
طرائف من الأخطاء اللغوية من زمن الأتراك
طرائف من الأخطاء اللغوية من زمن الأتراك
بقلم : سعد زغلول الكواكبي
أمر مصطفى كمال " أتاتورك " الزعيم التركي في عشرينيات القرن الماضي بتشكيل لجنة لتصحيح اللغة التركية ، و تنقيحها من الكلمات العربية ، ليستبعد كل أثر للعرب في تركية الجديدة وقتها .
فكان اسم الجمعية : "توركجه كلمه لرن ، عربجة كلمه لرندن ، تصحيح وتنقيح جمعية سي . " فكانت كلمات اسم الجمعية كلها عربية!!
و في أيام الأتراك كان والي " أورفه " في مكتبه في سرايا أورفه ، فدخل عليه " المكتوبجي " ( رئيس ديوان الرسائل ) مخبراً بأن رسالة همايونية مكتومة قد وردت من المابين السلطاني إلى عطوفت الوالي .
ففضها الوالي فقرأها فلم يفهم عباراتها ،إلا أنه اعتقد أن " أفندينا " مسرور من أخبار الوالي والولاية .
فقرر إطلاع مجلس الولاية الذي لا يتقن أعضاؤه العربية على فحوى الرسالة ، وأمر بدعوته في الحال ، فجيء به ، واصطفت الذقون على الكراسي مواجهةً الوالي الذي لم يكن يخفي علائم اغتباطه عن الأعضاء قبل قراءة الرسالة الهمايونية ، ثم أعلمهم أنه تلقى رسالة شكر وثناء من " أفندينا " وأنه جمعهم ليقرأها عليهم على اعتبار أنهم مستهدفون بهذا الثناء كمشرفين على الولاية .
و أمر " المكتوبجي " بقراءة نص الرسالة .
فأخرجها هذا من الغلاف المذهب بالطرة السلطانية ، ولاحظ الجميع الطرة السلطانية المذهبة في أعلى الرسالة أيضاً فشهقوا جميعاً إعجابا واحتراما لها وتقديراً ، وراحوا يتأملونها مع الخاتم المذهب .
حتى إذا اطمأنت قلوبهم وأفكارهم إلى صحة مصدرها ، راح " المكتوبجي " يتلو محتواها متوقفاً ومكررا عند جملة : " تلقينا أخباركم بكثير من الاشمئزاز " باللغة التركية ، أما كلمة " الاشمئزاز " فكانت الوحيدة باللغة العربية لأن اللغة التركية خالية من الكلمات المشيرة لهذا المعنى .
كانت عبارة مختصرة جداً شأن سائر عبارات السلطان في كتبه إلى الولاة .
و عقبّ الوالي ،موجهاً التعليق للسادة الحضور:
- أرأيتم ؟ " جوك إشمي..زاز " !!
و التفت إلى " المكتوبجي " يطلب منه إعادة قراءة هذا التعبير الرائع باللفظ الصحيح ، لأنه يتقن اللفظ العربي ، فأعاد هذا قراءة العبارة : " إشمئزاز ...اشمئزاز .." بتفخيم حرف الألف على الطريقة التركية .
و كرر الوالي خلفه العبارة وراح كل من " الأعضاء " يكرر العبارة وهو ينظر في وجه الآخر ، رافعا وخافضاً رأسه علامة التعجب . فسألهم الوالي :
_ما قولكم يا أفندية ؟
فراحوا يتزاحمون على تهنئته بما تلقاه.
و اقترح أحدهم أن يبعث المجلس ببرقية " تشكر " إلى " أفندينا " لمنحه إياهم مع عطوفة الوالي هذه الرتبة التي لم يسمعوا أنه منحها إلى سواهم من الولاة والأعظا !
و لكن عضواً آخر اقترح بأن لا يكتفى بذلك إنما يستحسن من صاحب العطوفة أن يذهب بنفسه إلى المابين السلطاني ويقبّل الأعتاب ويشكر " أفندينا " على مديحه .
و وافق الجميع على الاقتراح وأقتنع الوالي بالاقتراح إذ ينتهز الفرصة لمقابلة السلطان ويسترحم تعيينه والياً على بغداد .
و هكذا ركب الوالي " التختروان " من سرايا " أورفه " مودعاً من الوجهاء والأعيان والموظفين الذين لا يدعون فرصة تمر دون إظهار النفاق لأصحاب النفوذ .
و استغرقت رحلة الوالي خمسة أيام تمكن في نهايتها من الحصول على الإذن بالمثول بين يدي " أفندينا " لتقبيل الأعتاب السلطانية .
سأله السلطان - وهو راكع - عن اسمه ووظيفته فأجاب بكل تواضع.
فسأله عن سبب حضوره إليه ، فشرح له أنه هو ومجلس الولاية قرروا على تقديم الشكر " لأفندينا " لما تفضل به عليهم جميعاً وعليه هو بصورة خاصة من إسباغ صفة " الاشمئزاز " عليه بشأن إدارته الحسنة لولاية أورفه .
فاعتقد السلطان أن الأمر هو كما شرحه ، طالما هو بذاته لا يعرف معنى كلمة" اشمئزاز " التي كتبها رئيس المابين السلطاني الذي كان متغيباً عن المقابلة .
فراح يقدم للوالي النصائح الكفيلة بترسيخ رضائه عليه وبأن يظل مثابراً على الاتصال به والمثول بين يديه دون حاجة إلى التوسط لدى المابين السلطاني ، أي كما فعل الآن .
و كانت هذه التوصية كفيلة بأن يتسلم السلطان الرشوة الكبيرة من الوالي – كما فعل الآن - دون إطلاع أحد عليها .
فوقع الوالي على الأرض وقبّل الأرض عند أرجل السلطان ثم اعتدل وهو لا يزال خافض الرأس متجرّئاً على الترحم :
_ كنتم وعدتم " أفندينا الخاقان الأعظم" يوم الاحتفال بتعيين فضيلة الصدر الأعظم أن تكلفوني بولاية بغداد ، وها قد حصل الرضا وثبتت الجدارة بشهادتكم المباركة .
فوعده السلطان خيراً . فقال الوالي معقباً :
_ و" هير البر آجله " ( أي خير البر عاجله ) .
فاستدعى السلطان رئيس ديوانه فدخل خافض الرأس وقبل الأعتاب فأمر السلطان بكتابة المرسوم الشاهاني بتعيين " الباشا "" واليا على بغداد .
و تراجع الاثنان وهما يلهجان بعبارات الثناء والشكر ولم يجرؤ رئيس الديوان على سؤال السلطان عن الأسباب ، ولا السلطان سأل الصدر الأعظم عن فحوى الرسالة التي أرسلها باسمه إلى هذا الوالي وأسباب ما ورد فيها .
و حمل الوالي رتبة الباشا التي تفوه بها السلطان عرضاً دون انتباه! ( كما حصل له حين تلفظ برتبة " البيك " وخاطب بها الشاعر أحمد شوقي ! ) واستلم ولاية بغداد لأنه كان يتمتع بعاطفة " اشمئزاز " السلطان !
و بالمقابل ، فإن إخواننا الأزهريين لهم الفضل في قراءة النص التركي باللغة العربية الفصحى ، وبالأخص كلمة " ينيجاري " فهي تكتب بالتركية : " يكني جاري " فقرأها الأزهريون : " إنكشاري " , لأنهم لم يدركوا أن الكاف لا تلفظ ، وأن الجيم هي "ch " باللغة الإنكليزية فقلبوها شيناً ! فعمت الكتابات العربية الآن ، في حين كنا فيه نقرأ الكلمة أيام آبائنا على لسان علمائنا بلفظ " الينيجارية " .
و من هذا القبيل ما فعله اثنان من الأزهريين زارا مدينة " استنبول" فمرّا في طريقهما أمام مطعم وتوقفا يقرآن ويتبادلان الرأي حول تناولهما الطعام فيه ، وسأل أحدهما الآخر عن معنى ما كتب على لافتة المطعم باللغة العربية : " إزمير لو كنده سي " ( وهي تعني طبعا لوكندة أزمير ) فشرح له زميله :
_ " إِزْمَيِّرٌ " تصغير " إزمر " وهو اسم علم وهو اسم صاحب المطعم . و" لو" حرف استبدال ، و" كَنَّدّهُ " جعله من قوم " كِنده " . أما "سيٌّ " فلا أعرفه ولا أعرف لماذا يُكَنِّدُ " إِزْمَيِّراً " دون سبب ظاهر !
و من الطريف أن يعلم أولادنا أن بعض الناس ، لا يزال يتبع الطريقة التركية في لفظ الاسم المؤنث المنتهي بالتاء المربوطة بلفظ التاء الساكنة المسبوقة بألف ممدودة وكأنها تاء تأنيث ..
فيقولون عن " تبليغة " : " تبليغات " .( وهي مذكرة التبليغ القضائية ) .
و يجمعوها : تبليغاتات !
و من مثله صيغة جمع الجموع هذه تسميتهم لورقة التأمين :" ورقة تأمينات " ولأوراق التأمين : " أوراق تأميناتات ".
و باعتبار أن " ما فيش حد أحسن من حد " – كما يقول المصريون – فإنهم يطلقون على من اسمها " مروءة " اسم" ميرفات " ، وعلى زينة " : " زينات " وكذلك " رفعات " وعطيات " وآلاف مثلها .
حتى أننا صرنا نجمع اسم الهرم على أهرامات باللغة التركية وننسى أن جمعه هو " أهرام " ..
كل ذلك لأن الأتراك يعشقون صيغ جمع الجموع .. فليتذكر الجيل القادم ...
المصدر : سيريانيوز