أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - المقدمات والتقديم


كليات رسائل النور
6
المثنوي العربي النوري
تأليف
بديع الزمان سعيد النّورسي
تحقيق
إحسان قاسم الصالحي
***
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
العالم الفاضل محمد فتح الله كولن
ترجمة: اورخان محمد علي
انني سعيد جداً لإتاحة الفرصة لي لكتابة كلمة تعريف لـ ”المثنوي العربي النوري” لبديع الزمان سعيد النورسي. فمن الواجب دراسة هذه الشخصية السامقة دراسة جدية وواسعة وتعريفها وتقديمها الى الانسانية جمعاء. ذلك لان “بديع الزمان سعيد النورسي” يقف في مقدمة صفوف مفكري هذا القرن من الذين قدموا وبشكل مؤثر ونقي ودون شوائب، العقيدة التي يعتنقها العالم الاسلامي وحياته الروحية العريضة، ومعاييره المعنوية الواسعة. ونحن لا نعتقد باننا نستطيع فهمه او فهم أفكاره ان اقتربنا منه ومن افكاره بشكل عاطفي، فمثل هذا الاسلوب لن يكون اسلوباً جدياً في فهم المسائل التي طرحها والتي دافع عنها طوال حياته دفاع الابطال، فقد كان طوال حياته انساناً يعيش تحت ظل الكتاب والسنة ويحلق باجنحة المنطق والتجربة، ومع عمق عالمه العاطفي، وقلبه المشبوب بالعشق الالهي فقد ظل على الدوام رجل عقل ومنطق.
لقد قيل وكتب الشئ الكثير حتى الآن عن سمو افكاره وعن فهمه لطبيعة عصره، وبساطته وروحه الانسانية الواسعة، وعن وفائه وارتباطه باصدقائه وعن عفته وتواضعه وزهده واستغنائه عن الجميع. ويمكننا ان نقول بان كل وصف من هذه الاوصاف المذكورة اعلاه يمكن ان يكون موضوع كتاب مستقل، وهي اوصاف طالما اهتم بها في كتبه وأكد عليها. ثم ان هناك العديد من الشهود الاحياء وهم طلابه الذين سعدوا بالعيش بقربه وتعرفوا على عمق عالمه الروحي وسعته.
ومع ان مظهره الخارجي كان متواضعاً جداً في غاية البساطة الا انه كان صاحب تفكير عميق وصاحب حركة نشطة وقوية قل نظيره. فقد قام باحتضان الانسانية كلها متناولاً مشاكلها الحيوية، ومتحدياً الكفر والضلال ومعلناً الحرب على الاستبداد وعلى الدكتاتورية، مسترخصاً روحه في سبيل وفائه وخلقه الشجاع، وكان استقباله الموت ببشاشة وبابتسام سلوكاً اعتيادياً عنده.
وبجانب مشاعره الانسانية الغنية فقد بقي في دعوته مرتبطاً بالكتاب والسنة مع الأخذ برقبة العقل والمنطق. لذا فقد تجلى في مظهره وسلوكه جانبان:
جانب العاطفةالمشبوبة الى درجة الوجد والعشق وصفة الرجولة والشجاعة.. ثم جانب رجل الفكر صاحب العقلية الفذة الذي يسبق معاصريه بنظراته الثاقبة وبخططه ومشاريعه الكبيرة.
ان فهم سعيد النورسي وفهم دعوته من هذه الزاوية يفيدنا في فهم معنى العصر الذي نعيش فيه.
وعلى الرغم من قيام البعض بتناسي هذا فان الحقيقة هي: ان سعيد النورسي عُد من افضل مفكري وكتاب جيله وعصره، واستطاع ان يكون قائداً للجماهير ومتحدثاً باسمها، ولكنه لم يُعجب بنفسه، ولم يهتم بالمظاهر. وبذل كل جهوده للابتعاد عن الشهرة والصيت لذا فالقول المأثور عنه “الشهرة عين الرياء وموت للقلب” ليس الا حكمة ذهبية واحدة من بين حكمه العديدة في هذا الموضوع.
لقد استطاع سعيد النورسي ان يكون - مع بضعة آخرين - في رأس قائمة الكُتاب والمفكرين في طول العالم الاسلامي وعرضه في القرن العشرين، وان تكون كتبه مقروءة بشوق وبحب من قبل مختلف المستويات وان يكون من الشخصيات التاريخية التي لا تبلى مع الزمن ولا تُنسى مع الايام.
ان جميع كتب بديع الزمان ومؤلفاته محصول لجهد فكري كبير في تفسير وتناول بعض الامور - المفتوحة للتفسير - من زاوية العصر الذي ولد فيه. وتستطيع ان تقرأ وتسمع في كتبه صرخات ألم الاناضول والعالم الاسلامي وأنينهما وكذلك اصوات البشائر وزغاريد امل الاناضول والعالم الاسلامي... صحيح انه ولد في قرية نائية من قرى احدى الولايات الشرقية في تركيا الا انه احس دائماً انه ابن الاناضول، واحس بنبض مشاعرنا كابن مرموق من ابناء اسطنبول، ولكنه في جميع الاحوال كان يضم البلاد كلها الى صدره بكل حنان وعطف ومحبة.
عاش بديع الزمان في فترة عاصفة سادت فيها الفلسفة المادية وانتشرت فيها الشيوعية انتشار النار في الهشيم... فترة ادلهمت فيها الخطوب وحَلُكَ فيها الظلام... في هذه الفترة العصيبة قام بديع الزمان بكتبه ومؤلفاته بنفخ روح الامل والايمان في انسان عصرنا المضطرب، وبارشاده الى طرق الايمان والامل. ونفخ في الجماهير في كل مكان زاره روح البعث بعد الموت والحركة بعد الجمود.
لقد راى بثاقب بصره ان اهم مشكلة يجب تناولها وحلها هي مشكلة الفوضى النابعة من الكفر والالحاد، لذا قضى حياته كلها وهو يؤكد لانسان عصرنا ضرورة معالجة هذا الداء، وصرف جهداً يفوق طاقة البشر في هذا الخصوص، فقد كان على وعي كامل بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في هذا العالم الذي وجده يتلوى امامه من آلام الأزمات الخانقة والمشاكل المزمنة... وعندما تصدى لحمل هذا العبء الذي تشفق الجبال من حمله، تصدى لذلك بكل تواضع وحياء، ولكن بكل ثقة وبكل اطمئنان ايضاً بقدرة الله المطلقة وغناه اللامحدود.
أجل!... لقد عاش في الوقت الذي اصبح فيه العلم والفلسفة أداة لدفع الناس نحو الالحاد، وفي الوقت الذي تم فيه غسل الادمغة بالشيوعية، والذي كان يُنفى” فيه ويُهجّر من يرفع صوته ضد هذه السلبيات، من مدينة لمدينة ومن بلدة الى اخرى، إذ عاش الوطن فترة تهجير مخجلة. والاغرب من هذا ان كل هذه العمليات كانت تحدث باسم المدنية والمعاصرة... في اثناء تلك الايام السوداء التي انقلبت فيها المفاهيم حتى اصبحت الحركة الفوضوية حركة واسعة منتشرة تحمل سحراً وجاذبية... في تلك الايام انتصب بديع الزمان أمامنا يسلط الضوء على دخائل انفسنا وكأنه طبيب حاذق... يُرينا سجون أنفسنا... واغلال ارواحنا... جرائمنا وجناياتنا... قيامنا بأسر انفسنا بانفسنا... يسلط الضوء على الجوانب الانسانية الهامدة في اعماق ارواحنا وفي عوالم ضمائرنا... فأثار في قلوبنا الشوق الى السمو وبعث فيها نبض الحياة ودفق الامل... واوضح امام جميع الانظار ان في اعماقنا علاقة وصلة مع العوالم الاخرى وارتباطاً بها، ووهب لنا كل ثمرات المدارس والتكايا والزوايا وحلقات العلم والدراسة.
اجل! ففي عهد كانت الامة فيه تتقلب ألماً من السقوط ومن الضحالة الفكرية، والتي اصبحت فيه الآلام الاجتماعية عقدة مستعصية وظهرت كل يوم مئات من الحوادث المفزعة في كل ناحية من انحاء البلاد، وتهدمت كل المعايير والمفاهيم الاسلامية والملية واصبحت انقاضاً فوق انقاض... في مثل هذا العهد المظلم العاصف كان بديع الزمان يفكر ويبحث عن الحلول ويشخص الامراض ثم يكتب الوصفات لها كاي طبيب حاذق. لقد راى الاجيال البائسة وهي تئن تحت ثقل البلايا الهائلة التي افرزتها الاعوام الطويلة المظلمة، وكيف انها تاهت وظلت سبيلها في اودية الضلالة ودروب الالحاد. وكيف انها كلما ارادت الخلاص والنجاة انغرست في ازمات اسوأ وغرقت في مشاكل افظع... راى هذا واحس بآلام هذه الاجيال في أعماق روحه، فعاش حياته وهو في انفعال وفوران روحي يفكر ويبحث على الدوام ليقدم حلولاً بديلة للدولة وللمجتمع، وينبه هذه الامة البائسة ويذكّرها، انها وان كانت الآن تعيسة الحظ الا انها امة عريقة في المجد وغنية بالبطولات.
قام بديع الزمان منذ عهد الدولة العثمانية بالتجوال في معظم ارجاء البلاد... من مدنها الكبيرة الى قراها الصغيرة... ومن المناطق المزدحمة بالسكان الى المناطق النائية... راى الجهل ضارباً اطنابه في كل مكان، وراى الناس يتجرعون آلام الفقر... رآهم شيعاً واحزاباً يأكل بعضهم بعضاً... ارتعش فزعاً مما رآه، ولانه كان رجل فكر ونظر ثاقب ادرك طبيعة عصره وفهمها بعمق، لذا حاول ان يبث في الجماهير آنذاك روح العلم، واهتم باسباب المشاكل الاقتصادية وعوامل الفقر والحاجة، وبحث عن حلول لاسباب فرقة امتنا وعن علاج لخلافاتها، واكد دائماً على ضرورة الوحدة والاتفاق، وكان مع هذه الامة على الدوام، ولم يدعها وحيدة في تلك الايام العصيبة لحظة واحدة. وفي كل مكان وطئته قدماه كان يهتف بملء فيه: “ان لم تُعالج الآن هذه المشاكل المتداخلة بعضها في البعض الآخر، وان لم تُضمد هذه الجروح بايدٍ متخصصة ماهرة، فان امراضنا ستزمن وتستعصي على العلاج، لذا لابد من تشخيص كل مشاكلنا العلمية والاجتماعية والادارية، وتحليل كل عللنا المادية والمعنوية لوصف العلاج الشافي لها، اذ لابد من ايقاف هذه المشاكل وانهاء هذه العلل التي تقوض بنيتنا وتهدد بقاءنا وتهز قواعد واسس وجودنا”.
كان بديع الزمان يرى ان منبع جميع الشرور والسيئات آنذاك - كما هي الآن - هو الجهل والفقر والتشتت والاختلاف. أجل! لقد كان الجهل هو العامل الاول في الضائقات الاجتماعية والدافع الاول لبؤس الامة. ونعني بالجهل هنا الجهل بالله وعدم معرفة النبي “ص” وعدم المبالاة بالدين وعدم مشاهدة قوانا المادية والمعنوية والتاريخية... مثل هذا الجهل كان من اكبر المصائب والبلايا المسلطة على رؤوسنا، لذا صرف بديع الزمان عمره في محاربة هذه الجرثومة القاتلة، اذ راى انه مالم تجهز الجماهير بالعلم والمعرفة، وما لم يتعود المجتمع على التفكير المنظم، وما لم تُجابه تيارات الافكار المنحرفة فمن العبث الامل في خلاص هذه الامة.
... أجل! أليس الجهل هو السبب في انفصام الكون عن القرآن وانفصام القرآن عن الكون؟... انفصما فاصبح احدهما يتيماً في سجون الارواح المتعصبة التي لا تفهم اسرار الوجود ولا تدرك سر الاشياء والحوادث. وتحول الآخر الى حالة فوضى في يد اجهل الجهال الذين يبحثون عن كل شئ في المادة ولا يرون غيرها، وانطمست أعينهم وعميت عن رؤية المعاني.. ثم ألم يكن الجهل هو السبب في انسحاق هذه الامة تحت وطأة الفقر والحاجة على الرغم من اراضيها الخصبة وانهارها الفياضة وسهولها ومراعيها؟ أليس الجهل هو الذي جعلنا فقراء معدمين ومديونين بديون قاصمة للظهر مع وجود كل هذه المعادن النفيسة غير المستغلة تحت الارض في كل ارجاء بلادنا، ومع وجود كل اسباب الغنى والثروة سواءً منها المدفونة تحت الارض او الموجودة منها فوق سطحها؟
اجل! فمنذ اعوام طويلة كانت هذه المصيبة التي اذلت امتنا هي السبب في ان عمالنا وفلاحينا على الرغم من بذلهم كل طاقاتهم لا يحصلون على المقابل الحقيقي لجهودهم ولا على بركة هذ الشئ القليل في ايديهم وتمضي حياتهم في ضنك وفي ضيق ولا يعرفون طعماً للسعادة.
وكان من نتيجة هذا الجهل، وكذلك من نتيجة الفرقة - النابعة ايضاً من الجهل - اننا ابتلينا في اطراف عديدة من هذه الدنيا بصنوف من الظلم والذل والهوان والعلل، فسالت الدماء واغتصبت الاعراض، ومع ذلك فقد فشلنا - في هذه الدنيا التي تتقلب فيها اوضاع التوازن الدولي - ان نخلص انفسنا من قبضة الخلاف والانقسام والتشتت لكي نوقف هذه المآسي والفواجع، ولا نستطيع مدّ يد العون الى العالم الاسلامي ولا نستطيع الارتفاع الى مستوى العصر في حل مشاكله المستمرة في التفاقم والتي تجره الى مهاوٍ خطرة ومزالق رهيبة. وبينما تتلوى الامة جميعها في شباك هذه الامراض والعلل المهلكة، نرى ان قسماً من الذين سكرت وثملت ارواحهم وانبهرت ابصارهم بتقدم الغرب المادي الظاهري بدلاً من ملء ادمغتهم بالعلوم وقلوبهم بالحقائق الدينية للوصول الى الغنى المادي والمعنوي فانهم فضلوا التعامي عن كل قيمنا الدينية والملية الحيوية التي هي مصادر قوتنا وعوامل منعتنا وتناسوها، وفضلوا السير في طريق التقليد الاعمى الذي يسلب الشعب وجماهير الامة كل سجية دينية او ملية، ومن كل وعي بالتاريخ ومن كل فضيلة وميزة اخلاقية. وفي نظري ان هذا الطريق الذي سُلك بهدف انقاذ الامة كان طريقاً خاطئاً وضاراً وفتح في صدر الامة وروحها جروحاً لا تلتئم.
ففي الحالة الاولى عاش انساننا لسنوات طويلة في كابوس مرعب، وفي الحالة الثانية خسرنا كل فضائلنا الملية واصالتنا الروحية ومصادر قوتنا الدافعة.
تصدى بديع الزمان منذ بداية حياته وحتى انتقاله في مدينة “اورفة” الى الرفيق الاعلى لكلا هذين الفريقين ولطرق سلوكهم ومعالجتهم للامور، ولكل النتائج الوخيمة التي افرزتها طرق المعالجة الخاطئة هذه، وفتح بمبضع الطبيب الجراح قيح وصديد قرن كامل، وشخص المصائب والبلايا التي انتجها هذا القيح وهذا الصديد، ثم اشار الى الدواء الناجع والعلاج الشافي لينقذ انسان هذه الامة من السقوط والضياع. لقد ظل بديع الزمان اميناً طوال حياته لمبادئه هذه التي كرر بكل اخلاص وتفانٍ ووفاء ذكرها وتقديمها على الدوام.
ان ادخال افكار جديدة وترسيخها في ذاكرة المجتمع وفي فكرها امر شاق ومهمة صعبة كصعوبة قلع الافكار والمبادئ والقيم المتوارثة - صحيحة كانت ام خاطئة - من الماضي التي ترسخت في داخل المجتمع حتى اصبحت تجرى في عروقه مجرى الدم. ولاشك ان الجماهير بقيت تحت تأثير مثل هذه الافكار المنتقلة اليها من الماضي - سواءً أكانت هذه الافكار صالحة ام طالحة - حيث ادّت هذه الافكار والاراء دوراً مهماً في تشكيل حياتها الاجتماعية والفردية وتوجيهها، واصبحت هذه الجماهير تشعر بالنفور من كل فكر لا يتماشى” مع هذه الافكار المعتادة ولا يتلائم مع المشاعر والعواطف العامة، وتحاول الابتعاد عنها. ان مثل هذا الشعور ومثل هذا التصرف يكون خاطئاً في بعض الاحيان. ذلك لانه في حالة تبني الجماهير لافكار خاطئة وعادات سيئة وتقاليد ضارة وتجذّر هذه الافكار والعادات والتقاليد في بنيتها وتسللها الى مختلف جوانب حياتها فان من الضروري التصدي لهذه الافكار المنحرفة والقناعات الخاطئة ومحاربتها وتصفيتها من الاذهان وتخليتها من القلوب وتحليتها بالخصال الحميدة لكي تستطيع الامة السير بأمان وثقة نحو المستقبل.
لقد حمل بديع الزمان هذه الافكار منذ شبابه المبكر. وعدّ اخفاء اي حقيقة في هذا الموضوع - مهما كانت صغيرة او جزئية - خيانة لامته ولابناء امته. لذا وقف امام كل الافكار وكل القرارات الخاطئة رافعاً يديه الى اعلى مشيراً بهما اشارة التحذير وهاتفاً بكل قوته: “احذروا!... هذا طريق مسدود”.
كانت فطرته حساسة جداً ضد ما يناقض القيم الدينية، مع نظرة بعيدة المدى وهمة عالية لا توجد الا عند اولي العزم من الرجال. فصاحب قلب شجاع مثله، ما كان ليستطيع ألاّ يحرك ساكناً وهو يشاهد اضمحلال امة عريقة مجيدة وذوبانها، لذا لم يدخر وسعاً في توجيه الانظار الى عيوبنا كأمة والى اعمق اسباب الهلاك والاضمحلال وأدقها، لتقوم الامة بمحاسبة نفسها ومحاكمة ذاتها. لقد ذكّرها مراراً وتكراراً بعوامل الانقراض والفناء وقدم اليها وصفات النجاة والخلاص دون ان يخفي عنها امرّ الحقائق واكثرها ايلاماً للنفس، ودون ان يتردد في هذا اي تردد، لذا فقد واجه القناعات الخاطئة والافكار المتعفنة وناضل طوال حياته ضد كل الموانع التي تمنع انتشار انوار الحقيقة.
في تلك الايام الحالكة السواد التي لم يكن هناك من يتجرأ على التفوه باي شي حول الحقائق الدينية، قام هو بايقاظ الجماهير التي اريد تخديرها وتنويمها فأعلن الحرب على الجهل والفقر والفرقة، وهز اركان الاوهام الكثيرة المختلفة التي احاطت بالمجتمع، فكما أعلن حرباً ضروسة ضد الالحاد وانكار الخالق، فقد اغرق الاباطيل والخرافات في تناقضاتها وسد الابواب امامها. وبشجاعة منقطعة النظير قام بتشريح مشاكلنا وعللنا المزمنة منذ عدة عصور وقدم طرق علاجها والشفاء منها.
ولقد قام بعملية كيّ للرياء وللمظاهر الكاذبة المستشرية عندنا منذ ما يقارب مئتي سنة ذلك لان “آخر الدواء الكيّ”. وذكر اموراً جديدة وجدت صداها في النفوس بدءً من رجال قصر السلطان وانتهاءً الى رؤساء العشائر في الولايات الشرقية، ومن منتسبي المشيخة الاسلامية الى رئاسة اركان حرب القوات المسلحة، فجمع انظار جميع طبقات الشعب اليه، ومع انه كان يتجنب الظهور والشهرة بطبيعته، الا ان طبيعة الامور كانت تؤدي الى هذه النتيجة.
نبه بديع الزمان جميع مستويات الشعب وطبقاته بان عليها اولاً كسر اغلال روحها قبل ان تجرد السيف من الغمد للجهاد، وبشر الشباب ببعث جديد للحياة فدلهم على الطرق المؤدية للفكر الاسلامي. ومما لاشك فيه انه كان يخشى من تمزق الوطن من الناحية الجغرافية وانقسامه وتقلصه خشية شديدة ولكنه كان يخشى اكثر من العوامل التي تودي الى هذه النتيجة المفجعة بضمور الافكار وسفالة الروح والتقليد الاعمى للغرب.
دعا بديع الزمان الى القراءة والمطالعة والتفكر والى السعي والحركة لينقذ افراد الامة من ضنك العزلة وليشكل مجتمعاً سليماً معافىً وامة متينة البنية، وأكد على التعليم الذي رآه ضرورة قصوى لرفع الوطن وانسان هذا الوطن الى الذروة التي اشار اليها... فدعا الى طبع الكتب ونشرها، والى نشر المعارف بكل اشكالها في كل مكان والى نشر التعليم والتربية، اذ كان يرى اشتراك المساجد والمدارس الدينية ومعسكرات الجنود والسجون وكافة مرافق المجتمع في تعبئة عامة للتعليم، فبالمعارف وحدها يمكن تحقيق الوحدة العقلية والفكرية، إذ كان يرى ان العقول ان لم تتآلف مع بعضها اولاً فلا يمكنها ان تقطع معاً شوطاً كبيراً في الطريق. ويجب ان تتحد الضمائر والمشاعر اولاً لكي تتحد القلوب والايدي فيما بعد. والطريق الى مثل هذه الوحدة يكون بتناول الحياة حسب مبادئ الدين وقيمه، وحسب الكتاب والسنة وطريق السلف الصالح واجتهادهم، على ان تفسر الامور الجديدة والمستحدثة حسب ادراك العصر وضرورته.
اجل!... لابد ان يتعرف الانسان على ما جلبه العصر من المعاني والتفسيرات وان يؤسس السلام معها. فان انزوينا وتقوقعنا على انفسنا في الوقت الذي تنطلق فيه الدنيا في طريقها وفي سبيلها فان هذا يعني الموت بالنسبة الينا. فمن اراد عيش الحياة الحالية فان عليه ان يجد الطريقة التي يستطيع بها تأسيس التناغم والملائمة بين شلالات الحياة المنطلقة وبين ارادته وسعيه. والا فان مقاومة تيار الكون العام لا يؤدي الا الى تلف المقاوم وفنائه.
لو ان بديع الزمان حظي بدعم بضع مئات من المثقفين وهو ينشر رسائله في ارجاء البلاد ووجد منهم سنداً لأفكاره فلربما كنا من اغنى الامم واكثرها مدنية، ومن اقدرها على حل المشاكل التي تعرض لها، ولكنا دخلنا المرحلة الحالية منذ ذلك الوقت، اي منذ بداية القرن العشرين، ولما جابهتنا المشاكل الحالية العديدة. ومع كل هذا فنحن نحمل املاً كبيراً، لاننا نرى ان الذين ينظرون الى امتنا وكأنها فقدت كل جذورها المعنوية هم على خطأ كبير... صحيح اننا تأخرنا مثل غيرنا من الامم الاخرى وضعفنا إذ ليس في وسع احد إنكار هذا، ولكن ليس في وسع احد ايضاً ان ينفي قدرتنا على النهوض ومتابعة التقدم مرة ثانية، فلقد بدت انوار اليقظة والانتباه تلتمع في ارواحنا كأمة بدلاً من روح الكسل والخمود، إذ بدأ دفء الحياة ونبض النشاط والحيوية يتسلل الى ارواحنا التي كانت قد ضعفت نتيجة الميل الى الكسل والاخلاد الى الارض، اذن فلا شك ان ايام الربيع المشرقة الخضراء على الابواب. غير اننا في انتظار ابطال من امثال “الخضر” ليفرش سجادة الصلاة على سفوحنا وامثال “الياس” لينشر شراعه نحو الافاق البعيدة دون خوف أو وجل... كان بديع الزمان معْلَما في هذا الامر.
يقال “لا خيار للعبقرية” اي ان العبقري لا يقول: “ساعمل هذا ولا اعمل ذاك” ولا يصدر حكما ان “نعمل كذا لانه مفيد ولا نعمل ذاك لانه ضار” ذلك لان الشخص العبقري يملك موهبة الهية وقوة دافعة ذاتية “لدنية” وشوقاً يستطيع بها معرفة كل الحاجات الظاهرة او الباطنة، الروحية منها والاجتماعية وان يحتضنها، ويتصدى بقوة وطاقة متعددة الأوجه التي خزنها في روحه لحمل عبء وظائف عديدة. فهو بهذه الاوصاف شخص خارق بطبيعته وفطرته. والذين دققوا شخصية بديع الزمان والكتب التي تركها وراءه يرون اجتماع جميع عناصر العبقرية وصفاتها فيه، فهو اعتباراً من سنوات شبابه التي قدم فيها للناس حوله كتبه الاولى التي تعد من اولى علامات عبقريته ووصولاً الى كتب مرحلة النضوج والتكامل والتي قضاها في المحاكم والسجون والمنفى... في كل هذه الكتب نرى انه حافظ على مستوى القمة والذروة وتحدث دائماً حديث شخص عبقري ذي قابليات غير اعتيادية.
كان كتاب “المثنوي” من اوائل كتبه: لذا نجد وجود جذور افكاره هنا، فكل فكرة في هذا الكتاب - التي كانت مثل جنين او برعم او وريقة او نبتة صغيرة او كقطرة من قطرات فكره النير - اصبحت فيما بعد نهراً متدفقاً وشلالاً هادراً او بستاناً عبق الارجاء بالورود او كغابة سامقة الاشجار ملتفة الاغصان والاوراق، حركت الجوانب الايمانية والفكرية والمشاعر الرقيقة لاصدقائه وأثارتها، وقذفت في قلوب اعدائه الرعب والفزع.
من اوائل انفاسه التي نفخها في ارواحنا فاثارتها والى قلوبنا فرسمت فيها معاني جديدة ملونة وبراقة وحفرت فيها خطوطاً مضيئة، نقدم بعض الامثلة بمثابة قطرة من بحر او لمعة من شمس او مسحة من عالم الوجود انعكست في مشاعرنا ووجدت هناك صداها:
ان اكبر حقيقة في الدنيا، في راى بديع الزمان - وفي رأى كل المفكرين المسلمين - هي حقيقة الايمان وحقيقة التوحيد. فالوجود كله - في منظومة تفكير بديع الزمان - ليس الا مثل آلة نسيج تنسج حقيقة التوحيد. وتنقش المعاني الالهية نقشة نقشة وزخرفة زخرفه، وتنسج لوحات بديعة. ان الاحساس بكون هذه الحقيقة ذات ماهية شاملة تستوعب الغاية الالهية وتتداخل ضمن ادق الفروع واصغرها، وتفسيرها حسب المعرفة الالهية، ليس الا ظهور لحقيقة التوحيد، وهو مفهوم التوحيد لدى العامة قبل الدخول في التفاصيل المؤدية الى اليقين.
اجل! “انّ التوحيد توحيدان:
الاول: توحيد عامي يقول: “لاشريك له، ليست هذه الكائنات لغيره” فيمكن تداخل الغفلات بل الضلالات في افكار صاحبه.
والثاني: توحيد حقيقي يقول: “هو الله وحدَه له الملك، وله الكون، له كل شئ””.
واصحاب مثل هذا الايمان يملكون عقيدة راسخة لا تهتز، إذ يرون سكة الله سبحانه وتعالى فوق كل شئ، ويقرأون ختمه على جبين كل شئ.
وقد تناول بديع الزمان هذا الموضوع فيما بعد بشكل مفصل في المقام الثاني من الكلمة العشرين، وقدمه في قالب وفي شكل درس توحيد كامل يشبع حاجة كل انسان مهما كان مستواه الثقافي والعقلي.
ومن اهم المواضيع التي اهتم بها بديع الزمان هو شرحه كيف ان الايمان يُعد منشوراً يحلل الابعاد الحقيقية لماهية الوجود والانسان، فهو يرى ان الكون اصبح بفضل الايمان كتاباً يمكن قراءته ومعرضاً يمكن مشاهدته، اما الانسان فهو لب هذا العالم وجوهره حيث “تحولت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمهملية وملعبة التصادف الى صيرورتها مكتوبات ربانية وصحائف آيات تكوينية ومرايا اسماءٍ إلهية، حتى ترقى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.
وانظر الى الانسان كيف ترقى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة الى اوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة ايمان عقله. ثم انظر كيف صارت اسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل اسبابَ صعوده”.
كما تم شرح هذا الموضوع وتفصيله في النقطة الاولى والثانية في الكلمة الثالثة والعشرين من رسائل النور ليناسب فهم واستيعاب كل إنسان في مختلف المستويات.
ويرى بديع الزمان ايضاً بان المسائل المتعلقة بحقيقة الايمان وان بدت مختلفة الواحدة عن الاخرى - ان نظرنا اليها من زوايا مختلفة - الا انها مرتبطة الواحدة بالاخرى ارتباطاً وثيقاً وهى بمثابة اوجه متعددة لحقيقة واحدة “اعلم! ان بين الايمان بالله والايمان بالنبيّ والايمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازماً قطعياً وارتباطاً للتلازم في نفس الامر بين وجوب الالوهية وثبوت الرسالة ووجود الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة” وفي فترة رسائل النور الخصبة نرى في المسألة التاسعة للشعاع الحادي عشر بحثاً اصيلاً ومهماً جداً حول ترابط أركان الايمان وتلازمها فيما بينها.
من اهم الملاحظات التي قدمها بديع الزمان هي ان من يعمل في ساحة الفلسفة والعلوم العقلية دون ان يفتح نوافذ نفسه على عالم الروح والقلب لن يكون الا فيروساً ينقل الامراض، ولن يكون هو نفسه الا علامة من علامات المرض والسقم.
“قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في أزديادِ المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي. فالامراض المعنوية توصِلُ الى علوم عقلية، كما ان العلوم العقلية تولّد امراضاً قلبية”.
واليكم تشخيصاً وملاحظة أصيلة وقيّمة اخرى لبديع الزمان. اذ يقول بان مراعاة الاسباب مع كونها من ضمن مسؤوليات الانسان الا ان من الضلالة الواضحة والانحراف البين اعطاء تأثير حقيقي لها، فبعد مراعاة الاسباب يجب العلم ان النتائج تأتي من قبل الله تعالى.
“ان التعلق بالاسباب سببُ الذلّة والاهانة. ألا ترى ان الكلب قد اشتهر بعَشرِ صفاتٍ حسنة، حتى صارت صداقتهُ ووفاؤه تُضربُ بهما الامثال؟!.. فمن شأنه ان يكون بين الناس مباركاً. ففضلاً من المباركية ينزل على رأس المسكين من طرف الانسان ضربةُ الاهانة بالتنجيس؛ مع ان الدجاجة والبقر حتى السنّور، الذين ليس فيهم حسّ شكرانٍ وصداقةٍ في مقابلة احسانِ البشر، يُشرَّفون بين الناس بالمباركية. اقول - بشرط ان لاينكسر قلب الكلب ولايصير غيبةً - إن سببه: أن الكلب بسبب مرض الحرص اهتم بالسبب الظاهري، بدرجةٍ أغفَلته بجهةٍ عن المُنعمِ الحقيقي، فتوهَّم الواسطة مؤثرةً. فذاق جزاءَ غفلته بالتنجيس، فَتَطهّر.. وأكل ضربَ الاهانة كفارةً للغفلة، فانتَبه!. اما سائر الحيوانات المباركة فلا يعرفون الوسائط ولا يقيمون لها وزناً، او يقيمون لها وزناً خفيفاً. مثلاً: ان السنّور يتضرع حتى يأخذ الاحسان، فاذا اخذ فكأنه لايعرفك ولاتعرفه. ولايحس في نفسه شكراناً لك. بل انما يشكر المنعم الحقيقي بـ: يارحيم.. يارحيم.. يارحيم.. فقط؛ اذ الفطرة تعرف صانعَها وتعبدهُ شعورياً وغير شعوري..”
ثم نراه يتناول هذا الموضوع من زاوية مختلفة في الغصن الاول من الكلمة الرابعة والعشرين، وهو تناول لطيف يقدم لافكارنا وعواطفنا ملاحظات مهمة.
من المواضيع التي وقف عندها الاستاذ باصرار وباهتمام موضوع اتباع السنة النبوية السنية في جميع مسالك الحياة ومظاهرها، فهو - مثله في ذلك مثل جميع علماء اهل السنة والجماعة - يرى في الرسول “ص” مرشداً لا يضل ولا يُضِل، ويرى في السنة النبوية الطريق الوحيد الى سعادة الدنيا والآخرة، لذا فهو يدعونا على الدوام للتمسك بها والعض عليها بالنواجذ.
أجل! ان كل رحلة حياة لم تسترشد بالسنة النبوية تشبه الوقوع في دوامة نهر، فمع ان الشخص الواقع فيها يبدو وكأنه يسبح ويقطع مسافة الا انه في الحقيقة واقع في دوامة مهلكة “اعلم! اني شاهدت في سيري في الظلمات، السنن السنية نجوماًَ ومصابيح، كل سنة، وكل حدّ شرعي يتلمع بين مالا يحصر من الطرق المظلمة المضلة، وبالانحراف عن السنة يصير المرء لعبة الشياطين، ومركب الاوهام، ومعرض الاهوال، ومطية الاثقال - امثال الجبال - التي تحملها السنةُ عنه لو اتبعها.
وشاهدت السنن كالحبال المتدلية من السماء، من استمسك ولو بجزئي استصعد واستسعد، ورأيت من خالفها واعتمد على العقل الدائر بين الناس، كمن يريد أن يبلغ اسباب السماوات بالوسائل الارضية فيتحمق كما تحمّق فرعون بـ”يا هامان ابن لي صرحاً””
ومن ارائه الأصيلة فيما يتعلق بعلاقاتنا مع الدنيا وزاوية نظرتنا اليها هي عدم وجود ما يدعو الى كرهها، بل يقول ان من الواجب حبها حيث يورد الاسس التي يقيم عليها هذا الحب وهي: “ان الدنيا لها وجوه ثلاثة: وجه: ينظر الى اسماء الله.
ووجه: هو مزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حَسنان.
والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الاسمي، مدار للهوسات الانسانية ومطالب الحياة الفانية”.
وبعد صفحات يتناول هذا الموضوع من زاوية اخرى ويعبر عنه بهذه الكلمات “يرجع الى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجة مالكية الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها. ثم سائر الثمرات والغايات راجعة الى المحيي جل جلاله بالمظهرية لتجليات اسمائه، وباظهار الوان وانواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الاخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..
اذ كما ان الشخص الموظف لأن يجس ويضع اصبعه عند اللزوم على الجهازات التي تتحرك بها السفينة العظيمة للسلطان، لايرجع اليه من فوائد السفينة الا بمقدار علاقته وخدمته، اي من الالوف واحداً.. كذلك درجة تصرّف كل حي في سفينة وجوده. بل هناك يمكن ان يستحق من الالوف واحداً، لكن لايستحق بالذات هنا من ملايين ملايين واحداً ايضاً..”
وقناعة اخرى له... فهو يقول انه يجب عدم النظر الى الاشخاص من وراء منظار مكبر اي عدم اعطاء صورة لاي انسان اكبر من حقيقته، فهذا ظلم اولاً وخطوة اولى نحو الوثنية ثانياً، والمرء الذي يخطو هذه الخطوة الاولى قد لا يستطيع فيما بعد التراجع عنها “ان من اشد ظلم البشر اعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ اذ توهّم صدور محصّل كسب الجماعة، وأثَر جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لايمكن الاّ بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت الى درجة الايجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، الاّ تولدت من امثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية..”
وتشخيص آخر له، إذ يقول ان عداء الكفار للمسلمين هو من موجبات الكفر، وهذا العداء يرجع الى عهود ما قبل التاريخ. لذا فليس في الامكان إرضاء الكفار. اما الاستفادة منهم فمن رابع المستحيلات “ان الكفار لاسيما الاوربائيون ولاسيما شياطين في انكلترة واباليس الفرنك، اعداءٌ الدّاء، وخصماء معاندون ابداً للمسلمين واهل القرآن.. بسر: ان القرآن حَكَم على مُنكر القرآن والاسلام وعلى آبائهم واجدادهم بالاعدام الابدي، فهم محكومون بالاعدام ابداً، والحبس في جهنم سرمداً بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا اهل القرآن كيف توالون مَن لايمكن ان يوالوكم او يحبوكم ابداً؟..”
ثم نراه يبدي لنا هذه الاراء في مواضيع متفرقة: ان الايمان منبع سري للطاقة وللقوة، والذي يملك في يده هذا المنبع يستطيع حجز العوالم ويستطيع ان يسحر كل شئ ويربطه به.... أجل! “مَن كان لله تعالى كان له كل شئ، ومَن لم يكن له كان عليه كل شئ، والكون له بترك الكل له والاذعان بأن الكلّ مالُه.. وهو الذي فطرك بصورة احاطت بك دوائرُ متداخلة من الحاجات وجهّزك في اصغرها التي نصف قطرها مدّ يدك باقتدار واختيار. وجهّزك في البواقي التي وُسعت بعضها كما بين الازل والابد والفرش والعرش بالدعاء فقط.. وفي التنزيل قُل مَا يَعبؤا بِكُم ربي لَولاَ دُعاؤكم فالصبي ينادي ابويه فيما لاتصل يدهُ اليه؛ فالعبد يدعو ربَّه فيما عجز عنه”.
ان فخر الكائنات وخاتم الرسل “ص” هو اساس الوجود وخلاصته وخميرته، فليس هناك موضع في الكون يخلو من حقيقة نوره. فمثله كمثل نواة بذرة شجرة باسقة تضم كل خصائص تلك الشجرة. فنوره اساس للوجود ومرآة تجليات الاول والآخر. أجل! “انه بينما ترى العالم كتاباً كبيراً ترى نور محمد “عليه الصلاة والسلام” مداد قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه “عليه الصلاة والسلام” نواتها أولاً، وثمرتها ثانياً.. وبينما ترى العالم يلبس جسم الحيوان ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” روحه.. وبينما ترى العالم تحوّل انساناً كبيراً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” عقله.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” عندليبه.. وبينما ترى العالم قصراً مزيناً عالياً ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعة سلطنة سلطان الازل وخوارق حشمته، ومحاسن تجليات جماله، ونقوش خوارق صنعته، اذاً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” نظّاراً يرى لنفسه أولاً، ثم ينادي بيا ايها الناس تعالوا الى هذه المناظر النزيهة، وحَيهلوا على مالَكُم فيه شئ من المحبة والحيرة والتنزه والتقدير، والتنور والتفكر ومالايحد من المطالب العالية. ويريها الناس، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكه اليهم.. يستضيئ ويُضئ لهم.. يستفيض ويفيض عليهم..”
ويتناول الاساس الثالث للكلمة الحادية والثلاثين وكذلك الذيل الثاني للكلمة العاشرة هذا الموضوع القيم بعمق وبشكل غني وثري ويبسطه أمام اعين وبصائر قلوبنا.
والاستاذ بديع الزمان يرى ان ماهية طبيعة الانسان لها وجهان: وجه صنم خادع من جهة، ومنشور حافل بالاسرار يعكس الحقيقة اللانهائية وأثر صانعه وخالقه. أجل فالذي له استعداد معنوي وقابلية روحية، والذي استطاع ان يمسك بزاوية النظر الصحيحة يدرك ان الانسان صنعة مزخرفة ومنشور بلوري وهو كتاب لا يضل قارؤه، وخطيب بليغ ومنبع نور يضئ ما وراء استار الاشياء ويكشفها. وهو يسوق ملاحظاته هذه بالكلمات التالية التي تبدو وكأنها أنشودة رائعة:
“ان هذه ثلاثون سنة لي مجادلة مع طاغوتين وهما: “انا” في الانسان، و”الطبيعة” في العالم..
اما هذا، فرأيته مرآةً ظلياً حرفياً. لكن نظر الانسانُ اليه نظراً اسمياً قصدياً بالاصالة، فتفرعن عليه وتَنَمرَدَ.
واما هذه، فرأيتها صنعة الهيّة وصبغة رحمانية.. لكن نظرَ البشرُ اليها بنظر الغفلة فتحولت لهم “طبيعة” فتألّهتْ عند مادييهم. فأنشأتْ كفران النِعَم المنجرّ الى الكفر.
فللّه الشكر والحمد وبتوفيق الاحد الصمد وبفيض القرآن المجيد انتجت المجادلة قتل الطاغوتين وكسر الصنمين”.
وفي عهد تكامل رسائل النور نجد هذا الموضوع الحافل بالاسرار مشروحاً بشكل مفصل وواسع وغني في المقصد الاول من الكلمة الثلاثين، وكذلك في اللمعة الثالثة والعشرين، حيث يهدم اركان فكرة عبادة الطبيعة ويقوضها من اساسها ويقتلعها من جذورها.
في منظومة فكر بديع الزمان نجد ان الذنوب والمعاصي عنده بمثابة المرشدين والدالين على طريق الكفر، ففي المواضع التي يكثر فيها هؤلاء يتجه شراع الفكر نحو الفسق وتحيط الأخطار بالايمان. أجل! “ان في ماهية المعصية - لاسيما اذا استمرت وكثرت - بذر الكفر.. اذ المعصية تولد الُفةً معها وابتلاء بها، بل تصير داءً، دواؤها الدائمى نفسها، فيتعذر تركُها. فيتمنى صاحبُها عدَم عقابٍ عليها، ويتحرى بلا شعور ما يدل على عدم العذاب، فتستمر هذه الحال حتى تنجر الى انكار العذاب وردّ دار العقاب”.
وفي عهد توسع وتطور مؤلفاته نجد هذا الموضوع في النكتة الاولى من اللمعة الثانية حيث يقول بان المعاصي تشكل مصائد وشباك طريق الكفر... وهذه ملاحظة أصيلة في الحقيقة.
لقد كان الاشتغال بالقرآن الكريم والتعمق في فهمه الشغل الشاغل لهذه العقلية النيرة، فاعتباراً من “اشارات الاعجاز” الى “المثنوي” الى الكلمات المختلفة في كتابه “الكلمات” ولا سيما الكلمة الخامسة والعشرون نراه يتنفس القرآن في كل كلمة ويأتي بتفاسير جديدة وأصيلة وعميقة، ثم يعرض هذه المعاني الالهية المستنزلة الى مستوى المدارك الانسانية امام العيون الباحثة والقلوب الظمأى” للحقائق فيثير وجداننا بافكاره الذهبية التي تعكس ارتفاع هذه المعاني الى ذروة المدارك الانسانية “انه جمع السلاسة الرائقة، والسلامة الفائقة، والتساند المتين، والتناسب الرصين، والتعاون بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب بين الآيات ومقاصدها بشهادة علم البيان وعلم المعاني مع انه نزل في عشرين سنة منجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقاطعاً بتلائمٍ كأنه نزل دفعةً.. ولاسباب نزولٍ مختلفة متباينة مع كمال التساند، كأن السبب واحدٌ.. وجاء جواباً لاسئلة مكررة متفاوتة، مع نهاية الامتزاج والاتحاد، كأن السؤال واحدٌ.. وجاء بياناً لحادثات احكامٍ متعددة متغايرة، مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة.. ونزل متضمناً لتنزلات إلهية في اساليب تناسب افهام المخاطبين، لاسيما، المنزَل عليه “عليه السلام” بحالات في التلقي متنوعة متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأن الحالة واحدة.. وجاء متكلماً متوجهاً الى اصناف مخاطبين متعددة متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطب واحد، بحيث يظن كلُ صنف كأنه المخاطب بالاصالة.. ونزل مهدياً وموصلاً لغايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد؛ تدور تلك المقاصد والغايات على الاقطاب الاربعة: وهي “التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة”. فبسر امتلائه من التوحيد، التأم وامتزج وانتظم واتحد.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM


الساعة الآن 05:01 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir