أنت غير مسجل في منتديات البوحسن . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد،يُحيي ويُميت،وهو حي لا يموت،بيده الخير وهو على كل شئ قدير           

رسائل ووصايا في التزكية كلّ ما يختص بعلوم السلوك وآداب القوم وتزكية النفس والتصوف الإسلامي

إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 133

الشعاع السابع
الآيــة الكـبـرى
تنبيه مهم وايضاح
على الرغم من أهمية هذه الرسالة وعظيم شأنها، لايفهم كل شخص، كل مسألة من مسائلها. ولكن لايبقى دون حظ منها، فالذي يدخل بستاناً عظيماً، ولاتصل يده الى جميع ثماره؛ فحسبه ما ناله منها، اذ البستان لم يخصص له وحده، بل لذوي الايدي الطويلة حصتهم وحظهم كذلك.
وهناك خمسة اسباب تعيق فهم هذه الرسالة:
اولها: أنني كتبت مشاهداتي كما تراءت لي وفق فهمي، كتبتها لنفسي، فهي لم تكتب شأن الرسائل الاخرى بمستوى فهم الآخرين ومدى تلقيهم.
ثانيها: أن التوحيد الحقيقي قد كُتب في صورته العظمى، بفيض تجلي "الاسم الاعظم"، فأصبحت مسائله واسعة جداً، وعميقة جداً، وطويلة جداً؛ لذا لا يتمكن كل شخص أن يحيط بها مباشرة ولأول وهلة.
ثالثها: أن كل مسألة من مسائلها بحد ذاتها حقيقة كبرى طويلة - وحفاظاً على وحدة الحقيقة وعدم تجزئتها - قد تصبح الصحيفة الواحدة جملة مطولة واحدة، فهناك مقدمات كثيرة تورد بمثابة دليل واحد فقط.
الشعاع السابع - ص: 134
رابعها: ان كل مسألة - من أغلب المسائل التي تعالجها هذه الرسالة - لها أدلتها الكثيرة، وحججها الوفيرة، فعند القيام بضم عشرة أدلة او عشرين أحياناً لسوقها برهاناً واحداً تكون المسألة طويلة، لاتسعها المدارك القصيرة.
خامسها: لقد تعرّضتُ لأنوار هذه الرسالة بفيوضات شهر رمضان المبارك ونفحاته، الاّ أنها كُتبت على عجل، واكتفيت بالمسودة الاولى؛ لما كنت أعانيه من الأسقام ومتاعب المضايقات من مختلف الجهات وكنت اشعر عند كتابتها انها ترد الى القلب دون اختيار مني ولا ارادة، فلم أر من اللائق أن أمسها بشئ من التنظيم أو التشذيب حسب تفكيري؛ لذا أخذت الرسالة هذا الشكل الذي يستشكل على الفهم. فضلاً عما أُدرج فيها من فقرات المقام الاول الذي كتب باللغة العربية. 1
ولكن رغم هذه الاسباب الخمسة التي هي مدار القصور والاشكال فان الرسالة ذات أهمية عظيمة.
فهذه الرسالة التي هي حقيقة من حقائق "الآية الكبرى" وتفسير لها، هي الشعاع السابع والحجة الايمانية الاولى "من مجموعة عصا موسى".
يتكون هذا الشعاع من مقامين، مع مقدمة توضح أربع مسائل مهمة:
المقام الاول: يبين باللغة العربية تفسير الآية الكبرى.
والمقام الثاني: يبين براهين المقام الاول ويوضحها ويثبتها.
إن طول المقدمة الآتية، وتوضيحها المسهب، كان بدون اختيار مني، فهناك اذن حاجة أن أملي عليّ هكذا، وقد يرى البعض طولها قصراً.
سعيد النورسي
_____________________
1
وضعنا الفقرات الواردة باللغة العربية فى النص محصورة بين قوسين مركنين [ ] .المترجم.

الشعاع السابع - ص: 135
المقدمة
بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
(وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالاِنسَ إلاّ لِيَعْبُدون) (الذاريات:56)
يفهم من اسرار هذه الآية الجليلة: ان حكمة مجئ الانسان الى هذه الدنيا والغاية منه، هي: معرفة خالق الكون سبحانه، والايمان به، والقيام بعبادته. كما ان وظيفة فطرته، وفريضة ذمَّته، هي: معرفة الله والايمان به، والتصديق بوجوده وبوحدانيته إذعاناً ويقيناً.
نعم، ان الانسان الضعيف الذي ينشد فطرةً الحياة الدائمة الخالدة، والعيش الأبدي الرغيد، والذي له آمال بلا حدود وآلام بلا نهاية، لابد ان تكون جميع الاشياء والكمالات هابطة تافهة بالنسبة اليه، بل ليس لأكثرها أية قيمة تذكر، ما عدا الايمان بالله ومعرفته، وما عدا الوسائل التي تأخذ بيده الى ذلك الايمان الذي هو اس الاساس لتلك الحياة الأبدية ومفتاحها.
ولما كانت "رسائل النور" قد اثبتت هذه الحقيقة بوضوح تام، وببراهين قاطعة، نحيل اليها، مبينين هنا ورطتين تزعزعان ذلك اليقين الايماني في هذا العصر، وتؤديان الى الحيرة والتردد، وذلك ضمن "مسائل أربع":
الورطة الاولى
وسبيل النجاة منها مسألتان:
المسألة الاولى:
مثلما أثبت في "اللمعة الثالثة عشرة" من "المكتوب الحادي والثلاثين" بالتفصيل أنه: "لاقيمة للنفي في المسائل العامة امام الاثبات، فحكمه ضعيف وهزيل".
الشعاع السابع - ص: 136
مثال ذلك: اذا اثبت شاهدان من عامة الناس رؤية الهلال في أول شهر رمضان، ونفى الرؤية آلاف من الوجهاء والعلماء قائلين: "اننا لم نر الهلال" فان نفيهم هذا يبقى غير ذي قيمة او أهمية؛ ذلك لأن "بالاثبات" يؤازر الواحد الآخر ويقويه، ففيه تساند واجتماع. بينما "النفي" فلا فرق فيه ان يكون صادراً من شخص واحد أو من ألف شخص؛ اذ النافي منفرد باعتبار انه وحده الذي ينفي. ذلك لأن المثبت ينظر الى الامر نفسه ثم يصدر حكمه، كما هو الحال في مثالنا اذا قال أحدهم: هو ذا الهلال في السماء؛ فان الآخر يصدّقه ويؤيده مشيراً الى المكان نفسه، فيشتركان في النظر الى المكان نفسه، فيتساندان، ويقوى حكمهما ويرسخ. أما في النفي والانكار فالنافي لاينظر الى الأمر نفسه ولايسعه ذلك، لذا أصبحت القاعدة: "لايمكن اثبات النفي غير الخاص وغير المحدد مكانه " قاعدة مشهورة.
مثال ذلك: اذا اثبتُّ لك وجود شئ معين في الدنيا، وانكرتَ انت وجوده في الدنيا فينبغي لك ان تقوم بالبحث والتحري عنه في ارجاء الدنيا كافة لتثبت عدم وجود ذلك الشئ الذي أتمكن بنفسي أن أثبته بمنتهى السهولة، وبإيماءة بسيطة مني اليه، بل عليك أن تغوص ايضاً في اعماق الأزمنة الغابرة، حتى تستطيع أن تقول: "لايوجد فعلاً... لم تحدث حادثة كهذه!"
ولما كان النافون والمنكرون لاينظرون الى الأمر بذاته، وانما يصدرون احكامهم حسب انفسهم، ووفق عقولهم ونظراتهم؛ لذا لايمكن ان يساند أحدهم الآخر، وان يكون ظهيراً له؛ ذلك لأن حُجُب الرؤية مختلفة لديهم والاسباب المانعة للمعرفة متنوعة عندهم. اذ يستطيع كل شخص ان يقول: انني لا أرى الشئ الفلاني.. وعندي انه غير موجود.. وباعتقادي انه لا يوجد.. ولكنه لايمكنه ان يقول: إنه فعلاً لايوجد. واذا قال بهذا النفي ـــ وبخاصة في المسائل الايمانية التي تشمل الكون كله ـــ فان كلامه يكون إفكاً عظيماً وكذباً كبيراً بكبر الدنيا، ولن يكون صدقاً قط ولايمكن ان يُستصوب أو يقوّم ابداً.
نخلص مما تقدم: ان النتيجة في الاثبات واحدة، وان فيه تسانداً، أما في النفي فالنتيجة ليست واحدة بل متعددة، إذ القيود: عندي.. في نظري.. وباعتقادي.. وأمثالها من الاسباب التي تحجب الرؤية الصحيحة تتعدد وتختلف باختلاف الاشخاص؛ لذا تأتي النتائج متعددة ايضاً، ومتفرقة، فلا يحصل التساند مطلقاً.
الشعاع السابع - ص: 137
وهكذا، إنطلاقاً من هذه الحقيقة:
فلا قيمة او أهمية للكثرة الظاهرة للكفار والمنكرين الذين يصدون عن الايمان..
ولكن، في الوقت الذي لا ينبغي ان يتأثر يقين المؤمن ولا يشوب ايمانه بأي نوع من أنواع الشك والتردد، نرى ان ما يثيره فلاسفة اوروبا من شبهات وجحود في هذا العصر قد جلب الحيرة الى بعض المنكوبين المفتونين بهم، فأزال يقينهم وأباد سعادتهم الأبدية وأوقعهم في شقاء وتعاسة؛ ذلك لأن انكارهم هذا حوّل معنى "الموت" الذي يصيب يومياً ثلاثين ألفاً من الناس من معناه الحقيقي الذي هو: إنهاء وظيفة الانسان على الارض، الى صورة الاعدام الابدي والفناء النهائي والنهاية المرعبة المخيفة. واصبح القبر - الذي لا ينغلق بابه - يسمم لذائذ حياة ذلك المنكر وينغص عليه عيشه بآلام مبرحة ملوّحاً له بالعدم الرهيب دائماً وبإعدامه الابدي. فافهم من هذا :
ما اعظم الايمان وما اعظم نعمته! وافهم كيف انه "حياة" للحياة!
المسألة الثانية:
لايؤخذ بكلام من هم خارج إطار علم او صنعة في مسألة من مسائلهما، دارت حولها المناقشة، حتى لو كانوا عظماء وعلماء وصناعاً مهرة في اختصاصاتهم. ولايؤخذ حكمهم حجة في تلك المسألة، ولايدخلون ضمن اجماع علماء ذلك الضرب من العلم.
فمثلاً: لايسري حكم مهندس عظيم كواحد من الاطباء في تشخيص مرض ما أو علاجه. لذا لاتؤخذ الاقوال المنكِرة الصادرة من أعظم فيلسوف بنظر الاعتبار فيما يخص المعنويات ولايُقام لها وزن، وبخاصة مَن توغل منهم كثيراً في الماديات فطمس على بصيرته وتعامى عن النور، فتبلّد ذهنه عن المعنويات وانحدر عقله الى عينيه وتردى حتى اصبح لايرى غير المادة ولايعقل شيئاً دونها.
فيا تُرى ما قيمة أقوال فلاسفة ذهلوا امام تفرعات اصغر الاجزاء، وتاهوا امام اكثرها تشتتاً وغرقوا فيها، وكم يساوي كلامهم واقوالهم في مسائل التوحيد والايمان والمعنويات السامية التي اتفقت عليها مئات الآلاف من اهل العلم والحقيقة امثال الشيخ الكيلاني - قدس الله سره - ذي الدهاء القدسي والبصيرة الخارقة الذي كان
الشعاع السابع - ص: 138
يعاين العرش الاعظم وهو بعدُ على الارض، والذي سعى مرتقياً مراتب المعنويات زهاء تسعين سنة، حتى كشف الحقائق الايمانية بعلم اليقين وعين اليقين بل حتى بحق اليقين؟. ألا يكون انكارهم واعتراضهم خافتاً واهياً اشبه بطنين البعوضة امام هدير السماء ودويّ رعودها؟!.
ان ماهية الكفر الذي يظهر العداء للحقائق الاسلامية ويبارزها انما هي انكار، وجهل، ونفي. وحتى لو بدت - ظاهرياً - اثباتاً ووجودياً، الاّ ان معناها عدمٌ، ونفي.
أما الايمان: فهو علمٌ، ووجودي، واثبات، وحكم. وحتى مسائله السلبية فهي ستار لحقيقة ايجابية وعنوان لها.
ولو ان اهل الكفر - الذين يصدّون عن الايمان - سعوا ليثبتوا - بمشكلات عويصة - اعتقاداتهم المنكرة السلبية ويجعلوها مقبولة بصورة " قبول العدم" و "تصديق العدم"، فان ذلك الكفر يمكن ان يعدّ - من جهة - علماً خطأً وحكماً غير صائب. وإلاّ فان ما هو سهل ارتكابه من مجرد "عدم القبول" و "الانكار" و "عدم التصديق" ليس الاّ جهلاً مطلقاً، وعدم حكم.
والخلاصة: ان الاعتقاد بالكفر قسمان:
اولهما: ما ليس له علاقة بالحقائق الاسلامية. فهو تصديق خطأ، واعتقاد باطل، وقبولٌ خطأ، وحكم ظالم خاصٌ به. فهذا القسم من الكفر خارج اطار بحثنا، لاشأن لنا به ولاشأن له بنا.
ثانيهما: ما يبارز الحقائق الايمانية ويعارضها، وهذا ايضاً قسمان:
الاول:
هو رفضٌ، وعدم قبول، وهو مجرد عدم تصديق الاثبات، وليس هذا الكفر الاّ جهلاً، والاّ عدمَ حكمٍ، وهو سهل ارتكابه، وهو خارج نطاق بحثنا ايضاً.
الثاني:
هو قبولٌ للعدم، وتصديق قلبي للعدم، فهذا القسم من الكفر هو حكمٌ، وهو اعتقاد يفضى بصاحبه الى الالتزام. فيضطر الى اثبات نفيه وانكاره.
الشعاع السابع - ص: 139
والنفي بدوره قسمان:
اولهما: ان يقول النافي: انه لايوجد في موقع خاص وفي جهة معينة، الشئ الفلاني. وهذا القسم من النفي المعيَّن يمكن اثباته، وهو ايضاً خارج بحثنا.
القسم الثاني: هو نفي وانكار المسائل الايمانية والقدسية والعامة والمحيطة التي تتوجّه الى الدنيا، وتشمل الكون، وتتطلع الى الآخرة، وتضم العصور. وهذا النفي - كما اثبتنا في المسألة الاولى - لايمكن اثباته مطلقاً، لانه يلزم ان يكون هناك نظرٌ محيط بالكون، ورؤية شاملة للآخرة ومشاهدة نافذة في الزمان غير المحدود بجميع جهاته، ليثبت مثل هذا النفي.
الورطة الثانية
وسبيل النجاة منها: وهي مسألتان ايضاً:
الاولى: ان العقول التي ضاقت امام "العظمة" و "الكبرياء" و "المطلق غير المتناهي" وقصرت عن ادراكها نتيجة الغفلة او المعصية او الانغماس في الماديات والانسياق وراءها قد أخذت - هذه العقول - تزل الى الانكار وتنفي - بغرور علمي - المسائل الهائلة العظمى لعجزها عن الاحاطة بها.
نعم، ان الذين عجزوا عن استيعاب المسائل الايمانية المحيطة الواسعة جداً، والعميقة جداً، في عقولهم الصلدة الضيقة - معنىً - ويقروها في قلوبهم الفاسدة الميتة - تجاه المعنويات - يقذفون بأنفسهم الى أحضان الكفر والضلال، فيغرقون.
ولكن اذا ما تمكن هؤلاء من إنعام النظر في كنه كفرهم، وفي ماهية ضلالهم، لرأوا: أن ما هو معقول في الايمان تجاه العظمة ولائق بها وضروري لها، يقابله المحال تلو المحال، وغير الممكن والممتنع طي ذلك الكفر وضمنه.
وقد اثبتت "رسائل النور" هذه الحقيقة بمئات الموازين والموازنات، وبقطعية تامة كقطعية حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً. فمثلاً: ان الذي يعجز ان يقبل الايمان بوجوب وجوده سبحانه وتعالى وبأزليته وبصفاته المحيطة، لعظمته سبحانه ولعظمة صفاته الجليلة، سيحيل وجوب الوجود، وأزليته سبحانه، وصفات الالوهية
الشعاع السابع - ص: 140
الى جميع الموجودات غير المحدودة، بل الى الذرات غير المتناهية، ليتمكن من الاعتقاد بكفره. او عليه ان يتخلى عن العقل كالسوفسطائيين الحمقى بانكاره وجود نفسه، ونفيه وجود الكون.
وهكذا تستقر الحقائق الايمانية والاسلامية كلها باستنادها الى "العظمة" - التي هي من شأن تلك الحقائق ومن مقتضاها - وتثبت في القلوب الصافية والعقول السليمة، بكمال الاذعان والتسليم المطمئن، منقذة أصحابها مما يجابهها من الكفر ومحالاته المدهشة وخرافاته الموحشة وجهالاته المظلمة.
نعم، ان العظمة والكبرياء ستاران ضروريان لابد منهما؛ ويتبين ذلك من اعلان تلك العظمة والكبرياء في كل وقت: في الأذان، في الصلاة، وفي اغلب الشعائر الاسلامية بترديد:
الله اكبر.. الله اكبر.. الله اكبر.. الله اكبر
ويتضح ذلك ايضاً في الحديث القدسي (العظمة ازاري والكبرياء ردائي) 1.
ويظهر ايضاً في العقدة السادسة والثمانين من المناجاة الاحمدية صلى الله عليه وسلم البليغة في "الجوشن الكبير":
يا من لامـــلــــك الا مـلــكـــه * يامن لايحصي العبـــاد ثنــــاءه
يا من لاتصف الخلائق جلالـه * يا من لاتنـــــال الاوهــام كنهـه
يا من لايدرك الابصار كمالــه * يا من لايبلغ الافهام صفاتــــــه
يا من لاينال الافكار كبريـــاءه * يا من لايحسن الانسان نعوته
يا من لايرد العبــــــــــاد قضاءه * يا من ظهر فـــي كـل شئ آياتـه
سُبحَانَكَ يا لا إلَهَ الاّ أنت اَلأمانُ الأمانُ نجّنـــا من النــــار *
_____________________
1
اصل الحديث: قال الله تعالى : (الكبرياء ردائى والعظمة ازاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار) رواه احمد وابو داود وابن ماجة عن ابي هريرة رضي الله عنه، وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما (صحيح الجامع الصغير برقم 4187 ) .

الشعاع السابع - ص: 141
الآيــة الكـبـرى
مشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه
بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَبْعُ وَالاَرضُ وَمَنْ فيهِنَّ وإنْ مِنْ شَيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلكِنْ لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً) (الاسراء: 44)
ان هذا المقام الثاني في الوقت الذي يفسِّرُ هذه "الآية الكبرى" يُبيِّنُ كذلك براهين المقام الاول الذي يتضمنه والذي جاء باللغة العربية ويوضح حججه.
ان آيات كثيرة في القرآن الكريم - أمثال هذه الآية العظمى - تذكر في مقدمة تعريفها لخالق هذا الكون "السماوات" التي هي اسطع صحيفة للتوحيد بحيث ما يتأمل فيها متأمل الاّ تغمره الحيرة ويغشاه الاعجاب، فيستمتع بمطالعتها بكل ذوق ولذة؛ فالأولى اذن ان يُستهل بها.
نعم؛ ان كل من يأتي ضيفاً الى مملكة هذه الدنيا ويحل في دار ضيافتها، كلما فتح عينيه ونظر رأى:
مضيفاً في غاية الكرم.. ومعرضاً في غاية الابداع.. ومعسكر تدريب في غاية الهيبة.. ومتنزهاً جميلاً في غاية الروعة.. ومشهراً في غاية الاثارة للشوق والبهجة.. وكتاباً مفتوحاً ذا معان في غاية البلاغة والحكمة.
الشعاع السابع - ص: 142
وبينما يولع الضيف السائح ان يعلم ويتعرف على صاحب هذه الضيافة الكريمة، وعلى مؤلف هذا الكتاب الكبير، وعلى سلطان هذه المملكة المهيبة، اذا بوجه السموات الجميل المتلألئ بالنجوم النيّرة يطل عليه منادياً: "انظر اليّ، فانا اعرّفك بالذي تبحث عنه". فينظر السائح ويرى:
أن ربوبية ظاهرة تتجلّى:
في رفعها مئات الالوف من الاجرام السماوية بلا عمد ولاسند، منها ما هو اكبر من أرضنا ألف مرة، وما هو أسرع إنطلاقاً من القذيفة بسبعين مرة.
وفي تسييرها وجريها تلك الاجرام معاً بسرعة فائقة بلا مزاحمة ولا مصادمة..
وفي ايقادها تلك القناديل المتدلية التي لاتعد، بلا زيت ولا إنطفاء..
وفي ادارتها تلك الكتل الهائلة التي لا حد لها، بلا ضوضاء ولاصخب ولا اختلال.. ويرى تجليها كذلك:
في تسخيرها تلك المخلوقات العظيمة في مهام معينة كاستسلام الشمس والقمر لأداء وظائفهما دون إحجام أو تلكؤ..
وفي تصريفها هذا العدد الهائل الذي لاتحده الارقام ضمن ذلك البعد الشاسع غير المتناهي ما بين دائرة القطبين تصريفاً يجري في الوقت نفسه، وبالقوة نفسها، وبالطراز نفسه، وبسكة الفطرة نفسها، وبالصورة نفسها، ومجتمعة، دون ان تصاب بـأدنى نقص او خلل..
وهاله ما يرى من تجلي الربوبية:
في اخضاعها تلك السيارات الضخمة التي تملك قوى هائلة ومتجاوزة لحدودها، منقادةً مطيعةً لقانونها ان تتجاوز او تنحرف.
وفي جعلها وجه السماء صافياً نقياً يتنظف طاهراً مما تلوثه انقاض تلك الاجرام المزدحمة دون ان يُرى عليه قذى ولا أذى.
وفي سوقها تلك الاجرام كأنها مناورة عسكرية منسقة وعرضها امام المخلوقات المشاهدين كأنها مشاهد فلم سينمائي، بتدوير الارض بالليل والنهار، وتجديدها انماط
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 143
المناظر الحقيقية الخلابة المثيرة للخيال لتلك المناورة الرائعة وابرازها في كل ليلة، وفي كل سنة.
فهذه الربوبية الجليلة الظاهرة وما تظهر ضمن فعاليتها من حقيقة جلية مركبة من: "التسخير، والتدبير، والادارة، والتنظيم، والتنظيف، والتوظيف" تشهد على وجوب وجود خالق تلك السموات وعلى وحدته، بعظمتها المهيبة هذه، وباحاطتها الكلية هذه، وتشهد - كما هو مشاهد - بان وجوده جلّ وعلا أجلى من وجود هاتيك السموات.
وقد ذكر هذا المعنى في المرتبة الاولى من المقام الاول كالآتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: السموات بجميع ما فيها، بشهادة عظمة إحاطة حقيقة: التسخير، والتدبير، والتدوير، والتنظيم، والتنظيف، والتوظيف، الواسعة المكملة بالمشاهدة]
* * *
ثم ان الفضاء الذي هو محشر العجائب ومعرض الخوارق والمسمى بـ"الجو"نادى بصوت هادر ذلك القادم الى الدنيا.. ذلك الضيف السائح: "انظر إليّ لارشدك الى مَن تبحث عنه بشوق ولهفة، واعرّفك بذاك الذي أرسلك الى هنا".
فينظر الى وجه الفضاء المكفهر وهو يتقطَّر رحمة! ويستمع الى دويّه المخيف المرهب وهو يحمل رحيق البشرى! فيرى ان:
"
السحاب" الذي علّق بين السماء والارض يسقي روضة الارض سقياً يتفجّرُ حكمةً ورحمة، ويُمد سكنتها بالماء الباعث للحياة، ملطِّفاً به شدة الحرارة - أي شدة ضرام العيش - ويدرك تواً أينما كانت الحاجة. ومع ان ذلك السحاب الثقيل الضخم يقوم بوظائف كثيرة امثال هذه، فانه يختفي ويتبدد فوراً بعد ان ملأ أرجاء الجو. فتنسحب جميع أجزائه لتخلد الى الراحة، فيتوارى عن الانظار دون ان يترك أثراً بمثل ظهور واختفاء الجيش المنظم طبقاً لأوامر فورية. ولكن ما ان يتسلّم أمر "هيا لإنزال

الشعاع السابع - ص: 144
المطر" الاّ ويجتمع ويملأ الجو في ساعة بل يغمره في دقائق، ويتهيأ متأهباً كالجندي المنتظر أمر القائد!
ثم ينظر ذلك السائح الى "الرياح" التي تجول في الجو فيرى ان الهواء يستخدم في وظائف كثيرة، في منتهى الحكمة والكرم استخداماً كأن كل ذرة من ذرات ذلك الهواء الجامد - وهي لاتملك شعوراً - تسمع وتعي مايلقى اليها من الأوامر الصادرة من سلطان هذا الكون. فتؤدي خدماتها بقوة ذلك الآمر وهيمنته وتنفّذها بكل انتظام ودقة دون أن تتوانى في شئ منها فتدخل هذه الذرات في استنشاق جميع أحياء الارض للهواء، او نقل الاصوات او المواد الضرورية لذوي الحياة كالحرارة والضوء والكهرباء، او التوسط لتلقيح النباتات او ما شابهها من الوظائف الكثيرة، فهي تستخدم بجميع هذه الخدمات من قبل يد غيبية استخداماً في منتهى الشعور، والعلم، والحيوية.
ثم ينظر الى "المطر" فيرى أن تلك القطرات اللطيفة البراقة العذبة التي ارسلت واغدقت من خزينة الرحمة الغيبية، تزخر بهدايا رحمانية ووظائف غزيرة حتى كأن الرحمة المهداة قد تجسّدت منصبة من عيون الخزينة الربانية على صورة تلك القطرات المتهاطلة.. ولهذا أطلق على المطر اسم "الغيث".. و"الرحمة".
ثم ينظر الى "البرق" ويصغي الى "الرعد" ، فيرى أنهما يستخدمان في امور بالغة الاعجاب والغرابة.
فيرجع بَصَرهُ الى عقله، ويحاور نفسه قائلاً: ان هذا السحاب الجامد الخالي من الشعور، والمنفوش كالعهن، لاشك أنه يجهلنا ولا يعرفنا، ولايمكن ان يسعى بنفسه لامدادنا رأفة بنا ورقة لحالنا، ولايمكن أن يظهر بادياً في السماء ويختفي منقشعاً بدون أمر، بل لابد انه يسعى في وظيفته وفق أمر صادر من آمر قدير مطلق القدرة، ورحيم مطلق الرحمة. حيث يختفي دون ان يعقب، ثم يظهر فجأة، متسلماً مهام عمله، فيملأ عالم الجو ويفرغه بين الفينة والفينة تنفيذاً لأمر سلطان جليل متعال فعال، فيخط على لوحة السماء دوماً بحكمة، ويمحو بالاعفاء، محولاً اياها الى "لوحة المحو والاثبات" والى صورة مصغرة للحشر والقيامة. اذ يركب السحاب متون الرياح بأمر من حاكم مدبّر ذي ألطاف واحسان وذي إكرام وعناية، حاملاً خزائن أمطار واسعة سعة الجبال وضخامتها مسعفاً بها مواضع من الارض محتاجة اليها، وكأنه يرقّ لحالها فيبكي عليها بدموعه ويطلقها ضاحكة بالازاهير والرياحين، ويخفف من شدة لفحة
الشعاع السابع - ص: 145
الشمس ويسقي بساتين الارض ومروجها ويغسل وجهها واديمها ويطهرها من الاقذار ليشرق بالصفاء والرواء.
ثم يحاور ذلك المسافر الشغوف عقله قائلاً:
ان هذا الهواء الجامد الذي لاحياة له ولاشعور ولاثبات له ولاهدف، وهو في اضطراب دائم، وهيجان لايسكن، وذا عواصف وأعاصير لاتهدأ، تأتي الى الوجود وتبرز بسببه - وبصورته الظاهرة - مئات الألوف من الاعمال والوظائف والنعم والامدادات العامرة بالحكمة والرحمة والاتقان، مما يثبت بداهة: انه ليست لهذه الرياح الدائبة حركة ذاتية، فلا تتحرك بذاتها ابداً وانما يحركها أمر صادر من آمر قدير عليم مطلق وحكيم كريم مطلق، وكأن كل ذرة من ذراته تفهم وتسمع - كالجندي المطيع - كل أمر صادر من لدن ذلك الآمر وتدركه فتنقاد اليه، وتجعل الأحياء جميعها تتنفسها لتسهم في ادامة حياتها، وتشارك في تلقيح النباتات ونموها، وتعاون في سوق المواد الضرورية لحياتها، وسوق السحب وادارتها وتسيير السفن التي لا وقود لها وجعلها تمخرالبحار وتسيح فيها، وتتوسط خاصة في ايصال الاصوات والمكالمات والاتصالات عبر امواج اللاسلكي والبرق والراديو، وامثال هذه الخدمات العامة الكلية، فضلاً عن ان ذرات الهواء مركبة من مواد بسيطة كالازوت ومولد الحموضة (الاوكسجين) ومع تماثل بعضها لبعض فلا أراها الاّ أنها تستخدم بيد حكيمة وبانتظام كامل في مئات الألوف من انماط المصنوعات الربانية.
لذا حكم السائح قائلاً: حقاً مثلما صرّحت به الآية الكريمة:
(وتصريف الرياح والسحاب المسخّرِ بين السّماء والارض) (البقرة:164) فان الذي يجري أمره على الهواء ويستعمله في خدمات ووظائف ربانية غير محدودة، بتصريف الرياح، وفي اعمال رحمانية غير محدودة، بتسخير السحاب، ويوجد الهواء على تلك الصورة،ليس الاّ رباً واجب الوجود، قادراً على كل شئ، وعالماً بكل شئ ذا جلال واكرام.
ثم يرجع بنظره الى"الغيث" فيرى انه مثقل بمنافع بعدد شآبيبه ويحمل تجليات رحمانية بعدد زخاته، ويظهر حِكماً بقدر رشحاته، ويرى أن تلك القطرات العذبة
الشعاع السابع - ص: 146
اللطيفة المباركة تُخلق في غاية الانتظام وفي منتهى الجمال والبهاء وبخاصة البَرَد الذي يرسل - وينزل حتى صيفاً - بانتظام وميزان، بحيث أن العواصف والرياح العاتية - التي تضطرب من هولها الكتل الضخمة الكثيفة - لا تخل في موازنة ذلك البَرَد ولا انتظامه، ولا تجعله كتلاً مضرة جمعاً بين حبّاته !. فهذا الماء الذي هو جماد بسيط لايملك شعوراً، يُستخدم في امثال هذه الاعمال الحكيمة، وبخاصة استخدامه في الاحياء والتروية، وهو المركب من مادتين بسيطتين جامدتين خاليتين من الشعور؛ هما مولد الماء ومولد الحموضة - الهيدروجين والاوكسجين - الاّ انه يستخدم في مئات الآلاف من الخدمات والصنائع المختلفة المشحونة بالحكمة والشعور.
فهذا الغيث اذاً ما هو الاّ رحمة متجسمة بعينها، ولايتم صنعه الاّ في خزينة الغيب لرحمة "الرحمن الرحيم"، وهو بنزوله وانصبابه على الارض يفسّر عملياً وبوضوح الآية الكريمة:
(وهو الذي يُنزّلُ الغيثَ من بعدِما قَنَطوا وينشُرُ رَحْمَتَه) (الشورى:28).
ثم يصغي ذاهلاً الى "الرعد" وينظر مندهشاً الى "البرق" فيرى ان هاتين الظاهرتين الجويتين العجيبتين تفسران تماماً الآيتين الجليلتين:
(ويُسَبّح الرّعدُ بحمده) (الرعد: 13)
(يكاد سنا برقه يَذهَب بالابصار) (النور: 43).
فانهما تخبران كذلك عن قدوم الغيث فتبشران المعوزين الملهوفين.. نعم، ان انطاق الجو المظلم بغتة بصيحة هائلة تزمجر وتجلجل، وملء الظلام الدامس بنور يكاد يذهب بالابصار وبنار ترعب كل موجود واشعال السحب العظيمة كالجبال والمنفوشة كالعهن، المحملة بالبرد والثلج والماء.. وما شابهها من هذه الاوضاع الحكيمة الغريبة؛ لتنبِّه الانسان الغافل وتوقظه، وتلوّح بالدرّة على رأسه المخفوض قائلة:
يا هذا!. ارفع رأسك وانظر الى غرائب الصنعة وبدائع الخلقة للفعال القدير الذي يريد ان يُعرّف نفسه لعباده. فكما انك لست طليقاً سائباً مفلوت الزمام في هذا
الشعاع السابع - ص: 147
الوجود، فلن تكون هذه الحوادث سدى ولاعبثاً، بل كل منها تساق الى وظائف حكيمة بخضوع واستسلام وكل منها يستخدم من لدن ربٍ مدبّر حكيم.
وهكذا يسمع هذا السائح الولوع شهادة سامية جليّة لحقيقة مركبة من تسخير السحاب، وتصريف الرياح، وانزال الغيث، وتدبير الظواهر الجوية فيقول: آمنت بالله..
وقد أفادت 1 المرتبة الثانية من المقام الاول مشاهدات هذا السائح في الجو كالآتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده: الجوّ بجميع ما فيه، بشهادة عظمة إحاطةِ حقيقة: التسخير، والتصريف، والتنزيل، والتدبير، الواسعة المكملة بالمشاهدة].
* * *
ثم ان ذلك السائح المتفكر، المعتاد على السياحة الفكرية، هتفت به "كرة الارض" بلسان حالها، قائلة: "لِمَ تجول في الهواء وتدور في ارجاء السماء والفضاء ؟ هلمّ اليّ لأعرّفك بالذي تبحث عنه. تأمل فيما ازاول من وظائف. وأقرأ ما هو مكتوب في صحائفي". فأخذ السائح ينظر، فيرى:
ان الارض - كالمولوي العاشق - تخط بحركتيها في أطراف ميدان الحشر الاعظم دائرة تحصل بها الايام والسنون والفصول.. وهي كسفينة ربانية عظيمة حاملة لاكثر من مائة ألف نوع من أنواع ذوي الحياة مع جميع أرزاقها ومتطلباتها المعاشية، فتمخر عباب الفضاء وتطوف في رحلة سياحية وتجوال حول الشمس بكمال الموازنة والانتظام الاتم.
ثم ينظر الى صحائفها فيرى ان كل صحيفة منها تعرّف ربها بآلاف آياتها.. ولكن لمّا لم يجد متسعاً من الوقت لمطالعة الصحائف كلها، فقد اقتصر بالنظر الى صحيفة
_____________________
1
[تنبيه]: كنت اريد ان اوضح المراتب الثلاث والثلاثين من مراتب التوحيد المذكورة في "المقام الاول" الاّ ان عدم سماح وضعي في الوقت الحاضر جعلني مضطراً الى الاكتفاء ببراهينها المختصرة جداً وترجمة معانيها فحسب. وحيث ان ثلاثين رسالة من رسائل النور بل مائة رسالة منها قد بيّنت - كل رسالة - قسماً من تلك المراتب الثلاث والثلاثين مع دلائلها بأساليب مختلفة؛ لذا احيلت التفاصيل اليها - المؤلف.

الشعاع السابع - ص: 148
واحدة منها فقط، وهي صحيفة تجسّد ايجاد ذوي الحياة وادارتها في فصل الربيع. فشاهد ان افراداً غير محدودين لمائة ألف من الانواع تنفتح صورُها وتنبسط من مادة بسيطة بمنتهى الانتظام، وتُربّى بمنتهى الرحمة، وتنشر في الارجاء بمنتهى السعة وتمنح بذور قسم منها جُنيحات رقيقة للطيران في غاية الاعجاز.. وانها تدار بمنتهى التدبير، وتعّيش وتغذّى بمنتهى الشفقة والرأفة، وتُؤمّن ارزاقها الوفيرة المتنوعة اللذيذة الطيبة بمنتهى الرحمة والإرزاق، فتُوافى من غير شئ، ومن تراب يابس، ومن جذور صلبة كالعظام ومن بذور متماثلة، ومن قطرات ماء متشابهة، وتبعث من خزينة الغيب الى ذوي الحياة كل ربيع - كحمولة قطار مشحون - مائة ألف نوع ونوع من الاطعمة واللوازم بكمال الانتظام والاتساق. وبخاصة ارسال اللبن الخالص اللذيذ الدفاق من ينابيع أثداء الوالدات الرؤومات الملفعات بالشفقة والرحمة والحكمة هدايا للصغار والاطفال.. كل ذلك يثبت بداهة انه تجلٍ في منتهى التربية والرأفة من تجليات رحمة الرحمن الرحيم وإحسانه العميم.
والخلاصة:
لقد فهم السائح بمشاهدة هذه الصحيفة الحياتية للربيع الجميل، انها صورة من صور الحشر والنشور بمئات الآلاف من النماذج والنظائر، فهي تفسّر عملياً تفسيراً محسوساً رائعاً الآية الكريمة:
(فانظر الى آثار رحمتِ الله كيف يُحيي الارضَ بعدَ موتها إن ذلك لمُحيي الموتى وهو على كل شئ قدير) (الروم: 50).والآية نفسها تفيد باعجازجميل المعاني الواردة في هذه الصحيفة.
وفهم ما تردده كرة الارض بجميع صحائفها وبنسبة جسامتها وقوتها من: لا إلهَ إلاّ هو.
وهكذا لاجل بيان شهادة مختصرة، لوجه واحد فقط، من عشرين وجهاً، من وجوه صحيفة واحدة، من الصحائف الواسعة لكرة الارض، التي تربو على عشرين صحيفة، ولاجل بيان ما أفادته مشاهدات ذلك السائح في سائر الوجوه والصحائف.. ذكر في المرتبة الثالثة من المقام الاول:
الشعاع السابع - ص: 149
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته:الارض بجميع ما فيها، وما عليها، بشهادة عظمة إحاطة حقيقة: التسخير، والتدبير، والتربية، والفتاحية وتوزيع البذور والمحافظة والادارة، والاعاشة، لجميع ذوي الحياة، والرحمانية والرحيمية العامة الشاملة المكملة بالمشاهدة].
* * *
ثم اصبح ذلك المسافر المتفكر كلما قرأ صحيفة قوي ايمانه الذي هو مفتاح السعادة، وزادت معرفته بالله التي هي مفتاح المدارج المعنوية، وانكشفت لبصيرته درجة اخرى من حقيقة الايمان بالله الذي هو الاساس القويم لجميع الكمالات ومنبعها الثر العذب. ومع انه قد وعى دروساً بليغة وتامة من السماء والجو والارض، بات يطلب المزيد. كلما منحته تلك الصحائف أذواقاً معنوية لطيفة، ولذائذ روحية كثيرة، مثيرة شغفه، منبهة ولعه بشدة قائلاً: هل من مزيد، واذا به يسمع صدى اذكار "البحار والانهار العظيمة" التي تتدفق خشوعاً وشوقاً، فينصت الىهمس أصواتها الحزينة اللذيذة، وهي تقول بلسان الحال والمقال: "ألا تنظر إلينا ؟ ألا تطالعنا ؟." فينظر بلهفة حائرة ويرى:
ان البحار التي تتماوج بحيوية وتتلاطم بشدة دوماً، والتي من شأنها التشتت والانسكاب والاغراق، قد أحاطت بكرة الارض، فهما تُسيَّران معاً في منتهى السرعة وتجريان في سنة واحدة ضمن دائرة مقدارها خمس وعشرون ألف سنة. وعلى الرغم من كل هذا فهي لاتتفرق ابداً ولاتنسكب مطلقاً ولاتستولي على جارتها اليابسة، فلابد من انها تسكن وتسيّر وتحفظ بأمر من له القدرة المطلقة، والعظمة المطلقة.
ثم ينظر الى جوف البحر فيرى علاوة على لآلئه المشعة التي هي في غاية الجمال والزينة والانتظام، فان اعاشة آلاف الحيوانات المتنوعة وادارتها وتعيين مواليدها ووفياتها تجري في منتهى الانتظام والاتقان. وأن مجئ ارزاقها ونشوء اقواتها من رمل بسيط ومن ماء اجاج، ميسور وكامل بحيث يثبت بداهة أنه لايتم إلاّ بادارة القدير ذي الجلال، واعاشة الرحيم ذي الجمال.
الشعاع السابع - ص: 150
ثم ينظر ذلك المسافر الى الانهار فيرى ان فيها من المنافع والمصالح ولها من الخدمات والوظائف وما تنتجه من مصاريف وما ترده من موارد محسوب بحكمة واسعة، وبرحمة عظيمة بحيث تثبت بداهة ان جميع الجداول والترع والينابيع والسيول والانهار العظيمة تنبع وتجري من خزينة الرحمن ذي الجلال والاكرام. بل انها تُخزن وتدّخر ادخاراً خارقاً للمألوف، فتصرف وتجري جرياً فوق المعتاد حتى ورد في الحديث الشريف ما معناه: أن أنهاراً اربعة تجري من الجنة 1 .
بمعنى ان جريان هذه الانهار؛ هو فوق حسابات الاسباب الظاهرة بكثير، لذا فهي لاتجري إلاّ من خزينة جنة معنوية لا ينضب ومن فيض منبع غيبي لاينفد.
فمثلاً: هذا نهر النيل الذي حوّل صحراء مصر القاحلة الى جنة الدنيا، يجري كبحر صغير دون نفاد، وينبع من جبل واقع في الجنوب يدعى جبل القمر، فلو جُمّعت صرفياته لستة أشهر وجُمّدت، لحصل ما هو اعظم من ذلك الجبل ! والحال ان ما خصّص له من مكان للخزن لايبلغ سُدس ذلك الجبل. اما وارداته فقليلة ضئيلة، حيث ان شحة الامطار وشدة حرارة المنطقة وتعطش الارض، كل ذلك مجتمعاً لايفسح مجالاً للخزن الاّ للقليل، ولايسمح للمحافظة على ميزان وارداته وصرفياته؛ لذا قد روي أنه يجري من "جنة" غيبية هي فوق القوانين الارضية المعتادة. فأفادت تلك الرواية حقيقة لطيفة ذات مغزى عميق جداً.
وهكذا رأى السائح شهادة واحدة وحقيقة واحدة، من آلاف الشهادات والحقائق التي هي واسعة سعة البحار نفسها، وفهم ان جميعها تردد معاً بالاجماع، وبقوة عظمة البحار: "لا إله إلاّ هو" وبرز أمامه شهود بعدد مخلوقات البحار على صدق هذه الشهادة.
ولبيان شهادات البحار والانهار جميعها، أفادت المرتبة الرابعة من المقام الاول ما يأتي:
_____________________
1
عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سَيْحان وجَيحان والفرات والنيل كلٌّ من انهار الجنة). ــ مسلم: كتاب الجنة:26، وفي الخطيب البغدادي "«ليس من الجنة في الارض شئ إلاّ ثلاثة اشياء: غرس العجوة والحجر وأواقٍ تنزل في الفرات كلَّ يوم بركة من الجنة".وانظر فيض القدير 5/381.

الشعاع السابع - ص: 151
[لا إله إلا الله الواجب الوجود الذي دلّ على وجوبِ وجوده في وحدته: جميع البحار، والانهار، بجميع ما فيها، بشــهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة: التســــخير، والمحافظة والادارة الواســــعة المنتظمة بالمشـــاهدة].
* * *
ثم تدعو الجبال والصحارى ذلك المسافر المستغرق في السياحة الفكرية قائلة: "ألا تقرأ صحيفتنا ايضاً ؟".. فهو بدوره يحدق النظر، ويرى:
ان وظائف الجبال الكلية، وفوائدها العامة هي من العظمة والحكمة مما يُحير العقول.
فمثلاً: بروز الجبال واندفاعها من الارض بأمر رباني يهدئ هيجان الارض ويخفف من غضبها وسخطها وحدتها الناجمة من تقلباتها الباطنية، ويدعها تتنفس مستريحة بفوران تلك الجبال ومن خلال منافذها، فتتخلص بذلك من الزلازل المهلكة والتصدّعات المدمّرة، فلا تعد تسلب راحة الآمنين من سكنتها. وكما يُنصب على السفن الاعمدة والاوتاد حفاظاً على توازنها ووقايتها من التزعزع والغرق، كذلك الجبال هي اوتاد ذات خزائن لسفينة الارض، تقيها من الزلزال وتُثبتها وتحفظ توازنها. وقد بيَّن القرآن الكريم هذا المعنى في آيات كثيرة منها:
(والجبال اوتاداً) (النبأ: 7) (وألقينا فيها رواسي) (الحجر: 19) (والجبال أرساها) (النازعات: 32)
ومثلاً: ان ما في جوف الجبال من أنواع الينابيع والمياه والمعادن والمواد والادوية التي يحتاج الى كل منها ذوو الحياة، قد أدخرت بحكمة، وأحضرت بكرم، وخزنت بتدبير. بحيث تثبت بداهة ان هذه الجبال هي خزائن ومستودعات إدخار تحت أمر القدير الذي لا نهاية لقدرته، والحكيم الذي لا نهاية لحكمته. فيدرك السائح هذا، ويقيس على هاتين الجوهرتين ما يليهما من وظائف الجبال والصحارى وحِكَمهما - التي هي بضخامة الجبال وسعة الصحارى - فيرى ان الجبال والصحارى تشهدان، وتوحِّدان بـ"لا إله إلاّ هو" بلسان جميع حِكَمهما وبلغة جميع وظائفهما وبخاصة
الشعاع السابع - ص: 152
ادخارهما للاحتياطي من المواد. وأن تلك الشهادة والتوحيد هما من القوة والرسوخ ما للشم العوالي، وهما من الشمول والسعة ما للقفار والصحارى، فيردد اللسان بخشوع: آمنت بالله.
وهكذا ذكر في المرتبة الخامسة من المقام الاول لبيان هذا المعنى مايأتي:
[ لا إله إلاّ الله الواجـب الوجـود الذي دلّ على وجـوب وجوده: جميع الجبال والصحارى، بجميع ما فيها، وما عليها، بشهادة عظمة احاطة حقيقة: الاِدخار، والادارة، ونشـــر البذور، والمحــافظة، والتدبير الاحتيـاطية الربانية الواســعة العــامــــة المنتظمة المكملة بالمشـــاهدة].
* * *
وبينما كان ذلك المسافر يجول بفكره في الجبال والصحارى، انفتح امام فكره باب عالم "الاشجار والنباتات" يدعوه قائلاً: "هلمَ إلينا وَجُل في رياضنا واقرأ سطورنا".. فدخل ورأى:
ان الاشجار والنباتات قد عقدت مجلساً فخماً رائعاً للتهليل والتوحيد، وشكلت حلقة مهيبة للذكر والشكر. ففهم من ألسنة أحوالها كأنها تلهج معاً، وتردد بالاجماع: "لا إله إلاّ هو" لما رأى من ثلاث حقائق كبرى كليّة تدل على أن جميع الاشجار المثمرة وجميع النباتات المزهرة تؤدي شهادتها مسبّحة وتقول معاً بالألسنة الفصيحة لأوراقها الموزونة، وبالكلام الجزيل لأزهارها الجميلة، وبالكلمات البليغة لأثمارها المنتظمة "لا إله إلاّ هو":
اولاها: حقيقة الانعام والاكرام المقصودين، والاحسان والامتنان الاراديين. التي يُحسُّ معناها إحساساً ظاهراً في كل نبات وشجر. مثلما هي حقيقة واضحة وضوح ضوء الشمس في الكل.
ثانيتها: حقيقة التمييز والتفريق المقصودين بحكمة، والتزيين والتصوير الاراديين برحمة، وهي واضحة وضوح النهار - حقيقةً ومعنىً - فالتمييز بين تلك الانواع والافراد غير المحدودة غرض مقصود، والاختلاف والتباين بينها حكمة مطلوبة،
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 153
ولمسات التجميل والتحسين رحمة مرادة، وهذه الحقيقة واضحة وضوحاً لايدع مجالاً قط لنسبتها الى المصادفة، مما يُظهر عياناً انها آثار الصانع الحكيم ونقوشه البديعة.
ثالثتها: حقيقة فتح صور المصنوعات غير المحدودة، بمئات الآلاف من الانماط المختلفة والاشكال المتنوعة فتحاً من حبوب معدودة متشابهة، ومن نوى محدودة متماثلة، واستنباتها في غاية الانتظام والميزان وبمنتهى الزينة والجمال، رغم انها بسيطة جامدة ومختلطة بعضها ببعض. ففتح صور كل فرد من أفراد تلك الأنواع المتباينة - التي تربو على مائتي ألف نوع - كل على إنفراد، بانتظام كامل، وبموازنة تامة، وبحيوية وحكمة، وبدون خطأ، لهو حقيقة ساطعة جلية أسطع من الشمس..
ففهم السائح ان هناك شهوداً ودلائل اثبات على تلك الحقيقة بعدد أزهار الربيع، وبعدد أثماره وبعدد أوراقه وموجوداته فعبّر عمّا جاش في قلبه من معان كريمة فقال: الحمد لله على نعمة الايمان.
ولبيان هذه الحقائق والشهادات ذكر في المرتبة السادسة من المقام الاول الآتي:
[ لا إاله إلاّ الله الواجـب الوجــــود الــــذي دلّ علــى وجـــوب وجـوده في وحـدته: اجمــاع جميع أنــواع الاشــجار والنباتات، المســبحات الناطقات: بكلمـات أوراقها المــوزونات الفصيحـات، وأزهـارهـا المزينـات الجـزيلات، واثمـــارهـــا المنتظمــات البــليغات، بشهادة عظمة إحــاطة حقيقة: الانعـــام، والاكــــرام، والاحســــان، بقصــدٍ ورحـــمةٍ. وحــقيقة: التمييـــــز، والتـــزييـــن، والتصــــويـــر، بارادةٍ وحكمةٍ، مع قطعية دلالة حقيقة فتح جميع صورها الموزونـات المزيّنات المتباينة المتنوعة غير المحدودة، من نَويات وحبّات متماثلة متشابهة محصورة معدودة].
* * *
وبينما كان السائح الشغوف - الذي ازداد بالسمو ذوقاً وشوقاً - عائداً من تلك السياحة الفكرية مبتهجاً بلذة وقوفه على الحقيقة وعثوره على جنات الايمان، راجعاً من بستان الربيع، حاملاً باقة كبيرة واسعة - من ازهار المعرفة والايمان - سعة الربيع نفسه، اذا بباب عالم الطيور والحيوانات ينفتح ازاء عقله التوّاق للحقيقة، وفكره
الشعاع السابع - ص: 154
المشتاق للمعرفة، تدعوه تلك الطيور والحيوانات بمئات الألوف من الاصوات المتباينة، والألسنة المختلفة، للدخول الى ذلك العالم الفسيح، وترحب بمقدمه الى عالمها.. فدخله، ورأى ان جميع الطيور، وجميع الحيوانات، بأنواعها وطوائفها وأممها كافة تذكر متفقة: "لا إله إلا هو" بلسان حالها ومقالها، حتى لكأن سطح الارض مجلس ذكر مهيب، ومجمع تهليل عظيم.. ورأى أن كلاً منها بحد ذاته بمثابة قصيدة ربانية تترنم بآلاء الربوبية.. وكلمة سبحانية ناطقة بالتقديس لبارئها.. وحرف رحماني ذي مغزى ينم عن الرحمة الإلهية؛ فالجميع يثنون على خالقهم، ويصفونه بالحمد والثناء، وكأن حواس تلك الطيور والحيوانات ومشاعرها واعضاءها، وآلاتها، واجهزتها، وقواها، كلمات موزونة منظومة، وكلام فصيح بليغ..
فشاهد السائح في ذلك ثلاث حقائق عظيمة محيطة، تدل دلالة صادقة على ان تلك الطيور والحيوانات تؤدي شكرها تجاه خلاّقها ورزاقها بتلك الكلمات، وتشهد على وحدانيته سبحانه بذلك الكلام:
اولاها: حقيقة الايجاد والصنع والابداع، أي حقيقة الإحياء ومنح الروح، التي لا يمكن نسبتها مطلقاً الى المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء؛ إذ هي ايجاد من عدم يقع بحكمة، وابداع مقرون باتقان، وخلق مصحوب بارادة، وانشاء مبني على علم. وهي تُظهر بجلاء تجلي "العلم والحكمة والارادة" بعشرين وجهاً، وهي برهان باهر على وجوب وجود "الحي القيوم" وشاهد حق على صفاته السبعة الجليلة وآية صدق على وحدانيته جل وعلا. أي أن حقيقة الاحياء تدفع الى الوجود شهود إثبات بعدد ذوي الأرواح كلها.
ثانيتها: حقيقة التمييز والتزيين والتصوير التي تتضح من خلال تلك المصنوعات غير المحدودة التي يختلف بعضها عن بعض بعلامات فارقة متميزة في الوجوه، وباشكال مزينة جميلة متباينة، وبمقادير موزونة دقيقة مختلفة، وبصور منتظمة منسقة. فهي حقيقة قوية عظمى بحيث لايمكن ان يمتلك هذا الفعل المحيط الذي يُبرز عياناً ألفاً من الحِكَمْ والخوارق سوى القادر على كل شئ، والعالم بكل شئ، وليس هناك إمكان أو احتمال آخر قط.
الشعاع السابع - ص: 155
ثالثتها: حقيقة فتح صور تلك الحيوانات غير المحدودة بمئات الآلاف من الأشكال والانماط، من بيوض وبويضات متماثلة معدودة، ومن قطرات محدودة، متشابهة أو مختلفة بفارق طفيف.. ففتح تلك الصور - التي هي بحد ذاتها معجزة الحكمة - بانتظام كامل، وموازنة تامة، دونما خطأ ولا زيادة او نقصان، انما هو حقيقة ساطعة باهرة تستقى نورها من دلائل وأسانيد بعدد الحيوانات جميعها.
وهكذا شاهد السائح عالم الطيور والحيوانات وتلّقى درساً كاملاً من دلالة هذه "الحقائق الثلاث" المتفقة، دلالة واضحة على ان جميع أنواع الحيوانات تشهد قائلة معاً: "لا إله إلا هو" حتى غدت الارض كأنها انسان ضخم جداً، تذكر "لا إله إلا هو" بنسبة كبرها وضخامتها فتملأ من شدتها وقوتها قبة السماء حتى يسمعها اهل السماوات.
وقد ذكر في المرتبة السابعة من المقام الاول لبيان هذه الحقائق ما يأتي:
[لا إله إلاّ الله الواجبُ الوجــــــــود الذي دلّ علــى وجــــوب وجوده في وحــدته: إتفاقُ جميع أنــواع الحيوانات، والطيور، الحامدات الشاهدات بكلمات حَواسِّها، وقواهــا، وحســياتها، ولطائفها، الموزونات المنتظمات الفصيحات، وبكلمات اجهزتها وجوارحها، واعضائها، والاتها المكملة البليغات، بشهادة عظمة إحاطة حقيقة الايــــجاد والصنع، والابــــداع، بالارادة، وحــقيقة: التمييز والتزيين، بالقصد. وحقيقة: التقدير والتصوير، بالحكمة مع قطعية دلالة حقيقة: فتح جميع صورها المنتظمة المتخالفة المتنوعة غير المحصورة من بيضاتٍ وقطراتٍ متماثلة متشابهة محصورة محدودة].
* * *
ثم اراد هذا السائح المتأمل ان يدخل عالم الانسان ودنيا البشر كي يمضي صعداً في مراتب غير محدودة للمعرفة الإلهية ويرقى درجة أعلى في أذواقها، ومنزلة أسمى في أنوارها غير المتناهية، وعندها دعته الى الدخول صفوة البشر أولاً وهم "الانبياء عليهم السلام" فدخل ومضى يسبر غور الازمان قبل كل شئ فرأى ان جميع الانبياء عليهم السلام وهم خيرة نوع البشر وأكملهم قاطبة، يذكرون بلسان واحد ويرددون
الشعاع السابع - ص: 156
معاً بالاجماع "لا إله إلاّ هو" وهم جميعاً يدعون الى التوحيد الخالص بقوة ما لايحد من معجزاتهم الباهرة المصدّقة لهم ولدعواهم، ورأى انهم جميعاً يدعون البشرية الى الايمان بالله لاخراجها من مرتبة الحيوانية، ورفعها الى درجة المَلَك؛ لذا فقد جثا السائح على ركبتيه بأدب جم وتوقير عظيم في أروقة تلك المدرسة النورانية، ورأى أن بين يدي كل من اولئك الائمة الهداة الاعلام للبشرية معجزات وخوارق هي علائم تصديق لهم من لدن رب العالمين سبحانه.. وانه قد تكونت طائفة عظيمة وأمة غفيرة مصدّقة من البشر دخلت حظيرة الايمان بتبليغ كل منهم.. لذا تمكن السائح من قياس مدى قوة التوحيد ورصانته، تلك الحقيقة التي اتفق عليها اولئك الصادقون الذين يربون على مائة ألف.. وفهم كذلك مدى الخطأ الجسيم والجناية الكبرى التي يرتكبها اهل الضلالة المنكرون لتلك الحقيقة الراسخة التي تملك هذه القوة والتي صدّقها وأيدها هذا العدد من المخبرين الصادقين وأثبتوها بمعجزاتهم التي لا تحد.. وادرك كذلك مدى ما يستحقونه من عذاب أليم خالد.. وعرف ايضاً مدى صواب وأحقية الذين صدقوهم وآمنوا بهم فدخلوا حظيرة الايمان. فبدت أمامه بذلك مرتبة عظمى هائلة لقدسية الايمان وسمو التوحيد.
نعم،ان المعجزات التي لاحصر لها تصديق فعلي من لدن الحق سبحانه وتعالى للأنبياء عليهم السلام، والصفعات السماوية التي نزلت بالمنكرين المعارضين لهم أظهرت أحقيتهم وتأييد الله لهم، وكمالاتهم الشخصية وارشاداتهم السديدة دالة على انهم على حق أبلج، وقوة ايمانهم وغاية جديتهم ونهاية تجردهم تشهد كلها على صدقهم وصواب دعوتهم، وما في ايديهم من الكتب والصحف المقدسة، وتلاميذهم غير المحدودين الذين بلغوا الحقيقة وارتقوا الى الكمال واهتدوا الى النور باتباعهم لهم، يشهدكلها على أحقية سبيلهم وصواب طريقهم. وعلاوة على كل هذا فان اجماع اولئك المبلّغين الصادقين في المسائل المثبتة لهو حجة قاطعة على صدق الايمان وقوة عظيمة تعزز حقيقته بحيث لا تستطيع قطعاً اية قوة في العالم ان تصارعها. فهي حقيقة دامغة تنحسر امامها كل شبهة او ريب.
فعلم السائح حكمة كون تصديق الرسل كافة ركناً من اركان الايمان، وكيف انه ينبوع دفاق ومصدر قوة عظيمة لايمانه، فســرعان ما انكب يغترف من هذا الينبوع الثر.
الشعاع السابع - ص: 157
وقد ذكر في المرتبة الثامنة من المقام الاول ما يفيد معنى الدرس المذكور لهذا السائح:
[لا إله إلاّ الله الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: إجماع جميع الانبياء، بـقوة معجزاتهم الباهرة، المُصّدقّةِ المُصَدّقَة].
* * *
وحينما كان السائح الطالب الذي تذوق مذاقات سامية من قوة الايمان وتنسم انسام الحياة صافية خالصة، يرجع من مجلس الانبياء عليهم السلام. دعاه اولئك الذين أثبتوا دعاوى الانبياء بعلم اليقين واقاموا الحجج الدامغة على صدقها، من العلماء المحققين والمجتهدين المتبحرين الذين يطلق عليهم جميعاً الاصفياء والصديقون.. دعاه اولئك الى مدارسهم فدخل ورأى مجمعاً حافلاً يضم:
ألوفاً من العباقرة الافذاذ، ومئات الالوف من المدققين من اهل العلم والتحقيق وهم يقيمون الدلائل وينصبون البراهين ويثبتون بتدقيقاتهم العميقة التي لا تدع أدنى شبهة المسائل الايمانية المثبتة، وفي مقدمتها وجوب وجود الخالق سبحانه ووحدانيته.
نعم ان اتفاق اولئك العلماء الفطاحل - مع تفاوت استعداداتهم وتباين مواهبهم الفطرية واختلاف مسالكهم - على اصول الايمان واركانه، مستنداً كل منهم على قوة براهينه ويقينها، لهو حجة قاطعة لايمكن لأحد معارضتها او دحضها او المماراة فيها الا اذا كان يملك ذكاءً أحدّ وارقى من ذكاء اولئك الفحول، وكان برهانه اقوى من براهين الجميع وحجته ابلغ من حجتهم جميعاً !! وهذا محال. لذا لايمكن مجابهتها الاّ بالجهل والتجاهل والانكار، فيما لايمكن اثباته من المسائل المنفية، او بالعناد وإغماض العين ازاء ذلك النور. والحال ان من يغمض عينيه فقد جعل نهاره ليلاً.
ففهم السائح أن الانوار التي نشرها هؤلاء الاساتذة المتبحرون لهذه المدرسة السامية الشاسعة قد أضاءت نصف الكرة الارضية خلال ألف من السنين. ووجد من هذا قوة معنوية هائلة تنصبّ في كيانه، وتملأ جوانحه بحيث لو اجتمع اهل الانكار وارباب العناد جميعاً لن يقدروا على زعزعتها ولو قيدَ شَعرةٍ. وهكذا ذكرت اشارة مختصرة في المرتبة التاسعة من المقام الاول لما اقتبسه السائح في هذه المدرسة من دروس وعبر كما يأتي:
الشعاع السابع - ص: 158
[لا إله إلاّ الله الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: اتفاقُ جميع الأصفياء، بقوة براهينهم الزاهرة المحققة المتفقة].
* * *
وحينما كان يؤوب ذلك المسافر المتأمل من مدرسة العلماء ألحف عليه شوق ملح الى زيادة الايمان وانكشافه واستولت عليه رغبة عنيفة الى رؤية الانوار والأذواق التي هي في طريق الارتقاء من درجة علم اليقين الى مرتبة عين اليقين. فدعاه ألوف وملايين "الاولياء الصالحين" المرشدين السامين الذين سعوا الى الحقيقة، وبلغوا الحق، ووصلوا مرتبة عين اليقين بسموهم وعروجهم تحت ظل المعراج الاحمدي وعلى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في الجادة المحمدية الكبرى، دعاه هؤلاء الى محل ذكر عظيم بهيج، ومقام إرشاد قويم كريم، يشع فيضاً ونوراً يملأ الارجاء كلها ويتدفق نابعاً من تلاحق ما لا يحد من تكاياهم وزواياهم ومرابطهم فدخل ورأى ان اهل الكشف والكرامات هؤلاء يرددون بالاتفاق والاجماع: "لاإله إلاّ هو" معلنين به وجوب وجود الرب سبحانه وتعالى، ووحدانيته، مستندين الى كشفياتهم وكراماتهم ومشاهداتهم.
نعم، كما يستدل على الشمس بألوان ضيائها السبعة؛ فان حقيقة التوحيد كذلك يصدقها هؤلاء الافذاذ العارفون والجهابذة المنورون بالاجماع والاتفاق، وهم يمثلون اهل الطرق المتنوعة الصادقة واصحاب المسالك المختلفة الصائبة وذوي المشارب العديدة الحقة الذين اصطبغوا بسبعين لوناً، بل بعدد اسماء الله الحسنى، من الالوان المنورة المتباينة، والانوار الملونة المختلفة المتجلية على القلوب والافاق من نور الابد والأزل.
وقد شاهد السائح تجلى تلك الحقيقة الباهرة؛ بعين اليقين. لذا رأى ان حقيقة يُجمع عليها الانبياء عليهم السلام، ويتفق على صدقها العلماء الاصفياء، ويتوافق معها الاولياء الصالحون لهي حقيقة أسطع من ضوء النهار الدال على الشمس.
وهكذا ذكرت في المرتبة العاشرة من المقام الاول اشارة مختصرة الى ما أخذه هذا المسافر من فيض في المرابط الصوفية وزواياهم:
الشعاع السابع - ص: 159
[لاإله إلاّ الله الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: إجماع الاوليـاء بكشفياتهم، وكراماتهم الظـاهرة المحـققة المصدّقة].
* * *
ثم ان ذلك السائح أراد بكل لطائفه وقواه أن يزداد رقيّاً وسمواً في قوة الايمان وانكشاف معرفته لله، لعلمه بأن محبة الله الناشئة من الايمان بالله، والمتفجرة من معرفته، هي أعظم كمال إنساني وأهمه وأوسعه، بل هي منبع جميع الكمالات واساسها؛ لذا رفع رأسه ناظراً في السماوات وخاطب عقله:
ما دامت الحياة هي اغلى شئ في الكون، والموجودات كلها مسخرة للحياة، وأن أثمن ذوي الحياة هم ذوو الروح، وأرقى ذوي الارواح هم ذوو الشعور.. وما دامت الكرة الارضية - لأجل هذه المنزلة الرفيعة - تخلى في كل عصر وفي كل سنة، وتملأ باستمرار، تكثيراً لذوي الحياة. فلابد - ولامحالة - ان تكون لهذه السماوات العُلى المزينة، سكنتها واهلوها المتلائمون معها من ذوي الحياة وذوي الارواح وذوي المشاعر. حتى نقلت روايات متواترة تؤكد رؤية "الملائكة" والتكلم معهم منذ القديم، كتمثل جبرائيل عليه السلام في صورة انسان وظهوره امام الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال السائح: ليتني اصل الى شرف رؤية اهل السماوات، وليتني أقف على ما عندهم حول حقيقة الايمان والتوحيد. لأن أهم شهادة في حق خالق الكون هي شهادتهم.. ولم يكد يتم حديثه حتى سمع فجأة كأن هاتفاً سماوياً يقول:
"
ما دمت تريد أن تلتقي معنا، وتستمع الى درسنا، فاعلم: ان المسائل الايمانية التي أُنزلت بوساطتنا الى جميع الانبياء وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، قد آمنا بها نحن اولاً. واعلم كذلك ان جميع الارواح الطيبة منا، والمتمثلة للانسان قد شهدت كلها بلا إستثناء وبالاتفاق على وجوب وجود خالق الكون، وعلى وحدانيته، وعلى صفاته القدسية. وان ما أخبرت به من اخبار كثيرة يوافق بعضه بعضاً، ويطابقه مطابقة تامة. فتوافق هذه الاخبار غير المحدودة، وتطابقها دليل لك كالشمس". فوعى السائح ما يقصدونه، وتألق نور ايمانه وسطع، حتى عرج صاعداً الى السماوات.

الشعاع السابع - ص: 160
وهكذا ذكرت اشارة قصيرة لما أخذه هذا السائح من درس الملائكة في المرتبة الحادية عشرة من المقام الاول:
[لاإله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: اتـفاق الملائــكة المتمثلين لأنظار الناس، والمتكلمين مع خواص البشر، باخبــارهـــــم المتطابقة المتوافقة].
* * *
ثم ان ذلك المسافر المتلهف المشتاق، بالدرس الذي تلقاه من ألسنة طوائف معينة ومن أحوالها، في عالم الشهادة والجانب الجسماني والمادي منه، اشتاق القيام بمزيد من السياحة والاسفار والتحري والبحث عن الحقيقة فتقدم الى مطالعة: ما في عالم الغيب وعالم البرزخ ايضاً. فانفتح امامه باب "العقول المستقيمة المنورة والقلوب السليمة النورانية" اللتان لاتخلو منهما طائفة من طوائف البشر، فالعقل والقلب هما بحكم نواة الانسان ولبّه وبفضلهما استطاع ان يصبح ثمرة الكون، ويملكان من القدرة على الانبساط والاتساع ما يمكنهما ان يطويا العالم كله رغم صغرهما، فرأى السائح:
ان القلوب والعقول برازخ انسانية بين عالمي الغيب والشهادة، فالعلاقات والعلامات بين ذينك العالمين - بالنسبة للانسان - تجري في تلك النقاط؛ لذا خاطب عقله وقلبه معاً قائلاً: "أقبلا، فان اقصر الطرق الموصلة الى الحقـــيقة هي من بابـكما فهيا لنستفد بمطالعتنا العقول والقلوب المتصفة بالايمان ودراستنا كيفياتهما وألوانهما، فهذا درس لا يؤخذ من الألسنة كما هو الحال في الطرق الاخرى". فباشر يقلب صفحات العقول وينشر صفحات القلوب ممعناً النظر مطيلاً الفكر، فرأى ان جميع العقول المستقيمة المنورة تتفق في العقيدة الراسخة الواضحة في الايمان والتوحيد، وتتطابق في اليقين الجازم والاقتناع المطمئن، رغم التباين الواسع في استعداداتها والبعد والمخالفة بين مذاهبها. أي أنها استندت وارتبطت بعقيدة لاتتبدل، ودخلت في حقيقة عريقة لا تنــفصــم؛ لذا فـان إجماع هذه العقول في الايمان،
الشعاع السابع - ص: 161
والوجوب، والتوحيد انما هو سلسلة نورانية لاتنقطع، ونافذة واسعة وضّاءة مطلة على الحقيقة.
ورأى كذلك ان جميع القلوب السليمة النورانية تتوافق فيما بينها في كشفياتها ومشاهداتها - التي هي ذات اتفاق واطمئنان وانجذاب - في اركان الايمان، وتتطابق في التوحيد، رغم تباعد مسالكها وتباين مشاربها. أي ان كل قلب من هذه القلوب النورانية عرش صغير جداً تستوي عليها المعرفة الربانية، وهي مرآة جامعة لأنوار التجليات الصمدانية، بما يقابل الحقيقة ويوصل اليها، ويتمثل بها، فهي اذاً نوافذ مفتوحة تجاه شمس الحقيقة. أي ان مجموع هذه القلوب يشكل معاً مرآة عظمى واسعة كالبحر أمام تلك الشمس.
وان اتفاق هذه القلوب والعقول واجماعها في وجوب وجوده سبحانه، وفي وحدانيته لهو دليل أكمل ومرشد اكبر لايتحير ولايحيّر؛ اذ ليس هناك إمكان قط ولا إحتمال قطعاً - في أية جهة كانت - ان يخدع وهمٌ لاحقيقة له، وفكرٌ لايمت الى الحقيقة بصلة، وصفةٌ لا اصل لها، جميع هذه العيون البصيرة النافذة الحادة لهذه الكثرة الكاثرة من ذوي القلوب الصافية والعقول الرزينة، وان يستمر هذا الخداع عبر قرون وبرسوخ تام ! او أن يوقعهم جميعاً في شباك التمويه والغفلة ! فهل هناك من يجد احتمالاً كهذا غير من يحمل عقلاً فاسداً عفناً ؟ بل حتى السوفسطائيون الحمقى الذين ينكرون الكون يردّونه ولا يرضون به !.
هكذا فهم السائح، فقال منسجماً مع عقله وقلبه: آمنت بالله
واشارة الى المعرفة الايمانية مما استفاد هذا السائح من العقول المستقيمة والقلوب المنوّرة ذكر في المرتبة الثالثة عشرة من المقام الاول ما يأتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: اجماع العقول المستقيمة المنوّرة، باعتقاداتها المتوافقة وبقناعاتها، ويقيناتها المتطابقة، مع تخالف الاستعدادات والمذاهب، وكذا دلّ على وجوب وجوده في وحدته اتفاق القلوب السـليمة النورانية، بكشفياتها المتطابقة وبمشاهداتها المتوافقة، مع تباين المسالك والمشارب].
* * *
الشعاع السابع - ص: 162
ثم ان ذلك السائح الذي نظر الى عالم الغيب من قريب، وتجوّل في عالمي العقل والقلب، أخذ يطرق باب ذلك العالم بهذا النمط من التفكير: "يا ترى ماذا يقول عالم الغيب ؟". إذ مادمنا نرى في عالم الشهادة الجسماني هذا، ان المحتجب وراء ستار الغيب سبحانه يعرّف نفسه لنا بهذا القدر الهائل من مصنوعاته المزينة المتقنة ويسوقنا الى محبته بهذا القدر الذي لايحصى من نعمه اللذيذة الطيبة ويخبرنا عن كمالاته الخفية بهذا القدر الزاخر من آثاره الخارقة البديعة.. نعم ان الذي يعرّف نفسه ويحببها فعلاً وبلسان الحال الذي هو أبيَن من الكلام والتكلم؛ لابد انه سيتكلم قولاً وتكلماً مثلما يتكلم فعلاً وحالاً، معرّفاً نفسه ومحبباً ذاته.
لذا خاطب السائح نفسه قائلاً: علينا ان نعرفه سبحانه من مظاهر الوهيته وربوبيته في عالم الغيب. فغاص قلبه في الاعماق ورأى بعين عقله:
ان حقيقة "الوحي الإلهي" مهيمنة كل حين - بظواهر في غاية القوة والوضوح - على ارجاء عالم الغيب كافة. فتأتي الشهادة لوجوده وتوحيده سبحانه من لدن علاّم الغيوب. وهي شهادة الوحي والالهام وهي أقوى بكثير من شهادة الكائنات والمخلوقات؛ إذ لا يدع سبحانه تعريف ذاته ولا دلائل وجوده ووحدانيته، محصوراً في شهادة مخلوقاته وحدها، بل يتكلم كلاماً أزلياً يليق بذاته، فلا حدّ ولا نهاية لكلام مَن هو حاضر وناظر بقدرته وعلمه في كل مكان. ومثلما يعرّفه معنى كلامه، فان تكلمه ايضاً يعرّفه بصفته
نعم، ان تواتر مائة ألف من الانبياء عليهم السلام واتفاقهم في جميع إخباراتهم الصادرة من الوحي الإلهي، ودلائل ومعجزات الكتب المقدسة والصحف السماوية التي هي الوحي المشهود وثماره، والتي صدقتها الاكثرية المطلقة للبشرية واقتدت بها، واهتدت بهديها.. جعل السائح يفهم بداهة أن الوحي حقيقة ثابتة لامراء فيها.وفهم كذلك ان حقيقة الوحي تفيد خمس حقائق قدسية وتؤكدها وتنورها:
اولاها: ان التكلم وفق مفاهيم البشر وبمستوى عقليتهم هو الذي يطلق عليه "التنزلات الإلهية الى عقول البشر".. نعم، ان الذي أنطق جميع ذوي الارواح من مخلوقاته، ويعلم ما يتكلمونه، تقتضي ربوبيته ان يصب معاني كلامه الازلي في كلمات يتيسر للبشر ان يتلوها بين كلامهم.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 163
ثانيتها: ان الذي برأ الوجود معجزةً، وملأه بمعجزاته الباهرة لتُفصح عنه وجعلها ألسنةً ناطقة بكمالاته، لابد أنه سيعرّف ذاته ايضاً بكلامه هو.
ثالثتها: ان الذي يقابل فعلاً مناجاة الناس الحقيقيين وشكرهم، وهم خلاصة الموجودات وزبدتها وأكثرهم حاجة واشدهم شوقاً وأرقهم لطفاً، فان مقابلة تلك المناجاة والشكر بكلامه سبحانه هي من شأن الخلاقية.
رابعتها: ان صفة المكالمة التي هي ضرورية لازمة وظاهرة مضيئة لصفتي "العلم" و "الحياة" لابد أنها توجد بصورة محيطة وبسرمدية خالدة عند من له علم محيط وحياة سرمدية.
خامستها: ان الذي فطر مخلوقاته على العجز والشوق، والفقر والحاجة، والقلق من العاقبة، ومنحهم المحبة والعبودية حتى اصبحوا يحسون حباً شديداً وشوقاً غامراً نحو معرفة مولاهم الحق ومالك امرهم، ويشعرون بحاجتهم الماسة الى قوة يستندون اليها ويُؤون الى كنفها - وهم يتقلبون في فقر وعجز وتوجس من العقبى- فمن مقتضى الوهيته ان يُشعرهم وجودَه بتكلمه سبحانه.
وهكذا فهم السائح ان الدلائل التي تدل بالاجماع على وجود واجب الوجود، ووحدانيته سبحانه في الوحي السماوي العام المتضمن لحقائق "التنزلات الإلهية" و "التعرف الرباني" و "المقابلة الرحمانية" و "المكالمة السبحانية" و "الاشعار الصمداني" هي حجة كبرى، بل هي أقوى من شهادة الشمس على نفسها في رابعة النهار.
ثم نظر الى حيث "الالهامات" فرأى ان الالهامات الصادقة مع انها تتشابه - من جهة - مع الوحي، من حيث انها نوع من المكالمة الربانية، الاّ ان هناك فرقين:
اولهما:
ان معظم الوحي الذي هو أسمى واعلى من الالهام بكثير إنما يتم بوساطة الملائكة، بينما اغلب الالهام يتم دون وساطة. ولإيضاح ذلك نورد المثال الآتي:
من المعلوم ان هناك شكلين من صور التخاطب واصدار الاوامر للسلطان:
الشعاع السابع - ص: 164
الاول: باسم الدولة وعظمتها وحاكميتها وسيادتها على الجميع. فيرسلاحد مبعوثيه الى احد ولاته، ويجتمع - أحياناً - معه، ومن ثم يبلّغ الامر، وذلك اظهاراً لعظمة تلك الحاكمية واهمية ذلك الامر.
الثاني: باسمه الشخصي، وليس باسم السلطنة، ولا بعنوان السلطان، فيتكلم كلاماً خاصاً، بهاتفه الخاص، في أمر خاص، وفي معاملة جزئية، مع خادمه الخاص او مع أحد رعيته من العوام.
وكذلك كلام سلطان الازل سبحانه وتعالى. فله كلام بالوحي والالهام الشامل - الذي يقوم بوظائف الوحي - يتكلم باسم رب العالمين، وبعنوان خالق الكون. وله ايضاً طراز آخر من الكلام، وبشكل خاص، ومن وراء حجب واستار، مع كل فرد ومع كل ذي حياة، حسب قابلياتهم، وذلك لكونه ربهم وخالقهم.
الفرق الثاني:
ان الوحي صاف، ودون ظل، خاص للخواص. أما الالهام ففيه ظل واختلاط ألوان. وهو عام وله اشكال متنوعة ومتفاوتة جداً؛ كإلهامات الملائكة، وإلهامات الانسان، والهامات الحيوانات. وهي بأنواعها المختلفة واشكالها المتباينة جداً، تبين مدى سعة وكثرة الكلمات الربانية التي تزيد على عدد قطرات البحار.. ففهم السائح من هذا وجهاًً من تفسير الآية الكريمة: (قل لو كان البحرُ مداداً لكلمات ربّي لَنَفِدَ البحرُ قبلَ أن تنفَدَ كلماتُ ربي..) (الكهف: 109).
ثم نظر الى ماهية الالهام يستبطن سره ويتعرف على حكمته وشهادته، فرأى ان ماهيته، وحكمته، ونتيجته، تتركب من اربعة أنوار:
النور الاول: انه مثلما يتودد الله سبحانه الى مخلوقاته عن طريق افعاله فيهم الذي يُعرف (بالتودد الإلهي) فان من مقتضيات الودودية والرحمانية (اي كونه ودوداً ورحمان) ان يتحبب اليهم ويتودد قولاً وحضوراً وصحبة ايضاً.
النور الثاني: انه مثلما يستجيب سبحانه الى دعاء عباده بأفعاله. فان من شأن الرحيمية إجابته لهم قولاً ايضاً من وراء الحجب.
الشعاع السابع - ص: 165
النور الثالث: انه مثلما يمدّ سبحانه بالأفعال استمداد مخلوقاته المصابين بالبلايا العسيرة والنوائب الشديدة واستغاثتهم وتضرعهم فان من لازم الربوبية أن يؤنسهم ويبدد وحشتهم فيمدّهم بأقوال إلهامية هي في حكم نوع من كلامه.
النور الرابع: انه مثلما يُشعر سبحانه فعلاً بوجوده وحضوره وحمايته لأرباب الشعور من خلقه - الذين هم في عجز وضعف شديدين، وفي فقر واضطرار كبيرين، وفي أشد الحاجة والشوق لمعرفة مالكهم وحاميهم ومدبرهم وحفيظهم - فانه من مقتضى رأفة الالوهية ورحمة الربانية، وضرورة لازمة لهما، ان يُشعر كذلك بحضوره ومعيّته ووجوده، لمخلوق معين، بوجه خاص، حسب قابليته، بوساطة قسم من الالهامات الصادقة، قولاً الى هاتف قلبه، مما يعدّ في حكم نوع من المكالمة الربانية.
ثم نظر الى شهادة الالهام فرأى انه لو كانت للشمس حياة وشعورٌ - فرضاً - وكانت الألوان السبعة التي في ضيائها - فرضاً - سبع صفات لها، لكان لها اذاً نمط من التكلم باشعتها وتجلياتها التي في ضيائها. ففي هذه الحالة: فان وجود صورتها وانعكاسها في الاشياء الشفافة؛ اي تكلمها مع كل مرآة عاكسة، ومع كل شئ لماع، ومع قطع الزجاج وحباب البحر وقطراته، حتى مع الذرات الشفافة حسب قابلية كل منها.. واستجابتها لحاجات كل منها.. كل ذلك سيكون شاهد صدق على وجود الشمس، وعلى عدم ممانعة فعل عن فعل ولا مزاحمة كلام من كلامها لآخر..
فمثلما يشاهد هذا بوضوح، كذلك الامر في مكالمة سلطان الازل والابد ذي الجلال، وخالق جميع الموجودات ذي الجمال، النور الازلي، هي مكالمة كليّة ومحيطة، كعلمه سبحانه وقدرته. لذا يدرك بداهة تجليّها الواسع حسب قابلية كل شئ، من دون ان يزاحم سؤال سؤالاً، ولا يمنع فعل فعلاً، ولا يختلط خطاب بخطاب.
فعلم السائح بعلم يقيني اقرب ما يكون الى عين اليقين، ان جميع تلك التجليات والمكالمات والالهامات كل منها، وبمجموعها، تدل وتشهد بالاتفاق على وجوب ذلك المنّور الازلي سبحانه، وعلى حضوره سبحانه، وعلى وحدته، وعلى احديته.
الشعاع السابع - ص: 166
وهكذا ذكرت إشارة مختصرة الى ما تلقاه هذا السائح المتلهف من درس المعرفة من عالم الغيب في المرتبة الرابعة عشرة والخامسة عشرة من المقام الاول:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحد الاحد الذي دلّ على وجوب وجوده فـي وحدته: إجماع جميع الوحيات الحقة المتضمنة للتنزلات الإلهية، وللمكالمات السـبحانية، وللتعرفات الربانية، وللمقابلات الرحمانية، عند مناجاة عباده، وللاشـعارات الصمدانية لـوجوده لمخلوقاته، وكذا دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: إتــفاق الالهامـات الصـادقة المتضمنة للتوددات الالـــهية، وللاجابات الرحمانية لدعوات مخلوقاته، وللامـــدادات الربانية لاسـتغاثات عباده، وللاحسـاسـات الســبحانية لـوجوده لمصنوعاته].
* * *
ثم خاطب ذلك السائح في الدنيا عقله قائلاً: ما دمت أبحث عن مالكي وخالقي باستنطاق موجودات الكون هذا. فمن الأولى لي أن أزور من هو اكمل انسان في الوجود، واعظم من يقود الى الخير - حتى بتصديق أعدائه - وأعلاهم صيتاً وأصدقهم حديثاً وأسماهم منزلة وأنورهم عقلاً، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أضاء بفضائله وبقرآنه أربعة عشر قرناً من الزمان.. ولأجل أن أحظى بزيارته الكريمة وأستفسر منه عما أبحث عنه، ينبغي ان نذهب معاً الى خير القرون.. الى عصر السعادة.. عصر النبوة.. فدخل بعقله الى ذلك العصر فرأى ان ذلك العصر قد صار به صلى الله عليه وسلم عصر سعادة للبشرية حقاً. لانه صلى الله عليه وسلم قد حول في زمن يسير وبالنور الذي أتى به قوماً غارقين في أشد أمية، وأعرق بداوة، حوّلهم الى أساتذة العالم وسادته.
وكذا خاطب عقله قائلاً: "علينا قبل كل شئ ان نعرف شيئاً عن عظمة هذه الذات المعجزة، وذلك من أحقية أحاديثه، وصدق أخباره ثم نستفسر منه عن خالقنا سبحانه".. فباشر بالبحث. فوجد على صدق نبوته من الادلة القاطعة الثابتة ما لايعد ولايحصى، ولكنه خلص الى تسع منها:
اولها: هو اتصافه صلى الله عليه وسلم بجميع السجايا الفاضلة والخصال الحميدة، حتى شهد لها غرماؤه.. وظهور مئات المعجزات منه؛ كانشقاق القمر الذي انشق الى نصفين باشارة
الشعاع السابع - ص: 167
من أصبعه كما نص عليه القرآن: (وانشق القمر) (القمر:1). وانهزام جيش الاعداء بما دخل أعينهم جميعاً من التراب القليل الذي رماه عليهم بقبضته. كما نصت عليه الآية الكريمة: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الانفال: 17). وارتواء اصحابه من الماء النابع كالكوثر من بين أصابعه الخمسة المباركة عندما اشتد بهم العطش.. وغيرها من مئات المعجزات التي ظهرت بين يديه، والمنقولة إلينا نقلاً صحيحاً قاطعاً أو متواتراً، فاستطلعها السائح الى (المكتوب التاسع عشر) اي رسالة "المعجزات الاحمدية" تلك الرسالة الخارقة ذات الكرامة، المتضمنة لاكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، بدلائلها القاطعة واسانيدها الموثوقة.
ثم حدّث نفسه قائلاً:"ان من كان ذا اخلاق حسنة بهذا القدر وفضائل الى هذا الحد، وذا معجزات باهرة بهذه الكثرة، فلا جرم انه صاحب أصدق حديث .. فلا يمكن أبداً - وحاشاه - ان يتنزل الى درك الحيلة والكذب والتمويه التي هي دأب الفاسدين".
ثانيها: كون القرآن الذي بيده صلى الله عليه وسلم معجزاً من سبعة اوجه، ذلك الامر الصادر من مالك الكون الذي يسلّم به ويصدقه اكثر من ثلاثمائة مليونٍ من البشر في كل عصر. ولما كانت (الكلمة الخامسة والعشرون) اي رسالة "المعجزات القرآنية" وهي شمس رسائل النور قد أثبتت بدلائل قوية أن هذا القرآن الكريم معجز من أربعين وجهاً، وانه كلام رب العالمين، لذا احال السائح ذلك الى تلك الرسالة المشهورة لبيانها المفصل للاعجاز. ثم قال: ان الأمين على كلام الله، والمترجم الفعلي له، والمبلغ لهذا النبأ العظيم الى الناس كافة، وهو الحق بعينه والحقيقة بذاتها، لايمكن ان يصدر منه كذب قط، ولن يكون موضع شبهة ابداً.
ثالثها: انه صلى الله عليه وسلم قد بعث بشريعة مطهرة، وبدين فطري، وبعبودية خالصة، وبدعاء خاشع، وبدعوة شاملة، وبايمان راسخ، لامثيل لما بعث به ولن يكون، وما وجد أكمل منه ولن يوجد.
لأن "الشريعة" التي تجلّت من أميّ صلى الله عليه وسلم وادارت خمس البشرية على اختلافها منذ أربعة عشر قرناً إدارة قائمة على الحق والعدل بقوانينها الدقيقة الغزيرة، لا تقبل مثيلاً ابداً.
الشعاع السابع - ص: 168
وكذا "الاسلام" الذي صدر من افعال مَن هو أميّ صلى الله عليه وسلم ومن اقواله، ومن احواله، هو رائد ومصدر ثلاثمائة مليون من البشر ومرجعهم في كل عصر، ومعلم لعقولهم ومرشد لها، ومنوّر لقلوبهم ومهذّب لها ومربّ ٍ لنفوسهم ومزَكٍ لها، ومدار لانبساط أرواحهم ومعدن لسموها.. لم يأت ولن يأتي له مثيل.
وكذا تفوقه صلى الله عليه وسلم في جميع انواع "العبادات" التي يتضمنها دينه، وتقواه العظيمة، وخشيته الشديدة من الله ومجاهدته المتواصلة ورعايته الفائقة لأدق أسرار العبودية ضمن أشد الاحوال والظروف، وقيامه صلى الله عليه وسلم بتلك العبودية الخالصة، دون ان يقلد أحداً وبكل معانيها مبتدئاً، وبأكمل صورة، موصلاً الابتداء بالانتهاء..لاشك لم يُرَ ولن يُرى لها مثيل.
وكذا فانه يصف، بالجوشن الكبير - الذي هو واحد من آلاف أدعيته ومناجاته - يصف ربه بمعرفة ربانية سامية لم يبلغ العارفون والاولياء جميعاً الى تلك المرتبة من المعرفة، ولا الى درجة ذلك الوصف منذ القدم مع تلاحق الافكار.. مما يظهر أنه لامثيل له في " الدعاء ". ومن ينظر الى الايضاح المختصر لفقرة واحدة من بين تسع وتسعين فقرة للجوشن الكبير، وذلك في مستهل رسالة "المناجاة" لايسعه الاّ القول انه لامثيل لهذا الدعاء الرائع (الجوشن) الذي يمثل قمة المعرفة الربانية.
وكذا فان إظهاره في "تبليغ الرسالة" وفي دعوته الناس الى الحق من الصلابة والثبات والشجاعة ما لا يقاربها أحد. فلم يداخله - ولو بمقدار ذرة - أي أثرٍ للتردد ولا ساوره قلق قط، ولم ينل الخوف منه شيئاً، رغم معاداة الدول الكبرى والاديان العظمى له حتى ناصبه قومه وقبيلته وعمه العداء الشديد، فتحدى وحده الدنيا بأسرها حتى نصره الله وأعزّه، فكلل هامة الدنيا بتاج الاسلام.. فمَن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالات الله ؟..
وكذا حمله "ايماناً قوياً راسخاً" ويقيناً جازماً خارقاً، ونمواً للفطرة معجزاً، واعتقاداً سامياً ملأ العالم نوراً. فلم تتمكن أن تؤثر فيه جميع الافكار والعقائد وحكمة الحكماء وعلوم الرؤساء الروحانيين السائدة في ذلك العصر، ولو بشبهة او بتردد او بضعف او بوسوسة. نعم، لم تتمكن ان تؤثر لا في يقينه ولا في اعتقاده ولا في
الشعاع السابع - ص: 169
اعتماده على الله ولا في اطمئنانه اليه، مع معارضتها له ومخالفتها إياه، وانكارها عليه. زد على هذا استلهام جميع الذين ترقوا في المعنويات والمراتب الايمانية من اهل الولاية والصلاح، وفي مقدمتهم الصحابة الكرام، واستفاضتهم دوماً من مرتبته الايمانية، ورؤيتهم له انه في أسمى الدرجات والمراتب. كل ذلك يظهر بداهة ان ايمانه صلى الله عليه وسلم لا مثيل له ايضاً.
ففهم السائح، وصدّق عقله ان مَن كان صاحب هذه الشريعة السمحاء التي لا مثيل لها، والاسلام الحنيف الذي لاشبيه له، والعبودية الخالصة التي لانظير لها، والدعاء البديع الرائع، والدعوة الكونية الشاملة والايمان المعجز، لن يكون عنده كذب قط، ولن يكون خادعاً مطلقاً.
الدليل الرابع: اجماع الانبياء عليهم السلام واتفاقهم على الحقائق الايمانية نفسها هو دليل قاطع على وجود الله سبحانه وعلى وحدانيته، وهو شهادة صادقة ايضاً على صدق هذا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رسالته، ذلك لأن كل مايدل على صدق نبوة اولئك الانبياء عليهم السلام، وكل ما هو مدارٌ لنبوتهم من الصفات القدسية، والمعجزات، والمهام التي اضطلعوا بها توجد مثلها وباكمل منها فيه صلى الله عليه وسلم، كما هو مصدّقٌ تاريخاً. فاولئك الانبياء عليهم السلام قد اخبروا بلسان المقال - اي بالتوراة والانجيل والزبور والصحف التي بين ايديهم - بمجئ هذه الذات المباركة وبشروا الناس بقدومه صلى الله عليه وسلم (حتى ان اكثر من عشرين اشارة واضحة ظاهرة من الاشارات المبشرة لتلك الكتب المقدسة قد بُينت بياناً جلياً واثبتت في رسالة المعجزات الاحمدية) فكما انهم قد بشروا بمجيئه صلى الله عليه وسلم فانهم يصدّقونه صلى الله عليه وسلم بلسان حالهم - اي بنبوتهم وبمعجزاتهم - ويختمون بالتأييد على صدق دعوته اذ هو السابق الاكمل في مهمة النبوة والدعوة الى الله، فادرك السائح انهم مثلما يدلّون - اي اولئك الانبياء - بلسان المقال وبالاجماع على الوحدانية، فانهم يشهدون - بلسان الحال وبالاتفاق كذلك - على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
الدليل الخامس: ان وصول آلاف الاولياء الى الحق والحقيقة، وما نالوا من الكمالات والكرامات وما فازوا من الكشفيات والمشاهدات ليس الاّ بالاقتداء بهدي دساتير هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وبتربيته، وباتباعه وتعقب أثره، فمثلما انهم يدلّون
الشعاع السابع - ص: 170
جميعاً على الوحدانية فهم يشهدون بالاجماع والاتفاق على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم - استاذهم وامامهم - وعلى أحقية رسالته. فرأى السائح ان مشاهدة هؤلاء قسماً مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من عالم الغيب بنور الولاية ورؤيتهم لجميع ما أخبر به بنور الايمان، واعتقادهم به وتصديقهم له - إما بعلم اليقين او بعين اليقين او بحق اليقين - انما تُظهر ظهوراً كالشمس مدى صدق مرشدهم الاعظم ومدى صواب رائدهم الاكبر صلى الله عليه وسلم.
الدليل السادس: ان ملايين العلماء المدققين الاصفياء، والمحققين الصديقين، ودهاة الحكماء المؤمنين، ممن بلغوا أعلى المراتب بفضل مادرسوا وتتلمذوا على ما جاء به هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم - مع كونه أمياً - من الحقائق القدسية، وما نبع منها من العلوم العالية، وما كشفت عنه من المعرفة الإلهية.. ان هؤلاء جميعاً مثلما يثبتون الوحدانية التي هي الاساس لدعوته صلى الله عليه وسلم ويصدقونها متفقين - ببراهينهم القاطعة - فانهم يتفقون كذلك ويشهدون على صدق هذا المعلم الاكبر وصواب هذا الاستاذ الاعظم وعلى احقيّة كلامه صلى الله عليه وسلم. فشهادتهم هذه حجة واضحة كالنهار على صدقه وصواب رسالته. وما رسائل النور بأجزائها التي تزيد على المائة - مثلاً- إلاّ برهان واحد فقط على صدق وصواب هذا النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم.
الدليل السابع: ان الجمع العظيم الذين يطلق عليهم "الآل والاصحاب" الذين هم اشهر بني البشر بعد الانبياء، فراسةً واكثرهم درايةً، واسماهم كمالاتٍ، وافضلهم منزلة، واعلاهم صيتاً، واشدهم اعتصاماً بالدين، وأحدّهم نظراً .. ففهم السائح أن تحري هؤلاء وتفتيشهم وتدقيقهم لجميع ما خفي وما ظهر من احوال هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وافكاره وتصرفاته بحثاً بكمال اللهفة والشوق، وبغاية الدقة، وبمنتهى الجدية، ثم تصديقهم بالاتفاق والاجماع انه صلى الله عليه وسلم اصدق مَن في الدنيا حديثاً، واسماهم مكانة، واشدهم اعتصاماً بالحق والحقيقة، فتصديقهم هذا الذي لايتزعزع مع ما يملكون من إيمان عميق، انما هو دليل باهر كدلالة النهار على ضياء الشمس.
الدليل الثامن:كما ان هذا الكون يدل على صانعه وكاتبه، ومصّوره الذي اوجده، والذي يديره، ويرتبه، ويتصرف فيه بالتصوير والتقدير والتدبير كأنه قصر باذخ اوكأنه كتاب كبير او كأنه معرض بديع او كأنه مشهر عظيم، فهو كذلك يستدعي لامحالة وجود من يعبّر عما في هذا الكتاب الكبير من معانٍ، ويعلم ويُعلّم
الشعاع السابع - ص: 171
المقاصد الإلهية من وراء خلق الكون، ويعلّم الحكم الربانية في تحولاته وتبدلاته، ويدرّس نتائج حركاته الوظيفية، ويعلن قيمة ماهيته وكمالات ما فيه من الموجودات. أي يقتضي داعياً عظيماً، ومنادياً صادقاً، واستاذاً محققاً، ومعلماً بارعاً، فادرك السائح ان الكون - من حيث هذا الاقتضاء - يدل ويشهد على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصوابه الذي هو افضل من أتم هذه الوظائف والمهمات وعلى كونه أفضل واصدق مبعوث لرب العالمين.
الدليل التاسع: ما دام هناك وراء الحجاب من يشهر كمال بديعيته واتقانه، بمصنوعاته هذه؛ ذات الاتقان والحكمة.. ويعرّف نفسه ويوددها، بمخلوقاته غير المحدودة، ذات الزينة والجمال.. ويُوجب الشكر والحمد له، بنعمه التي لاتحصى، ذات اللذة والنفاسة.. ويشوق الخلق الى العبادة نحو ربوبيته بعبودية تتسم بالحب والامتنان والشكر إزاء هذه التربية والاعاشة العامة، ذات الشفقة والحماية (حتى انه يهئ اطعمة وضيافات ربانية تُطمئن ادق اذواق الافواه وجميع انواع الاشتهاء).. ويُدين الخلق الى الايمان والتسليم والانقياد والطاعة نحو الوهيته التي يظهرها بتبديل المواسم، وتكوير الليل على النهار، واختلافهما وامثالها من التصرفات العظيمة، والاجراءات الجليلة، والفعالية المدهشة والخلاقية الحكيمة.. ويُظهرُ عدالته وحقانيته بحمايته دوماً البر والابرار وازالته الشر والاشرار ومحقه الظالمين والمكذبين واهلاكهم بنوازل سماوية. فلا جرم، ان احب مخلوق لدى ذلك المتستر بالغيب، واصدق عبد له هو مَن كان عاملاً عملاً خالصاً لمقاصده المذكورة آنفاً، ومَن يحل السر الاعظم في خلق الكون ويكشف لغزه، ومن يسعى دوماً باسم خالقه ويستمد القوة منه ويستعين به وحده في كل شئ فينال المدد والتوفيق منه سبحانه. ومن ذا يكون هذا غير محمد القرشي صلى الله عليه وسلم.
ثم خاطب السائح عقله: لما كانت هذه الحقائق التسع شاهدة اثبات على صدق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فلا ريب اذن انه قطب شرف البشرية، ومدار افتخار العالم، وانه حري ولائق جداً تسميته شرف بني آدم، وتلقيبه بفخر العالمين. وان ما في يده من أمر الرحمن وهو القرآن الكريم المهيمن جلال سلطانه المعنوي على نصف الارض مع ما يملك من كمالاته الشخصية وخصاله السامية يظهران ان اعظم انسان في الوجود هو هذا النبي العظيم، فالقول الفصل اذن بحق خالقنا سبحانه هو قوله صلى الله عليه وسلم.
الشعاع السابع - ص: 172
فتعال ياعقلى وتأمل!. ان أساس جميع دعاوى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وغاية حياته كلها، هي الشهادة على وجود واجب الوجود، والدلالة على وحدانيته، وبيان صفاته الجليلة، واظهار اسمائه الحسنى، واثبات كل ذلك، واعلانه واعلامه؛ استناداً الى ما في دينه من ألوف الحقائق الراسخة الاساس والى قوة ما اظهره الله على يده مئات من معجزاته القاطعة الباهرة.
اي ان الشمس المعنوية التي تضئ هذا الكون والبرهان النيّر على وجود خالقنا سبحانه ووحدانيته، هو هذا النبي الكريم الملقب بـ"حبيب الله" صلى الله عليه وسلم فهنالك ثلاثة انواع من الاجماع عظيمة لا تَغفل ولا تُغفِل، تؤيد شهادته وتصدّقها:
الاجماع الاول: اجماع الذين اشتهروا، وتميزوا في العالم باسم "آل محمد" عليه وعلى آله الصلاة والسلام. تلك الجماعة النورانية التي يتقدمها الامام علي رضي الله عنه الذي قال: "لو رُفع الحجاب ما ازددت يقيناً"، وخلفه آلاف الاولياء العظام من ذوي البصائر الحادة والنظر الثاقب للغيب من امثال الشيخ الكيلاني (قدس سره) الذي كان يعاين ببصيرته النافذة العرش الاعظم واسرافيل بعظمته وهو بعدُ على الارض.
الاجماع الثاني: اجماع تلك الجماعة المعروفة بالصحابة الكرام المشهورين في العالم رضي الله عنهم اجمعين، وتصديقهم بالاتفاق وبايمان راسخ قوي لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حتى ساقهم ذلك الى التضحية والفداء بأرواحهم واموالهم وآبائهم وعشيرتهم، وهم الذين كانوا قوماً بدواً يقطنون في محيط أميّ خالٍ من مظاهر الحياة الاجتماعية والافكار السياسية، ليس لهم هدى ولا كتاب منير. وكانوا مغمورين في ظلمة عصر الفترة، فصاروا في زمن يسير اساتذة مرشدين وسياسيين وحكاماً عادلين لأرقى الامم حضارة وعلماً واجتماعاً وسياسةً،فحكموا العالم شرقاً وغرباً ورفرفت رايات عدالتهم براً وبحراً.
الاجماع الثالث: هو تصديق الجماعة العظيمة من العلماء الاجلاء الذين لايعدون ولايحصون المتبحرين في علومهم والمحققين المدققين الذين نشأوا في أمته وسلكوا مسالك شتى ولهم في كل عصر آلاف من الحائزين على قصب السبق بدهائهم في كل علم. فتصديق هؤلاء جميعاً له بالاتفاق وبدرجة علم اليقين اجماع اي اجماع!..
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 173
فحكم السائح بان شهادة هذا النبي الامي على الوحدانية ليست شهادة شخصية وجزئية، بل هي شهادة عامة وكلية راسخة لاتتزعزع، ولن تستطيع أن تجابهها الشياطين كافة في أية جهة ولو اجتمعوا عليها.
وهكذا ذكرت إشارة مختصرة لما تلقاه ذلك السائح الذي جال بعقله في عصر السعادة جوانب الحياة من تلك المدرسة النورانية في المرتبة السادسة عشرة من المقام الاول كالآتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحدُ الاحدُ الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: فخرُ عالمٍ وشرف نوع بنـي آدم، بعظمة سلطنةِ قرآنه، وحشمةِ وسعةِ دينهِ، وكثرةِ كمالاته، وعلويّة اخلاقه، حتى بتصديق أعـدائهِ. وكذا شهد وبرهن بقوةِ مئـات المعجزات الظاهرات الباهرات المُصَّدقةِ، وبقوة آلاف حقائق دينه الساطعة القاطعة، باجماع آله ذوي الانوار، وباتفاق اصحابه ذوي الابصـار، وبتوافق مُحَقِقي أمتهِ ذوي البراهين والبصائر النّــــوارة].
* * *
ثم ان السائح الذي لا يناله تعب ولاشبع والذي علم ان غاية الحياة في هذه الدنيا بل حياة الحياة انما هو الايمان، حاور هذا السائح قلبه قائلاً:
ان كلام من نبحث عنه هو اشهر كلام في هذا الوجود واصدقه واحكمه، وقد تحدى في كل عصر من لا ينقاد اليه، ذلك القرآن الكريم ذو البيان المعجز.. فلنراجع اذاً هذا الكتاب الكريم، ولنفهم ماذا يقول.. ولكن لنقف لحظة قبل دخولنا هذا العالم الجميل لنبحث عما يجعلنا نستيقن أنه كتاب خالقنا نحن.. وهكذا باشر بالتدقيق والبحث.
وحيث ان هذا السائح من المعاصرين فقد نظر اولاً الى رسائل النور التي هي لمعات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، فرأى ان هذه الرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة هي بذاتها تفسير قيّم للآيات الفرقانية اذ إنها تكشف عن نكاتها الدقيقة وأنوارها الزاهية.
ورغم ان رسائل النور قد نشرت الحقائق القرآنية بجهاد متواصل الى الآفاق كافة، في هذا العصر العنيد الملحد، لم يستطع أحد أن يعارضها أو ينقدها، مما يثبت ان القرآن الكريم الذي هو رائدها ومنبعها ومرجعها وشمسها، انما هو سماوي من كلام
الشعاع السابع - ص: 174
الله رب العالمين، وليس بكلام بشر. حتى ان "الكلمة الخامسة والعشرين" وختام "المكتوب التاسع عشر" وهما حجة واحدة من بين مئات الحجج، تقيمها رسائل النور لبيان إعجاز القرآن، فتثبته بأربعين وجهاً، إثباتاً حيّر كل من نظر اليها، فقدّرها واعجب بها - ناهيك عن انهم لم ينقدوها ولم يعترضوا عليها قط - بل اثنوا عليها كثيراً.
هذا وقد أحال السائح اثبات وجه الاعجاز للقرآن الكريم، وانه كلام الله سبحانه حقاً الى "رسائل النور" الاّ انه انعم النظر في بضع نقاط تبين باشارة مختصرة عظمة القرآن الكريم:
النقطة الاولى: مثلما ان القرآن الكريم بكل معجزاته وحقائقه الدالة على أحقيته هو معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فان محمداً صلى الله عليه وسلم بكل معجزاته ودلائل نبوته وكمالاته العلمية معجزة ايضاً للقرآن الكريم وحجة قاطعة على ان القرآن الكريم كلام الله رب العالمين.
النقطة الثانية: ان القرآن الكريم قد بدل الحياة الاجتماعية تبديلاً هائلاً نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلاباً عظيماً سواء في نفوس البشر وقلوبهم، او في ارواحهم وعقولهم، او في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، وأدام هذا الانقلاب وأداره، بحيث إن آياته البالغة ستة آلاف وستمائة وستاً وستين آية تُتلى منذ أربعة عشر قرناً في كل آن بألسنة أكثر من مائة مليون شخص في الاقل بكل إجلال واحترام، فيربي الناس ويزكي نفوسهم، ويصفى قلوبهم، ويمنح الارواح إنكشافاً ورقياً، والعقول إستقامة ونوراً، والحياة حياةً وسعادة. فلا شك انه لا نظير لمثل هذا الكتاب ولاشبيه له ولامثيل. فهو خارق، وهو معجزة.
النقطة الثالثة: ان القرآن الكريم قد أظهر بلاغة أيما بلاغة، منذ ذلك العصر الى زماننا هذا، حتى انه حطّ من قيمة "المعلقات السبع" المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء، كتبت بالذهب وعُلّقت على جدران الكعبة، حتى ان ابنة "لبيد" 1 أنزلت قصيدة أبيها من على جدار الكعبة قائلة:
_____________________
1
لبيد بن ربيعة العامري أحد الشعراء الفرسان الاشراف في الجاهلية، ادرك الاسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم ويعدّ من الصحابة ومن المؤلفة قلوبهم، وترك الشعر، وهو احد أصحاب المعلقات، وكان كريماً .. (الاعلام للزركلي5/240).- المترجم

الشعاع السابع - ص: 175
أما وقد جاءت الآيات فليس لمثلك هنا مقام".
وكذا عندما سمع أعرابيٌّ أديب الآية الكريمة: (فاصْدَع بما تُؤمَر) (الحجر: 94) خرّ ساجداً فقيل له:
- أأسلمتَ ؟
قال:
- لا، بل سجدت لبلاغة هذه الآية.
وكذا، فان آلافاً من أئمة البلاغة وفحول الأدب، امثال: عبد القاهر الجرجاني 1، والسكاكي 2، والزمخشري 3، قد اقرّوا بالاجماع والاتفاق:
"
ان بلاغة القرآن فوق طاقة البشر ولايمكن أن تُدرك".
وكذا، فان القرآن الكريم منذ نزوله - وما زال - يتحدى كل مغرور ومتعنت من الادباء والبلغاء، وينال من عتوهم وتعاليهم، تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله.. او ان يرضوا بالهلاك والذل في الدنيا والآخرة...
وبينما يعلن القرآن تحديه هذا، اذا ببلغاء ذلك العصر العنيدين قد تركوا السبيل القصيرة وهي المضاهاة والمعارضة والاتيان بسورة من مثله، سالكين السبيل الطويلة، سبيل الحرب التي تأتي بالويل والدمار على الارواح والاموال، مما يثبت اختيارهم هذا انه لا يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة.
وكذا، ففي متناول الايدي ملايين الكتب العربية التي كتبها اولياء القرآن بشغف اقتباس اسلوبه وتقليده او كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كتب
_____________________

1
(ت 471هـ/ 1078م) امام في اللغة والبلاغة، له مصنفات. منها: كتاب المغني (30مجلد) المقتصد (3مجلدات) اعجاز القرآن، المفتاح، دلائل الاعجاز، اسرارالبلاغة.

2
ابو يعقوب يوسف بن ابي بكر (ت 626هـ/ 1228م) من اعلام البلاغة، مؤلف كتاب "المفتاح " الذي يعد أوسع ما كتب في البيان في زمانه وله شروح كثيرة. وضع علوم البلاغة في قالبها العلمي. مولده ووفاته بخوارزم .- المترجم.

3
هو ابو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى جارالله. ولد بزمخشر سنة 467 توفى بعد رجوعه من مكة المكرمة سنة 538هـ. إمام عصره فى اللغة والتفسير، له "الكشاف عن حقائق التنزيل " و "الفائق فى غريب الحديث " و "المفصل " فى النحو و "اساس البلاغة " وغيرها. - المترجم.

الشعاع السابع - ص: 176
ويكتب، مع التقدم والرقي في الاسلوب الناشئ من تلاحق الافكار - ومنذ ذلك الوقت والى الآن - لايمكن ان يضاهي او يدانى أيّ منها اسلوب القرآن، حتى لو استمع رجل عامي لما يتلى من القرآن الكريم لاضطر الى القول: ان هذا القرآن لايشبه أياً من هذه الكتب، ولن يستطيع انسان كائنا من كان، ولا كافر، ولا أحمق ان يقول: انها اسفل الجميع، فلابد اذاً ان مرتبة بلاغته فوق الجميع. حتى قد تلا أحدهم الآية الكريمة: (سَبَّحَ لله ما في الَّسمواتِ والارضِ )(الحديد:1) ثم قال:
- "اني لا أرى الوجه المعجز الذي ترونه في بلاغة هذه الآية الكريمة".
فقيل له:
- "عدْ بخيالك - كهذا السائح - الى ذلك العصر واستمع اليها هناك".
وبينما هو يتخيل نفسه هناك فيما قبل نزول القرآن الكريم، اذا به يرى ان موجودات العالم ملقاة في فضاء خالٍ شاسع دون حدود، في دنيا فانية زائلة، وهي في حالة يائسة مضطربة تتخبط في ظلمة قاتمة، وهي جامدة دون حياة وشعور، وعاطلة دون وظيفة ومهام. ولكن حالما أنصت الى هذه الآية الكريمة وتدبر فيها اذا به يرى ان هذه الآية قد كشفت حجاباً مسدلاً عن وجه الكون وعن وجه العالم كله حتى بان ذلك الوجه مشرقاً ساطعاً، فألقى هذا الكلام الازلي والامر السرمدي درساً على جميع ارباب المشاعر المصطفين حسب العصور كلها ومظهراً لهم:
ان هذا الكون بحكم مسجد كبير، وان جميع المخلوقات - ولاسيما السموات والارض - منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكل وظائفهم بكل شوق ونشوة، وهم ينجزونها بكل سعادة وإمتنان..
هكذا شاهد السائح سريان مفعول هذه الآية الكريمة في الكون، فتذوق مدى سمو بلاغتها، وقاس عليها سائر الآيات الكريمة، فأدرك السر في هيمنة بلاغة القرآن الفريدة لنصف الارض وخمس البشرية، وعلم حكمة واحدة من آلاف الحكم لديمومة جلال سلطان القرآن الكريم بكل توقير وتعظيم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان دون إنقطاع.
الشعاع السابع - ص: 177
النقطة الرابعة: ان القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات اصالة وحقيقة بحيث ان التكرار الكثير - المسبب للسآمة حتى من أطيب الاشياء - لايورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته. وهذا أمر مسلّم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الامثال.
وكذا فقد أظهر القرآن الكريم من الطراوة والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرناً من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شاباً نضراً وكأنه يخاطبه. وكل طائفة علمية مع انهم يجدونه في متناول ايديهم وينهلون منه كل حين ويقتفون أثر اسلوب بيانه، يرونه محافظاً دائماً على الجدة نفسها في اسلوبه والفتوة عينها في طُرز بيانه.
النقطة الخامسة: ان القرآن الكريم قد بسط احد جناحيه نحو الماضي والآخر نحو المستقبل، فالحقيقة التي اتفق عليها الانبياء السابقون هي جذر القرآن وأحد جناحيه، فهو يصدقهم ويؤيدهم، وهم بدورهم يؤيدونه ويصدقونه بلسان حال التوافق.
وكذلك فان الاولياء الصالحين والعلماء الاصفياء هم ثمار استمدت الحياة من شجرة القرآن الكريم، فتكاملهم الحيوي يدل ان شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء وذات فيض دائم وذات حقيقة واصالة. فالذين انضووا تحت حماية جناحه الثاني، وعاشوا في ظلاله من اصحاب جميع الطرق الحقة للولاية، وارباب جميع العلوم الحقة للاسلام يشهدون ان القرآن هو عين الحق ومجمع الحقائق، ولامثيل له في جامعيته وشموليته، فهو معجزة باهرة.
النقطة السادسة: ان الجهات الست للقرآن الكريم منورة مضيئة، مما يُبين صدقه وعدله.
نعم، فمن تحته أعمدة الحجج والبراهين، وعليه تتألق سكة الاعجاز، وبين يديه - هدفه - هدايا سعادة الدارين، ومن خلفه - أي نقطة استناده - حقائق الوحي السماوي، وعن يمينه تصديق ما لايحد من أدلة العقول المستقيمة، وعن يساره الاطمئنان الجاد والانجذاب الخالص والاستسلام التام للقلوب السليمة والضمائر الطاهرة.
الشعاع السابع - ص: 178
واذ تثبت - تلك الجهات الست - ان القرآن الكريم حصن حصين سماوي في الارض لايقوى على خرقه خارق ولاينفذ من جداره نافذ، هناك ايضاً ستة "مقامات" تؤكد انه الصدق بذاته والحق بعينه، وانه ليس بكلام بشر قط، وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأول تلك المقامات تأييد مصرّف هذا الكون ومدبّره له، الذي اتخذ اظهار الجميل وحماية البر والصدق ومحق الخداعين وازالة المفترين، سنة جارية لفعاليته سبحانه، فأيَّد سبحانه وصدَّقَ هذا القرآن بما منحه من مقام إحترام وتعظيم وأولاه من مرتبة توفيق وفلاح هو اكثر قبولاً واعلى مرتبة واعظم هيمنة في العالم.
وكذا فان الاعتقاد الراسخ والتوقير اللائق من الذات المباركة صلى الله عليه وسلم نحو القرآن الكريم يفوق الجميع وهو منبع الاسلام وترجمان القرآن، وكونه بين اليقظة والنوم حينما يتنزل عليه الوحي فيتنزل عليه دون ارادته، وعدم بلوغ سائر كلامه شأوه، بل عدم مشابهته له رغم أنه أفصح الناس، وبيانه - بهذا القرآن - بياناً غيبياً لما مضى من الحوادث الكونية الواقعة ولما ستأتي منها مع أميته، من دون تردد وبكل إطمئنان. وعدم ظهور أية حيلة او خطأ او ما شابهها من الاوضاع منه مهما صغرت رغم انه بين أنظار أشد الناس انعاماً لتصرفاته.. فايمان هذا الترجمان الكريم والمبلغ العظيم صلى الله عليه وسلم وتصديقه بكل قوته لكل حكم من احكام القرآن الكريم، وعدم زعزعة اي شئ له مهما عظم يؤيد ويؤكد أن القرآن سماوي وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم.
وكذا فان ارتباط خمس البشرية، بل الشطر الاعظم منهم بذلك القرآن الكريم المشاهد امامهم، إرتباط انجذاب وتدين، واستماعهم اليه بجد وشوق ولهفة، وتوافد الجن والملك والروحانيين اليه والتفافهم حوله عند تلاوته التفاف الفراشة العاشقة للنور بشهادة امارات ووقائع وكشفيات صادقة كثيرة.. كل ذلك تصديق بان هذا القرآن هو محل رضى الكون واعجابه، وان له فيه اسمى مقام واعلاه.
وكذا فان أخذ كل طبقة من طبقات البشر ابتداءً من الغبي الشديد الغباء والعامي، الى الذكي الحاد الذكاء والعالم نصيبها كاملة من الدروس التي يلقيها القرآن الكريم،
الشعاع السابع - ص: 179
وتفهمهم منه اعمق الحقائق، واستنباط جميع الطوائف من علماء مئات العلوم والفنون الاسلامية، وبخاصة مجتهدي الشريعة السمحة ومحققي اصول الدين وعباقرة علم الكلام وامثالهم، واستخراجهم الاجوبة الشافية لما يحتاجونه من المسائل التي تخص علومهم من القرآن الكريم، انما هو تصديق بأن القرآن الكريم هو منبع الحق ومعدن الحقيقة.
وكذا فان عدم معارضة ادباء العرب الذين هم في المقدمة في الادب ولاسيما الذين لم يدخلوا الاسلام - مع رغبتهم الملحة في المعارضة - وعجزهم عجزاً تاماً امام وجه واحد - وهو الوجه البلاغي - من بين وجوه اعجاز القرآن السبعة الكبرى، وعجزهم عن الاتيان بسورة واحدة فقط من سور القرآن الكريم، وصدودهم عن ذلك، وعدم معارضته ممن اتى من مشاهير البلغاء وعباقرة العلماء لحد الان لأي وجه من وجوه الاعجاز - مع رغبتهم في ذيوع صيتهم بالمعارضة - وسكوتهم عاجزين عن ذلك، لهو حجة قاطعة على ان القرآن الكريم معجزة وفوق طاقة البشر.
نعم ان قيمة الكلام وعلوه وبلاغته تتوضح في بيان: "مَن قاله ؟ ولمن قاله ؟ ولِمَ قاله ؟".
وبناء على هذا فان القرآن الكريم لم يأت ولن يأتي مثله ولن يدانيه شئ قط؛ ذلك لان القرآن الكريم انما هو خطاب من رب العوالم جميعاًً وكلام من خالقها، وهو مكالمة لايمكن تقليدها - باي جانب من الجوانب - وليس فيه امارة تومئ بالتصنع. ثم ان المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعاً، وهو اكرم من اصبح مخاطباًً وارفعهم ذكراً، وهو الذي ترشح الاسلام العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى عرج به الى قاب قوسين او ادنى فنزل مكللاً بالمخاطبة الصمدانية. ثم ان القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الايمان السامي الواسع الذي يضم الحقائق الاسلامية كلها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلباًً إياه كمن يقلب خارطة او ساعة امامه. معلّماً الانسان صانعه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته، فلاريب ولابد انه لايمكن الاتيان بمثل هذا القرآن ابداً، ولايمكن مطلقاً ان تنال درجة إعجازه.
الشعاع السابع - ص: 180
وكذا فان الآلاف من العلماء الافذاذ الذين قام كل منهم بكتابة تفسير للقرآن الكريم في مجلدات بلغ قسم منها ثلاثين او اربعين مجلداًً بل سبعين مجلداً، وبيانهم باسانيدهم ودلائلهم لما في القرآن الكريم مما لايحد من المزايا السامية والنكات البليغة والخواص الدقيقة والاسرار اللطيفة والمعاني الرفيعة والاخبارات الغيبية الكثيرة بانواعها المختلفة، واظهار كل هؤلاء لتلك المزايا واثباتهم لها دليل قاطع على أن القرآن الكريم معجزة إلهية خارقة وبخاصة اثبات كل كتاب من كتب رسائل النور البالغة مائة وثلاثين كتاباً لمزية من مزايا القرآن الكريم ولنكتة من نكاته البديعة إثباتاً قاطعاً بالبراهين الدامغة، ولاسيما رسالة "المعجزات القرآنية" و "المقام الثاني من الكلمة العشرين" الذي يستخرج كثيراً من خوارق الحضارة من القرآن الكريم امثال القطار والطائرة. و "الشعاع الاول" المسمى "بـالاشارات القرآنية" الذي يبين اشارات آيات الى رسائل النور والى الكهرباء، والرسائل الصغيرة الثمانية المسماة "بالرموز الثمانية" التي تبين مدى الانتظام الدقيق في حروف القرآن الكريم، وكم هي ذات اسرار ومعان غزيرة، والرسالة الصغيرة التي تبين خواتيم سورة الفتح وتثبت إعجازها بخمسة وجوه من حيث الاخبار الغيبي، وامثالها من الرسائل.. فان إظهار كل جزء من أجزاء رسائل النور لحقيقة من حقائق القرآن الكريم، ولنور من انواره كل ذلك تصديق وتأكيد بان القرآن الكريم ليس له مثيل، وانه معجزة وخارقة، وانه لسان الغيب في عالم الشهادة هذا، وانه كلام علام الغيوب.
وهكذا، لاجل هذه المزايا والخواص للقرآن الكريم التي اشير اليها في ست نقاط، وفي ست جهات، وفي ستة مقامات، دامت حاكميته النورانية الجليلة وسلطانه المقدس المعظم، بكمال الوقار والاحترام مضيئة وجوه العصور ومنورة وجه الارض ايضاً، طوال ألف وثلاثمائة سنة. ولاجل تلك الخواص ايضاً نال القرآن الكريم ميزات قدسية حيث ان لكل حرف من حروفه عشرة أثوبة وعشر حسنات في الاقل، وعشر ثمار خالدة، بل ان كل حرف من حروف قسم من الآيات والسور يثمر مائة او ألفاً او اكثر، من ثمار الآخرة، ويتصاعد نور كل حرف وثوابه وقيمته في الاوقات المباركة من عشرة الى المئات.. وامثالها من المزايا القدسية قد فهمها سائح العالم، فخاطب قلبه قائلاً:
الشعاع السابع - ص: 181
- حقاً أن هذا القرآن الكريم المعجز في كل ناحية من نواحيه قد شهد باجماع سوره وباتفاق آياته، وبتوافق أسراره وأنواره، وبتطابق ثماره وآثاره، شهادةً ثابتة بالدلائل على وجود واجب الوجود، وعلى وحدانيته سبحانه، وعلى صفاته الجليلة، وعلى اسمائه الحسنى، حتى ترشحت الشهادات غير المحدودة لجميع اهل الايمان من تلك الشهادة.
وهكذا، فقد ذكرت في المرتبة السابعة عشرة من المقام الاول اشارة قصيرة لما تلقاه السائح، من درس التوحيد والايمان من القرآن الكريم:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحد الاحد الذي دلّ على وجوب وجـوده في وحدتهِ: القرآن المعجز البيان، المقبول ُ المرغوبُ لأجناس المَلَك والانس والجان، المقروء كل آياته في كل دقيقة بكمال الاحترام، بألسنة مئات الملايين من نوع الانسان، الدائم سلطنته القدسية على اقطار الارض والاكوان، وعلـى وجوه الاعصار والزمان، والجاري حاكميته المعنوية النورانية على نصف الارض وخُمس البشر في اربعة عشـر عصراً بكمال الاحتشام.. وكذا شَهدَ وبرهن باجماع سـورهِ القدسية السماوية، وبـاتفاق آيـاته النورانية الإلهية، وبتوافق أسراره وأنواره وبتطابق حقائقه وثمراته وآثاره بالمشـاهدة والعيان].
* * *
ثم ان السائح والمسافر المذكور قد علم يقيناً ان الايمان الذي توصل اليه هو اعظم رأس مال الانسان؛ اذ لايملّكه - وهو الفقير - مزرعة فانية ومسكناً مؤقتاً، بل يملّكه الكون العظيم، ويجعله لائقاً ليظفر بملك واسع باقٍ اوسع من الدنيا، ويوجد له - وهو الانسان الفاني - لوازم حياة أبدية خالدة؛ فينقذه - وهو المسكين المنتظر لمشنقة الاجل - من النهاية المرعبة والاعدام الابدي، فاتحاً له خزائن السعادة السرمدية، لذا خاطب السائح نفسه قائلاً:
"
هيا تقدمي ! لنفز مرتبة اخرى من مراتب الايمان التي لايحصرها حد.. فلنطلع على مجموع الكون، ولننصت اليه لنرى ماذا يقول هو ايضاً، كي نضفي نوراً على تلك الدروس التي تلقيناها من أركان الكون واجزائه".

الشعاع السابع - ص: 182
فنظر السائح الى مجموع الكون بمنظار واسع محيط قد استعاره من القرآن الكريم، فرأى ان هذا الكون منظم تنظيماً بديعا، ومنطوٍ على معاني جمة وفيرة بحيث يبدو على صورة كتاب سبحاني مجسم، او قرآن رباني جسماني، او قصر مزين صمداني، او بلد منتظم رحماني؛ اذ ان جميع سور ذلك الكتاب وآياته وكلماته، بل حروفه وأبوابه وفصوله، وصحائفه وسطوره، وما يجري على الجميع من "المحو والاثبات" ذي المعنى اللطيف، ومن التحويل والتغيير ذي الحكمة والابداع.. كل ذلك بالاجماع يفيد بداهة وجود عليم بكل شئ، قدير على كل شئ. ويعبّر عن وجود بارئ ذي جلال، ومصور ذي كمال، يرى كل شئ في كل شئ، ويعلم علاقة كل شئ بكل شئ، فيراعيه.
وهكذا، فان جميع ما في الكون باركانه، وانواعه، واجزائه، وجزئياته، وساكنيه، ومشتملاته، ووارداته، ومصاريفه، وتبديلاته ذات المصلحة، وتجديداته ذات الحكمة، يفيد ويفهّم بالاتفاق وجود ووحدانية خالقٍ رفيع الدرجات، وصانع ليس كمثله شئ، يعمل بقدرة لاحد لها، وبحكمة لانهاية لها.
وتثبت شهادة الكون العظيمة هذه - على وجود الخالق ووحدانيته - حقيقتان عظيمتان واسعتان متناسبتان مع سعة الكون وعظمته، وهما:
الحقيقة الاولى: وهي حقيقة الحدوث والامكان التي رآها حكماء الاسلام والعلماء الدهاة لاصول الدين وعلم الكلام، واثبتوها ببراهين دامغة.
فقد قالوا: "لما كان في العالم، وفي كل شئ، تغيّر وتبدل، فانه فانٍ وحادث، ولايكون قديماً. ولانه حادث، فلابد له من صانع مُحدِث. ولما كان كل شئ على السواء ان لم يكن في ذاته سبب وجودي وعدمي فلن يكون واجباً ولا أزلياً..". وقد اثبت ايضاً ببراهين قاطعة انه لايمكن ايجاد الاشياء بعضها للبعض الآخر بالدور والتسلسل الذي هو باطل ومحال. فيلزم اذاً وجود واجب للوجود، يمتنع نظيره، ومحالٌ مثيله، كل ما عداه ممكن، وكل ما سواه مخلوق.
نعم ان حقيقة الحدوث قد استولت على الكون، فالعين ترى اكثرها، والعقل يرى القسم الآخر منها؛ ذلك لاننا نشاهد انه مع حلول الخريف في كل سنة يموت عالم
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 183
عظيم جداً، فتموت معه أفراد غير محدودة لمائة ألف نوع من النباتات والحيوانات الصغيرة، كل نوع منه بحكم كون ذي حياة. ولكن ذلك الموت يجري في غاية الانتظام، بحيث تُودع تلك الافراد بذورها ونواها وبويضاتها - التي تصبح مداراً لحشرها ونشورها، والتي هي بذاتها معجزات الرحمة والحكمة وخوارق القدرة والعلم - تُودعها امانة لدى حكمة الحفيظ ذي الجلال، وتحت رعايته وحمايته، مسلمةً الى ايديها صحف اعمالها، وبرامج ما قدمت من وظائف، وبعد ذلك تموت.. وبحلول موسم الربيع تبعث باعيانها تلك التي توفيت من الاشجار والاصول والحيوانات الصغيرة. وتُحيا وتخلق امثال ومشابهات قسم اخر منها في أماكنها. فتمثل بذلك مائة ألف مثال ونموذج للحشر الاعظم ومائة ألف دليل عليه. فموجودات الربيع الماضي بنشرها لصحائف ما قامت به من اعمال، وما ادت من وظائف، واعلانها تلك الصحائف في هذا الربيع، تظهر بوضوح مثالاً للآية الكريمة:
(واِذا الصُحُفُ نُشِرَت) (التكوير: 10).
وكذا من جانب الكون ككل؛ ففي كل خريف وفي كل ربيع يموت عالم كبير، ويأتي الى الوجود عالم جديد، وما فيهما من الوفيات والمواليد لأنواع لاتحصى من الاحياء تجري في غاية الانتظام والميزان، حتى كأن الدنيا محط ومنزل، يستضاف فيه الكائنات الحية، فتأتيها عوالم سيّاحة ودنىً سيارة تؤدي فيها وظائفها، ثم ترحل عنها وتغادرها.
وهكذا فان إحداث عوالم ذات حياة، وايجاد كائنات موظفة في هذه الدنيا، إحداثاً وايجاداً بكل علم وحكمة، وميزان وموازنة، وانتظام ونظام، واستعمالها بقدرة، واستخدامها برحمة في المقاصد الربانية، وفي الغايات الإلهية، وفي الخدمات الرحمانية، تدل بالبداهة على وجوب وجود ذاتٍ مقدسة جليلة لاحدّ لقدرتها، ولانهاية لحكمتها، ويظهرها للعقول واضحة كالشمس.
نغلق باب مسائل الحدوث ونحيلها الى رسائل النور وكتب علماء الكلام.
اما جهة "الامكان" فهو الآخر قد استولى على الكون واحاط به، اذ نشاهد ان كل شئ سواء أكان كلياً ام جزئياً كبيراً ام صغيراً، وكل موجود من العرش الى الفرش،
الشعاع السابع - ص: 184
ومن الذرات الى السيارات، إنما يُرسل الى الدنيا، بذاتية خاصة، وبصورة معينة، وبشخصية متميزة، وبصفات خاصة، وبكيفيات حكيمة، وبأجهزة ذات مصالح وفوائد. والحال ان اعطاء تلك الخصوصية، لتلك الذات الخاصة ولتلك الماهية، من بين إمكانات غير محدودة.. وكذا إكساء تلك الصورة المعينة ذات النقوش والعلامات الفارقة المتناسبة، من بين امكانات واحتمالات عديدة بعدد الصور.. وكذا تخصيص تلك الشخصية اللائقة بانتقاء متميز لذلك الموجود المضطرب بين امكانات بقدر اشخاص بني جنسه.. وكذا تمكين صفات خاصة ملائمة ذات مصالح في ذلك المصنوع الذي ليس له شكل والمتردد ضمن امكانات واحتمالات بعدد أنواع الصفات ومراتبها.. وكذا تجهيز ذلك المخلوق بتلك الكيفيات ذات الحكمة، وتقليده بتلك الاجهزة ذات العناية التي من الممكن ان تكون في طرق شتى وطرز غير محدودة، وهو المتحير السائب بلا هدف ضمن ما لايحد من الامكانات والاحتمالات.. ان جميع هذه الاشارات والدلالات والشهادات، الصادرة من حقيقة "الامكان" تشكل بلاشك أحد جناحي هذه الشهادة العظمى للكون؛ لانه بعدد جميع الممكنات الكلية والجزئية، وبعدد امكانات كل ممكن - مما ذكر - من ماهية وهوية، وما له من هيئة وصورة، وما يتميز به من صفة ووضعية، هناك اشارات ودلالات وشهادات على وجود واجب الوجود سبحانه، الذي يخصّص ويُرجّح ويعيّن ويحدِث، ولاحد لقدرته، ولانهاية لحكمته، ولا يخفى عليه شئ ولاشأن، ولا يعجزه شئ، ولا يعزب عنه شئ، فاكبر شئ عنده يسير كاصغره. وهو القادر على ايجاد ربيع بيسر إيجاد شجرة، وعلى ايجاد شجرة بسهولة إيجاد بذرة.
ولما كانت أجزاء رسائل النور (وبخاصة الكلمة الثانية والعشرين، والثانية والثلاثين، والمكتوب العشرين والثالث والثلاثين) قد أثبتت إثباتاً كاملاً، وأوضحت إيضاحاً تاماً شهادة الكون بكلا جناحيها، وبكلتا حقيقتيها، لذا نختم هذه المسألة الطويلة جداً باحالتها الى تلك الرسائل.
اما الجناح الثاني للشهادة الكبرى الكلية الصادرة من مجموع الكون فهو:
الشعاع السابع - ص: 185
الحقيقة الثانية: حقيقة التعاون
ان حقيقة التعاون تشاهد فيما هو خارج عن طوق المخلوقات الساعية لحفظ وجودها ومهامها، وصيانة حياتها - ان كانت ذات حياة - وايفاء وظيفتها ضمن هذه الانقلابات المضطربة المستمرة والتحولات المتلاطمة الدائمةً. فمثلاً: ان سعي العناصر لامداد الاحياء، وبخاصة مدّ السحاب للنباتات، ومساعدة النباتات بدورها للحيوانات، ومعاونة الحيوانات للانسان، واللبن السائغ في الأثداء والمتدفق لاطعام الصغار، وتسليم حاجات الاحياء وارزاقها الكثيرة جداً والخارجة عن طاقتها وطوقها الى أيديها من حيث لاتحتسب، وجري الذرات الغذائية لبناء خلايا البدن.. وما شابهها من الامثلة الغزيرة لحقيقة التعاون الجارية بالتسخير الرباني وبالاستخدام الرحماني، تُظهر بجلاء ربوبية رب العالمين العامة المحيطة ورحيميته الواسعة الشاملة والذي يدير الكون الواسع برمته بسهولة ادارة قصر بسيط.
نعم ان اظهار الاشياء المتعاونة - وهي جامدة وبلا شعور ولا شفقة - اوضاعاً تنم عن الشفقة وتتسم بالشعور فيما بينها دليل وأيّ دليل على أنها تُدفع دفعاً للامداد والمعاونة فتجري بقوة رب ذي جلال، وبرحمة رحيم مطلق الرحمة، وبأمر حكيم مطلق الحكمة. وهكذا فان (التعاون) العام الجاري في الكون و(الموازنة) العامة السارية بكمال الانتظام و (المحافظة) الشاملة، ابتداء من المجرات والسيارات الى اجهزة الكائن الحي وأعضائه الدقيقة بل الى ذرات جسمه و (التزيين) الجاري قلمه من وجه السموات المتلألئ الى وجه الارض البهيج، بل الى وجه الازهار الجميلة و(التنظيم) الحاكم ابتداء من درب التبانة الى المنظومة الشمسية والى ثمار الذُرة والرمان وأمثالهما و (التوظيف) القائم ابتداءً من الشمس والقمر والعناصر والسحب الى النحل والنمل.. وامثالها من الحقائق العظيمة جداً، والشاهدة شهادة متناسبة مع عظمتها، تشكل الجناح الثاني لشهادة الكون على وجوده سبحانه ووحدانيته وتثبتها.
فما دامت رسائل النور قد اثبتت هذه الشهادة العظمى وبيّنتها، لذا نكتفي هنا بهذه الاشارة القصيرة جداً.
الشعاع السابع - ص: 186
وهكذا ذكرت في المرتبة الثامنة عشرة من المقام الاول اشارة قصيرة لما تلقاه سائح الدنيا من درس الايمان من الكون:
[لاإله إلاّ الله الواجب الوجود، الممتنع نظيره، الممكن كل ما سـواه، الواحد الاحد، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: هذه الكائنات، الكتاب الكبير المجسم والقرآن الجسماني المعظّم والقصر المزين المنظم، والبلد المحتشم المنتظم، باجماع سـورهِ وآياته وكلماتهِ وحروفهِ وابوابهِ وفصولهِ وصحفهِ وسطورهِ، واتفاق ِ اركانه وانواعهِ واجزائهِ وجزئياتهِ وسكنتهِ ومشتملاتهِ ووارداتهِ ومصارفهِ، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة الحدوث والتغير والامكان، باجماع جميع عُلماء علم الكلام، وبشهادة حقيقة تبديل صـورتـهِ ومشـتملاته بالحكمة والانتظام، وتجديدِ حروفهِ وكلماتهِ بالنظام والميزان، وبشهادة عظمة إحــاطةِ حقيقة: التعاون، والتجاوب، والتســاند، والتداخل، والموازنــة، والمحافظة، في موجوداته بالمشـاهدة والعيـان].
* * *
ثم ان السائح الذي أتى الى الدنيا وبحث عن خالقها وصعد في ثماني عشرة مرتبة وبلغ عرش الحقيقة بمعراج إيماني، ارتقى من مقام المعرفة الغيابية الى مقام الحضور والمخاطبة. فخاطب هذا الولوع المشتاق روحه قائلاً:
ان الحمد والثناء الغيابيين من بدء سورة الفاتحة الى كلمة "إياك" يورثان طمأنينة تصعد بالانسان وترقيه الى مرتبة المخاطبة بـ"إيَّاكَ" فعلينا إذاً ان نسأل من نبحث عنه، منه مباشرة، ونَدَع البحث الغيابي عنه، إذ ينبغي السؤال عن الشمس - التي تنور كل شئ - من الشمس نفسها. لان الذي يُظهرُ كل شئ ويوضحه لاشك انه يظهر نفسه اكثر من كل شئ؛ لذا فكما يمكننا أن نرى الشمس ونتعرف عليها من أشعتها وضيائها، يمكننا ايضاً أن نسعى - حسب قابليتنا - في التعرف على خالقنا سبحانه وتعالى من تجليات اسمائه الحسنى ومن أنوار صفاته الجليلة.
وسنبين في هذه الرسالة بياناً مجملاً ومختصراً حقيقتين فقط من بين الحقائق الغزيرة والتفصيلات المسهبة لمرتبتين من المراتب غير المتناهية لطريقين من الطرق الكثيرة لهذا المقصد:
الشعاع السابع - ص: 187
الحقيقة الاولى: حقيقة الفعالية المستولية. تلك الفعالية المهيمنة على الكون، والمشاهدة امام اعيننا. وهي التي تدير، وتبدل، وتجدد، جميع الموجودات المحيطة والدائمة والمنتظمة والهائلة والسماوية والارضية. والتي تفضي الى الشعور بحقيقة تظاهر الربوبية - بداهة - ضمن حقيقة تلك الفعالية الحكيمة بجميع جهاتها. وهذا الشعور يسوق الى ادراك تبارز الالوهية بالضرورة ضمن حقيقة تظاهر الربوبية المشعة بالرحمة بجميع جهاتها.
اي يُستشعر - كأنه يُرى - افعال فاعل قدير وعليم، من هذه الفعالية الحكيمة المهيمنة الدائمة ومن وراء ستارها. ويُعلم بداهة - الى درجة الاحساس - الاسماء الإلهية الحسنى المتجلية في كل شئ، من هذه الافعال الربانية ذات التدبير والتربية ومن وراء ستارها، ويُعرف بعلم اليقين، بل بعين اليقين، بل بحق اليقين وجود الصفات السبعة القدسية وتحققها من هذه الاسماء الحسنى المتجلية بالجلال والجمال ومن وراء ستارها. ويُعلم كذلك بعلم قاطع وبالبداهة والضرورة وبعلم اليقين وبشهادة جميع المصنوعات، من التجليات غير المتناهية لهذه الصفات السبعة القدسية، ذات الحيوية والقدرة والعلم والسمع والبصر والارادة والكلام، وجود موصوف واجب الوجود، ومسمىً واحد أحد، وفاعل فرد صمد. فيكون وجوده سبحانه للبصيرة أظهر من الشمس للبصر واسطع منها، فتدركه حتى كأنها تراه؛ ذلك لأن الكتاب الجميل ذا المعنى اللطيف، والبناء المنتظم المتقن، يستدعيان بداهة فعلي الكتابة والبناء، وفعلي الكتابة الجميلة والبناء المنتظم يستدعيان ايضاً بداهة إسمَي الكاتب والبنّاء، وإسمي الكاتب والبنّاء يستدعيان ايضاً بداهة صنعة الكتابة والبناء وصفتيهما، وهذه الصنعة والصفات تستلزمان بداهة ذاتاً تكون موصوفة وصانعة، ومسمىً، وفاعلة، اذ كما لايمكن ان يكون هناك فعل دون فاعل، ولا اسم دون مسمى، كذلك لايمكن ان تكون صفة دون موصوف، ولا صنعة دون صانع.
وهكذا يتقرر بناء على هذه الحقيقة والقاعدة ان هذا الكون - بموجوداته كافة - قد كُتب بقلم القدر، وبُني بمطرقة القدرة. فكُتب فيه ما لايحد مما هو بحكم الكتب والرسائل ذات المعاني اللطيفة. وبني فيه ما لا ينتهي مما هو بمثابة بنايات وقصور. فيشير كل واحدة منها اشارات لاحدّ لها بآلاف الأوجه، وتشهد معاً بوجوه غير
الشعاع السابع - ص: 188
محدودة شهادات لا نهاية لها على وجوب وجود ووحدانية ذاتٍ جليلة أزلية أبدية، هي موصوف تلك الصفات السبعة المحيطة القدسية ومعدنها؛ بالافعال الربانية والرحمانية غير المتناهية، وبجلوات غير محدودة لألف اسم واسم من الاسماء الحسنى التي هي منشأ تلك الافعال، وبالتجليات غير المتناهية للصفات السبعة السبحانية التي هي منبع تلك الاسماء الحسنى.. وكذا فان ما في تلك الموجودات كلها من جميع اوجه الحسن والجمال وانماط النفاسة والكمال، ومن جمال قدسي يليق بتلك الافعال الربانية والاسماء الإلهية والصفات الصمدانية والشؤون السبحانية ويوافقها، كل منه - بحد ذاته - يشهد وبمجموعه يشهد بداهة على الجمال المقدس والكمال المقدس لذاته سبحانه وتعالى.
وهكذا فان حقيقة الربوبية المتظاهرة ضمن حقيقة الفعالية المستولية تعرّف نفسها وتبيّنها بشؤونها وتصرفها في الخلق والايجاد والصنع والابداع التي تتم بالعلم والحكمة، وتظهرها في التقدير والتصوير والتدبير والادارة التي تتسم بالنظام والميزان، وتبرز في التحويل والتبديل والتنزيل والتكميل التي تنجز بالقصد والارادة، وتوضحها في الاطعام والانعام والاكرام والاحسان التي تُعطى بالشفقة والرحمة.
وان حقيقة تبارز الالوهية ايضاً التي تُحسّ وتوجد بداهة ضمن حقيقة تظاهر الربوبية تعرّف نفسها وتفهمها ايضاً بتجليات الاسماء الحسنى ذات الرحمة والكرم، وبالتجليات الجلالية والجمالية للصفات الثبوتية السبعة التي هي: "الحياة" و "العلم" و "القدرة" و "الارادة" و "السمع" و "البصر" و "الكلام".
نعم فكما ان صفة "الكلام" تعرّف الذات الاقدس سبحانه وتعالى بالوحي والالهامات، فان صفة "القدرة" كذلك تعرّف ذاته جل وعلا بآثارها البديعة التي هي بمثابة كلماتها المجسّمة التي تصف قديراً ذا جلال، وتعرّفه باظهارها الكون من اقصاه الى اقصاه بماهية فرقان جسماني.
وان صفة "العلم" ايضاً تعرّف ذات الواحد الاحد الموصوف، بقدر جميع المصنوعات الحكيمة المنتظمة الموزونة، وبعدد جميع المخلوقات التي تدار وتدبّر وتزيّن وتمّيز بالعلم.
الشعاع السابع - ص: 189
اما صفة "الحياة" فان جميع الآثار الدالة على "القدرة" والصور والاحوال ذات الانتظام والحكمة والميزان والزينة، التي تنبئ عن وجود "العلم" وجميع الدلائل التي تخبر عن بقية الصفات الجليلة، مع دلائل صفات "الحياة" نفسها تدل على تحقق صفة "الحياة". والحياة نفسها كذلك مع جميع ادلتها تلك، تبرز جميع ذوي الحياة التي هي بحكم مراياها، وتحوّل الكون برمته الى صورة مرآة كبيرة جداً متكونة من مرايا غير محدودة متبدلة دائماً ومتجددة باستمرار لاجل إظهار التجليات البديعة والنقوش الرائعة المتنوعة جديدة فتية في كل حين.
وقياساً على هذا فان صفات (البصر) و (السمع) و (الارادة) و (الكلام) كل منها تعرّف الذات الاقدس تعريفاً واسعاً جداً بسعة الكون وتفهمّها. وان تلك الصفات مثلما انها تدل على وجود ذاته جل وعلا، فهي تدل كذلك بداهة على وجود الحياة وتحققها، وعلى انه سبحانه وتعالى "حي"؛ ذلك لان العلم علامة الحياة، والسمع أمارة الحيوية، والبصر يخصّ الاحياء، والارادة تكون مع الحياة، والقدرة الاختيارية توجد في ذوي الحياة، أما التكلم فهو شأن الاحياء المدركين.
وهكذا يفهم من هذه النقاط: ان لصفة "الحياة" أدلة وبراهين تبلغ سبعة أضعاف سعة الكون، تعرّف وجودها ووجود موصوفها "الحي" حتى اصبحت "الحياة" اساس جميع الصفات ومنبعها، ومصدر الاسم الاعظم ومداره..
وحيث ان رسائل النور قد أوضحت شيئاً من هذه الحقيقة الاولى واثبتتها ببراهين دامغة، نكتفي حالياً بهذه القطرة المذكورة من هذا البحر.
الحقيقة الثانية: هي التكلم الإلهي القادم من صفة الكلام.
إن الكلام الإلهي سبحانه لانهاية له، وذلك بسر الآية الكريمة: (قل لو كان البحرُ مِداداً لكلماتِ ربي) (الكهف: 109)
فالكلام أظهر دليل على معرفة وجود المتكلم، اي أن هذه الحقيقة (التكلم الإلهي) تشهد شهادات غير متناهية على وجود المتكلم الازلي سبحانه وعلى وحدانيته. ولقد جاءت شهادتان قويتان لهذه الحقيقة بما بُيّن في المرتبتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من هذه الرسالة من حيث الوحي والالهام، وجاءت شهادة اخرى
الشعاع السابع - ص: 190
واسعة في المرتبة العاشرة منها حيث أشير الى الكتب المقدسة السماوية، وهناك شهادة اخرى ساطعة وباهرة وجامعة هي في المرتبة السابعة عشرة حيث القرآن الكريم المعجز. فنحيل بيان هذه الحقيقة وشهادتها الى تلك المراتب.
وهكذا فقد كانت أنوار واسرار الآية الكريمة:(شَهد الله أنه لاإله إلاّ هو والملئكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسطِ لا إله إلاّ هو العزيزُ الحكيم) (آل عمران: 18) التي اعلنت هذه الحقيقة إعلاناً معجزاً، وافادت شهادتها مع شهادة بقية الحقائق، كانت كافية ووافية لصاحبنا السائح حتى انه لم يستطع ان يتجاوزها.
فذكرت في المرتبة التاسعة عشرة من المقام الاول إشارة لمعانٍ مختصرة لما تلقاه هذا المسافر من درس في هذا المقام القدسي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحد الاحد، له الاسماء الحسنى، وله الصفات العليا، وله المثل الاعلى، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: الذاتُ الواجـب الوجـود، باجماع جميع صفاتِهِ القدسيّةِ المحيطة، وجميع اسمائه الحسـنى المتجلية، وبـاتفاق جميع شؤوناته وافعاله المتصرفةِ، بشهادة عظمةِ حقيقةِ تبارزِ الالوهية في تظاهر الربوبية، في دوام الفعالية المستولية، بفعل الايجاد والخلق والصنع والابداع بارادةٍ وقدرةٍ، وبفعل ِالتقدير والتدبير والتدوير باختيار وحكمةٍ، وبفعل التصريف والتنظيم والمحافظة والادارة والاعاشة بقصدٍ ورحمةٍ، وبكمال الانتظام والموازنةِ. وبشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ اسرار:
(شَهِدَ الله أنه لا إله إلاّ هو والملئكةُ وأولوا العلمِ قائماً بالقسط لاإله إلاّ هو العزيزُ الحكيم)].
* * *
الشعاع السابع - ص: 191
تنبيه
إن كل حقيقة من الحقائق الشاهدة لتسع عشرة مرتبة من مراتب الباب الاول للمقام الثاني المذكور آنفاً، كما تدل على وجوب الوجود بتحققها ووجودها، كذلك تدل باحاطتها على الوحدة والاحدية. الاّ انها عدّت "دلائل وجوب الوجود" حيث أثبتت صراحة الوجود مقدماً.
أما الباب الثاني للمقام الثانى فلقيامه باثبات التوحيد صراحة أولاً، واثبات الوجود ضمنه، فقد اطلق عليه "براهين التوحيد". وإلاّ فكلاهما - أي الباب الاول والثاني - يثبتان الوجود والتوحيد معاً، ولكن لأجل التمييز بينهما يكرر في الباب الاول فقرة "بشهادة عظمة احاطة حقيقة"، وفي الباب الثاني فقرة "بمشاهدة عظمة احاطة حقيقة"، إشارة للوحدانية الظاهرة الجلية، وكأنها مشاهدة.
ولقد عزمت على توضيح مراتب الباب الثاني القابل، كما هو في الباب الاول، ولكن موانع بعض الاحوال اضطرتنى الى الاختصار والاجمال؛ لذا نحيل الى رسائل النور لاستيفاء حقه من البيان والوضوح.
الشعاع السابع - ص: 192
الباب الثاني
براهين التوحيد
ان ذلك المسافر الذي أُرسل الى الدنيا لأجل الايمان، والذي قـام بسـياحة فكرية في عالم الكائنات للاسـتفسـار عن خالقه من كل شئ، والتعرف على ربِّه في كل مكان، وترسخ ايمانه بـدرجة حق اليقين، بوجوب وجود إلهه الذي يبحث عنه خاطب هذا السائح عقله قائلاً:
هلّم لنخرج معاً في سياحة اخرى جديدة لنَرى من خلالها براهيـن تقودنا الى وحدانية خالقنا الجليل سبحانه وتعالى. وطفقا يبحثان معاً بشوق غامر عن (براهين التوحيد) هذه، فوجدا في أولى المنازل أن هناك أربع حقائق قدسية تستحوذ على الكائنات، وتستلزم التوحيد بدرجة البداهة.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 193
الحقيقة الاولى: الالوهية المطلقة
إن إنهماك كل طائفة من طوائف البشرية بنوع من انواع العبادة وانشغالهم به انشغالاً كأنه فطري.. وقيام سائر ذوي الحياة بل حتى الجمادات بخدماتها ووظائفها الفطرية التي هي بحكم نوع من انواع العبادة.. وكون كلٍ من النعم والآلاء المادية والمعنوية التي تغمر الكائنات وسيلة عبادة وشكر لمعبودية تمدّهم بسبل العبادة والحمد.. واعلان الوحي والالهام ما ترشح وما تجلى معنوياً من الغيب، بمعبودية الاِله الواحد.. كل هذا يثبت بالبداهة تحقق الالوهية الواحدة المطلقة وهيمنتها.
فما دامت حقيقة هذه الالوهية كائنة وموجودة، فلن تقبل إذاً المشاركة معها؛ لأن الذين يقابلون تلك الالوهية (اي المعبودية) بالشكر والعبادة هم ثمرات ذات مشاعر في قمة شجرة الكائنات، لذا فان إمكان وجود آخرين يشدّون انتباه اولئك الشاعرين، ويجذبونهم اليهم، ويجعلونهم ممتنين لهم وشاكرين، محاولين تنسيتهم معبودهم الحق - الذي يمكن أن ينسّى بسرعة لغيابه عن الرؤية ولاحتجابه عن الانظار - مناقض لماهية الالوهية ومناف لمقاصدها القدسية، ولايمكن قبوله إطلاقاً. ومن هنا أفاض القرآن الكريم في رفض الشرك بشدة، وهدد المشركين بعذاب جهنم.
* * *
الحقيقة الثانية: الربوبية المطلقة
ان التصرف العام الشامل من لدن يدٍ غيبية في جميع الكائنات - وبخاصة الاحياء منها - بحكمة ورحمة في تربيتها وفي اعاشتها، اللتين تتمان معاً بالطريقة نفسها، في كل جهة من الجهات، وبصورة غير مأمولة ومتوقعة، مع اكتناف بعضها البعض الآخر، انما هو رشحات وضياء يدل على الربوبية الواحدة المطلقة؛ بل هو برهان قاطع على تحققها.
فما دامت هناك ربوبية واحدة مطلقة فلن تقبل اذاً الشرك، ولا المشاركة قطعاً؛ ذلك لان اهم غايات تلك الربوبية، واقصى مقاصدها هو إظهار جمالها، واعلان كمالها، وعرض صنائعها النفيسة، وابراز بدائعها القيّمة، وقد تجمعت هذه المقاصد جميعها في كل ذي روح، بل حتى في الجزئيات؛ لذا لايمكن أن تقبل الربوبية
الشعاع السابع - ص: 194
الواحدة المطلقة الشرك ولا الشركاء إطلاقاً، إذ إن تدخلاً عشوائياً للشرك في أي موجود من الموجودات - مهما كان جزئياً - وفي أي كائن حي - مهما كان بسيطاً او صغيراً - يفسد تلك الغايات، ويبطل تلك المقاصد، ويصرف الاذهان عن تلك الغايات، وعمن أرادها وقصدها، الى الاسباب. وهذا ما يخالف ماهية الربوبية المطلقة تماماً ويعاديها. فلابد اذاً أن تمنع هذه الربوبية الواحدة المطلقة الشرك وصوره بأي شكل من الاشكال. فارشادات القرآن الكريم الغزيرة المستمرة الى التوحيد، والى التقديس والتنزيه والتسبيح، في آياته الكريمة، وفي كلماته، وحتى في حروفه وهيئاته، نابعة من هذا السر الاعظم.
* * *
الحقيقة الثالثة: الكمالات
نعم؛ ان جميع ما في الكون من حكم سامية ومن جمال خارق ومن قوانين عادلة ومن غايات حكيمة، إنما تدل بالبداهة على وجود حقيقة الكمالات.. وهي شهادة ظاهرة على كمال الخالق سبحانه الذي أوجد هذا الكون من العدم، ويدبّر أمره في كل جهة وناحية، إدارة معجزة جذابة جميلة، فضلاً عن انها دلالة واضحة على كمال الانسان الذي هو المرآة الشاعرة العاكسة لتجليات الخالق جل وعلا.
فما دامت هناك حقيقة الكمالات، ومادام كمال الخالق الذي أوجد الكون في الكمال هو ثابت ومحقق، ومادام كمال الانسان الذي هو أفضل ثمرة للكون، وخليفة الله في الارض، واكرم مصنوع وأحب مخلوق للخالق سبحانه وتعالى؛ حقيقة ثابتة محققة ايضاً. فلابد ان الشرك الذي يحوّل صورة الكون - ذات الكمال والحكمة الظاهرة - الى ألعوبة بيد المصادفة، والى لهو تعبث به الطبيعة، والى مجزرة ظالمة رهيبة لذوي الحياة، والى مأتم مظلم مخيف لذوي الشعور - حيث يهوي فيه كل شئ الى الفناء، وينحدر الى الزوال ويمضي حثيثاً بلا غاية ولاهدف - والذي يردي الانسان الواضحة كمالاته من آثاره الى اسفل درك من دركات الحيوان كأتعس مخلوق وأذله، والذي يسدل الستار على مرايا تجليات كمال الخالق سبحانه - وهي جميع الموجودات الشاهدة على الكمال المقدس المطلق للخالق الكريم - مبطلاً بذلك
الشعاع السابع - ص: 195
نتيجة فعاليته، وخلاّقيته سبحانه !! فلا يمكن ان يستند هذا الشرك على حقيقة ما مطلقاً، ولا يمكن ان يكون موجوداً في الكون ابداً. هذا وان تصدي الشرك للكمالات الإلهية والانسانية والكونية ومعاداته لها وإفساده فيها قد بحث واثبت مفصلاً في "الشعاع الثاني" الذي يبين ثلاث ثمرات للتوحيد وبالاخص في المقام الاول منه مع دلائل قوية قاطعة، فنحيل الى ذلك.
* * *
الحقيقة الرابعة: الحاكمية المطلقة
نعم؛ ان من ينظر نظرة واسعة فاحصة الى الكون، يرى أنه بمثابة مملكة مهيبة جداً؛ في غاية الفعالية والعظمة، وتظهر له كأنه مدينة عظيمة تتم إدارتها ادارة حكيمة، وذات سلطنة وحاكمية في منتهى القوة والهيبة. ويجد أن كل شئ وكل نوع منهمك ومسخر لوظيفة معينة. فالآية الكريمة (ولله جُنودُ السمواتِ والارضِ) (الفتح: 7) تشعر بمعاني الجندية في الموجودات التي تتمثل ابتداءً من جيوش الذرات وفرق النباتات وافواج الحيوانات الى جيوش النجوم. كل اولئك جنود ربانية مجندة لله، فنجد في جميع اولئك الموظفين الصغار جداً، وفي جميع هؤلاء الجنود المعظمة جداً، سريان الأوامر التكوينية المهيمنة، وجريان الاحكام النافذة، وقوانين الملك القدوس، مما يدل دلالة عميقة بالبداهة على وجود الحاكمية الواحدة المطلقة والآمرية الواحدة الكلية.
فمادامت الحاكمية الواحدة المطلقة حقيقة كائنة، وهي موجودة. فلابد ان الشرك لاحقيقة له. ذلك لان الحقيقة الجازمة التي تصرح بها الآية الكريمة (لَو كانَ فيهِما آلهةٌ إلاّ الله لَفَسدَتا) (الانبياء: 22) تفيد بأنه لو تدخلت أيدٍ متعددة في مسألة معينة وكان لها النفوذ، لاختلطت المسألة نفسها. فلو كان في مملكة ما حاكمان، او حتى لو كان في ناحية ما مسؤولان، فان النظام يفسد ويختل وتتحول الادارة الى هرج ومرج. والحال أن هناك نظاماً رائعاً جداً، يسري ابتداء من جناح البعوضة الى قناديل السماء، ومن الخلايا الجسمية الى أبراج الكواكب والسيارات، مما لايمكن ان يكون للشرك فيه أي تدخل ولو كان بمقدار ذرة.
الشعاع السابع - ص: 196
وكذا، الحاكمية نفسها انما هي مقام للعزة، فلن يقبل هذا المقام منافساً وخصيماً، لما فيه من تجاوز لهيبته وكسر لعزته.
نعم، ان إقدام الانسان المحتاج دوماً الى من يعاونه لضعفه وعجزه، على قتل اخيه او بنيه - ظلماً - لأجل حاكمية ظاهرية مؤقتة جزئية؛ يدل على ان الحاكمية لاتقبل المنافسة أبداً. فلئن كان الانسان - وهو العاجز - يقدم على مثل هذا الفعل لاجل حاكمية جزئية، فلا يمكن بحال من الاحوال ان يرضى من هو القدير المطلق الذي يملك الكون كله تدخلاً او شركاً من أحد في حاكميته الذاتية المقدسة التي هي محور ربوبيته المطلقة، والوهيته الحقيقية الكلية.
ونظراً لاثبات هذه الحقيقة المشعة بدلائل قوية في "المقام الثاني" من "الشعاع الثاني" وفي مواضع عدة من "رسائل النور" فاننا نحيل اليها.
وهكذا فان صاحبنا المسافر بعد أن شهد هذه الحقائق الاربع تحققت لديه وحدانية الله سبحانه بدرجة الشهود. فنما إيمانه وارتقى وبدأ يردد بقوة:
"
لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له".
واشارة لما تلقاه من درس في هذا المنزل فقد ذكر في المقام الاول من الباب الثاني:
[لا اِلهَ اِلاّ الله الواحد الاحد الذي دلّ على وحدانيته ووجوب وجـوده مشاهدة عظمة حقيقة تبارز الالوهية المطلقة، وكذا مشـاهدة عظمـة اِحاطة حقيقة تظاهر الربوبية المطلقة المقتضية للوحدة. وكذا مشـاهدة عظمة اِحاطة حقيقة الكمالات الناشئة من الوحدة وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الحاكمية المطلقة المانعة والمنافية للشركة].

* * *
ثم ان ذلك المسافر الذي لايسكن ولايهدأ خاطب قلبه قائلاً:
ان تكرار اهل الايمان "لا إله إلاّ هو" باستمرار وبخاصة المتصوفة منهم، واعلانهم نداء التوحيد، وتذكيرهم به يبين لنا ان هناك مراتب كثيرة جداً للتوحيد. وان التوحيد هو اهم وظيفة قدسية، واحلى فريضة فطرية، واسمى عبادة إيمانية. فما دام الامر
الشعاع السابع - ص: 197
هكذا، فتعال ياقلب لنفتح باباً لمنزلٍ آخر من منازل دار العبرة والامتحان هذه، لنتعرف من خلاله على مرتبة اخرى من مراتب التوحيد؛ لان التوحيد الحقيقي الذي ظللنا نبحث عنه ليس مقصوراً على معرفة نابعة من تصور، بل هو ايضاً ما يقابل التصور في علم المنطق من التصديق الذي هو علمٌ، وهو نتيجة نابعة من البرهان، وهو اسمى من مجرد المعرفة التصورية بكثير.
فالتوحيد الحقيقي انما هو حكمٌ وتصديق واذعان وقبول، بحيث يمكّن المرء من ان يهتدي الى ربه من خلال كل شئ. ويمكّنه من ان يرى في كل شئ السبيل المنورة التي توصله الى خالقه الكريم، فلا يمنعه شئ قط عن سكينة قلبه واطمئنانه، واستحضاره لمراقبة ربّه.
فلو لم يكن الامر هكذا، لأضطر المرء الى ان يمزق حجاب الكائنات ويخرقه - كل مرة - كي يتمكن من التعرف على ربّه !. لذا نادى المسافر قائلاً: هيا بنا إذاً لنطرق باب "الكبرياء والعظمة" ولندخل منزل "الآثار والافعال" وعالم "الايجاد والابداع".. فما ان ولج هذا المنزل حتى رأى ان هنالك "خمس حقائق محيطة" تستحوذ على الكون وتثبت التوحيد وتستلزمه بالبداهة.
* * *
الحقيقة الاولى
حقيقة العظمة والكبرياء
نظراً لتوضيح هذه الحقيقة ببراهين في "المقام الثاني" من "الشعاع الثاني" وفي عدة مواضع من رسائل النور نكتفي هنا بما يأتي:
ان الذي اوجد النجوم التي يبعد بعضها عن البعض الآخر آلاف السنين، والذي يتصرف فيها في آن واحد وعلى نمط واحد. والذي يخلق أفراداً غير معدودة لنوع واحد من زهرة نابتة في الشرق او الغرب او الشمال او الجنوب من الارض ويصوّرها في وقت واحد وعلى هيئة واحدة وصورة واحدة، والذي يخبرنا عن اعجب حادثة
الشعاع السابع - ص: 198
ماضية وغيبية في قوله تعالى (هو الذي خَلقَ السمواتِ والارضَ في ستةِ ايامٍ) (الحديد: 4) مثبتاً تلك الحادثة كأنها تحدث امامنا، بما يخلق من مثيلاتها ونظائرها على وجه الارض، وبخاصة عند حلول موسم الربيع، الذي نجد فيه عياناً اكثر من مائة ألف مثال على الحشر الاعظم لاكثر من مائتي ألف نوع من طوائف النباتات وامم الحيوانات، التي تخلق وتنشأ في بضعة أسابيع فقط.. فلاريب أن من بيده إدارة هذا الحشد الهائل مجتمعاً، وتربيته واعاشته، وتمييز بعضه عن البعض الآخر، وتزيينه بكمال الانتظام والميزان، دون لبس او نقص او خطأ ودون تأخير او اهمال، وهو الذي بيده دوران الارض وحصول ظاهرة الليل والنهار بانتظام بديع كما صرحت به الآية الكريمة (يولج الَّيلَ في النَهار ويولجُ النهار في الَّيل) (لقمان: 29) مسجلاً وممحياً - بهذا الدوران - الحوادث اليومية وتبدلاتها في صحيفة الليل والنهار، وهو الذي يعلم في الوقت نفسه، وفي اللحظة نفسها، خبايا الصدور وخلجات القلوب، فيديرها بارادته.. ينبغي ان يكون - فاعل هذه الافعال التي كل منها فعل واحد منفرد خاص- واحداً أحداً قادراً صاحب جلال، له من العظمة والكبرياء بداهة ما يقتلع كل جذور الشرك ويمحو جميع آثاره واحتمالاته مهما كان نوعها وبأية جهة كانت، وفي أي شئ كان، وفي أي مكان كان.
فما دامت هذه الكبرياء وهذه القدرة العظيمة موجودتين، وما دامت صفة الكبرياء هذه هي في منتهى الكمال والاحاطة التامة، فلا يمكن أن تسمحا مطلقاً لأي نوع من انواع الشرك؛ لأن الشرك يعني اسناد العجز والحاجة الى تلك القدرة المطلقة، والصاق القصور بتلك الكبرياء، وعزو النقص بذلك الكمال، وتحديد تلك الاحاطة بالقيد، وانهاء غير المتناهي المطلق. فلا يمكن ان يقبل ذلك كل من له عقل وشعور، وكل من له فطرة سليمة لم تتفسخ.
وهكذا فالشرك من حيث هو تحدٍ لتلك الكبرياء، وتطاول على عزة ذي الجلال، ومشاركة للعظمة، جريمة نكراء لاتدع مجالاً للعفو والصفح والمغفرة. وان القرآن - ذا البيان المعجز - يعبّر عن هذا ويبيّنه ويشفعه بذلك التهديد الصارخ والوعيد الرهيب بقوله تعالى:
(إنَّ الله لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ بهِ ويَغفِرُ ما دونَ ذَلكَ لمنْ يَشاء) (النساء: 48).
* * *
الشعاع السابع - ص: 199
الحقيقة الثانية
ظهور الافعال الربانية ظهوراً مطلقاً ومحيطاً
وهي التي يشاهد تصرفها في الكون قاطبة وتظهر ظهوراً مطلقاً محيطاً، ولا يحدد تلك الافعال الاّ الحكمة الربانية، والارادة الإلهية، وقابليات المظاهر. فالمصادفة العشواء والطبيعة الصماء والقوة العمياء والاسباب الجامدة والعناصر المبعثرة، لن تمتد يدها او تتدخل في تلك الافعال التي هي في منتهى الدقة والميزان والحكمة، والتي تنجز بكل بصيرة وحيوية وانتظام وإحكام. وليست الاسباب الاّ حجاباً ظاهرياً فحسب تستخدمها القدرة الفاعلة لذي الجلال والعزة، وتسخرها على وفق أمره وإرادته وقوته.
ونودّ هنا بيان ثلاثة امثلة عن الافعال الربانية - من بين الآلاف منها - مما تشير اليها الآيات الثلاث المتصلة بعضها ببعض في سورة النحل، ومع ان كل فعل منها يحتوي على نكات لا حصر لها الاّ اننا نذكر منها هنا ثلاثاً فقط.
الآية الاولى:
(وأوحى ربُّكَ الى النَّحلِ أن اتَّخِذي منَ الجبالِ بيوتاً) (النحل: 68).
نعم، ان النحلة معجزة القدرة الربانية فطرةً ووظيفةً، ويا لها من معجزة عظيمة حتى سميت باسمها سورة جليلة في القرآن الكريم؛ ذلك لأن تسجيل البرامج الكاملة لوظيفتها الجسيمة في رأس صغير جداً لماكنة عسل صغيرة.. ووضع أطيب الاطعمة وألذها في جوفها الصغير وطبخها فيه.. واختيار المكان المناسب لوضع سم قاتل مهدم لأعضاء حية في رميحته دون أن يؤثر في الاعضاء الاخرى للجسم.. لايمكن أن يتم - كل هذا - الاّ بمنتهى الدقة والعلم، وبمنتهى الحكمة والارادة، وغاية الموازنة والانتظام؛ لذا لن يتدخل مطلقاً ما لاشعور له ولا نظام ولاميزان من امثال الطبيعة الصماء او المصادفة العمياء في مثل هذه الافعال البديعة.
الشعاع السابع - ص: 200
وهكذا نرى ثلاث معجزات في هذه الصنعة الإلهية، ونشاهد ظهور هذا الفعل الرباني ايضاً فيما لايحد من النحل في ارجاء المعمورة كافة. فبروز هذا الفعل الرباني واحاطته بالجميع، وبالحكمة نفسها، والدقة نفسها، والميزان نفسه، وفي الوقت عينه، وبالنمط عينه، يدل على الوحدة بداهة ويثبت الوحدانية.
الآية الثانية:
(وإنَّ لكم في الانعَامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِما في بُطونِهِ من بينِ فَرثٍ ودمٍ لبَناً خالصاً سائغاً للشاربينَ) (النحل: 66).
ان هذا الامر الإلهي ليتقطر عبراً ودروساً. نعم، ان اسقاء اللبن الابيض الخالص، النظيف الصافي، المغذي اللذيذ، من مصانع الحليب المغروزة في اثداء الوالدات. وفي مقدمتها البقرة والناقة والمعزى والنعجة، الذي يتدفق بسخاء من بين فرث ودم دون ان يختلط بهما او يتعكر.. وان غرس ما هو ألذ من اللبن وأحلى منه وأطيب واثمن، في أفئدة تلك الوالدات وهو الحنان والشفقة التي تصل حد الفداء والايثار.. ليحتاج حتماً الى مرتبة من الرحمة والحكمة والعلم والقدرة والاختيار والدقة مالا يكون قطعاً من فعل المصادفات العشوائية والعناصر التائهة والقوى العمياء، لذا فان تصرف هذه الصنعة الربانية، واحاطة هذا الفعل الإلهي، وتجليها في الحكمة نفسها، والدقة نفسها، والاعجاز نفسه، وفي آن واحد، وطراز واحد، في أفئدة تلك الآلاف المؤلفة من أضراب الوالدات وفي اثدائها، وعلى وجه الارض كافة، يثبت الوحدة بداهة ويدل على الوحدانية.
الآية الثالثة:
(ومن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تَتَّخذونَ منهُ سكراً ورزقاً حسناً إنَّ في ذلكَ لآىةً لقومٍ يعقلون) (النحل: 67).
تلفت هذه الآية الكريمة النظر والانتباه الى النخيل والاعناب، فتنبه الانسان الى: "أن في هاتين الثمرتين آية عظيمة لأولي الالباب، وحجة باهرة على التوحيد".
الشعاع السابع - ص: 201
نعم، ان الثمرتين المذكورتين تعتبران غذاءً وقوتاً، وثمرة وفاكهة في الوقت نفسه، وهما منشأ كثير من المواد الغذائية اللذيذة، رغم ان شجرة كل منهما تنمو في تراب جامد، وتترعرع في ارض قاحلة. فكل منهما معجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الربانية. وكل منهما مصانع سكر وحلويات، ومعامل شراب معسّل، وصنائع ذات ميزان دقيق حساس وانتظام كامل، ومهارة حكيمة، واتقان تام، بحيث ان الذي يملك مقدار ذرة من عقل وبصيرة يضطر الى القول: "ان الذي خلق هذه الاشياء هكذا، هو الذي أوجد الكائنات قاطبة"؛ لأن ما نراه امام أعيننا - مثلاً - من تدلي ما يقارب عشرين عنقوداً من العنب، من هذا الغصن الصغير النحيف، كل عنقود منه يحمل ما يقارب المائة من الحبات اللطيفة واللباب المعسلة، وكل حبة من تلك الحبات مغلفة بغلاف رقيق لطيف ملوّن زاهٍ، وتضم في جوفها الناعم نوى صلدة حاملة لتواريخ الحياة ومنهاجها.. نعم، ان خلق كل هذا وغيره في جميع العنب وامثاله - وهي لاتعد ولاتحصى - على وجه البسيطة كافة، بالدقة نفسها، والحكمة عينها، وايجاد تلك الصنعة الخارقة المعجزة باعدادها الهائلة في وقت واحد، وعلى نمط واحد، ليثبت بالبداهة ان الذي يقوم بهذا الفعل ان هو الاّ خالق جميع الكائنات، وان هذا الفعل الذي اقتضى تلك القدرة المطلقة والحكمة البالغة، ليس الاّ من فعل ذلك الخالق الجليل.
نعم ان القوى العمياء والطبيعة الصماء والاسباب التائهة المشتتة، لايمكن لها ان تمد أيديها وتتدخل في ذلك الميزان الرقيق الحساس، بالمهارة البالغة، والانتظام الحكيم لتلك الصنعة، بل هي تستخدم وتسخّر بامر رباني في الافعال الربانية، فهي ذات مفعولية وقبول، بل ليست الاّ ستائر وحجباً مسخرة بيده سبحانه.
وهكذا فكما تشير هذه الآيات الثلاث الى حقائق ثلاث، وتدل كل منها على التوحيد بثلاث نكات، فهناك ما لايُحد من الافعال الربانية وما لايحد من تجليات التصرفات الربانية، تدل متفقة على الواحد الاحد وتشهد شهادة صادقة على ذات الواحد الاحد ذي الجلال والاكرام.
* * *
الشعاع السابع - ص: 202
الحقيقة الثالثة
حقيقة الايجاد والابداع
اي ايجاد الموجودات - وبخاصة النباتات والحيوانات - بكثرة مطلقة، في سرعة مطلقة، مع إنتظام مطلق.. وخلق المخلوقات بسهولة مطلقة، في غاية الحسن والجمال مع المهارة المتقنة والانتظام الكامل.. وابداع المصنوعات في غاية النفاسة والجودة والتمييز الواضح مع منتهى الوفرة وغاية الاختلاط والامتزاج.
نعم، ان ايجاد الاشياء في منتهى الكثرة بمنتهى السرعة، وفي منتهى السهولة واليسر بمنتهى الاتقان والمهارة وبالدقة والانتظام، وفي منتهى الجودة وغلاء القيمة والتميز مع منتهى الوفرة والمبذولية دون خلط او لبس او اختلال رغم كثافة الفروق والتباينات.. لايمكن ان يتم هذا الايجاد - ولن يتم - إلاّ بقدرة قادر واحد احد لايؤوده شئ ولايصعب على قدرته شئ.
نعم، ولكي ندرك ما نراه ونشاهده بأعيننا ينبغي أن تكون النجوم والذرات على حد سواء أمام تلك القدرة. وأكبر الاشياء كأصغرها والافراد غير المحدودة للنوع كالفرد الواحد منه، والكل المحيط العظيم كالجزء الصغير الخاص، واحياء الارض الهائلة كاحياء شجرة واحدة، وانشاء الشجرة الشاهقة كايجاد بذرة متناهية في الصغر.
وبهذا السر المهم الذي تتضمنه هذه المرتبة التوحيدية، وهذه الحقيقة الثالثة وكلمة التوحيد، أي: كون اكبر "كلّ" كأصغر "جزء" امام القدرة الربانية دون ان يكون أدنى فرق بين الكثير والقليل، تنكشف الاسرار الدقيقة الخفية للقرآن الكريم. وببيان وتوضيح هذه الحكمة المحيرة واللغز العظيم الذي هو خارج طور العقل - مع انه اهم اساس للاسلام واعمق مدار للايمان واللبنة الكبرى للتوحيد - يُدرك أخفى الاسرار المجهولة لحقيقة خلق الكون التي عجزت الفلسفة عن ادراكها. فألف شكر وشكر، وألف حمدٍ وثناء لخالقي الرحيم أرفعه بعدد حروف رسائل النور، أن تمكنت (رسائل النور) حلّ هذا السر العجيب، وكشفت هذا الذي يظنه الجاهل غموضاً
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 203
غريباً، بل أثبتته ببراهين قاطعة. وبخاصة في بحث "وهو على كل شئ قدير" الموجود في نهاية "المكتوب العشرين" وفي بحث "الفاعل مقتدر" من "الكلمة التاسعة والعشرين" فأثبتت سعة القدرة الإلهية وطلاقتها بالبراهين القاطعة بدرجة حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً وذلك في مراتب "الله اكبر" من "اللمعة التاسعة والعشرين" التي اُلّفت باللغة العربية..
فمع اِحالة الايضاح والتفصيل الى هناك أردت أن أبين هنا بياناً مجملاًً، كفهرست مختصر تلك الاسس والادلة التي تعالج هذا السر وتكشفه وتوضحه، ثم الاشارة الى ثلاثة عشر سراً بثلاث عشرة مرتبة، وبدأت بكتابة السر الاول والثاني، ولكن مانعين قويين ماديين ومعنويين حالا - مع الاسف - بيني وبين كتابة بقية الاسرار في الوقت الحاضر.
السر الاول: اذا كان الشئ ذاتياً، فلا يكون ضده عارضاً له، لأنه اجتماع الضدين وهو محال. فبناءً على هذا السر:
مادامت القدرة الإلهية ذاتية وهي الضرورة اللازمة للذات المقدسة، فلايمكن ان يكون العجز الذي هو ضد تلك القدرة عارضاً للذات القادرة. وما دام وجود المراتب في الشئ الواحد يكون بتداخل ضده - مثلما تتكون مراتب قوة الضياء وضعفه بمداخلة الظلمة، ودرجات ارتفاع الحرارة وهبوطها بتداخل البرودة، ومقادير شدة القوة وضعفها بمقابلة المقاومة وممانعتها لها - فلا يمكن ان تحتوى تلك القدرة الذاتية على مراتب.. فهي تخلق الاشياء وتوجِدها كالشئ الواحد. فمادامت تلك القدرة الذاتية متجردة من المراتب ومن الضعف ومن النقص، فلا جرم ان لايقف امامها مانع ولايصعب عليها ايجاد. وما دامت لايشق عليها شئ فلابد ان يكون لديها ايجاد الحشر الاعظم كسهولة ايجاد الربيع، وايجاد الربيع كبساطة ايجاد شجرة واحدة، وايجاد الشجرة كيسر ايجاد زهرة واحدة، وانها تقوم بالايجاد بهذه السهولة واليسر كما تقوم بها في أدق ما تكون الصنعة والاتقان. فنرى انها تخلق الزهرة باتقان الشجرة وبأهميتها وقيمتها، وتخلق الشجرة باعجاز صنع الربيع الهائل، وتخلق الربيع بشمولية الحشر وجامعيته واعجازه، هكذا تخلق، وهكذا نشاهد خلقها امام اعيننا.
الشعاع السابع - ص: 204
وقد اثبتت (رسائل النور) ببراهين كثيرة قاطعة قوية أنه إن لم يُسند الخلق الى الوحدة والوحدانية يصبح خلق زهرة واحدة صعباً كصعوبة خلق شجرة بل اصعب، ويصبح خلق الشجرة أعقد من خلق الربيع. وفوق ذلك سيسقط جميعها من حيث القيمة والاتقان في الصنعة، فالكائن الذي يُخلق في دقيقة واحدة سيُصنع في سنة، بل يستحيل صنعه بالمرة. فبناءً على هذا السر:
فان جميع الاثمار والازهار والاشجار والاحياء الدقيقة المرتبطة بها، تخرج الى الوجود في غاية الوفرة والكثرة مع أنها في منتهى الجودة والنفاسة، وتظهر في منتهى السرعة واليسر مع انها في غاية الاتقان والصنعة، فتخرج الى الوجود بانتظام، مؤدية وظائفها وتسبيحاتها، وموكلة بذورها بديلة عنها، ماضية هي في سبيلها.
السر الثاني: كما ان شمساً واحدة تشع ضياءً الى مرآة واحدة، بتجلٍ من القدرة الذاتية واستناداً الى سر النورانية والشفافية والطاعة، فانها تنعكس بسهولة بالصورة نفسها - ذات الضياء والحرارة - بالفعالية الواسعة لقدرتها غير المحددة بأمر إلهى، الى مالا يحد من المرايا والمواد اللماعة والقطرات.
واذا نُطقت بكلمة واحدة، فإن هذه الكلمة تدخل بسهولة تامة الى اذن شخص - استناداً الى السعة المطلقة للخلاقية - وتدخل اذهان ملايين الاشخاص وآذانهم ببساطة ويسر بالامر الرباني، فأمامها آلاف المستمعين والمستمع الواحد سواء ولا فرق بينهما.
ومثلما تنظر العين الى مكان واحد وآلاف الامكنة بسهولة كاملة، فان نوراً او نورانياً روحانياً - كجبريل عليه السلام - في الوقت الذي يشاهد ويذهب ويحضر في مكان واحد بكل سهولة - استناداً الى كمال سعة الفعالية الربانية في تجلي الرحمة - فهو كذلك يشاهد ويذهب ويحضر - بالقدرة الإلهية - بالسهولة نفسها في آلاف الاماكن. فلا فرق هنا بين القلة والكثرة.
وهكذا القدرة الذاتية الازلية - ولله المثل الاعلى - فلكونها ألطف نور وأخصّه بل هي نور الانوار كلها، ولكون ماهية الاشياء وحقائقها وأوجه الملكوتية فيها شفافة لمّاعة كالمرايا، ولأن كل شئ - ابتداءً من الذرات الى النباتات والى انواع الاحياء قاطبة
الشعاع السابع - ص: 205
والى النجوم والشموس والاقمار - تابع ومنقاد ومطيع على أتم وجه لحكم تلك القدرة الذاتية ومسخر ومجند وخاضع خضوعاً مطلقاً لأوامر تلك القدرة الازلية. فلا ريب انها تنشئ الاشياء غير المحدودة وتخلقها كالشئ الواحد، وتحضر عند كل شئ في كل آن وفي كل مكان. فلا يمنع شئ شيئاً، فالكبير والصغير، والكثير والقليل، والجزء والكل، سواء عندها. لاتعجز عن شئ ولا يصعب عليها شئ.
واستناداً الى اسرار الانتظام والموازنة وامتثال الاوامر، والطاعة للاحكام - كما ذكرت في الكلمة العاشرة والتاسعة والعشرين - فان سفينة ضخمة جداً يمكن ان تدار وتسيَّر بسهولة إدارة طفل لدميته بأصبعهِ.. وان قائداً مثلما يسوق جندياً واحداً بأمره: "هجوم" فانه بالامر نفسه يسوق جيشاً منتظماً مطيعاً الى الحرب.. واذا كان هناك جبلان في حالة موازنة على طرفي ميزان عظيم حساس جداً ثم أوتي بميزان آخر ووضع في كل من كفتيه بيضة في معادلة تامة، فمثلما يمكن لجوزة واحدة ان ترفع إحدى الكفتين الى الاعلى والاخرى الى الاسفل، كذلك تستطيع تلك الجوزة نفسها - بقانون الحكمة - أن ترفع احدى كفتي الميزان العظيم الحامل للجبل الى قمة جبل وتنزل الاخرى الى قعر الوادي.
فكما أن الامر هكذا، كذلك الامر في القدرة الربانية حيث أنها مطلقة غير متناهية، وهي نورانية، وهي ذاتية وهي سرمدية، وتوجد معها الحكمة المطلقة والعدالة التامة اللتان هما منشأ جميع الانتظام والانظمة والموازنة ومنبعها ومدارها ومصدرها، فالجزئي والكلي والكبير والصغير من اي شئ كان ومن كل شئ مسخر لحكم تلك القدرة ومنقاد لتصرفها.. لذا فان تلك القدرة تسيِّر النجوم والسيارات بسهولة ادارة الذرات وتحريكها؛ وذلك بسر نظام الحكمة. وكما أنها تحيي الذبابة في الربيع بسهولة، تسوق جميع طوائف الحشرات والنباتات والحيوانات الى ميدان الحياة وتحييها بالسهولة نفسها وبالامر نفسه، وبالحكمة المتضمنة فيها وبسر الميزان. وكما انها تنبت شجرة في الربيع بسرعة فائقة فتنفخ الحياة في جذورها وجذوعها التي هي كالعظام، فهي تحيي بتلك القدرة المطلقة الحكيمة العادلة وبالامر نفسه هذه الارض الهائلة التي هي كجنازة ضخمة، مثلما أحيت تلك الشجرة في الربيع ببساطة،
الشعاع السابع - ص: 206
موجدةً مئات الآلاف من انواع الامثلة والنماذج الدّالة على الحشر والنشور.وكما انه سبحانه يحيي الارض بأمر تكويني فانه بمضمون الايات الجليلة الآتية:
(إن كانت اِلاّ صيحةً واحدةً فاذا هم جميعٌ لدينا مُحضرون) (يس: 53).
(وما أمرُ الساعةِ إلاّ كلمح البصر او هوَ أقرب) (النحل: 77).
(ما خلقكم ولا بعثُكم إلاّ كنفسٍ واحدة) (لقمان: 28).
يأتي بجميع الانس والجن وما هو حيواني وروحاني وملائكي، يأتي بهم جميعاً بالامر نفسه بالسهولة نفسها الى ميدان الحشر الاكبر وامام الميزان الاعظم، فلا يمنع فعل فعلاً قط. هذا وقد أُجلت كتابة بقية الاسرار من السر الثالث الى الثالث عشر خلاف رغبتى الى وقت آخر بمشيئة الله.
* * *
الحقيقة الرابعة
كليّة الموجودات وظهورها معاً
ان وجود الموجودات وظهورها معاً، متداخلة، مشابهاً بعضها البعض الآخر، وكون بعضها مثالاً مصغراً للآخر، او نموذجاً اكبر له، وكون قسم منها كلاً وكليّاً وبقية الاقسام أجزاؤه وافراده، مع التشابه في ختم الفطرة وسكتها، والعلاقة الوثيقة في نقش الصنعة والاتقان، والتعاون فيما بينها، واكمال كل منها وظيفة الآخر الفطرية.. وأمثال هذه من النقاط العديدة لجهة الوحدة الكثيرة في الموجودات، تعلن التوحيد بداهة، وتثبت أن صانعها واحد احد، وتُظهر - من جهة الربوبية المهيمنة - أن الكائنات قاطبة لاتقبل التجزئة والانقسام. فهي بحكم الكل والكلّي.
مثال ذلك: ان ايجاد افراد لايحصرها العد لأربعمائة ألف نوع من أنواع النباتات والحيوانات في الربيع، وادارتها معاً في آن واحد، وعلى نمط واحد، رغم تداخل بعضها في البعض الآخر، من دون خطأ او خلل، واعاشتها بكمال الحكمة وحسن الصنعة والاتقان.. وكذا خلق افراد غير محدودة لانواع الطيور ابتداءً من مثالها
الشعاع السابع - ص: 207
المصغر - الحشرات - الى مثالها الاكبر - الصقور - ومنحها القدرة على السياحة والتجوال في الجو، وتجهيزها بأجهزة تساعدها على المعيشة والحركة والتنزه ونثر البهجة في الجو، ووضع سكة الصنعة المعجزة وختمها في وجوهها، وتركيب ختم الحكمة في اجسامها بكل تدبير، وايداع طغراء الاحدية في ماهيتها بكل إعتناء وتربية.. وكذا امداد خلايا الجسم بذرات الطعام، وامداد الحيوانات بالنباتات، وامداد الانسان بالحيوانات، وامداد الصغار العاجزين بحنان الوالدات ورعايتهن، وجعل هذا السعي والامداد والمعاونة تتم في اطار حكمة تامة وضمن رحمة كاملة.. وكذا التصرف بالنظام نفسه والابداع نفسه وبالفعل نفسه والحكمة نفسها، ابتداءً من مجرة درب التبانة - من الدوائر الكونية الهائلة - الى المنظومة الشمسية، والى العناصر الارضية بل حتى الى حدقة العين واوراق براعم الاوراد وأغلفة عرانيس الذُرة والبذور الكامنة في البطيخ - مثلاً - كأنها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر وبحكم الجزئي والكلي.. كل ذلك ليثبت بداهة ان الذي يقوم بهذه الافعال انما هو واحد أحد، وضع سكته وختمه على ناصية كل شئ في الوجود، وكما لايحده مكان فهو حاضر في كل مكان، وهو قريب الى كل شئ، رغم ان كل شئ بعيد عنه، كالشمس. وكما يسهل عليه اصعب امور الدوائر الكونية العظيمة والمنظومة الشمسية، لاتخفى عليه ايضاً أصغر أمور الكريات في الدم، وأدق الخواطر القلبية. فلا شئ يبقى خارج ادارته ودائرة تصرفه. ومهما كان الشئ كبيراً او كثيراً فهو سهل ويسير عليه كأصغر شئ وأقله، فيخلق الحشرة الصغيرة في نظام الصقر واتقانه، ويخلق الزهرة في ماهية الشجرة وانتظامها، ويخلق الشجرة في صورة الحديقة وابداعها، ويخلق الحديقة في روعة الربيع وزهوه، ويخلق الربيع في عظمة الحشر وهيبته. وهو يقدّم الينا أكثر الاشياء اتقاناً وأغلاه ثمناً بسعر بخس زهيد بل يحسنه الينا إحساناً، ثم لايطلب منا الاّ: "بسم الله" و "الحمد لله" اي أن الثمن المقدّر لتلك النعم، هو "بسم الله الرحمن الرحيم" ابتداءً و "الحمد لله" ختاماً.
نكتفي بهذا القدر نظراً لقيام رسائل النور بايضاح هذه الحقيقة الرابعة واثباتها بتفصيل اكثر. ورأى صاحبنا السائح في المنزل الثاني:
* * *
الشعاع السابع - ص: 208
الحقيقة الخامسة
الانتظام الاكمل ووحدة المواد
اي وحدة الانتظام الاكمل في مجموع الكون واركانه واجزائه بل في كل موجود فيه، ووحدة موظفي ومواد الكـون الواسع التي هـي محور ادارته ومتعلقة بهيئته العامة. وكون الاسماء والافعال المصّرفة لتلك المدينة العظيمة والمحشر العجيب محيطة وشاملة كل شئ، فالاسم هو نفسه والفعل هو نفسه والماهية هي نفسها في كل مكان، رغم تداخل بعضه في البعض الآخر، وكون العناصر والانواع التي هي الاساس في بناء ذلك القصر الفخم وفي إدارته وفي اضفاء البهجة عليه، محيطة بسطح الارض بانتشارها في اكثر بقاعها، مع بقاء العنصر نفسه، والنوع نفسه واحداً، وذا ماهية واحدة في كل مكان رغم تداخل بعضه في البعض الآخر.. كل ذلك يقتضي بداهة، ويدل ضرورة ويُشهد ويُري ان صانع هذا الكون ومدبّره، وان سلطان هذه المملكة ومربيها، وان صاحب هذا القصر وبانيه، واحد أحد فرد، ليس كمثله شئ، لاوزير له ولامعين، لاشريك له ولاند، منزّه عن العجز، متعال عن القصور.
نعم ان الانتظام التام انما هو دليل بذاته على الوحدة؛ إذ يستدعى منظماً واحداً، فلا يسعه الشرك الذي هو محور المجادلة والمشاكسة.
فما دام هناك انتظام حكيم ودقيق في الكون كله - كلياً كان الشئ أم جزئياً - ابتداءً من دوران الارض اليومي والسنوي، الى سيماء الانسان، والى منظومة شعوره، والى دوران الكريات الحمر والبيض وجريانهما في الدم، فلا يمكن لشئ أن يمد يده ويتدخل قصداً وايجاداً سوى القادر المطلق والحكيم المطلق، بل يبقى كل شئ سواه منفعلاً ومتلقياً ومظهراً للقبول ليس الاّ.
وما دام القيام بالتنظيم ومنح النظام وبخاصة تعقّب الغايات وتتبعها وتنظيمها بابراز المصالح، لايكون الاّ بالعلم والحكمة، والاّ بالارادة النافذة والاختيار، فلابد ان هذا الانتظام الذي يدور مع الحكمة، وهذه الانواع المتنوعة من الانتظام في المخلوقات غير المحدودة التي تتراءى امام أنظارنا والدائرة حول المصالح، يدل بداهة ويشهد بكل
الشعاع السابع - ص: 209
حال ان خالق هذه الموجودات ومدبرها واحد، وهو الفاعل، وهو الذي بيده الاختيار، فكل شئ يخرج الى الوجود إنما يخرج بقدرته هو، ويأخذ وضعاً خاصاً بارادته هو، ويتخذ صورة منتظمة باختياره هو.
ومادام السراج الوهاج لهذه الدنيا المضيف واحداً، وان قنديلها المتدلي لعدّ الايام واحد، وان معصراتها ذات الرحمة واحدة، وان مطبخها ذا الموقد واحد، وان شرابها الذي يبعث على الحياة واحد، وان مزرعتها المحمية واحدة.. واحد.. واحد.. واحد الى ألف وواحد، فلابد أن هذه الآحاد الواحدة تشهد بداهة ان صانع هذا المضيف وصاحبه، واحد، وهو كريم لضيوفه في منتهى الكرم والسخاء حتى أنه يسخر كبار موظفيه هؤلاء ويجعلهم خدماً طائعين لضمان راحة ضيوفه الاحياء.
وما دامت واحدةً تلك الاسماء الحسنى والشؤون الإلهية والافعال الربانية التي تصرف امور الكون والتي تظهر تجلياتها ونقوشها واثارها في كل انحاء العالم.. فالاسماء الحسنى "الحكيم، المصور، المدبر، المحيي، المربي" وامثالها هي نفسها في كل مكان.. وشؤون "الحكمة والرحمة والعناية" وامثالها هي نفسها في كل مكان.. وأفعال "التصوير والادارة والتربية" وامثالها هي نفسها في كل مكان.. وكل منها متداخل بعضه في البعض الآخر، وكل منها في اسمى مرتبة واوسع إحاطة وهيمنة، كما أن كلا منها يكمل نقش الآخر حتى لكأن تلك الاسماء والافعال تتحد مع بعضها اتحاداً، فتصبح القدرة عين الحكمة والرحمة، وتصبح الحكمة عين العناية والحياة. فعندما يظهر - مثلاً - تصرف اسم المحيي في شئ ما، يظهر تصرف اسم الخالق والمصور والرزاق واسماء اخرى كثيرة كذلك في الوقت نفسه، في كل مكان وبالنظام نفسه، فلابد ولامحالة ان ذلك يشهد بداهة على ان مسمّى تلك الاسماء المحيطة، وفاعل تلك الافعال الشاملة والظاهرة في كل مكان بالطراز نفسه، إنما هو فاعل واحد أحد فرد.. آمنــا وصدّقنا !.
ومادامت العناصر التي هي مكونات المصنوعات وجواهرها واسسها، تحيط سطح الارض وتتوزع عليه، وكل نوع من انواع المخلوقات - الحاملة لاختام مختلفة تظهر الوحدانية - قد انتشر على ظهر الارض واستولى عليه، رغم كونه نوعاً واحدا،ً فلابد أن تلك العناصر بمشتملاتها، وتلك الانواع بأفرادها، إنما هي مُلك لواحد،
الشعاع السابع - ص: 210
ومصنوعات مأمورة لدى ذلك الواحد القادر الذي يستخدم بقدرته المطلقة تلك العناصر الضخمة المستولية كأنها خَدَمة طائعات، ويسخّر تلك الانواع المتفرقة في كل جهة من الارض كأنها جنود نظاميون.. وحيث ان (رسائل النور) قد أثبتت هذه الحقيقة وأوضحتها، نقتصر عليها بهذه الاشارة القصيرة.
فلقد أحسّ صاحبنا السائح المسافر بنشوة إيمانية بعد ان اكتسب الفيض الايماني والتذوق التوحيدي من فهمه لهذه الحقائق الخمس فأنشأ يترجم ملخصاً انطباعاته ومشاهداته مخاطباً قلبه:
انظر الى الصحيفة الملونة الزاهية لكتاب الكون الوسيع.
كيف جرى قلم القدرة وصوّر البديع..
لم تبق نقطة مظلمة لأرباب الشعور..
لكأن الرب قد حرّر آياته بالنور.
واعلم ايضاً بأن:
هذه الابعاد غير المحدودة صحائف كتاب العالم
وهذه العصور غير المعدودة سطور حادثات الدهر
قد سطّر في لوح الحقيقة المحفوظ:
كل موجود في العالم، لفظ مجسم حكيم
وانصت كذلك:
جو لا اله الاّ الله برابر ميذنند هرشى دمادم جويدند ياحق سراسر كويدنند ياحي 1
نعم؛ وفي كل شئ له آية تدل على انه واحدٌ.
وهكذا صدّق قلب السائح نفسه، وقالا معاً: نعم، نعم.
_____________________
1
يعني: كل شئ في الوجود ينطق ويردد معاً: لاإله إلاّ الله، ويلهج دوماً كل آن: يا حق.. فالكل ينطق والجميع يهتف: ياحي.- المترجم.

الشعاع السابع - ص: 211
هذا وقد جاءت في المنزل الثاني من الباب الثاني من المقام الاول إشارة قصيرة الى ماشاهده سائح الكون والضيف فيه من الحقائق التوحيدية الخمس، وهي:
[لا إله إلاّ الله الواحـد الاحـد الذي دلّ على وحدته في وجوب وجوده: مشاهدة حقيقة الكبرياء والعظمة فـي الكمال والاحاطة. وكذا مشاهدة حقيقة ظهور الافعال بالاطلاق وعدم النهاية، لا تقيدها الاّ الارادة والحكمة. وكذا مشـاهدة حقيقة ايجاد الموجودات بالكثرة المطلقة فـي السرعة المطلقة، وخلق المخلوقات بالسهولة المطلقة في الاتقان المطلق، وابداع المصنوعات بالمبذولية المطلقة فـي غاية حسن الصنعة وغلو القيمة. وكذا مشاهدة حقيقة وجود الموجودات على وجه الكل والكلية والمعية والجامعية والتداخل والمناسبة. وكـذا مشاهدة حقيقة الانتظامات العامة المنافية للشركة. وكذا مشاهدة وحدة مدارات تدابير الكائنات الدالة علـى وحدة صانعها بالبداهة. وكذا وحدة الاسماء والافعال المتصرفة المحيطة، وكـذا وحدة العناصر والانواع المنتشرة المستولية على وجه الارض].
* * *
وحينما كان ذلك السائح في العالم يجول في العصور صادف مدرسة مجدد الألف الثاني الامام الرباني احمد الفاروقي 1 فدخلها وبدأ يصغي اليه. كان الامام يقول في ثنايا درسه: "ان اهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الايمانية وانجلاؤها، وان وضوح مسألة واحدة وانكشافها لهو ارجح من ألفٍ من الكرامات".
وكان يقول ايضاً: " لقد قال بعض العظماء في السابق: انه سيأتي أحد من المتكلمين ومن علماء علم الكلام وسيثبت بدلائل عقلية اثباتاً واضحاً جميع الحقائق الايمانية والاسلامية، وياليتني أنا ذلك الشخص، بل ربما هو أنـا 2 . حيث ان الايمان
_____________________
1
الامام الرباني: هو احمد بن عبد الاحد السرهندي الفاروقي (971-1034هـ) الملقب بحق «مجدد الالف الثاني» برع في علوم عصره، وجمع معها تربية الروح وتهذيب النفس والاخلاص للّه وحضور القلب، رفض المناصب التي عرضت عليه، قاوم فتنة «الملك اكبر» التي كادت ان تمحق الاسلام. وفّقه المولى العزيز الى صرف الدولة المغولية القوية من الالحاد والبرهمية الى احتضان الاسلام بما بث من نظام البيعة والاخوة والارشاد بين الناس، طهر معين التصوف من الاكدار، تنامت دعوته في القارة الهندية حتى ظهر من ثمارها الملك الصالح «اورنك زيب» فانتصر المسلمون في زمانه وهان الكفار. انتشرت طريقته «النقشبندية» في ارجاء العالم الاسلامي بوساطة العلامة خالد الشهرزوري المشهور بمولانا خالد (1192 -1243هـ). له مؤلفات عديدة اشهرها «مكتوبات» ترجمها الى العربية محمد مراد في مجلدين..- المترجم.

2
لقد اثبت الزمن ان ذلك الشخص ليس شخصاً ولا رجلاً انما هو «رسائل النور». وربما شاهد اهل الكشف فى كشفياتهم «رسائل النور» فى شخص مترجمها ومبلّغها الذى لاقيمة له ولا اهمية،فقالوا: انه شخص. المؤلف.

الشعاع السابع - ص: 212
والتوحيد هما اساس جميع الكمالات الانسانية وجوهرها ونورها وحياتها، وان دستور "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" 1 يخص التفكر الايماني، وما الذكر الخفي في الطريقة النقشبندية واهميته الاّ نوع من انواع هذا التفكر السامي".
هكذا كان الامام يعلّم، والسائح ينصت ويصغي بكل إهتمام. ثم رجع الى نفسه وخاطبها:
لما كان هذا الامام الهمام يقول كذا، وان إزدياد قوة الايمان ولو بمقدار ذرة هو أثمن من اطنان من كسب المعارف والكمالات، بل هو ألذ وأطيب مائة مرة من حلاوة الاذواق والوجد. وحيث ان الاعتراضات والشبهات المتراكمة حول الايمان والقرآن - التي تثيرها فلاسفة اوروبا منذ ألف سنة - قد وجدت سبيلها الى قلوب المؤمنين، فيهاجمون بها اهل الايمان، ويحاولون بذلك زعزعة الاركان الايمانية التي هي اساس السعادة الابدية، ومدار الحياة الباقية، ومفتاح الجنة الخالدة. فلابد إذاً - وقبل كل شئ - أن نزيد إيماننا قوة ونحوّله من ايمان تقليدي الى ايمان تحقيقي.
فهيا بنا ايتها النفس لنسرْ قدماً مع هذه المراتب الايمانية التسع والعشرين التي وجدناها، والتي كل منها راسخة رسوخ الجبل الاشم قاصدين إيصالها الى عدد الاذكار والتسبيحات المباركة للصلاة وهي الثلاث والثلاثون. فلنطرق باب الادارة والاعاشة الربانية في عالم الاحياء الذي يترقرق عبراًً وعظات، ونفتحه بمفتاح (بسم الله الرحمن الرحيم) كي نرى المنزل الثالث ونشاهد ما فيه...
فطرق السائح باب المنزل الثالث الذي هو محشر العجائب ومجمع الغرائب، طرقه بكل استرحام ورفق ولطف، ومن ثم فتحه بـ"بسم الله الفتاح" فبدا له المنزل الثالث ودخل فيه، ووجد أن هناك أربع حقائق عظمى محيطة تنير ذلك المنزل وتكشف التوحيد وتبينها كالشمس الساطعة.
* * *
_____________________
1
قال الحافظ العراقي في تخريج الاحياء 1/58: حديث: تفكر ساعة خير من عبادة سنة: ابن حبان كتاب العظمة من حديث ابي هريرة بلفظ ستين سنة باسناد ضعيف ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات ورواه ابو المنصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث انس بلفظ ثمانين سنة واسناده ضعيف جداً، ورواه ابو الشيخ من قول ابن عباس بلفظ خير من قيام ليلة. ا هـ . وانظر كشف الخفاء 1/310 والاحاديث المشكلة ص113.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
قديم 04-06-2011
  #9
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 213
الحقيقة الاولى: وهي حقيقة "الفتاحية"
أي انفتاح ما لايحد من الصور المنتظمة المتنوعة المختلفة بتجلي اسم "الفتاح" من مادة بسيطة جداً، وانكشافها معاً في كل طرف من انحاء العالم، وفي آن واحد، وبفعل واحد.
نعم، كما ان القدرة الفاطرة قد فتحت الموجودات المختلفة غير المحدودة، في رياض الكائنات كتفتح الازهار؛ فأعطت باسم "الفتاح" كلاً منها طرزاً منتظماً يناسبه، وشخصية منفردة تميزه. فقد منحت كذلك - بشكل اكثر اعجازاً - صورة موزونة، مزينة، ومتميزة، لكل ذي حياة من اربعمائة ألف نوع من انواع الاحياء في حديقة الارض، وهي في غاية الاتقان والحكمة.. نعم، ان فتح الصور هذا اقوى دليل على التوحيد، واعجب معجزة للقدرة الإلهية، حسب ما تفيده الآيات الكريمة:
(يخلقكم في بطون أُمهاتِكم خَلقاً من بعدِ خلقٍ في ظُلمات ثلاث ذلكُم الله ربُّكم له المُلكُ لا إله إلاّ هو فأنَّى تُصرفون) (الزمر: 6).
(إن الله لا يخفى عليه شىءٌ في الارض ولا في السماء _ هُو الذي يُصوركم في الارحام كيف يشاء لا إله إلاّ هُو العزيز الحَكيمُ) (آل عمران: 5، 6).
فبناءً على هذه الحكمة، ونظراً لافاضة (رسائل النور) في بيان حقيقة فتح الصور بصورة متنوعة (وبخاصة في المرتبة السادسة والسابعة من الباب الاول من هذه الرسالة). فنحن نحيل اليها ونكتفي هنا بالقول:
لقد ظهرت نتيجة الدراسات المتواصلة والبحوث الدقيقة لعلمي النبات والحيوان وبشهادتهما، أن فتح الصور هذا له من الاحاطة والشمول والاتقان ما لايمكن ان يملك هذا الفعل الجامع المحيط سوى الواحد الاحد القادر المطلق الذي يرى كل شئ، ويصنعه؛ ذلك لان فعل فتح الصور هذا يحتاج الى وجود منتهى الحكمة، ومنتهى الدقة، ومنتهى الاحاطة ضمن قدرة مطلقة تهيمن في كل مكان وفي كل آن. فقدرة كهذه لايملكها الاّ الواحد الاحد الذي بيده مقاليد الارض والسماوات.
نعم فكما جاء في الآية الكريمة المذكورة في ظلمات ثلاث فإن خلق الانسان، وفتح صوره، واحدة واحدة، في ارحام الوالدات بميزان وزينة، وبانتظام
الشعاع السابع - ص: 214
وتميّز، دون خلط او اختلاط، او خطأ او نقص، من مادة بسيطة دليل قاطع على الوحدانية. ومن ثم احاطة هذه الحقيقة - فتح الصور - وشمولها بالقدرة نفسها، والحكمة نفسها، والصنعة نفسها، للناس كافة، وللحيوانات كافة، وللنباتات كافة، على ارجاء الارض كافة، لهي اقوى برهان على الوحدانية؛ ذلك لان فعل الاحاطة هو بذاته وحدة واحدة لايترك مجالاً للشرك.
ومثلما ان الحقائق التسع عشرة في الباب الاول قد شهدت (بوجودها) على وجوب وجود الخالق سبحانه، فهي تشهد كذلك (باحاطتها) على الوحدة والوحدانية..
والحقيقة التي رآها صاحبنا السائح في المنزل الثالث هي:
* * *
الحقيقة الثانية: وهي حقيقة " الرحمانية "
وهي تعني ان هناك واحداً جعل لنا الارض - كما هي ظاهرة امام اعيننا - مضيفاً رائعاً، وغمر وجهها بآلاف هدايا الرحمة، وفرش لنا بتلك الرحمة مأدبة تحوي مئات الآلاف من مختلف الاطعمة اللذيذة المعدّة على تلك المائدة، وجعل لنا جوف الارض - برحمته وحكمته - مخزناً جامعاً عظيماً لآلاف إحساناته وآلائه القيمة. ويقوم بتربيتنا تربية في منتهى الرحمة، بتحميله الارض من عالم الغيب في دورتها السنوية - كأنها باخرة تجارية - بمئات الآلاف من أجود انواع صنوف اللوازم الحياتية للانسان واجملها، ويرسلها كل سنة كأنها سفينة مشحونة او قطار معبأ، فكل ربيع فيها بمثابة قطار تقل أرزاقنا وملابسنا. ولاجل أن ننتفع من تلك الهدايا والنعم كلها فقد وهبنا المئات بل الآلاف من الارزاق والحاجات والرغبات والمشاعر، والحواس..
نعم، لقد وضح في "الشعاع الرابع" الذي يشرح الآية الكريمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173)، وأثبت هناك انه سبحانه قد وهبنا معدة بحيث نستطيع بها هضم أطعمة غير محدودة والتلذذ بها. وأحسن الينا سبحانه حياة بحيث نستفيد بحواسها نعماً غير محدودة مبثوثة في ارجاء هذا العالم المشهود الكبير وكأنه سفرة مفروشة للنعم. وأكرمنا سبحانه بانسانية بحيث نتذوق بآلاتها العديدة - كالعقل
الشعاع السابع - ص: 215
والقلب - من هدايا غير متناهية لعالم المادة ولعالم المعنى ما نتذوق. وعلّمنا إسلاماً بحيث يأخذ النور من خزائن غير متناهية لعالم الغيب ولعالم الشهادة. وهدانا الى إيمانٍ بحيث نستفيد به ونتنور بما لايُحصر من أنوار عوالم الدنيا والآخرة وهداياهما. فكأن هذه الكائنات قصر عامر منيف قد زيّن من لدن الرحمة الواسعة بأنفس الاشياء والموجودات، وسلمت بيد الانسان مفاتيح خزائنه ومنازله التي لاتعد ولاتحصى، وأودعت في فطرته جميع الاحتياجات والمشاعر اللازمة للاستفادة من كل ما في القصر.
فرحمة كهذه التي تحيط بالدنيا وبالآخرة معاً، وبكل شئ. لابد أنها تجلٍ من تجليات "الاحدية" في تلك "الواحدية". أي كما ان احاطة ضياء الشمس وشموله جميع الاشياء المقابلة لها مثال بارز على "الواحدية" فان أخذ كل شئ شفاف ولماع حسب قابليته ضياء الشمس وحرارتها والالوان السبعة التي فيها وانعكاساتها، مثال على "الاحدية". لذا فان الذي يرى ضياء الشمس المحيط للعالم يحكم بأن شمس الارض واحدة، وانه بمشاهدته اِنعكاس ضياء الشمس ذي الحرارة من كل شئ براق، حتى من القطرات، يتمكن ان يقول بأحدية الشمس، أي أنها قريبة من كل شئ بصفاتها، فهي في مرآة قلب كل شئ.
فكما ان الامر في المثال هكذا - ولله المثل الاعلى - فان احاطة رحمة الرحمن ذي الجمال اِحاطة شاملة، كالضياء، تظهر واحدية ذلك الرحمن وعدم وجود شريك له في اية جهة من الجهات، وان وجود تجليات أنوار اكثر اسماء ذلك الرحمن، ونوعاً من تجلٍ لذاته المقدسة في كل شئ، ولاسيما في كل ذي حياة وبخاصة في الانسان - بما منحه الرحمن تحت ستار رحمته الواسعة الجامعة من حياة جامعة لكل فرد بحيث تمكنه ان يتوجه بها الى الكائنات كافة وينسج علاقات وروابط معها - يثبت احدية ذلك الرحمن سبحانه، وحضوره لدى كل شئ، وأنه " هو " الذي يعمل كل شئ لأي شئ كان.
نعم كما ان ذلك الرحمن بواحدية تلك الرحمة وباحاطتها يظهر هيبة جلاله وبهائه على الكون كله، على الارض كلها. فانه بتجلي أحديته في كل ذي حياة، وبخاصة في الانسان، وبجمعه جميع نماذج تلك النعم وغرزها في اعضاء ذلك
الشعاع السابع - ص: 216
الكائن الحي، وفي أجهزته وتنظيمها، وبجعله ذلك الفرد الواحد يتخذ - من جهة - الكائنات كافة دون تشتت مسكنه ومأواه، كأنه يعلن رأفة جماله، ويعرّف تمركز انواع احسانه في الانسان.
فلو أخذنا البطيخ مثالاً، فان في كل بذرة من بذوره يوجد البطيخ نفسه. فخالق تلك البذرة الواحدة لابد انه هو خالق ذلك البطيخ. اذ يستدرّ تلك النواة منه ويجمعها ويجعلها تتجسم بموازين علمه الخاصة وبقوانين حكمته التي تخصه. فليس هناك شئ قط يستطيع أن يصنع تلك النواة سوى البديع الواحد لذلك البطيخ، بل ان ايجاد غيره له محال اصلاً. وبناءً على هذا فقد اصبح الكون - بتجلي الرحمانية - بمثابة شجرة وبستان، وغدت الارض كالثمرة وكالبطيخ، وصار ذوو الحياة والانسان كالبذرة، لذا ينبغي ان يكون خالق اصغر الاحياء هو خالق الارض قاطبة ورب أدق الاحياء هو رب الكون كله.
نحصل مما سبق:
ان ايجاد جميع الصور المنتظمة لجميع الموجودات وفتحها من مادة بسيطة - بحقيقة الفتاحية التي هي محيطة - يثبت الوحدة بداهة. وان تربية جميع الاحياء كذلك التي أتت الى الوجود ودخلت الحياة الدنيا وبخاصة القادمين الجدد - بحقيقة الرحمانية التي تحيط بكل شئ - تربية في غاية الانتظام، وايصال لوازم حياتها وتوفيرها لها دون نسيان أحد، وشمول الرحمة نفسها ووصولها الى كل فرد، في كل مكان ، وفي كل آن، تُظهرُ الوحدة بداهة، وتُري الاحدية في تلك الوحدة كذلك.
وحيث ان (رسائل النور) هي من مظاهر إسمَي "الحكيم" و "الرحيم" من الاسماء الحسنى وان ايضاح لطائف "حقيقة الرحمة" وتجلياتها مع اثباتها قد ورد في مواضع عدة من الرسائل. لذا إقتصرنا هنا على الاشارة اليها بهذه القطرة من ذلك البحر الواسع.
وما رآه صاحبنا السائح وشاهده في المنزل الثالث هو:
* * *
الشعاع السابع - ص: 217
الحقيقة الثالثة: وهي حقيقة التدبير والادارة
أي حقيقة اِدارة الاجرام السماوية وهي في منتهى السرعة والضخامة، وادارة العناصر وهي في منتهى الاختلاط والتشابك، وادارة المخلوقات الارضية وهي في منتهى الحاجة والضعف، ادارةً تتسم بكمال الانتظام والموازنة ويسعى بعضها لمعاونة البعض الآخر، رغم اختلاطها وامتزاجها ببعض. أي هي حقيقة النظر في ادارة أمورها جميعاً وجعل هذا العالم العظيم كأنه مملكة كاملة، ومدينة رائعة ضخمة، وقصر منيف مزين.
وسنأخذ هنا صورة واحدة مقتضبة لجريان تلك الادارة وسريانها على صفحة واحدة من سطح الارض وفي صحيفة واحدة في الربيع، تاركين تلك الدوائر الجبارة والصحائف الواسعة التي تتقطر رحمة. نظراً لأنها قد وضحت واثبتت في رسائل مهمة من (رسائل النور) كالكلمة العاشرة وسنبينها بمثال على النحو الآتي:
اذا قام شخص عظيم خارق بتشكيل جيش من أربعمائة ألف أمة وطائفة مختلفة،ووفّر ما يخص كل جندي من تلك الامم والطوائف المختلفة من الملابس والاسلحة والارزاق والتعليمات والاعفاءات والخدمات المختلفة المتنوعة جداً، وجهّزهم بالاجهزة المختلفة دون أدنى نقص او قصور او خطأ، وزوّدهم بها في أوانه دون أدنى تأخير او خلط، وبكمال الانتظام، فلابد أن تلك الادارة وهي في منتهى السعة والاختلاط والدقة والموازنة والكثرة والعدالة ليس إلاّ منقدرة خارقة لذلك القائد الخارق، فلايمكن لأي سبب أن يمد يده اليها. إذ لو مدّ لأفسد تلك الموازنة ولاختلط الامر.
فكما ان الامر في هذا المثال هكذا؛ فاننا نشاهد بأعيننا كذلك ان يداً غيبية تنشئ في كل ربيع وتدير جيشاً مهيباً مركباً من أربعمائة ألف من مختلف الانواع من الاحياء، ثم في موسم الخريف - الذي هو نموذج القيامة - تُعفي ثلاثمائة ألف من مجموع الاربعمائة ألف نوع من وظائفها بصور الوفاة وباسم الموت. وفي الربيع - الذي هو مثال الحشر والنشور - تنشئ ثلاثمائة ألف نموذج للحشر الاعظم في بضعة اسابيع بكمال الانتظام. حتى انه سبحانه بعد أن يرينا في الشجرة الواحدة اربعة انواع
الشعاع السابع - ص: 218
من الحشر المصغر بنشره الشجرة نفسها، وأوراقها، وأزهارها، وأثمارها -كما هي في الربيع الماضي- فانه يظهر لنا ويثبت وحدانيته واحديته وفرديته واقتداره المطلق ورحمته الواسعة ضمن كمال الربوبية والحاكمية والحكمة، فيكتب سبحانه أمر التوحيد هذا بقلم القدر في صحيفة كل ربيع على وجه الارض، وذلك بمنحه كل نوع وكل طائفة من ذلك الجيش السبحاني البالغ أنواعه أربعمائة ألف نوع، ما يخصه من أرزاقه المختلفة، وما يحتاجه من اسلحته الدفاعية المتنوعة، وما يناسبه من ألبسته المتباينة، وما يلائمه من تعليماته المتفاوتة واعفاءاته المختلفة، وما يوافقه من جميع معدّاته ولوازمه. فيمنح سبحانه كل ذلك بكمال الانتظام والميزان دون أدنى سهو او خطأ ودون خلط او نسيان، ويهبها له في وقته المحدّد المعين، من مصادر لاتخطر على بال.
وبعد أن طالع صاحبنا السائح صحيفة واحدة فقط في ربيع واحد فقط وشاهد فيها أمر التوحيد بجلاء ووضوح خاطب نفسه قائلاً:
إن الذي أنشأ هذه الانواع من الحشر في كل ربيع، التي تربو على الالوف، وتفوق غرابة الحشر الاكبر هو الذي وعد أنبياءه كافة بآلاف الوعود والعهود أن سيأتي بالحشر والقيامة للثواب والعقاب، وهو أهون على قدرته من الربيع نفسه، وضمَّن آلاف الاشارات حول الحشر في القرآن الكريم، الذي يقرر صراحة في ألف من آياته الكريمة على وعوده سبحانه ووعيده.. فلاشك أن عذاب جهنم لهو عين العدالة بحق من يرتكب جحود الحشر امام ذلك القدير الجبار والقهار ذي الجلال..
هكذا حكم صاحبنا السائح واطمأنت نفسه اليه فرددت هي ايضاً: آمنــــــا.
وما شاهده سائح العالم في المنزل الثالث هو:
* * *
الحقيقة الرابعة: وهي المرتبة الثالثة والثلاثون، تلك هي حقيقة الرحيمية والرزاقية.
أي حقيقة إعطاء الرزق الى جميع ذوي الحياة وبخاصة ذوي الارواح وبخاصة العاجزين والضعفاء وبخاصة الاطفال والصغار على وجه الارض كافة وفي جوفها وفي جوها وفي بحرها، اعطاءهم ارزاقهم كافة سواء المادية المَعَدية منها او المعنوية
الشعاع السابع - ص: 219
القلبية بكل شفقة ورأفة وذلك من الاطعمة المعمولة من تراب بسيط يابس ومن قطع خشب جافة جامدة كالعظم وبخاصة إخراج ألطف تلك الاطعمة من بين فرث ودم وإخراج كميات هائلة من الاطعمة من بذرة واحدة صلدة كالعظم وهي لاتزن درهماً؛ فاخراج كل ذلك في وقته المناسب وامام أنظارنا اخراجاً مقنناً دون نسيان أحد او التباس او خطأ لهو حقيقة الارزاق من لدن يد غيبية. نعم، ان الآية الكريمة:
(إنَّ الله هو الرزّاقُ ذو القُوةِ المتين) (الذاريات: 58) التي تخصص الاعاشة والانفاق وتحصرها في الحق سبحانه وتعالى. وكذا الآية الكريمة:
(وما من دابّةٍ في الارض الاّ على الله رِزقُها ويَعلَمُ مُستَقرّها ومستَودعَها كلٌ في كتابٍ مُبين) (هود: 6) التي تأخذ أرزاق الناس والحيوان جميعها تحت تعهد الرب سبحانه وكفالته. وكذا الآية الكريمة:
(وكأيّن من دابّةٍ لا تحمِلُ رِزقَها الله يَرزُقُها وإيّاكُم وهو السميعُ العَليمُ) (العنكبوت: 60) التي تثبت وتعلن بان الله سبحانه هو الذي يتكفل - كما هو مشاهد - بأرزاق المساكين والضعفاء والعاجزين وامثالهم ممن لايستطيعون أن يتداركوها، فيرسلها اليهم من حيث لم يحتسبوا، ومن مصادر لا تخطر لهم على بال، بل من الغيب، بل من غير شئ، كامثال الحشرات الموجودة في اعماق البحار التي تتغذى على غير شئ. وجميع الصغار التي يأتيها رزقها من حيث لاتحتسب، وجميع الحيوانات التي قد تكفل سبحانه بارزاقها، وينفق عليها فعلاً من الغيب مباشرة - كما هو مشاهد في كل ربيع - حتى انه هو الذي يرسل ارزاق اولئك المفتونين بالاسباب تحت ستار الاسباب، فلا يرزقهم سواه. فكما ان تلك الآيات الكريمة والظواهر المشاهدة تُري الرزاقية وتثبتها وتعلنها هكذا، كذلك تبين آيات قرآنية كثيرة وشواهد كونية لاتحد متفقة ان كل ذي حياة ىُربّى تحت كنف رحيمية رزاق واحد احد ذي جلال.
نعم، ان تسارع ارزاق الاشجار اليها وهي المحتاجة للرزق دون ان يكون لها اقتدار ولاإختيار ولاإرادة وهي ساكنة في اماكنها متوكلة على الله.. وكذا سيلان الحليب المصفى من تلك المضخات العجيبة الى افواه الصغار العاجزين،وانقطاع تلك النفقة
الشعاع السابع - ص: 220
مباشرة عنهم بعد اكتسابهم جزءاً من الاقتدار وشيئاً من الاختيار والارادة، مع استمرار تلك الشفقة الموهوبة للامهات.. كل ذلك؛ ليثبت بداهة ان الرزق الحلال لا يأتي متناسباً مع القدرة والارادة وانما يأتي متناسباً مع الضعف والعجز اللذين يمنحان التوكل.
ولقد ساق وجود قوة الاقتدار والاختيار والذكاء - المثير للحرص القائد الى الحرمان على الاغلب - اولئك الادباء الذين يستشعرون بها، الى التذلل والى ما يشبه التسوّل، بينما اوصل عدم الاقتدار المكلل بالتوكل اغلب العوام البُله الى الثراء والغنى، حتى سار مثلاً:
كم عالمٍ عالمٍ أعيتْ مذاهبُه وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقاً
مما يثبت ان الرزق الحلال لايحصل عليه المخلوق ولايجده بقوة الاقتدار والاختيار، وانما يُعطى له من لدن مرحمة قد قبلت كدّه وسعيه، ويحسن اليه من عند شفقة ورأفة رقّت على احتياجه وافتقاره.
غير ان الرزق نوعان:
الاول: الرزق الحقيقي والفطري للمعيشة، الذي هو تحت التعهد الرباني، وهو مقدّر بحيث ان المدّخر منه في الجسم بصورة دهون او بصور اخرى يمكنه ان يعيّش الانسان ويديم حياته اكثر من عشرين يوماً دون ان يذوق طعاماً. فالذين يموتون جوعاً في الظاهر قبل عشرين او ثلاثين يوماً من دون ان ينفد رزقهم الفطري لاينشأ موتهم من انعدام الرزق، بل من مرض ناشئ من سوء التعود ومن ترك العادة.
والقسم الثاني من الرزق: هو الرزق المجازي والاصطناعي الذي يكون بحكم الضروري بعد أن يدمن الانسان عليه بالتعود والاسراف وسوء الاستعمال. وهذا القسم ليس ضمن التعهد الرباني وتكفله بل هو تابع الى احسانه سبحانه. فاما أن يمنحه او يمنعه.
فالسعيد - في هذا الرزق الثاني - والمحظوظ فيه، هو من يعلم ان السعي الحلال بالاقتصاد والقناعة - وهما مدارا السعادة واللذة - هو نوع من العبادة، وهو دعاء فعلي لكسب الرزق، لذا يقضي هذا السعيد حياته بهناء ويقبل ذلك الاحسان شاكراً ممتناً.
الشعاع السابع - ص: 221
والشقي التعس في هذا الرزق هو من يتخلى عن السعي الحلال بالاسراف والحرص - وهما سبب الشقاء والخسارة والألم - فيقضي حياته بل يهلكها بطرق كل باب بالكسل والتظلم والتشكي.
فكما ان المعدة تطلب رزقاً، فالقلب والروح والعقل والعين والاذن والفم وامثالها من لطائف الانسان ومشاعره هي الاخرى تطلب رزقها من الرزاق الرحيم، وتأخذه منه بكل شكر وامتنان. فيهب سبحانه لكل منها من خزائن رحمته، رزقها الذي يناسبها وترضى به وتلتذ. بل ان الرزاق الرحيم قد خلق كلاً من تلك اللطائف كالعين والاذن والقلب والخيال والعقل وامثالها بمثابة مفتاح لخزينة رحمته كي يغمرها بالرزق الواسع. فمثلما العين مفتاح لخزائن الجواهر القيمة من الحسن والجمال المنبسط على وجه الكائنات، فاللطائف الاخرى كذلك كل واحدة منها مفتاح لعالم معين، تستفيد منه بالايمان.. وعلى كل حال فلنرجع الى أصل الموضوع.
فكما ان الخالق القدير الحكيم قد خلق الحياة خلاصة جامعة مستخلصة من الكائنات يحشّد فيها مقاصده العامة وتجليات اسمائه الحسنى. كذلك جعل الرزق في عالم الحياة مركزاً جامعاً للشؤون الربانية، خالقاً في ذوي الحياة غريزة الاشتهاء وتذوق الرزق، ليفسح بذلك المجال لأهم غاية لخلق الكائنات وحكمتها وهي جعل المقابل في شكر ورضى دائمين وكليين يتمان بكل خضوع وعبودية تجاه ربوبيته وتودّده سبحانه.
فمثلاً: أنه سبحانه قد عمّر كل طرف من أطراف المملكة الربانية الواسعة جداً؛ فعمَّر السماوات بالملائكة والروحانيين، وعمَّر عالم الغيب بالارواح، كما عمَّر العالم المادي - لحكمة بث الروح واضفاء البهجة فيه وبخاصة عالم الهواء والارض، بل كل جهة منه وفي كل وقت وأوان - بوجود الاحياء وبخاصة الطيور والطويرات والحشرات. فغرز الاحتياج للرزق وتذوقه في الحيوانات والانسان؛ وجعلهم يسعون دوماً وراء رزقهم. وكأن ذلك الاحتياج سوط تشويق لهم يسوقهم ويحركهم ويجريهم وراء الرزق منتشلاً إياهم من الكسل والعطالة، وما ذلك إلاّ حكمة من حكم الشؤون الربانية. ولولا امثال هذه الحكمة من الحكم المهمة لكان سبحانه يجعل التعيينات المقننة للحيوانات تسعى اليها دون كدٍ وعناء ولحاجة فطرية كما جعل ارزاق النباتات تسعى اليها هكذا.
الشعاع السابع - ص: 222
ولو وجدت عين تستطيع رؤية انواع الجمال لاسم الرحيم وأوجه الحسن لاسم الرزاق وشهادتهما للوحدانية رؤية ً تامة بحيث تتمكن من الاحاطة كلياً بسطح الارض ومشاهدته في آن واحد، لكانت ترى مدى متعة الجمال ومدى لذة الحسن في تجلي شفقة الرزاق الرحيم ورأفته الذي يمدّ إمداداً غيبياً ويحسن احساناً رحمانياً قوافل الحيوانات التي كادت تنفد ارزاقها في اواخر الشتاء، بأطعمة ونِعم ٍفي منتهى اللذة ومنتهى الكثرة ومنتهى التنوع مودعة اياها في ايدي النباتات وموضوعة على هامات الاشجار ومعلقة في اثداء الوالدات ومرسلة لها من خزائن رحمة غيبية صرفة. وعند ذلك تدرك بأن الذي يصنع تفاحة واحدة - مثلاً - ويهبها رزقاً حقيقياً ، منعماً بها على شخص، لايمكن ان يكون الاّ الذي يدير كل المواسم والليالي والايام ويجعل الكرة الارضية كسفينة تجارية يبحر بها ويسيرها مستحصلاً بها محاصيل المواسم فيأتي بها الى ضيوفه المعوزين في الارض، ذلك لأن سكة الفطرة، وختم الحكمة، وطغراء الصمدية، وختم الرحمة، الموجودة على جبين تلك التفاحة الواحدة، موجودة كذلك على جبين تفاح الارض كلها وعلى سائر الاثمار والفواكه وعلى النباتات والحيوانات جميعها. لذا فان مالك تلك التفاحة الواحدة وصانعها الحقيقي هو مالك وصانع امثالها واشباه جنسها من سكنة الارض وهو مالك وصانع الارض الضخمة التي هي حديقتها، وهو بارئ شجرة الكائنات التي هي مصنعها. وهو موجد موسمها الذي هو معملها وهو باعث الربيع والصيف اللذين هما ميدان تربيتها ونموها، ذلكم المالك ذو الجلال والخالق ذو الجمال. لاشريك له ولا إله غيره.
فكل ثمرة اذاً هي ختم رائع واضح للوحدة، بحيث يعرّف كاتب وصانع شجرتها وهي الارض، ويعرّف كاتب وخالق حديقتها وهي كتاب الكون، ويبرز وحدته سبحانه، ويشير الى أن أمر الوحدانية قد ختم باختام تصديق عديدة بعدد الاثمار.
ولكون (رسائل النور) مظهراً لأسمي (الرحيم والحكيم) من الاسماء الحسنى ولبيان واثبات لمعات كثيرة لحقيقة الرحيمية وأسرارها الغزيرة في عدة اجزاء من أجزاء رسائل النور، نحيل اليها. وقد أكتفي بهذه الاشارة القصيرة الى تلك الخزينة الغنية الكبيرة نظراً لحالتي غير الملائمة.
* * *
الشعاع السابع - ص: 223
وهكذا فصاحبنا السائح يقول: الحمد لله! الذي وفقني لأسمع الحقائق الثلاث والثلاثين التي تشهد على وجوب وجود خالقي ومالكي وعلى وحدته، والذي ظللت أبحث عنه في كل مكان وأسأل عنه كل شئ. تلك الحقائق التي كل منها عبارة عن شمس مشرقة تبدد كل ظلام، وكل منها بقوة الجبل الراسخ المستقر، وكل منها بتحقيقاتها تشهد في غاية القطعية على وجوده سبحانه وتدل باحاطتها في غاية الجلاء على وحدته، وتثبت خلالها سائر الاركان الايمانية اثباتاً قوياً. وان إجماع مجموع الحقائق واتفاقها قد حولت ايماننا من التقليد الى التحقيق، ومن التحقيق الى علم اليقين، ومن علم اليقين الى عين اليقين، ومن عين اليقين الى حق اليقين، فالحمد لله.. هذا من فضل ربي.
(الحمد لله الذي هَدانا لهذا وما كُنا لِنَهتَديَّ لولا أن هدانا الله لقَدْ جاءت رُسُلُ رَبِّنا بالحق) (الاعراف: 43).
هذا وقد جاءت في الباب الثاني من المقام الاول إشارة قصيرة جداً الى الانوار الايمانية التي اكتسبها هذا السائح الباحث المشتاق في مشاهداته في المنزل الثالث من الحقائق الاربعة المعظمة:
[لا إله إلاّ الله الواحد الاحد الذي دلّ على وحدته فـي وجوب وجوده: مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الفتاحية، بفتح الصور لأربعمائة ألف نوع مـن ذوي الحياة المكملة بلا قصور، بشهادة فنِ النبات والحيوان.. وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الرحمانية الواسعة المنتظمة بلا نقصان بالمشاهدة والعيان.. وكذا مشاهدة عظمة حقيقة الادارة المحيطة لجميع ذوي الحياة والمنتظمة بلا خطأ ولا نقصان.. وكذا مشاهدة عظمة احاطة حقيقة الرحيمية والاعاشة الشاملة لكل المرتزقين المقننة فـي كل وقت الحاجة بلاسهو ولا نسيان جل جلاله رَزًَّقهَا الرحمنُ الرحيمُ الحنـان المنان وعَمَّ نوالهُ وشَمِلَ اِحسانه ولا إله إلاّ هو].
(سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنَا إنك انت العليم الحكيم)
* * *
الشعاع السابع - ص: 224
ياربّ ِ
بحق بسم الله الرحمن الرحيم. ياالله يارحمن يارحيم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه اجمعين بعدد جميع حروف رسائل النور المضروبة تلك الحروف في عاشرات دقائق جميع عمرنا في الدنيا والآخرة مع ضرب مجموعها في ذرات وجودي في مدة حياتي واغفر لي ولمن يعينني في نشر رسائل النور وكتابتها بصداقة بكل صلاة منها ولآبائنا ولساداتنا وشيوخنا ولإخواتنا واخواننا ولطلبة رسالة النور الصادقين وبالخاصة لمن يكتب ويستنسخ هذه الرسالة برحمتك يا ارحم الراحمين.. آمين.
(وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)
* * *
الشعاع السابع - ص: 225
"
مهمة رسائل النور"

استمعت في هذه الايام ضمن محاورة معنوية لسؤال وجواب، أبين لكم خلاصة منهما:
"
قال احدهم: ان التحشيدات العظيمة لرسائل النور وتسلّحها بتجهيزات كلية، وجهادها لاجل الايمان والتوحيد تزداد باطراد. وعلى الرغم من ان واحدة منها كافية لإلزام أعتى عنيد، فلِمَ توالي بهذه الدرجة من الحرارة والفعالية تحشيدات جديدة لذلك؟
قالوا جواباً له: ان رسائل النور لا تعمّر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتاً صغيراً مهدماً وحده، بل تعمّر ايضاً تخريبات عامة كلية، وترمم قلعة محيطة عظيمة - صخورها كالجبال - تحتضن الاسلام وتحيط به. وهي لاتسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معين وحده، بل تسعى ايضاً وبيدها اعجاز القرآن لمداواة القلب العام، وضماد الافكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هُيئَت لها وحشدت متراكمة منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجّه نحو الفساد نتيجة تحطم الاسس الاسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع وبخاصة عوام المؤمنين. نعم انها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدوية إعجاز القرآن والايمان.
فامام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشقوق الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة واعتدة مجهّزة بدرجة حق اليقين وبقوة الجبال ورسوخها، ووجود أدوية مجرّبة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لاحدّ لها.
هذه هي مهمة رسائل النور النابعة من الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وفي الوقت الذي تقوم بها في هذا الزمان أتم قيام، فهي تحظى بكونها مدار انكشاف لمراتب غير محدودة للايمان ومصدر رقي في مدارجه السامية غير المتناهية".
وعلى هذا المنوال جرت مكالمة طويلة. فسمعتها كاملة، وشكرت الله كثيراً، أجملتها لكم.

سعيد النورسي
* * *
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشعاعات - الشعاع الخامس عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 7 04-06-2011 04:10 PM
الشعاعات - الشعاع الثالث عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 5 04-06-2011 03:41 PM
الشعاعات - الشعاع الثاني عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 1 04-06-2011 03:35 PM
الشعاعات - الشعاع الحادي عشر عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 8 04-06-2011 03:31 PM
الشعاعات - الشعاع التاسع عبدالقادر حمود رسائل ووصايا في التزكية 0 04-06-2011 03:15 PM


الساعة الآن 08:58 AM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir