
رد: الفنون الشعريّة المستحدثة في العصرين المملوكي والعثماني
خامساً : محبوك الطّرفين :
يراد بهذا اللون نوع من المنظوم تكون كلّ أبيات القصيدة أو القطعة مبتدَأة ومختتمة بحرف واحد من حروف المعجم .
يذكر الرافعي أنّ أوّل من جاء بشيء من ذلك هو أبو بكر محمّد بن دُرَيْد , وقد نظم ابن دريد قطعاً مربعة على عدد حروف الحروف لم يلتزم فيها مجرى واحداً , بل جعل كلّ قطعة منها مستقلّة عن سائرها بالوزن , كما هي مستقلّة في الرويّ , وأوّلها قوله في حرف الألف :
أَبقَيتَ لي سَقَماً يُمازِجُ عَبرَتي = مَن ذا يلذُّ مَعَ السَقامِ بَقاءَ
أَشمَتَّ بي الأَعداءَ حينَ هَجَرتَني = حاشاكَ مِمّا يُشمِتُ الأَعداءَ
أَبكَيتَني حَين ظَنَنتَ بِأَنَّني = سَيصيرُ عُمري ما حَييتُ بُكاءَ
أُخفي وَأُعلِنُ بِاِضطِرارٍ أنَّني = لا أَستَطيعُ لِما أُجِنُّ خَفاءَ
ثمّ كثر نظم الشعراء لهذا النوع من الشعر , ومنهم عليّ بن محمّد الأندلسي , وصفيّ الدّين الحلّي , والألبيري , ولمحمّد بن العفيف الإيجي الحسني مسدّسة في المديح النبوي مطلعها :
اللهَ أحمدُ ( أحمداً ) إذ يبرأ = أوضى وضيء نوره يتلألأ
أنواره كلَّ العوالم تملأ = أكوانه لولاه لم تك تنشأ
سادساً : الشعر الهندسي :
هذه التسمية مبتدعة , لم يقل بها أحد من القدماء أو المعاصرين , ولكنّا نراها ـ مع الدكتور عانوتي ـ متّفقة مع شكل الشعر الذي نسعى إلى دراسته . (1)
وهذا النوع من الشعر يأخذ شكل الدائرة , والمثلث , والمربع , والمخمّس , والمَعِين , وغيرها من الأشكال الهندسيّة ...
وليس لدينا معلومات دقيقة عن أوّل من ابتكر هذا النوع من الشعر , ومهما يكن فقد وجد هذا النوع على صنوفه المعروفة لدينا اليوم ...
فالدائرة لها مركز , وفي هذا المركز حرف من الحروف , ومن هذا الحرف يبتدئ البيت , وإلى هذا الحرف ينتهي البيت , فهو إذن من ألوان الشعر المحبوك من طرفيه .
والدّوائر على أنواع ؛ منها : الدائرة المركّبة , ومنها : الدّائرة البسيطة .
وشعر الدّائرة المركّبة يتطلّب رسم دائرة أصلية كبرى , وحولها على المحيط دوائر صغيرة , وعلى حواف هذه الدّائرة الكبيرة والصغيرة يمرُّ البيت ابتداء وانتهاء ؛ ليعود من جديد منطلقاً من المركز إلى الدّائرة الصغيرة الثانية , ثمّ ينتهي إلى الكبيرة في مركزها .
ويختلف عدد الأبيات باختلاف عدد الدّوائر , فكلّما كثرت الدّوائر طالت القصيدة , والعكس صحيح .
وهذه أبيات دائرة : (2)
عشقت نوراً من مقامك يسطع = وعيني غدت من فرط عشقك تدمع
عمدت على تقديم مدحي لمن غدا = أبا الندِّ يا من له الخلق تضرع
عرضت لمن حاز الشفاعة والعلى = وقلت أغث دمعي من النّار تلذع
عذلت فؤادي من محبّة غيركم = وفرغته من كلّ نفس تولّع
علوتَ بما أعطيت من رافع السما = مقاماً فغثني من هموم تفجع
عجفت ولم يُبْقِ الهوى لي من قوى = فاشفع وغثني من كروب تفزع
عزفت حياتي من محبّتك التي = بها تذهب الأكدار منّا وتقشع
ومن تأمّل هذه الدّائرة المركّبة تبدو لنا الملاحظات التالية :
1- كلّ بيت يبتدئ بحرف العين وبه ينتهي .
2- نهاية كلّ بيت معكوسة في مطلع الذي بعده .
3- عكس بداية البيت الأول تتّفق وقافية الأخير .
4- هذه القصيدة تصلح أن تكون دائرة سباعيّة .
وهاتان دائرتان مركبتان أكثر تعقيداً من الدّائرة المركّبة السابقة , يقال إنّ ابن الإفرنجيّة نظمهما في المديح :
وهذه أمثلة الأشكال البسيطة :
وتلاحظ أنّ الأبيات الثلاثة التالية أمكن رسمها في دائرة في مثلث متساوي الأضلاع , والأبيات هي :
دمع عيني سائل في حبِّ من = إنْ رأته العين لم تخشَ رمد
دمرّ الله أناساً قد طغَوا = وبغَوا ما لم ينالوا من الرّمد
دشر العصيان ثمّ اتّبع رضى = رافع السبع الشداد بلا عمد
وهذه الأبيات ترسم مربّعاً ودائرة , وأبياتها هي :
عشق المسكين هذا ذنبه = قصّة الشكوى إليكم قد رفع
عفّر المسكين خدّاً في الثرى = يرتجي وصلاً وباللطف قنع
عنق المحبوب غيري ولثم = صاح لما بارق الثغر فرع
عرف الهجر حبيبي عامداً = وتثنّى عند ما دلّ قشع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني : بكري شيخ أمين , دار الآفاق ، بيروت ـ لبنان ، ط1 1979م , ص 209
2-مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني : بكري شيخ أمين , دار الآفاق ، بيروت ـ لبنان ، ط1 1979م , ص 210