أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ِ وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت           
العودة   منتديات البوحسن > التزكية > رسائل ووصايا في التزكية

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - حبة


المثنوي العربي النوري - ص: 217
الرسالة السادسة
حبة
من نواتات ثمرة من ثمرات
جنان القرآن
حبة مى كويد:
من شاخ درختم براز ميوهء توحيد يك شبنمم أزيم بر از لئلؤ تمجيد 1
_____________________
1 [[الحبة تقول: انني غصنُ شجرةٍ مثقلٌ بثمرة التوحيد وقطرةُ ندىً من البحر الزاخر بلؤلؤ التمجيد.]]
طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة "اوقاف اسلامية" باستانبول سنة 1340هـ (1922م)
المثنوي العربي النوري - ص: 218
في (ط 1)
افادة المرام
اعلم ! انه قيل لي ان الناس يقولون: لا نفهم كثيراً مما في آثاره فتصير ضايعة .
فأقول: لا تضيع باذنه تعالى . وسيجئ زمان يفهمها اكثر المتفكرين المتدينين ان شاء من بيده مقاليد كل شئ؛ اذ اكثر هذه المسائل ادوية جربتها في نفسي اعطانيها الفرقان الحكيم ، لكن يمكن ان لا يفهمها الناس كما أفهمها بتمامها! لان نفسي - بسوء اختيارها - من الرأس الى القدم ملمعة بالجروح المتنوعة ، فالسليمُ بحياة القلب لا يفهم درجة تأثير الترياق في السقيم بلدغ حية الهوى كما يفهمه هو ...
وايضا اني لا أتصرف في السانحات للتوضيح؛ عجزاً من التحرير او خوفاً من التغيير . فأكتبها كما سنحت...
وايضاً اتكلم في مكاني ، لا في مقام السامع المواجه لي - خلافاً لسائر المتكلمين الذين يفرضون انفسهم في مقام السامعين - فيصير امام كتابي (الذي) وجههُ اليّ، ومعكوسه ومقلوبه الى السامع، فكأنه يقرأ في المرآة فيتعسّر عليه؛ فاذا لا اذهب الى مقامه، فليرسل هو خياله اليّ لأضيفه على عيني ، في رأسي كي يرى كما أرى.
أدرجتُ في "نقطة وقطرة وذيلها وذرة وشمة وحبة" تفاريق حدسيات ، وقطعات مرآة اذا جاء باذنه تعالى من يركّبها ، بتحرير وتصوير، تظهر مرآة يظهر فيها وجه عين اليقين ويتحصل حدسٌ يزهر منه نور حق اليقين .. كيف لا ، وهو من فيض القرآن المبين!
اللّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه..
آمــيـــن
المثنوي العربي النوري - ص: 219
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الايمان والصلاة والسلام على محمّد الذي هو مركز دائرة الاسلام ومنبع انوار الايمان وعلى آله وصحبه اجمعين مادام المَلَوان 1 ومادار القمران. 2
اعلم ! أنه بينما ترى العالم كتاباً كبيراً ترى نور محمد "عليه الصلاة والسلام" مداد قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه "عليه الصلاة والسلام" نواتها أولاً، وثمرتها ثانياً.. وبينما ترى العالم يلبس جسم الحيوان 3 ترى نوره "عليه الصلاة والسلام" روحه.. وبينما ترى العالم تحوّل انساناً كبيراً ترى نوره "عليه الصلاة والسلام" عقله.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نوره "عليه الصلاة والسلام" عندليبه.. وبينما ترى العالم قصراً مزيناً عالياً ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعة سلطنة سلطان الازل وخوارق حشمته، ومحاسن تجليات جماله، ونقوش خوارق صنعته، اذاً ترى نوره "عليه الصلاة والسلام" نظّاراً يرى لنفسه أولاً، ثم ينادي بيا ايها الناس تعالوا الى هذه المناظر النزيهة، وحَيهلوا 4 على مالَكُم فيه شئ من المحبة والحيرة والتنزه والتقدير، والتنور والتفكر ومالايحد من المطالب العالية. ويريها الناس، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكه اليهم.. يستضيئ ويُضئ لهم.. يستفيض ويفيض عليهم..
اعلم ! ان الانسان ثمرةُ شجرة الخِلقة. والثمرةُ تكون اكمل الاجزاء وأبعدها من الجرثوم، واجمعها لخصائص الكل.. وهي التي من شأنها ان تبقى وتُسْتَبقى.
_____________________
1 الليل والنهار ، الواحد ملاً .
2 الشمس والقمر .
3 اي : لو افترض العالم كائناً مجسماً ذا حياة ترى .. (ت: 196)
4 حيهلوا : اسم فعل بمعنى أقبلوا وعجّلوا وهلمّوا.

المثنوي العربي النوري - ص: 220
ومن الانسان مَن هو نواةٌ انبتَ القديرُ جل شأنه منها تلك الشجرة.. ثم صيّر الفاطرُ جل جلالُه ذلك الانسانَ ثمرةَ تلك الشجرة.. ثم جعل الرحمنُ تلك الثمرة النورانية نواةً لشجرة الاسلامية.. وسراجاً لعالمها.. وشمساً لمنظومتها..
وانه لابد في الثمرة من نواةٍ تشتمل بالقوة على لوازمات شجرةٍ هى مثل اصلها. واصغريةُ النواةِ لاتنافي اعظمية الشجرة، كنواة شجرة التينة..
وان في الانسان حبةً، لو كان الانسانُ ثمرةً، لكانت تلك الحبة نواتهُ، ألا وهي القلب..
فقد رأيت فيه بواسطة الاحتياج علاقاتٍ الى انواع العالَم، بل الى اجزائها.. وارتباطاتٍ الى جميع انوار الاسمآء الحسنى باحتياج شديد وفقر عظيم لتجلي فردٍ فردٍ منها.. حتى كأن له حاجات عدَد اجزاء العالَم، وله اعداء ملء الدنيا.. فما يطمئن الا بمَن يقتدر ان يُغنيه عن كل شئ، ويحفظه من كل شئ..
ورأيت فيه ايضاً قابلية تمثل مجموع العالم كالخريطة والفهرستة والانموذج والتمثال.. وان المركز فيه لايقبل الاّ الواحد الأحد.. ولايرضى الاّ بالابد والسرمد.. فهذه النواة وهي حبة القلب - ماؤه الاسلام وضياؤه الايمان - فان اطمأنتْ تحت تراب العبودية والاخلاص، وسُقيت بالاسلام، وانتبهتْ بالايمان، انبتت شجرةً نورانيةً مثاليةً من عالم الامر هي روحٌُ لعالمه الجسماني. وان لم تُسق بقت نواةً يابسةً منكمشة لائقة للاحراق بالنار الى ان تنقلب الى النور.
وكم في النواة من اعصابٍ رقيقة واشياء دقيقة لايُبالى بها، وتُرى اقلُّ من ان يُهتَمّ بها، الا ان لكلٍ منها - اذا انكشفت النواة - وظيفةً مهمةً بحشمة وعظمة.. كذلك لحبةِ القلب خدّام كامنة نائمة اذا انتبهتْ وانبسطتْ بحياة القلب يجولون في بساتين الكائنات كطيور سيارة، وتنبسط 1 بدرجة يقول المرء: الحمد لله على كل مصنوعاته، لأنها كلها لي نِعَمٌ.. حتى ان الفرض او الخيال الذي هو من اضعف خدام القلب واهونهم، له وظيفة عجيبة، يَدخل به صاحبهُ المتوكل - وهو في السجن مقيد - في حديقةٍ نزيهة، ويضع رأس صاحبه المتنبّه وهو يصلي في الشرق او الغرب تحت "الحجر الاسود" ثم يودع في الحجر الاسود شهادتي صاحبه..
_____________________
1 اي: حبة القلب.

المثنوي العربي النوري - ص: 221
ومن المشهود ان "البيدر" يدور على رؤوس "الاثمار".. والثمرة هي التي تنتَقى وتُستبقى.. فبيدر الحشر ينتظر بني آدم..
اعلم ! ان لكل احد من هذا العالم العام؛ عالماً خاصاً، هو عين العام، لكن مركزه هو الشخص، بدل الشمس. فمفاتيحُ ذلك العالم في نفس الشخص ومعلّقه بلطائفه.. ولونُ ذلك العالم وصفاؤهُ وحُسنهُ وقُبحهُ وضياؤه وظلمته تابعةٌ لذلك المركز. فكما ان الحديقة المرتسمة في المرآة تابعة في احوالها من الحركة والتغيّر وغيرهما للمرآة، كذلك عالم الشخص تابعٌ لمركزه الذي هو الشخص كالظل والتمثال. فلا تحسبنّ صغر جِرمك سبباً لصغر جُرمك، اذ ذرة من قساوة قلبك، تكدّر 1 عليك نجوم عالمك..
اعلم ! ان هذه ثلاثون سنة لي مجادلة مع طاغوتين وهما: "انا" في الانسان، و"الطبيعة" في العالم..
اما هذا، فرأيته مرآةً ظلياً حرفياً. لكن نظر الانسانُ اليه نظراً اسمياً قصدياً بالاصالة، فتفرعن عليه وتَنَمرَدَ.
واما هذه، فرأيتها صنعة الهيّة وصبغة رحمانية.. لكن نظرَ البشرُ اليها بنظر الغفلة فتحولت لهم "طبيعة" فتألّهتْ عند مادييهم. فأنشأتْ كفران النِعَم المنجرّ الى الكفر.
فللّه الشكر والحمد وبتوفيق الاحد الصمد وبفيض القرآن المجيد انتجت المجادلة قتل الطاغوتين وكسر الصنمين؛ بالنقطة ، والقطرة، والذرة، والشمة، والحبة، والحباب.. فتكشَّفتْ الصنعةُ الشعورية الالهية والشريعةُ الفطرية الربانية من حجاب الطبيعة الموهومة، وانسلختْ هي منها، اي نهارُها من ليلها. وتكشف "انا" عن ظل "هو". وانشقّ عنه فاشارت بـ"هو"الى مَن ليس كمثله شئ جل جلاله..
اعلم ! يا "انا"! لك امور تسعة في دنياك تعاميتَ عن ماهيتها وعواقبها:
أما جسدك؛ فكالثمرة المتزهرة المتزينة صيفاً، المنكمشة المتفسخة شتاءاً.
وأما حيوانيتك؛ 2 فانظر الى جنس الحيوان كيف يسرع فيهم الموت والزوال.
_____________________
1 مشتقة من انكدار النجوم اى تناثرها.
2 اي: حياتك المادية (ت: 108)

المثنوي العربي النوري - ص: 222
وأما انسانيتك؛ فمترددة بين الانطفاء والاصطفاء والزوال والبقاء، فاستحفظ على ما بقي بما من شأنه ان يبقى بذكر الدائم الباقي.
واما حياتك؛ 1 فكقامتك قصيرة معينة الحدود لاتقدَّم ولاتؤخَّر فلا تتألم ولاتحزن ولاتخف عليها ولاتحمّلها مالاطاقة لها به مما تطاول اليه طول الامل.
واما وجودك؛ فليس ملكاً لك، فله مالكٌ، الملكُ له واشفق به منك؛ فمداخلتك بغيرِ ما أمركَ به، فكما انها من الفضول وشُغل فضولي فكثيراً ما تضر؛ الا ترى الحرص و(مرق) النوم كيف يفعلان ويجلبان الخيبة والسهر!.
وأما مصائبك؛ فلا تمر 2 حقيقةً لانها تَمُرُّ سريعاً، بل تحلو لانها تَحوُل؛ فتحوِّلُ وجهكَ من الفناء في الفاني الى البقاء بالباقي.
واما انت هنا الآن؛ فمسافرٌ ثم مسافرٌ ثم مسافرٌ، والمسافرُ لايَعلّقُ قلبه بما لايتعلق به ويفارقه بسرعة. فكما ترتحل من هذا المنزل في هذا المسجد البتة، كذلك تفارق هذه البلدة قطعاً، إما الى بطنها او الى خارجها.. فكما ستفارقها بالضرورة، كذلك تذهب بل تُخرَج وتُطردُ - شئتَ أم أبيتَ - من هذه الدنيا الفانية؛ فاخرجْ وانت عزيز قبل ان تُطرد وانت ذليل.
واما وجودك؛ فافْدِهِ لموجدهِ الذي يشتريه بثمنٍ غالٍ، فسارعْ الى البيع بل الفداء:
اولاً: فلأنه يزول مجاناً..
وثانياً: لانه مالُه واليه يؤول..
وثالثاً: لأنه إن اعتمدتَ عليه سقطتَ في العدم لانه "باب اليه"، واذا فتحته بالتَرك وصلتَ الى الوجود الثابت..
ورابعاً: لانه اذا تمسكتَ به كان في يدك نقطة وجودٍ فقط، ويحيط بك مالايتناهى من الأعدام الهائلة.. واذا نَفَضْتَ يدك منه استبدلت لمعةً بشمس فينقلب محيطُكَ الى مالايتناهى من انوار الوجود.
_____________________
1 اي مدة بقائك وعمرك
2 مأخوذة من المرارة ضد الحلاوة.


المثنوي العربي النوري - ص: 223
واما لذائذ الدنيا؛ فقِسمتُكَ تأتيك، فلا تَطِشْ في طلبها.. ولزوالها بسرعة لايليق بالعاقل تعليقُ القلب بها. وكيف ما كانت عاقبة دنياك فتركُ اللذائذ أولى؛ اذ إماالى السعادة، وهي تستلزم تركها.. وإما الى الشقاوة، ومَن ينتظرُ الصَلبَ كيف يلتذُّ ويَستعذِبُ ما يزيد عذابهُ من تزيينات آلات الصَلب؟ وان توهمتَ بالكفر العدمَ - العياذ بالله - فأولى بالترك؛ اذ بزوال اللذة يحسُّ ذلك العدم الهائلُ ألمه الاليم آناً فآناً في ضمن زوال اللذائذ، وهذا الالمُ اثقلُ بمراتب من لذة الوصال إن كنت تشعر..
اعلم! ان مثلك وقد تصيب رأسَك المصائبُ المرماةُ "بالقدر"، كمثل اغنام مُرسَلة في المرعى، يراها الراعي قد تجاوزت، فيرمي الاحجار خلفها لترجع، فيقول المُصابُ رأسُه بلسان الحال: نحن تحت أمر الراعي، وهو أعرفُ بنا منا فلنرجع.. فيرجع.. فيرجعون..
فلاتكوني يانفسي اضلّ من الغنم!. فقولي عند المصيبة:
(إنّا لله وإنّا اليه راجِعُون) 1..
اعلم! ان من الدليل على ان القلب ماخُلق للاشتغال بامور الدنيا قصداً؛ انه: اذا تعلق بشئٍ تعلّق بشدةٍ، واهتمّ به اهتماماً عظيماً، ويتطلب فيه أبديةً ودواماً.. ويفنى فيه فناءاً تاماً. واذا مدّ يده يَمُدّ يداً تطيق ان تقبضَ على الصخور العظيمة وتَرفَعَها، مع ان ما يأخذه بتلك اليد من الدنيا، انما هو تينةٌ او تبنةٌ او ريشةٌ او شعرةٌ او هباءٌ او هواءٌ..
نعم القلب مرآةُ الصمد؛ فلايقبل حجرَ الصنم بل ينكسرُ به. والعاشق المجازي يرى ظُلمَ معشوقه في الأكثر، بسرّ: ان المعشوق بفطرته - بلا شعور - يردّ ولايرضى ماليس له بحق، وهو ليس بلائقٍ اسكانه في باطن قلب العاشق..
اعلم! ان القرآن اُنزل وانزلت به مائدةً سماويةً، يوجد فيها كل انواع ما تحتاج اليه طبقاتُ نوع البشر المتفاوتين في اشتهاء الأفهام.. في المائدة اطعمة مترتبة، قُدِّمَ أولاً في وجهِ السُفرة الالهية رزق الاكثر المطلق والجمهور الاعظم، اي العوام.. مثلا:
(أنّ السمواتِ والارضَ كانَتا رَتقاً فَفَتَقناهُما) 2 الصفحة الاولى: اي هما
_____________________
1 البقرة : 156
2 الانبياء : 30

المثنوي العربي النوري - ص: 224
رتقاوان، اما هذه فنقية صحو صافية. واما تلك فميتة غبراء يابسة. فازدوَجَتا باذنه تعـــالى فاولدت هذه امطـــاراً وتلك اثمــاراً. والدليــل على هذه الصحيفــــة (وَجَعلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شئٍ حَيّ) 1. وخلف هذه الصفحة والصحيفة انفصال السيارات مع شمسها من عجين المادة التي خُِلقَت من نور سيّد الانام صلى الله عليه وسلم والآية 2 على هذه الصفحة حديث (اول ما خلق الله نوري..الخ) 3..
مثلاً:
(أفَعَيينَا بالخَلقِ الاَولِ بَل هُم في لَبسٍ منْ خَلقٍ جديد) 4 الصحيفة الاولى المقدمة في النظر، أنهم مع اقرارهم بخلقهم الاول الأعجب المشهود، يستبعدون الخلق الجديد الأهون؛ اذ له مثال سبق.. وان خلف هذه الصحيفة برهاناً نيراً على كمال سهولة النشر.. ايها المنكرون للحشر.. تُحشَرون.. وتنشرون في عمركم مرات، بل في سنتكم، بل في يومكم، تلبسون وتخلعون هذا الجسم كلباسكم صباحاً ومساءً يتجدد عليكم جسمكم كلباسكم. 5
اعلم! فيا عجباً من بلاهة النفس!.. ترى في نفسها اثر المصنوعية والمملوكية والتربية من طرف ربّ مختار حكيم، ثم تنظر الى امثالها من سائر الافراد والانواع والاجناس، فيتظاهر سر كلية القاعدة وشمول الفيض، وتحلب نوع اجماع وتصديق فعلي، فكان لازماً عليها ان تطمئن بتفطن سر: "كلية القاعدة ودستورية الحادثة". والحال انها تتخيل ما يقوي تجليات الاسماء عليها من عموم تجلياتها في دائرة الآفاق سبب الضعف وواسطة التستر وامارة الاهمال وعلامة انه لارقيب عليها فتقول: اتسعَ فامتنع.. عَظُم فَعَدِم. فهذه مغلطة يخجل منها الشيطان ايضاً..
_____________________
1 الانبياء/30
2 اي الدليل والبرهان.
3 (اول ما خلق الله نور نبيك يا جابر - الحديث) رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبدالله في حديث طويل (كشف الخفاء 1 / 205) وفيه ايضاً ( 2 / 129) : (كنت اول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث) قال في المقاصد: رواه ابو نعيم في الدلائل وابن ابي حاتم في تفسيره وابن لال، ومن طريقه عن ابي هريرة مرفوعاً ، وله شاهد من حديث ميسرة الفخر، اخرجه احمد والبخاري في تأريخه والبغوي وابن السكن وابو نعيم في الحلية وصححه الحاكم . اهـ.
4 ق : 15
5 تفصيله في اشارات الاعجاز - في تفسير قوله تعالى (وبالآخرة هم يوقنون) - المؤلف.

المثنوي العربي النوري - ص: 225
اعلمي! ايتها النفس المتضجرة القلقة.. ان كل احوالك في التعين، والنقش في جبهتك بقلم القَدر، كطلوع الشمس وغروبها. فان اردت ان تضربي سندان القدر برأسك العليل، فتضجّري. واعلمي يقيناً، ان من لايستطيع ان ينفذ من اقطار السموات والارض، لابد ان يرضى رضاء محبةٍ بربوبيةِ مَن (خَلقَ كلَّ شئٍ فَقَدَّرهُ تَقديراً) 1.
اعلم! لو كان صانع الشئ في الشئ لناسَبه، ولَتَنَوعَ بعدد الاشياء . واذا لم يكن فيه فلا ، كهذا الكتاب : يُكتب بقلم واحد مع انه لا يُطبع الا بحديدات مصنوعة ، موضوعة تحته عدد حروفه، ولو تَنَبَّتَتْ نقوش الصنعةِ المتقنة في شئ منه وتحلّبت ثمراتُها وترشحت حروفُها من نفسه وإمكانه ، لا نبثتْ وانتثرتْ وانتشرتْ ولخرجت عن الانتظام . لكن فيها استقرار تام وانتظام كامل فلم ينكتب نقشَ الشئ منه ولن ينكتب منه ابداً ، بل يُكتب عليه بقلم القُدرة على مِسطَر القَدَر. .
اعلم! ومن الغرائب ان العقل الذي يتطاول الى الاحاطة بالعالم والنفوذ الى الخارج والخروج من دائرة الامكان، يغرق في قطرة.. ويفنى في ذرة.. ويغيب في شعرة.. وينحصر الوجود عنده فيما فنى فيه.. ويريد ان يدخل معه كل ما احاط به في النقطة التي بَلَعته.. 2
اعلم! انه لو كان المُلك لك لتنغّص عليك التنعم بتكلف التعهد والتحفظ والتخوف. والمنعمُ الكريم يتعهد كل لوازمات النعمة.. وما يفوّض اليك الاّ التنعم والتناول من سُفرة احسانه. والشكر الذي يزيد لذةَ النعمة.. اذ الشكر رؤية الاِنعام في النعمة ورؤية الاِنعام تزيل ألمَ زوال النعمة؛ اذ تزولُ النعمة حينئذٍ فلا تعطي موضعها للعدم حتى تُؤلم، بل تُخلي الموقعَ لمجئ المثل كالثمرة، فتعطيك لذة التجدد.
(وآخرُ دعْويهُم اَنِ الحمدُ لله رَبّ العَالمين) 3 يدل على ان الحمدَ عينُ اللذة. نعم، ان سر الحمد؛ رؤية شجرةِ الاِنعام في ثمرة النعمة. فيزول المُ تصوّر الزوال فيُلتَذ بنفس الحمد..
_____________________
1 الفرقان : 2
2 نعم ! ان اكبر فلاسفة الارض عقلاً يغرق في قطرة من الالم ، ويفنى في ذرة من المحبة ، ويغيب في شعرة من السرور ، وينحصر الوجود عنده في لحظة فناء باهتماماته، ويجهد ان يسحب معه كل معارفه الوجودية الى عمق النقطة التي ابتلعته.
3 يونس : 10


المثنوي العربي النوري - ص: 226
اعلم! ان المعلومات الآفاقية لاتخلو عن الاوهام والوساوس. واما اذا استندت الى الأنفس واتصلت بالوجدانيات المشعورة بالذات، تصفّت عن الاحتمالات المزعجة. فانظر من المركز الى المحيط، ولاتعكس فتنتكس.
اعلم! ان هذه المدنية السفيهة المصيرة للارض كبلدة واحدة، يتعارف اهلُها ويتناجون بالاثم ومالايعني 1 بالجرائد صباحاً ومساءً، غَلُظَ بسببها وتكاثفَ بملاهيها حجابُ الغفلة، بحيث لايُخرق الاّ بصرف همةٍ عظيمة. وكذا فتحت لروح البشر منافذ غير محدودة نظّارة الى الدنيا يتعذّر سدُّها الاّ لمن خصّه الله بلطفه..
اعلم! ان الذرة تسع الشمس بتجليها فيها بالمشاهدة ولا تسع تلك الذرة ذرتين بالذات بالبداهة، فذراتُ الكائنات ومركباتها - كقطرات المطر ورشاشاتها المتشمسة المتلألئة بتماثيل الشمس - قابلةٌ لأن تصير مظاهر للمعات تجليات القدرة النورانية الازلية المطلقة المحيطة المستندة؛ بل المتضمنة للعلم والارادة الازليين الغير المتناهيين.. ولايمكن ان تكون ذرة حجيرة عينك منبعاً ومعدناً لقدرة وشعور وارادة تتحمل وظائفها العشرة من خَدَمتها في الاعصاب المحركة والحساسة والاوردة والشرايين والابصار والتصوير وغيرها مما يتيه فيه الفكر.
فهذه الصنعة المتقنة العجيبة، والنقش المزين المنتظم، والحكمة العميقة الدقيقة، تقتضي قطعاً:
إما ان يكون كل ذرة وكل مركب في الكائنات معدناً ومنبعاً ومصدراً لصفات محيطة مطلقة كاملة..
وإما ان يكون مظهراً ومعكساً ومَجلَىً للمعاتِ تجليات شمس الازل الذي له هذه الصفات.
والشِق الاول فيه محالات بعدد ذرات الكائنات ومركباتها. فمن جاز عنده ان يحمل على جناحىَ نحلة جبلى "سُبحانْ وآرارات" 2 وان ينبع من عيني بعوضة "النيل والفرات"، فليذهب الى الشق الاول؛ فتشهد كلُّ ذرةٍ بِعَجزها عن تحمل مالا طاقة لها به، انه: لاموجد ولا خالق ولا رب ولا مالك ولا قيوم ولا إله الاّ الله. وكل
_____________________
1 وما لا يعني من الامور التي تلهي الانسان.
2 جبلان يقعان شرقي تركيا.


عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حبة


المثنوي العربي النوري - ص: 227
ذرات الكائنات ومركباتها بألسنتها المختلفة ودلالاتها المتنوعة تتكلم بـ:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل الى ذاك الجمال يشير
نعم، ان كل حرف من كتاب الكائنات، يدل على وجود نفسه بوجهٍ واحدٍ، وبمقدار حرف، لكن يدل على كاتبه وصانعه بوجوه كثيرة. وينشدُ من اسمائه المتجلية عليه قصيدة طويلة:
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى اليك رسائل 1
اعلم! 2 إن مرايا التجليات متنوعة منها: الزجاج، والماء، والهواء - لاسيما للكلمات - وعالم المثال، والروح، والعقل، والخيال، والزمان. وغيرها مما لانعلم او لاتعلم.. وتماثيل الماديات الكثيفة في المرايا 3 منفصلة حُكماً، وامواتٌ حقيقةً.. وليس لها خاصية الأصل.. وغيرٌ للاصل ايضاً، بدليل انتقالها الى الفطوغراف، دون النورانية الخالصة، وفي غير الخالصة تنتقل هوية صورتها المادية فقط.
واما تماثيل النورانيات فمتصلةٌ حكماً، ومرتبطةٌ حقيقة، ومالكةٌ لخواص الاصل، وليستْ غيراً له. فلو جعل الفاطرُ جل جلاله حرارةَ الشمس حياتها، وضياءها شعورَها، والوان الضياء حواسَّها؛ لتكلمت الشمسُ معك في قلب مرآتك التي في يدك، كتلفونك ومرآة قلبك. اذ مثالها الذي في يدك له ايضاً بمقدار استعداده حرارة حياة، وضياء شعور، والوان حواس. ومن هذا السر يطّلع النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو النور النوراني على صلوات كلّ مَن صلى عليه في آن واحد. ومن هذا السر ينفتح مغلقات اسرار.. 4
اعلم! ان "سبحان الله والحمد لله" يتضمنان التوصيف بصفات الله: الجلال بالاول.. والجمال بالثاني. "فسبحان الله" ينظر الى بُعد العبد والممكن عن الله الواجب الوجود العلي العظيم. و"الحمد لله" ينظر الى قُرب الله بالرحمة واللطف الى العبد ومخلوقاته. فكما ان الشمس قريبةٌ منك تُوصل حرارتها وضياءها اليك
_____________________
1 لرجل نحوى مشهور يُعرف بركن الدين بن القَوْبََع (ت 738 هـ) - (قول على قول 11/157 للكرمى).
2 الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين تفصّل هذه المسألة.
3 اي صورها المرتسمة في المرايا ، كما سيأتي.
4 ايضاحها في اللوامع - اقسام التمثلات مختلفة - ص847 من مجلد "الكلمات".

المثنوي العربي النوري - ص: 228
وتتصرف فيك باذن خالقها، الذى صيّرها مرآة لجلوة اسمه" النور" وظرفاً لنعمه التى هى الحرارة والضياء مع انك بعيد عنها لايصل يدك اليها، وانت بالنسبة اليها قابل فقط لافاعل ولامؤثر.. كذلك (ولله المثل الاعلى) ان الله جلّ جلاله قريبٌ منا فنحمده، ونحن بعيدون عنه فنسبّحه. فاحمده وانت تنظر الى قربه برحمته. وسبّحه وانت تنظر الى بُعدك بإمكانك. ولاتخلط بين المقامين، ولاتمزج بين النظرين، لئلا يتشوش عليك الحق والاستقامة. لكن يمكن لك - بشرط عدم الالتباس والمزج - ان تنظر الى القرب في جهة البُعد.. والى وجه البُعد في جهة القرب.. والى الوجهين معا فتقول: "سبحان الله وبحمده"..
اعلم! ياطالب الدنيا! لابد ان تتركها 1 لامور أربعة:
اولاً: فلأنها سريعة الزوال، وألم الزوال مذلّ ومزيل للذة الوصال.
واما ثانياً: فلأن لذائذها منغّصة بآلام مقارنة وأكدار متعاقبة.
واما ثالثاً: فان ما ينتظرك وانت تذهب اليه بسرعة بلا انحراف من القبر الذي هو باب الى الآخرة، لايقبل منك مزينات الدنيا هدية، اذ تنقلب هناك قبائح.
واما رابعاً: فوازن بين سكونك ساعة في موقع بين الاعداء والمؤذيات والحشرات المضرة، وبين السكون في سنين كثيرة في موقع آخر قد اجتمع فيه كل احبابك وكل عظمائك. ومالك الملك ايضاً يدعوك الى ترك لذة تلك الساعة ليريحك في تلك السنين مع اودّائك. فأجب داعي الله قبل ان تُساق اليه بالسلاسل.
فسبحان الله ما اعظم فضل الله على الانسان يشتري بثمن غال من الانسان مالاً له وديعة عند الانسان ليحمله عنه.. ويبقيه له.. ويحميه مما يفسده. مع ان الانسان ان تملّكه ولم يبعه وقع في بلاءٍ عظيم في تعهّده بقدرة لاتكفي - من الوف مصالحه - بواحد.. ولو تحمله بنفسه على ظهره لأنقضّ ظهره. ولو امسكه بنفسه لزال سريعاً وذهب مجاناً وفنى مورثاً لآثامه واثقاله على مالكه الكاذب.
اعلم! انه انني مصداق لما قيل:
وعيني قد نامت بليلِ شبيبتي ولم تنتبه الاّ بصبح مَشيب
_____________________
1 وتركها يعنى: انها ملك الله، يُنظر اليها بإذنه وبإسمه (الكلمات ص 227)


المثنوي العربي النوري - ص: 229
إذ اشد اوقات انتباهي في شبيبتي رأيته الآن اعمقَ طبقات نومي!.. فالمتنورون المتنبهون في عرف المدنيين كانتباهي فيما مضى، مَثَلُهم كمثل مَن رأى في رؤياه انه انتبه وقص رؤياه على بعض الناس. والحال انه بهذا الانتباه مرّ من طبقة النوم الخفيفة الى الطبقة الكثيفة. فمن كان هكذا نائماً كالميت كيف يوقظ الحي الناعس، وكيف يُسمع الناعسَ ما يتكلم به من وراء حُجب نومه المضاعف! ..
ايها المتنبهون النائمون! لاتتقربوا الى المدنيين بالمسامحة الدينية والتشبه، ظناً منكم انكم تصيرون جسراً بيننا وبينهم، وتملأون الوادي بيننا. كلاّ، ان المسافة بين المؤمنين والكافرين غير محدودة، والوادي بيننا في غاية العمق لاتملأونه، بل تلتحقون بهم او تضلون ضلالاً بعيداً! ...
اعلم! ان في ماهية المعصية 1 - لاسيما اذا استمرت وكثرت - بذر الكفر.. اذ المعصية تولد الُفةً معها وابتلاء بها، بل تصير داءً، دواؤها الدائمى نفسها، فيتعذر تركُها. فيتمنى صاحبُها عدَم عقابٍ عليها، ويتحرى بلا شعور ما يدل على عدم العذاب، فتستمر هذه الحال حتى تنجر الى انكار العذاب وردّ دار العقاب. وكذا ان خجالة المعصية - بغير الندامة والقلع - تلجئ صاحبَها الى انكار كون المعصية معصيةً، وانكار مَن يطلع عليها من حَفَظة الملائكة وغيرها.. فمن شدة الخجالة يتمنى عدمَ الحساب.. فان صادف وهماً ينفيه، تلقاه برهاناً.. وهكذا الى ان يسودّ القلب، العياذ بالله..
اعلم! 2 ان من لمعات معجزات القرآن كما في [اللوامع] 3 المشتملة على الاشارة الى اربعين نوعاً من اعجازه، ومن كمال بلاغته:
انه جمع السلاسة الرائقة، والسلامة الفائقة، والتساند المتين، والتناسب الرصين، والتعاون بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب بين الآيات ومقاصدها بشهادة علم البيان وعلم المعاني مع انه نزل في عشرين سنة منجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقاطعاً بتلائمٍ كأنه نزل دفعةً.. ولاسباب نزولٍ مختلفة متباينة مع كمال التساند، كأن

_____________________
1 توضيح هذه المسألة في اللمعة الثانية من "اللمعات".
2 اعتمدنا في تحقيق هذه الفقرة على ما جاء في القطرة الخامسة من الرشحة الرابعة عشرة وعلى الطبعة الاولى من الكتاب.
3 اللوامع - بيان موجز لإعجاز القرآن - ص880 من "الكلمات".


المثنوي العربي النوري - ص: 230
السبب واحدٌ.. وجاء جواباً لاسئلة مكررة متفاوتة، مع نهاية الامتزاج والاتحاد، كأن السؤال واحدٌ.. وجاء بياناً لحادثات احكامٍ متعددة متغايرة، مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة.. ونزل متضمناً لتنزلات إلهية في اساليب تناسب افهام المخاطبين، لاسيما، المنزَل عليه "عليه السلام" بحالات في التلقي متنوعة متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأن الحالة واحدة.. وجاء متكلماً متوجهاً الى اصناف مخاطبين متعددة متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطب واحد، بحيث يظن كلُ صنف كأنه المخاطب بالاصالة.. ونزل مهدياً وموصلاً لغايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد؛ تدور تلك المقاصد والغايات على الاقطاب الاربعة: وهي "التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة". فبسر امتلائه من التوحيد، التأم وامتزج وانتظم واتحد.
ومن كان له عين في بصيرته، يرى في التنزيل عيناً ترى كل الكون، كصحيفة مبصرة واضحة.. وقد جاء مكرراً ليقرّر.. ومردّداً ليحقق قصصاً واحكاماً. مع انه لايُملُّ تكرارهُ، ولايُزيل عَوْدهُ ذَوْقَه ولايُسئمُ تردادهُ. كلما كرّر حقّق وقرّر، بل ما كررته تحلو وتفوحُ انفاسُ الرحمن منه "ان المسك ماكررته يتضوّع". وكلما استعدتَه استَلذْتَه؛ ان كان لك ذوق سليم بقلب غير سقيم. والسر فيه: انه قُوتٌ وغذاءٌ للقلوب، وقوة وشفاء للارواح. والقوت لايُملُّ تكرارهُ.. فمألوفه آأنس وألذ، خلاف التفكّه الذي لذتُه في تجدده، وسآمتهُ في تكرره.
وكما ان الانسان في حياته المادية يحتاج في كل آنٍ الى الهواء، وفي كل وقتٍ الى الماء، وفي كل يوم الى الغذاء، وفي كل اسبوع الى الضياء، في الاكثر.. فتتكرر هذه الامور لتكررّ الحاجات، فلا تكون تكراراً.. كذلك ان الانسان بجهة حياته الروحانية ايضاً؛ يحتاج الى انواع مافي القرآن؛ فإلى بعضٍ في كل دقيقة بل في آن سيال كـ: "هو.. الله" فبه يتنفس الروحُ.. والى بعضٍ في كل ساعة كـ: "بسم الله".. والى بعض في كل وقت.. والى بعض في كل زمان متدرجاً بدرجات الاحتياج، فيكرر القرآن على ما تقتضيه حياة القلب تكراره.
مثلاً: "بسم الله" كالهواء النسيمي يطهِّر الباطن داخلاً ويثمر خارجاً في نَفْسِك كَنفَسِك في جسمك.. وايضاً في تكرار القرآن بعض الحادثات الجزئية اشارة الى ان
المثنوي العربي النوري - ص: 231
الحادثة الجزئية تتضمن دستوراً كلياً، كما اشرتُ الى بعض من جمل قصة "موسى" عليه السلام التي هي اجدى من تفاريق العصا 1.
والحاصل: ان القرآن الحكيم كتاب ذكر، وكتاب فكر، وكتاب حُكم، وكتاب علم، وكتاب حقيقة، وكتاب شريعة، وشفاء لما في الصدور، وهدىً ورحمة للمؤمنين.
اعلم! ان من اعاجيب فطرة الانسان في وقت الغفلة، التباس احكام اللطائف والحواس.كالمجنون الذي يصل نظرُه الى شئ، فيمدّ يدهُ اليه ظناً منه - لمجاورة العين لليد - ان مايحصل بتاك، يحصل بهذه ايضاً. فالانسان الغافل الذي لايصل يد اقتداره الى تنظيم أدنى جزء من اجزاء نفسه يتطاول بغروره وبوسعة خياله الى الحكم والتحكم في افعال الله في الآفاق.. وكذا من اعجب فطرة البشر ان افراده، مع تقارب درجاتها في الصورة الجسمية، تتفاوت معنىً بدرجات، كما بين الذرة الى الشمس الى شمس الشموس خلافاً لسائر الحيوانات؛ اذ هي مع تفاوت افرادها في الصور الجسمية، كالسمك والطير، تتقارب في قيمة الرّوح؛ فكأن الانسان الذي قام من "مخروط الكائنات" في حاق الوسط، 2 منه الى الذرة ومنه الى شمس الشموس سوآء؛ اذ لم يُحدَّد قواه ولم تُقيّدْ، أمكَنَ له ان يتنزل ويتسفل "بالانانية" الى ان يكون هو والذرة سواء. وكذا جاز له ان يتجاوز بالعبودية وبترك "انا" ويتصاعد باذنه تعالى الى ان يصير بفضل الله كشمس الشموس مثل محمد عليه الصلاة والسلام.
اعلم! ان الاصل في الشئ البقاء، حتى ان الامور السيالة السريعة الزوال كالكلمات والتصورات لها ايضاً مواضعَ أُخر يتحصنون فيها من الزوال. لكن يتطورون في الصوّر، حتى كأن الاشياء موظفون لحفظ الشئ إما بتمامه كالنوراني، او وجهٍ من الشئ، يسارعون بكمال الاهتمام لأخذه ووضعه في قلوبهم الشفافة.
_____________________
1 مثل يضرب فيمن نفعه اعمّ من غيره (مجمع الامثال 1/37)
2 الحاق: الوسط، والكامل في الشئ.


المثنوي العربي النوري - ص: 232
والحكمة الجديدة تفطنت لهذا السر لكن بلا وضوح، فلهذا اخطأت بالافراط فقالت: لاعدم مطلقاً، بل تركُّبٌ وانحلال. 1 كلا! بل تركيب بصُنعه تعالى.. وتحليل باذنه.. وايجادٌ واعدام بأمره.. يَفعَلُ مَا يَشاءُ ويَحكُم مَا يُريدُ.
اعلم! ايها السعيد الشقي! ان القبر باب باطنه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.. وأودّاؤك ومَن تحبه اكثرهم - حتى كلهم - ساكنون خلف هذا الباب. ألَمْ يأنِ لك أن تشتاق اليهم والى عالمَهم.. فَتنظَّفْ، والاّ استقذروك.
لو قيل لك مثلاً: ان "الامام الرباني احمد الفاروقي" قُدس سره، ساكن الآن في الهند، لاقتحمتَ المهالك وتركتَ الاوطان لزيارته. مع ان تحت اسم احمد فقط الوفُ نجوم حول شمس مَن في الانجيل اسمه "احمد" وفي التوراة "اُحيد" وفي القرآن "محمد".. وتحت اسم محمّد ملايين.. وهكذا كلهم خلف باب القبر في رحمة الله ساكنون. فلابد ان يكون نصب عينك دائماً "هذه الاساسات" وهي:
ان كنتَ له تعالى كان لك كلُّ شئ، وان لم تكن له كان عليك كلُّ شئ.
وكلُّ شئ بِقَدَرٍ، فارضَ بما آتاك تزد يُسْراً على يُسْرٍ، والاّ زدْتَ مرضاً على مرض.
المُلكُ له، ويشتريه منك ليبقيه لكَ.. ويزول مجاناً لو بقي عندك.
وانت فقيرٌ اليه من كُلِّ وجهٍ.
وانت مقيّدٌ بجهات اربع مسدودة. تُساق الى باب القبر المفتوح لك.
لالذة للقلب حقيقةً فيما لادوام فيه؛ تزول انتَ، وتزول دنياك، وتزول دنيا الناس.
وستُنْزَع من الكائنات هذه الصورة. وسيُخلَع عليها اخرى. كالثانية، والدقيقة، والساعة، واليوم.. كأن الكائنات ساعة كبرى كما ذكر في [النكتة الرابعة من الكلمة التاسعة]. فلا تهتم بما يبقى لك أثراً في الفاني ويفنى عنك في الباقي.
ولاتنظر من بُعدِك وخستك ومن عظمته وعزته تعالى - ونقطة نظرك هذه الحيثية - الى تصرفاته وتنزّلاته برحمته ونعمته؛ اذ حينئذٍ لايليق الاّ التسبيحُ.

_____________________
1 انظر خاتمة "الطبيعة" - اللمعة الثالثة والعشرين - ففيها التوضيح الشافي لهذه المسألة.


المثنوي العربي النوري - ص: 233
ولاتنظر من حيثية قربه واحاطته بعلمه ورحمته، ومن مخلوقيتك ودخولك في عنايته وكرمه، الى صفات جلاله، لئلا تستهوي بك الاوهامُ والاهواءُ.
فسبحان من تقدستْ وتنزهتْ عن ان تحيط به الافكارُ والعقول، والحمد لله الذي وسعت رحمتهُ كلَّ شئ.. لا الهَ الاّ الله وَحْدَهُ لاشَريكَ لهُ، لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ يُحيي ويُميت بيدهِ الخَير وهوَ على كلِّ شئٍ قدير..
اعلم! ان مَن في قلبه حياة اذا توجه الى الكائنات يرى من عظائم الامور مالا يحيط به ويعجز عن ادراكه ويتحيّر فيه، فللتشّفي من ألم الحيرة يشتاق الى "سبحان الله" كتعطش العليل الغليل الى الماء الزلال.
ويرى من لطائف النِعم واللذائذ ما يُجبرهُ على اظهار تلذذه وتزييد تلذذه واستيزاد لذته بالدوام برؤية الإنعام في النعمة، والمنعم في الإنعام بعنوان الحمد، فيتنفس بـ"الحمد لله" كما يتنفس المظفر السالم الغانم.
ويرى من عجائب المخلوقات وغرائبها مالايطيق مقاييس عقله وزنَها ويضيق ذهنهُ عن محاكمتها، وحسُّ تجسس الحقيقة يُشغله بها، فينادي: "الله اكبر" فيستريح. اي خالقها اعظمُ واكبرُ فلا يثقل عليه خلقُهاوتدبيرها، كمثل من يرى القمر يدور حوله فيغشاه ألمُ تعجب، او خروج جبل بالزلزلة فيتدهش فيكبّر، فيلقى عن ظهره اثقال العَجب والتدهش على سفينة القدير القوي المتين جل جلاله..
اعلم! انك بسيئاتك لاتضر الله شيئاً انما تضر نفسك. مثلاً: ليس في الخارج 1 شريكٌ حتى تقوّيه باعتقادك فتؤثّر في كمال ملكهِ تعالى، بل في ذهنك وفي عالمك فقط. فيخرّب بيتك على رأسك..
اعلم! انه من توكّل على الله فهو حسبه.. فقل: "حسبي الله ونعم الوكيل":
فاولاً: لانه الكامل المطلق، والكمال محبوب لذاته وتُفدى له الارواحُ.
وثانياً: لانه محبوب لذاته وهو المحبوب الحقيقي، والمحبة تقتضي الفداء.
_____________________
1 اى في الواقع والحقيقة (ت: 118)



المثنوي العربي النوري - ص: 234
وثالثاً: لانه الموجود الواجبَ.. وبقربه انوارُ الوجود.. وببُعده ظلماتُ العَدَمات، وألمٌ أليم في افول آمال الروح الانساني.
ورابعاً: لانه الملجأ والمنجأ للروح الذي ضاقت عليه الاكوانُ، وآلمَته مزخرفات الدنيا، وعادَتْهُ الكائنات وأنقض ظهره تحت الشفقة اليتمية والمرحمة المأتمية..
وخامساً: لانه الباقي الذي به البقاء، وبدونه الزوال، وكل العذاب في الزوال. وبدونه يتراكم على الروح آلامٌ بعدد الموجودات، وبه يتظاهر على المتوكل انوارٌ بعددها..
وسادساً: لانه المالك يحمل عنك مُلكه الذي عندك، اذ لاتطيق حملهُ، فبتوهم التملّك تقع في عذاب أليم أليم. فلبقائه ودوام إنعامه لاتغتم بفناء ما في يدك، كما لاتحزن الحباباتُ المتشمسة بالتحول والانحلال. فلإظهار تجددات تجليات الشمس يفدي الحبابُ صورتَه بكمال النشاط بل يموت وهو يضحك. وكما لاتغتم الثمرات بفراق الشجرة ولا النواة بانحلال الثمرة ولا انت بزوالها اذ تقولون 1 فلتحى الشجرة اذ في حياتها موتُنا حياةٌ.
ياهذا! انت ثمرة إنعاماته بل مجسَّمُ إنعاماته.
وسابعاً: لانه الغني المغني وبيده مقاليد كل شئ، اذا صرتَ عبداً خالصاً له، ثم نظرت الى الكائنات تراها ملكَ مالكك وحِشمته وحواشيه فتتنزه بها، كأنها ملكٌ لك بل أعلى، بلا كلفة ولا ألم زوال.. اذ الخادمُ الخالص للمَلِك والفاني في محبته يفتخر بكل ما للمَلِك..
وثامناً: لانه ربّ الانبياء والمرسلين والاولياء والمتّقين وكلهم مسعودون في رحمته، فعِلْمك بسعادتهم يعطيك في شقاوتك سعادةً ولذةً إن كنتَ ذا قلب.
اعلم! انه لايليق بك إن كان لك عقلٌ سليم أن تهتم وتغتم وتغضب وتصخب لما يأتيك او يفوتُك من امور الدنيا، لان الدنيا تزول لاسيما دنياك، ولاسيما انت؛ اذ لست بأبدي هنا، ولستَ من حديدٍ ولاشجر حتى يطول بقاؤك، بل من لحم متجدّد ودم متردد وروابط في غاية رقة تتأثر بادنى شئ. وقد تنقطع تلك، وينجمد هذا،
_____________________
1 انت والنواة والثمرة.

المثنوي العربي النوري - ص: 235
ويتفسخ ذلك باختلال ذرتين، ولاسيما تَنفس فيك صبحُ المشيب وكَفنَ نصف رأسك.. ولاسيما تضيّفَت بل توطنت فيك العللُ التي هي طليعة الموت، والامراض التي هي مخالبُ هادم اللذات، مع ان امامك عمراً أبدياً ألقيته خلفك ظهرياً، انما ترتّبت راحته على سعيك هناك، مع انك في حرصك وشَرهَك كمن هو خالد وخَلُدَت له الدنيا خاصة.. فانتبه قبل ان تُنبّهك سكراتُ الموت..
اعلم! انك اذا توجهت اليه تعالى بعنوان المعلوم والمعروف يصير لك مجهولاً ومنكراً، اذ هذه المعلومية والمعروفية نتيجة الاُلفة العُرفية والتسامع التقليدي، والتداول الاصطلاحي، وهي لاتغني من الحقيقة شيئاً؛ بل ما يتراءى لك فيها مقيد لايتحمل الصفات المطلقة. بل انما هو نوع عنوان لملاحظة الذات الاقدس..
واما اذا توجهت اليه بعنوان الموجود المجهول، تكشّف لك عن اشعة المعروفية.. وعن بروق شروق موصوفٍ لاتثقل ولا تتعاظم عليه هذه الصفات المطلقة المحيطة المتجلية في الكائنات، كما لا يثقل عليك حمل قميصك من الحرير الرقيق ومنديلك من الخز المنمنم. 1
اعلم! كفاك فخراً بلا نهاية - لا كفخرك بكمال كبرائك - ان يكون لك مالكٌ قدير على كل شئ. ومن اقتداره وهو هو الذي السموات مطويات بيمينه، والارض قبضته يوم القيامة، انه يربيك بشفقة أتمّ من شفقة ابويك، وانت انت: كقطرة في بحر، والبحر كنقطةٍ في صحراء، والصحراء كذرةٍ بين عظائم مصنوعاته؛ اذ هو نور الانوار العالمُ بالاسرار.. وليس من عظمة السلطان الانساني عدم اشتغاله بتفاصيل جزئيات الامور، بل من عَجزه وعدم اقتداره.. ومن عظمة سلطان الازل انه كما يكتب بقلم صُنعه على صحيفة السماء بمداد النجوم الدراري آيات الوُهيته، كذلك يكتب بذلك القلم على صحيفة سواد العين بمداد الجواهر الفردة آيات ربوبيته...
فسبحان مَن هذه الاجرام العلوية والكواكب الدرية نيّرات براهين الُوهيته وعظمته، وهذه المصابيح المزينة والنجوم المتبسمة شعاعات شواهد ربوبيته وعزته جلّ جلاله.
_____________________
1 الحرير المنقش

المثنوي العربي النوري - ص: 236
اعلم! ان الاسماء الحسنى كلٌ منها يتضمن الكلَّ اجمالاً، كتضمن الضياء للألوان السبعة.. وكذا كلٌ منها دليل على كلّ منها، ونتيجةٌ لكلٍ منها، بينها تعاكسٌ كالمرايا. فيمكن ذكرها كالقياس الموصول النتائج متسلسلاً، وكالنتيجة المترتبة الدلائل. إلا أن الاسم الاعظم الواحد يتضمن الكلَّ فوق هذا التضمن العام. فيمكن للبعض الوصول الى نور الاسم الاعظم بغيره من الاسماء الحسنى. فيتفاوت الاسم الاعظمُ بالنظر الى الواصلين. والله اعلم بالصواب.
تضرّع (ونياز)
إلهي لازم عليّ أن لا اُبالي ولو فات مني حياةُ الدارين وعادَتْني الكائناتُ بتمامها؛ اذ انت: "ربي وخالقي والهي".. اذ انا مخلوقُك، ومصنوعُك، لي جهةُ تعلّق وانتساب، مع قطع نهايةِ عصياني وغايةِ بُعدي لسائر روابط الكرامة. فأتضرع بلسان مخلوقيتي:
ياخالقي!. ياربي!. يارازقي!. يامالكي!. يامصوري!. يا الهي!.
اسألك باسمائك الحسنى وإسمك الاعظم، وبفرقانك الحكيم وبحبيبك الاكرم، وبكلامك القديم، وبعرشك الاعظم، وبألف الفِ
(قُل هُوَ الله أحدْ) ارحمني ياالله، يارحمنُ، ياحنّانُ، يامنّانُ، ياديّانُ.. إغفر لي ياغفّارُ، ياستّارُ، ياتوّابُ، ياوهّابُ.. أعفُ عني ياودودُ، يارؤفُ، ياعفوّ، ياغفورُ.. اُلطف بي يالطيفُ، ياخبيرُ، ياسميعُ، يابصيرُ.. وتجــاوز عني ياحليــمُ،ياعليمُ، ياكريمُ، يارحيمُ.. (اهدنا الصّراطَ المستَقيم..) ياربُ، ياصمدُ، ياهادي.. جُد عليَّ بفضلِكَ يابديعُ، ياباقي، ياعدلُ، ياهو.. أحي قلبي وقبري بنورالايمان والقرآن يانورُ، ياحقُ، ياحيُّ، ياقيّومُ، يامالكَ الملكِ ياذا الجلال والاكرام، يااوّلُ، ياآخرُ، ياظاهرُ، ياباطنُ، ياقوّيُ، ياقادرُ، يامولايَ، ياغافرُ، ياارحمَ الراحمين.. اسألك باسمك الاعظم في القرآن.. وبمحمد عليه الصلاة والسلام الذي هو سِرُّكَ الاعظم في كتاب العالم ان تفتحَ من هذه الاسماء الحسنى كواتٍ مُفيضةً لأنوار الاسم الاعظم الى قلبي في
المثنوي العربي النوري - ص: 237
قالبي، والى روحي في قبري.. فتصير هذه الصحيفة كسقف قبري، وهذه الاسماء ككوات تُفيضُ اشعةَ شمسِ الحقيقة الى روحي..
إلهي اتمنى أن يكون لي لسانٌ ابدي ينادي بهذه الاسماء الى قيام الساعة، فاقبل هذه النقوش الباقية بعدي نائباً عن لساني الزائل.
اللّهم صلِّ وسلِّم على سيدِنا محمدٍ صلاةً تُنجينا بها من جميع الاهوال والآفات، وتقضي لنا بها جميع َ الحاجات، وتُطهّرنا بها من جميع السيئاتِ، وتغفرُ لنا بها جميع الذنوب والخطيئات..
يا الله، يامجيب الدعوات! اجعل لي في مدة حياتي وبعد مماتي، في كل آن اضعافَ اضعاف ذلك.. الفَ الفَ صلاةٍ وسلامٍ مضروبَين في مثل ذلك وامثال أمثال ذلك، على سيدنا محمد وعلى آلِهِ واصحابه وانصاره واتباعه.. واجعل كل صلاةٍ من كل ذلك تزيد على انفاسيَ العاصية في مدة عمري.. واغفر لي وارحمني بكلِّ صلاةٍ منها برحمتك ياارحمَ الراحمين.. آمين..
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حبة


المثنوي العربي النوري - ص: 239
ذيل الحبة
يا ناظر!
اظنني أحفر بآثاري المشوّشة عن أمرٍ عظيم بنوع اضطرارٍ مني.
فياليت شعري هل كَشَفتُ.. او سينكشفُ.. او انا وسيلة لتسهيل الطريق لكشّافه الآتي.
لا حولَ ولاقوّةَ الاّ بالله..
حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل.
اللّهمَّ لاتُخرِجنا مِنَ الدُّنيا الاّ مَعَ الشَّهادة والايمانِ.
المثنوي العربي النوري - ص: 240
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمةِ الايمان والاسلام، بِعدَدِ قطراتِ الامطار، وأمواجِ البحار وثَمراتِ الاشجار، ونُقوش الازهار ونَغماتِ الاطيار، ولَمعاتِ الانوار، والشُكرُ لهُ على كُلٍّ نِعمهِ في الاطوار، بعدد كُلِّ نِعمهِ في الادوار.
والصلاة والسّلامُ على سيّد الأبرار والأخيار مُحمّدٍ المختار، وعلى آلهِ الاطهارِ وأصحابه نُجومِ الهداية ذوي الانوار، مادامَ اللّيلُ والنهار..
اعلم! ان المسافر كما يُصادف في سيره منازلَ، لكلِّ منزلٍ شرائط تخصّهُ.. كذلك للذاهب في طريق الله مقامات ومراتب وحالاتٌ وحُجبُ واطوار، لكل واحدٍ طورٌ يَخصهُ؛ مَن خلَطَ غلطَ. كمثل مَن نزل في قرية اسطبلاً سمع فيه صهيل الفرس، ثم في بلدٍ نزل قصراً فسمع تَرَنُّم العندليب، فتوهم الترنم صهيلاً، واراد ان يستمع منه صهيل الفرس مغالطاً لنفسه.
اعلم! ان مما زيّن في عينك هذه الحياة تلألؤ تماثيل نجوم الهداية من اماثل الاسلاف في مرآة الدنيا، 1 بسرّ: أن المستقبل مرآة الماضي، والماضي يلتحق بالبرزخ - بمعناه - ويُودع صورته ودنياه في مرآة الاستقبال والتاريخ واذهان الناس. مثلك في حب الحياة بحبهم كمثل مَن صادف في وجه طريقه مرآة عظيمة فرأى فيها تماثيل رفقائه واحبابه الذاهبين الى الشرق (مغرّبين في المرآة) فيتوحش من الشرق فيهرول مغرباً. ولو كُشِفَ عن وجهك غطاءُ الغفلة لرأيتك تسرع في بيداء خالية يابسة لسراب وعذاب، لا لِعَذْبٍ وشراب..
اعلم! أن من عظيم علو القرآن واصدق دليل حقانيته:
محافَظَتهُ لكلِّ لوازمات التوحيد بمراتبه.. ومراعاتُهُ لموازنة الحقائق العالية الآلهية.. واشتماله على مقتضيات الاسماء الحسنى، والتناسب بينها.. وجمعهُ لشؤونات
_____________________
1 اي ان الصورالجميلة والنماذج الطيبة لاولئك الائمة العظام تحبب لك هذه الدنيا (ت: 123)

المثنوي العربي النوري - ص: 241
الربوبية والاُلوهية بكمال الموازنة. وهذه خاصيّةٌ ماوُجدَت قطُّ في أثر البشر وفي نتائج افكار اعاظم الانسان من الاولياء المارين الى الملكوت، والاشراقيين الذاهبين الى بواطن الامور، والروحانيين النافذين الى عالم الغيب. فانهم لايحيطون بالحقيقة المطلقة بانظارهم المقيدة، بل انما يشاهدون طَرفاً منها فيتشبثون به وينحبسون علىه ويتصرفون فيه بالافراط والتفريط.. فتختل الموازنة ويزول التناسبُ.
مَثلهم كمثل غوّاصين في البحر لكشف كنزٍ متزين ممتلء بما لايحصى من اصناف الجواهر، فبعضٌ صادف يدهُ ألماساً مستطيلاً مثلاً، فيحكمُ بأن الكنزَ عبارةٌ عن الماسٍ طويل، وإذا سمع من رفقائه وجود سائر الجواهر فيه يتخيلها فصوص ألماسه، وصادف آخرُ ياقوتا كروياً وآخر كهربا 1 مربعاً وهكذا. وكل واحد يعتقد مشهودَه جرثوم الكنز ومعظمه، ويزعم مسموعَه زوائده وتفرعاته، فتختل الموازنة ويزول التناسب، فيضطرون للتأويل والتصلف والتكلف حتى قد ينجرّون الى الانكار والتعطيل. ومَن تأمل في آثار الاشراقيين والمتصوفين المعتمدين على مشهوداتهم بلاتوزين بميزان السُّنة لم يتردد فيما قلت.
ثم انظر الى القرآن فانه ايضاً غواص لكن له عينٌ مفتوحة تحيط بالكنز ومافيه، فيصف الكنزَ كما هو عليه، بتناسب وانتظام واطراد مثلا:
يشتمل على ما تقتضيه عظمةُ مَن
(والارضُ جميعاً قبضَتُهُ يومَ القيامةِ والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ) 2.. وكما قال: (يومَ نَطوي السّمآءَ كَطيّ السّجلِّ للكُتُب) 3 مع انه (يُصوِّرُكـم في الارحـامِ كيـفَ يشــاءُ) 4 (مـامـن دآبــةِ الاّ هو آخذٌ بناصيتها) 5 و (خلق السّمواتِ والارضَ) 6 مـع انــــه (خـلَـقـكــــم ومـــا تَعـْمــلون) 7 (يـُحـيي الارض) 8

_____________________
1 حجر كريم مشهور، وهو صمغ شجرة اذا حكّ صار يجذب التبن وغيره.
2 الزمر : 67
3 الانبياء : 104
4 آل عمران : 6
5 هود : 56
6 الانعام : 73
7 الصافات : 96
8 الروم : 50

المثنوي العربي النوري - ص: 242
(وأوحى ربُّك الى النحلِ) 1 (والشمس والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمرهِ) 2 (أوَلم يروا الى الطيرِ فَوقَهُم صآفاتٍ ويقبضنَ ما يُمْسِكُهنَّ الا الرحمن إنه بكلِّ شيء بَصيرٌ) 3 ويكتب صحيفة السماء بنجومها وشموسها ككتابة صحيفة جناح النحلة بحجيراته وذراته (وسع كرسيّهُ السمــوات والارض) 4 مع انه (وهو مَعكُم أينَ ماكُنتم) 5 (هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ وهو بكلِّ شئ عليمٌ) 6 وهكذا.. وقس عليها.. ومايشاهد في نوع البشر من انواع الفرق الضالة، انما نشأت من قصور أئمتهم المارين الى الباطن المعتمدين على مشهوداتهم الراجعين من اثناء الطريق المصداقين لما قيل: "حفظت شيئاً وغابت عنك اشياء".
اعلم! ان توصيفَ السماء بالدنيا في:
(وَزيَّنّا السّماءَ الدُنيا) 7 ومقابلة الدنيا للآخرة، تشير الى ان السموات الست الاُخر ناظرة الى عوالم اخرى، من البرزخ الى الجنة، والمشهودة بنجومها وطبقاتهاسماء الدنيا. والله اعلم.
اعلم! انه جئ بك من العدمِ الى الوجود، ثم رقّاك موجِدُك من ادنى اطوارِ الوجود حتى اوصَلكَ بإنعامه الى صورة الانسان المسلم. فما تخلل بينك بين مبدأ حركتك من المنازل الكثيرة المتعددة كلٌ منها نعمةٌ عليك، وفيك ثمرةٌ وصبغةٌ من كلِّ واحدٍ. فصرتَ كقلادةٍ منظّمة، وعنقودٍ نضيدٍ بحبات النِعَم، وسنبلةٍ منضدة من الرأس الى القدم، كأنك فهرستة لطبقات نِعَمه تعالى؛ ولان الوجودَ يقتضي علّةً، والعدم لايقتضي.. كما تقرر في العقول.. تُسأل ويُسألُ عنك في كل منزل في مراتب الوجود من الذرة الى العدم: كيف وصلت الى هذه النعمة؟ وبِمَ استحقيتها وبـ"هل شكرت؟" ولايَسأل من له مسكةُ عقلٍ عن حَجَر لماذا ماصار شجراً، وعن شجرةٍ لماذا ماصارت انساناً...
_____________________
1 النحل : 68
2 الاعراف : 54
3 الملك : 19
4 البقرة : 255
5 الحديد : 4
6 الحديد : 3
7 فصلت : 12

المثنوي العربي النوري - ص: 243
فيا أيها السعيد المسكين المغرور! انت نقطةٌ في وسط سلسلةِ الموجودات، فعليك نِعَمٌ بعددِ ماتحتَك الى العدم الصرف، وانت مسؤولٌ عن شُكرها. واما مافوقك فليس لك ولالأحدٍ أن يسأل لماذا ماوصلت الى أعلى مما انت فيه، كما لاحقَّ للذرة ان تقول:(اي واه) لِمَ ماصرتُ شمساً، ولا للنحلةِ ان تقول لصانعها: هلا خلقتَني نخلةً مثمرة؟.. اذ ماتحتك وقوعاتٌ، ومافَوقك عدمات إمكانات شبيهة الممتنعات..
اعلم! يا انا! ان مما اهلككَ واهواكَ وأوهمك واهزاك وأذلك واضلك؛ أنك لاتعطي كل ذي حقٍ مقدارَ حقّه، وكل ذي حِمل حملَهُ بوسعه، بل تَفرُطُ وتُفرِّطُ فتحمِّل على نفرٍ ممثلٍ للجيش كلِّ لوازمات الجيش العَرَمْرم، وتتحرى في تمثال الشمس في عين القطرة او وجه الزهرةكلّ لوازمات عظمة شجرة الشمس المثمرة بالسيارات. نعم، القطرة والزهرة تصفان ولاتتصفان..
اعلم! ان المُلكَ له، وامانته، واشتراه، لافائدة في (المرق). لاخير فيما لايبقى. وإياك ونقض العهد معه. وعليك بالموت، والموت المنجر الى الحياة اولى من هذه الحياة المنقلبة الى الموت.
اعلم! 1 ان مافي المرآة كما انه "ليس عيناً ولاغيراً" فهو "عين وغيرٌ"، فمن حيث انه مظروف ملكوت المرآة "عين" فاحكامه احكام الاصل. ومن حيث انه صفة ملك المرآة المتلألئة به "غيرٌ"، فله اوصاف ناظرة الى المرآة، لا الى الاصل فقط. ومن الحيثيتين "لاعينٌ ولاغيرٌ". كما ان الشئ في مرآة الذهن - من وجه انه مظروفه - معلومٌ، ومن جهة انه صفته علمٌ مع تغاير لوازمهما...
اعلم! انه لاتزاحم بين العوالم المختلفة في نوع الوجود. فان شئت فادخل في ليلة مظلمة منزلاً منوراً بالمصابيح واربع جدرانه من الزجاجة التي هي نوع مشكاةٍ للعالم المثالي.
فأولاً: ترى فيها باتصال - الحقيقي بالمثالي - منازل عديدة متنورة عمّت البلد كأنه لاظلمة بمقدار مد النظر..
وثانياً: تراك تتصرف بالتغيير والتبديل بكمال السهولة في تلك المنازل..
_____________________
1 تفصيل هذه المسألة في "الكلمة السادسة عشرة".

المثنوي العربي النوري - ص: 244
وثالثاً: ترى السراج الحقيقي اقرب الى ابعد السُرُج المثالية من لصيقهِ، بل من نفسه لانه قيّومه..
ورابعاً: ترى ان حبةً من هذا الوجود تقتدر ان تقل وتحمل عالماً من ذلك الوجود.
فهذه الاحكام الاربعة تجري في مواد كثيرة حتى بين الواجب وعالم الممكنات التي وجوداتها ظلال انوار الواجب، فوجودها في مرتبة الوهم، لكن استقرّ وثَبتَ - بامره تعالى له - وجودٌ خارجي، فليس خارجياً حقيقة بالذات ولاوَهمياً محضاً ولاظلياً زائلاً بل له وجودٌ بايجاد الواجب الوجود. فتأمل..
اعلم! انه كما انه محال ان لايكون لهذا المُلك المُعتنى به مالك، كذلك محالٌ ان لايتعرف ذلك المالك الى الانسان الذي يدرك درجات محاسن الملك الدالة على كمالات المالك، مع ان ذلك الانسان كالخليفة في مهده الممهّد له يتصرف فيه كيف يشاء؛ بل في السقف المحفوظ السماوي ايضاً بعقله. ومع ذلك ان الانسان اشرفُ المخلوقات بشهادة تصرفاته العجيبة الخارقة مع صغره وضعفه، وانه اوسعُ الاسباب اختياراً بالبداهة. فبالضرورة يرسل المالك من يعرّف المالك الى مماليكه الغافلين عنه ويخبرهم مايرضى به ويطلبه منهم ذلك المالك جل جلاله..
اعلم! ان كل الحواس حتى الوهم والفرض والخيال يتفقون في النهاية على الحق ويلتجؤن اليه، ولايبقى عندهم للباطل امكان. فيقرون بان الكائنات لايمكن أن تكون الاّ على ما اخبَربه القرآن.. هكذا شاهدتُ وعقلي معي.
اعلم! انه كما لاتزاحم ولاتصادم بين عالم الضياء وعالم الحرارة وعالم الهواء وعالم الكهرباء (والالكتريقية) وعالم الجاذبة الى عالم الأثير والمثال والبرزخ. تجتمع الكلُّ بلا اختلاط معك في مكانك بلا تشكّ من أحدٍ منكم، من مزاحمةِ أخيه.. فهكذا يمكن ان يجتمع كثيرٌ من انواع العوالم الغيبية الواسعة في عالم أرضنا الضيقة. وكما لايعوقنا الهواء من السير ولايمنعنا الماءُ من الذهاب ولايمنع الزجاجُ مرورَ الضياء ولايعوقُ الكثيف ايضاً نفوذَ شعاع (رونتكن) ونورِ العقل وروح المَلَك، ولايمنع الحديدُ سيلانَ الحرارة وجريان (الالكتريق) ولايعوق شئ سريانَ الجاذبة وجولان
المثنوي العربي النوري - ص: 245
الروح وخدّامه وسيران نور العقل وآلاته.. كذلك هذا العالمُ الكثيف لايمنع ولايعوق الروحانيات من الدوران، والجن من الجولان، والشيطان من الجريان، والمَلَك من السيران..
اعلم! ان النور والنوراني كالعين والسراج والشمس، يتساوى لها الجزئي والنوع والجزء والكل والواحد والاُلوف. فانظر الى الشمس كيف انصبغت بتماثيلها السياراتُ والبحورُ والحياضُ والحبابات والقطرات والرشاشات (والشبنمات) والذرات الزجاجية، دفعةً بالسهولة والمساواةِ بين السيارات والذرات.
كذلك
(ولله المَثَلُ الأعْلى) تصرفات شمس الازل نور الانوار في كتاب الكائنات هكذا.. يكتُب كلَّ ابوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجمله وحروفه دفعةً بلا كُلفة كما قال: (مَاخَلقُكُمْ ولا بَعثُكُمْ الاّ كَنَفْسٍ واحدةٍ) 1.. آمَنــــّـــا..
اعلم! ان من تأمل في ذرات الاشياء وسَرَيانها الى حدود، ثم توقفها عندها لفوائدٍ وثمرات، تيقّن ان عند الحدود من يأمر الذرات بـ: قفي وانثني! كما يأمر القالبُ الذهبَ الذائبَ بلسان حديد، وينهى بـ: لاتَسِل واستقر! فيما عَيَّنَتْه لك معاطفي وتلافيفي المصنوعة لحِكم.
وآمرُ الذرات ما هو الاّ علمٌ محيطٌ يتجلى ذلك العلمُ قدراً، فينعكس القدَرُ مِقداراً فينطبع المقدارُ قالباً..
............ 2
اعلم! ان القرآن كما يفسّر بعضه بعضاً، كذلك ان كتاب العالم يفسِّر بعضُ آياته بعضها. فكما ان العالم المادي يحتاج احتياجاً حقيقياً الى شمس تفيض منها عليه انوارُ نعمته تعالى، كذلك العالمُ المعنوي يحتاج ايضاً الى شمس النبوة لفيضان اضواء رحمته تعالى. فنبوةُ احمد عليه الصلاة والسلام في الظهور والوضوح والقطعية بدرجة الشمس في وسط النهار، وهل يحتاج النهارُ الى دليل؟..
_____________________
1 لقمان : 28
2 في (ط1) : (اعلم) : ان الاسماء الحسنى ابواب متفاوتة ،ووجوه مختلفة ، ناظرة الى الذات، وقد تتجلى اسماء متقابلة في شئ واحد، كالمعطي والمانع والضار والنافع ، فيدل على انه كما يعطي لهذا قصداً ، يمنع ذلك الشئ من ذا بارادة ،ويضر ذاك بما ينفع هذا . كلاهما مرادان له تعالى ، ويتحدس من هنا : ان من اتصف بحقيقة اسمٍ من الاسماء يتصف بجميعها.

المثنوي العربي النوري - ص: 246
اعلم! ان الثمرات المترتبة على وجود الحي لاتنظر الى الحي وبقائه ونفعه وكماله فقط، بل اليه بحصةٍ ودرجة، والى المحيي جل جلاله بدرجات غير محصورة.. فحصةُ الحي قد لاتحصل الا بزمان مديد، لكن ما ينظُرُ الى المحيي قد يحصل في آنٍ سيال، كاظهار الحي - بمعكسيته ومظهريته لتجليات الاسماء الحسنى - حمدَ خالقهِ بتوصيفه بأوصافِ كماله وجماله وجلاله بلسان الحال..
اعلم! ان فرد الانسان كنوع سائر الانواع، بسر:
ان فرد الانسان له ماض ومستقبل يجتمع في الشخص معنىً كلُّ مَن مات منه من افراد نفسه؛ اذ في كل سنةٍ يموت منه فردان صورةً ويورثان فيه معنَييْهما من الآلام والآثام والآمال وغيرها، فكأنه فردٌ كلي.. واحاطةُ فكره وعقله ووُسعة قلبه وغيرها تعطيه نوعَ كليةٍ.. وكون فرده كنوعه في الخلافة والمركزية لعالمٍ خاص كالعالم العام.. والعلاقة الشعورية مع اجزاء العالم وتصرفه في كثير من انواع النباتي والحيواني والمعدني تحويلا وتغييراً خلافاً لسائر الحيوانات وغيرها، ايضاً تعطي له نوع كليةٍ، كأنَّ كلَّ فردٍ نوعٌ منحصر في الشخص.. ودعاء المؤمن لعموم اهل السموات والارض يشير الى ان الشخص يصير بالايمان كعالَم، او مركزه. فما تجري في نوع الحيوان من القيامات المكررة النوعية المشهودة في كل سنة - فان شئت فَانظُر الى آثارِ رحمة الله في كل سنة في الثمرات المتجددة الامثال كأنها اعيانها، والى حشر انواع الهوام والحشرات بكمال سهولة من القيامة - تجري بالحدس القطعي في كل فرد من افراد الانسان، فيدل كتاب العالَم في هذه الآيات التكوينية على قيام القيامة الكبرى لابناء البشر، كما يدل القرآن عليه بالآيات التنزيلية.. فالدلائل العقلية على القيامة ذكرتُها في "اشارات الاعجاز" 1 وفي الباب الثالث في "نقطة" 2 فراجعهما ان شئت، فان فيهما مايطرد عنك الوساوس ويطيّر عنك الاوهام..
اعلم! انك اذا استمعت القرآن فألبس لكلّ نغمةٍ من نغماتهِ المتطوّرة على الحُجُب، والمتنوعة في المراتب الارشادية، والمنصبغة بحسيات الوسائط، من جبرائيل عليه السلام الى من تسمع منه، مايناسبها.

_____________________
1 في تفسير قوله تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) و (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات...)
2 وقد وسع الاستاذ المؤلف كلاً من الباب الثانى والباب الثالث من هذه الرسالة فاصبحا " الكلمة التاسعة والعشرين" لذا لم يدرجا ضمن رسالة »نقطة من نور معرفة الله« في هذا الكتاب.

المثنوي العربي النوري - ص: 247
فلك ان تَمُرّ بسمعك من القارئ في مجلسك الى الاستماع من النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي يقرأُه في ذروة شاهق النبوة في مجلس الارض على ابنائها من بني آدم وغيرهم.
ولك ايضاان تستمع من جبرائيلوهو يخاطب النبيَّ في الافق الاعلى "عليهماالصلاة والسلام".
ولك ان تستمع من خلف سبعين الف حجابٍ من المتكلم الأزلي، وهو يتكلم مع النبي في قاب قوسين او ادنى. فألبسْ ان استطعتَ لكلٍّ ما يليقُ به!..
اعلم! ان ما يتعلق بك منك من الشعور والعلم، انما هو بدرجة مايرجع اليك منك، بسر: عدم الاسراف، ومناسبة السبب للمسَّبب، والقوة للعمل. ومايرجع اليك بالنسبة الى مايرجع الى مَن خَلَقَك كنسبة شعرةٍ الى حبل، وخيط الى ثوب. فنسبة علمِك وشعورك المتعلقين بك بالنسبة الى علمِه وبصره المتعلقين بك كنسبة (تنور الذباب) 1 الذي يبرق منه النور كنُجيمة بتلمعه في النهار تحت ضياء الشمس المحيط به. وانت في ظلمات الغفلة، وليل الطبيعة ترى لمعتك نجماً ثاقباً..
اعلم! ان فيما بين افعال الله تناسباً، وبين آثاره تشابهاً، وبين اسمائه تعاكساً، وبين اوصافه تداخلاً، وبين شؤوناته تمازجاً. الاّ ان لكلٍ طوراً يخصُّه، يستتبع ماسواه في طوره. فلا يُتوجّه قصداً في بيته ودائرة حُكمه الى غيره، ولايُطلب لوازم الغير منه، لأن لازم اللازم ليس بلازم الاّ بقصدٍ جديد. اذ التابع لايُستتبع، كما ان الحرف التبعي لايُحكم عليه.
فاذا نظرت من آثاره الى الجامدات فتوجّه قصداً الى القُدرة والعظمة، ويتراءى لك تجليات سائر الاسماء استطراداً وتَبَعياً.
فاذا نظرت الى الحيوانات الغير الناطقة فالبَس لها طورها، فهكذا
(وكل شئ عندهُ بمقدار) 2 (خلق كل شئ فقدره تقديراً) 3.
اعلم! ان "لاَحَولَ ولاَقُوّةَ الاّ بالله" ينظر الى مراتب اطوار الانسان وادوار وجوده من الذرات الى الوجود الحي، معدناً جامداً، ونباتاً نامياً، وحيواناً حساسا، وانساناً مؤمناً، ففي كل مقام من تلك المنازل، ولكل لطيفة من لطائفه آلامٌ وآمال:
_____________________
1 المقصود: اليراعة.
2 الرعد : 8
3 الفرقان : 2

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حبة


المثنوي العربي النوري - ص: 248
فلاحول عن العدم ولا قوةَ على الوجود الاّ بالله..
لاحول عن الزوال ولا قوةَ على البقاء الاّ بالله..
لاحول عن المضار ولا قوةَ على المنافع الاّ بالله..
لاحول عن المصائب ولا قوةَ على المطالب الاّ بالله..
لاحول عن المعاصي ولا قوةَ على الطاعات الاّ بالله..
لاحول عن النقم ولا قوةَ على النعم الاّ بالله..
لاحول عن المساوئ ولا قوةَ على المحاسن الاّ بالله..
لاحول عن الآلام ولا قوةَ على الآمال الاّ بالله..
لاحول عن الظلمات الهائلة ولا قوة على الانوار المتلألئة الاّ بالله العلي العظيم.
اعلم! 1 من توكل على الله فهو حسبه:
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه مالكنا ومالك الكل، فالكلُّ كمُلكنا إن كنّا له تعالى.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه الكامل المطلق والكمال محبوب لذاته، من شأنه ان يُفدى له الوجود.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه الجليل الجميل ذو الكمال والجلال والجمال المحبوب لذاته، فلشوق تجديد تجليات جماله نموت ضاحكين ونحيا مسرورين.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه الواجب الوجود الموجد لكل موجود فعلمنا بوجوب وجوده يعطينا كل الوجود، وبعدم العلم يصير في يدنا نقطة وجود يتحامل عليها أعدام هو ملء الدنيا.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ): لانـــه القديـــم الابـــدي الدائـــم البـــــــــاقي (كلُ شئ هالكٌ الاّ وجهه) 2.
_____________________
1 [ان ايضاح هذا القسم الذي يخص »حسبنا الله« في اللمعة التاسعة والعشرين العربية وفي الشعاع الرابع والرجاء الرابع عشر والخامس عشر من رسالة الشيوخ] المؤلف.
2 القصص : 88


المثنوي العربي النوري - ص: 249
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لان الدنيا فانية والحياة زائلة.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لان بدونه يصير كلُ لذائذ الدنيا منغّصة بآلام هائلة، وبالتوجه اليه والارتباط برحمته لاتزيد اللذائذُ الزائلة الا لذة تجدّد الامثال خالصة عن آلام الزوال.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لان به انوارَ الوجود وبدونه ظُلمات الأعدام الهائلة.
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوكيلُ)؛ لانه إن عرفناه وشكونا اليه وأرضيناه كفانا كلّ حاجاتنا الى انواع الكائنات، وأما اذا توجّهنا الى الاسباب - التي حاجاتُنا عندها في النظر الظاهري - وشكونا اليها فمعانها عمي صم لاتسمعنا ولاترانا، تتشوش علينا الامورُ وتتشتت بنا الطرقُ، كمثل مَن شكى الى سلطان فانفذ في آن، ومَن شكى الى كلّ اهلِ البلد فرداً فرداً ليتفقوا على إمداده. ولو اتفقوا ما اتفقوا الا في زمان طويل وتكلف عظيم!!
اعلم! ان من لطائف اعجاز القرآن ومن دلائل انه رحمة عامة للكافة:
انه كما ان لكلِ احد من العالم عالماً يخُصُّه، كذلك لكلٍ باعتبار مَشْرَبه من القرآن قرآن يخُصُّه ويربّيه ويُداويه.
ومن مزايا لطف ارشاده:
ان آياته مع كمال الانسجام وغاية الارتباط وتمام الاتصال بينها، يتيسرُ لكل احدٍ ان يأخذَ من السّوَر المتعددة آياتٍ متفرقة لهدايته وشفائه، كما أخذَها عمومُ اهل المشارب واهل العلوم؛ فبينما تراها أشتاتاً باعتبار المنازل والنزول، اذاً تراها قد صارت كقلادةٍ منظمةٍ إئتلفت واتصلت مع أخواتها الجديدة. فلا بالفصل من الاصلِ تنتقص، ولا بالوَصْل بالآيات الاُخر تَستوحش. فهذا السر يشير الى ان لاكثر الآيات الفرقانية مع سائر الايات مناسباتٌ دقيقة يجوز ذكرها معها واتصالها بها.
فكما أن سورة "الاخلاص" اشتملت على ثلاثين سورة بضمّ جُمَلها بعضٌ الى بعض دليلاً ونتيجةً، كما ذكر في [اللوامع] 1 كذلك القرآن الكلّي الجزئي والنوع

_____________________
1 المنشورة ملحقة بمجلد "الكلمات".


المثنوي العربي النوري - ص: 250
المنحصر في الشخص يشتمل بجامعية الايات للمعاني المتعددة ومناسبة الكل للكل يحتوي على الوف الوف قرآنٍ في نفس القرآن. فلكل ذي حقيقة فيه كتابٌ يخصُّه ومن اتبعه..
اللهم يامنزلَ القرآن
بحقّ القرآن
اجعلْ القرآنَ مونِساً لي في حياتي وبعد مماتي
ونوراً في قلبي وقبري..
لا إله الاّ الله مُحمّدٌ رسُولُ الله..
الوداع 1
_____________________
1 ظننت بشدة مرضى قرب الاجل في ذلك الوقت فقلت : الوداع. انا اسافر من باب القبر الى مجمع احبابي واساتيذي ورفقائي من طلبة المدارس والنور. المؤلف

المثنوي العربي النوري - ص: 251
ذيل الذيل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الرحمن الذي من لطائف عظائم ثمرات طوبى رحمته: "سيدُنا محمد" عليه الصلاة والسلام والجنّةُ المتدلّيَيْن على الدارين.. والقديرُ الذي هذه الموجوداتُ الجديدةُ الجلية، والاجرامُ العلوية في بستان الكائنات شواهدُ ربوبيته، وهذه النباتاتُ المتلونة والحيوانات المتنوعة في حديقة الارض خوارقُ صنعتِه وبراهينُ اُلوهيته، وهذه الازهارُ المنوّرةُ والاشجارُ المُثمِرةُ في هذه الجنان معجزاتُ قدرته ودلائلُ رحمته، وهذه الشجرةُ بأوراقها وازهارها واثمارها في هذه الروضة معجزاتُ قدرته.. تشهد كلّ على انه على كل شئ قدير.
فالواقعاتُ الماضية معجزاتُ قدرتهِ، تدلُّ على انه قادرٌ على كل الممُكناتِ الآتية لم يَخرج فيما مضى ولن يَخرجَ فيما يأتي شئ من حكم قُدرته. تتساوى بالنسبة اليه الذراتُ والشموسُ.. وهو الحقُّ المُبين الواحدُ الاحدُ الذي تُنشدُ ذرات الكائناتِ ومركّباتُها بدلالاتها المختلفة وألسنتها المتنوعة مشيرةً الى جماله المطلق:
عباراتنا شتّى وحسنك واحد وكلٌ الى ذاك الجمال يشيرُ
ويتلو كتابُ الكائنات بابوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجُمله وحروفه آيات وجوبه ووحدته، وتقرأ سطورهُ على العقول:
تأمل سطور الكائنات فانها من الملأ الأعلى اليك رسائل
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين..
المثنوي العربي النوري - ص: 252
اعلم! ياسعيد الشقي! لاتنظر الى ماليس لك، بل انظر اليكَ، ايُّ شئ انت؟ وما انت؟ وبِمَ تستند؟ اذ انت عَجزٌ متجسّدٌ واحتياجٌ محضٌ ومجسّمُ إنعامٍ ونومٌ مموَّهٌ باليقظة.
فالعجز جسدُك والاحتياجُ روحٌ فيه يتحرك، والإنعام جسمك، وحياتُك نومٌ تسكن به. (اي واه) واشقاوتا أغرقُ في قطرة تصير بحراً عليّ، واغيبُ في آن يصيرُ كالأبد، واظن لمعةَ هذه الحياة شمساً شارقة!
ايها السعيد المسكين! مارأس مالك الا ستون ديناراً تقريباً، اخذت خمسة واربعين فصرفتها كلَّها لمصارف يوم في خانِ الدنيا، ونسيتَ بيتكَ وما يلزم له فصار مالُكَ عليكَ ديْناً وناراً، وما بقيَ من خمسة عشر ديناراً مجهولٌ لاتدري أتأخُذُها او بعضها او لاتأخذ شيئاً منها. فكلما اخذت شيئاً منها فاصرفه لبيتك الدائمي. ولا اقل استَبْقِ لكَ ثُلثه ليَصيرَ لك ديناً ونُوراً. فما اجهلكَ واشدكَ خسارة! صرفت كلِّ الماخوذ ليوم زائل وما بقي في يدك لمقامك الباقي الا اقلَّ قليل، وانت راحلٌ غافلٌ، كانت لك ثلاث درجات.. خطوت على اثنتين بخروجك من المنزل والبلد، فرفعت قدمك لتخطى على الدرجة الثالثة بالخروج من الدنيا الفانية.
اعلم! 1 انه كَبُرَتْ كلمةً تخرجُ من افواه الناس، اذ يقولون: "تشكَّل بنفسه".. و"اقتَضَتْهُ الطبيعة" و"اوجَدَتْهُ الاسباب". فهذه الجمل الثلاث باطلة، ومن ظروف المحالات: اذ انك موجود، فإما انتَ مصنوعُك بالنظر الى الجملة الاولى.. وإما مصنوع اسباب العالم كما اقتضته الثانية.. وإما مصنوعٌ بطبيعة موهومة، وقوة عمياء كما تدل عليه الثالثة.. وإما مصنوع الله كما يستلزمه الحق والحقيقة.
اما الاوّل: فمحالٌ بوجوهٍ غير محصورة:
منها: لابد ان تعطي لكل ذرةٍ من ذراتك عيناً ترى كلَّكَ بل كلَّ الكون وشعوراً كذا، وهكذا ممّا يستلزمه كمال صنعتك لنظر نسب الجزء الى نقوش الكل.
ومنها: لابد ان توجد فيك عدد المركبات المتداخلة المتصاعدة المتنازلة في ذراتك قوالب كقوالب الطبع من الحروف الحديدية المصنوعة ايضاً، لو لم تُكتب بقلم القدير الازلي الواحد.
_____________________
1 اللمعة الثالثة والعشرون "رسالة الطبيعة" تفصيل لهذه الفقرات.

المثنوي العربي النوري - ص: 253
ومنها: لابد ان يكون كل ذرة بسر وحدة الاثر حاكمةً على الكل ومحكومة للكل، كالاحجار في البناء المعقد بفرض نفي الباني.. وكذا ضداً ومثلاً، ومُطلقةً ومقيدةً، ومصدراً ومنبعاً لصفاتٍ تستبعد وجودها حتى فيمن يطوي السماء كطي السجل!
واما الثاني: فمحالاته لاتحصى:
منها: ان المواد التي صُنِعت منها كزجاجات الادوية في "صيدلية"، فإن أمكن عندك ان يخرج بانصباب وسيلان بلا مداخلة أحدٍ من كل زجاج مقدارٌ معين بميزان حساس، ثم تجتمع المقاديرُ المتفاوتة لتشكيل علاج الحياة او تركيب معجون حيويّ، أمكنَ لك ان تتوهم صدورك من اسباب جامدة.
ومنها: صدور شئ واحدٍ بكمال الانتظام من اسبابٍ غير محدودة جامدين متشاكسين عُمياً صماً مترددين بين الامكانات. تزداد بالاختلاط أعمّيتها وأصميّتها، ومع ان مباشرتها بظاهر الشئ. والحال ان باطنه ألطفُ واكمل صنعة، فمحاليةُ صدورك منها اظهرُ من ان يُخفى.
ومنها: ان اجتماع تلك الاسباب الغير المحصورة بكمال الاتفاق والانتظام بميزان الحاجة في حجيرة من حجيرات عينك ليس بأسهل من اجتماع اركان العالم بوجوده الخارجي بأجرامه العظيمة في كفِّك، بل في ظُفركَ، بل في حجيرةٍ منه؛ اذ من يعمل في بيت، جاز اشتمال البيت عليه ان كان العامل مادياً، فما دام العالم باجزائه عاملاً في جزئكَ جاز دخوله في ذرتك. وهذه سفسطة يخجل منها السوفسطائي.. وهكذا من المحالات المتسلسلة والممتنعات العقلية والاباطيل التي تمجّها الاوهام.
والاحتمال الثالث: وهو تأثير الطبيعة، فابطلُ وافسد.
اذ الطبيعة لها ظاهرٌ عرفي موهوم ظَنّته الغفلةُ والضلالة حقيقةً، ولها باطنٌ هو الصنعة الإلهية والصبغة الرحمانية.
واما القوةُ فحقيقتها تجلي قدرة الحكيم العليم الخبير المريد. واما ما يصوره نظرُ الغفلة والتغافل من الصانع الواحد وما اتصل به من جناحي التصادف الاعمى والاتفاقية العوراء.. فمن مخترعات الشياطين بالاضطرار الناشئ من الضلالة.
المثنوي العربي النوري - ص: 254
ولقد حققنا في "نقطة، وقطرة وذيلها، وشمة، وذرة، وحبة وذيلها" بما لم يُبق شبهة: ان هذه الصنعة الخارقة لاتصدر الاّ من قدرة خبير بصير، يتصف بجميع اوصاف الكمال.
فاين يد الممكن المسكين المقيد المحدود الجامد الكثيف من نسج حلة الكائنات؟! وأين يد البعوضة من نسج قميصات مطرزات منقشات لَبِستْها هذه العوالم؟!
فلم يبقَ الاّ ان تكون انت وكلُّ شئ، مصنوعَ الصانع الازلي الذي شواهدُ خلاقيته بعدد الموجودات:
منها الكائنات بجميع ذراتها ومركباتها. كُلٌّ يشهدُ عليه بخمس وخمسين لساناً كما في "قطرة".
ومنها: القرآن مع كل كتب الانبياء والاولياء والموحّدين، مع الآيات التكوينية في الكون..
ومنها: سيدُ الانام مع كل الانبياء، والاولياء والمَلك..
ومنها: ما في الجن والانس من الفطرة بانواع احتياجاتها..
ومنها:
(شَهِدَ الله أنّهُ لا إلهَ الاّ هُوَ) 1 فمع ما سمعت:
فاعلم! ان مَثَل اسناد الصنعة الى الممكن على الوجوه الثلاثة الاُول، والى الواجب كما هو الحقُّ؛ كَمَثلِ الشجرة باثمارها إن اسندتها للوحدة، بان اسندتها بقوانين النمو الى جرثومها المستمد من النواة الممتثلة للاوامر التكوينية المُفاضة من أمر "كُن" الصادر من الواحد الواجب. فالشجرةُ بجميع اجزائها واوراقها وازهارها واثمارها كثمرةٍ واحدة، ولا فرق بين شجرة ذات ثمرتين كخردلتين، وشجرة كجبل ذات اثمار غير محدودة من الجوز الهندي (لسر مجهول 2 في وجود السهولة واليُسر في الوحدة والاتفاق، حتى في تشريك المساعي وتوحيدها بتقسيم الاعمال.. ووجود الصعوبة والعسر في الكثرة والتشتت).
_____________________
1 آل عمران : 18
2 [لم ينكشف ذلك السر بعد اثناء تأليف هذه الرسالة، الاّ انه اتضح بعد ذلك بـ" الشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والتجرد والاطاعة"]. المؤلف.

المثنوي العربي النوري - ص: 255
وأما اذا اسندت الى الكثرة الامكانية وغير ما عيّنه الصانع؛ لاحتاج كُلُّ ثمرةٍ وكلُّ زهرةٍ وكلُ ورق وكل غصن الى كلِّ ما يحتاج اليه كلُّ الشجرة، لاندماج انموذج الكل في جزءٍ جزءٍ. فانظر ما تَرَى: ما بين الشقين، كما بين الوجوب والامتناع؛ اذ سهولة الاوّل بدرجة جاز أن يقال يجب ان يكون هكذا.. وصعوبة الثاني بدرجة تضطرنا ان نقول : يمتنع ان يكون كذا.
الحاصل: ان أعطيتَ التصريف لغيره تعالى لزمك:
اما ان تجعل كلَّ حجيرة من حجيرات اجزائك محيطة بصفاتها بالكائنات، إن اسندتها الى نفسها.. وإما ان تجعل كلَّ حجيرة كحجرة تجتمع فيها مجموع أسباب العالم العاملة فيها، إن اسندتها الى الاسباب؛ لأن وحدةَ الحجيرة الى ان تصل الى وحدة العالم تدل على وحدة الصانع، اذ الواحد لايصدر الا عن الواحد، لاسيما الحجيرة التي لاتسع اصبعين لبعوضتين، فكيف تسع ما لايسعه كلُّ الكون من تصرف الهين؟ فدليل الوحدة هو الوحدة. وزجيجة - كخردلة - يمكن ان توجد فيها الشمسُ بضيائها والوانها وحرارتها بالتجلي بكمال السهولة، ولايمكن وجود خردلتين في خردلةٍ بمصدريتها لهما.
فكما ان الوجود الخارجي اثبتُ واثقلُ واحكمُ من الوجود المثالي، فتسع ذرةُ ذاك جبلَ هذا، وشمسُ هذه تدخل في لمعةِ ذاك.. كذلك الوجود الوجوبي اثبت وارسخ وارزن وارصن بل هو الوجود الحقيقي والخارجي البحت، واحقّ بما لايُحد من الوجود الامكاني، فالموجودات الامكانية بحذافيرها المتمثلة في مرآة العلم الازلي المحيط تصيرُ كالمرايا لتجليات انوار الوجود الوجوبي. فالعلمُ مرآتُها، وهي مرآة الوجود الوجوبي. فوجودها خرج من مرتبة العلم الى الوجود الخارجي، ولم يصل الى مرتبة الوجود الحقيقي...
اعلم! انه من تأمل في الكون يتحدس منه: ان الفاعلية والتأثير من شأن اللطيف، والنوراني، والمجرد.. وان الانفعال والقابلية والتأثر من شأن المادي والكثيف والجسماني.
فان شئت انظر الى النور والى الجبل، فالاول: يقوم في السماء، ويدهُ الرقيقة اللطيفة في الارض فعالة جوالة. والثاني: بعظمته وباياديه الغليظة لايقتدر على فعل
المثنوي العربي النوري - ص: 256
وتأثير حتى في لصيقه وجاره.. وكذا نرى في تفاعل الاشياء في الظاهر: ان بدرجة لطف الشئ ونورانيته تظهر مرتبة السببية فيه، وبالكثافة يتقرب الى درجة المسَبَّب. فيُعلم من هنا ان خالق الاسباب الظاهرية وموجد المسَّببات هو نورُ الأنوار الذي: (لَيسَ كَمثلهِ شَئٌ وهوَ السميعُ البصير) 1 (لاتُدْرِكهُ الأبصارُ وهو يُدركُ الابصارَ وهوَ اللطيفُ الخبير..) 2 لا إله الاّ هو...
اعلم! ان التفكر نور يُذيبُ الغفلة الباردة الجامدة، والدقةُ نارٌ تحرق الاوهامَ المظلمةَ اليابسة، لكن. اذا تفكرتَ في نفسِك فدقّق وتمهّل وتغلغل وفصّله تفصيلاً،
اذا تفكرتَ في نفسِك فدقّق وتمهّل وتغلغل وفصّله تفصيلاً، بمقتضى الاسم "الباطن" المتعمق؛ اذ كمالُ الصنعة اتمُّ في تحليله وتفصيله..
واذا تفكرت في الآفاق، فاجمل واسرع ولاتَغُص ولا تَخُضْ الاّ لحاجة ايضاحِ القاعدة، ولا تحدِّد النظر، كما هو مقتضى الاسم "الظاهر" الواسع؛ اذ شعشعةُ الصنعة أجلى وابهرُ واجملُ في إجماله ومجموعه، ولئلا تغرق فيما لا ساحل له. فاذا فصلتَ هناك - يعنى في نفسك - واجملتَ هنا، تقرّبتَ الى الوحدة. فصارت الجزئياتُ اجزاءً، والانواعُ كلاً، والمختلط ممتزجاً، والممتزج متحداً فيفور منه نورُ اليقين. واذ عكستَ بان اجملتَ فيك، وفصّلتَ في الآفاق تتشتت بك الكثرةُ وتستهوي بك الاوهامُ وتستغلظ انانيتُك وتتصلّب غفلتُك، فتنقلب طبيعةً. فهذا طريق الكثرة المنجرة الى الضلالة... اللّهمَّ لاتجعلنا من الضالين آمين...
اعلم! انه قد روي ان الانسان "اذا تحرك سكن رزقهُ، واذا سكن تحرك رزقهُ". الحق انه من لمعات حقيقة واسعة.. فانظر الى الاشجار لما سكنتْ متوكلةً تحركتْ اليها ارزاقُها، والى الحيوانات لما تحركتْ حريصاتٍ سكنتْ عنها ارزاقها ثابتة في مقامها نابتةً على عروقها، تدعو بالوانها وروائحها الى انفسها مَن جاع واحتاج من الحيوانات المتحركة باهوائها والدائرة بهَوَساتها..
اعلم! انه ما اجهل الانسان الغافل وما اضلّه وما اضرّه لنفسه!. يترك خيراً عظيماً لوجود احتمال عائقٍ بين تسعة احتمالات سائقة، ويرتكب الضلالة بترك الهداية لشبهةٍ سوفسطائية مع وجود الوفِ براهين الهداية، والحال ان الانسان وهّام ذو
_____________________
1 الشورى : 11
2 الانعام : 103

المثنوي العربي النوري - ص: 257
احتياط وحزمٍ يتجنب من المضار العاجلة باحتمالٍ واحدٍ من عشرة احتمالات. فكيف لايتجنب من اضرّ المضرات بتسعة احتمالات بل بتسعة وتسعين؟!.
_ (اعلم): ان في روح الانسان احتياجاتٍ لاتتناهى وقابليةً لتألمات لاتتناهى واستعداداً لتلذذات لاتتناهى ومهيءٌ لآمال والآم لاتتناهى؛ حتى ان الشفقة مع ضلالة القلب تتضمن آلاماً غير متناهية. كما ذكر في "قطرة"، فليس لك ان تقول: ما انا ومَن انا وايُّ شئ انا حتى تقوم لي القيامة، ويوضَع لي الميزان، ويجري عليّ الحساب! فيا ايها الضال الشاك..! لاتغتر بهذه الحياة، فان لذتها معلقةٌ بمغلطة مربوطةٍ بالشك لأهل الضلالة. فيفرُّ الضالّ الشاك من دهشةِ ألم الزوال والفناء الى احتمال السعادة الابدية. ويفرُ ايضاً من تكلف تحمل التكاليف الدينية الى احتمال عدمِ الآخرة، فيتخلص بهذه المغلطة من الألَمين مؤقتاً. ففي قريب من الزمان تنحلُّ عليه العقدة، وتنكشف الحقيقة. فلا الاحتمال الاول، يهوِّن ألَمه بل يحسه كلَّ الألم دفعةَ، ولا الثاني، يخفف حمله بل يضاعف عليه آلاماً جهنمية. وكذا يقول - لكن في زمان قليل - : فالمصيبة عمّت وطابت، فلا عليّ اني كأمثالي فلا اُبالي! لكن يجيء زمان عن قريب، تتضاعف عليه المصيبة بدرجة عمومها، كاصابة الشخص في نفسه ثم أقاربه وأحبابه، لأن في روح المرء علاقات بأبناء جنسه فمهما عمّت المصيبةُ تضاعفت البلية.
ايها الشاك الغافل! لاتحسب ان تذوقه بيدي الغفلة والشك لذة لذيذة، بل فيه ادخار آلام أليمة، ستهجم عليك دفعةً وتنقلب آلاماً جهنمية. فإن احببتَ ان يتبدل لك هذه الآلامُ المترصدة لذائذَ متجددةً، وتنقلب هذه النارُ نوراً؛ فقوِّس انفَ غرورك بالركوع في الأوقات الخمسة، ووسِّع رأسه لنزول ضيفِ الفرقان مع فيض الايمان. فلابد من المداواة بالتفكر بالآيات وملازمة مَرارة هذه الضلالات، وتنكشف لذة المناجاة..
(اعلم): 1 ان العبودية تستلزم التسليمَ دون الاختيار والتجربة والامتحان اذ "للسيد أن يختبر عبدهُ، وليس للعبد ان يختبر ربّه"!..
_____________________
1 تراجع المذكرة الثالثة عشرة من اللمعة السابعة عشرة.

المثنوي العربي النوري - ص: 258
اعلم: ان دائرة الاسم "الباطن" ودائرة الاسم "الظاهر" متداخلتان ومتقابلتان. فاهل الاُولى يقولون قدرته، مثلا كالبحر. واهل الثانيةيقولون كالشمس. فالبحر كالكل ذي الاجزاء. والشمس كالكلي ذي الجزئيات تماثيلها كجزئياتها. والباطني المحض المفرط لايخلص من شائبة التجزء والاتحاد. والظاهري السطحي المخالف للسنة لايخلص من شوب شرك الاسباب، فالصراط المستقيم هو القرآن..
فيا مُنزلَ القرآن، بحق القرآن اهدنا الصّراط المُستقيم
آمين آمين آمين
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 08:21 PM
المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 4 03-23-2011 08:14 PM
المثنوي العربي النوري - شَمَّةٌ عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:07 PM
المثنوي العربي النوري - ذرة عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 03-23-2011 08:04 PM
المثنوي العربي النوري - لمعات عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 2 03-23-2011 07:27 PM


الساعة الآن 11:54 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir