منتدى الإحسان - عرض مشاركة واحدة - تذوق الصوفية معاني الأبيات والإشارات
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-24-2009
  #1
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 17
أبو يوسف is on a distinguished road
افتراضي تذوق الصوفية معاني الأبيات والإشارات

:sm152:
تذوق الصوفية معاني الأبيات
والإشارات و تأويلها حسب المقامات


قال أبو نواس في ممدوحه:
تغطيت عن دهري بظل جناحهفعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني مـا درتوأين مكاني ما عرفـن مكانـي
فكان هذا مشرباً عندهم في حق أهل كهف الإيواء من الأصفياء الأخفياء رضي الله عنهم، وهو واضح.
وقال أيضاً في الخمريات:
إذا العشرون من شعبان ولّتفواصـل شـرب ليلـك بالنـهـار
ولا تـشـرب بـأقــداح صـغــارفقد ضاق الزمان على الصغار
فصار عندهم موعظة في الإكثار من العمل الصالح والتشمير للتزود للمعاد، ولا سيما عند إيناس قرب الأجل، وخشية فوات الأمل. وقال أيضاً:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراءوداوني بالتي كانـت هـي الـداء
فصارت مشرباً للمحبين أهل الشوق والذوق، رضي الله عنهم.
وفي مناقب الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، أنه في مسيره إلى المشرق، وكان في محفّته، فكان فتيان ذات يوم يمشيان تحته في ظلها ثم جعلا يتحدثان، فقال أحدهما "للآخر": يا فلان مالي أرى فلاناً يسيء إليك وأنت تتحمل منه؟ فقال له: والله ما كان ذلك مني إلاّ لأنه من بلدي فكنت كما قال القائل:
رأى المجنون في البيداء كلباًفـجلله مــن الإحـسـان ذيــلا
فلامـوه علـى مـا كـان مـنـهوقالوا: لِمْ أنلـت الكلـب نيـلا
فقال: دعوا الملام فإن عينيرأتـه مـرة فــي حــي ليـلـى
فسمعه الشيخ فتواجد وجعل يقول:
فقال: دعوا الملام..... البيت.
ويكرره ثم خلع غفارته ورمى بها إلى الفتى المنشد فقال له: أنت أولى بها يا بني.
وفي "لطائف المنن": أنشد إنسان بحضرة الشيخ مكين الدين الأسمر -رضي الله عنه- قول القائل:
لـو كـان لــي بـالـراح يسعـدنـيلما انتظرت لشرب الراح إفطارا
الراح شيء شريف أنـت شاربـهفاشرب ولو حملتك الـراح أوزارا
فأنكر بعض الحاضرين على المنشد وقال له: لا يجوز إنشاد مثل هذا الشعر فقال الشيخ للمنشد: أنشد فإن هذا -"يعني" المنكر- رجل محجوب.
وفي أبيات عبد الصمد بن المعَذَّل المشهورة حيث يقول:
يـا بديـع الـدل والغـنـجلك سلطان على المهج
إن بيـتـاً أنــت ساكـنـهغير محتاج إلى السـرج
وجهك المأمـول حجتنـايوم يأتي الناس بالحجج
مشرب عظيم لهم أيضاً.
وقد سمع صوفي هذا البيت من جارية فتواجد وصاح ولم يزل كذلك حتى مات.
وهذا النوع لا يحصى، وفيه يطيب لهم السماع، ويقع الوجد عند الاستماع، وإنما أردت أن
ننبه فيه حيث انجذب الحديث إليه على معنى إيقاظاً وإمتاعاً.

فاعلم أن فهم المعنى عند سماع لفظ القائل يكون على وجهتين:
أحدهما :
أن يكون لدلالة اللفظ المسموع عليه في الخارج إما حقيقة وإما مجازاً، إما لغة وإما عرفاً.
ثانيهما : أن يكون كذلك في وهم السامع ولا حاصل له في الخارج، فتحصل الفائدة بحسب ما طرق وهمه.
أما الوجه الثاني : وهو بحسب الخارج في حكم السماع من غير اللفظ كصرير الباب وصوت الطائر، مثاله ما ذكر التاج ابن عطاء الله أن ثلاثة نفر سمعوا "صائحاً" يقول: "يا سعتر بري"
فسبق إلى فهم واحد منهم أن الصائح يقول "اسْعَ تر بِرّي" "وفهم الآخر أنه يقول: "السّاعَةَ تَرّى بِرّي" وفهم الآخر أنه يقول: "يا سَعَة بِرّي"، وكان سماع الثلاثة جميعاً من الحق تعالى إلاّ أن كل واحد منهم فهم على حسب حاله.
أما الأول : فكان سالكاً مبتدئاً، فورد عليه الأمر بالسعي والجد مع ما يفيد تنشيطه من الترجية برؤية البر بكسر الباء، وهو الإحسان والتفضل من الله تعالى.
وأما الثاني : فكان سالكاً تطاول به السير، فورد عليه التنفيس والتبشير برؤية البر الساعة.
وأما الثالث : فكان واصلاً "قد" شاهد الفضل فورد عليه الخطاب على وفق شهوده بأن بر الله تعالى ما أوسعه!
فهذه فهوم اختلفت وفصلت من إلقاء الله تعالى عليها ما فهمت بسبب مجرد مناسبة ما في اللفظ المسموع وأن لم يكن طبقاً لها لا إفراد ولا تركيباً ولا حقيقة ولا مجازاً، فإن القائل إنما أراد السعتر المعروف البري بفتح الباء، أي غير البستاني، فسبحان اللطيف الخبير.

وأما الوجه الأول فهو الكثير المشهور، وذلك أن يسمع لفظ مشترك أريد به معنى فيفهم معنى آخر من معانيه، أو حقيقة أريد به معناه فيفهم مجازه، وقد يتعدد الفهم بحسب الاحتمال الواقع في التركيب و في الضمائر ونحو ذلك.
ولا بد أن نورد من ذلك أمثلة يتضح بها ما قررنا ليكون مأخذاً في هذا الباب، ومصباحاً يستضيء به ذوو الألباب.
فمن ذلك ما وردت عليه فهوم الناس قبلنا كما مرّ من الأبيات، فنشير إلى مأخذ الفهم منه، ومن ذلك ما يسنح للخاطر الآن، فأما أبيات أبي نواس فهي كلها واضحة في إشاراتها، وكذلك أبيات الفتى، فإن ليلى عبارة عن المحبوب "عند" السامع إما خالقاً وإما مخلوقاً واحداً أو جماعة كأهل الله وطائفة المحبين والمنتسبين، أو المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو سنته، أو نحو ذلك مما يخطر في البال،
وأما أبيات مكين الدين فالراح فيها عند السامع هنا هي الخمرة الربانية القلبية، وهي لطف من الله تعالى ونور يرد على القلب فاستعاروا له اسم الخمر للشبه الواقع في اللذة والانفعال، وهو الصهباء "أيضاً" وبعد البيتين:
يا من يلوم على صهباء صافيةخذ الجنان ودعني أسكن النارا
أي خذ جنان الشهوة وراحة النفس ودعني أسكن نار الشوق، فافهم، والأوزار يفهم منها أعباء المحبة والشوق وما يتحمله أصحاب ذلك.
وقد وقع لي ذكر لهذا المعنى في أبيات من قصيدة طويلة وهي:
فلـولا هــوى نـجـد وطـيـب نسيمـهـاوريــح خزامـاهـا إذا ســاوق الفـجـرا
وعـذب فـرات سلسبيـل سخـت بــهأكـف العـوادي فـي حدائقـهـا غـمْـرا
مشمـولـة صهـبـاء مــا قــطّ شابَـهـابِراوُوقـه الحـانـي ولا حـلـت الـقِـدْرا
بهـا هامـت الأرواح مـن قبـل خلقـنـاومـن بعـد مـا كنّـا وإذا نبلـغ الحشـرا
فكم ولهتْ فكر ابـن عيسـى ومالـكوكم أطربت سهلاً وكم شغلت بشـرا
إذا مـا تحساهـا الفتـى لـم يخـف بهـاجُنـاحـاً ولـكـن يرتـجـي عنـدهـا بــرا
تـحـمِّـلُــه الأوزارَ غــيـــرّ مـــذمّـــمبأعبائها العظمـى ولـم يحمِـلِ الـوِزْرا
وتـبــرد غـــلاّت الـحـشــا وتـشـبُّـهـاأُواراً وتعطي الرشد والسفـه الحجـرا
وتـورثــه قـبـضـاً وبـسـطـاً وفـرقــةوجـمـعـاً ونسـيـانـاً وتـورثُــه ذكــــرا
فـلـولا رجــاء الـفـوز مـنــا بـشـربـةتداوي عقابيل الهوى والجَوى المُغْرى
لكانـت أكـف البيـن تصـدع بالـجـوىزجاجـة أحشائـي فـلا أمـلـك الجـبـرا
فكل ما في هذه الأبيات من ذكر الصهباء وكذا نجد وريح الخزامي والعذب والفرات كل ذلك استعارات، وجرى الشعر على أسلوب العرب في الحنين إلى نجد ومنابته، وهو ما ارتفع من بلادهم، وكل أحد نجده ما توجه إليه، وإن لا يرتفع حساً فهو مرتفع معنى فافهم.
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُبوَنَنوي فعالَ الصالِحـات وَلَكِنّـا
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس