أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع الرابع


الشعاع الرابع - ص: 68
الشعاع الرابع

هذا الشعاع هو اللمعة الخامسة من حيث المعنى والرتبة، وهو الشعاع الرابع القيم من حيث الصورة والمقام، للّمعة الحادية والثلاثين من المكتوب الحادي والثلاثين، وهو عبارة عن نكتة مهمة جليلة للآية الكريمة:
(حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173).

تنبيه:
ان رسائل النور تخالف الكتب الاخرى، اذ تستهل البحث بشئ من الابهام الذي قد يخفى على القارئ ويغمض عليه، الاّ انها تتوضّح تدريجياً، وتكشف عن معانيها رويداً رويداً، ولاسيما هذه الرسالة. فالمرتبة الاولى منها دقيقة وعميقة غامضة مع انها حقيقة قيمة غالية. وقد برزت هذه المرتبة بصفة خاصة بي شفاءً لأدوائي المتنوعة الغائرة، برزت على صورة محاكمة شعورية في غاية الأهمية، ومعاملة ايمانية في غاية الحيوية ، ومحاورة قلبية في غاية الخفاء. ومن هنا قد لايتمكن ان يتذوقها تذوقاً تاماً ويستشعر بها الاّ من كانت مشاعره متوافقة معي، متجانسة مع مشاعري.
الشعاع الرابع - ص: 69
بسْمِ الله الرّحمنِ الرّحيم
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل)

حينما جرّدني ارباب الدنيا من كل شئ، وقعتُ في خمسة ألوان من الغُربة، وانتابتني خمسة انواع من الامراض الناشئة من الآلام والعنت في زمن الشيخوخة. ولم التفت الى ما في رسائل النور من انوار مسلّية وامدادات مشوّقة - جراء غفلة اورثها الضجر والضيق - وانما نظرت مباشرة الى قلبي وتحسست روحي، فرأيت:
انه يسيطر عليّ عشق في منتهى القوة للبقاء، وتهيمن علىّ محبة شديدة للوجود، ويتحكّم فيّ شوق عظيم للحياة، مع ما يكمن فيّ من عجز لاحدّ له وفقر لانهاية له. غير ان فناءً مهولاً يطفئ ذلك البقاء ويزيله، فقلت - في حالتي هذه - مثلما قال الشاعر المحترق الفؤاد 1:
حكمة الإله تقضي فناء الجسد ، والقلب توّاقٌ الى الابد،
لهف نفسي من بلاءٍ وكمد، حار لقمان في ايجاد الضمد..
فطأطأت رأسي يائساً، واذا بالآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) تغيثني قائلة:
أقرأني جيداً، بتدبر وامعان.. فقرأتها بدوري خمسمائة مرة في كل يوم. وكتبت تسعاً فقط من انوارها ومراتبها القيمة الغزيرة التي انكشفت لي بعين اليقين، أما تفاصيلها المعروفة بعلم اليقين، لا بعين اليقين، فاحيلها الى رسائل النور.

_____________________
1 المقصود الشاعر نيازي المصري (1618- 1694م) شاعر صوفي تركي ولد في قرية قريبة لولاية "ملاطية". اكمل دراسته في الازهر الشريف فلقب بـ"المصري" له ديوان شعر ومؤلفات منها: رسالة الحسنين، موائد العرفان وعوائد الاحسان، هداية الاخوان. تولى الارشاد في مدارس استانبول العلمية.(انظر: اللمعات - اللمعة/26).

الشعاع الرابع - ص: 70
المرتبة النورية الحسبية الاولى
ان ما فيّ من عشق البقاء، ليس متوجهاً الى بقائي أنا، بل الى وجود ذلك الكامل المطلق والى كماله وبقائه. وذلك لوجود ظلٍ لتجلٍ من تجليات اسمٍ من اسماء الكامل المطلق - ذي الكمال والجمال - في ماهيتي، وهو المحبوب لذاته - اي دون داع ٍ الى سبب - الاّ ان هذه المحبة الفطرية ضلت سبيلها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشقت بقاء المرآة.
ولكن ما ان جاءت (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) حتى رفعت الستار. فاحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بحق اليقين: ان لذة البقاء وسعادته، موجودة بنفسها، بل افضل وأكمل منها، في ايماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلهي؛ لأنه ببقائه سبحانه يتحقق لي حقيقة باقية لا تموت، اذ يتقرر بشعور ايماني "أن ماهيتي تكون ظلاً لإسمٍ باقٍ، لإسمٍ سرمدي، فلا تموت".
وكذا تُشبَع بذلك الشعور الايماني - الباعث على وجود الكمال المطلق وهو المحبوب المطلق - المحبةُ الذاتية، الفطرية الشديدة.
وكذا تُعرف بذلك الشعور الايماني - الذي يخص بقاء الباقي السرمدي ووجوده سبحانه - كمالات الكائنات ومزاياها، ومزايا نوع الانسان بالذات وتُكشف عنها، ويُعلم ان الافتتان الفطري بالكمال يُنقذ من آلام غير محدودة، فيتذوق ويتلذذ.
وكذا يتولد بذلك الشعور الايماني انتسابٌ الى ذلك الباقي السرمدي، وتتولد وشائج مع ملكه عامة بالايمان بذلك الانتساب، فينظر المرء - بنور الايمان - الى مُلكٍ غير محدود كنظره الى ملكه، فيستفيد معنىً.
وكذا يتكون بذلك الشعور الايماني وبذلك الانتساب والعلاقة ما يشبه الاتصال والارتباط بجميع الموجودات؛ وفي هذه الحالة يتولد وجودٌ غير محدود - غير وجوده الشخصي الذي يأتي بالدرجة الثانية - من جهة ذلك الشعور الايماني والانتساب والارتباط والعلاقة والاتصال، حتى كأنه وجود كوجوده فيهدأ العشق الفطري تجاه الوجود.
الشعاع الرابع - ص: 71
وكذا تتولد بذلك الشعور الايماني والانتساب والعلاقة والارتباط اخوة مع جميع اهل الكمال والفضل؛ وعندها لا يضيع ولايمحى اولئك الذين لايعدّون ولايحصون من اهل الكمال والفضل، بفضل معرفة وجود الباقي السرمدي وبقائه، فيورث بقاء ما لا يعد من الاحبّة، الذين يرتبط بهم بحب وتقدير واعجاب ودوام كمالهم صاحبَ ذلك الشعور الايماني ذوقاً رفيعاً سامياً.
وكذا رأيتني قادراً على الاحساس بسعادة غير محدودة، ناشئة من سعادة جميع احبائي - الذين اضحي بحياتي وببقائي بكل رضى وسرور من اجل سعادتهم - وذلك بوساطة الشعور الايماني والانتساب والارتباط والعلاقة والاخوة؛ اذ الصديق الرؤوف يسعد بسعادة صديقه الحميم ويتلذذ بها. ولهذا فانه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده، ينجو جميع ساداتي وجميع احبابي، وهم الانبياء عليهم السلام والاولياء والاصفياء وفي مقدمتهم الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وآله واصحابه الكرام ، وينجو جميع احبابي الذين لايحصون، ينجون كلهم من الاعدام الابدي وينالون سعادة سرمدية خالدة، فأحسست هذا بذلك الشعور الايمانى فانعكس عليّ شئ من سعاداتهم وتذوقتها ذوقاً خالصاً، فغمرتني سعادة عظمى، بسبب تلك العلاقة والاخوة والارتباط والمحبة.
وكذا غمرتني سعادة روحية لامنتهى لها بنجاتي من آلام غير محدودة، ناشئة من علاقتي بابناء جنسي، وشفقتي على اقاربي، فقدأحسست بشعور إيماني ان جميع اقاربي نسلاً ونسباً ومعنىً والذين أفديهم بحياتي وبقائي - بفخر واعتزاز فطري - لأجل خلاصهم من المهالك والمخاطر، وفي المقدمة آبائي وامهاتي.. احسست انهم ينجون من الفناء والعدم والاعدام الابدي ومن آلام غير محدودة، وينالون رحمة واسعة مطلقة ببقاء الباقي الحقيقي وبوجوده سبحانه؛ وان رحمة واسعة مطلقة ترعاهم وتحميهم بدلاً من شفقتي الجزئية القاصرة التي لاتأثير لها والتي هي مبعث ألم وغم. فكما تتلذذ الوالدة بلذة ولدها وتذوق الراحة براحته، تلذذتُ انا كذلك وسعدتُ بنجاة جميع اولئك الذين اشفق عليهم، بانضوائهم تحت حماية تلك الرحمة الواسعة، وبتنعمهم في ظلها، وانشرحت فرحاً جذلاً بهذا الشعور، فشكرت الله من الاعماق.
الشعاع الرابع - ص: 72
وكذا علمت بذلك الشعور الايماني نجاة "رسائل النور" التي هي ثمرة حياتي ومبعث سعادتي ووظيفة فطرتي، نجاةً من الفناء والضياع والضمور ومن عدم الجدوى والنفع، وعلمت بذلك الانتساب الايماني، بل شعرت ببقاء تلك الرسائل نضرة طرية، واحسست بنمائها معنىً، بل ببقائها ودوامها وإثمارها ثمرات يانعة. فحصلت لي القناعة التامة أن في هذا لذة معنوية تفوق كثيراً لذة بقائي، ولقد احسست بتلك اللذة احساساً حقاً كاملاً، لأنني آمنت أنه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده لاتنقش رسائل النور في ذاكرة الناس وقلوبهم وحدها بل تكون ايضاً موضع مطالعة لمخلوقات غير محدودين من ذوي الشعور والروحانيين. فضلاً عن انها ترتسم في اللوح المحفوظ وفي الالواح المحفوظة - ان كانت موضع رضى الله سبحانه وتعالى - وتتزين بثمرات الأجر والثواب، ولا سيما أن وجودها بآنٍ واحد، وحظوتها بنظر رباني من حيث انتسابها الى القرآن الكريم ونيلها بالقبول النبوي والرضى الإلهي - ان شاء الله - اعظم واجلّ من اعجاب وقدر اهل الدنيا كلهم لها.. وعلمت ان سعادتي هي في خدمة تلك الرسائل للقرآن الكريم. وانني على استعداد كل حين بالتضحية بحياتي وببقائي لإبقاء كل رسالة من تلك الرسائل - التي تثبت الحقائق الايمانية وتدعمها - ولدوامها ولإفادتها الآخرين ولمقبوليتها عند الله. وعندها فهمت - بذلك الانتساب الايماني - ان تلك الرسائل تنال بالبقاء الإلهي تقديراً واعجاباً يفوقان تقدير الناس واعجابهم بها بمائة ضعف. لذا قلت بكل ما املك من قوة: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).
وكذا علمت بذلك الشعور الايماني ان الايمان ببقاء الباقي ذي الجلال وبوجوده الذي يمنح بقاءاً ابدياً وحياة دائمة وان ثمرات الايمان التي هي الاعمال الصالحة ثمرات باقية لهذه الحياة الفانية،ووسائل لبقاء دائم. فاقنعتُ نفسي ان اكون كالبذرة التي تترك قشرتها لتتحول الى شجرة باسقة مثمرة، اي اقنعتها ان تترك بقائي الدنيوي الشبيه بالقشرة لتعطي ثمرات باقية. فقلت مع نفسي: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل). نعم حسبنا بقاءه سبحانه.
وكذا علمت بعلم اليقين، بذلك الشعور الايماني والانتساب بالعبودية ؛ ان وراء ستار التراب عالم منور، وان الطبقة الترابية الثقيلة التي يرزح تحتها الموتى، سترفع
الشعاع الرابع - ص: 73
عنهم. وان النفق الذي يدخل اليه من باب القبر لايؤدي الى ظلمات العدم كذلك. فقلت من الاعماق:(حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).
وكذا احسست احساساً تاماً، وعلمت بحق اليقين، بذلك الشعور الايماني انه في الوقت الذي يتوجه عشق البقاء الشديد جداً في فطرتي الى بقاء الباقي ذي الكمال والى وجوده من جهتين، الاّ انه قد ضلَّ عن محبوبه بسبب ما اسدلته الانانية من استار دونه، فتشبث بالمرآة وافتتن بها، فصار حائراً غوياً. اذ إن ما يهيمن على ماهيتي من ظل اسم للكمال المطلق، المحبوب لذاته، والمحبوب فطرة، والمعبود المعشوق، قد أورث عشق البقاء هذا، الذي هو عميق الغور والراسخ القوي. وبينما الكمال الذاتي الذي هو وحده كاف وواف للعبادة والافتتان، حيث لايدفع لمحبته سبب او غرض، ولايقتضيه شئ دون ذاته، فانه باحسانه وانعامه ثمرات باقية - كالمذكورة آنفاً - والتي تستحق كل منها ان يُضحى لاجلها بالوف من الحياة الدنيوية وبقائها لابحياة واحدة وبقاء واحد، فقد احسست أن ذلك الكمال الذاتي قد رسّخ باحسانه هذا ذلك العشق الفطري وعمّقه اكثر، فلو تيسّر لي لقلت بجميع ذرات وجودى: (حَسْبنا الله ونِعْمَ الوكيل) بل قلته بتلك النية.
ولقد اورثني ذلك الشعور الايماني الذي يتحرى عن بقائه فوجد البقاء الإلهي - كما اشرتُ الى عدد من ثمراته بالفقرات المبتدئة بـ كذا.. كذا..- ومنحنى ذوقاً وشوقاً ملكا عليّ كياني كله واخذا بمجامع روحي، فقلت بكل ما املك من قوة، ومن اعماق قلبي ومع نفسي (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).

المرتبة النورية الحسبية الثانية
انه مع عجزي غير المتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة المستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفّتني، ومع عدم وجود المعين لي، وقد جُردت من كل شئ هاجمني ارباب الدنيا بجواسيسهم وبدسائسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلاً:
"ان جيوشاً كثيفة عارمة تهاجم شخصاً واحداً ضعيفاً مريضاً مكبّل اليدين.. أوَ ليس له - اي لي - من نقطة استناد؟".
الشعاع الرابع - ص: 74
فراجعت آية (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فاعلمتني:
انك تستند بهوية الانتساب الايماني الى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بحيث يجهّز بانتظام تام في كل موسم ربيع على سطح الارض جميع جيوش النباتات والحيوانات المتشكلة من اربعمائة الف نوع من الامم والطوائف بالاعتدة والاجهزة اللازمة لها. فيجدد ملابس جيشيه العظيمين وهما الاشجار والطيور ويلبسهما ملابس جديدة، مبدلاً انواطهما وشاراتهما، حتى انه يبدل لباس الجبل ونقاب الصحراء مثلما يبدل فساتين الدجاج اللطيفة واثواب الطيور الجميلة. ويوزع جميع ارزاق الجيش الهائل للاحياء - وفي مقدمتها الانسان - لابشكل ما اكتشفه الانسان المعاصر في الآونة الاخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما بل بصورة مستخلصات اكمل وافضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصات جميع انواع الاطعمة، وهي مستخلصات رحمانية تلك التي تسمى البذور والنوى. زد على ذلك فانه يغلف ايضاً تلك المستخلصات بأغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونموها، ويحفظها في عُليبات وصنيديقات صغيرة وصغيرة جداً، وهذه الصنيديقات ايضاً تصنع في معمل "ك. ن" بسرعة متناهية جداً وبسهولة مطلقة للغاية وبوفرة هائلة، حتى أن القرآن الكريم يذكر ذلك بقوله تعالى: (فانما يقولُ لهُ كُن فيكون) (البقرة: 117).
وعلى الرغم من ان جميع تلك الخلاصات متشابهة ومتكونة من المواد نفسها وقد لاتفي بحاجة مدينة واحدة، فان الرزاق الكريم يُنضج منها في موسم صيف واحد ما يمكن أن يملأ مدن الارض كافة باطعمة في غاية اللذة والتنوع.
فما دمتَ قد ظفرتَ بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الايماني، يمكنك اذن الاستناد والاعتماد الى قوة عظيمة وقدرة مطلقة، وحقاً لقد كنتُ احسّ بقوة معنوية هائلة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت اشعر انني املك من الاقتدار الإيماني ما يمكّنني من ان اتحدّى بها جميع اعدائي في العالم وليس الماثلين امامي وحدهم، لذا رددتُ ومن اعماق روحي: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).
الشعاع الرابع - ص: 75
وراجعت الآية الكريمة نفسها من حيث فقري واحتياجي غير المتناهيين كي انال نقطة استمداد لهما. فقالت لي :
انك منتسب الى مالك كريم بعبوديتك وبمملوكيتك، واسمك مسجّل في دفتر اعاشة المخلوقات، وانه يفرش سفرة نعمه في كل ربيع وصيف ويرفعها بل يبسطها ويطويها اكثر من مائة مرة مزيناً اياها باطعمة متنوعة لذيذة يأتيها من عالم الغيب ومن العدم ومن حيث لايحتسب العبد ومن تراب جامد حتى كأن سني الزمان وايام كل سنة صحون متعاقبة مترادفة لثمرات احسانه واطعمة رحمته ومعرض لمراتب آلاء رزاق رحيم، بمراتب كلية وجزئية. فانت عبدٌ لمثل هذا الغني المطلق. فان كان لك شعور واحساس بهذه العبودية له، فان فقرك الأليم يصبح مدار شهية لذيذة..
وانا بدوري قد أخذت حظي من هذا المعنى من الآية الكريمة. فقلت مع نفسي: نعم.. نعم انه الصدق بعينه.
ورددت متوكلاً على الله: (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل).

المرتبة النورية الحسبية الثالثة
حينما اشتد خناق الامراض وألوان الغربة وأنواع الظلم عليّ، وجدت ان علاقاتي تنفصم مع الدنيا، وان الايمان يرشدني بانك مرشح لدنيا اخرى ابدية، وانك مؤهل لمملكة باقية وسعادة دائمة. ففي هذه الاثناء تركتُ كل شئ تقطر منه الحسرة ويجعلني أتأوّه وأتأفف، وابدلته بكل ما يبشّر بالخير والفرح ويجعلني في حمدٍ دائم. ولكن أنّى لهذه الغاية أن تتحقق وهي غاية المنى ومبتغى الخيال وهدف الروح ونتيجة الفطرة، الاّ بقدرة غير محدودة للقدير المطلق، يعرف جميع حركات مخلوقاته وسكناتهم قولاً وفعلاً، بل يعرف جميع احوالهم واعمالهم ويسجلها كذلك. وانّى لها أن تحصل الاّ بعنايته الفائقة غير المحدودة لهذا الانسان الصغير الهزيل المتقلب في العجز المطلق، حتى كرّمه واتخذه خليلاً مخاطباً، واهباً له المقام السامي بين مخلوقاته.
الشعاع الرابع - ص: 76
نعم، حينما كنت أفكر في هاتين النقطتين، اي في فعالية هذه القدرة غير المحدودة، وفي الأهمية الحقيقية التي أولاها البارئ سبحانه لهذا الانسان الذي يبدو حقيراً. أردت ايضاحاً وانكشافاً للايمان بما يُطمئن القلب. فراجعت بدوري تلك الآية الكريمة ايضاً، فقالت لي:
دقق النظر في "نا" التي في "حسبنا"، وانظر مَن هم اولاء ينطقون "حسبنا" معك، سواء ينطقونها بلسان الحال، او بلسان المقال، أنصت اليهم.. نعم، هكذا أمرتني الآية! فنظرت.. فاذا بي أرى طيوراً محلّقة لاتحدّ، وطويرات صغيرة صغيرة جداً كالذباب لاتحصى، وحيوانات وحوينات لاتعد ونباتات لاتنتهي واشجاراً وشجيرات لا آخر لها ولانهاية...
كل ذلك يردد مثلي بلسان الحال معنى (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل)، بل يُذكّر الآخرين بها.. ورأيت أن لهم وكيلاً - نِعمَ الوكيل - تكفل بجميع شرائط حياتهم، حتى انه يخلق من البيوض المتشابهة المتركبة من المواد نفسها،ومن النطف المتماثلة، ومن الحبوب الشبيهة بعضها ببعض، مائة الف طراز من الحيوانات ومائة الف شكل من الطيور ومائة الف نوع من النباتات، ومائة الف صنف من الاشجار... يخلقها بلا خطأ وبلا نقص وبلا التباس، يخلقها مزينة جميلة وموزونة منظمة، مع تميّز بعضها عن البعض الآخر واختلاف بعضها عن بعض، يخلقها باستمرار ولاسيما ايام كل ربيع امام اعيننا في منتهى السرعة، وفي منتهى السهولة، وفي منتهى السعة، وفي منتهى الوفرة.. فخلقُ جميع هذه المتشابهات المتوافقات المتداخلات من المخلوقات على النمط نفسه والاشكال عينها، ضمن عظمة هذه القدرة المطلقة وحشمتها، يظهر لنا بوضوح وحدانيته سبحانه وتعالى وأحديته.
وقد افهمتني الآية أنه لايمكن المشاركة ولا المداخلة قطعاً في فعل هذه الربوبية والخلاقية الذي يبرز هذه المعجزات غير المحدودة ..
ثم نظرت الى "انا" الموجود في "نا" حسبنا، اي نظرت الى نفسي وتأملت فيها ورأيت ان الذي خلق الحيوانات من قطرة ماء خلقني ايضاً منها. وبرأني معجزة من معجزاته، وشق سمعي وبصري ووضع دماغاً في رأسي وقلباً في صدري ولساناً في
الشعاع الرابع - ص: 77
فمي بحيث خلق في ذلك الدماغ والقلب واللسان مئات ٍمن الموازين الدقيقة والمقاييس الرقيقة التي تتمكن من أن تزن وتعرف جميع هدايا الرحمن المدّخرة في خزائن الرحمة الإلهية وعطاياه الكريمة، وادرج في تلك الاعضاء الوفاً من الآلات التي تتمكن من أن تفتح كنوزتجليات الاسماء الإلهية التي لا نهاية لها، وأمدّ تلك الآلات والاجهزة معرّفات مُعينة مساعدة بعدد الروائح والطعوم والالوان.
وكذا ادرج سبحانه بكمال الانتظام احاسيس شاعرة وحواس باطنة، ولطائف معنوية رقيقة في منتهى النظام والاتقان، فضلاً عما خلق بكمال الحكمة في وجودي في غاية الكمال والانتظام اجهزةً متقنة وجوارح بديعة وضرورية لحياة الانسان، ليذيقني جميع انواع نعمه وعموم اشكال آلائه ويحسسني بها جميعاً، ويفهّمني ويعرّفني بتجليات اسمائه الحسنى وبمظاهرها المتنوعة، بتلك المشاعر الدقيقة والحواس اللطيفة، ويدفعني الى تذوقها والتلذذ بها.
وعلاوة على انه جعل وجودي - هذا الذي يبدو حقيراً فقيراً تافهاً - كوجود كل مؤمن في أحسن تقويم للكون، ونسخة مصغرة للعالم الاكبر، ومثالاً مصغراً لهذه الدنيا، ومعجزة زاهرة لمصنوعاته سبحانه، وشارياً طالباً لكل نوع من انواع نعمه التي لاتعد ولاتحصى، ومركزاً لقوانين ربوبيته، ووسيلة لتنفيذ اجراءاته واوامره، ونموذجاً لحديقة ازاهير عطايا حكمته ورحمته، والمخاطب المدرك لخطابه السبحاني، فانه سبحانه وهب لي "الحياة" ليجعل الوجود - وهو النعمة الكبرى - كبيراً وكثيراً في وجودي أنا، إذ يمكن لنعمة وجودي هذا ان ينبسط بالحياة بقدر عالم الشهادة.
وكذا منح "الانسانية" ففتحتْ نعمةُ الوجود بتلك الانسانية وبانكشافها طريقَ الاستفادة من تلك الموائد المنصوبة الواسعة في العوالم المادية والمعنوية بمشاعر خاصة بالانسان.
وكذا أنعم عليّ بـ"الاسلام" فتوسعت نعمة الوجود - بذلك الاسلام - سعة عالم الغيب والشهادة.
وكذا أنعم عليّ بالايمان التحقيقي، فغدت نعمة الوجود بذلك الايمان منطوية على نعم الدنيا والآخرة وقادرة على استيعابها.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الرابع


الشعاع الرابع - ص: 78
وكذا اعطى "معرفته" و "محبته" ضمن ذلك الايمان التحقيقي، فاحسن اليّ مرتبة تمكن نعمة الوجود تلك من أن تمدّ ايديها بالحمد والثناء الى دوائر كثيرة جداً ابتداءً من دائرة الممكنات الى عالم الوجوب ودائرة الاسماء الحسنى، لتستفيد منها.
وكذا تفضّل عليّ - بصفة خاصة - بعلم قرآني وحكمة ايمانية؛ فاولاني باحسانه هذا تفوقاً على كثير من مخلوقاته.
وهكذا فقد منح سبحانه الانسان جامعية من جهات كثيرة جداً، كالمذكورة سابقاً، ووهب له من الاستعداد ما يجعله مرآةً كاملة لأحديته وصمدانيته، ويمكّنه من ان يلبي بعبودية كلية واسعة، ربوبية ً كلية مقدسة.
ولقد علمت علماً يقيناً وآمنت ايماناً كاملاً أنه سبحانه يشتري مني امانته المودعة فيّ وهديته المهداة اليّ وعطيته الكريمة لي، تلك هي وجودي وحياتي ونفسي، يشتريها، كما نص عليه القرآن الكريم، واجمع عليه ما انزله من الكتب والصحف المقدسة على الانبياء، واتفق عليه جميع الأنبياء والاولياء والاصفياء، يشتريها مني لئلا تضيع عندي، ولأجل الحفاظ عليها واعادتها اليّ، مقابل سعادة ابدية وجنة خالدة قد وعد بها وعداً قاطعاً وتعهّد لها عهداً صادقاً.
ولقد استلهمت من هذه الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) ان لي رباً عظيماً ذا الجلال والاكرام يفتح صور مئات الالوف من انواع الحيوانات وأصناف النباتات باسمه "الفتّاح" يفتحها من قطرات متشابهة محددة، ومن نوى متماثلة محدودة العدد، يفتحها في منتهى السهولة واليسر وفي غاية السرعة والاتقان، وقد أولى سبحانه وتعالى هذا الانسان اهمية عظيمة تحير العقول - كما ذكرناه آنفاً - حتى جعله مداراً لشؤون ربوبيته الجليلة، وانه سيوجد الحشر ايجاده للربيع المقبل في سهولة ويسر وبقطعية مجيئه وتحققه، وسينعم علينا بالجنة والسعادة الابدية.
نعم! هذا ما تعلمته من هذه الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل)، فلو كنت استطيع لتلوتها فعلاً بألسنة جميع المخلوقات، ولكن تلوتها بالنية وبالتصور وبالخيال حيث لااستطيع ذلك فعلاً، بل ارغب في أن اكررها دوماً الى أبد الآبدين.
الشعاع الرابع - ص: 79
المرتبة النورية الحسبية الرابعة
حينما وافقت العوارض المزلزلة لكياني أمثال الشيب والغربة والمرض وكوني مغلوباً على أمري، فترة غفلتي، وكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب الى العدم، بل وجود المخلوقات كلها يفنى وينتهي الى الزوال.. ولّد عندي ذهاب الجميع الى العدم قلقاً شديداً واضطراباً أليماً فراجعت الآية الكريمة ايضاً (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فقالت لي: "تدبّر في معانيّ، وانظر اليها بمنظار الايمان". وانا بدوري نظرت الى معانيها بعين الايمان فرأيت: ان وجودي الذي هو ذرة صغيرة جداً، مرآة ٌ لوجود غير محدود، ووسيلة للظفر بانواع من وجود غير محدود بإنبساط غير متناهٍ.. وهو بمثابة كلمة حكيمة تثمر من انواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو اكثر قيمة من وجودي وأعلى منه نفاسة حتى أن لحظة عيش له من حيث انتسابه الايماني ثمين جداً، وله قيمة عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم، فعلمت كل ذلك بعلم اليقين؛ لأنه ادركت بالشعور الايماني ان وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته. فنجوت من ظلمات لا حدّ لها تورثها أوهام موحشة، وتخلصت من آلام لاحدّ لها نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأمدّ روابط اخوة وثيقة الى جميع الموجودات ولاسيما الى ذوي الحياة، روابط بعدد الافعال والاسماء الإلهية المتعلقة بالموجودات. وعلمت أن هناك وصالاً دائماً مع جميع ما أحبه من الموجودات من خلال فراق مؤقت.
ومن المعلوم أن الذين تربطهم رابطة القرية الواحدة او المدينة الواحدة او البلد الواحد او الفرقة العسكرية الواحدة او القائد الواحد او الاستاذ المرشد الواحد وأمثالها من الروابط الواحدة يشعرون بأخوة لطيفة وصداقة قوية تربط فيما بينهم، بينما المحرومون من مثل هذه الروابط الواحدة يقاسون دائماً عذاباً مريراً من ظلمات أليمة.
وكذا لو كانت لثمرات شجرة شعور لشعرتْ كلٌ منها أنها اخت الاخرى وبديلتها وصاحبتها وناظرتها، ولكن لو لم تكن شجرة، او اقتطفت تلك الثمرات منها لشعرت كل ثمرة بآلام فراقٍ بعدد الثمرات.
وهكذا ظفر وجودي ايضاً - كأي مؤمن آخر - بالايمان وبالانتساب الذي فيه بأنوار لافراق فيها تشع من انواع من وجود غير متناه، فلو رحل وجودي فإن بقاء تلك الانواع من الوجود عقبه يجعل وجودي راضياً مطمئناً كأنه قد بقي بنفسه كاملاً.
الشعاع الرابع - ص: 80
زد على ذلك ان وجود كل ذي حياة ولاسيما من ذوي الارواح، هو بمثابة كلمة تُقال وتُكتب، ثم تغيب، بعد ان تترك بدلها انواعاً من وجودٍ - تعدّ تالية لوجودها - هي معناها، وهويتها المثالية، وصورتها، ونتائجها، وثوابها - ان كانت كلمة طيبة - وحقيقتها.. وامثالها من انواع الوجود الكثيرة التي تتركها ثم تغيب وتختفي، وقد اثبتنا ذلك تفصيلاً في "المكتوب الرابع والعشرين".
فوجودي ايضاً مثل تلك الكلمة تماماً، وكذا وجود كل ذي حياة. اذا ما رحل عن الوجود الظاهري، فانه يترك روحه - ان كان من ذوي الارواح - ويترك معناه، وحقيقته، ومثاله، ونتائجه الدنيوية لماهيته الشخصية وثمراتها الاخروية، وهويته، وصورته، يترك كل ذلك في القوى الحافظة لذاكرة الناس، وفي الالواح المحفوظة، وفي شرائط افلام المناظر السرمدية، وفي مشاهد العلم الازلي، مودعاً في دفتر اعماله تسبيحاته الفطرية التي تمثله وتمنحه البقاء وتلبيته الفطرية لتجليات الاسماء الإلهية ومقتضياتها، وقيامه بوظيفة المرآة الظاهرة، فعلمت علم اليقين أن الموجود يترك بدلاً من وجوده الظاهري انواعاً كثيرة من وجود معنوي - امثال ما ذكر - هي اسمى وارقى منه ثم يرحل.
وهكذا يمكن ان يكون الانسان مالكاً لهذه الانواع المذكورة من وجود معنوي باقٍ خالد، بالايمان وبما فيه من شعور وانتساب. وانه لولا الايمان لضاع في العبث وذهب الى العدم، فضلاً عن حرمانه من تلك الانواع من الوجود.
كنت أتأسف كثيراً - في وقت ما - على زوال ازاهير الربيع وفنائها بسرعة، حتى كنت أتألم لحال تلك اللطيفات، ولكن الحقيقة الايمانية التي وضحت هنا قد بيّنت ان تلك الازاهير -كما ذكر- هي بذور ونوى في عالم المعنى تثمر كالشجرة والسنبل جميع انواع ذلك الوجود -عدا الروح- كما ذكر؛ فما تغنمه اذن تلك الازاهير من حيث نور الوجود هي مائة ضعف وضعف لما تفقده من وجود، اذ وجودها الظاهري لا يُمحى بل يختفي.. فضلاً عن ان تلك الازاهير هي صور متجددة لحقيقتها النوعية الباقية؛ اذ موجودات الربيع الماضي من اوراق وازاهير وثمرات وامثالها هي امثال ما في هذا الربيع. والفرق هو اعتباري فحسب، ففهمت أن هذا الفرق الاعتباري ايضاً انما هو لإضفاء معاني متعددة ومختلفة على كلمات الحكمة هذه، وعبارات الرحمة
الشعاع الرابع - ص: 81
وحروف القدرة الإلهية هذه. وهذا الفهم دفعني الى ان أردد: ما شاء الله.. بارك الله.. بدلاً من ان تذهب نفسي حسراتٍ على زوال تلك الازاهير.
ولقد شعرت من بعيد بشعور الايمان ببديع السموات والارض وبرابطة الانتساب اليه كم يكون الانسان - لو كان ذا شعور - فخوراً ومكرّماً ، بأنه اثرٌ من آثار ذلك الخالق القدير وانه مصنوع مَن زيّن السموات بمصابيح النجوم وجمّل الارض بالأزاهير وببدائع المخلوقات واظهر مئات المعجزات في كل ما أبدعته قدرته. وكم يكون الانسان مناط قيمة عظيمة وكرامة فائقة بالايمان به والانتساب اليه والشعور به لاسيما اذا ما كتب - ذلك الصانع المعجز المطلق - كتاب السموات والارض، ذلك الكتاب الضخم في نسخة مصغرة وهي الانسان، واذا ما جعل هذا الانسان منتخباً وخلاصة كاملة لذلك الكتاب فانه سيملك ذلك الشرف والكمال والقيمة العالية بالايمان وبالشعور والانتساب.
ولما كنت قد تعلمت هذا الدرس من الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فقد تلوتها وانا احمل نية وتصوراً انني اتلوها بلسان الموجودات كلها.

المرتبة النورية الحسبية الخامسة
لقد تصدّعت حياتي حيناً تحت اعباء ثقيلة جداً، حتى لفتت نظري الى العمر، والى الحياة فرأيت أن عمري يجري حثيثاً الى الآخرة.. وان حياتي التي قربت الى الانتهاء قد توجهت نحو الانطفاء تحت المضايقات العديدة، ولكن الوظائف المهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدها الثمينة المذكورة في الرسالة التي تبحث عن اسم "الحي" لاتليق بهذا الانطفاء السريع، بل تليق بحياة طويلة، مديدة، ففكرت في هذا بكل ألم وأسى، وراجعت استاذي الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فقالت لي: انظر الى الحياة كما يريدها "الحي القيوم" الذي وهب لك الحياة فنظرت اليها بهذا المنظار وشاهدت أنه ان كان للحياة وجه واحد متوجه اليّ انا فان لها مائة وجه متوجه الى "الحي المحيي" وان كانت لها نتيجة واحدة تعود اليّ انا، فان لها الفاً من النتائج تعود الى خالقي؛ لذا فان لحظة واحدة من الحياة، او آناً من الوقت ضمن هذه الجهة كافٍ جداً، فلا حاجة الى زمان طويل.
الشعاع الرابع - ص: 82
ولما كانت هذه الحقيقة قد وضحت بالبراهين في اجزاء رسائل النور، نبيّن خلاصة مختصرة لها في اربع مسائل.
المسألة الاولى:
نظرت الى الحياة من حيث توجّه ماهيتها وحقيقتها الى "الحي القيوم" فرأيت وعلمت:
ان ماهية حياتي هي مخزن مفاتيح كنوز الاسماء الإلهية.. وخريطة مصغرة لنقوشها البديعة.. وفهرس تجلياتها.. ومقياس دقيق وميزان حساس لوزن حقائق الكون الكبرى.. وكلمة حكيمة مكتوبة تَعرف وتُعّرف وتَفهم وتُفهّم الاسماء الجليلة القيمة للحي القيوم. فحقيقة الحياة بهذا النمط تكسب الوفاً من مراتب القيمة والمكانة، بل يجد دوامها ساعة من الزمان اهمية عمر مديد. لذا لاينظر الى طولها وقصرها من حيث علاقتها بالذات الجليلة المنزّهة عن الزمان.
المسألة الثانية:
نظرت الى حقوق الحياة الحقيقية فرأيت:
ان حياتي رسالة ربانية تستقرئ نفسها لأخوتي المخلوقات من ذوات الشعور، وهي موضع مطالعة يعّّرف الخالق الكريم. وهي لوحة اعلان تعلن كمالات خالقي.. وفهمت أن من حقوقها التزّين بشعور تام بما أنعم عليها خالق الحياة - بالحياة - من هدايا قيّمة وخِلعاً نفيسة لعرضها امام نظر السلطان الجليل في العرض اليومي المكرر عرضاً مكللاً بالايمان والشعور والشكر والامتنان.
وكذا من حقوقها ادراك تحيات ذوي الحياة غير المحدودين الذين يصفون بها خالقهم، وفهم هدايا تسبيحاتهم التي يقدّمونها شكراً وحمداً لله، ومشاهدتها والاعلان عنها بالشهادة عليها.
وكذا من حقوقها اظهار محاسن ربوبية "الحي القيوم" بلسان الحال والمقال والعبودية له.. وهكذا فلا تتطلب امثال هذه الحقوق الرفيعة للحياة مدة مديدة، فضلاً عن انها ترفع من قيمة الحياة ودرجتها ألف مرة وهي أعلى وأسمى وافضل بمائة مرة من حقوق دنيوية للحياة.
الشعاع الرابع - ص: 83
واذ علمت هذا علم اليقين قلت: سبحان الله، ما اعظم الايمان! وما اكثره حيوية، ما دخل في شئ الاّ نفخ فيه الحياة، بل ان شعلة منه تحول مثل هذه الحياة الفانية الى حياة باقية دائمة وتزيل ختم الفناء المضروب عليها.
المسألة الثالثة:
نظرت الى الفوائد المعنوية والوظائف الفطرية لحياتي المتوجهة الى خالقي الكريم. فرأيت: أن حياتي تؤدي وظيفة المرآة لخالق الحياة بثلاثة وجوه:
الوجه الاول: ان حياتي بضعفها وعجزها وفقرها واحتياجها، تؤدي مهمة مرآة عاكسة لقدرة خالق الحياة وقوته وغناه ورحمته. اذ كما تُعلم درجات لذة الطعام بمقدار الجوع، وتُعلم مراتب الضوء بمراتب الظلام، وتُعلم درجات الحرارة بمقياس البرودة. كذلك عرفتُ بالعجز والفقر غير المحدودين الكامنين في حياتي القدرة المطلقة لخالقي ورحمته الواسعة من حيث ازالة حاجاتي التي لاتنتهي ودفع اعدائي الذين لايعدون،. فعلمت وظيفة العبودية وتزودت بالسؤال والدعاء والالتجاء والتذلل.
الوجه الثاني: هو قيام معاني العلم والارادة والسمع والبصر وامثالها من الاوصاف الجزئية في حياتي، قيامها بوظيفة مرآة عاكسة لصفات كلية محيطة وشؤون جليلة لخالقي الكريم.
نعم ! لقد علمت بجزئيات صفات كالعلم والسمع والبصر والكلام والارادة التي تتصف بها حياتي الخاصة وافعالي التي اؤديها بشعور، علمت بها - بنسبة صغري الى عظم الكون - الصفات الكلية المحيطة لخالقي مِن علم وارادة وسمع وبصر وحياة وقدرة وفهمت بها كذلك شؤونه الجليلة امثال المحبة والغضب والرأفة والشفقة فآمنت بتلك الصفات والشؤون الجليلة وصدّقت بها وشهدت عليها ووجدت منها طريقاً آخر الى معرفة الله.
الوجه الثالث: هو قيام حياتي بوظيفة المرآة للاسماء الإلهية التي تتجلى عليها نقوشها.
نعم! كلما نظرت الى حياتي والى جسمي لمست مئات الانماط من آثار المعجزات والنقوش والابداع فضلاً عن مشاهدتي بأني أُربّى تربية في منتهى الشفقة والرحمة
الشعاع الرابع - ص: 84
فعرفت بنور الايمان ان الذي خلقني ويديم حياتي هو في منتهى السخاء والرحمة واللطف وفي غاية القدرة والابداع. وعرفت ماذا يعني التسبيح والتقديس والحمد والشكر والتكبير والتعظيم والتوحيد والتهليل وامثالها من وظائف الفطرة وغاية الخلقة ونتائج الحياة.
فعلمت بعلم اليقين سبب كون الحياة ارقى مخلوق في الكون، وسرّ كون كل شئ مسخراً للحياة، وحكمة وجود شوق فطري لدى الجميع نحو الحياة، وأن روح الحياة انما هو الايمان.
المسألة الرابعة:
ترى ما اللذة الحقيقية لحياتي الدنيوية هذه، وماسعادتها؟ راجعت الآية الكريمة ايضاً (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) لأجد الجواب؛ فرأيت وفهمت منها:
ان اصفى لذة وانقى سعادة لحياتي هذه، انما هو في الايمان. اي: الايمان الجازم بأني مخلوق من خلقني ورباني، فأنا مصنوعه وعبده وتحت رعايته وعنايته ومحتاج اليه كل حين، وهو ربي وإلهي وهو الرحيم والرؤوف بي.
فايماني هذا لذة مابعدها لذة، لذةٌ كافية وافية دائمة وسعادة خالصة نقية لايعكرها ألم.ففهمت من تلك الآية الكريمةكم يكون اذن عبارة "الحمد لله على نعمة الايمان" عبارة جديرة ولائقة.
وهكذا وضحت هذه المسائل الاربع التي تخص حقيقة الحياة وحقوقها ووظائفها ولذتها المعنوية :
ان الحياة كلما توجهت الى "الحي القيوم الباقي" وكان الايمان حياةً وروحاً ممّداً لها، اكتسبت البقاء، بل اعطت ثماراً باقية، بل رقت وعلت الى درجة الحظوة بتجلي السرمدية. وعندها لايُنظر الى قصر العمر وطوله.
نعم هكذا فهمت من الآية الكريمة، وتلقيت درسي منها وتلوت (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) نية وتصوراً وخيالاً باسم جميع انواع الحياة وذوي الحياة.
الشعاع الرابع - ص: 85
المرتبة النورية الحسبية السادسة
من خلال الشيب الذي يذكّر بفراقي الخاص، ومن خلال تلك الفراقات العامة الشاملة التي تنبئ عن حوادث قيام الساعة ودمار الدنيا، ومن خلال الانكشاف الواسع فوق العادة في اوآخر عمري لأحاسيس الجمال والعشق له والافتتان بالكمالات المغروزة في فطرتي.. من خلال كل هذا:
رأيت ان الزوال والفناء اللذين يدمران دائماً، وان الموت والعدم اللذين يفرّقان باستمرار، رأيتهما يفسدان بشكل مرعب ومخيف، جمال هذه الدنيا الرائعة الجمال ويشوهانه بتحطيمهما لها، ويُتلفان لطافة هذه المخلوقات.. فتألمّت من اعماقي بالغ التألم لما رأيت. ففار ما في فطرتي من عشق مجازي فوراناً شديداً وبدأ يتاجج بالرفض والعصيان امام هذه الحالة المفجعة، فلم يك لي منها بد الاّ مراجعة الآية الكريمة ايضاً لأجد المتنفس والسلوان، فقالت: "إقرأني جيداً، أنعم النظر في معانيَّ" وأنا بدوري دخلت الى مركز الارصاد لسورة النور لآية (الله نور السموات والارض....) فنظرت من هناك "بمنظار" الايمان الى أبعد طبقات الآية الحسبية، وفي الوقت نفسه نظرت "بمجهر" الشعور الايماني الى أدق اسرارها... فرأيت انه مثلما تُظهر المرايا والزجاج والمواد الشفافة وحتى زبد البحر وحبابه الجمال المخفي المتنوع لضوء الشمس، ومختلف جمال الألوان السبعة لضوئها، وبتجددها وبتحركها وقابليتها المختلفة وانكساراتها المتنوعة تجدد الجمال المتستر للشمس ولضوئها ولألوانها السبعة، فكذلك الامر في هذه المصنوعات الجميلة وهذه المخلوقات اللطيفة والموجودات الجميلة لاتلبث أن تذهب دون توقف لتقوم مقام مرايا عاكسة للجميل ذي الجلال الذي هو "نور الأزل والابد" مجدّدة بذلك تجليات جماله المقدس وتجليات الجمال السرمدي لأسمائه الحسنى جل وعلا. فالجمال الظاهر في هذه المخلوقات والحسن البارز فيها اذن ليس هو ملك ذاتها، وانما هو اشارات الى ذلك الجمال المقدس السرمدي الذي يريد الظهور، وعلامات ولمعات لذلك الحسن المجرد الدائم التجلي والجمال المنزّه الذي يريد المشاهدة والاشهاد. وقد وضحّت هذا مفصلاً في "رسائل النور" بدلائله القاطعة وببراهينه الدامغة لذا سنشير هنا الى ثلاثة براهين منها فقط اشارة قصيرة.
الشعاع الرابع - ص: 86
البرهان الاول:
ان جمال اثر مصنوع يدل دلالة قاطعة على جمال صُنعه، وان جمال الصنع واتقانه هذا يدل على جمال عنوان صانعه الناشئ من تلك الصنعة، وان جمال عنوان الصانع المتقن يدل على جمال صفة ذلك الصانع التي تعود الى تلك الصنعة، وان جمال صفته هذه يدل على جمال قابليته واستعداده، وان جمال قابليته يدل على جمال ذاته وجمال حقيقته.
فكما ان هذه الدلالات قاطعة وبدهية، كذلك الحسن والجمال الظاهر في المخلوقات الجميلة، في هذا العالم كله، والصنع البديع المشاهد في المصنوعات الجميلة كلها يشهد شهادة قاطعة على حسن أفعال الصانع الجليل وجمالها. وان الحسن في افعاله - تعالى - وجمالها يدل بلا ريب على حسن العناوين المشرفة على تلك الافعال وجمالها، اي على حسن الاسماء وجمالها. وان حسن الاسماء وجمالها يشهد شهادة قاطعة على حسن الصفات المقدسة وجمالها، التي هي منشأ تلك الاسماء. وان حسن الصفات وجمالها يشهد شهادة قاطعة على حسن الشؤون الذاتية وجمالها، التي هي مبدأ تلك الصفات. وان حسن الشؤون الذاتية وجمالها يدل بالبداهة ويشهد شهادة قاطعة على حسن "الذات" وجماله، الذي هو الفاعل والمسمّى والموصوف، ويدل على الكمال المقدس لماهيته والجمال المنزّه لحقيقته. بمعنى ان للصانع الجميل جمالاً وحُسناً لاحدّ له يليق بذاته المقدسة، بحيث أن ظلاً من ظلاله قد جمّل هذه الموجودات كلها. وأن له سبحانه جمالاً منزّهاً مقدساً بحيث أن جلوة من جلواته قد أضفت الجمال على الكون كله، ونورت دائرة الممكنات كلها بلمعات حسن وجمال وزينتها بأبهى زينة.
نعم، ان الاثر المصنوع كما لايمكن أن يكون بلا فعل، فالفعل كذلك لايمكن أن يكون بلا فاعل، وكما أنه محال أن تكون اسماء بلا مسميات كذلك محال أن تكون الصفات بلا موصوف.
فما دام وجود مصنوع ٍ واثر ٍ يدل بالبداهة على فعلِ فاعل ذلك الاثر، وان وجود ذلك الفعل يدل على وجود فاعله وعلى عنوانه وعلى صفاته التي انتجت ذلك الاثر
الشعاع الرابع - ص: 87
وعلى اسمه، فلاشك ان كمال اثرٍ ما وجماله ايضاً، يدل على كمال الفعل وجماله الخاصّين به، وهذا يدل على جمال الاسم الذي يليق به، وهذا يدل على كمال الذات والحقيقة وجمالها بما يليق ويوافق الذات والحقيقة دلالة قاطعة بعلم اليقين وبالبداهة.
وكذلك الامر في الفعالية الدائمة التي تستشف من خلال حجب هذه الآثار البديعة،فكما انها محال أن تكون بلا فاعل،كذلك جلوات الاسماء التي تشاهد نقوشها على هذه المصنوعات محال أن تكون بلا مسمّى، وكذا القدرة والارادة وأمثالها من الصفات الجليلة التي تُحس احساساً قاطعاً كانك تراها محال أن تكون بلا موصوف.
لذا فان جميع الاثار والمخلوقات والمصنوعات في هذا الكون كله تدل بوجودها غير المحدود دلالة قاطعة على وجود افعال خالقها وصانعها وفاعلها وعلى وجود اسمائه وعلى وجود اوصافه وعلى وجود شؤونه الذاتية وعلى وجوب وجود ذاته المقدسة جل جلاله.
كذلك فان مايشاهد على جميع المصنوعات من انواع الكمال المتنوعة واضراب الجمال المختلفة والوان الحسن المتغايرة يدل دلالة في غاية القطعية ويشهد شهادة في منتهى الصراحة على كمالات لاحد لها ومحاسن لانهاية لها في افعال الصانع الجليل وفي أسمائه وفي صفاته وفي شؤونه وفي ذاته المقدسة، بما يلائم ويوافق قدسيته ووجوبه وتعاليه ويدل كذلك على جمال متنوع عال سام هو أرفع من الكون طراً.

البرهان الثاني: فيه خمس نقط:
النقطة الاولى:
ان أئمة اهل الحقيقة كلهم - مع الاختلاف في مشاربهم والبعد في مسالكهم - يعتقدون مستندين الى الذوق والكشف ويقررون بالاجماع والاتفاق: ان الحسن والجمال الموجود في الموجودات كلها انما هو ظل جمالٍ مقدس لواجب الوجود وحسنه المنزّه، وانما هو لمعاته وجلواته من وراء حجب واستار.
الشعاع الرابع - ص: 88
النقطة الثانية:
ان جميع المخلوقات الجميلة تأتي الى هذا العالم قافلة اثر اخرى ثم تغادره وتغيب في افق الفناء، ولكن الجمال السامي المنزّه عن التبدل، والذي يظهر نفسه بتجليه على تلك المرايا يبقى ويدوم، مما يدل دلالة قاطعة على أن ذلك الجمال ليس ملك تلك الجميلات ولاجمال تلك المرايا، بل هو أشعة جمال سرمدي، كما يدل دوام جمال اشعة الشمس على حباب الماء الجاري على جمالها الدائم.
النقطة الثالثة:
ان مجئ النور من النوراني، والوجود من الموجود، والاحسان من الغنى، والسخاء من الثروة، والتعليم من العلم امور بدهية، كذلك من البدهي ان منح الحسن ايضاً هو من الحسن واضفاء الجمال لايكون الاّ من الجميل.
فبناء على هذه الحقيقة نعتقد ونقول:
ان جميع انواع الجمال المشاهدة على الكائنات كلها، تأتي من جميل لامنتهى لجماله بحيث أن هذه الكائنات المتبدلة دوماً والمتجددة باستمرار تصف جمال ذلك الجميل وتعرّفه، بجميع موجوداتها وبألسنة ادائها لوظيفة مرآة عاكسة لذلك ـ.
النقطة الرابعة:
كما أن الجسد يستند الى الروح ويقوم بها وتُبعث فيه الحياة بها، واللفظ يتنور على وفق المعنى، والصورة تستند الى حقيقة وتتزود منها قيمتها. كذلك هذا العالم، عالم الشهادة المادي الجسماني انما هو جسد، ولفظ، وصورة، يستند الى الاسماء الإلهية المحتجبة وراء ستار عالم الغيب، فهو يحيا بتلك الاسماء التي تبعث فيه الحيوية، ويتوجه اليها، فيزداد جمالاً وبهاءً.
فجميع انواع الجمال المادي نابع من جمال معنوي لمعانيها، ومن حسن معنوي لحقائقها. أما حقائقها فتستفيض من الاسماء الإلهية، وهي نوع من ظلال تلك الاسماء.
هذه الحقيقة اثبتت في رسائل النور اثباتاً قاطعاً.
الشعاع الرابع - ص: 89
بمعنى أن جميع انواع الجمال الموجود في هذا الكون وجميع انماطه وألوانه، انما هو تجليات واشارات وامارات جمال مقدس عن القصور ومجرّد عن المادة تتجلى من وراء عالم الغيب بوساطة اسماء . ولكن كما ان الذات الإلهية المقدسة لاتشبه ابداً اية ذات اخرى، وان صفاته تعالى جليلة منزّهة كلياً عن صفات الممكنات.كذلك جماله المقدس ايضاً لايشبه جمال الممكنات وليس كحسن المخلوقات قطعاً. بل هو جمال سام عال رفيع منزّه مقدس مطلق.
نعم! ان كانت الجنة الباهرة، الرائعة مع جميع مظاهر حسنها وروعتها هي تجلٍ من تجليات جماله سبحانه وان رؤية اهل الجنة جماله تعالى لساعة من زمان يُنسيهم حتى تلك الجنة الجميلة، فلاشك ان هذا الجمال السرمدي لانهاية له، ولاشبيه له، ولانظير له، ولامثيل له قطعاً.
ومن المعلوم أن حُسن كل شئ يلائمه ويكون على وفقه، وانه يوجد بالوف الانماط من الجمال والالوان فيختلف بعضها عن بعض، كاختلاف الانواع في المخلوقات.
فمثلاً: الجمال الذي يحسّ بالعين لايشبه حتماً حسناً تحسه الاذن، وان حسناً عقلياً يدرك بالعقل لايشبه حسن الطعام الذي يحس بالفم ويتذوقه، كذلك الجمال الذي يستحسنه ويشعر به القلب والروح وسائر الحواس الظاهرة والباطنة، هذا الجمال مختلف كذلك كأختلاف تلك اللطائف والحواس.
ومثلاً: جمال الايمان وجمال الحقيقة وحُسن النور وحُسن الزهرة، وجمال الروح وجمال الصورة وجمال الشفقة وجمال العدالة وحسن الرحمة وحسن الحكمة.. كل نوع من انواع هذا الجمال مختلف عن الآخر. كذلك جمال الاسماء الحسنى لجميل ذي جلال، هذا الجمال الذي هو جمال مطلق يختلف بعضه عن بعض، لذلك اختلفت انواع الحسن والجمال في الموجودات لأجله.
فان شئت ان تشاهد جلوة من انواع حسن اسماء الجميل ذي الجلال المتجلية على مرايا الموجودات، فانظر بعين خيالية واسعة الى سطح الارض لتراه كحديقة صغيرة امامك واعلم ان الرحمانية والرحيمية والحكيمية والعادلية وامثالها من التعابير، انما هي اشارات الى اسماء الله تعالى والى افعاله والى صفاته والى شؤونه الجليلة.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الرابع


الشعاع الرابع - ص: 90
فانظر الى أرزاق الاحياء - وفي مقدمتها الانسان - انها ترسل بانتظام بديع من وراء ستار الغيب.. فشاهد جمال الرحمانية الإلهية.
وانظر الى اعاشة الصغار جميعها، اعاشة خارقة، يسيل لها كالسلسبيل الطاهر ألذ غذاء واصفاه من اثداء امهاتها المتدلية فوق رؤوسها.. فشاهد الجمال الجاذب، جمال الرحيمية الربانية.
وانظر الى الكائنات كلها بانواعها جميعها كيف جعلتها الحكمة الإلهية ككتاب كبير، كتاب حكمة بليغة بحيث ان في كل حرف منه مائة كلمة، وفي كل كلمة مئات الأسطر وفي كل سطر الف باب وباب وفي كل باب الوف الكتب الصغيرة.. فشاهد الجمال بلا نظير، جمال الحكيمية الإلهية.
وانظر الى الكون اجمع، لقد ضم العدل الإلهي جميع موجوداته تحت جناح ميزانه ويديم موازنة الاجرام العلوية والسفلية، ويعطيها التناسب والتلاؤم الذي هو أهم اساس للجمال، ويجعل كل شئ في افضل وضع واجمله، ويعطي كل ذي حياة حق الحياة، فيحق الحق ويحدّ من تجاوز المعتدين ويعاقبهم.. فشاهد الجمال الباهر جمال هذه العادلية الإلهية.
وانظر الى الانسان، لقد كتب الحفيظ تأريخ حياته السابقة في قوة حافظته وذاكرته التي لاتتجاوز حبة حنطة، وادرج تاريخ الحياة التالية لكل نبات وشجر في بذيراته ونوياته واعطى كل ذي حياة ما يعينه على حفظ حياته من آلات واجهزة فانظر مثلاً: الى جناح النحل وابرة لسعها، والى رماح الازهار المشوكة الدقيقة، والى القشور الصلبة للبذور. فشاهد الجمال اللطيف، جمال الحافظية في جمال الحفيظية الربانية.
وانظر الى مضايف الرحمن الرحيم الكريم المنصوبة على سفرة الارض كلها.
وانظر الى مافي هذه الاطعمة غير المحدودة من روائح طيبة متنوعة، والوان جميلة متباينة ومذاقات لذيذة مختلفة، ثم أنعم النظر في اجهزة كل ذي حياة كيف أنها تتلائم مع اذواق حياته ولذائذها.. فشاهد الجمال الحلو الذي لا جمال فوقه جمال الاكرام، والكريمية الربانية.
وانظر الى صور الحيوانات ولاسيما الانسان، تلك الصور البديعة الحكيمة، التي تتفتح من نطف جميع الحيوانات بتجليات إسمَي "الفتاح والمصوّر" وتأمل في الوجوه
الشعاع الرابع - ص: 91
الملاح لازاهير الربيع وهي في غاية الجاذبة المتفتحة من بذيرات متناهية في الصغر.. فشاهد الجمال المعجز، جمال الفتاحية والمصورية الإلهية.
وهكذا على غرار هذه الامثلة المذكورة؛ فإن لكل اسم من الاسماء الحسنى جمالاً خاصاً به، جمالاً مقدساً منزّهاً، بحيث أن جلوة من جلواته تجمّل عالماً ضخماً بكامله، وتلقي الحسن والبهاء على نوع لايحد.
فكما تشاهد تجلي جمال اسمٍ من الاسماء في زهرة واحدة، فالربيع كذلك زهرة والجنة كذلك زهرة لايراها النظر.
فان كنت تستطيع أن تنظر الى الربيع، كل الربيع، وترى الجنة بعين الايمان، فانظر وشاهد لتدرك مدى عظمة الجمال السرمدي.
فان قابلت ذلك الجمال الباهر بجمال الايمان وبجمال العبودية تكن أحسن مخلوق وفي احسن تقويم ولكن ان قابلت ذلك الجمال بقبح الضلالة غير المحدود، وقبح العصيان البغيض، تكن اقبح مخلوق واردأه، وابغض مخلوق معنىً لدى جميع الموجودات الجميلة.
النقطة الخامسة:
ان شخصاً عظيماً يملك مئات المهارات والابداعات والمزايا والكمالات والمحاسن، قد بنى قصراً فخماً خارقاً، ليعرّف ويبين به مهاراته وابداعاته وصنعته المتقنة وكمالاته وجماله المخفي، وذلك حسب قاعدة: ان كل مهارة تطلب الاعلان عن نفسها، وكل صنعة جميلة متقنة تريد أن تدفع الآخرين الى تقديرها، وكل كمال ومزية يحاول إظهار نفسه، وكل جمال وحسن يريد ان يبين نفسه.
هذا وان كل مَن يشاهد هذا القصر المنيف الملئ بالمعجزات والخوارق لاشك ينتقل فكره مباشرة الى حذاقة بانيه ومهارته، وابداع مالكه واتقانه، وجمال صاحبه وكمالاته ومزاياه، حتى يقوده هذا التأمل الى التصديق بتلك الفضائل والمزايا والايمان بها كأنه يشاهدها بعينه؛ اذ يقول: "ان مَن لم يكن جميلاً بنواحيه وجوانبه كافة، ومبدعاً في اموره وشؤونه كافة، لايمكن أن يكون مصدر هذا القصر البديع في كل جهة من جهاته ولايمكن أن يكون موجده وبانيه ومخترعه - أي من غير تقليد - بل إن
الشعاع الرابع - ص: 92
محاسن ذلك الباني المعنوية وكمالاته كأنها قد تجسمت بهذا القصر.. هكذا يقول وهكذا يقضي ويقرر".
والامر كذلك فيمن ينظر الى جمال هذا العالم المسمى بالكون، هذا المعرض البديع والقصر الباذخ والمخلوقات العجيبة، اذ لاشك ان فكره ينتقل مباشرة الى ان هذا القصر الذي تزيّن بهذا الجمال الرائع انما هو مرآة عاكسة لإظهار محاسن غيره وجماله وكماله، مالم يختل عقله ويفسد قلبه.
نعم، مادام هذا القصر، قصر العالم ليس له مثيل يشبهه، كي يُقتبس الجمال منه وتُقلّد المحاسن منه، فلاشك أن صانعه وبانيه له من المحاسن والجمال مايليق به في ذاته وفي اسمائه، بحيث يقتبس العالم الجمال منه. ولأجل ذلك بني هذا العالم على وفق انوار ذلك الجمال، وكُتب كالكتاب المتقن البديع ليعبّر عن ذلك الجمال.

البرهان الثالث: له ثلاث نكات:
النكتة الاولى:
وهي الحقيقة المذكورة في "الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين" والتي جاءت فيه بتفصيل جميل للغاية مع حجج قوية دامغة. نحيل تفاصيلها الى تلك الرسالة مشيرين هنا اشارات مختصرة اليها على النحو الآتي:
اننا ننظر الى هذه المصنوعات ولاسيما الحيوانات والنباتات الماثلة امامنا، فنرى ان تزييناً دائماً وتجميلاً لطيفاً وتنظيماً دقيقاً - لايمكن احالته على المصادفة - يهيمن عليها، مما يبيّن القصد والارادة ويُشعر بالعلم والحكمة.
ويشاهد كذلك ان في كل شئ صنعة متقنة وحكمة دقيقة وزينة رفيعة وترتيباً ذا شفقة ووضعاً حلواً، لاستجلاب الاعجاب الى الصنعة، ولفت الانظار اليها، وارضاء المشاهدين. مما يفهم بداهة ان وراء حجاب الغيب صانعاً بديعاً يريد أن يعرّف نفسه الى ذوي الشعور، ويحبّب نفسه اليهم ويسوقهم الى الثناء عليه بابراز كثير من ابداعاته وكمالاته في كل صنعة من مصنوعاته.
الشعاع الرابع - ص: 93
وكذا يشاهد أنه سبحانه يُحسن اليهم بأنواع من النعم الطيبة اللذيذة، يحسنها اليهم من حيث لم يحتسبوا - مما لايمكن حمله على المصادفة - ليجعل اولئك الشاعرين في امتنان ورضى عنه واودّاء له.
وكذا يشاهد، معاملة معرفة حميمة معنوية، مكللة بالكرم، ويسمع مكالمة ومخاطبة بلسان الحال ينم عن الود والمحبة، واستجابة وقبول للادعية، استجابة تتسم بالرحمة.. مما يشعر شفقة عميقة جداً ورحمة رفيعة جداً.
بمعنى أن ما يشاهد من الاكرام بالانعام واذاقة اللذة، وراء التعريف والتودد الظاهرين ظهور الشمس، انما ينبعان من ارادة شفقة في منتهى الاصالة والرسوخ، ومن رغبة في الرحمة في منتهى القوة والسعة.
فوجود مثل هذه الارادة القوية الاصيلة في الشفقة والرحمة في مَن هو مستغنٍ مطلق، اي لاحاجة له الى اي شئ كان ابداً، دليل على أنه يملك جمالاً سرمدياً في منتهى الكمال، وحسناً ازلياً لايزول ابداً، وجمالاً لامثيل له على الاطلاق ولاشبيه، هذا الجمال السرمدي الخالد، من مقتضى ماهيته انه يريد الشهود والاشهاد في المرايا، ومن شأن حقيقته أنه يريد الظهور والبروز حتى اتخذ صورة الرحمة والشفقة، لأجل اراءة نفسه ورؤيته في المرايا المختلفة، واتخذ صورة الانعام والاحسان في المرايا ذات المشاعر،ثم تقلّد وضع التحبب والتودّد والتعرف، ثم اعطى النور، نور التجميل، وضياء التزيين الى الكائنات طراً.
ان وجود عشق إلهي شديد ومحبة ربانية قوية لدى مَن لايحصيهم العد من بنى الانسان ولاسيما في طبقته العليا، على الرغم من اختلاف مسالكهم، يشير - بالبداهة - الى جمال لامثيل له بل يشهد له شهادة قاطعة.
نعم! ان مثل هذا العشق يصوب نظره الى مثل هذا الجمال ويقتضيه، وان مثل هذه المحبة تتطلب مثل هذا الحسن. بل ان ما في جميع الموجودات من حمد وثناء عام سواءً بلسان الحال او المقال، انما يتوجه الى ذلك الحسن الازلي ويصعد اليه.
بل ان جميع الانجذابات والاشواق والجاذبات والجواذب الموجودة في الكون كله والحقائق الجذابة انما هي اشارات الى حقيقة جاذبة ابدية ازلية وان دوران الاجرام
الشعاع الرابع - ص: 94
العلوية والسفلية وحركاتها التي تؤديها كالمريد المولوي العاشق الذي ينهض للسماع، انما هو مقابلة ذات عشق في اداء الوظيفة تجاه الظهور المهيمن للجمال المقدس لتلك الحقيقة الجاذبة. كما هو لدى بعض العاشقين امثال شمس التبريزي 1.
النكتة الثالثة:
لقد اجمع اهل التحقيق: ان الوجود خير محض ونور، وان العدم شر محض وظلام واتفق ائمة اهل القلب والعقل على ان جميع الخيرات والحسنات والمحاسن واللذائذ- نتيجة التحليل - ناشئة من الوجود، وان جميع المفاسد والشرور والمصائب والآلام - حتى المعاصي - راجعة الى العدم.
ان قلت:
كيف يكون الوجود منبع جميع المحاسن، وفي الوجود كفر وانانية النفس ؟
الجــواب: اما الكفر، فلانه انكار لحقائق الايمان ونفي لها، فهو عدم. واما وجود الانانية فهو عدم، الاّ أنه اصطبغ بصبغة الوجود واتخذ صورته حيث أنه تصوّر الموهوم حقيقةً واقعة، وتمّلك غيرحقيقي وجهل الانانية كونها مرآة ليس الاّ.
فما دام منبع جميع انواع الجمال هو الوجود ومنبع جميع انواع القبائح هو العدم، فلاشك ان أقوى وجود واعلاه وأسطعه وأبعده عن العدم، هو وجود واجبٍ ازلي وابدي. وهو يتطلب اقوى جمالاً واعلاه وأسطعه وأبعده عن القصور، بل يعبّر عن مثل هذا الجمال، بل يكون هذا الجمال، اذ كما تستلزم الشمس الضياء المحيط بها يستلزم الواجب الوجود جمالاً سرمدياً ايضاً، فينور به.
الحمد لله على نعمة الايمان
(ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)
(سبحانك لاعلم لنا الاّ ما علمتنا انك انت العليم الحكيم)
* * *

_____________________
1 هو شمس الدين بن علي بن ملك داد التبريزي، الصوفي، المتخلص بشمس صاحب جلال الدين الرومي، المتوفي سنة 645هـ. له ديوان شعره، فارسي. (هدية العارفين 2/123 وقاموس الاعلام 4/2872). المترجم.

الشعاع الرابع - ص: 95
ملاحظة:
كان المؤمل أن تكتب تسع مراتب من المراتب النورية الحسبية. الاّ أنه أُجلت حالياً ثلاث مراتب منها بناء على بعض الاسباب.


تنبيه:
ان رسائل النور تفسير للقرآن الكريم، تفسير نابع من القرآن مدعم بالبراهين، لذا فان فيها تكرارات ضرورية مُساقة لحكمة ومصلحة كالتكرارات القرآنية اللطيفة، الحكيمة، الضرورية، والتي لاتُسئم القارئ ابداً.
وكذا لأن رسائل النور هي دلائل كلمة التوحيد التي تكرر باستمرار على الألسنة في ذوق وشوق دون سأم، فان تكراراتها الضرورية لاتعدّ نقصاً فيها، ولاتضجر القارئ ولاينبغي لها أن تضجر.
الشعاع الرابع - ص: 96
الباب الخامس
في مراتب (حَسبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ) 1.
وهو خمس نكت..
النكتة الاولى:
فهذا الكلام دواء مجرب لمرض العجز البشري وسقم الفقر الانساني (حَسبُنا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ)؛ اذ هو الموجد الموجود الباقي فلا بأس بزوال الموجودات لدوام الوجود المحبوب ببقاء موجده الواجب الوجود.
وهو الصانع الفاطر الباقي فلاحُزن على زوال المصنوع لبقاء مدار المحبة في صانعه.
وهو المَلكُ المالكُ الباقي فلا تأسّفَ على زوال المُلك المتجدد في زوال وذهاب.
وهو الشاهدُ العالمُ الباقي فلا تحسّر على غيبوبة المحبوبات من الدنيا لبقائها في دائرة علم شاهدها وفي نظره.
وهو الصاحب الفاطرُ الباقي فلا كدر على زوال المستحسنات لدوام منشأ محاسنها في اسماء فاطرها.
وهو الوارثُ الباعثُ الباقي فلا تلهّف على فراق الاحباب لبقاء من يرثهم ويبعثهم.
وهو الجميلُ الجليلُ الباقي فلا تحزّنَ على زوال الجميلات اللاتي هنَّ مرايا للاسماء الجميلات لبقاء الاسماء بجمالها بعد زوال المرايا.
وهو المعبودُ المحبوبُ الباقي فلا تألّم من زوال المحبوبات المجازية لبقاء المحبوب الحقيقي.

_____________________
1 هذا الباب هو الباب الخامس من اللمعة التاسعة والعشرين العربية أدرجه الاستاذ النورسى هنا من دون الهوامش. فمن شاء فليراجعه كاملاً فى اللمعة المذكورة. - المترجم.

الشعاع الرابع - ص: 97
وهو الرحمنُ الرحيمُ الودودُ الرؤوفُ الباقي فلا غمّ ولامأيوسيةَ ولا اهميةَ من زوال المنعِمين المشفقين الظاهرين لبقاء مَن وسعتْ رحمتُه وشفقتهُ كلّ شئ.
وهو الجميلُ اللطيفُ العطوفُ الباقي فلا حُرقة ولاعبرةَ بزوال اللطيفات المشفقات لبقاء مَن يقوم مقام كلها، ولايقوم الكلُّ مقام تجلٍ واحدٍ من تجلياته، فبقاؤه بهذه الاوصاف يقوم مقام كل ما فني وزال من انواع محبوبات كل احدٍ من الدنيا.
(حَسْـبُنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ)
نعم، حسبي من بقاء الدنيا وما فيها بقاءُ مالكها وصانعها وفاطرها.
النكتة الثانية:
حسبي من بقائي أن الله هو إلهيَ الباقي، وخالقيَ الباقي، وموجديَ الباقي، وفاطريَ الباقي، ومالكيَ الباقي، وشاهديَ الباقي، ومعبوديَ الباقي، وباعثيَ الباقي، فلابأس ولا حُزن ولا تأسّفَ ولا تحسر على زوال وجودي لبقاء موجدي، وايجاده باسمائه. ومافي شخصي من صفةٍ إلاّ وهي من شعاع اسمٍ من اسمائه الباقية، فزوالُ تلك الصفة وفناؤها ليس اعداماً لها، لانها موجودةٌ في دائرة العلم وباقيةٌ ومشهودة لخالقها.
وكذا حسبي من البقاء ولذّته علمي واذعاني وشعوري وايماني بأنه إلهي الباقي المتمثل شعاعُ اسمه الباقي في مرآة ماهيتي؛ وما حقيقة ماهيتي الاّ ظلٌ لذلك الاسم. فبسرّ تمثّله في مرآة حقيقتي صارت نفسُ حقيقتي محبوبة ً لا لذاتها بل بسرّ ما فيها وبقاءُ ما تمثل فيها انواعُ بقاءٍ لها.
النكتة الثالثة:
(حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) اذ هو الواجبُ الوجود الذي ما هذه الموجوداتُ السيالاتُ الاّ مظاهرٌ لتجدّد تجليات ايجاده ووجوده، به وبالانتساب اليه وبمعرفته انوارُ الوجود بلاحدٍ، وبدونه ظلماتُ العَدَمات وآلام الفراقات الغير المحدودات.
وما هذه الموجودات السيالة الاّ وهي مرايا، وهي متجددة بتبدل التعينات الاعتبارية في فنائها وزوالها وبقائها بستة وجوه:
الشعاع الرابع - ص: 98
الاول: بقاءُ معانيها الجميلة وهوياتها المثالية.
والثاني: بقاءُ صورها في الالواح المثالية.
والثالث: بقاءُ ثمراتها الأخروية.
والرابع: بقاءُ تسبيحاتها الربانية المتمثلة لها، التي هي نوع وجودٍ لها.
والخامس: بقاؤها في المشاهد العلمية والمناظر السرمدية.
والسادس: بقاءُ ارواحها ان كانت من ذوي الارواح، وما وظيفتها في كيفياتها المتخالفة في موتها وفنائها وزوالها وعدمها وظهورها وانطفائها الاّ اظهار المقتضيات لاسماءٍ إلهية. فمن سرّ هذه الوظيفة صارت الموجودات كسيلٍ في غاية السرعة تتموّج موتاً وحياة ووجوداً وعدماً. ومن هذه الوظيفة تتظاهر الفعالية الدائمة والخلاّقية المستمرة، فلابد لي ولكل احدٍ أن يقول:
(حَسْـبُنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ) يعني حسبي من الوجود انيّ اثر من آثار واجب الوجود. كفاني آن سيال من هذا الوجود المنور المظهر، من ملايين السنة من الوجود المزوّر الأبتر.
نعم بسرّ الانتساب الايماني تقوم دقيقةٌ من الوجود مقامَ اُلوف السنين بلا انتسابٍ ايماني، بل تلك الدقيقة أتم واوسع بمراتب من تلك الالاف سنةً.
وكذا حسبي من الوجود وقيمته أني صنعةُ مَن هو في السماء عظمتُه وفي الارض آياتُه، وخَلقَ السموات والارض في ستة ايام.
وكذا حسبي من الوجود وكماله أني مَصنوعُ مَن زيّنَ ونّورَ السماء بمصابيحَ، وزيّنَ وبهر الارض بازاهير.
وكذا حسبي من الفخر والشرف أني مخلوقٌ ومملوكٌ، وعبدٌ لمن هذه الكائنات بجميع كمالاتها ومحاسنها ظل ضعيفٌ بالنسبة الى كماله وجماله، ومن آيات كماله واشارات جماله.
وكذا حسبي من كل شئ مَن يدخر ما لايعد ولايحصى من نعمه في صنيدقاتٍ لطيفة هي بين (الكاف والنون) فيدّخر بقدرته ملايين القناطير في قبضة واحدة فيها صنيدقات لطيفة تسمى بذوراً ونوىً.
الشعاع الرابع - ص: 99
وكذا حسبي من كل ذي جمال وذي احسان، الجميلُ الرحيمُ الذي ما هذه المصنوعات الجميلات الاّ مرايا متفانية لتجدد انوار جماله بمرّ الفصول والعصور والدهور، وهذه النعم المتواترة والاثمار المتعاقبة في الربيع والصيف مظاهر لتجدد مراتب إنعامه الدائم على مرّ الانام والايام والاعوام.
وكذا حسبي من الحياة وماهيتها أني خريطةٌ وفهرستةٌ وفذلكةٌ وميزانٌ ومقياسٌ لجلواتِ اسماءِ خالقِ الموت والحياة.
وكذا حسبي من الحياة ووظيفتها كوني ككلمةٍ مكتوبةٍ بقلم القدرة، ومُفهمةٍ دالةٍ على اسماء القدير المطلق الحي القيوم بمظهرية حياتي للشؤون الذاتية لفاطري الذي له الاسماء الحسنى.
وكذا حسبي من الحياة وحقوقها اعلاني وتشهيري بين اخواني المخلوقاتِ واعلاني واظهاري لنظر شهود خالق الكائنات بتزيّني بجلواتِ اسماء خالقي الذي زيّنني بمرصّعات حُلَّة وجودي وخِلعة فطرتي وقلادة حياتي المنتظمة التي فيها مزيّنات هدايا رحمته.
وكذا حسبي من حقوق حياتي فهمي لتحيات ذوي الحياة لواهب الحياة وشهودي لها وشهاداتٌ عليها.
وكذا حسبي من حقوق حياتي تبرّجي وتزيني بمرصّعات جواهر إحسانه بشعورٍ ايماني للعرض لنظر شهود سلطاني الازلي.
وكذا حسبي من الحياة ولذّتها علمي واذعاني وشعوري وايماني بأني عبدُه ومصنوعُه ومخلوقُه وفقيرُه ومحتاجٌ اليه، وهو خالقي رحيمٌ بي كريمٌ لطيفٌ مُنعمٌ عليّ يُربيني كما يليق بحكمته ورحمته.
وكذا حسبي من الحياة وقيمتها مقياسيتى بامثال عجزي المطلق وفقري المطلق وضعفي المطلق، لمراتب قدرة القدير المطلق ودرجات رحمة الرحيم المطلق وطبقات قوة القوي المطلق.
وكذا حسبي بمعكسيتى بجزئيات صفاتي من العلم والارادة والقدرة الجزئية لفهم الصفات المحيطة لخالقي. فأفهمُ علمَه المحيط بميزان علمي الجزئي.
الشعاع الرابع - ص: 100
وكذا حسبي من الكمال، علمي بأن إلهي هو الكامل المطلق، فكلُ مافي الكون من الكمال، من ايات كماله اشارات الى كماله.
وكذا حسبي من الكمال في نفسي، الايمان بالله، اذ الايمان للبشر منبعٌ لكل كمالاته.
وكذا حسبي من كل شئ لإنواع حاجاتي المطلوبة بانواع ألسنة جهازاتي المختلفة، إلهي وربي وخالقي ومصوري الذي له الاسماء الحسنى الذي هو يطعمني ويسقيني ويربيني ويدبرني ويكملني جلّ جلاله وعمَّ نواله.
النكتة الرابعة:
حسبي لكل مطالبي مَن فتح صورتي وصورة امثالي من ذوي الحياة في الماء بلطيف صنعه ولطيف قدرته ولطيف حكمته ولطيف ربوبيته.
وكذا حسبي لكل مقاصدي مَن انشأني وشقّ سمعي وبصري، وأدرج في جسمي لساناً وجناناً، واودع فيها وفي جهازاتي موازينَ حساسة لاتعد لوزن مدّخرات انواع خزائن رحمته.
وكذا أدمج في لساني وجناني وفطرتي الآتٍ جساسة لاتحصى لفهم انواع كنوز اسمائه.
وكذا حسبي مَن ادرج في شخصي الصغير الحقير، وادمج في وجودي الضعيف الفقير هذه الاعضاء والالات وهذه الجوارح والجهازات وهذه الحواس والحسيات وهذه اللطائف والمعنويات، لإحساس جميع انواع نعمه ولإذاقة اكثر تجليات اسمائه بجليل الوهيته وجميل رحمته وبكبير ربوبيته وكريم رأفته وبعظيم قدرته ولطيف حكمته.
النكتة الخامسة:
لابدَّ لي ولكل احدٍ ان يقول حالاً وقالاً ومتشكراً ومفتخراً:
حسبي مَن خلقني، واخرجني من ظلمة العدم وأنعمَ عليّ بنور الوجود.
وكذا حسبي مَن جعلني حياً فأنعم عليّ نعمة الحياة التي تعطي لصاحبها كل شئ وتُمد يَد صاحبها الى كل شئ.
الشعاع الرابع - ص: 101
وكذا حسبي مَن جعلني انساناً فأنعم عليّ بنعمة الانسانية التي صيّرت الانسان عالماً.
وكذا حسبي مَن جعلني مؤمناً فأنعم عليّ نعمةَ الايمان الذي يصيرُ الدنيا والآخرة كسُفرتين مملوءتين من النعم يقدّمهما الى المؤمن بيد الايمان.
وكذا حسبي مَن جعلني من امة حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام، فأنعم عليّ بما في الايمان من المحبة والمحبوبية الإلهية، التي هي من أعلى مراتب الكمالات البشرية، وبتلك المحبة الايمانية تمتد ايادي استفادة المؤمن الى ما لايتناهى من مشتملات دائرة الامكان والوجوب.
وكذا حسبي مَن فضّلني جنساً ونوعاً وديناً وايماناً على كثير من مخلوقاته، فلم يجعلني جامداً ولاحيواناً ولاضالاً، فله الحمد وله الشكر.
وكذا حسبي مَن جعلني مظهراً جامعاً لتجليات اسمائه وانعم عليّ بنعمة لاتسعها الكائنات بسرّ حديث: (لايسعني ارضي ولاسمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن) 1 يعني ان الماهية الانسانية مظهر لجميع تجليات الاسماء المتجلية في جميع الكائنات.
وكذا حسبي مَن اشترى ملكَه الذي عندي مني، ليحفظه لي ثم يُعيده اليّ، واعطانا ثمنَه الجنةَ، فله الشكر وله الحمد بعدد ضرب ذرات وجودي في ذرات الكائنات.
حسبي ربي جلّ الله نور محمد صلى الله
لا إله الاّ الله
حسبي ربي جلّ الله سـرّ قلبـــي ذكــر الله
ذكرُ احمد صلى الله
لا إله الاّ الله

_____________________
1 الحديث (ما وسعني سمائي ولا ارضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). ذكره في الاحياء بلفظ مقارب. قال العراقي في تخريجه: لم ار له أصلاً (كشف الخفاء للعجلوني 2/195 باختصار). وقال السيوطي في الدرر المنتثرة: قلت اخرج الامام احمد في الزهد عن وهب بن منبه: ان اللهفتح السموات لحزقيل حتى نظر الى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما اعظمك يارب! فقال الله : ان السموات والارض ضعفن ان يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين» اهـ . قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلاً منهما كفر، وصالحو الصوفية اعرف الناس بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وانما يريدون بذلك ان قلب المؤمن يسع الايمان بالله ومحبته ومعرفته. ا هـ . - المترجم.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشعاعات - الشعاع الرابع عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 21 04-06-2011 04:02 PM
الشعاعات - الشعاع التاسع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 03:15 PM
الشعاعات - الشعاع السابع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 8 04-06-2011 03:13 PM
الشعاعات - الشعاع السادس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:55 PM
الشعاعات - الشعاع الخامس عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 02:51 PM


الساعة الآن 11:10 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir