أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           سبحانك اللهم وبحمد ك وتبارك اسمك وتعالي جدك، ولا إله غيرك           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - حباب


المثنوي العربي النوري - ص: 173
الرسالة الخامسة
حباب
من عُمّان القُرآن الحكيم
خداى بركرم خود ملك خودرامى خَرد أز تو
براى تونكه دارد بهاء بى كران داده 1

_____________________
1 عمان: المقصود: البحر العظيم.
(1) [[ ان الله ذا الكرم الواسع يشتري ملكه منك، ويحافظ عليه لأجلك، وقد أعطى قيمة غالية..]]
طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة "علي شكري" بانقرة سنة 1341هـ (1923م)



المثنوي العربي النوري - ص: 175
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمدُ لله ربّ العالَمينَ.
والصَلاةُ والسَّلامُ على سيّد المُرسلينَ. وعلى آلهِ وَصَحبهِ أجمَعين.
اعلم! ايها المؤمن المصلي الذاكر، اذا قلت: "اشهدُ أن لا إلهَ الاّ الله" او "محمدٌ رسولُ الله" او "الحمد لله".. مثلاً: حكمتَ بحكمٍ، ادّعيتَ دعوى، واعلنت اعتقاداً، يشهد لك في دعواك في آن تلفظك ملايين، وقبلك ملايين ملايين من المؤمنين المتكلمين بما تكلمت به؛ كأنهم يصدّقونك.. وكذا يؤيدك في دعواك، ويُثبت حكمَك ويزكّي شهداءك، كلُّ ماقام على صدق الاسلامية، وكلُّ ماأثبت حُكماً من أحكامها، وكلُّ ما استند عليه جزءٌ من اجزاء قصر الاسلام من الشواهد والبراهين ومسامير الدلائل.. وكذا اندمج في ملفوظك وتوضَّعَ عليه امرٌ عظيم، ويُمنٌ جسيمٌ من الفيوضات والبركات القدسية.. وكذا اتصل بملفوظك واحاطَ به معنىً جاذب، وروحٌ جالب من شرارات جَذَبات توجهات جمهور المؤمنين، ومن رشاشات رشحات رشفات قلوب الموحّدين الشاربين ماء الحياة من عيون تلك الكلمات المباركة..
اعلم! انه قد تقرر في الاصول: ان المثبت يرجَّح على النافي. وسرّه: ان النفي ينحصر في موضعه، والاثباتُ يتعدى. ولو نفى الفٌ، واثبته الفٌ كان كلٌ من المثبتين كألفٍ. بسرّ: انه اذا رأى واحدٌ الشمسَ من مشكاةٍ، وآخر من اخرى، وهكذا؛ فكلٌ يؤيد كُلاً، لاتحاد المرئي والمشهود مع تعدد المناظر.. واذا لم يره واحدٌ لعدم المشكاة، وآخر لضعف البصر، وآخر لعدم النظر، وهكذا.. فقوةُ كلٍ في نفسهِ فقط. والانتفاءُ عنده، لايدل على الانتفاء في نفس الامر، فلا يؤيد احدٌ احداً لاختلاف الاسباب مع تعدد المدَّعى؛ لان الانتفاء مقيّدٌ عند النافي بـ"عندي" مثلا.


المثنوي العربي النوري - ص: 176
فاذا تفهّمت هذا السر؛ فاعلم! ان اتفاق كلِّ اهل الضلالة والكفر على نفي مسألةٍ من المسائل الايمانية، فاتفاقهم لاتأثير فيه، بل كحُكم واحدٍ. مع انه حجةٌ قاصرة ينحصر على النافي فقط. واما اتفاقُ اهل الهدى على المسائل الايمانية فكلٌ يتأيد بكلٍ، كأن الكلَّ شواهد كلِّ واحدٍ..
اعلم! انه كما ان الاجزاء والاحجار في البناء المتساند، يستند كلُّ واحدٍ بقوة الكل، ويزول ضعفُ كل بتساند الكلِّ، كأن الكلَّ عَوَنَةُ كلِ واحدٍ ومساميره.. وايضاً كما ان الاغصان والاثمار في الشجرة تستند معرفةُ صفاتِ كل واحدٍ بالكلِ، فكلٌّ للكلِّ معرِّفٌ، كأن كلَّ واحدٍ لكلِ واحدٍ منفذٌ نظّار، ولمعرفته معيار.. كذلك ان تفاصيل لمعات الايمان والاسلام ومسائلهما يستند كلُّ جزئي بقوة الكل، فبازدياد التفاصيل والجزئيات يزداد وضوح فهم كل جزء وقوة معرفة كل جزئي، واذعان كل حكم، وايقان كل مسألة. ومع كل ذلك، فالنفسُ الشيطانة تعكس فتنتكس. فتزعم ضعفَ الجزء، سببَ ضعفَ الكل..
اعلم! ان كل جزء من كل الكون واحد قياسيّ لإمكانات سائر الاجزاء. وبالعكس، فاجزاء الكائنات مقاييس للامكانات بينها كلٌّ لكلٍ..
اعلم! ان اصغر جزءٍ؛ من اعظم كلٍ، يحتاج الى مايحتاج اليه كل الكل كمّاً، فالثمرةُ تحتاج الى كلِ ما يحتاج اليه كل الشجرة. فخالق الثمرة بل حجيرة من حجيراتها لابد ان يكون خالق الشجرة، بل خالق الارض، بل خالق شجرة الخلقة.
اعلم! ان المسألة التي طرفاها في غاية التباعد، كل طرف كنواة تسنبلت واشجرت وتفرعت، لابد ان لايتوضّع عليها الشكوك والاوهام؛ اذ التباس نواة بنواة ممكن مابقت النواةُ نواةً مستورة. واما اذا صارت شجرة واثمرت، ثم شككتَ في جنس النواة شهدت الثمراتُ عليها، ولو توهمتَها غيرها، كذّبتْكَ تلك الثمرات.
مثلاً: لايتيسر لك فرضُ النواة التي انقلبت شجرة التفاح نواةَ حنظلةٍ، الاّ بتوهمها اياها، او تبديل كل ما اثمرت من التفاحات حنظلات وهو محال.
النبوة نواةٌ، انبتت شجرةَ الاسلامية بازاهيرها وثمراتها، والقرآنُ شمسٌ اثمرت سياراتِ اركان الاسلامية الاحد عشر.. 1
_____________________
1 اي: الاركان الخمسة للاسلام والستة للايمان. أفتبقى شبهة في البذرة بعد مشاهدة ثمراتها اليانعة ؟ حاش وكلا (ت: 78).



المثنوي العربي النوري - ص: 177
اعلم! 1 انه كما ان مَن يرى قشر بيضة انقشعت عن طير همائي 2 تكمَّل وطار في السمآء، ثم يتحرى ما يسمع من كمالاتِ ذلك الطير الطائر في فضاء العالَم 3 في تلك القشرة اليابسة، لابد ان يغالط نفسه، او يكذّب. 4 وكذا لو نظر الى فلقتَي نواةٍ انكشفت عن شجرةٍ تكمّلت وأثمرت، ومددت اغصانها في جو السماء، ثم تحرّى ما قرع سمعه من عظمتها وثمراتها وازهارها في تلك القشرة المطروحة في التراب، لابد ان يتبلّه او ينكر..
كذلك ان مَن نظر الى صورة ما نقله التواريخ من مبادي ظهور نبيّنا عليه الصلاة والسلام نَظراً مادياً وسطحياً وصورياً، لايتيسر له دركهُ وتقديرُ قيمته ومعرفة شخصيته المعنوية؛ بل لابد ان ينظر الى ما نقله التواريخ والسِير بنظر قشر رقيقٍ، انشقَّ عن قَمري - كقمر - في جو الملكوت. ويرى مايرى من لوازم البشرية، والاحوال الصورية كقشر نواة انكشفت منها شجرة طوبى المحمدية، التي تُسقى بماء الفيض الإلهي، وتنمو بامداد الفضل الرباني على مرّ الدهور. فكلما مرّ على سمعه شئٌ من الاحوال الصورية والمبدئية، فلابد ان لاينحبسَ عليه ذهنهُ، بل ليرفع رأسه بسرعة وفي كل مرة منه الى ماترقى وتصاعد اليه الآن مما لايدرك منتهاه.
وكذا ان ممّا يشط النظر لاسيما نظر المتحري الشاك، انه لايفرق بين المصدرية والمظهرية، بين المنبعية والمعكسية، وبين المعنى الاسمي والحرفي، وبين الذاتي والتجلّي. فكونه عليه السلام عبداً محضاً، واعبدَ خلق الله لله؛ يستلزم ان يُنظر اليه بانه مَظهرٌومَعكَسٌ لتجلياته تعالى. وكل ما فيه من الكمالات من فيضه تعالى.
نعم! قد ذكرنا مراراً ان الذرة لاتسع مصدرية ولو رأس ذبابة، ولكن تسع مظهرية ولو نجوم سمــوات. ونظر الغفلة ينظر اولاً وبالذات الى الذاتي الاسمي والمصدرية، فيتوهم الصنعة الالهية طبيعة طاغوتية..
_____________________
1 هذه المسألة موضحة في الاساس السادس من الاشارة الرابعة لرسالة "المعجزات الاحمدية" - المكتوبات.
2 طير في غاية الجمال كالطاووس (ت: 78)
3 اي ان شهرته وكمالاته اطبقت الآفاق (ت : 78)
4 حيث لا يرى ما يسمعه في القشرة ( ت: 78)




المثنوي العربي النوري - ص: 178
اعلم! ان الدعاء انموذج لأسرار التوحيد والعبادة؛ اذ الداعي في نفسه خُفيةً، لابد ان يعتقد سماع المدعو لهواجسَ نفسه وقدرته على تحصيل مطلبه، فيستلزم هذا الاعتقاد، اعتقادَ أن المدعو عليمٌ بكلِ شئ، وقديرٌ على كل شئ.
اعلم! انه كما يمكن دخول هذه الشمس - سراج العالم - في عين الذباب بالتجلي فتتنور، ولايمكن دخول شرارة من كبريتٍ في عينها بالأصالة، بل لو دخلتْ لانطفت العين.. كذلك يمكن بل يجب مظهرية كل ذرة لتجليات اسماء شمس الأزل، ولايمكن بل يمتنع ان تكون ذرةٌ مصدراً وظرفاً لمؤثر حقيقي، ولو كان اصغر واقل من الذرة.
اعلم! يا "انا" المتمرد المغرور المتكبر، انظر الى درجة ضعفك وعجزك وفقرك ومسكنتك!.. اذ يبارِزك ويصارعك - فتخرّ صعقاً - الحُوَينُ الذي لايُرى الاّ بتكبيره مرات ودرجات..
اعلم! ومن صُغر الانسان انه يجول في خردلة حافظته، وتصير تلك الخردلة عليه كصحراءٍ عظيمة يسري دائماً ولايقطعها الى جانب. فقس درجة مَن يسري دائماً ولايتم دَورَ خردلةٍ 1، ومع ان الخردلة الحافظة تصير كصحراء عظيمة على عقل الانسان، كذلك يصير ذلك العقل كبحر يبتلع الدنيا.. فسبحان مَن جعل الخردلة لعقل الانسان كالدنيا، وجعل الدنيا له كخردلة!.
اعلم! ان من اشد ظلم البشر اعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ اذ توهّم صدور محصّل كسب الجماعة، وأثَر جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لايمكن الاّ بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت الى درجة الايجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، الاّ تولدت من امثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية..
اعلم! ان الانسان كدوائر متداخلة متحدة المركز. ففي دائرةٍ: لباسه جسمهُ، وفي اخرى: بلدهُ، وفي اخرى: وجه الارض، وفي اخرى: عالم الشهادة وهكذا.. ولكنه لافعلَ ولاتأثير له إلاّ في الدائرة الصغرى، وفيما سواها من الدوائر عاجزٌ مسكين،
_____________________
1 اي لا يتم دوراناً حجم خردلة!



المثنوي العربي النوري - ص: 179
منفعلٌ وقابل لأخذ الفيض فقط. لو تَفَعَّل 1 مافعل الا تغييرَ صورة الفيض بالقصور والنقصان اللذين هما من الوان العدم..
اعلم! ان في الذاكر لطائف مختلفة في الاستفاضة؛ بعضُها يتوقف على شعور العقل والقلب، واستفادة بعضٍ لاشعوري تحصل من حيث لايُشعر. فالذكر مع الغفلة ايضاً لايخلو من الافاضة..
اعلم! ان الله خلق الانسان في تركيب عجيب، ووحدةٍ في كثرة؛ بسيطٌ وهو مركب، فردٌ وهو جماعة، له اعضاء وحواس ولطائف، لكلٍ في ذاته المٌ ولذة مع تألمه وتلذذه من انفعالات الكل وتأثرات اخواته؛ بدليل سرعة التعاون والامداد بينها. فمن حكمة هذه الخلقة جعلُ الانسان مظهراً لأنواع اللذائذ ولأقسام النِعَم ولأصناف الكمال - لاسيما في الآخرة - إن سلكَ في سبيل العبودية.. وكذا جعله محلاً لأنواع الآلام ولأشكال العذاب ولأقسام النقم، ان ضلَّ في طريق الأنانية. فألمُ وَجَع السنِ غيرُ ألم وجع الأذن. ولذةُ العينِ غير لذة اللسان، واللمس والخيال والعقل والقلب وهكذا..
اعلم! ان كثرة فوائد عدم تعين الآجال؛ دليل نيِّر على تعيُّنها في علم الباري، ولو تعينت لَتوهِّمَ عدمُ تعيُّنها من جهة العلم بتوهم تفويض تَعيّنها على القانون الفطري، واذ لم تتعين فيما بين الحدين المعيّنين؛ لاحقّ للوَهم ان يدّعي عدمَ التعيّن..
اعلم! ان الذكرمن شأنه ان يكون من الشعائر، والشعائر ارفع من ان تنالها ايدي الرياء..
اعلم! ان تكرار كلمة التوحيد؛ لتجريد القلب من انواع العلاقات، وطبقات المعبودات الباطلة، ولأن في الذاكر أنواعاً من لطائف وطبقاتٍ من حواس؛ لكلٍّ توحيدٌ وتجريدٌ من الشرك المناسب له..
اعلم! ان الفاتحة المقروءة، مثلاً؛ لاتفاوتَ بين إهداء مثل ثوابها لواحدٍ، ولألوفٍ، او لملايين، كمثل الكلمة الملفوظة، سواءٌ في استماعها الفردُ والالوفُ، لسرٍ لطيف في
_____________________
1 اي: لو اظهر الفعل مع عجزه..



المثنوي العربي النوري - ص: 180
سرعة التناسل والاستنساخ في اللّطيف.. ولرمزٍ شريفٍ في التكثر مع الوحدة في النوراني، كمصباح قابله مرآة فردٍ، او ألوف من المرايا..
اعلم! ان الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كاجابة دعوة المنعم الذي افاضَ فيضه، وبسطَ مائدة انعامه على مقام صاحب المعراج. واذا وصف المصلّي النبيَ بصفةٍ، لابد ان يتأمل في مناط تلك الصفة ليشتاق المصلي لتصليةٍ جديدة 1.
اعلم! ايها العالم الديني!. لاتحزن على عدم الرغبة في عملك وقلّة اجرتك؛ اذ المكافأة الدنيوية تنظر الى جهة الاحتياج، لا الى درجة القيمة الذاتية، اذ جهة المزية الذاتية ناظرة الى المكافأة الاخروية، لايجوز لك ان تشتري بها ثمناً قليلاً من متاع الغرور. 2
اعلم! ايها المحرّر والخطيب العمومي بلسان الجريدة! لك ان تتواضع وتهضم نفسك وتعلن قصورك تندماً. ولاحقّ لك ان تتمرد وبالتجاهر بما يضاد شعائر الاسلام. فاين جاز لك، ومَن وكّلَكَ، وبأيّ حقّ تتجاسر على اعلان القصور الديني 3، بل اشاعة الضلالة بحساب الملة وباسم الامة، وتظن الملة على قلبك الضال؟! 4.. فلا يجوز لأحدٍ - فضوليا - ان يهضم نفسَ غيره حتى نفسَ أخيه. فمن اين جاز لك ان تزيِّفَ عامة الملة الاسلامية باساءة الظن بهم بإعراضهم عن الشعائر الاسلامية.. ولاريب ان نشر ما لايقبله جمهور المؤمنين في الجرائد العمومية من المستحدثات دعوةٌ الى الضلالة، فناشرها داعٍ الى الضلالة، فلا يُجاب بالضرب على فمه فقط، بل يُعنّف بالأخذ على يده..
اعلم! ان الكفار لاسيما الاوربائيون ولاسيما شياطين في انكلترة واباليس الفرنك 5، اعداءٌ الدّاء، وخصماء معاندون ابداً للمسلمين واهل القرآن.. بسر: ان القرآن حَكَم على مُنكر القرآن والاسلام وعلى آبائهم واجدادهم بالاعدام الابدي،

_____________________
1 اي : بتكرار الصلوات عليه.
2 ادّخر مزاياك الخاصة للثواب الاخروي ولا تصرفها في متاع الدنيا التي لا تساوي شيئاً (ت: 80).
3 اي : اشاعة شبهات باطلة حول الدين (ت: 80).
4 فتحسب الامة جميعاً ضالين مثلك (ت : 80).
5 اي الافرنج الذي اطلق على الفرنسيين اولاً ثم شمل الاوربيين.وفي (ط1) امريقا.



المثنوي العربي النوري - ص: 181
فهم محكومون بالاعدام ابداً، والحبس في جهنم سرمداً بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا اهل القرآن كيف توالون مَن لايمكن ان يوالوكم او يحبوكم ابداً؟.. فقولوا: (حَسْبُنَا الله ونِعمَ الوَكيل) 1 (نِعمَ المَولى ونِعمَ النَّصير) 2...
اعلم! ان الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، ان الاولى: وحشةٌ مستحالة ظاهرها مزيّن، باطنها مشوّه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة.. ومدنية المؤمنين باطنها أعلى من ظاهرها، معناها أتمّ من صورتها، في جوفها أنسية وتحبب وتعاون. والسر: أن المؤمن بسر الايمان والتوحيد يرى اخوةً بين كل الكائنات، وانسية وتحببا بين اجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين. ويرى اخوةً في الاصل والمبدأ والماضي، وتلاقياً في المنتهى، والنتيجة في المستقبل. واما الكافر فبحكم الكفر له اجنبية 3 ومفارقة بل نوعُ عداوةٍ مع كل شئ لانفع له فيه، حتى مع اخيه؛ اذ لايرى الاخوة الاّ نقطة اتصال بين افتراق ازلي ممتد، وفراق ابدي سرمد؛ الاّ انه بنوع حميةٍ ملّية او غيرة جنسية تشتد تلك الاخوة في زمان قليل، مع ان ذلك الكافر لايحب في محبة اخيه، الاّ نفس نفسه. واما ما يُرى في مدنية الكفار من المحاسن الانسانية والمعالي الروحية، فمن ترشحات مدنية الاسلام، وانعكاسات ارشادات القرآن وصيحاته، ومن بقايا لمعات الاديان السماوية.
فان شئت فاذهب بخيالك الى مجلس "سيدا" 4 قدّس سره في قرية "نورشين".. وما اظهرت من المدنية الاسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكاً في زي الفقراء وملائكة في زي الاناسي. ثم اذهب الى "باريس" وادخل في لجنة الاعاظم تَرَ فيها عقارب، تلبسوا بلباس الاناسي، وعفاريت تصوروا بصور الآدميين. وقد بينتُ الفروق بين مدنية القرآن والمدنية الحاضرة في [اللوامع] 5 و[السانحات] 6 فراجعهما لترى فيهما أمراً عظيماً، تغافل عنه الناس..

_____________________
1 آل عمران: 173
2 الانفال : 40
3 اي الاحساس بالغربة في هذا الكون.
4 لقب يطلق على الاخ الكبير ، والمقصود هنا وليّ مشهورمن الصالحين في جنوب شرقي تركيا.
5 اللوامع - مجلس في عالم المثال - ص 854 من المجلد الاول من "الكلمات".
6 في المجلد الثامن "صيقل الاسلام" .



المثنوي العربي النوري - ص: 182
اعلم! يامن يطلب الاجتهاد في مسائل الدين في هذا الزمان! ان باب الاجتهاد مفتوح، لكن لايجوز لكم الدخول فيه لستة امور:
فاولاً: لان عند هبوب العاصفات في الشتاء يُسَدّ المنافذ الضيقة، فكيف تُفتح الابواب؟ وعند احاطة سيل المنكرات والبدعيات وتهاجم المخرّبات لايُشق الجدار بفتح منافذ..
وثانياً: ان الضروريات الدينية التي لامجال للاجتهاد فيها، والتي هي في حكم الغذاء والقوت للمسلمين قد اُهملت وتزلزلت، فلابد صرفَ كل الهمّة لأقامتها وامتثالها واحيائها، ثم بعد اللتيا والتي 1 تُمَسّ الحاجة الى الاجتهاد في النظريات التي توسعت باجتهادات السلف، بحيث لايضيق عن حاجات كل الزمان..
وثالثاً: ان لكل زمان متاعاً مرغوباً، يشتهر في سوقه تُجلب اليه الرغبات وتُوجَّه وتنجذب الافكار اليه، كالسياسة وتأمين الحياة الدنيوية الآن.. وكاستنباط مرضيات خالق العالم من كلامه، وتأمين السعادة الأبدية في زمان السلف. فلأجل توجُّه الاذهان والقلوب والارواح في الجمهور الى معرفة مرضيات ربّ السموات والارض في ذلك الزمان، صار كل مَن له استعداد جيد يتدرّس قلبهُ وفطرتهُ من حيث لايشعر من كل مايجري في ذلك الزمان من الاحوال والوقوعات والمحاورات، كأن كلَّ شئ معلّمٌ يلقن فطرته استعداداً إحضارياً للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذهنه يضئ ولو لم تمسسه نارُ كسب. فاذا توجه الى الاجتهاد صار له نورٌ على نور. واما الآن فلتشتت الافكار والقلوب، وانقسام العناية والهمة، وتحكّم السياسة والفلسفة في الاذهان، لايمكن لمن كان في ذكاء "سفيان بن عيينه" 2 مثلا ان يحصل الاجتهاد الا بعشرة امثال وقت ماحصل سفيان الاجتهاد فيه. اذ ان سفيان يبتدئ تحصيله الفطري من حيث التمييز. فيتهيأ استعدادهُ كالكبريت للنار. واما نظيره الآن - فبسر مامرّ آنفاً -
_____________________
1 اللتيا والتي: هي الداهية الكبيرة والصغيرة (مجمع الامثال للميداني).
2 ولد في الكوفة سنة 107هـ توفي سنة 198هـ بمكة المكرمة. كان اماماً عالماً ثبتاً، حجة زاهداً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته، حج سبعين حجة، ادرك نيفاً وثمانين نفساً من التابعين. روى عن الزهرى والسبعي وابن المنكدر وابي الزناد وعاصم المقرني والاعمش وعبدالملك بن عمير وغير هؤلاء من اعيان العلماء. وروى عنه الامام الشافعي وشعبة ومحمد بن اسحاق وابن جريح وابن بكار وعمه مصعب والصنعاني ويحيى بن اكثم وخلق كثير رضي الله عنهم (باختصار عن وفيات الاعيان لابن خلكان 2/391 - 393)




المثنوي العربي النوري - ص: 183
يتباعد استعدادهُ بدرجة تبحّره في الفنون الحاضرة ويتقاسى عن قبول الاجتهاد بدرجة تغلغله في العلوم الارضية..
ورابعاً: ان ميل التوسيع والاجتهاد ان كان من الداخلين بحق في دائرة كمال الاسلام بمظهرية التقوى الكاملة وامتثال الضروريات، يكون ذلك الميل كمالاً وتكملاً. واما ان كان ممن يهمل الضروريات ويرجّح الحياة الدنيوية على الآخرة يصير ذلك الميل ميلَ تخريبٍ، ووسيلةً لحل ربقة التكليف عن عنقه..
وخامساً: ان المصلحة حِكمة مرجّحة، وليست بعلّة للحُكم. ونظرُ هذا الزمان يصيِّر المصلحة علّة للحكم. وكذا نظرُ هذا الزمان يتوجه أولاً وبالذات الى السعادة الدنيوية، مع ان نظر الشريعة متوجه أولاً وبالذات الى السعادة الاخروية، وثانياً وبالعرض الى الدنيا من حيث هي وسيلة الآخرة.. وكذا ان كثيراً من الامور التي ابتلي الناسُ بها، وعمّت البليةُ بها حتى صارت من "الضروريات"؛ فلتولدها من سوء الاختيار، ومن الميول الغير المشروعة "لاتبيح المحظورات" ولاتصير مداراً لاحكام الرّخصية. كما ان مَن سَكر بشرب حرامٍ لايُعذر في تصرفاته في حالة السُكر.. وهكذا فالاجتهادات بهذا النظر في هذا الزمان تصيرُ ارضية، لاسماويّة. فالتصرف في أحكام خالق السموات والارض وفي عباده بلا إذنه مردود.
مثلاً: يَستحسن بعض الغافلين الخطبة بالتركية لتفهيم السياسة الحاضرة لعامة المسلمين، فهذا الغافل المسكين لايعلم ان السياسة الحاضرة بكثرة الكذب والحيلة والشيطنة فيها صارت كأنها وسوسة الشياطين، فلا حقّ لهذه الوسوسة السياسية ان ترتقي الى مقام تبليغ الوحي. وكذا لايَفهم هذا الجاهل، ان اكثر الامة انما يحتاجون لإخطار الضروريات وتذكير المسلّمات والتشويق على امتثال الحقائق المتعارفة بين المؤمنين، من اركان الايمان والاسلام ومراتب الاخلاص والاحسان. فبكثرة التسامع يتساوى العوام والعلماء في التذكر والتخطر بسماع القرآن. اذ العجمي يفهم المآل اجمالاً وإن لم يعرف المعنى. وكذا لايعقل ذلك الغافل ان عربية الخطبة وَسْمٌ سماوي مسدّد ومُزيَّن في سماء وحدة الاسلام، وبالتغيير يصير وَشماً مشتِتاً مشيناً.. 1
_____________________
1 أما الامر السادس فمذكور ضمناً هنا، وهو موضح في الكلمة السابعة والعشرين (الاجتهاد).



المثنوي العربي النوري - ص: 184
اعلم! يامن احاط به الغفلة واظلمت عليه الطبيعة حتى صار "أعمى وأصم" يعبد الاسباب في ظلمات الطبيعة الموهومة!. اني اترجم لك لساناً واحداً من خمسة وخمسين ألسنة يتكلم بها كلُّ واحدٍ من مركبات الكائنات وذراتها شاهدات على وجوب وجوده تعالى ووحدته في الوهيته وربوبيته جل جلاله.. 1 وهو ان اضطرابات الارواح والعقول الناشئة من ضلالاتها الناشئة من استنكاراتها الناشئة من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في اسناد الاشياء الى انفسها، والى الاسباب الامكانية تلجئ الارواحَ والعقول للفرار الى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل ايضاح كل مشكل، وبارادته يحصل فتح كل مغلق، وبذكره تطمئن القلوب.
فان شئت تحقيقه فانظر الى هذه الموازنة وهي: ان الموجودات إما فاعلها جانبُ الامكان والكثرة وإما جانبُ الوجوب والوحدة. فما يُتوهم بقصور النظر من الكلفة والاستبعاد، والاستغراب في اسناد كل شئ الى الواجب الوجود، تصير محققة عند الاسناد الى الكثرة، لقصور اي سبب كان، وضعفه عن تحمل اي مسبَّب كان، في جانب الكثرة دون الوحدة. فما يُتوهمُ هناك، متحقق هنا. ثم بعد هذا تتضاعف الكلفة والاستبعاد والاستغراب عدد اجزاء الكائنات مع انها في الاسناد الاول كانت واحدة موهومة وصارت هنا حقيقة متضاعفة عدد اجزاء الكائنات؛ اذ في الاسناد اليه تعالى نسبةُ كثيرٍ غير محدود الى واحدٍ مباين الماهية لها، وفي جانب الكثرة نسبةُ واحدٍ الى كثير غير محدود متماثلة الماهية؛ اذ النحلة مثلاً، لو لم تُسند الى الواجب الواحد، لزِمَ اشتراك السموات والارض في ايجادها لعلاقتها باركان العالم. مع ان صدور الكثير عن الواحد اسهلُ بمراتب من صدور الواحد عن الكثيرين المتشاكسين الصُم العمي الذين لايزيد اختلاطُهم الاّ اعميتَهم واصميتهم. ثم مع ذلك ان الكلفة لو كانت في الاسناد الاول مثل ذرة، تترقى في الاسناد الثاني الى امثال الجبال؛ اذ الواحد بالفعل الواحد يحصل وضعية ونتيجة للكثير، لايتيسر للكثير لو احيلت عليهم ان يحصلوا تلك الوضعية، او يصلوا الى تلك النتيجة الاّ بافعال كثيرة وتكلفات عظيمة؛ كالامير مع نفراته، والفوارة مع قطراتها، والمركز مع نقاط دائرته.
_____________________
1 قد ذكرت تلك الالسنة اجمالاً في "قطرة " وما هنا ايضاح لسانٍ واحدٍ فقط. المؤلف.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حباب

المثنوي العربي النوري - ص: 185
ثم مع ذلك ان الاستبعاد والاستغراب الموهومَين في الاسناد الاول، ينقلبان في الاسناد الثاني الى محالات متسلسلة.
من بعض المحالات: فرض صفات الواجب في كل ذرة؛ اذ كمال الصنعة ونقوشها واتقانها تقتضي علماً محيطاً، وبصراً مطلقاً، وقدرة تامةً وارادةً شاملةً..
ومنها فرض شركاء غير متناهية في الالوهية والوجوب اللذين لايقبلان الشركة اصلاً؛ إذ لو لم تُسند الاشياء الى الواحد الواجب، للزم ان يكون لكل واحدٍ وفي ضمنه واحد من الآلهة..
ومنها فرض كل ذرة حاكماً على الكل، ومحكوماً للكل ولكلٍ، كالاحجار في البناء المعقد لو انتفى الباني، لزِمَ ان يكون كل حجر كالباني عالماً مهندساً بانياً؛ اذ النظام والانتظام والاتقان والحِكمُ هكذا تقتضي، لامحل للتصادف فيها..
ومنها فرض الشعور المحيط والعلم التام والبصر المطلق في كل ذرة وسبب؛ اذ الموازنة والتناظر والتساند والتعاون يقتضي شعوراً محيطاً وبصراً مطلقاً وهكذا، من الصفات المحيطة. فلو اسندت الاشياء الى انفسها لزم تصوّر هذه الصفات في انفسها، ولو اسندت الى الاسباب لزم تصور هذه الصفات في اسبابها، بل في كل ذرة من ذراتها.. وهكذا من المحالات المتسلسلة والممتنعات العقلية والاباطيل التي تمجها الاوهام.
واما اذا اسندت الى صاحبها الحقيقي وهو صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لايلزم الاّ أن تصير الذرات ومركباتها - كقطرات المطر الحاملة لتماثيل الشمس بالانعكاس - مظاهر لتجليات لمعات القدرة النورانية المطلقة المحيطة الازلية الغير المتناهية، المستندة بل المتضمنة للعلم والارادة الازليين الغير المتناهيين. وهي القدرة التي شهدت عليها معجزات المخلوقات، التي لمعتها الفذة اجلّ من شمس الامكان والكثرة بسر التجزء والتوزيع والانقسام في جانب الامكان والكثرة، دون جانب الوجود والوحدة. وان ذرةَ تلك القدرة اعظم من جبال الاسباب، بسر ان جزء تجلي النوراني مالكٌ لخاصية الكل، كأن الكلّ كليٌّ، ولو في جانب الامكان، حتى ترى


المثنوي العربي النوري - ص: 186
الشمس بتمامها في ذرة زجاجية. فكيف نور الانوار المتظاهر من جانب الواجب الوجود الواحد الاحد؟!
فالفرق بين الاسناد الاول والاسناد الثاني، كالفرق بين تجلي الشمس بخاصيتها في قطرة بل في ذرة بالتجلي. وبين دعوى وجود شمس بالأصالة في تلك القطرة؛ ومحالية هذه الدعوى اظهر من ان تُخفى.. ومع كل ذلك لا كلفة ولامعالجة ولاتَعَمّلَ في عمل تلك القدرة المجهولة الازلية، بل تتساوى بالنسبة اليها الذراتُ والنجوم والجزء والكل والفرد والنوع والقليل والكثير والصغير والكبير وانت والعالم والنواة والشجرة. والسر في انه لاكلفة بالنسبة اليها؛ ان تلك القدرة لازمة ذاتية ضرورية ناشئة للذات الازلي، فلذاتيتها محالٌ تداخل ضدّها في مابينها. فاذ لاعجزَ فلا مراتب فيها، فاذ لامراتب فيها تتساوى بالنسبة اليها اصغرُ الاشياء واعظمها.
فان شئت تقريب هذه الحقيقة الى الفهم بتمثيلات في دائرة الامكان والكثرة، فاستمع مثلا: (ولله المثل الاعلى):
يتساوى في اخذ تجلي الشمس في تمثالها الذراتُ الزجاجية، والبحور الارضية، والسيارات السماوية بسر "الشفافية".. وان المصباح المركزي للمرايا المحيطة يتساوى بالنسبة الى المصباح زجاجةٌ من زجاجات اصغر دائرة، ومجموع الزجاجات في اكبر الدائرة، بسر "المقابلة".. وان النور والنوراني تتساوى بالنسبة الى الاستضاءة والاستفاضة، الواحدُ والالوفُ لاتزاحم فيه بسر "النورانية"، فلنوع نورانيةٍ في لطافة الكلمة يتساوى في الاستماع الواحدُ والالوف.. ومثلاً: ان الميزان الحساس بدرجةٍ يتحسس بذرة، لو كان في كفتيه شمسان او جوزتان، ما تفاوت بين رفع كفةٍ الى الثريا وكفة الى الثرى، بوضع جوزة اخرى في كفة بسر "الموازنة".. ومثلاً: ان اعظم السفن لايتعسر سوقها وتحريكها على صبي كما لايتعسر عليه تحريك سفينته التي هي ملعبته في كفه، او تحريك ساعته بسر "الانتظام".. ومثلاً: ان (القماندان) 1 لافرق في أمره بـ(آرش) 2 بين نفر وفيلق، يتساوى في التحريك والتحرك النفرُ، وكلُ العسكر بسر التزام "الامتثال".. ومثلاً: ان الماهية المجردة في الانواع والكليات،
_____________________
1 القائد العسكري.
2 ايعاز عسكري يعني تقدّم للهجوم.




المثنوي العربي النوري - ص: 187
يتساوى بالنسبة اليها فردٌ من اصغر الافراد واكبرُ الافراد وكلُ الافراد الغير المحدودة بسر "التجرد".. وهكذا من الامثلة الدالة على انه يمكن عدم التفاوت بين القليل والكثير والصغير والكبير بالنسبة الى شئ. 1
فبسر "شفافية" الملكوتية في كل شئ، وبسر "مقابلة" وجه كل شئ للقدرة، وبسر "نورانية" تلك القدرة، وبسر "الموازنة" الامكانية، وبسرّ "الانتظام" بقوانين القضاء والقدر، وبسر "امتثال" كل ذرة من ذرات الكائنات بكمال الشوق واللذة للاوامر التكوينية المندمجة في امر "كن"، وبسرّ "تجرد" الواجب الوجود عن الماديات. فبهذه الاسرار الستة تتساوى بالنسبة الى قدرته احياء البعوضة واحياء الارض وخلق النحلة وخلق السماوات والارض وايجاد الذرة وايجاد الشمس. بل ان التساوي وعدم التفاوت ثابت بالحدس القطعي والمشاهدة؛ اذ تلك القدرة المجهولة بماهيتها، والمعلومة بمعجزاتها تفعل بمثل غصن دقيق - كخيط رقيق - امثال العناقيد التمرية والعنبية وغيرهما، تلك الخوارق الحيوية التي لو أحيلت صنعتها على الاسباب لاحتاجت الى مالايحد من التكلفات، وتتجلى تلك القدرة بجلوات الوجود في سُمّ الخياط على الشفافات والعيون الناظرة الى الخيال بالتماثيل البرزخية، لو احيلت على الاسباب لامتنعت او لاحتاجت الى مالايحد من المعالجات.
الحاصل: ان مايُرى من ايجاد القدرة للاشياء الحيوية والوجودية والنورية يدل على امور ثلاثة:
الاول: ان الوسائط والاسباب الظاهرية حُجُبٌ ضعيفة وضِعَت لمحافظة عزة القدرة في المباشرة الظاهرية في وجه المُلك الكثيف الخسيس فقط..
والثاني: ان الحياة والوجود والنور - لشفافية وجه مُلكها كملكوتيتها - ما وضعت الحُجُب الكثيفة على يد القدرة، بل ترقرقت الوسائط فيها..
والثالث: لاتكلّف ولاتَعمّل ولامعالجة في تأثير تلك القدرة؛ اذ من يصنع بنواة تينةٍ، شجرة تينة بعظمتها، وبخيط دقيق عنقوداً من حبات العنب، وكل حبة فيها ما فيها؛ لايتعسر عليه شئ.. ولاريب في الحقيقة ان ظهور صاحب تلك القدرة الازلية

_____________________
1 ) في الكلمة العاشرة والتاسعة والعشرين توضيح وافٍ لهذه الاسرار الستة.



المثنوي العربي النوري - ص: 188
اشد بمراتب من ظهور الكائنات. اذ كل مصنوع دلالته على نفسه بوجوه قليلة مرئية، وعلى صانعه بوجوه كثيرة مشهودة وعقلية وغيرهما. واي مصنوع كان لو أحيل على الاسباب، واجتمعت عليه الاسباب الارضية والسماوية لم يَأتُوا بمِثلِهِ وَلَو كانَ بعضُهَمْ لبَعضٍ ظهيراً. اذ حبة نواة في حبة تينة ليست باقل جزالة من شجرة تينة، وليس الانسان اقل جزالة وادنى صنعة من الارض. فالقدرة التي اوجدت النواة والانسان لايتعسر عليها ابراز الشجر والعالم.
فيا من ضلّ بالاستبعاد والاستغراب والحيرة والاستنكاف في جانب الحق، فقد سمعت بهذه التحقيقات ان الاستبعاد بلا نهاية، والاستغراب بلا غاية، والحيرة بلا حد، وتحقق الكلفة بما لايحصى مع محالات عجيبة، فقد سمعتَها موجودة في جانب باطلك الذي ابتليت به من نسبة الاشياء بالاصالة الى انفسها واسبابها. فاضطرابات الارواح والعقول الناشئة من هذه الضلالة؛ تلجئ القلوب الى الفرار بالتسليم الى الواجب الوجود الواحد الاحد الذي لايحصل ايضاح شئ من الاشياء الاّ باضافته الى قدرته، ولايحصل فتح شئ من المغلقات الاّ باتصاله بارادته، ولايطمئنُ قلبٌ ولايستقر يقينٌ في مسألة من المسائل الاّ بربطها بذكره واسمه جل جلاله..
اعلم! ان ميدان اشتغال الانسان، ومساير جولان الهمة، اوسع من ان يُحاط به. فقد يجول في ذرة، ويسبَح في قطرة، وينحبس في نقطة، مع انه قديضع العالَم نصب عينيه، وقد يُدخل الكائنات في عقله حتى يتطاول الى رؤية الواجب الوجود ومشاهدته. فقد يكون الانسانُ اصغر من ذرة، وقد يصير اكبرَ من السموات، فيدخُلُ في القطرة مع انه يدخل فيه الفِطرةُ بانواعها واركانها..
اعلم! ان كل ما انعم الله به على الانسان، له شرائط ومفاتيح بعضها آفاقي وبعضها انفسي. مثلاً: ان الله انعم بالضياء والهواء والغذاء والصدى، وعلّق الاستفادة منها على فتح العين والانف والفم والسمع وهكذا.. مع ان هذه الفتوح الأنفسية من كسبنا، فلا يتحصل الاّ بخلقه وايجاده تعالى. فلا تتخيّلن ايها الغافل هذه النعم سدىً مهملة تسئم 1 فيها كيف تشاء بلا منّة ولا حساب. كلا!.. بل
_____________________
1 الكلمة مأخوذة من سامت الماشية ، اي: خرجت الى المرعى ، وليست من سئم ، بمعنى ملّ وضجر.



المثنوي العربي النوري - ص: 189
تُساق اليك بقصدِ مُنعمها فتلتقم باختيارك ثم تنتشر على مظان حاجاتك بارادة مُحسنها عمّ نواله..
اعلم! ان اواخر الاشياء ونهاياتها ليست باقلّ انتظاماً واتقاناً من اوائلها؛ ولا ظواهرها ولاصورها باحسن صنعة وحكمة من بواطنها. فلا تحسبنَّ اواخر الاشياء وبواطنها سدىً مهملةً تلعب بها يد التصادف. ألا ترى الثمرة مع الزهرة، اظهر حكمةً من الجرثوم النابت من النواة. فالصانع جل جلاله هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
اعلم! ان اعجاز القرآن، حَفظَ القرآن عن التحريف، فلا يتيسر لكلام مفسِّر او مؤلّفٍ او مترجم او محرّف وغيرهم، ان يلتبس بالآيات او يلبسَ زيّها كما التبست واختلطت سائر الكتب المنزلة حتى صارت محرفة..
اعلم! ان تكرار آية:
(فبأيّ الآءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في مقاطع الآيات التنزيلية المشيرة الى الآيات التكوينية المتنوعة المختلفة في سورة "الرحمن" يدل على ان اكثر عصيان الجن والانس وأشدَّ طغيانهما وأعظم كفرانهما يتولد من: عدم رؤية الانعام في النعمة.. والغفلة عن المنعم.. وإسناد النعم الى الاسباب والتصادفات.. حتى يصيرا مكذّبين بالآء الله. فلابد للمؤمن من ان يبسمل بَدء كلّ نعمةٍ قاصداً بها أنها منه، أنا آخذها بأسمه وبحسابه، لابحساب الوسائط، فله الشكر والمنة.
اعلم! ايها المتوسوس المتخطر بالقاآت الشيطان، واخطار مرض القلب والخيال، وبامرار خسة النفس ولؤمها مزخرفاتٍ 1 شتّى على عين عقلك عند توجهك الى الحقائق الالهية، حتى قد تمر على عينيك سحائبُ مظلمة ممطرة رذائل وفواحش، وشتوماً تقشعر منها عند نظرك الى شمس الحقائق، كأنك تمدّ يد التنزيه والتقديس، وترسل عينك للتسبيح والتمجيد؛ والحال ان يدك تتنجس بارجاس خيالك، ويستقذر نظرك ممّا يمر عليه من سفاسف خبث نفسك، ثم تنعكس تلك المستقذرات على المقدسات في نظرك، فتتألم فتتأمل في المستقذرات.لاتيأس ولاتتأثر ولاتلقِ نفسك في الغفلة للفرار من هذه الحال، والنجاة من هذا اللوم الأليم؛ اذ لاضررَ الاّ ضررُ توهّمِ الضرر،فتتكرر فتتضرر.ألا ترى انك اذا نظرت الى الشمس وضيائها، والسماء ونجومها والجنة وازاهيرها في مسامات ثوب مستقذر بمزخرفات شتى،
_____________________
1 مزخرفات: المقصود بها المستقذرات.



المثنوي العربي النوري - ص: 190
لايمكن ان تسري تلك اليها وتتكدر هي بها بل تنفعل انت منها. فلا تهتم بها لتذهب؛ اذ هذه الوهميات والهوائيات كالهوام والزنابير؛ إن دافعتَهم قاتلوك، وإن تركتهم فارقوك..
اعلم! ايها المتفلسف المرجِّح للعقل على النقل، فتؤِّل النقل بل تحرِّف؛ اذ لم يسعه عقلُك المتفسخ بالغرور والتغلغل في الفلسفيات! انني كنتُ في حينٍ كما كنتَ، ثم شاهدتُ قصراً شاهقاً شارقاً اتصل سطحهُ بسقف السماء، قد أرسلت متدلية من شبابيكها العالية زنابيل 1 متفاوتة، حبالها في المبدأ والمنتهى. فبعضها قريب من الارض فيقذف الانسان الموفّق نفسه في ذلك الزنبيل فيرتفع الى اعلى المنازل، وبعضها اخفض مبدأ وارفع منتهى. وهكذا.. ثم رايت بعض الناس الخاسرين المغرورين لايبالون بتلك الزنابيل، فيتشبثون للصعود بجمع الاحجار والاشياء ويضعونها تحت ارجلهم، فيتصاعدون قليلاً ثم يتساقطون، وأنّى لهم الصعود!.. وشاهدت بعض المعتمدين على انفسهم المتفرعنة، يدقون مسامير في جدار القصر فيضعون ارجلهم عليها متصاعدين فيخرّون فتندق اعناقهم وهكذا.. ورأيت ان ما جُهزوا به من مكاسبهم والآتهم انما اعطوها ليستعملوها على قدر الاستعداد والتوفيق في الصعود الى الزنبيل، لا الى المنازل. فعقلكَ عقالُكَ، وبالنقل نقلتُك. مَن توكّل على الله فهو حسبه..
اعلم! يا من تحير في سبب غلبة الفجار على الابرار، وتفوّق الطالحين على الصالحين في الحياة الدنيوية. اني قد شاهدت في واقعةٍ قصوراً، في كل قصر سرادقات متداخلة متصاعدة، سكان طبقاتها متفاوتون في اللطافة والعلوية والنورانية، فمن في المركز العالي كالسلطان، وتحته منازل فيها سكان متفاوتون في القيمة والنورانية، وهكذا الى الباب. ومن عند الباب خادم مظلم كثيف، وقدام الباب كلب متملق. ثم رأيت بعض القصور تلألأت ساحة بابه، فتأملت فيها فرأيت ملك القصر يلعب مع الكلب قدّام الباب، والمخَدّرات 2 يداعبن مكشوفات رؤوسهن مع الصبيان وقد تعطلت الوظائف النزيهة في الطبقات، وتشعشعت وظائف الكلب والصبيان وسَفَلة الخدام، فتفتق القصر عن مكنوناته متفسقاً، مشرقاً
_____________________
1 ان ايضاح هذه المسألة قد ذكر في بيان الطرق الثلاثة في آخر »الفاتحة« في رسالة "أنا " [الكلمة الثلاثون] وفي [اللوامع] في سياحة خيالية ختام "الكلمات". والزنابيل المتدلية اشارة الى الحقائق القرآنية التي هي الصراط المستقيم.. (المؤلف).
2 اي النساء .




المثنوي العربي النوري - ص: 191
مقتدراً قوياً ظاهر الباب، مظلماً معطلاً ذليلاً في الداخل. وفسوقه كفتوق فلقتي الرمان مثلا عن حباته. فعلمت ان تلك القصور هي الاناسي، حتى رأيت كل انسان قصراً، حتى رأيت نفسي العاصية ايضاً قصراً.. وسقوط اهل القصور على مراتب مختلفة نزولاً ادنى فأدنى. فشاهدت ان مايزعم اهل المدنية: ترقيا ما هو الاّ سقوط، واقتداراً ما هو الا ابتذال، وانتباهاً ما هو الاّ انغماس في نوم الغفلة، و(نزاكة) 1 ماهي الاّ رياء نفاقي، و(ذكاوة) 2 ماهي الاّ دسيسة شيطانية، وانسانية ماهي الاّ قلب الانسانية حيوانيةً. لكن يلوح على هذا الشخص الساقط العاصي لوائح اللطافة والجاذبية لاختلاط لطائفه النورانية بنفسه الظلمانية؛ خلافاً للمتدين المطيع الذي عند الباب نفسهُ المتكدرة فقط. الاّ انه قد يتنازل لطائف الصالح ايضاً، لا للهوسات السفلية، بل لإرشاد الناس الخارجين من الحدود وامدادهم بارجاعهم الى ماهم خلقوا لأجله، ان الله سبحانه، اذا احب عبداً لايحبب اليه محاسن الدنيا بل يُكرهها اليه بالمصائب.
ايواه! واأسفا!. قد اظهرت هذه المدنية السفيهة خوارق جلابة وملاهي جذابة، يتساقط اليها سكان قصور الانسان ومخدراتها، كتساقط الفراش على النور المشرق المنقلب الى النار المحرقة..
اعلم! ايها السعيد الشقي! ماهذا الغرور والغفلة والاستغناء؟ ألا ترى ان ليس لك من الاختيار الاّ شعرة، وليس من الاقتدار الاّ ذرة، وليس من هذه الحياة الاّ شعلة تنطفئ، وليس من العمر الاّ قليل مثل دقيقة تنقضي، وليس من الشعور الاّ لمعة تزول، وليس من الزمان الا آن يسيل، وليس من المكان الا مقدار القبر!.. ولك من العجز ما لايُحدّ، ومن الاحتياج مالايتناهي، ومن الفقر ما لايُحصى، ومن الآمال ما لاغاية لها، وهكذا.. فمن كان بهذه الحالة من العجز، وفي هذه الدرجة من الحاجة، هل يتوكل على ما في يده ويعتمد على نفسه.. او يتوكل على الله الرحمن الرحيم الذي من ظروف خزائن رحمته وصناديق نعمته: هذه الشموس وهؤلاء الاشجار المملوءة من الانوار والاثمار، ومن موازيب حوض فيضه ومسيلات رحمته: الماء والضياء.
_____________________
1 اللطف والرأفة .
2 الذكاء والفطنة.




المثنوي العربي النوري - ص: 192
اعلم! يامن يستعظم النتيجة ويستضعف دليلها! انه ما من دليل يشهد على حقيقةٍ من الحقائق الايمانية، الاّ ويزكيّه ويؤيّده ويقوّيه ويمدّه كلُّ ما قام على صدق شئ ما من الاسلامية. فكأن كلَّ مالايعد من الشواهد والشهداء والبراهين والامارات، كل منها يضعُ امضاءه على سند كلٍ من اخواتها، فيختم كلٌّ منها خاتمَ تصديقه على منشور كلِّ واحدٍ بسرّ مامرّ - في بداية هذه الرسالة - خلافاً للنافي؛ اذ للمنافاةِ بين النافي والمثبتِ يُنفى منَ النَّافي مايُثبِتُ للمُثبتِ. فالفُ نافٍ كفردٍ..
اعلم! انه قد تصير شدة محبة الشئ سبباً لانكاره، وكذا شدة الخوف، وكذا غاية العظمة، وكذا عدم احاطة العقل..
اعلم! اني قد تيقنتُ كأني شاهدتُ بحدس قطعي: ان جهنم مندمجةٌ بالقوة 1 في بذر الكفر كاندماج شجرة الحنظلة في نواتها.. وان الجنة مندمجة في حبة الايمان كاندراج شجرة النخلة في نواتها. فكما لاغرابة في استحالة النواة وانقلابها الى شجرة الحنظلة أو شجرة النخلة، كذلك لا استبعاد في تحول معنى الضلالة متجسماً جهنماً 2 تعذِّب، ولافي تمثل انوار الهداية جنةً تُستَعذب. وفي [اللوامع] 3 نبذة من هذه الشهود في هذا العالم ايضاً..
اعلم! كما ان الحبة من بذور الحبوبات ونوى الثمرات اذا ثقبت في قلبها، لاتتكبر بالتنبت. كذلك حبة "انا" اذا ثُقبت بشعاع ذكر: الله.. الله.. لاتتعاظم تلك الانانية متفرعةً بالانتعاش ومتفرعنةً بالغفلة، ومستحصنةً ومستندةً بآثار النوع، ومبارزةً بالعصيان لجبّار السموات والارض. والاولياء النقشبنديون موفَّقون لفتح حبة القلب وكشف طريقٍ قصير بثقب جبل (انا) وكسر رأس النفس بمثقاب الذكر الخفي. كما ان بالذكر الجهري تُخرّب طاغوت الطبيعة أو تمزَّق..
اعلم! أن أبعد واوسع وأرق دوائر الكثرة وطبقاتها يتلألأ عليها ايضاً اثرُ الحكمة والاتقان والاهتمام. فان شئتَ فانظر الى نهاية ما انبسط وانتشر اليه التكثر من جلد الانسان وصورته، لترى كيف يحشّي قلم القدرة صحيفة جبهته ووجهه وكفيه

_____________________
1 المقصود بالقوة : بالاستعداد والقابلية الكامنة في الشئ. اما بالفعل فيعني: بالمشاهدة والماثل امام العين.
2 لا تنصرف جهنم الاّ إن نكرّت فتنصرف.
3 اللوامع - كل الالام في الضلالة وكل اللذائذ في الايمان ص890 من "الكلمات".



المثنوي العربي النوري - ص: 193
بخطوط ونقوش وآلات دالات على معانى في روح الانسان، وعلى طائره المعلق في عنقه المشير الى القَدر المكتوب في فطرته، حتى لم يترك هذه التحشيةُ منفذاً لدخول التصادف الاعمى والاتفاقية العوراء..
اعلم! يامن ابتلي بحب هذه الحياة حتى حسبتَ ان العلة الغائية في الحياة وبقائها، وان كل ما اودعته القدرة الازلية في جوهر الانسانية وذوي الحياة من الجهازات العجيبة والتجهيزات الخارقة، انما اعطاها الفاطر الحكيم لحفظ هذه الحياة السريعة الزوال، ولاجل البقاء. كلا ثم كلا!. اذ لو كان بقاء الحياة هو المقصود من كتاب الحياة، لصار اظهر وابهرُ وانورُ دلائل الحكمة والعناية والانتظام وعدم العبثية باجماع شهادات نظامات الكائنات؛ اعجَبَ واغربَ وانسَب مثال العبثية والاسراف، وعدم الانتظام وعدم الحكمة. كمثل شجرٍ - كجبل - ليس لها الاّ ثمرة فردة كخردلة. بل يرجع الى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجة مالكية الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها. ثم سائر الثمرات والغايات راجعة الى المحيي جل جلاله بالمظهرية لتجليات اسمائه، وباظهار الوان وانواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الاخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..
اذ كما ان الشخص الموظف لأن يجس ويضع اصبعه عند اللزوم على الجهازات التي تتحرك بها السفينة العظيمة للسلطان، لايرجع اليه من فوائد السفينة الا بمقدار علاقته وخدمته، اي من الالوف واحداً.. كذلك درجة تصرّف كل حي في سفينة وجوده. بل هناك يمكن ان يستحق من الالوف واحداً، لكن لايستحق بالذات هنا من ملايين ملايين واحداً ايضاً..
اعلم! يا قلبي ان لذائذ الدنيا وزينتها بدون معرفة خالقنا ومالكنا ومولانا ولو كانت جنة، فهي جهنم. هكذا ذقت وشاهدت. حتى في نعمة الشفقة كما في "قطرة" ومعرفته تُغني عن كل ما في الدنيا حتى عن الجنة ايضاً..
اعلم! يا قلبي: إن كل مايجري في هذه الدنيا له وجهان: وجه الى الدنيا والنفس والهوى، ووجه الى الآخرة. فاما الوجه الدنيوي فاعظم الامور واثقلها واثبتها هو في نفس الامر بدرجة من الصغر والخفة والزوال، بحيث لايساوي ولايوازي ولايليق لان يُشوَّش له القلب (بالمرق) والتضجر، والتألم وشدة التأمل..


المثنوي العربي النوري - ص: 194
اعلم! ياقلبي هل ترى احمق وابله واجهل ممن يرى تمثال الشمس مثلاً في ذرة شفافة، او تجليها في صبغة زهرة؛ ثم يطلب في الشُميسة المرئية في الذرة ومن لون الزهرة وصبغتها، كلَّ لوازمات السراج الوهاج في سقف العالم، حتى جذبها للسيارات ومركزيتها للعالم. ثم اذا زال بعارضٍ مارآه في هذه الذرة والزهرة شرع - بسبب قصر النظر وانحصاره - ينكر وجود الشمس في وسط النهار، مع وجود شهادات سائر الذرات وكل (الشبنمات) 1 والرشاشات والقطرات والحبابات والحياض والبحور والسيارات في ضحوة النهار الصحو.
ثم ان ذلك الاجهل يلتبس عليه "الوجود الظلي بالتجلي" بمقدار لياقة قابلية الشئ المرسمة بالقَدَر "بالوجود بالاصالة". فاذا رأى الشمس في ذرة شفافة يقول: اين عظمة الشمس، واين حرارتها الخارقة، وكيف وكيف؟. الى آخر بلاهاته!..
وقد يريد ان يقتبس من نارها او يحسها بيده او يؤثر في ذاتها تأثيراً بوجه ما، ولايتفطن ان قربها منه بالتأثير فيه، لايستلزم قربه منها حتى تتأثر الشمس من فعله. ثم انه يرى في صغار الاشياء وخسائسها اتقاناً عجيباً واهتماماً غريباً وصنعة فائقة وحكمة رائقة، فيزعم بالقياس الباطل ان صانع هاتيك تكلَّف في صنعها وتعمَّل كثيراً؛ فيقول: ما قيمة الذباب مثلا، حتى يُصرف له هذا المصرف المهم من صانع حكيم؟ حتى يصير ذلك المسكين سوفسطائياً.
فيا هذا
(ولله المَثَلُ الأعلى) 2 (الله خالقُ كلّ شيءٍ وَهُوَ على كلّ شيءٍ وكيل) 3 لابد ان تعلم اموراً اربعة ينحل بها الاشكال.
الاول: ان كل شئ من الذرات الى الشموس يصفه تعالى بما له 4 في كمال ربوبيته، لكن لايتصف بماله لاجل مظهريته لتجليه..
الثاني: انه ينفتح من كل شئ الى نوره تعالى بابٌ، لكن بانسداد باب واحد في نظر قاصر لاينسد مالايحد من الابواب، وإن امكن فتح الكل بفتح واحدٍ.
_____________________
1 الندى.
2 النحل : 60
3 الزمر : 62
4 بما له من صفات جليلة.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حباب

المثنوي العربي النوري - ص: 195
والثالث: ان القدر المنعكس من العلم المحيط قد قيَّد ورَسَم لكل شئ حصة لائقة من فيض تجلي الاسماء المطلقة النورانية.
والرابع:
(انّمــا امـرُه اذا أرادَ شــيئاً انْ يَـقولَ لهُ كُــنْ فيَـكونُ) 1. و(مَا خلقُكم ولابَعثُكم الاّ كَنَفسٍ واحدَةٍ) 2. واما اذا اسند بالغفلة الاشياء الى انفسها والى الاسباب الامكانية، للزم على كل العقلاء ان يقبلوا المحالات الناشئة من حكم ذلك الاجهل الابله.
اعلم! ان القرآن المعجز البيان يعبّر كثيراً عن تبيين الحقائق بضرب المثل، بسر ان الحقائق المجردة الالهية متمثلة في دائرة الممكنات بقيود الامثال، فالممكن المسكين ينظر الى الامثال في دائرة الامكـان، ويلاحظ من خلفها شـؤون دائرة الوجوب
(ولله المَثَل الاعلى).
اعلم! ان العرش كالقلب، فقلبك فيك ملكاً 3 وانت في قلبك ملكوتاً ففي دائرة الاسم "الظاهر" العرش العظيم محيط بالكل، وفي دائرة الاسم "الباطن" كالقلب للكون. وفي الاسم "الاول" يشار اليه بـ (وكانَ عَرشُه على المَاء) 4 وفي الآخــر يــرمـز اليــــــه بـ: (وسـقف الجـنــــــة عــرش الرحـمــــن) 5 اذ لـعـرش مَـــــــــــن (هو الاولُ والآخرُ والظاهرُ والباطِنُ) 6 حصة الاولية والآخرية والظاهرية والباطنية..
اعلم! ان العجز معدن النداء، وان الاحتياج منبع الدعاء.
فيا ربي ويا خالقي ويا مالكي! حجتي عند ندائي حاجتي. وعدتي عند دعائي فاقتي. ووسيلتي انقطاع حيلتي. وكنزي عجزي. ورأس مالي آمالي وآلامي. وشفيعي حبيبك ورحمتك. فاعف عني واغفر لي وارحمني يا الله، يارحمــن، يارحيم.

_____________________
1 يس : 82
2 لقمان : 28
3 اي كما ان قلبك فيك في حالة مُلك ، وانت في قلبك في حالة ملكوت، اي كما ان الانسان من حيث الملك ظرف لقلبه ومن حيث الملكوت مظروف.. (ت : 96).
4 هود : 7
5 (الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض،والفردوس أعلى الجنة واوسطها، وفوقه عرش الرحمن.. ) الحديث صحيح : رواه ابن ماجة عن معاذ والحاكم عن عبادة بن الصامت وعن أبي هريرة، وابن عساكر عن ابي عبيدة الجراح ، رضي الله عنهم. ( صحيح الجامع الصغير وزيادته 3116) قال المحقق: صحيح وانظر الاحاديث 3423، 4120 من المصدر نفسه، وفي سلسلة الاحاديث الصحيحة 919 يشير الى حديث: سقف الجنة عرش الرحمن.
6 الحديد : 3




المثنوي العربي النوري - ص: 198
ترجمة المناجاة 1
التي تخطرت الى القلب باللسان الفارسي
[[ يارب! لقد بحثت في الجهات كلها (الجهات الست) فلم أجد دواءً لدائي.
فنظرت نحو اليمين، واذا بقبر أبي بالأمس.
ورنا بصري نحو اليسار، فاذا قبري في الغد.
وهذا اليوم هو تابوت يحمل جسمي المضطرب.
فجنازتي ماثلة أمامي فوق رأس عمري.
وتحت الاقدام ماء خلقتي ورميم عظامي ممزوجين.
وكلما نظرت الى الخلف رأيت هذه الدنيا سراباً في سراب.
واذا ما امتد نظري الى الامام، فالقبر فاغر فاه. وطريق الأبد يتراءى من بعيد.
وانني لا أملك سوى "الجزء الاختياري" وهو عاجز، قاصر، عديم الجدوى.
اذ لامجال له للحلول في الماضي، ولا النفوذ الى المستقبل.
وانما ميدان تجواله هو: زمان الحال، وآن واحد سيال.
وعلى الرغم من هذا الفقر والضعف فقد كتب قلمُ قدرتك في الفطرة مَيلاً الى الأبد وأملاً في الخلود.
فدائرة الاحتياج واسعة سعة امتداد النظر، فاينما يصلُ الخيال تصل الحاجة ايضاً.
بينما دائرة اقتداري قاصرة قاصرة كاليد.
ففقري وحاجتي بسعةِ الدنيا إذن.

_____________________
1 تفضل مشكوراً الاخ الكريم فاروق رسول يحيى بترجمة نص هذه المناجاة. اما ترجمتها الوافية ففي الكلمة السابعة عشرة وفي الرجاء السابع من اللمعة السادسة والعشرين "رسالة الشيوخ".



المثنوي العربي النوري - ص: 199
ورأس مالي مثل "الجزء الذي لايتجزأ" فأين هذا الجزء من تلك الحاجات التي تسع الكائنات؟
ولكني انطلق في سبيلك من هذا الجزء كي أحظى بعنايتك.
ان رحمتك المطلقة ملاذي.
فالذي يجد فيضاً من الرحمات، لايعتمد على هذا الجزء الاختياري، الذي هو قطرة من سراب.
يارب! هذه الدنيا ما هي الاّ كالمنام، وهذا العمر يذهب ادراج الرياح.
والانسان فانٍ بفناء الدنيا، والآمال الفانية آلامٌ في البقاء.
تعالي ايتها النفس التي لاحدود لها ضحّي بوجودِكِ الفاني.
فخالقك الذي بيده الوجود.. موجود.
له الملك وهو المعطي، فافنِ نفسكِ كي تجد النفسُ البقاء.
وذلك بسر: نفيُ النفي اثبات.
ياالهي ياذا الجود والكرم هب لي ملكاً من عندك.
واعطني قيمة لاحدود لها، فانك انت الحفيظ. ]]


المثنوي العربي النوري - ص: 200
خطاب الى مجلس الأمة 1
بسم الله الرحمن الرحيم
(انَّ الصّلوةَ كانت على المؤمنينَ كتاباً مَوقُوتاً)
يا ايها المبعوثون! انكم لمبعوثون ليوم عظيم.
ايها المجاهدون! ويااهل الحل والعقد!
ارجو أن تعيروا سمعاً الى مسألة يُسديها اليكم هذا الفقير الى الله في بضع نصائح وفي عشر كلمات:
اولاً: ان النعمة الالهية العظمى في انتصاركم هذا تستوجب الشكر، لتستمر وتزيد، إذ ان لم تُستقبل النعمة بالشكر تزول وتنقطع. فمادمتم قد أنقذتم القرآن الكريم من إغارة العدو - بفضل الله تعالى - فعليكم اذاً الامتثال بأمره الصريح وهو الصلاة المكتوبة، كي يظل عليكم فيضهُ وتدوم انواره بمثل هذه الصورة الخارقة.
ثانياً: لقد أبهجتم العالم الاسلامي بهذا الانتصار، وكسبتم ودّهم وإقبالهم عليكم، ولكن هذا الودّ والتوجّه نحوكم انما يدومان بالتزام الشعائر الاسلامية؛ اذ يحبكم المسلمون ويودّونكم لأجل الاسلام.
ثالثاً: لقد توليتم قيادة مجاهدين وشهداء في هذا العالم وهم بمثابة اولياء صالحين، فمن شأن امثالكم من الغيارى السعيُ والجدّ لامتثال اوامر القرآن الكريم لنيل صحبة اولئك النورانيين، والتشرف برفاقتهم في ذلك العالم. وإلاّ تضطرون الى
_____________________
1 القي هذا الخطاب في مجلس الامة التركي في 19/ 1 /1923 (1339) وهو محفوظ في سجلات المجلس، وكانت الدولة عندئذٍ على مفترق الطرق.. وكان من تأثير هذا الخطاب البالغ ان اقبل كثير من النواب (المبعوثين) الى اداء الفرائض. وقد نشر كلّه بالتركية في الكتاب فترجمناه كاملاً.



المثنوي العربي النوري - ص: 201
التماس العون والمدد من أبسط جندي هناك، في حين انتم قادة هنا. فهذه الدنيا بما فيها من شهرة وشرف لاتستحق ان تكون متاعاً ترضي كراماً امثالكم، ولاتكون لكم غاية المنى ومبلغ العلم.
رابعاً: ان هذه الامة الاسلامية مع أن قسماً منهم لايؤدون الصلاة. الاّ انهم يتطلعون ان يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة. بل ان اول ما يبادر اهل كردستان - الولايات الشرقية - مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم. فان كانوا مقيمين لها، فبها ونِعمَت ويثقون بهم، والاّ فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في اداء واجباته. ولقد حدثت في حينه اضطرابات في عشائر "بيت الشباب" فذهبتُ لأستقصي اسبابها، فقالوا: ان كان مسؤولنا "القائمقام" لايقيم الصلاة ويشرب الخمر، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين؟ هذا علماً ان الذين قالوا هذا الكلام هم انفسهم كانوا لايؤدون الصلاة، بل كانوا قطاع طرق!.
خامساً: ان ظهور اكثر الانبياء في الشرق واغلب الفلاسفة في الغرب رمزٌ للقدر الإلـــهي بأن الذي يستنهض الشرق ويقوّمه انما هو الدين والقلب، وليس العقل والفلسفة.. فمادمتم قد أيقظتم الشرق ونبهتموه، فامنحوهم نهجاً ينسجم مع فطرته. والاّ ستذهب مساعيكم هباءاً منثوراً، أو تظل سطحية موقتة.
سادساً: ان خصومكم واعداء الاسلام الأفرنج - ولاسيما الانكليز - قد استغلوا ولايزالون يستغلون اهمالكم امور الدين، حتى استطيع ان اقول: ان الذين يستغلون تهاونكم هذا يضرون بالاسلام بمثل مايضرّ به اعداؤكم - اليونان - فينبغي لكم باسم مصلحة الاسلام وسلامة الأمة تحويل هذا الاهمال الى أعمال. ولقد تبيّن لكم كيف لاقى زعماء الاتحاد والترقي نفوراً وازدراءً من الامة في الداخل رغم مابذلوه من تضحية وفداء وعزم واقدام حتى كانوا سبباً - الى حدٍ ما - في هذه اليقظة الاسلامية، وذلك لعدم اكتراث قسم منهم بالدين وبشعائره، بينما المسلمون في الخارج قد منحوهم التقدير والاحترام لعدم رؤيتهم تهاونهم واهمالهم في الدين.


المثنوي العربي النوري - ص: 202
سابعاً: على الرغم من تمكن عالم الكفر في الاغارة على العالم الاسلامي منذ مدة مديدة فانه لم يتغلب عليه دينياً مع جميع امكاناته وقدراته ووسائله الحضارية وفلسفته وعلمه ومبشريّه. فبقيت الفرق الضالة جميعها - في الداخل - أقلية محكومة. لذا ففي الوقت الذي حافظ الاسلام على صلابته ومتانته بأهل السنة والجماعة لن يتمكن تيار بدعي مترشح من الجانب الخبيث للحضارة الاوروبية، ان يجد سبيلاً الى صدر العالم الاسلامي. اي أن القيام بحركة انقلابية جوهرية لايمكن ان تحدث الاّ بالانقياد لدساتير الاسلام، والاّ فلا. علماً انه لم يحدث مثل هذه الحركة في السابق، ولو كانت قد حدثت فلقد تلاشت سريعاً وأفلَت.
ثامناً: ليس بالامكان القيام بعمل ايجابي بنّاء مع التهاون في الدين، حيث اقتربت الحضارة القرآنية من الظهور واوشكت الحضارة الاوربية الضالة المسؤولة عن ضعف الدين على التمزق والانهيار. أما القيام بعمل سلبي فليس الاسلام بحاجة اليه، كفاه ماتعرض له من جروح ومصائب.
تاسعاً: ان الذين يولونكم الحب قلباً ولساناً، ويثمنون خدماتكم وانتصاراتكم في "حرب الاستقلال" هذه، هم جمهور المؤمنين، وبخاصة طبقة العوام، وهم المسلمون الصادقون. فهم يحبونكم بجد، ويعتزون بكم بصدق، ويساندونكم باخلاص، ويقدّرون تضحياتكم، ويمدّونكم بأضخم ماتنبه لديهم من قوة. وانتم بدوركم ينبغي لكم الاتصال بهم والاستناد اليهم اتباعاً لأوامر القرآن الكريم ولأجل مصلحة الاسلام، والاّ فان تفضيل المتجردين من الاسلام والمبتوتي الصلة بالامة من مقلدي اوربا المعجبين بها، وترجيحهم على عامة المسلمين منافٍ كلياً لمصلحة الاسلام؛ وسيولي العالم الاسلامي وجهه الى جهة اخرى طلباً للمساعدة والعون.
عاشراً: ان كان في طريق تسعة احتمالات للهلاك، واحتمال واحد فقط للنجاة، فلا يسلكها الاّ مجنون طائش لايبالي بحياته.. ففي اداء الفرائض الدينية نجاة بتسع وتسعين بالمائة، علما انه لايستغرق - هذا الاداء - الاّ ساعة واحدة في اليوم، مقابل ما قد يمكن ان يكون احتمال ضرر واحد فقط يصيب الدنيا ومن حيث الغفلة والكسل. بينما اهمال الفرائض وتركها فيه احتمال تسع وتسعين بالمائة من الضرر مقابل واحد بالمائة من احتمال النجاة من حيث الغفلة والضلالة.. فياترى ايّ مسوّغٍ


المثنوي العربي النوري - ص: 203
وايّ مبرر يمكن ابتداعه في ترك الفرائض الذي يصيب ضرره الدين والدنيا معاً؟ وكيف تسمح حمية الفرد ونخوته بذلك التهاون؟
ان تصرفات هذه القافلة المجاهدة من أعضاء هذا المجلس العالي بالغة الأهمية، إذ إنها سوف تُقلّد.. فالامة إما أنها تقلّد أخطاءهم او تنتقدها، وكلاهما ملئ بالاضرار والاخطار. اي أن تمسكهم بحقوق الله وتوجههم لأداء الفرائض يتضمن حقوق العباد ايضاً.
ان عملاً جاداً لاينجز مع اولئك الذين يرضون بأوهام براقة نابعة من سفسطة النفس ووسوسة الشيطان ويصمّون اذانهم عن البلاغ المبين والبراهين الساطعة بالتواتر والاجماع.. ألا إن الحجر الاساس لهذا الانقلاب العظيم يجب ان يكون متيناً صلداً.
ان الشخصية المعنوية لهذا المجلس العالي قد تعهدت معنى "السلطنة" بما تتمتع به من قوة، فان لم يتعهد - هذا البرلمان - معنى "الخلافة" وكالةً ايضاً ولم يقم بامتثال الشعائر الاسلامية ولم يأمر الآخرين بالقيام بها، اي اذا اخفق في تقديم "معنى الخلافة" ولم يستوف حاجة الأمة الدينية - هذه الامة التي لم تفسد فطرتها والمحتاجة الى الدين اكثر من حاجتها لوسائل العيش - والتي لم تَنس حاجتها الروحية تحت كل ضغوط المدنية الحاضرة ولهوها، فانها تضطر الى منح معنى الخلافة الى ما ارتضيتموه - تماماً - من اسم ولفظ. فتمنح له القوة والاسناد ايضاً لإدامة ذلك المعنى. والحال ان مثل هذه القوة التي ليست بيد المجلس ولا تأتي عن طريقه تسبب الانشقاق، وشق عصا الطاعة يناقض امر القرآن الكريم الذي يقول:
(واعتَصموا بِحَبلِ الله جَميعاً ولا تَفرَّقوا) 1
ان هذا العصر عصر الجماعة، اذ الشخصية المعنوية - التي هي روح الجماعة - اثبت وامتن من شخصية الفرد. وهي اكثر استطاعة على تنفيذ الاحكام الشرعية. فشخصية الخليفة تتمكن من القيام بوظائفها استناداً الى هذه الروح المعنوية. ان
_____________________
1 آل عمران : 103




المثنوي العربي النوري - ص: 204
الشخصية المعنوية تعكس روح العامة فان كانت مستقيمة فان اشراقها وتألقها يكون أسطع وألمع من شخصية الفرد، اما ان كانت فاسدة فان فسادها يستشري وفق ذلك. فالشر والخير محددان في الفرد، بينما لايحدهما حدود في الجماعة. فأياكم ان تمحقوا المحاسن التي نلتموها تجاه الخارج بابدالها شروراً في الداخل.
انتم اعلم بأن اعداءكم الدائميين وخصومكم يحاولون تدمير شعائر الاسلام، مما يستوجب عليكم احياء هذه الشعائر والمحافظة عليها. وإلاّ فستُعينون - بغير شعورٍ منكم - العدو المتحفز للانقضاض عليكم.
ان التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي الى ضعف الامة، والضعف يُغرى العدو فيكم ويشجعه عليكم ولا يوقفه عند حدّه.
حسبنا الله ونعم الوكيل.. نعم المولى ونعم النصير.



المثنوي العربي النوري - ص: 205
ذيل الحباب
مَن كان لله كان له كل شئ..
ومَن لم يكن له، يكن عليه كلُّ شئ.
والكونُ له بتركِ الكلّ له والاذعانِ بأن الكلَّ مالهُ ومنه واليه..

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حباب


المثنوي العربي النوري - ص: 206
في (ط1)
افادة مرام
ياايها الناظر في رسائلي العربية الثمان! 1
اني اول ماكتبتُها، ماكتبتُ الاّ لنفسي، ثم تخطرتُ ان هذه النعمة من شُكرها نشرُها، لعل ان ينتفع بها أناسٌ. ثم بعد تكرار النظر فيها تفطنت فيها سراً ترددتُ في اظهاره من زمان ، ولكن أحسّ في قلبي الآن سائقاً لإظهاره، وهو:
انه أرى مسائل تلك الرسائل وسائلَ وسلالم.. للصعود الى الزنابيل النورانية المتدليّة من عرش الرحمن التي هي الآيات الفرقانية. فما من مسألةٍ منها الاّ ويماسّ رأسُها قدمَ آيةٍ من الفرقان. فمسائلها وإن حصلت لي اول ماحصلت شهودية وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوح الجفون - فيما يغمض فيه ذوي الابصار - لفّ عقلي على عادته مارآه قلبي في مقاييسه ووزنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية.
فيمكن لمن ضلّ من جهة الفكر والعلم أن يستفيد منها مايُنجيه من مزالق الافكار الفلسفية.
بل يمكن ان يستخرج منها بالتهذيب والتنظيم والايضاح عقائد إيمانية وعلم كلام جديد في غاية القوة والرصانة لردّ ضلالات أفكار هذا الزمان.
بل يمكن لمن اختلط عقلهُ بقلبه، او إلتحق قلبهُ بعقله المتشتت في آفاق الكثرة ان يستنبط منها طريقة كسكة الحديد متينةً أمينة يسلك فيها تحت ارشاد القرآن الكريم..كيف لا، وكل ما في رسائلي من المحاسن ما هو الاّ من فيض القرآن..
ولله الحمد كان القرآن هو مرشدي واستاذي في هذا الطريق.
نعم! مَن استمسكَ به استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها.
_____________________
1 وهى: قطرة وذيلها، ذرة، شمة، حبة وذيلها، حباب وذيله، ويلحق بها: نقطة وشعاعات ولمعات.



المثنوي العربي النوري - ص: 207
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تقدست عن الاشباه ذاتهُ، وتنزّهت عن مشابهة الامثال صفاتُه، الخلاّق الذي؛ ذاك العالمُ الكبير ابداعهُ.. وهذا العالمُ الصغير "اي الانسان" ايجادهُ.. وذا انشاؤه وهذا بناؤه.. وذا صنعتهُ وهذا صبغتهُ.. وذا نقشه وهذا زينتهُ.. وذا رحمتهُ وهذا نعمته.. وذا قدرتهُ وهذا حكمته.. وذا عظمتهُ وهذا ربوبيتهُ وذا مخلوقهُ وهذا مصنوعهُ.. وذا ملكهُ وهذا مملوكهُ.. وذا مسجدهُ وهذا عبده.. وعلى جوانبهما بل على كلِّ جزءٍ منهما سكتهُ الناطقة بان الكلَّ مالهُ..
اللّهم يا قيومَ الارض والسماء إنّا نُشهِدك ونُشهدُ حَملَة عرشكَ وملائكتك بشهادة جميع انبيائكَ واوليائك وآياتك وجميع مصنوعاتك وجميع خلقك بانك انت الله لا إلهَ الاّ انت وحدك لاشريكَ لك، ونستغفركَ ونتوب اليك ونشهد ان محمداً عبدك ورسولك، ارسلتَهُ رحمةً للعالمين..
اللّهمَ صلِّ عليه كما يناسب حرمته وكما يليقُ برحمتك وعلى آله وصحبه اجمعين..


المثنوي العربي النوري - ص: 208
اعلم! ان ما انعم الله عليك من وجودك وتوابعه، ما هو الا اباحة وليس بتمليك. فلك ان تتصرَّف فيما اعطاكَ كما يرضى مَن أعطى، لا كما ترضى انت. كمن أضاف احداً، ليس للضيف ان يُسرف او يَصرف فيما لا اذن للمضِّيف فيه..
اعلم! يامن يستغرب الحشر الاعظم ويستبعده! ألا تنظر الى ما بين يديك مما لايحصى من انواع الحشر والنشر والقيامات الخصوصية! وكيف تستبعد القيامة الكبرى مع مشاهدة مالايحد من القيامات في كل سنة، حتى في كل شجرة مثمرة او مزهرة؟ وان شئت اليقين الشهودي، فاذهب مع عقلك في آخر الربيع والصيف الى تحت شجرة التوت او المشمش، مثلا.. وانظر كيف حُشرت ونُشرت هذه الثمرات الحلوة الحية.. والمخلوقات الطرية اللطيفة النظيفة. كأنها اعيانُ الثمرات اللاتي ماتت في السنة الخالية. فهؤلاء الثمرات المنشورة المنثورة اللاتي يضحكن في وجهك، ما هي الاّ اخوات الميتات الخاليات وامثالها كأنها هي. ولو كانت لها "الوحدة الروحية" كالانسان كانت هي إياها، أي عينُها، لامثلها!.. ثم تأمل في الشجرة مع يبسها وجمودها وحقارتها وصغرها، مع ضيق مجاريها واشتباك مسيل حَمَلة ارزاق الازهار والاثمار.. كيف صارت تلك الشجرة برأسها عالَماً عجيباً، يصور للمدقق تمثال
(وإذا القُبورُ بُعثِرَت) 1. الحق ان القدرة التي تنشر من الشجرة اليابسة هذه المصنوعات اللطيفة لايتعسر عليها شئ ما في الامكان. آمنا..
اعلم! ان تضمين كلِّ سورةٍ سورةٍ من القرآن مجمل ما في كل القرآن وسائر السور من المقاصد واهم القصص، لأجل ان لايحرمَ من يقرأ سورة فقط عما أُنزلَ له التنزيل؛ اذ في المكلفين الامّيُ او الغبيُّ، ومَن لايتيسر له الاّ قراءة سورةٍ قصيرة فقط، فمِن هذه اللمعة الاعجازية تصير السورةُ قرآناً تاماً لمن قرأها..
اعلم! ان الواحد المتصرف في الكثير لايلزم ان يكون مباشراً مخالطاً متداخلاً فيما بينهم؛ لاسيما اذا كان مباين الماهية، ولاسيما اذا كان غير مادي ولا ممكنٍ، بخلاف الكثير. والفاعلُ الكثير - كفعل الامير في النفرات - يحصل بالارادة والامر بدون الاختلاط والمعالجة. ولو احيلت وظائف الامارة وافاعيلها على النفرات، لَزِمت المباشرة الذاتية والمعالجة، او انقلاب النفرات الى ماهية الامير. فالحق سبحانه مع غاية
_____________________
1 الانفطار : 4



المثنوي العربي النوري - ص: 209
تقدّسه وتنزّهه وعلوّه وعظمته، ونهاية بُعدنا وخساستنا، يتصرف فينا كما يشاء. وهو سبحانه كالشمس قريبٌ منا.. ونحن بعيدون منه جل جلاله..
اعلم! ان الكثرة تنجر الى الوحدة بجهة صيرورة الجزء انموذج الكل، كالشجرة الى الثمرة؛ فيصيرُ الكل كالكلي، والجزء كالجزئي كضياء الشمس المنبسط في الفضاء، اذ قد تضمن كلٌّ من ذرات ذلك الضياء لتمثالٍ من تماثيل الشمس، كأن الذرات المهتزة شُميساتٌ اتصلت فصارت ضياء مثلا: (ولله المَثل الأعلى).. هكذا تجليات اسماء نور الانوار الازلي فتجلي اسماء الله يُرى بهذين الوجهين كلاً وكلياً..
اعلم! يامن اطمأن بالدنيا وسكن اليها!.. ان مَثَلكَ كمثل من يتدحرج ساقطاً من اعلى قصر، يتدحرج ذلك القصر في سيلٍ، يتساقط ذلك السيل من أعالي جبل، يتدحرج ذلك الجبل متنازلاً بالزلزلة الى اعماق الارض.. اذ قصر الحياة ينهدم، وطائر العمر يمرّ كالبرق اوشك ان يبيّضك في وكر القبر، وسيلُ الزمان تسرع دواليبهُ بدرجة تُدهش العقول، وسفينة الارض تمر مرّ السحاب. فمن كان في (شمندوفر) 1 يسرع سرعة شديدة، ثم مدَّ يدَه - في وسط الطريق وفي آن السرعة - الى ازاهير ذات اشواك مفترسة في جانب الطريق، فمزّقت الاشواكُ يده.. فلا يلومنّ الا نفسه. فاذا كان هذا هكذا.. فلا تمدنّ عينيك ولايديك الى زهرة الدنيا، فان اشواكَ الآم الفراق تمزّق القلوب في آنِ التلاقي؛ فكيف بوقت الفراق!
فيا نفسي الامارة بالسوء! اعبدي مَن شئت وادّعي ماشئت.. وأما انا فلا اعبدُ الاّ الذي فطرني واقَتَدَر على ان سخر لي الشمس والقمر والارض والشجر، ولااستمدُّ الا ممن حَملني في طيارة العمر السابح في فضاء محيط القَدر، وسخّر لي الفلكَ الدائر الطائربين النجوم السيارات، وأركبني في (شمندوفر) الزمان المار كالبرق في اخدود الارض وتحت جبل الحياة الى باب القبر في طريق ابد الآباد.. وانا قاعد باذنه وتذكرته في (واغون) 2 هذا اليوم المتصل طرفاه بحلقتي الامس والغد.. ولا ادعو ولا استغيث الاّ مَن يقتدر على توقيف (جرخ الفَلَك) 3 المحرك ظاهراً لفُلكِ

_____________________
1 اي: القطار، وتوضيح المسألة في الكلمة الثالثة والعشرين.
2 عربة من القطار.
3 دولاب العالم، اي المقدرات.



المثنوي العربي النوري - ص: 210
الارض.. وعلى تسكين حركة الزمان بجمع الشمس والقمر.. وعلى تثبيت هذه الدنيا المتغيرة المتدحرجة من شواهق الوجود في اعماق أودية الفناء والزوال بتبديل الارض غير الارض؛ اذ لي آمال ومقاصد متعلقة بكل شئ، تبقى آمالي ملتزقة على مايمر عليه الزمان، وتذهب عليه الارض وتفارقه الدنيا، ولي علاقة ولذة بسعادة كل صالح من اهل السموات والارض. ولا اعبد الاّ مَن هو؛ كما يسمع ادقّ هواجس سري ويصلح لي ارق آمال قلبي وميوله.. كذلك يقتدر مع ذلك على ما يتمناه عقلي وخيالي من تحصيل السعادة الابدية لنوع البشر باقامة القيامة وتقليب الدنيا بالآخرة؛ فيصل يدهُ الى الذرة والى الشمس، فلا تتصاغر الذرةُ مختفية عن تصرفه، ولايتكبر كبر الشمس على قدرته.. اذ هو الذي اذا عرفتَه انقلبت لك الآلامُ لذائذَ، وبدونه تُنتج العلومُ اوهاماً.. والحِكَمُ اسقاماً.. بل هي هي.
نعم وبدون نوره تبكي الوجودات لك اعداماً، والانوار ظلماتٍ، والاحياء امواتاً، واللذائذ آلاماً وآثاماً، ويصيرُ الأودّاء بل الاشياء اعداء، وما البقاء بدونه الاّ بلاء، والكمال هباء، والعمر هواء، والحياة عذاب، والعقل عقاب، وتبكي الآمالُ آلاماً..
مَن كان لله تعالى كان له كل شئ، ومَن لم يكن له كان عليه كل شئ، والكون له بترك الكل له والاذعان بأن الكلّ مالُه.. وهو الذي فطرك بصورة احاطت بك دوائرُ متداخلة من الحاجات وجهّزك في اصغرها التي نصف قطرها مدّ يدك باقتدار واختيار. وجهّزك في البواقي التي وُسعت بعضها كما بين الازل والابد والفرش والعرش بالدعاء فقط.. وفي التنزيل
(قُل مَا يَعبؤا بِكُم ربي لَولاَ دُعاؤكم) 1 فالصبي ينادي ابويه فيما لايصل يدهُ اليه؛ فالعبد يدعو ربَّه فيما عجز عنه.
اعلم! ان كمال صنعة كل شئ واتقانها، ما هو الاّ من سر الوحدة. ولولا الوحدة بلا توزيع وبلا تجزؤ وبلا تزاحم لتفَاوَتَت المصنوعات. كوحدة الشمس ووجودها بالتجلي في كل مامسه ضياؤها.. من ذرةٍ شفافة الى وجه البحر، ولا يشغلها شئ عن شئ. فهذا السر تشاهده في هذه الشمس الممكنة المسكينة المقيدة المحدودة الجامدة الميتة التي هي قطرة متلمعةٌ بتجلي شعلةٍ من اسم النور الحق. فكيف شمس الأزل والسلطان الابد والقيوم السرمد الواجب الوجود الواحد الأحد الحي القدير
_____________________
1 الفرقان : 77




المثنوي العربي النوري - ص: 211
الصمد جل جلاله؟. (ولله المثل الاعلى) فوحدة الضياء المحيط تشير الى الواحدية، ووجود الشمس بخاصيتها بالتجلي في كل جزء وذرة من ذلك الضياء المحيط يرمز الى الأحدية. فتأمل!.
اعلم! ان من اصدق شواهد الاحدية:
"الوحدةُ في كل شئ" من ذرات حجيرة من عينك، الى وحدة العالم.
و"الاتقان الاكمل في كل شئ" بما تَسَعه لياقة قابليته المجعولة بقلم القضاء وقالب القدر.
و"السهولة المطلقة في انشاء كل شئ وايجاده". وان السهولة المطلقة تدل على ان وجود الصانع ليس من جنس وجود المصنوع، بل لابد ان يكون اثبت وأرسخ منه بما لايتناهى.
اعلم! ان الارض تعطيكم وتبيعكم متاعها والمال الذي في يدها، رخيصاً بنهاية الرخيصية. فلو كان المتاع مالها او نسجَ الاسباب الامكانية، لما اشتريتم رمانةً فردةً بجميع ماتصرفون، لاستحصال جميع ماتأخذونه من جميع الارض بايادي اشجارها ومزارعها؛ اذ يُرى في كل حبةٍ ان صانعها اهتم بها واتقن فيها بنهاية الاتقان وغاية التزيين، وجَمعَ فيها ما جمع بشعور تام، ومهارة حكيمة، وجهّزها بلطائف اللّون والطعم والرائحة لجلب انظار المشترين. فلو لم تكن هي مصنوعةُ مَن لا كلفةَ ولا معالجةَ ولا مباشرة في صُنعه وايجاده حتى تتساوى بالنسبة الى قدرته الحبةُ والحديقةُ والفردةُ الفذةُ وكل النوعِ والذرة والشمس.. لما كان هذا هكذا بلا ريب وبالبداهة وبالحدس القطعي؛ اذ لابد ان يكون صانع هذه الحبّات العنبية والرمانية المصنوعة ظاهراً لتطمين ذوقٍ موقت وهَوَس جزئي لبعض الحشرات والحيوانات، إما مسلوب الشعور ومفقود الحس وعديم الارادة بلا علم وبلا اختيار وبلا كمال، ليكون هذا هكذا رخيصاً تافهاً مبذولاً؛ والحال ان الصنعة الشعورية المتقنة الحكيمة المختارة تكذّب هذا الفرض اشد تكذيب.. وإما واجب الوجود: قدير، مريد، عليم، حكيم، بيده ملكوت كل شئ
(انّمَا امرُهُ اذا أرادَ شيئاً انْ يقولَ لهُ كُنْ فيكون) 1 (مَا خلقُكُم ولا بَعثُكم الاّ كنفسٍ واحدةٍ) 2 بالنسبة اليه. وله في
_____________________
1 يس : 82
2 لقمان : 28



المثنوي العربي النوري - ص: 212
كل مصنوع حِكَمٌ وغايات تنظر الى تجليات اسمائه والى اسرارٍ له في الفعالية الشؤونية، غير ما يعود الى المستهلكين من الفوائد الجزئية. فلايمكن ان يكون منشأ هذا الفيض العام قوّة عمياء تسيل منها هذه الثمرات كالسيل، ثم تلعب بها يد التصادفات والاتفاقيات؛ اذ تشخصاتها المنتظمة الحكيمة وخصوصياتها المتقنة الشعورية تردّ يد التصادف الاعمى والاتفاقية العوراء رداً قطعياً يقيناً. فبالضرورة تدل هذه الرخيصية المبذولة والسهولة نوعاً وكمّاً، والاتقان والاقتصاد فرداً وشخصاً وكيفاً، وتشهد على الجود المطلق من الجواد المطلق والحكيم المطلق والقدير المطلق جلّ جلالهُ وعمّ نوالهُ وشمل احسانه.
فسبحان مَن جَمع نهاية الجود المطلق مع نهاية الحكمة المتقصدة، وادرج الفيض المطلق الغير المحدود في ظروف النظام التام والميزان الحساس والعدل العادل.. الحساسة - تلك الثالثة - بدرجة: تجبر الفيل لمدافعة الذباب العاض على ذرة من جسمه الجسيم، وتقلق هذا الانسان المتكبر، الذي يحكّ بيافوخه 1 كتف السماء بطعن البعوض "رُميحته" فيتشمر لمقاتلته
(ضَعُفَ الطالبُ والمَطلوب) 2.. ويسكن غضبُ البحر ويسكت غيظُ العاصفات وتسكن حدةُ البرودة بدعاءٍ خفي من قلب منكسر لصبيّ نجا على لوح منكسر في البحر اللجيّ.. (أمَّنْ يُجيبُ المُضطرَّ اذا دَعاه) 3 يجيبه مَن يسمع هواجس القلب والسر ويحكم على حركات الشمس والقمر، جلّ سلطانه..
اعلم! يا ايها المبتلى بالاسباب، ان خلق السبب وتقدير سببيته وتجهيزه بلوازم انشاء المسبَّب، ليس باسهل وأولى واكمل وأعلى من خلق المسبَّب عند السبب بامر (كن) ممن يتساوى بالنسبة اليه الذراتُ والشموسُ..
اعلم! ياقلبي ان مايُرى ملء الدنيا من آلام الأعدام، انما هي تجدّد الامثال، ففي الفراق مع وجود الايمان توجد لذة التجدد دون ألم الزوال. فآمِن تُؤمَن، وأسْلِم تسلَم.
_____________________
1 مثل يضرب على التكبر.
2 الحج : 73
3 النمل : 62




المثنوي العربي النوري - ص: 213
اعلم! ان العصبية العنصرية الجاهلية، ماهي الاّ الغفلة المتساندة المتصالبة، والاّ الضلالة والرياء والظلم المتجاوبة المتعاونة.. فيصير الخلقُ وملّتهُ كمعبودِه العياذ بالله.. واما الحمية الاسلامية فهي النور المهتز المنعكس من ضياء الايمان..
اعلم! يامن يشتغل بالمناظرة مع الملحدين والمتشككين والمقلدين للزنادقة الأوروبائيين! انك على خطر عظيم إن كانت نفسُك غير مزكاة، لاجل إلتحاق نفسك سراً وتدريجاً من حيث لاتشعر بخصمائك.. على ان المناظرة بالانصاف المسمى بالتركي (بي طرفانه محاكمه) 1 اشد خطراً على ذي النفس الامارة؛ اذ بكثرة تكرار فرض المنصف نفسَه في موقع الخصم يقيمُ في ذهنه خصماً خيالياً فيتولد منه في دماغه "لُمةَ تنقيدٍ" تصيرُ وكيل خصمه داخلاً، فيتعشش الشيطان في تلك اللمة..
لكن لاتيأس ان كانت نيتُك خالصة. فاذا أحسَستَ بهذا الحال فاصرف عنان الجهاد الى عدوك الاكبر الداخلي، وعليك بكثرة التضرع والاستغفار..
اعلم! ان الآلات الجامدة والحيوانات وجهلة العَملة المستخدمة في بناء قصر عجيب لسلطان عظيم، وترسيم نقوشه، يعلم كلُّ مَن رآها انها "لا تعمل بحساب انفسها بل بحساب من يستخدمها" في مقاصده العالية الواسعة واغراضه الرقيقة التي تتقاصر عن ادراكها افكارُ خواص العلماء، فكيف بجَهلَة العوام وبهيمة الانعام وجامدات الاقلام.. كذلك من امعن في جلوات الازاهير وتودداتها وتحبباتها الى انظار ذوي الحياة تيقَّن: ان الازاهير موظفون - من جانب حكيمٍ كريمٍ - بالخدمة والتودد لضيفان ذلك الكريم النازلين بإذنه في أرضه، وكذلك الحيوانات.
نعم اين حس الزهرة وشعور البهيمة، واين درك غايات نقوش الحِكَم ولطائف محاسن الكرم المودعة في جلوات الازاهير بتزييناتها، وتطورات الأنعام بمنافعها؟ فما هذه الحالات الا تعرُّفُ ربٍ كريم وتودُده وتحبّبه الى عباده وضيوفه جلّ جلاله وعمَّ نواله وشمل احسانهُ..
اعلمي! ايتها النفس المشؤومة! انك تطلبين كلَّ لوازمات المراتب المختلفة في كل مرتبةٍ، وحاجاتِ كل الحواس في حاجة كل حسٍ، واذواق كل اللطائف في درجة كل لطيفةٍ، وشعاعات كل الاسماء الحسنى في كلّ اسمٍ، وعظمةَ المؤثر خلفَ كل أثرٍ
_____________________
1 اي المناظرة الموضوعية الحيادية والمنصفة.



المثنوي العربي النوري - ص: 214
ومصنوعٍ، وخواصَ المعنى الخارجي في المدلول الظلي، 1 بل في الدال. فاطلبي من كلٍ مايليق به ومايَسَعه لئلا تستهوي بك الاوهامُ..
اعلم! انه لابد اذا رأيت نفسَك بعظمتها ان تنظر الى ما هو اعظم منك من السموات وغيرها، واذا رأيت ما هو اصغر منك من الهوام والحشرات فانظر الى حجيرات جسدك وادخل مع نظرك في حجيرة منها، ثم انظر اليها حتى ترى البعوضة فما فوقها اكبر منك، لئلا يسقط في عينك اهمية الحِكمة والرحمة والنعمة واتقان الصنعة فيك. واذا رأيت الغير الغير المحدود المماثلين لك في النِعم، فانظر الى احتياجك وعَجز نفسك وحكمة النعمة، لئلا تهون عندك قيمة نعمتك.
نعم، هل يخفّف احتياجك الى العين وجودُ العين في عموم الحيوان؟. ام هل ينقص الشمول اثر القصدوالانعام الخاص؟ كلا، بل يشدّه ويزيده..
اعلم! ان الحياة في كل ذي حياة لها غايات لاتعد ولاتحصى، يعود الى الحي واحدٌ والى المحيي بمقدار مالكيته الغير المتناهية؛ ولاحق للكبير أن يتكبر على الصغير في الخلقة، ولاعبثية في الواقع، وانما هي في نظر البشر النفسي الغرور الذي يزعم ويرى ان الاشياء كلها لاجل منافعه وهوساته. ويحسب ان لاغاية لها غير مايعود اليه.. نعم، هذه الضيافة المفروشة على ظهر الارض اكرامٌ للبشر بسرّ الخلافة وبشرط استحصال لياقة الكرامة.. لا لَهُ ولإستفادته فقط.
اعلم! انه اذا قال لك الموسوس: ما انت الاّ حيوان مما لايحد من الحيوانات، والنمل اخوك والنحلة اختك، فاين انت واين مَن يَطوي السّماء
(كَطيّ السِّجلِّ للكُتبِ) 2 (والارضُ جَميعاً قَبضتُهُ يَومَ القيامَة والسّمواتُ مطويَّاتٌ بيمينه)
فقل له: ان عدم تناهي عجزي وفقري وذلي، مع علمي الاذعاني به يصيرُ مرآةً لعدم تناهي قدرته وغنائه وعزته. فهذا السر رقّاني من مرتبة اخواني الحيوانات. وان
_____________________
1 المعاني المتولدة في الذهن (ت: 103)
2 الانبياء : 104
3 الزمر : 67



المثنوي العربي النوري - ص: 215
من لوازم كمال عظمته واحاطة قدرته ان يسمع ندائي ويرى حاجاتي ولايُشغله تدبير الارض والسموات عن تدبير شؤوني الحقيرة.
واما تباعد الانسان والممكن بدرجة عظمته عن الاشتغال بجزئيات الامور وخسائسها، فليس من عظمته.. بل انّما ينشأ من عجزه ونقصه وضعفه. أفلا تشاهد كل حَبابٍ بل كل رشاشةٍ من القطرات والذرات الزجاجية، تشتمل على تمثال الشمس، لو تكلّمت تلك لقالت كلٌ منها: الشمس لي وعندي وفيّ ومعي.. وما يزاحم تلك الذرات في المناسبة مع الشمس لاعيون السيارات ولاخدود البحور ولاعظمة الشمس، بل بدرجة علمنا بعدم تناهي فقرنا وحقارتنا تتزايد القربة - والمناسبة بعدم المناسبة 1 - فما ألطف مناسبة من لايتناهى في فقره وعجزه، مع من لانهاية لغناه وقدرته وعزته وعظمته!.
فسبحان مَن ادرج نهاية اللطف في نهاية العظمة، وغاية الرأفة في غاية الجبروت، وجَمعَ نهاية القُرب مع غاية البُعد. وآخى بين الذرات والشموس، فأظهر قدرته بجمع الأضداد! ..
فانظر كيف لاتُشغلهُ حشمة تدبير الارض والسموات عن لطافة تربية الهوام والحشرات، ولايعوقه تدبير البر والبحر عن ايجاد اصغر النحل والطير وعن احياء صغار السماك في اعماق البحور، ولاتزاحمه شدةُ عاصفات البر وحدّة غضب البحر عن كمال لطفه واحسانه الى اخفى واضعف واعجز واصغر حيوان ساكنٍ في اخفى مكان، متوكلاً تحت ظلمات كثافة البحر وغياهب امواجه وتفاقم ارتجاجاته، وظلمة الليل وظلمات سحابه..
فتبسم الرحمة في خلال غضب البحر وخلف وجهه العبوس القمطرير؛ اذ ينادي هذا البحر بنغماته الواسعة: ياعظيم، ياجليل، ياكبير، ياالله.. سبحانك ما اعظم كبرياءك. فيقابله ذلك الحيوان الصغير بترنّماته الخفية: يا لطيف، يا كريم، يا رزاق، يا رحيم، يا الله.. سبحانك ما الطف احسانك. ففي اقتران هذين الذِكرين، وامتزاج هذين التسبيحين حِشمةٌ لطيفة ولطافة محتشمة وعبودية عالية للواحد الاحد الصمد جل جلاله وعمّ نواله..
_____________________
1 اي مع عدم المناسبة.



المثنوي العربي النوري - ص: 216
اعلم! ان الاهم الألزم بعد علوم الايمان، انما هو العمل الصالح؛ اذ القرآن الحكيم يقول على الدوام: (الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات).
نعم هذا العمر القصير لايكفي الاّ لما هو أهمّ.. واما العلوم الكونية المأخوذة من الاجانب فمضرة؛ 1 الا للضرورة وللحاجات وللصنعة واستراحة البشر..
اللّهم يا ارحم الراحمين.
ارحم امة محمد صلى الله عليه وسلم ونوّر قلوب امة محمد صلى الله عليه وسلم
بنور الايمان والقرآن..
ونوّر برهان القرآن..
وعظّم شريعة الاسلام .
آمــيــــــن..
_____________________
1 ان كانت تفضي الى السفاهة والفساد (ت: 105)





عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - حبة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 3 03-23-2011 07:55 PM


الساعة الآن 07:03 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir