أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع الحادي عشر


الشعاع الحادي عشر - ص: 240

الشعاع الحادي عشر
ثـمـرة
من ثمار سجن دنيزلي
هذه الرسالة:
دفاع الايمان ترفعه "رسائل النور" لصد الزندقة والكفر المطلق، فليس لنا دفاع حقيقي عن قضيتنا - في سجننا هذا - الاّ هذا الدفاع، فنحن لانسعى الاّ للايمان.
وهي خاطرة ثمرة أثمرها سجن "دنيزلي" في يومين من ايام الجمع المباركة.
سعيد النورسي
الشعاع الحادي عشر - ص: 241
رسالة الثمرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(فَلِبثَ في السجن بضع سِنِينَ) (يوسف: 42)
نفهم من اسرار هذه الآية الكريمة ان يوسف عليه السلام هو قدوة المسجونين ورائدهم. فيصبح السجن اذاً نوعاً من "مدرسة يوسفية". وحيث ان عدداً غفيراً من طلاب النور قد دخلوا هذه المدرسة مرتين، لذا ينبغي لهم ان يتدارسوا ويدرّسوا قسماً من خلاصة المسائل الايمانية التي اثبتتها رسائل النور ولها مساس بالسجن، للاسترشاد بها ولتقويم الاخلاق والسلوك في هذه المدرسة المفتوحة لتلقي التربية. وها نحن اولاء نبيّن بضعاً من تلك الخلاصات.
سـعيد النورسي
المسألة الاولى
يمكن تلخيص هذه المسألة التي تم ايضاحها في "الكلمة الرابعة" كما يأتي:
ان رأس مال حياتنا هو هذه الساعات الاربع والعشرون التي يحملها الينا اليوم نعمةً خالصة من نِعَم خالقنا الكريم جل جلاله، لنكسب بكل ساعة من هذه الساعات ما يلزمنا، وما هو ضروري في حياتينا كلتيهما الدنيوية والاخروية.
وما لم نصرف ساعة واحدة - وهي كافية لاداء الصلوات المفروضة - لحياتنا الاخروية الخالدة، بينما نصرف ثلاثاً وعشرين ساعة في سبيل هذه الحياة الدنيا
الشعاع الحادي عشر - ص: 242
القصيرة، نكون قد ارتكبنا خطأ جسيماً لايستصوبه عقل سليم. فلا جرم اننا نعاني نتيجة هذا الخطأ الفادح غلظة القلب وقسوته، وانقباض الروح وظلمتها، المؤدية بمجموعها الى تعكير صفو الاخلاق، وتلوث نقاوة الروح.. وفوق هذا تمضي حياتنا رتيبة مملّة يائسة خاوية المعنى. فيصيبنا الضجر، فلا نكاد نفيد من دروس هذه المدرسة اليوسفية، ومن محنة الامتحان والابتلاء ما يربينا ويرقى بنا، فنخسر بهذا خسراناً مبيناً.
اما اذا صرفنا ساعة واحدة في اداء الصلوات الخمس، فكل ساعة من ساعات الابتلاء واوقات المحن تتحول الى يوم من العبادة، فكأن الساعات الفانية قد اكتسبت - ببركة هذه الساعة - صفة الخلود، واصبحت في حكم ساعات أبدية باقية.. فتنزاح عن القلب سحب اليأس ويتبدد عن الروح ظلام القنوط.. وتصبح هذه الساعة من العبادة كفّارة لبعض ما ارتُكب من اخطاء وذنوب، ربما كانت السبب في الدخول الى السجن.. وبذلك نكتشف حكمة ابتلائنا بالسجن ويغدو السجن مدرسة نتلقى فيها الدروس النافعة.. ونجد فيه مع اخوتنا في المصيبة والبلاء العزاء والسلوان.
وقد ذكر في "الكلمة الرابعة" ايضاً مثال يبين فداحة الخسارة التي تصيب مَن يلهث وراء حظه من الدنيا ويعزف عن الاخرة وهو:
هناك من يدفع خمساً او عشراً من اربع وعشرين ليرة يملكها في شراء بطاقة قمار اليانصيب - ربما يكون احتمال الفوز بها واحداً من ألف لوجود الف من المشتركين معه - بينما لايصرف واحداً من اربع وعشرين ساعة يملكها في شراء بطاقة ترّبحه كنزاً خالداً اخروياً. علماً ان احتمال الفوز بها - للمؤمنين الذين ختمت اعمالهم بالحسنى - هو بيقين تسع وتسعين وتسعمائة من ألف. كما اكد ذلك جميع الانبياء والرسل الكرام عليهم السلام، وصدّقهم كشفاً وتحقيقاً الاولياء والاصفياء الذين لايحصرهم العد.
فهذا الدرس البليغ - من رسائل النور - ينبغي ان يرتاح اليه مسؤولو السجن وكل مَن يعنيه امر البلاد وشؤونها. لانه قد ثبت بالتجربة ان ادارة ألف من المؤمنين المشفقين من عذاب سجن جهنم والمستجيرين بالله منها، هي اسهل بكثير من ادارة عشرة من تاركي الصلاة، ومن فاسدي العقيدة والاخلاق، الذين لايرتدعون الا بعقاب الدنيا وسجنها ولا يميزون الحلال عن الحرام.
الشعاع الحادي عشر - ص: 243
خلاصة المسألة الثانية
مثلما بينت رسالة "مرشد الشباب" ووضحتها ايضاحاً جميلاً من أن الموت لامفرّ منه ابداً، بل ان مجيئه أيقن من مجئ الليل لهذا النهار، ومن تعاقب الشتاء لهذا الخريف. وكما ان هذا السجن مضيف مؤقت لايكاد يفرغ حتى يملأ من جديد، فالدنيا كذلك كالفندق، وكمنزل حل وترحال مقام على طريق القوافل المسرعة.
فالموت الذي يفرغ كل مدينة من سكانها مائة مرة، ويدفع بهم الى المقابر لابد أنه يطلب شيئاً اكثر من هذه الحياة الفانية واعظم رفعة منها.
ولقد حلّت "رسائل النور" لغز هذه الحقيقة المدهشة، وكشفتها، وخلاصتها هى:
مادام الموت لايُقتل، وباب القبر لايُغلق، فان اعظم ما سيشغل بال الانسان ويشكل اكبر معضلة له هو النجاة من يد جلاد الموت هذا والخلاص من سجن القبر المنفرد.
ولقد اثبتت رسائل النور اثباتاً جازماً - بفيض من نور القرآن الكريم - ان لهذه المعضلة علاجاً وخلاصته هي:
أن الموت إما هو اعدام ابدي، وفناء تام يصيب المرء واحبته، وذوي قرباه جميعاً، او هو تسريح من العمل للذهاب الى عالم آخر أفضل، وجواز سفر للدخول الى قصور السعادة بشهادة الايمان ووثيقته.
أما القبر فهو اما سجن انفرادي مظلم وبئر سحيقة، او هو باب الى روضات خالدة ومضيف منوّر بعد السراح من سجن الدنيا.
وقد اثبتت رسالة "مرشد الشباب" هذه الحقيقة بمثال وهو:
نصبت في فناء هذا السجن اعواد مشانق تستند على جدار، خلفه دائرة عظيمة تمنح جوائز سخية يشترك فيها الناس كلهم. ونحن المساجين الخمسمائة ننتظر دورنا، لنُدعى الى ذلك الميدان، فسندعى اليه فرداً فرداً شئنا أم ابينا، فلا نجاة! فإما أنه سيُقال لكل منا: "تعال تسلّم أمر اعدامك واصعد المشنقة". او: "تسلم امر السجن
الشعاع الحادي عشر - ص: 244
الانفرادي الابدي وادخله من هذا الباب المفتوح". او يقال: "بشراك ! فقد فزت ببطاقة تربّحك ملايين الليرات الذهبية، هيا خذها".
فها نحن اولاء نشاهد اعلانات هذه الدعوة منتشرة هنا وهناك ونرى اناساً يصعدون المشانق بالتعاقب ومنهم مَن يتدلى، ومنهم مَن يتخذها درجاً وسلماً للبلوغ الى دائرة الجوائز الواقعة خلفها، وقد اصبحنا على يقين جازم بما يدور في تلك الدائرة - كأننا نراه رأي العين - استنادا الى ما يرويه كبار موظفي تلك الدائرة من روايات صادقة لاتقبل الشك.
دخلت سجننا - في هذه الاثناء - طائفتان، تحمل احداهما آلات الطرب وقناني الخمر مع حلويات، ظاهرها العسل وباطنها السموم، دستّها شياطين الانس، وهم يقدمونها الينا ويرغّبوننا في تناولها. اما الجماعة الثانية ففي ايديهم كتب تربوية ومنشورات اخلاقية مع مأكولات طيبة ومشروبات مباركة، يقدمونها هدايا لنا، ويذكرون لنا بالاتفاق والاطمئنان الكامل واليقين التام:
ان ما تقدمه الطائفة الاولى لكم من مأكولات ما هي الا للامتحان والاختبار، فاذا ما قبلتموها ورضيتم بها فسيكون مصيركم كما هو ماثل امامكم في المشانق، اما اذا رضيتم بهدايانا - التي نقدّمها اليكم باسم حاكم هذه البلاد وبأمره - وتلوتم مافي تلك الكتب من تعليمات واذكار فستنجون من الاعدام وتستلمون بطاقة الجائزة من تلك الدائرة، لتفوزوا بالربح العظيم، هدية من السلطان وكرماً منه وفضلاً. صدّقوا بما نقوله لكم واعتقدوا به اعتقاداً راسخاً كأنكم ترونه في وضح النهار.. ولكن حذار من تلك الحلوى المعسلة - المحرّمة او المريبة - فلو اكلتم منها تلوّت بطونكم بمغص شديد من أثر السموم، فتقاسون منها الالآم لحين صعودكم المشانق.
وهكذا على غرار هذا المثال، سيَهب القدر الإلهي للمؤمنين الذين قضوا حياتهم بالطاعة، وختمت اعمالهم بالحسنى خزائن أبدية لاتنضب بعد أن ينتهي أجلهم في الدنيا. أما اولئك المتمادون في الضلالة والفسق من دون ان يثوبوا الى ربهم فسيُعدمون اعداماً نهائياً - لمن لايؤمن بالآخرة - او يزجوّن في سجن انفرادي مظلم ابدي لمن يتمادى في غيّه وسفهه مع ايمانه ببقاء الروح، فهؤلاء يتسلمون قرار شقائهم
الشعاع الحادي عشر - ص: 245
الابدي بيقين يبلغ تسعاً وتسعين بالمائة. نعم يخبر بهذا الخبر الصادق مائة واربعة وعشرون الفا من الانبياء عليهم السلام 1، وبين ايديهم معجزات تصدقهم، ويخبر اكثر من مائة واربعة وعشرين مليوناً من الاولياء (قدس الله اسرارهم) المقتفين آثار الانبياء والمصدقين بما أُخبروا به كشفا وذوقا، ويخبر به كذلك مَن لايحصيهم العدّ من العلماء المحققين 2 والمجتهدين والصديقين الذين اثبتوا دعواهم وتصديقهم عقلاً وفكراً بالبراهين الدامغة والحجج القاطعة، فأخبروا يقينا ما أخبر به اولئك الافذاذ من تلكما الطائفتين. فهؤلاء الطوائف الثلاث العظيمة والجماعات الغفيرة من اهل الحق والحقيقة - وهم روّاد الانسانية وشموس البشرية واقمارها - يخبرون جميعا بتلك الحقيقة اجماعاً وتواتراً.. فياخسارة من لايهتم بأوامرهم، ولايسلك الصراط السوي المؤدي الى السعادة الابدية بارشاداتهم، ولايكترث بمصيره المؤلم - وهو بيقين يبلغ تسعا وتسعين بالمائة - في حين أنه لايسلك طريقا فيه احتمال واحد من الخطورة، واستنادا على قول مخبر واحد، بل يستبدل به طريقا آخر ولو كان أطول..
فهؤلاء أشبه بسكير او معتوه شقي يلتهي بلسع الذباب عن انقضاض وحوش كاسرة عليه، اذ قد فَقَد عقله، واضاع قلبه، وافسد روحه، ودمّر انسانيته؛ لانه رغم التبليغات الصادقة الصادرة من اولئك المخبرين الذين لايحصرهم العدّ فقد ترك الطريق الاقصر والاسهل المؤدي الى الفوز المحقق بالجنة والسعادة الابدية، واختار طريقاً اطول منه وأوعر واضيق، والذي يؤدي به الى سجن جهنم والشقاء الابدي حتما.
بينما الانسان - كما قلنا - لايلج طريقا قصيراً في الدنيا فيه احتمال واحد بالمَائة من الخطورة، او فيه سجن شهر واحد وبناء على كلام مخبر واحد، وقد يكون كاذباً. بل يفضل عليه طريقا اخر ولو كان طويلا، او من دون نفع، وذلك لمجرد خلوه من الضرر.
_____________________
1
قال ابوذر: (قلت: يارسول الله كم وفاء عدة الانبياء ؟ قال: مائة الف واربعة وعشرون الفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً) رواه الامام احمد (مشكاة المصابيح 3/122ت 5737 قال المحقق: حديث صحيح). وانظر زاد المعاد تحقيق الارناؤوط(1/43 - 44).

2
ان احد اولئك العلماء المحققين هو: رسائل النور التي ألجمت أعتى الفلاسفة الماديين، وافحمت اشد الزنادقة تمرداً، طوال العشرين سنة التي خلت، وماتزال قائمة على قدم وساق في ميدان التحدي والمبارزة، وهي في متناول الجميع، فبوسع اي واحد قراءتها دون تفنيدها. - المؤلف.

الشعاع الحادي عشر - ص: 246
فما دامت حقيقة الامر هذه، فينبغي لنا نحن معاشر المبتلين بالسجن ان نقبل بكل رضى وسرور هدايا الطائفة الثانية لنثأر لأنفسنا من مصيبة السجن؛ اذ كما ان لذة دقيقة في الانتقام، ومتعة بضع دقائق، او ساعات في السفاهة قد زجت بنا الى السجن، فيقضي فيه بعضنا خمس عشرة سنة، والبعض الآخر عشر سنوات، وآخرون خمس سنوات، او سنة او سنتين او ثلاثاً من الاحكام.. فعلينا اذن - وانف السجن راغم - ان نحوّل بقبولنا هدايا القافلة الثانية، هذه الساعات القليلة الى ايام من العبادة مثلها، ونحوّل سنتين او ثلاثاً من عقابنا الى عشرين وثلاثين سنة من العمر الخالد. ونبدل بعشرين سنة او ثلاثين سنة من مكوثنا في السجن ملايين السنوات الخالدة فتكون الاحكام الصادرة علينا وسيلة نجاة من سجن جهنم. وحينها تبتسم حياتنا الاخرى وتسر إزاء بكاء دنيانا وحزنها. ونكون بذلك قد ثأرنا لأنفسنا من تلك المحنة واظهرنا حقا ان السجن مدرسة تربوية لتقويم الاخلاق.
فليشاهد مسؤولو السجن ومن يتولون امره، أن من ظنوهم مجرمين قتلة، وحسبوهم سفهاء مخلين بالنظام، قد اصبحوا طلاب مدرسة تربوية مباركة يتعلمون فيها الادب الجميل والخلق القويم وغدوا أعضاء نافعين للبلاد والعباد.. فليشكروا ربهم اجزل شكر
* * *
الشعاع الحادي عشر - ص: 247
المسألة الثالثة
وهي حادثة ذات عبرة، سبق ذكرها في "مرشد الشباب" مفصلاً وخلاصتها هي:
كنت في احد ايام عيد الجمهورية جالسا امام شباك سجن "اسكي شهر" الذي يطل على مدرسة اعدادية للبنات.. وكانت طالباتها اليافعات يلعبن ويرقصن في ساحة المدرسة وفنائها ببهجة وسرور، فتراءت لي فجأة على شاشة معنوية ما يؤول اليه حالهن بعد خمسين سنة: فرأيت: أن نحواً من خمسين من مجموع ما يقارب الستين طالبة يتحولن الى تراب ويعذبن في القبر. وان عشرة منهن قد تحولن الى عجائز دميمات بلغن السبعين والثمانين من العمر، شاهت وجوههن وتشوه حسنهن، يقاسين الآلام من نظرات التقزز والاستهجان من الذين كنّ يتوقعن منهم الاعجاب والحب، حيث لم يصنّ عفتهن ايام شبابهن !.. نعم رأيت هذا بيقين قاطع، فبكيت على حالهن المؤلمة بكاء ساخناً أثار انتباه البعض من زملاء السجن، فاسرعوا الىّ مستفسرين.
فقلت لهم: "دعوني الآن وحالي... انصرفوا عني".
أجل، ان ما رأيته حقيقة وليس بخيال، اذ كما سيؤول هذا الصيف والخريف الى الشتاء، فان ما خلف صيف الشباب ووراء خريف الشيب، شتاء القبر والبرزخ. فلو أمكن اظهار حوادث ما بعد خمسين سنة من المستقبل مثلما يمكن ذلك لحوادث الخمسين سنة الفائتة - بجهاز كجهاز السينما - وعرضت حوادث اهل الضلالة واحوالهم في المستقبل، اذن لتقززوا ولتألموا ولبكوا بكاء مراً على ما يفرحون منه الآن ويتلذذون به من المحرّمات في الوقت الحاضر.
وبينما كنت غارقاً في التأمل، ومنصرفاً الى مشاهد الشاشة المعنوية المعروضة امامي في سجن "اسكي شهر" اذ انتصب امامي شخص معنوي كأنه يمثل الشيطان الأنسي يدعو الى السفاهة، ويروّج للضلالة قائلاً لي:
- نحن نريد ان نستمتع بجميع لذائذ الحياة ونمتع الآخرين بها دعنا وشأننا، واليك عنا.
الشعاع الحادي عشر - ص: 248
فأجبته قائلا:
- مادمتَ ترمي بنفسك في أحضان الضلالة والسفاهة حصولا على لذة جزئية وذوق ضئيل متناسياً الموت غير آبه به، اذاً فاعلم:
ان "الماضي" كله - حسب ضلالتك - قد مات واندثر وانتهى الى العدم، فهو مقبرة عظيمة موحشة مرعبة، قد رمّت فيها الجثث وبليت فيها الآثار، لذا ان كانت لك مسكة من عقل أوكنت تملك قلبا ينبض بالحياة فان الآلام المتولدة - بمقتضى ضلالتك - من الموت الابدي، ومن انواع الفراق غير المحدود لأقاربك وأحبابك غير المعدودين تزيل تلك اللذة الجزئية المسكرة التي تتذوقها في فترة قصيرة جدا.
وكما ان الماضي معدوم بالنسبة لك، "فالمستقبل" معدوم لك كذلك. وذلك بسبب انعدام ايمانك، بل هو ساحة موحشة رهيبة مظلمة ميتة.. فما من أحد من الموجودات المسكينة يأتي ويبرز الى الوجود - ماراً بالحاضر - إلاّ ويقبضه جلاد الموت ويقذفه الى العدم، وانت لكونك مرتبطا بتلك العوالم - بحكم عقلك - فان المستقبل يصب على رأسك الملحد مطر السوء من الالام الموجعة والقلق الشديد والاضطرابات العنيفة، حتى يجعل جميع لذائذك الجزئية السفيهة أثراً بعد عين.
ولكن ما ان تنبذ طريق الضلالة وتترك سلوك السفاهة داخلا حظيرة الايمان التحقيقي، مستقيما عليه حتى ترى بنور الايمان:
ان ذلك الماضي السحيق ليس بمعدوم وليس بمقبرة تُبلي كلَّ شئ وتفنيه، بل هو عالم نوراني موجود فعلا، الذي ينقلب الى المستقبل، وهو ساحة انتظار الارواح الباقية المترقبة للبعث، دخولاً الى فردوس السعادة الابدية المعدة لهم؛ لذا يذيقك - وانت مازلت في الدنيا - لذة الجنة المعنوية حسب درجة ايمانك. كما ان المستقبل ليس مؤلماً ولامقلقاً وليس محلاً للوحشة ولاوادياً مظلماً مخيفاً، بل هو بنور الايمان منازل سعادة ابدية للرحمن الرحيم ذي الجلال والاكرام الذي وسعت رحمته كل شئ واحاط كرمه بكل شئ. فكما فرش سبحانه الربيع والخريف مائدتين مملوئتين بأنواع النِعم والمطعومات، فقد بسط سبحانه موائد ضيافته الفاخرة في تلك القصور العوالي وفتح معارض احسانه وآلائه العميمة هناك، والناس يشوقون اليها بل يساقون.
الشعاع الحادي عشر - ص: 249
نعم هكذا يراها المؤمن بالشاشة الايمانية - كل حسب درجته - وبوسعه أن يشعر شيئاً من لذائذ ذلك النعيم المقيم.
فاذاً اللذة الحقيقية الصافية التي لايكدرها ألم، انما هي في الايمان، وبالايمان وحده يمكن الفوز بها.
وهناك الوف من الثمرات اللذيذة للايمان في هذه الدنيا، وألوف من الفوائد والنتائج، الا أننا سنبين واحدة منها بمثال:
تصور - ايها الاخ - ان ابنك الوحيد الذي تحبه كثيراً جداً طريح الفراش يعاني من سكرات الموت، وانت تغوص في تفكير يائس مرير وتتألم ألماً موجعا شديدا من فراقه الابدي المؤلم.. تصور - وانت في هذه الحالة اليائسة - اذا بطبيب حاذق كالخضر او لقمان عليهما السلام - يأتي ويسقي الطفل دواء مضادا للسموم، واذا به يفتح عينيه فرحا جذلا ببهجة الحياة.. وقد نجا من قبضة الموت. كم يكون ياترى فرحك وسرورك اللذان يغمرانك؟
كذلك الحال في اولئك الملايين المدفونين في مقبرة الماضي الذين تحبهم - كهذا الطفل - حباً كثيراً وترتبط معهم بوشائج. فبينما هم على وشك ان يبادوا ويفنوا من الوجود في مقبرة الماضي - في نظرك - اذا بحقيقة الايمان تبعث من شباك القلب نوراً - كما فعل لقمان الحكيم مع ذلك الطفل - الى تلك المقبرة الواسعة التي يُظن انها مقر الاعدام. واذا الاموات قيام احياء بذلك النور - في عالم البرزخ - ينادون بلسان الحال:
"
لسنا أمواتاً.. ولن نموت ابداً.. وسنلتقي عما قريب".
نعم، مثلما يبعث شفاء الطفل فرحاً وبهجة لاحد لهما بعد اليأس والقنوط، كذلك الامر هنا مما يجعلنا نتيقن أن الايمان - ببثه هذا الفرح والسرور في دنيانا هذه - يثبت ان حقيقته بذرة تحمل من الحيوية ما لو تجسمت لنبتت عليها جنة خاصة لكل مؤمن، ولأصبحت له شجرة طوبى.
هكذا قلت لذلك الشيطان الانسي العنيد، الا انه انبرى لي قائلاً:

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشعاعات - الشعاع الثالث عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 5 04-06-2011 03:41 PM
الشعاعات - الشعاع التاسع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 03:15 PM
الشعاعات - الشعاع السابع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 8 04-06-2011 03:13 PM
الشعاعات - الشعاع السادس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:55 PM
الشعاعات - الشعاع الخامس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:51 PM


الساعة الآن 06:22 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir