
وصف لعرس في حلب قبــــــــــــــل ألف عام
كان محمد بن خالد بن يزيد بن معاوية نازلاً بحلب, فجاؤوا اليه ببدوي ظريف ليحدثه عما رآه من أعاجيب أعراسها .
وصفه احشاد الناس
قال : نعم رأيت أموراً معجبة : دخلت دورا متباينة , بها أناس كثير مقبلون ومدبرون وعليهم ثياب حكوا بها ألوان الزهر .
فقلت لنفسي : هذا أحد العيدين : الأضحى أو الفطر .
ثم رجع إليَّ ما غرب عني من عقلي , فقلت : خرجت من أهلي في عقب صفر وقد مضى العيدان قبل ذلك.
فبينما أنا واقف ومتعجب أتاني رجل فأخذ بيدي فأدخلني داراً قوراء ، و أدخلني بيتاً قد نُجد في وجهه فرش قد مهدت ، وعليها شاب ينال فرع شعره كتفيه , والناس حوله سماطان .
فقلت في نفسي : هذا الأمير الذي يحكى لنا جلوسه وجلوس الناس حوله .
فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته .
فجذب رجل بيدي وقال : اجلس فإن هذا ليس بالأمير .
فقلت : ومن هو ؟
قال : عروس .
قلت : واثكل أماه ! رب عروس رأيت بالبادية أهون على أصحابه من أمه !
وصفه المائدة
فلم ألبث إذ دخلت الرجال عليها هنات مدورات من خشب وقضبان , أما ما خف فيحمل حملاً , وأما ما ثقل فيدحرج .
فوضعت أمامنا وتحلق القوم حلقاً حلقاً , ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا .
فظننتها ثياباً وهممت عندها أن أسأل القوم خرقاً أقطع منها قميصا ,وذلك أني رأيت نسجاً متلاحكاً لا أتبين له سدى ولا لحمة , فلما بسط القوم أيديهم إذا هو يتمزق سريعاً وإذا فيما زعموا , صنف من الخبز لا اعرفه.
ثم أتينا بطعام كثير من حلو وحامض وحار وبارد , فأكثرت منه , وأنا لا أعرف ما في عقبه من التخم والبشم .
وصفه الشراب
ثم أتينا بشراب أحمر في عساس _ أقداح كبيرة _ فلما نظرت قلت لا حاجة لي فيه , أخاف أن يقتلني . وكان في جانبي رجل ناصح لي _ أحسن الله جزاءه _ كان ينصح لي من بين أهل المجلس , فقال :
يا أعرابي , إنك أكثرت من الطعام , وإن شربت الماء انتفخ بطنك .
فلما ذكر البطن تذكرت شيئاً كان أوصاني به أبي والأشياخ من أهلي وقالوا : لا تزال حياً مادام بطنك شديداً فإذا اختلف فأوصي .
فلم أزل أتداوى به ولا أمل من شربه فتداخلني صلف لا أعرفه من نفسي , وبكاء لا اعرف سببه ولا عهد لي بمثله واقتدار على أمر أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلعته, وجعلت التفت إلى الرجل الناصح فتحدثني نفسي بهتم أسنانه وهشم انفه .
وصفه الموسيقى
فبينا نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة : أحدهم قد علق في عنقه جعبة فارسية مشنجة الطرفين دقيقة الوسط قد شبحت بالخيوط شبحاً منكراً , وقد ألبست قطعة فرو كأنهم يخافون عليها القر .
ثم بدر الثاني فاستخرج من كمه هنة سوداء كفيشلة الحمار فوضع طرفها في فيه ، فظرط فيها فاستتم بها أمرهم ثم حسب وحرك أصابعه على حجرة فيها فاستخرج منها صوتاً ملائماً مشاكلاً بعضه بعضاً كأنه , علم الله , ينطق .
ثم بدر الثالث عليه قميص وسخ وقد غرق شعره بالدهن , ومعه مرآتان فجعل يمري إحداهما على الأخرى مريا .
ثم بدر الرابع عليه قميص قصير وسروال قصير , وخفان اجزمان لا ساقين لهما , فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب , ثم التبط بالأرض , فقلت معتوه ورب الكعبة , ثم مابرح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي , ورأيت الناس يحذفونه بالدراهم حذفاً منكراً .
ثم أرسلت علينا النساء أن أمتعونا من لهوكم , فبعثوا بهم إليهن .
وبقيت الأصوات تدور في آذاننا , وكان معنا في البيت شاب لا آبه له , فعلت الأصوات له بالدعاء , فخرج فجاء بخشبة عينها في صدرها فيها خويطات أربعة , فاستخرج من جنبها عوراً فوضعه على أذنه , ثم زم الخيوط الظاهرة فلما أحكمها وعرك آذانها حركها بمجسة في يده , فنطقت ورب الكعبة وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط .
وغنى عليها فاستخفني في مجلسي حتى قمت فجلست بين يديه فقلت :
بأبي أنت وأمي أما هذه الدابة فلست اعرفها للأعراب وما خلقت إلا حديثاً !
فقال : يا أعرابي , هذا البربط الذي سمعت به .
فقلت : بأبي أنت وأمي ! فما هذا الخيط الأسفل ؟
قال : زير .
قلت : فما الذي يليه ؟
قال : مثنى .
قلت : فالثالث ؟
قال : المثلث .
قلت : فالرابع ؟
قال : البم .
قلت : آمنت بالله أولاً ، وبالبم ثانياً .
بتصرف من كتاب : عيون الأخبار لمؤلفه ابن قتيبة الدينوري
عكس السير