![]() |
فيض العليم ... سورة الأعراف، الآية: 202
ِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) ولهذا كان ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، يَقولُ في دُعائِهِ: ((يا مُقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قَلبي على دِينِكَ)). أَخْرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ في تَفْسيرِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، أَنّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، ثُمَّ قَرَأَ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)). مسند إسحاق بن راهويه: (4/112) إسنادُهُ حَسَنٌ والحديثُ صَحيحٌ بِشَواهِدِهِ، فإنَّ له رواياتٌ كثيرةٌ عن عددٍ من أصحابِ النبيِّ وأزواجه ـ رضي الله عنهم جميعاً، منها ما أَخرَجَهُ الإمامُ في مسنده عَنْ أَنَسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) قَالَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ، فَقَالَ: ((نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، يُقَلِّبُهَا)). مسندُ أحمد: (24/210). قال شعيبُ الأرنؤوط إسنادُهُ قويٌّ على شَرْطِ مُسْلِم، وفي روايةٍ أخرى له عن أمِّ المؤمنين عائشةَ ـ رضي اللهُ عنها: .. قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُكْثِرُ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالَ: ((إِنَّ قَلْبَ الآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ)). مسند أحمد: (50/119) وأخرجه: البُخاريُّ في "الأدب المفرد: (683)، وابْنُ ماجه: (3834)، وابْنُ أبي عاصم في "السنة": (225)، وأبو يَعلى: (3687) و (3688)، والطبريُّ في "تفسيرِه" (5229)، والطبراني في "الكبير": (759)، والآجُري في "الشريعة": 317، والحاكم: 1/526 وصحَّحه، وأَبو نُعيْم في "الحلية": (8/122)، والبيهقيُّ في "شُعَبِ الإيمان": (757)، والبغوي: (88)، والضياءُ المَقْدِسِيُّ في "المختارة": (2222) و (2223) و (2224) و (2225). مِنْ حديثِ أَنَسٍ بْنِ مالك، به. والرواياتُ مُطَوَّلَةٌ ومختصرةٌ، وقال الإمامُ التِرْمِذِيُّ: (حسن). قولُه: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ عَلَيْهِمْ رَسَّخَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَزَادَ فِيهِ، ذلك أنَّ دقائقَ الإعْجازِ التي تحتوي عليها آياتُ القرآنِ تَزيدُ كلُّ آيةٍ منها سامعَها يَقيناًبأَنها مِنْ عِنْدَ اللهِ، كلَّما تكرَّرت على مسامعه، فتَزيدُه اسْتِدْلالاً على ما في نَفْسِهِ، فيَقوى الإيمانُ ويزدادُ حتى يَصِلَ إلى مَرْتَبَةٍ تَقْرُبُ من الضَرورة على نحو ما يَحْصلُ في تواترِ الخبرِ مِنَ اليَقين بِصِدْقِ المُخبِرين، ويحصل مع تلك الزيادةِ زِيادَةٌ في إقبالِ القلوبِ عليها، ثمَّ في العَمَلِ بما تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، حتى يحصلَ كمالُ التَقْوى. وأخرج ابْنُ أبي حاتمٍ في تفسيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: "وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا "، يَقُولُ: تَصْدِيقًا". وأخرج عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: "وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا"، يَقُولُ: زَادَتْهُمْ خَشْيَةً". قولُه: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وَهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ، يَعْتَمِدُونَ عَلَيْه وحدَه، وَإِلَيهِ يُفَوِّضُونَ أمُورَهُمْ، ولاَ يَرْجُونَ سِوَاهُ، وَلاَ يَلُوذُونَ إِلاَّ بِجَناَبِهِ، وَلاَ يَسْأَلُونَ غَيْرَهُ. فقد أخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ في تفسيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، "وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، يَقُولُ: لا يَرْجُونَ غَيْرَهُ". وأخرج عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: "التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ جِمَاعُ الإِيمَانِ". وتقديمُ المجرورِ إمَّا لمراعاة الفاصِلَةِ، فهوَ مِنْ مُقْتَضياتِ الفَصاحَةِ مَعَ ما فيهِ مِنَ الاهْتِمامِ باسْمِ اللهِ، وإمَّا للتَعريضِ بالمُشركين، لأنهم يَتَوَكَّلون عَلى إعانَةِ أصنامهم. قولُهُ تَعالى: {ِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قدِ اقْتَضى ظاهرُ القَصْرِ المُستَفادِ مِنْ "إِنَّمَا" أَنَّ مَنْ لم يَجِلْ قَلْبُهُ إذا ذُكِرَ اللهُ، ولم تَزِدْهُ تِلاوَةُ آياتِ اللهِ إيماناً مَعَ إيمانِهِ، ولم يَتَوَكَّلْ على اللهِ، ولم يُقِمِ الصَلاةَ، ولم يُنْفِقْ في سبيلِ اللهِ، لم يَكُنْ مَوْصوفاً بِصِفَةِ الإيمانِ، وهو قصرٌ مجَازِيٌّ لابْتِنائهِ على التَشْبيهِ، فهوَ اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ: شُبِّهَ الجانِبُ المَنْفِيُّ في صِيغةِ القَصْرِ بمَنْ لَيْسَ بمؤمِنٍ، وطُوِيَ ذِكْرُ المُشَبَّهِ بِهِ ورُمِزَ إليْهِ بِذِكْرِ لازِمِهِ، وهُو حصرُ الإيمانِ فيمَنِ اتَّصفَ بالصِفاتِ التي لم يَتَّصِفْ بها المُشَبَّهُ بِه، ويَؤولُ هذا إلى معنى: إنَّما المؤمنون الكامِلون، فالتَعريفُ في "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ" تَعريفُ الجِنْسِ المُفيدُ قَصْراً ادِّعائياً على أَصْحابِ هذِهِ الصِفاتِ مُبالَغَةً، و "أل" فيهِ هُو ما يُسمَّى بالدّالَّةِ على مَعنى الكَمالِ. وأُسْنِدَ الوَجَلُ إلى القلوبِ لأنَّ القلبَ يَكْثُرُ إطْلاقُهُ في كلامِ العرَبِ على إحساسِ الإنسانِ وقَرارَةِ إدْراكِهِ، ولَيْسَ المُرادُ بِهِ هذا العُضْوُ الصَنَوْبَرِيُّ المعروف. وقد تَكونُ جملةُ: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ" مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافاً بَيانِيّاً لِجَوابِ سُؤالِ سائلٍ يُثيرُهُ الشَرْطُ وجزاؤهُ المُقَدَّرُ في قولِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بأَنْ يَتَساءَلُوا عَنْ هذا الاشْتِراطِ بعدَ ما تحقَّقَ أَنَّهم مُؤمِنونَ مِنْ قَبْلُ، فأجيبوا بِِأَنَّ المؤمنين هُمُ الذين صِفَتُهم كَيْتَ وكَيْتَ، فيَعلموا أَنَّ الإيمان المجعولَ شَرْطاً إنّما هو الإيمانُ الكاملُ. فقد أَخرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ في تفسيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ"، قَالَ: الْمُنَافِقُونَ لا يَدْخُلُ قُلُوبُهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عِنْدَ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، فَلا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَلا يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ، وَلا يُصَلُّونَ إِذَا غَابُوا، وَلا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" فَأَدُّوا فَرَائِضَهُ". و "وَجِلَتْ" يُقالُ: وَجِلَ بالكَسْرِ في الماضي يَوْجَلُ بالفَتْحِ، وفيهِ لُغَيَّةٌ أُخْرى، قُرِئَ بها في الشاذِّ: وَجَلَتْ بِفَتْحِ الجيمِ في الماضي وكَسْرِها في المُضارِعِ فَتَنْحَذِف الواوُ ك "وَعَدَ، يَعِدُ". ويُقالُ في المشهورةِ: وَجِل يَوْجَل. ومنهم مَنْ يقولُ: "ياجَلُ" بِقَلْبِ الواوِ أَلِفاً، وهُوَ شاذٌّ لأنَّهُ قَلْبُ حَرْفِ العِلَّةِ بِأَحَدِ السَبَبَينِ: وهو انْفِتاحُ ما قبلَ حَرْفِ العِلَّةِ دُونَ تَحَرُّكِهِ، وهوَ نَظيرُ "طائيّ" نِسْبةً إلى طَيِّئٍ. ومنهم مَنْ يَقولُ: يِيْجَلُ بِكَسْرِ حرفِ المُضارَعةِ فتَنْقلِبُ الواوُ ياءً لِسُكونها وانْكسارِ ما قبلها. وقد تقدَّم في أَوَّلِ هذا الموضوع أنَّ مِنَ العَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ حَرْفَ المُضارَعَةِ بِشُروطٍ مِنْها: أَنَّ لا يَكونَ حرفُ المُضارَعَةِ ياءً إلاَّ في هذِهِ اللَّفْظَةِ وفي أَبَى يِأبَى. ومنْهم مَنْ رَكَّبَ مِنْ هاتَيْنِ اللُّغَتَيْنِ لُغَةً أُخْرى، وهيَ فتحُ الياءِ وقَلْبُ الواوِ ياءً فقال: يَيْجَلُ، فأخذَ قَلْبَ الواوِ ممَّن كَسَرَ حَرْفَ المُضارَعَةِ، وأَخَذَ فَتْحَ الياءِ مِنْ لُغَةِ الجُمْهورِ. وقرأَ ابْنُ مَسْعودٍ "فَرِقَتْ"، وقَرَأَ أُبيّ بْنُ كَعبٍ "فَزِعَتْ". قولُهُ: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وجوابُ الشَرْطِ المُتَقَدِّمِ في قولِهِ: "وأَطيعوا"، هذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، ومَذْهَبُ المُبَرِّدِ أَنَّ الجَوابَ محْذوفٌ مُتَأَخِّرٌ، ومَذْهَبُهُ في هذا ألاَّ يَتَقَدَّمَ الجَوابُ على الشَرْطِ. وقد نَقَلَ الناسُ خلافَه، أي: نقلوا جَوازَ تقديمِ جوابِ الشرْطِ عليه عَنِ الكُوفِيّين وأَبي زَيْد وأَبي العَبَّاسِ المبرِّدِ. ويجوز أنْ يَكونَ للمُبرِّدِ قولان وكذا لِسِيبَوَيْهِ، فنَقَلَ كُلُّ فريقٍ عَنْ كُلٍ مِنْهُما أَحَدَ القَوْلَيْن. |
الساعة الآن 10:05 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |