
التّكفير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التّعريف :
1 - من معاني التّكفير في اللّغة : التّغطية والسّتر وهو أصل الباب . تقول العرب للزّرّاع : كافر ، ومنه قوله تعالى { كَمَثَلِ غَيثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُه } .
وأيضاً يقال : التّكفير في المحارب : إذا تكفّر في سلاحه ، والتّكفير أيضاً : هو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريبا من الرّكوع ، كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه ، ومنه حديث أبي معشر« أنّه كان يكره التّكفير في الصّلاة » أي الانحناء الكثير في حال القيام .
والكفر في الشّرع : نقيض الإيمان ، وهو الجحود ، ومنه قوله تعالى { إنَّا بِكُلٍّ كَافِرُون } أي جاحدون . وهو بهذا لا يخرج عن معناه اللّغويّ ، لأنّ الكافر ذو كفر ، أي ذو تغطية لقلبه بكفره ، قال صاحب الدّرّ المختار : الكفر شرعاً : تكذيبه صلى الله عليه وسلم في شيء ممّا جاء به من الدّين ضرورة . والتّكفير : هو نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر . وتكفير الذّنوب محوها بفعل الحسنات ونحوه ، لقوله تعالى : { إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ } وسيأتي تفصيله . والتّكفير عن اليمين : هو فعل ما يجب بالحنث فيها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّشريك :
2 - التّشريك : مصدر شرّك ، يقال : شرّكت بينهما في المال تشريكا ، وشرّك النّعل : جعل لها شراكا . وشرعاً : أن تجعل للّه شريكاً في ملكه أو ربوبيّته . قال تعالى حكاية عن عبده لقمان أنّه قال لابنه : { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
والكفر أعمّ من الشّرك فهو أحد أفراده .
والتّشريك أيضاً : بيع بعض ما اشترى بما اشتراه به ، فهو التّولية بجزء السّلعة ، والمقصود من البحث هو المعنى الأوّل .
ب - التّفسيق :
3 - التّفسيق : تفعيل من الفسق ، وهو في اللّغة : الخروج عن الأمر ، ويقال : أصله خروج الشّيء من الشّيء على وجه الفساد ، يقال : فسقت الرّطبة : إذا خرجت من قشرها ، وكأنّ الفأرة إنّما سمّيت فويسقة لخروجها من جحرها على النّاس .
وهو شرعاً : العصيان والتّرك لأمر اللّه عزّ وجلّ والخروج عن طريق الحقّ ، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبليس { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي خرج عن طاعة ربّه .
وقد يكون الفسق شركاً ، أو كفراً ، أو إثماً .
الأحكام المتعلّقة بالتّكفير :
أوّلاً
تكفير المسلم :
4 - الأصل بقاء المسلم على إسلامه حتّى يقوم الدّليل على خلاف ذلك ، لما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم ، له ما لنا وعليه ما علينا » .
ويجب قبل تكفير أيّ مسلم النّظر والتّفحّص فيما صدر منه من قول أو فعل ، فليس كلّ قول أو فعل فاسد يعتبر مكفّرا .
ويجب كذلك على النّاس اجتناب هذا الأمر والفرار منه وتركه لعلمائهم لخطره العظيم ، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا قال الرّجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما ، فإن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه » .
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من دعا رجلاً بالكفر ، أو قال : عدوّ اللّه ، وليس كذلك إلا حار عليه » .
التّحرّز من التّكفير :
5 - لا ينبغي أن يكفّر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن ، أو كان في كفره خلاف ولو كان رواية ضعيفة . ما يشكّ في أنّه كفر لا يحكم به ، فإنّ المسلم لا يخرجه من الإيمان إلّا جحود ما أدخله فيه ، إذ الإسلام الثّابت لا يزول بالشّكّ مع أنّ الإسلام يعلو ، فإن كان في المسألة وجوه توجب التّكفير ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الّذي يمنع التّكفير ، لعظم خطره وتحسينا للظّنّ بالمسلم ، ولأنّ الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية ، ومع الشّكّ والاحتمال لا نهاية .
متى يحكم بالكفر :
6 - يشترط في تكفير المسلم أن يكون مكلّفاً مختاراً عند صدور ما هو مكفّر منه ، فلا يصحّ تكفير صبيّ ومجنون ، ولا من زال عقله بنوم أو إغماء ، لعدم تكليفهم ، فلا اعتداد بقولهم واعتقادهم . وكذلك لا يجوز تكفير مكره على الكفر وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، قال تعالى : { إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَئنٌّ بِالإيمَانِ } .
وجرى الخلاف بين الفقهاء في صحّة تكفير الصّبيّ المميّز والسّكران إذا صدر منهما ما هو مكفّر . فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى صحّة تكفير الصّبيّ المميّز إذا صدر منه ما هو مكفّر . ويفهم من كلام المالكيّة تقييده بالصّبيّ المميّز المراهق فقط .
وذهب الشّافعيّة إلى عدم صحّة تكفير الصّبيّ المميّز لعدم تكليفه مع اتّفاقهم على أنّه لا يقتل بل يجبر على الإسلام بالضّرب والتّهديد والحبس .
وعند الحنابلة ينتظر إلى ما بعد البلوغ والاستتابة ، فإن أصرّ قتل ، لحديث « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المبتلى حتّى يبرأ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » .
تكفير السّكران :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ السّكران غير المتعدّي بسكره لا يحكم بردّته إذا صدر منه ما هو مكفّر ، واختلفوا في السّكران المتعدّي بسكره : فذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " إلى تكفيره إذا صدر منه ما هو مكفّر .
لقول عليّ رضي الله عنه " إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون فأوجبوا عليه حدّ الفرية الّتي يأتي بها في سكره واعتبروا مظنّتها ، ولأنّه يصحّ طلاقه وسائر تصرّفاته فتصحّ ردّته ، وذهب الحنفيّة إلى عدم تكفير السّكران مطلقاً .
بم يكون التّكفير :
أ - التّكفير بالاعتقاد :
8 - اتّفق الفقهاء على تكفير من اعتقد الكفر باطناً ، إلا أنّه لا تجري عليه أحكام المرتدّ إلا إذا صرّح به . ومن عزم على الكفر في المستقبل ، أو تردّد فيه ، فإنّه يكفر حالاً لانتفاء التّصديق بعزمه على الكفر في المستقبل ، وتطرّق الشّكّ إليه بالتّردّد في الكفر .
ولا تجري عليه أحكام المرتدّ إلا إذا صرّح بالكفر أيضاً .
ب - التّكفير بالقول :
9 - اتّفق العلماء على تكفير من صدر منه قول مكفّر ، سواء أقاله استهزاء ، أم عنادا ، أم اعتقادا لقوله تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كنُتْمُْ تَسْتَهْزِئونَ لا تَعْتَذِرُوا قد كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . وهذه الألفاظ المكفّرة قد تكون صريحة كقوله : أشرك أو أكفر باللّه ، أو غير صريحة كقوله : اللّه جسم متحيّز أو عيسى ابن اللّه ، أو جحد حكما علم من الدّين بالضّرورة ، كوجوب الصّلاة وحرمة الزّنى .
وأمّا من سبق لسانه إلى الكفر من غير قصد لشدّة فرح أو دهش أو غير ذلك ، كقول من أراد أن يقول : اللّهمّ أنت ربّي وأنا عبدك ، فقال غلطا : أنت عبدي وأنا ربّك ، كما جاء في حديث أنس بن مالك قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للّه أشدّ فرحا بتوبة عبده ، حين يتوب إليه ، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلّها ، قد أيس من راحلته ، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ، ثمّ قال من شدّة الفرح : اللّهمّ أنت عبدي وأنا ربّك ، أخطأ من شدّة الفرح » .
أو أكره عليه فإنّه لا يكفر . لقوله تعالى : { إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنٌّ بِالإيمَانِ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه ».
تكفير من سبّ اللّه عزّ وجلّ :
10 - اتّفق العلماء على تكفير من سبّ الذّات المقدّسة العليّة أو استخفّ بها أو استهزأ ، لقوله تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِه كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئونَ لا تَعْتَذِرُوا قدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } واختلفوا في قبول توبته فذهب جمهور الفقهاء إلى قبولها .
وذهب الحنابلة إلى عدم قبولها ، ويقتل بكلّ حال ، وذلك لأنّ ذنبه عظيم جدّاً يدلّ على فساد عقيدته . وأمّا بالنّسبة للآخرة ، فإن كان صادقا في توبته قبلت باطنا ونفعه ذلك .
تكفير من سبّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام :
11 - ذهب الفقهاء إلى تكفير من سبّ نبيّاً من الأنبياء ، أو استخفّ بحقّه ، أو تنقّصه ، أو نسب إليه ما لا يجوز عليه ، كعدم الصّدق والتّبليغ ، والسّابّ عند الحنفيّة والشّافعيّة يأخذ حكم المرتدّ فيستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .
وعند المالكيّة والحنابلة يقتل حدّا . وإن تاب . ولا تقبل توبته . وسبّ الملائكة كسبّ الأنبياء ، وقيّده المالكيّة بالنّبيّ أو الملك المجمع على كونه نبيّا أو ملكا ، فإن سبّ من لم يجمع على كونه نبيّا أو ملكا كالخضر وهاروت وماروت لم يكفر ، وأدّبه الحاكم اجتهاداً .
تكفير مكفّر الصّحابة :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ من كفّر جميع الصّحابة فإنّه يكفر ، لأنّه أنكر معلوماً من الدّين بالضّرورة وكذّب اللّه ورسوله .
واتّفقوا على أنّ من قذف السّيّدة عائشة رضي الله عنها بما برّأها اللّه منه ، أو أنكر صحبة الصّدّيق كفر ، لأنّه مكذّب لنصّ الكتاب .
وأمّا من كفّر بعض الصّحابة دون بعض ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة في المعتمد عندهم والإمام أحمد في إحدى الرّوايتين إلى عدم كفره .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة في الرّواية المشهورة وبعض أهل الحديث وسحنون من المالكيّة إلى تكفير من كفّر بعض الصّحابة وتطبّق عليه أحكام المرتدّ .
قال المرداويّ في الإنصاف - وهو الصّواب - والّذي ندين اللّه به ، ونصّ صاحب الفواكه الدّواني على أنّ من كفّر أحد الخلفاء الأربعة فإنّه يكفر .
تكفير من سبّ الشّيخين :
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم تكفير من سبّ أحد الشّيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتوقّف الإمام أحمد في كفره وقتله ، وقال : يعاقب ويجلد ويحبس حتّى يموت أو يرجع عن ذلك ، وعنه : من سبّ صحابيّا مستحلا كفر ، وإلا فسّق . ونقل ابنه عبد اللّه عنه فيمن شتم صحابيّا قوله : القتل أجبن عنه ، ويضرب ، ما أراه على الإسلام .
وعند الشّافعيّة وجه حكاه القاضي في تكفير من سبّ الشّيخين رضي الله عنهما ، وممّن قال بتكفيره كذلك الدّبوسيّ ، وأبو اللّيث ، وجزم به صاحب الأشباه . قال صاحب الدّرّ المختار : وهو الّذي ينبغي التّعويل عليه في الإفتاء والقضاء ، رعاية لجانب حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا خلاف المعتمد عند الحنفيّة ، كما صرّح بذلك ابن عابدين .
تكفير منكر الإجماع :
14 - ذهب الفقهاء إلى تكفير من جحد حكما أجمعت عليه الأمّة ممّا علم من الدّين ضرورة ، كوجوب الصّلوات الخمس والزّكاة بلا خلاف بينهم .
وأمّا ما أجمعت عليه الأمّة ولم يكن معلوماً بالضّرورة ، كوجوب إعطاء السّدس لبنت الابن مع وجود البنت فلا تكفير لمنكره .
وأمّا الحنفيّة فلم يشرطوا للتّكفير سوى قطعيّة الثّبوت ، وعلى هذا قالوا بتكفير من جحد استحقاق بنت الابن السّدس مع البنت في ظاهر كلامهم .
ج - التّكفير بالعمل :
15 - نصّ الفقهاء على أفعال لو فعلها المكلّف فإنّه يكفر بها ، وهي كلّ ما تعمّده استهزاء صريحا بالدّين أو جحودا له ، كالسّجود لصنم أو شمس أو قمر ، فإنّ هذه الأفعال تدلّ على عدم التّصديق ، وكإلقاء المصحف في قاذورة ، فإنّه يكفر وإن كان مصدّقاً ، لأنّ ذلك في حكم التّكذيب ، ولأنّه صريح في الاستخفاف بكلام اللّه تعالى ، والاستخفاف بالكلام استخفاف بالمتكلّم . وقد ألحق المالكيّة والشّافعيّة إلقاء كتب الحديث به .
وذهب المالكيّة إلى تكفير من تزيّا بزيّ الكفر من لبس غيار ، وشدّ زنّار ، وتعليق صليب . وقيّده المالكيّة والحنابلة بما إذا فعله حبّا فيه وميلا لأهله ، وأمّا إن لبسه لعباً فحرام وليس بكفر .
تكفير مرتكب الكبيرة :
16 - مذهب أهل السّنّة والجماعة عدم تكفير مرتكب الكبيرة ، وعدم تخليده في النّار إذا مات على التّوحيد ، وإن لم يتب ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان » .
فلو كان مرتكب الكبيرة يكفر بكبيرته لما سمّاه اللّه ورسوله مؤمناً .
تكفير السّاحر :
17 - اتّفق الفقهاء على تكفير من اعتقد إباحة السّحر .
واختلفوا في تكفير من تعلّمه أو عمله ، فذهب الجمهور - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه لا يكفر بمجرّد تعلّم السّحر وعمله ما لم يكن فيه اعتقاد أو عمل ما هو مكفّر ، وذهب المالكيّة إلى تكفيره مطلقا ، لما فيه من التّعظيم لغير اللّه ، ونسبة الكائنات والمقادير إلى غير اللّه .
وذهب الحنفيّة إلى وجوب قتله ، ولا يستتاب لعمل السّحر ، لسعيه بالفساد في الأرض ، لا بمجرّد علمه إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره ، ولقوله صلى الله عليه وسلم « حدّ السّاحر ضربة بالسّيف » فسمّاه حدّاً ، والحدّ بعد ثبوته لا يسقط بالتّوبة .
وقصره الحنابلة على السّاحر الّذي يكفر بسحره .
وعند المالكيّة يقتل إن كان متجاهرا به ما لم يتب ، فإن كان يسرّه قتل مطلقا ، ولا تقبل له توبة .
آثار التّكفير :
18 - يترتّب على التّكفير آثار على كلّ من المكفّر والمكفّر فآثاره على المكفّر إذا ثبت عليه الكفر هي :
أ - حبوط العمل :
19 - إذا ارتدّ المسلم واستمرّ كافرا حتّى موته كانت ردّته محبطة للعمل لقوله تعالى :
{ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه فَيَمُتْ وهو كَافِرٌ فَأولئكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهمْ } .
فإن عاد إلى الإسلام فمذهب الحنفيّة والمالكيّة أنّه يجب عليه إعادة الحجّ وما بقي سببه من العبادات لأنّه بالرّدّة صار كالكافر الأصليّ فإذا أسلم وهو غنيّ فعليه الحجّ .
ولأنّ وقته متّسع إلى آخر العمر فيجب عليه بخطاب مبتدأ كما يجب عليه الصّلاة والصّيام والزّكاة للأوقات المستقبلة ، ولأنّ سببه البيت المكرّم وهو باق بخلاف غيره من العبادات الّتي أدّاها ، لخروج سببها . وما بقي سببه من العبادات كمن صلّى الظّهر مثلا ثمّ ارتدّ ثمّ تاب في الوقت يعيد الظّهر لبقاء السّبب وهو الوقت .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجب عليه أن يعيد عباداته الّتي فعلها في إسلامه من صلاة وحجّ وغيرها ، وذلك لأنّه فعلها على وجهها وبرئت ذمّته منها فلا تعود إلى ذمّته ، كدين الآدميّ .
والمنصوص عن الشّافعيّ رحمه الله تعالى حبوط ثواب الأعمال لا نفس الأعمال .
ب - القتل :
20 - أجمع الفقهاء على أنّ من تحوّل عن دين الإسلام إلى غيره فإنّه يقتل لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « من بدّل دينه فاقتلوه » . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( ردّة ) . .
آثار التّكفير على المكفّر :
21 - لمّا كان التّكفير من الأمور الخطيرة فقد جعل الفقهاء فيه التّعزير ، فمن نسب أحداً إلى الكفر ، أو قذفه بوصف يتضمّن معنى الكفر ، كيا يهوديّ ، ويا نصرانيّ ، ويا مجوسيّ عزّر ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا قال الرّجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما فإن كان كما قال وإلّا رجعت عليه » .
ثانياً
تكفير الذّنوب
أ - الذّنوب الّتي شرعت لها كفّارات محدّدة :
22 - أوجب الشّارع على الإنسان كفّارات محدّدة لبعض الذّنوب بملابسته إيّاها وذلك لعظم هذه الذّنوب وخطرها ، والقصد من هذه الكفّارات تدارك ما فرّط من التّقصير وهي دائرة بين العبادة والعقوبة .
وهي خمس كفّارات : كفّارة القتل ، والوطء في نهار رمضان ، والظّهار ، والحنث في الأيمان ، وفعل محظور من محظورات الحجّ . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( كفّارة ) .
ب - الذّنوب الّتي لم تشرع لها كفّارات محدّدة :
23 - لم يشرع الإسلام كفّارات محدّدة غير الخمس المذكورة آنفا وإنّما نصّ على بعض الأعمال والعبادات الّتي تكفّر الذّنوب عموما كاجتناب الكبائر ، فإنّه يكفّر الصّغائر ، قال تعالى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } .
وقال صلى الله عليه وسلم : « ما من عبد يؤدّي الصّلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويجتنب الكبائر السّبع إلا فتحت له ثمانية أبواب الجنّة يوم القيامة حتّى إنّها لتصفق » ولا ينحصر تكفير الصّغائر في اجتناب الكبائر بل هناك بعض العبادات تكفّرها أيضا كالوضوء والصّلوات الخمس وصوم رمضان والعمرة إلى العمرة والحجّ المبرور .
وفي الحديث أيضا « من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ قام فركع ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه إلا غفر له ما تقدّم من ذنبه » .
وذكر الصّلاة في هذا الحديث للتّرغيب في سنّة الوضوء ليزيد ثوابه ، وإلّا فالتّكفير لا يتوقّف على الصّلاة كما أخرج أحمد مرفوعاً « الوضوء يكفّر ما قبله ثمّ تصير الصّلاة نافلة » . وقال صلى الله عليه وسلم : « الصّلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر » وقال صلى الله عليه وسلم : « العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة » .
ولا يردّ عليه أنّه إذا كفّر الوضوء لم يجد الصّوم ما يكفّره ، وهكذا ، وذلك لأنّ الذّنوب كالأمراض ، والطّاعات كالأدوية ، فكما أنّ لكلّ نوع من أنواع الأمراض نوعا من أنواع الأدوية لا ينفع فيه غيره ، كذلك الطّاعات مع الذّنوب ، ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ من الذّنوب ذنوباً لا يكفّرها الصّلاة ولا الصّيام ولا الحجّ ولا العمرة ، قالوا فما يكفّرها يا رسول اللّه ، قال : الهموم في طلب المعيشة » .
وهذا كلّه في الذّنوب المتعلّقة بحقوق اللّه تعالى ، وأمّا المتعلّقة بحقوق الآدميّين فلا بدّ فيها من المقاصّة .