الهجرة

الهجرة: هي ترك الوطن الى غيره، ومنه سمي من تركوا مكة فرارهم بدينهم من الصحابة “المهاجرون” قال الله تعالى: “والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار”. (التوبة/ 100). ومما لا شك فيه أن تعلق الإنسان بوطنه الذي نشأ فيه وارتباطه به يرجع لأسباب عدة منها: أنه المحطة الأولى التي فتح عينيه ليراها، وأنه محل الذكريات الجميلة الخالية من عبء المسؤولية، وزحمة المشاغل، فهو مسرح للمرح البريء، والحب الصادق، وهو المكان الدافئ في ظل الأهل والعشيرة. والمكان الذي يشعر الإنسان معه بالعلاقة العضوية، فكلاهما جزء للآخر ولله در أبي تمام حيث قال:
نقل فؤاد حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأولِ

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزل

عذاب الغربة

إن الغربة عذاب لا يقدره إلا من اكتوى بنارها، وكان الإبعاد عن الوطن عقوبة من العقوبات المؤلمة التي ألهبت وجدان الشعراء ومنهم محمود سامي البارودي الذي أرسل من منفاه قصيدته المشهور ب “سرنديب” يبث فيها حنينه للوطن، وأثر الغربة فيه ومن أبياتها:

أبيت في غربة لا النفس راضية

بها، ولا الملتقى من شيعتي كثب

فلا رفيق تسر النفس طلعته

ولا صديق يرى ما بي فيكتئب
ومع ذلك فإنه قد يعرض للإنسان ما يضطره لترك بلده برغبته، أو على كره منه. وعلى كل الأحوال فإن الهجرة قد تكون هي الحل الأمثل لكثير من المشكلات التي يواجهها المرء. قال الله تعالى: “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً”. (النساء 97-100)، لذلك نستطيع أن نقول إن الإسلام قد أقر الهجرة كمبدأ لإيجاد حلول لما قد يعترض المسلم من عقبات في حياته، كعدم توافر الرزق في المكان الذي يعيش فيه، أو حاجته لتحصيل علم لا يتم إلا بمغادرته لبلده، أو خشيته الفتنة على نفسه وأسرته ونحو ذلك مما قد يواجهه من صعاب.

في الاتجاه الصحيح

ولما كان المسلم لا يصدر في تصرفاته إلا وفق ما يحبه الله تعالى ويرضى عنه فإن حركته لكي تكون في الاتجاه الصحيح ينبغي أن يسترشد فيها بهداية القرآن الكريم، وتوجيهات السنة النبوية المطهرة، وقد أكد الله تعالى على هذا المعنى بقوله: “ومن يهاجر في سبيل الله” وقوله: “ومن يخرج من بيته مهاجراً الى الله ورسوله”، ولقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة أنموذجاً تطبيقياً للقاعدة الكلية “إنما الأعمال بالنيات”، ففي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر إليه”. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: “فمن كانت هجرته الى الله ورسوله.. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها” لتعرف كيف تكون الهجرة في سبيل الله، فالأعمال قد تتفق في الصورة ولكنها تختلف باختلاف النوايا والمقاصد والهجرة من أقرب الأمثلة الدالة على أثر النية في تحديد صلاح العمل وفساده، فقد يخرج القوم في رحلة واحدة ولكن توجهاتهم شتى فهذا طالب علم، وذاك طالب رزق، وآخر يدعو الى الله تعالى، وغيره يسعى في مصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومنهم من يخرج بأسرته فاراً بدينه خشية الذوبان في مجتمعات الفسق والرذيلة، ومنهم من يخرج طالباً لغرض من أغراض الدنيا المباحة أو الحرام، وجميعهم تحدد النية هل خروجهم في سبيل الله تعالى أم لا؟ روى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس”.

الهجرة الى الله

والمسلم شخص متميز في عقيدته وسلوكه ومشاعره وطريقة تفكيره، لا يسلم إلا بالحقائق، ولا ينظر إلا الى المعالي، ولا يرضى إلا بالصف الأول، قال الله تعالى: “لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاً وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً”. (النساء 95)، وقال الله تعالى: “ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”. (المطففين 26)، وفي صحيح ابن حبان عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أم حارثة إنها لجنان، وإن حارثة في الفردوس الأعلى، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس”. لذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي الهجرة معنى أبعد وأعمق من كونها انتقالاً من مكان الى مكان لتحقيق ما يحبه الله تعالى ويرضاه. روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”. فالمسلم شخص صاحب عقيدة، ملتزم بمبادئ وقيم، لا يثنيه عنها عبث عابث، أو إغواء ضال، إنه مهاجر الى الله تعالى دائماً بإتيان ما يحبه ويرضاه، وترك ما يكرهه ويبغضه. وبالتالي يمكن للمسلم أن يهاجر الى الله تعالى، ويحقق أعلى المنازل من دون أن يتحرك من مكانه.

لا شك أن الهجرة الأولى من مكة كانت حدثاً عظيماً، إذ شكلت نقطة انطلاق لرسالة الإسلام في الجزيرة العربية، ثم الى العالم أجمع فيما بعد، ولذا لما استشار عمر بن الخطاب الصحابة رضي الله عنهم متى يبدأون التاريخ؟ أشار عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن تكون الهجرة النبوية بداية التأريخ الإسلامي، فعن سعيد بن المسيب قال: جمع عمر رضي الله عنه المهاجرين والأنصار فقال: متى نكتب التاريخ؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: منذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض الشرك يعني يوم هاجر فكتب ذلك عمر رضي الله عنه. وهكذا كانت الهجرة نقطة التحول الكبرى في تاريخ الأمة، وكان التاريخ بها علامة مميزة لها تؤكد قدرتها على الاستقلال وإثبات الذات.