً على ذلك، وقد تقدم لك فهذه من هذا كما هو في قولِهِ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} سورة النساء، الآية: 131. وقوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} سورة الممتحنة، الآية : 1.
قوله: {أَتُهْلِكُنَا} يجوز فيه أن يكون على بابه، أي: أتَعُمُّنا بالإِهلاك أم تخصُّ به السفهاءَ منا؟/ ويجوز أن يكونَ بمعنى النفي، أي: ما تُهْلِك مَنْ لم يُذنب بذنب غيره، قاله أبو بكر بن الأنباري، قال: وهو كقولك: أتُهين مَنْ يكرمك؟ وعن المبرد: هو سؤالُ استعطاف. و "منا" في محل نصب على الحال من "السفهاء" ويجوز أن تكون للبيان.
قوله: {تُضِلُّ بِهَا} يجوز فيها وجهان، أحدُهما: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. والثاني: أن تكون حالاً من "فتنتك" أي: حالَ كونها مُضِلاً بها. ويجوز أن تكون حالاً من الكاف لأنها مرفوعةٌ تقديراً بالفاعلية، ومنعه أبو البقاء قال: لعدم العامل فيها. وقد تقدَّم البحث معه فيه غير مرة.
__________________
أنا روحٌ تضمّ الكونَ حبّاً
وتُطلقه فيزدهر الوجودُ
عبد القادر الأسود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 174 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 12-05-2014 01:28 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 98 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-22-2014 03:38 PM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 94 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:46 AM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 94 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:41 AM
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 96 عبد القادر الأسود المواضيع الاسلامية 0 09-19-2014 07:33 AM


الساعة الآن 05:42 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir