![]() |
فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 62
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ. (62) قولُهُ: {مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} مَوْلاهُمُ: أَيْ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَبَاعِثُهُمْ وَمَالِكُهُمْ الذي يلي أُمورَهم أوْ خالِقُهم ومَعْبودُهم، ويُطْلَقُ المولى أيضاً على المُعْتِقِ، إشْعاراً بأنَّه جَلَّ شأنُه أَعْتَقَهم مِنَ العَذابِ. و"الْحَقِّ" صفةٌ لاسْمِ اللهِ، وإنَّما قالَ ذلك لأنَّهم كانوا في الدُنْيا تحتَ أَيْدي مَوَالٍ بالباطِلِ، كالنَّفْسِ والشَهْوَةِ وغيرِ ذلك، قالَ سبحانَه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهَهُ هَوَاهُ} الجاثية: 32. فلمَّا ماتَ الإنسانُ تخلَّصَ مِنْ تَصَرُّفاتِ المَوالي الباطِلَةِ وانْتَقَلَ إلى تَصَرُّفِ المولى الحقِّ. فاللهُ مَوْلاهُمْ وسَيِّدُهُم بالحَقِّ. وذَكرَ حُجَّةُ الإسْلامِ الإمامُ الغزاليُّ قُدِّسَ سِرُّهُ أَنَّ الحَقَّ مُقابِلَ الباطِلِ، وكُلُّ ما يُخْبَرُ عنهُ فإمَّا باطلٌ مُطْلَقاً وإمَّا حَقٌّ مُطْلَقاً وإمَّا حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ باطلٍ مِنْ وَجْهٍ، فالمُمتَنِعُ بذاتِهِ هُو الباطِلُ مُطْلَقاً، والواجِبُ بذاتِهِ هو الحقُّ مُطْلَقاً والمُمكِنُ بِذاتِهِ الواجِبُ بغيرِهِ حَقٌُّ مِنْ وَجْهٍ باطلٌ مِنْ وَجْهٍ، فمِنْ حيثُ ذاتِه لا وُجُودَ لَهُ فهو باطلٌ وَمِنْ جِهَةِ غيرِهِ مُستَفيدٌ للوُجودِ فهو حَقٌّ مِنَ الوَجْهِ الذي يَلي مُفيدُ الوُجودِ، فمَعنى الحقِّ المُطْلَقِ هو الموجودُ الحَقيقيُّ بِذاتِهِ الذي مِنْهُ يُؤخَذُ كُلُّ حَقيقةٍ وليسَ ذَلك إلاَّ اللهُ تعالى، وهذا هو مُرادُ القائلِ إنَّ الحَقَّ هو الثابتُ الباقي الذي لا فَنَاءَ لَهُ. قولُهُ: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} أي لا حكمَ إلاَّ لَه لا لِغيرِهِ لا بِحَسَبِ الظاهرِ ولا بِحَسَبِ الحَقِيقةِ، فاعْلَمُوا وَقُولُوا: لَهُ الْحُكْمُ وَحْدَهُ يومَ الْقِيَامَةِ، أَيِ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ. واسْتُدِلََّ بهذه الآيةِ الكريمةِ على أَنَّ الطاعةَ لا تُوجِبُ الثَوابَ، والمَعْصيةُ لا تُوجِبُ العِقابَ، إذْ لو ثَبَتَ ذلك لَثَبَتَ للمُطيعِ على اللهِ تعالى حُكْمٌ، وهو أَخْذُ الثَوابِ، وهو يُنافي ما دَلَّتْ عليْهِ الآيةُ مِنَ نِسْبَةِ الحُكْمِ إلى ذاتِهِ المقدَّسةِ حَصْراً. قولُهُ: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ} لِكَوْنِهِ لا يَحتاجُ إلى ما يحتاجون إليْه، أَيْ لا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ وتَدَبُّرٍ. فهو سبحانه يحاسب جميعَ الخلائقِ بنفسِهِ في أَسْرَعِ زمانٍ وأَقْصَرِهِ، إذ أَنَّه تعالى شأنُهُ لا يَشغَلُهُ حِسابٌ عن حسابٍ كما لا يَشغَلُهُ شأنٌ عنْ شأنٍ. وفي الحديث: (أنَّه تعالى يحاسِبُ الكُلَّ في مِقدارِ حَلْبِ شاةٍ) ورُوِيَ في لمحةٍ. وفي بعضِ الأخبارِ "في مقدارِ نِصْفِ يومٍ ". وذَهَبَ بعضُهم إلى أنَّه تعالى لا يحاسِبُ الخَلْقَ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَأْمُرُ سُبْحانَهُ المَلائكةَ عليهِمُ السَلامُ فيُحاسِبُ كلَّ واحدٍ منهم واحداً مِنَ العِبادِ. وذَهَبَ آخَرونَ إلى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إنَّما يُحاسِبُ المؤمنين بنفسِهِ، وأَمَّا الكُفَّارُ فتُحاسِبُهُمُ الملائكةُ، لأنَّهُ تعالى لو حاسَبَهم لَكَلَّمَهمْ، وذَلكَ باطلٌ لِقولِهِ تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ} البقرة: 174. وأُجيبَ عنْ هذا بأنَّ المُرادَ أنهُ لا يُكلِّمُهُم بما يَنْفَعُهم، فإنَّ ظواهِرَ الآياتِ ومِنْها ما تقدَّمَ في هذِه السُورَةِ مِنْ قولِهِ تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} الأنْعامُ: 22. وقولِهِ سبحانَه: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحقِّ قَالُواْ بلى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الأنْعامُ: 30. فهذه الآيات المباركات تَنصُّ على تكليمِ اللهِ تعالى لهم في ذلك اليومِ، ثمَّ إنَّ كيْفِيَّةَ ذلك الحساب مما لا تحيطُ بِتَفْصيلِها عُقولُ البَشَرِ مِنْ طريقِ الفِكْرِ أَصْلاً وليْسَ لَنَا إلاَّ الإيمان بِهِ مَعَ تفويضِ الكَيْفِيَّةِ وتَفْصيلِها إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَهادَةِ، جَلَّ في عُلاهُ. وادَّعى الفَلاسِفَةُ أَنَّ كَثْرَةَ الأَفعالِ وتَكْرُّرَها يُوجِِبُ حُدوثَ المَلَكاتِ الرَّاسِخَةِ، وأَنَّه يجبُ أنْ يَكونَ لِكُلِّ واحدٍ مِنْ تلكَ الأَعْمالِ أَثَرٌ في حُصولِ تلكَ المَلَكَةِ، بَلْ يجبُ أنْ يَكونَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزاءِ العَمَلِ الواحِدِ أَثَرٌ بِوَجْهٍ مّا في ذلكَ وحِينَئِذٍ يُقالُ: إنَّ الأفعالَ الصادرةَ مِنَ اليَدِ هي المُؤَثِّرَةُ في حُصولِ المَلَكةِ المخصوصَةِ، وكذلكَ الأفعالُ الصادرةُ مِنَ اليَدِ هي المؤثِّرَةُ في حُصولِ المَلَكَةِ المَخْصوصَةِ، وكذلكَ الأفعالُ الصادرةُ مِنَ الرِجْلِ فتَكونُ الأيدي والأرجُلُ شاهدةً على الإنْسانِ، بمَعنى أَنَّ تلكَ الآثارَ النَّفسانِيَّةَ إنَّما حَصَلَتْ في جَواهِرِ النُّفوسِ بِوِساطةِ هذه الأفعالِ الصادرةِ عنْ هذِهِ الجَوارِحِ، فكان ذلك الصُدُورُ جارِياً مجرى الشهادةِ بحصولِ تلكَ الآثارِ في جَواهِرِ النَّفسِ. وادُّعِيَ أَنَّ هذِهِ الآيةَ مِنْ أَدَلِّ الدَلائلِ على أَنَّ الإنسانَ ليس عِبارةً عنْ مجرَّدِ هذِهِ البُنْيَةِ، لأَنَّ صَريحَها يَدُلُّ على حُصولِ المَوْتِ للعَبْدِ، ويَدُلُّ على أَنَّهُ بعدَ الموتِ يُرَدُّ إلى اللهِ تعالى، والمَيْتُ مَعَ كونِهِ مَيْتاً لا يمكِنُ أَنْ يُرَدَّ إلى الله تعالى لأنَّ ذلك الرَّدَّ ليسَ بالمَكانِ والجِهَةِ لِتَعالِيهِ سبحانَه عَنْهُما، بَلْ يجبُ أَنْ يَكونَ مُفَسَّراً بِكونِهِ مُنْقاداً لحُكْمِ اللهِ تعالى مُطيعاً لِقَضائِهِ، وما لم يَكُنْ حَيّاً لا يَصِحُّ هذا المَعْنى فيه، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ ههُنا مَوْتٌ وحياةٌ، أَمَّا الموتُ فَنَصيبُ البَدَنِ فتَبْقى الحياةُ نَصيبَ الرًّوحِ. قولُهُ تعالى: {مَوْلاَهُمُ الحَقُّ} صِفَتانِ للهِ. وقرَأَ الحَسَنُ والأعْمَشُ: "الحقَّ" نَصْباً، وفيهِ تأويلان، أَظْهَرُهما: أَنَّهُ نَعْتٌ مَقطوعٌ. والثاني: أنَّه نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ أيْ: رَدُّوا الرَّدَّ الحَقَّ لا الباطِلَ. وقُرِئَ: {رِدُّوا} بِكَسْرِ الراءِ، وتَقدَّمَ تخْريجُها مستوفى. والضَميرُ في "مَوْلاهُم" فيهِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَظهرُهما: أنَّه ُللعِبادِ في قولِهِ {فَوْقَ عِبَادِهِ} فقولُهُ: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} التفاتٌ، إذا الأصلُ: ويُرسِلُ عليهم وفائدة هذا الالْتِفاتِ التَنْبيهُ والإِيقاظُ. والثاني: أَنَّهُ يَعودُ على الملائكةِ المَعنيِّين بقولِهِ: "رسلنا"، يَعني أَنهم يموتونَ كمَا يموتُ بَنُو آدمَ، ويُرَدُّونَ إلى رَبهم. والثالثُ: أَنَّهُ يَعودُ على "أَحَدٍ" في قولِهِ: "إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الموتُ" إذِ المُرادُ بِهِ الجَمْعُ لا الإِفْرادُ. |
رد: فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 62
جزاك الله خيرا
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم |
رد: فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 62
اقتباس:
|
الساعة الآن 07:39 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |