أنت غير مسجل في منتدى الإحسان . للتسجيل الرجاء إضغط هنـا

آخر 10 مشاركات
الأذكار           الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ           
العودة   منتدى الإحسان > الشريعة الغراء > المواضيع الاسلامية

إضافة رد
قديم 07-09-2011
  #1
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي في شرح حديث نبوي شريف : ( حديث داء الأمم)

.في شرح حديث نبوي شريف : ( حديث داء الأمم)

الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه ،وبعد
1.في سند الحديث:

- عن أبي عبد السلام ، عن ثوبان ، قال قال رسول الله -- :
" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : " بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن " ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال : " حب الدنيا ، وكراهية الموت " .

أخرجه أبو داود في سننه (2/10 2) والروياني في مسنده (ج 25/134/2) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عنه ، ورجاله ثقات كلهم غير أبي عبد السلام هذا فهو مجهول ، لكنه لم يتفرد به بل توبع -كما يأتي- فالحديث صحيح .

2- إخباره -- عن الغيب :

من المستغرب جداً عندنا الشك في صحة الحديث بدعوى " إنه يخبر عن الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله " ومن المؤسف حقاً أن تروج هذه الدعوى عند كثير من شبابنا المسلم فقد سمعتها من بعضهم كثيراً ، وهي دعوى مباينة للإسلام تمام المباينة ، ذلك لأنها قائمة على أساس أن النبي -- بشر كسائر البشر الذين لا صلة لهم بالسماء ، ولا ينزل عليهم الوحي من الله تبارك وتعالى .

أما والأمر عندنا معشر المسلمين على خلاف ذلك ، وهو أنه عليه السلام مميز على البشر بالوحي ، ولذلك أمره الله -تبارك وتعالى- أن يبين هذه الحقيقة للناس فقال في آخر سورة الكهف : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) وعلى هذا كان لكلامه -- صفة العصمة من الخطأ لأنه كما وصفه ربه عز وجل : ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) ، وليس هذا الوحى محصوراً بالأحكام الشرعية فقط ، بل يشمل نواحي أخرى من الشريعه منها الأمور الغيبيه ، فهو -- وإن كان لا يعلم الغيب كما قال فيما حكاه الله عنه : ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) ( الأعراف : 187 ) فإن الله تعالى يطلعه على بعض المغيبات وهذا صريح فى قول الله تبارك وتعالى ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ) وقال : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ).

فالذى يجب اعتقاده أن النبى -- لا يعلم الغيب بنفسه ولكن الله تعالى يعلمه ببعض الأمور المغيبه عنا ، ثم هو صلى الله تعالى عليه وسلم يظهرنا على ذلك بطريق الكتاب والسنة ، وما نعلمه من تفصيلات أمور الآخرة من الحشر والجنة والنار ومن عالم الملائكه والجن ونحو ذلك مما وراء المادة ، وماكان وماسيكون ، ليس هو الا من الأمور الغيبية التي أظهر الله تعالى نبيه عليها ، ثم بلغنا إياها ، فكيف يصح بعد هذا أن يرتاب مسلم فى حديثه لأنه يخبر عن الغيب ؟! ولو جاز هذا للزم منه رد أحاديث كثيرة جداً قد تبلغ المائه حديثاً أو يزيد ، هى كلها من أعلام نبوته -- وصدق رسالته ، ورد مثل هذا ظاهر البطلان ، ومن المعلوم أن ما لزم منه باطل فهو باطل ، وقد استقصى هذه الأحاديث المشار إليها الحافظ ابن كثير فى تاريخه وعقد لها بابا خاصا فقال : " باب ما أخبر به -- من الكائنات المستقبلة فى حياته وبعده فوقعت طبق ما أخبر به سواء بسواء " ثم ذكرها فى فصول كثيرة فليراجعها حضره السائل إن شاء في " البداية والنهاية " (6/182-256) يجد فى ذلك هدى ونوراً بإذن الله تعالى ، وصدق الله العظيم إذ يقول :
( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) وقال : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم * وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )

فليقرأ المسلمون كتاب ربهم وليتدبروه بقلوبهم يكن عصمة لهم من الزيغ والضلال ، كما قال -- : " إن هذا القرآن طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً " . (1)

3- هدف الحديث :

عرفنا مما سبق أن الحديث المسؤول عنه صحيح الإسناد عن النبي -- ، وأن ما فيه من الإخبار عن أمر مغيب إنما هو بوحي من الله تعالى إليه -- ، فإذا تبين ذلك استحال أن يكون الهدف منه ما توهمه السائل الفاضل من " حمل الناس على الرضى بما نحن فيه . . . " بل الغاية منه عكس ذلك تماماً ، وهو تحذيرهم من السبب الذي كان العامل على تكالب الأمم وهجومهم علينا ، ألا وهو " حب الدنيا وكراهية الموت " فإن هذا الحب والكراهية هو الذي يستلزم الرضا بالذل والاستكانة إليه والرغبة عن الجهاد في سبيل الله على اختلاف أنواعه من الجهاد بالنفس والمال واللسان وغير ذلك ، وهذا هو حال غالب المسلمين اليوم مع الأسف الشديد .

فالحديث يشير إلى أن الخلاص مما نحن فيه يكون بنبذ هذا العامل ، والأخذ بأسباب النجاح والفلاح فى الدنيا والآخرة ، حتى يعودوا كما كان أسلافهم " يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة " .

وما أشار إليه هذا الحديث قد صرح به حديث آخر فقال -- : " إذا تبايعتم بالعينة (2) ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " . (3)

فتأمل كيف اتفق صريح قوله فى هذا الحديث " لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " مع ما أشار إليه الحديث الأول من هذا المعنى الذى دل عليه كتاب الله تعالى أيضاً ، وهو قوله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).

فثبت أن هدف الحديث إنما هو تحذير المسلمين من الاستمرار في " حب الدنيا وكراهية الموت " ، ويا له من هدف عظيم لو أن المسلمن تنبهوا له وعملوا بمقتضاه لصاروا سادة الدنيا ، ولما رفرفت على أرضهم راية الكفار ، ولكن لا بد من هذا الليل أن ينجلي ، ليتحقق ما أخبرنا به رسول الله -- فى أحاديث كثيرة ، من أن الإسلام سيعم الدنيا كلها ، فقال عليه الصلاة والسلام :

" ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر " . (4)

ومصداق هذا الحديث من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .

وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ولتعلمن نبأه بعد حين ).
3.المعنى الإجمالي للحديث النبوي الشريف :
في الحديث النبوي كما سبق أعلام و إخبار نبوي صادق لا شك فيه عن أحداث عظام ستعرفها امته . وم كبري اليقينيات التي يجب على المؤمن السالك أن يعتقدها في الحبيب ، أن الله تعالى أخبره بما كان منذ عهد آدم عليه السلام وما هو كائن إلى يوم القيامة ، و قد جاءت الأحاديث التي دونها العلماء في هذا الشأن واضحة لا شك فيها ، وهو من الإعجاز الإلهي الذي زاد سيدنا محمدا كرامة و سيادة ورفعة.
وقد كان التكالب على مكتسبات الأمة منذ أن انفرط العقد الفريد بين الدعوة و الدولة داخليا حينما استولى بني أمية على الحكم ، ثم انفرط العقد تدريجيا الى ان كانت حملات الصليبين ثم المغول ثم الأتراك إلى أن كان التفتت التاريخي و دخول الإستعمار الى بلدانينا.
الحديث النبوي الشريف يشير إلى حقيقة الداء وهو كراهية الموت نتيجة منطقية لحب الدنيا.
3. بسط الدنيا:
بسط الدنيا
ما سكنت خشية الله في قلوبهم وقلوبهن إلا لأنهم أحبوا وأحببن من يخشى الله. امتزج في آدميتهم الخطاءة التوابة ما هو نور على نور في بشريته المعصومة . حذرهم من بسط الدنيا وفتنتها، ولولا الوصلة القلبية والقدوة الفعلية لكانت الوصية كلاما. حثهم على جهاد النفس وكفها وامتلاك زمامها، ولولا آيات جِهاده المتلوة والعملية المؤيدة بنصر الله لكان حديثا يذهب اليومُ منه بذكرى الأمس.
أوصاهم قال: "المجاهد من جاهد نفسه". أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن فُضالَةَ بنِ عَبيد بسند صحيح. أوصاهم بجهاد النفس الصابئة إلى الدنيا الراغبة فيها.
التعبئة جهاد نفس، إصلاح ذات قبل مناداة غيرٍ. تُعبِّئين أُمَّةً وأنتِ أَمَةٌ للشهوات، أسيرة في شَرَك الدنيا وشِرْك التقاليد والعادات لا تستطيعين تخالفينها! تُربِّينَ بناتِك وأبناءك إن كانت نَفْسُكِ سيدة الموقف لا عقلُكِ المومن وقلبُكِ العامر بحب الله وخشية الله! تعبئة أمة قَلْبُ عالم. كيف تقلبين العالَمَ وأنت لما تتوبي توبة الذي ربط نفسه بعمود المسجد لزلة زلها! ربطُ جسم عصَى لتُرْبَط نفسٌ أمَرَتْ بالمعصية.
لو حذرهم وما كان قدوة، وزهّدهم في الدنيا وما كان أزهدَهم فيها، وعَبّأهم بالشعارات والخطب وما كانت حقيقتهُ مثالا لما دعا إليه، لَما كانوا هم هُم، ولما كنّ هنّ هنّ. كيف يصرف وجوههم إلى الآخرة وإلى إرادة وجه الله لو لم يكن هو ينبوع الإرادة وقدوة التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار البقاء! محبة أصّلَت الصحبة، صحبة أثمرت ذكر الله وخشية الله، صدق التقى به تصديق فاعتنقه. )والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون. لَهم ما يشاءون عند ربهم. ذلك جزاء المحسنين(.(سورة الزمر، الآيتان: 32-33)
شوَّقهم إلى لقاء الله فاشتاقوا لِما يروْن من دلائل قربه من ربه. قال لهم: "الدنيا سجن المومن وجنة الكافر". أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. خطبهم يوما فقال من أعلى منبره: "إن مما أخاف عليكم بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها". وضرب لهم مَثَل الحياة الدنيا والراتع فيها الغافل عن الله بدابة أكَلت خَضِراً فثلَطت وبالت ثم رتعت. وقال: "وإن هذا المال خضِرٌ حُلو، ونِعْمَ صاحبُ المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وإن من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة". رواه الشيخان والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
علَّم بالكلمة، وعلم بالقدوة، وعلم بضرب الأمثال: "مر بالسوق داخلا من بعض العوالي (أطراف الجبل)، والناس كنَفتيه (حواليه)، فمر بجَدْيٍ ميتٍ أسَكَّ (مقطوع الأذنين)، فتناوَلَهُ وأخذ بأذنيه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيءٍ! ما نصنع به! إنه لو كان حيا كان عيبا، إنه أسك! قال: فوالله للَدنيا أهون على الله من هذا عليكم". أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
بعد حياة زاهدة في الدنيا أشد الزهد، وقُبَيل وفاته ، زار قتْلَى أُحد كالمُوَدِّع للأحياء والأموات، فصلى عليهم، ثم صعد المنبر فقال: "إني بين أيديكم فَرَطٌ (سابق أمامكم) وأنا عليكم شهيد. وإن موعدَكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا. وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا. ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تَنافسوها". رواه البخاري عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال عقبة: فكانت آخِرَ نظرة نَظَرْتُها إلى رسول الله .
من هجم على الدنيا ليغير الدنيا وحبُّ الدنيا مِلء نفسه حقيقٌ أن تصرعه الدنيا وتُنْسِيَه الآخرةَ.الدنيا التي بدأ فتحُها في زمن النبي واستمر بعدَه بقوة الانطلاقة الأولى كانت دنيا قبلية وزراعة وانكفاء أقوام عن أقوام. ونحن دنيانا الحاضرة، وما يتراءى في المستقبل أفحش، هي دنيا صراع على البقاء بين حضارة مادية علومية غنية مسلحة غازية، وبين مستضعفين ما لهم من مقومات القوة شِرْوَيْ نقير بالنسبة لغيرهم. كثرت حاجاتنا المعاشية من دنيانا، وقلت جدوانا، وكثُرت المُغْريات من حولنا في القرية العالم، في العالم السوق. فإن كانت قراءتُنا لزهد النبي وأصحاب النبي نافعةً فَليس من التمثّل بنمط تقشفهم وتقللهم من الدنيا، لكن من التشبع بروح الترفع عن الدنيا وقناعة القلوب من متاعها وزينتها.
كان الفقرُ عاما في ذلك المجتمع المثالي، والتفاوت الطبقي لا يتجاوز امتلاك الغني بضعة أجْمُلٍ وحديقة نخل. انبَسطت الدنيا على الأمة، ثم انزوت، ثم امتدت، ثم انجزرت على مدى قرون. واختل ميزان العدل، فالأمة نفط يفيض دولارات بألوف ألوف الألوف تذروها الرياح في حرب العرب على العرب، والأمة جوع وبؤس وعُري وموت. يَزهدُ روّاد الكازينوهات يقال فيها للنادل والغانية زِهْ! وتعطى ألف دولار أو مليون دولار؟ أو يزهد جيوش من الشباب العاطل انسدت أمامه الآفاق؟ أو يزهد مساكين البنغلاديش والسوائم البشرية في أفريقيا؟
كيف يجمع الزهد هذه المتناقضات والإيمانُ بالله وباليوم الآخر خابٍ في الأفئدة؟ كيف نأتمر بالزهد والعالم من حولنا تنافس بلا نهاية، وترَفٌ يلطِمُ وجه الفقر، والنَفطيُّ يتألقُ في عباءته الذهبية الفضفاضة الطاعمة الكاسية جنبا إلى جنب مع الـمُرابي السويسري وأمير العالم الياباني في أعلى درجة الدخل الفردي السنوي؟
الزهد تربية وإيمان وتوجه كلي للآخرة. الزهد رُوح تظهر فضيلته مع الفقر العام، لا كُلْفة عليه إلا جهاد النفس وكفها عن التنافس في الدائرة المحدودة. وعلى الزهد لتظهر روحه في عالم التنافس الكلِي في العالم السوق الهائج المائج كُلَفٌ منها جهاد التنمية، وجهاد العدل، وجهاد تحرير الأمة، وجهاد تحرير عقل الأمة، وجهاد كفاح أعداء الأمة، وجهاد صون الأمة عن الوباء من كل نوع، وجهاد توحيد الأمة.
تعبئة شاملة وجهاد شامل. وإلا فالموت. جهاد النفس وتربية أجيال، وإلا فالتعبئة خيال. لذلك نستنطق المثال النبوي الصحابي، ثم نستنطق. ونستلهم ثم نستلهم.
قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: "كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء، إلاّ أن يُؤتى باللُّحَيْمِ". في رواية: "ما شبِع آلُ محمد من خُبز البُر (القمح) ثلاثا حتى مضى لسبيله". في رواية أخرى: "ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول الله ". في رواية أخرى: "ما أكل آل محمد أُكلتيْن في يوم واحد إلا وإحداهما تمر". هذه روايات البخاري ومسلم عنها رضي الله عنها.
قال النعمان بن بشير رضي الله عنه وقد عاش حتى رأى كنوز كِسْرى تُساق إلى عمر: "ذكر عمرُ ما أصاب الناسُ من الدنيا فقال: "لقد رأيت رسول الله يظَلُّ اليومَ يلتوي، ما يجد من الدَّقَل (التمْر الرديء) ما يملأ به بطنه". رواه مسلم. لا يجد لأنه كان يصرف أموال المسلمين مصارِفَها، فكان يُعطي ما بين جبلين من غنم وإبل. لكنه لنفسه كان مالكا، وعلى بطنه الشريف كان يربط الحجرَ من الجوع.
مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير. رواه الشيخان والنسائي عن أمنا عائشة رضي الله عنها. وعنها روى الشيخان والترمذي قالت: "تُوفِّي رسول الله وليس عندي شيءٌ ياكله ذو كبِد إلا شَطْرَ (نصف كيل) شعير في رَفٍّ لي. فأكلت منه حتى طال عليّ، فكِلتُه ففنِيَ".
بعد وفاته دخل يوماً على سلمى امرأةِ أبي رافع رضي الله عنهما الحسَـنُ بنُ علي وعبدُ الله بنُ جعفر وعبد الله بنُ عباس رضي الله عنهم فقالوا لها: "اصنعي لنا طعاما كان يعجب رسول الله أكلُه. فقالت: يا بَنِيَّ! إذاً لا تشتهونه اليوم! قالت: فقمت، فأخذت شعيرا فطحنته ونسَفته (نفختُ على النُّخَالة) وجعلت منه خبزة. وكان أُدْمُه الزيتَ. ونثرت عليه الفُلْفُلَ فقرَّبتُه إليهم وقلت: كان النبي يحب هذا". رواه الطبراني بإسناد جيد.
هو كان المثَل الأعلى في العزوف عن الدنيا. كانت الجنة والنار والحوض يراها رأي القلب ورأي العين. غيره من المومنات والمومنين يصدقون، فتارة تغلب جاذبية متاع الدنيا، وطورا يحضر الإيمان وخشية الله واحتقار الملذاتِ والمالِ في جنب ما عند الله.
وكان الصحابيات والصحابة درجات في هذا المعنى. أنسٌ يقص خناقه مع أم أيمن رضي الله عنها الحاضنةِ المدلّلَةِ، وهو كان غلاما يومئذ في الرابعة عشرة أو نحو ذلك. قال: "كان الرجل يجْعل للنبي النخلات (ليجْنيَ تمرها) حتى افتتح قريظة والنضير. وإنّ أهلي أمروني أن آتي النبي فأسْألَه الذي كانوا أعطوه أو بعضه (أي ليرد عليهم نخلهم). قال: وكان النبي قد أعطاه أمَّ أيمنَ. فجاءت أمّ أيمن، فجعلت الثوب في عنقي تقول. كلا! والذي لا إله إلا هو لا يعطيكم وقد أعطانيها -أو كما قالت- والنبي يقول: لكِ كذا. وتقول: كلا والله! حتى أعطاها -حسبتُ أنه قال- عشرة أمثاله". رواه البخاري.
خِناق على الدنيا بين مومنة ومومن. ما كان أهون ما أحوجت الفاقة للنزاع عليه! أخرج ابن سعد عن أم دُرّة خادمةِ عائشةَ رضي الله عنها أنها أتتها -لعله في عهد عمر- بمائة ألف وهي صائمة، ففرقتها. قالت أم درة: "فقلت لها: أما استطعت فيما أنْفَقْتِ أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لو كنتِ أذكَرْتنِي لفعلت". طراز آخر من التربية، ودرجة، وعهد انبسطت فيه الدنيا وفاضت بمآت الآلاف.
وأخرج ابن سعد بسند صحيح أن عمر في خلافته بعث إلى أم المومنين سودةَ رضي الله عنها بغِرارة من دراهم (كيس كالذي تخزن فيه الحبوب). فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم. قالت: في غرارة مثل التمر! ففرقتها.
وأخرج بن سعد عن بَرَّة بنتِ رافع قالت: "لما خرج العطاء أرسل عُمَرُ إلى أم المومنين زينب رضي الله عنها بالذي لها. فلما أُدْخِل عليها قالت: غفر الله لعمر! غيري مِن أخواتي كان أقوى على قَسم هذا مني! قالوا: هذا كله لكِ! قالت: سبحان الله!".
قلت: ما أسْمى ما ربى المربّي! لم تر المال إلا شيئا يُقْسم على المحتاجين، لا أفاعيَ متربصة في الخزائن. قال الراوي: واستترت من المال بثوْبٍ، وقالت: ضعوه واطرحوا عليه ثوبا. قلت: وهل امتثل أحد تحذير رسول الله من الدنيا كما امتثلت أم المومنين! قال الراوي: ثم قالت لبرة: أدخِلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فُلان وبني فلان من أهلِ رحِمِها وأيتامها. حتى بقيت منه بقية تحت الثوب.
قال الراوي: فقالت لها برة: غفر الله لك يا أم المومنين! والله لقد كان لنا في هذا حق! قالت: فلكم ما تحت الثوب. قالت: فوجدنا ما تحته خمسة وثمانين درهما. ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يُدْرِكْني عطاءُ عمر بعد عامي هذا. فماتت رضي الله عنها وأرضاها.
في الحديث أن المال الذي لا يزكى يأتي صاحبه إلى القبر على صورة شجاع أقرع (ثعبان عظيم). تسترت أم المومنين من الثعبان تصديقاً ودفعت عنها البلاء.)كتاب تنوير المؤمنان ، للشيخ عبد السلام ياسين.
4. دورات السيادة :
منهاج ما جاءت به السنة كما قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعن أبيه. وكلمة "منهاج" وردت في حديث نتخذه إماما، هو قوله فيما رواه الإمام أحمد بسند صحيح ينتهي إلى حذيفة:"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت" .
قال الحافظ العراقي: حديث صحيح. فنحن على موعد إن شاء الله مهما طال الزمن ومهما تعسرت الطريق ومهما تعوصت الأسباب.
ونصل إلى الشطر الثاني من عنوان هذه الفقرة (نحلة الغالب) لنفحص فعل الزمن الماضي الطويل وما يعسر من طريق وما يعوص من أسباب. نفحص ونعمق البحث في العائق النفسي والعقبة الذاتية فينا أفرادا وفي الأمة جماعة. هذا أولا. لا أعني أن نوقف حركة الحياة وعجلة التاريخ وندخل في مصحة هادئة حتى
"ص22"
نعالج أمراض نفوسنا ومجتمعنا. بل أعني الأسبقية الاعتبارية، والاهتمام المركز. والحياة متحركة، وعجلة التاريخ دائرة. وسط المعمعة لا خارجها. لا يستوي القاعدون والمجاهدون. تموت وتنتهي إن تخلفت عن ركب لا ينتظر.
عبارة "نِحْلَةُ الغالب" صاغها ابن خلدون رحمه الله وأودعها ملاحظته الثاقبة المشهورة التي تقول: إن المغلوب يقلد الغالب. ولنسمع كلامه.
قال رحمه الله في المقدمة:"فصل في أن المغلوب مولَع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" .
"والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقَر عندها من تعظيمه، أو لما تُغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به" .
كلمات نتأملها لنكشف المداخل النفسية من تعظيم الغالب لقوته، ثم الانقياد له، ثم مغالطة النفس وإقناعها أن الغالب القوي أكمل، ثم رسوخ كل ذلك عقيدة، ثم انتحال جميع مذاهبه والتشبه به والاقتداء في الشعار والزي وسائر الأحوال والعوائد. ونزيد نحن: والثقافة والسياسة التابعة والاقتصاد الاستعماري وتبرج النساء وتفسخ الأخلاق. إلى آخر الأوبئة.
"ص23"
في فصل آخر من المقدمة يتحدث ابن خلدون رحمه الله عن "دين الانقياد". يقصد بذلك ما تتوارثه الأجيال الرازحة تحت نِير الملك العاض والجبري من عادة الخضوع للحاكم، إلى أن يصبح ذلك الخضوع عقيدة راسخة متجذرة في النفوس، لا تنكر ولا تغير ولا تتحدث عن إنكار النفوس المتدينة لذلك الدين المتدنية المنحطة.
النِّحلة لغة الدين. فهما مرضان في جسم الأمة ممتزجان في مرض واحد: مرض موروث عن انحطاط قرون، ومرض طارئ هو ما أصابنا من الاستعمار. هما دينان يصبان في عقيدة واحدة: دين الانقياد ونحلة الغالب حسب تعبير حكيمنا ابن خلدون رحمه الله. مرض ونحلة ساكنان في جسم الأمة وعقلها ونفسها.
في أسفار التاريخ وفي ذاكرة الأمة سرد لما ارتكبه الاستعمار ويرتكبه من مخاز ومظالم وفظائع. يا لَلمسلمين والبوسنة في هذه الأيام الأليمة تعاني مالا يصفه القلم من عدوان مجرم!
تزول مع الأيام الآثار العمرانية الاقتصادية مما يجنيه الغالب في حق المغلوب. وتبقى الإصابات الذهنية النفسية الثقافية التي تخضع لها النفوس تتجرعها كرها، ثم تبررها مغالطة، ثم تتبناها تقليدا للنحلة الغالبة، ثم تصطفيها عقيدة ومذهبا ونمط حياة وأسلوب حضارة وغاية وجود. رواسب فينا متراكمة طبقا عن طبق.
"ص24"
مع الهوى الفردي ونزغات الشياطين يسكن في أعماق نفوس المسلمين مثبط التشبه وخاذل المماثلة. وقد حذر رسول الله من التشبه بالكفار في أحاديث كثيرة أوصلها بعض الحفاظ إلى ثمانين حديثا.
"نحلة الغالب" ميل من نفس المغلوب وانهزام، حتى ولو لم تكن للغالب خطة "لتنحيل" المغلوب. فكيف والاستعمار الحاضر له خطة واستراتيجية وتكتيك للغزو الثقافي الاقتصادي السياسي، ووسائل إعلامية مالية عسكرية!
كيف والغالب أصبح له بين ظهرانينا من بني جلدتنا خلفاء ووكلاء متشبعون ومتشبعات بمذهبه وعاداته وفكره. مخلصون ومخلصات لقضيته في صميم الأمر وإن كانوا وكن يدعون الوطنية والنضال لنصرة القوم!
عصرنة لاييكية قبل كل دين! هذا نداء الغالب يردده بين ظهرانينا الوكلاء والوكيلات. و يدعو الله ربنا إلى اقتحام العقبة، ويرسم رسوله المنهاج الواعد بالرشد للأمة والفلاح للمتقين. فما مكانة أخت الإيمان من القوة الاقتحامية، ما حظها من الجهاد؟ ما نصيبها من حمل العبء الثقيل؟) نفس المصدر.
للموضوع بقية
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
.في شرح حديث نبوي شريف عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 07-09-2011 02:22 PM
في شرح حديث نبوي شريف عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 12:16 PM
في شرح حديث نبوي شريف عمرالحسني المواضيع الاسلامية 0 10-30-2010 12:11 PM
حديث أبي زرع عبدالقادر حمود المواضيع الاسلامية 0 04-27-2010 05:16 PM
حديث شريف الشيخ محمود فارس المواضيع الاسلامية 3 12-21-2009 02:42 AM


الساعة الآن 07:32 PM




جميع المواضيع و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي المنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir