بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في ذكرى مولد النور
أحمدحلمي سيف النصر عن جريدة الخليج
كانت مكة على موعد في شهر ربيع الاول من عام الفيل الموافق لعام 571 ميلادية مع حدث عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية وحياة البشر طوال أربعة عشر قرناً من الزمان، وسيظل يشرق بنوره على الكون، ويرشد بهداه الحائرين، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. كان ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أهم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ أن خلق الله الكون، وسخر كل ما فيه لخدمة الإنسان، وكأن هذا الكون كان يرتقب قدومه منذ أمد بعيد.
لِهَذا الشهْر فِي الإسلامِ فَضْلٌ
ومَنْقَبَةٌ تَفُوْقُ عَلى الشهُورِ
ربيعٌ في ربيعٍ في ربيعٍ
ونورٌ فوقَ نورٍ فوقَ نور
ورُوي في سبب تسميته محمداً أن أمه أُمرت أن تسميه بذلك وهي حامل، وروي أن جده عبد المطلب رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذ بأهل المشرق والمغرب يتعلقون بها؛ فتأولها بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء فسماه “محمداً”.
ويعرف النبي صلى الله عليه وسلم بابن الذبيحين، فأبوه عبد الله “هو الذبيح الذي نذر “عبد المطلب” ذبحه ثم فداه بمائة من الإبل، وجده “إسماعيل” عليه السلام- هو الذبيح الذي فداه ربه بذبح عظيم. وعندما أشرق مولد سيد الخلق كانت له إرهاصات عجيبة، وصاحبته ظواهر غريبة وأحداث فريدة، ففي يوم مولده زلزل إيوان “كسرى” فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار “فارس” ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة “ساوة”.
وروى عن أمه أنها قالت: “رأيت لما وضعته نوراً بدا مني ساطعاً حتى أفزعني، ولم أر شيئاً مما يراه النساء”. وذكرت “فاطمة بنت عبد الله” أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: “فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي”.
ويميل أكثر العلماء إلى شرعية الاحتفال بالمولد النبوي، ووجوب إحياء هذه الذكرى بالذكر والعبادة، والتماس مواطن القدوة في حياة صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به وإحياء سننه، والسير على نهجه وشرعته.
يقول الإمام ابن حجر العسقلاني: “أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرّى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة”.
ويقول الإمام السخاوي: “لو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان، وسرور أهل الإيمان من المسلمين لكفى”.
ويقول العلامة فتح الله البناني: “إن أحسن ما ابتُدع في زماننا هذا ما يُفعل كل عام في اليوم الذي يوافق مولده صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك على ما فيه من الإحسان إلى الفقراء- مشعر بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك”.
إن الاحتفال الحقيقي بميلاد النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، ليس بمآذن نشعلها بالكهرباء، ولا بأعلام نرفعها على رؤوس البناء ولا موسيقا نعزفها على أمواج الأثير والهواء فحسب بل إن تمام الاحتفال وحقيقته أن نعمل قادة وشعوباً، وشباباً وشيباً، على إحياء دينه، على دراسة منهاجه وآدابه وسيرته، وعلى اتباع طريقته في السياسة والاجتماع، في التعليم والاقتصاد، في العدالة والرحمة والإنسانية.
إن حقيقة الاحتفال بهذا الحدث الكبير أن نعمل جميعاً على تطهير مجتمعنا من رواسب سموم بثها المرجفون فينا.. في العقول والنفوس، فأفسدوا في بعضنا الأخلاق والأعمال، وأوهنوا الروابط الاجتماعية بين الكثير من الناس.
علينا أن نعمل جميعاً على تهيئة جيل مؤمن بالله، متزين بالأخلاق العربية المحمدية متحل بروح التضحية والإيثار ونكران الذات، حينئذ يكون الاحتفال بالذكرى قد نفعنا.
فميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كميلاد أي طفل يولد على هذه الأرض فلقد كان هذا الحدث مميزا بكل تفاصيله وبكل ما أحاط به من بيئة، مكانية وزمانية، حيث كانت تصاحبه ارهاصات وعلامات توحي ان هذا الميلاد سيكون ميلاد أمه، بل سيكون ميلادا للرحمة والهدي الالهي:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وسناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
وكان هذا الميلاد في مرحلة من اصعب المراحل التي مرت بها جزيرة العرب من فرقة وتناحر، وارتماء في أحضان الفرس والروم وتفشي الظلم وظهور الفساد في البر والبحر.
في هذا الظرف ولد الهدى والرحمة والأمل، ولد الطفل محمد اليتيم ليكون رحمة الله للعالمين، فأخرج الله به خير أمة اخرجت للناس وارتضى الله لأمته الاسلام وتعهد لها أن يظهره على سائر الاديان، وجمع الله به العرب على خير مجمع فأعزهم بدينه وأكرمهم بصحبته وهزم عدوه وعدوهم بجهاده وأصحابه.
بك بشر الله السماء فزينت
وتوضعت مسكا بك الغبراء
يوم يتيه على الزمان صباحه
ومساؤه بمحمد وضاء
وشهد بعظمة اشرف خلق الله اعظم ملوك الروم هرقل، بعد ان جمع معلومات عن رسول الله صلِ الله عليه وسلم وعن أتباعه ودينه، من خلال الاسئلة التي وجهها الى أبي سفيان ومن معه عن طريق الترجمان، حيث قال: “فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين”.
وقد وصف “كارلايل” محمدا صلى الله عليه وسلم في كتاب “الأبطال” بأنه “كان واحداً من هؤلاء الذين لا يستطيعون إلا أن يكونوا في جد دائماً، هؤلاء الذين جبلت طبيعتهم على الإخلاص، فلم يقم هذا الرجل بإحاطة نفسه داخل إطار من الأقوال والصفات الطيبة ولكنه تفرد مع روحه ومع حقيقة الأشياء يستمد منها ما نطلق عليه الإخلاص.
شيء يملكه أسمى من طبيعة البشر فقد كانت رسالة هذا الرجل ينبعث من فطرة قلبه وروحه ولهذا يجب أن يستمع ويعمل الرجال وليس لأي شيء آخر فكل شيء غير ذلك إنما هو هباءً تذروه الرياح”.
يقول “مايكل هارت” في كتابه “العظماء مائة وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم” عن سبب اختياره لمحمد وكونه الأعظم فقال: (إن اختياري لمحمد ليقود قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيراً في البشرية قد يدهش بعض القراء وقد يعترض عليه البعض، ولكنه كان (أي محمد) الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً في كل من المستوى الديني والدنيوي).
وكان من بين ممثلي حركة التنوير في أوروبا من رأوا في النبي صلى الله عليه وسلم مشرعاً حكيماً، ورسولاً للفضيلة، وناطقاً بكلمة الدين الطبيعي الفطري، ومبشراً بالرحمة الالهية للناس أجمعين ومن هؤلاء “رودي بارت” وهو عالم ألماني معاصر، اضطلع بالدراسات الشرقية في جامعة “هايدلبرج”، وكرس حياته لدراسة علوم العربية والإسلام، وصنف فيها عدداً كبيراً من الأعمال، منها ترجمته للقرآن الكريم التي استغرقت منه عشرات السنين وأصدرها بين عامي 1963 و،1966 وله كتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول “بارت”: “كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فساداً. حتى أتى محمد [صلى الله عليه وسلم] ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس”.
وقال “إدوار بروي” وهو باحث فرنسي معاصر، وأستاذ في “السوربون”: “جاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، النبي العربي يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو للقول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة في دعوته لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، تضبط ليس الأمور الدينية فحسب، بل أيضاً الأمور الدنيوية، فتفرض على المسلم الزكاة، والجهاد ضد المشركين، ونشر الدين الحنيف، وعندما قبض النبي صلى الله عليه وسلم، عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيراً فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تمت للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل”.