كلهم يتساءلون ,وكثيرون منهم سألوه عن سبب تأخر حمل خضراء ,فكان يقابلهم بالخجل وأن الأمر مرجعه إلى الله .وكثيرا"ما كانوا يقولون له :لقد مر على زواجك قرابة عام ,فاعرض نفسك على طبيب !!! تقوي الباه ,وتثير الغلمة ,لقد شرح لهؤلاء الأطباء وضعه وأحواله ,فأعطوه الدواء مرارا"لكن لم ينفعه شيئا". ...وفي إحدى ليلي الصيف الثاني لزواجهما ,جلس عبد منفردا"في داره يحمل هموم الدنيا كلها ,يغرق في التفكير ,يتيه في تساؤلات شاردة منه وواردة إليه :كيف ...متى ...لماذا؟... واقتربت منه خضراء مداعبة تربت على كتفه :بماذا تفكر يا عبد ؟. نظر إليها فشاهد ابتسامتها التي أزاحت عنه جانبا"من الهموم .ثم عاد يطأطىْ رأسه إلى الأرض . قالت :تكلم يا عبد !!! بماذا تفكر ؟ولماذا لا تنظر إلي ؟! قال عبد :إنني أطلب منك شيئا"يا خضراء ,وأرجو أن تساعديني فيه ؛إنني لم أتمكن من الدخول بك ,رغم مرور أكثر من عام على زواجنا ,فإما أن أطلقك ,وأدفع لك الذي ترغبين عن المهر المؤجل ,على أن لا تفضحيني في رجولتي ,حتى لا يعيرني رجال وولدان دير العتيق الذين ولعوا بالألقاب والهمز .وإما أن تصبري معي ,وترضي بما أنت فيه ,فأنت سيدة البيت ,ونرجئ كل شيء إلى الله تعالى ,عسى أن يتبدل كل عسر عندي يسرا". بتلك الكلمات التي قالها عبد لزوجته البتول ,وضع عن كاهله تلك الأثقال والكرب التي أرهقته,وكشف كل شيء عنه أمام زوجته . بكت خضراء ..ورفعت رأسها قائلة :يا عبد !!!أتظن أنني تزوجتك من أجل هذا ؟!!أتظن أنني استعجلت هذا الأمر ,أو اهتممت به كما تظن ؟!!إنني لا أتبرم منك لهذا السبب أو غيره ,هل طلبت منك طلاقا"؟!!هل طلبت منك فراقا"؟!!هل سمعت من أحد أنني تكلمت عنك كلمة واحدة تحط من قدرك ,وتمسّك بسوء !!!سامحك الله يا عبد ... لا والله يا خضراء ,ولكنني أريد أن أكون بريْ الذمة أمام الله وأمامك ,وأريد أن أعرف الحقيقة ,حتى لا نسير في حياتنا إلا على بصيرة . قالت وهي تزيح عنه آخر الهموم والأحزان :إنني راضية بك زوجا"بهذه الأحوال ,فهل ترضى بي زوجة ؟!!إنني لا أريد بديلا"عنك سادة الدنيا وكبراءها . نظر إليها عبد والدموع تتساقط من عينيه ,ولفها بذراعه الحانية ,وعانقها عناقا"طويلا",شاركته فيه بسكب العبرات الغزار ,والدموع الساخنة ... وأويا إلى فراشهما متعانقين ,لم يفصل بينهما إلا المؤذن يدعو للصلاة ,فقاما إلى مزملتهما الكبيرة يغترفان منها ليتوضآ. ذهب عبد إلى الجامع ليصلي الفجر جماعة ,وجلست خضراء في زاوية غرفتها تصلي ,ثم راحت تعدّ له طعام الإفطار . ********** كانت خضراء تذهب إلى دكان زوجها بعد أن تنتهي من عمل بيتها ,وتجلس بجانب زوجها , ونتيجة مجيئها إلى المكتبة ,أصبحت تعرف أسعار الكتب ,وأنواعها ,وطبعاتها ,وأسماء المؤلفين ,وشيئا"كثيرا"من محتويات هذه الكتب وحياة كتّابها . كان عبد يفتح باب دكانه الثقيل صباحا",ويستمر على كرسيه الخشبي الكبير جالسا"يقر أ إلى أذان الظهر ,وتأتي خضراء ,فتجلس في مكان زوجها تلبس عباءتها السوداء ,وتقرأ ما شاءت من الكتب إلى أذان المغرب حيث يأتي زوجها بعد قيلولته فيغلق الدكان ويعودان إلى بيتهما. استمرت حياتهما على هذا المنوال أكثر من ثلاثين سنة ,استطاعت خضراء أن تقرأ الفقه ,والتفسير ,والحديث ,والتاريخ ,وقد اسع أفق معرفتها ,فكانت تناظر زوجها ,وتتحدث لزائرتها , وحينما تذهب إلى المآتم ؛كانت ترشد النساء وتعظهن ,وتحثهن على الصبر والسلوان . مرض عبد مرضا"طويلا" أقعده الأرض ,وألزمه الفراش ,كانت خضراء تسهر على راحته ,وتسقيه الدواء ,وتجلب له الأطباء كلما استحكم منه المرض .. إنها تجلس بجانب عبد على هذه الخدمة ,وذاك السهر الطويل ,ويدعو لها من سويداء قلبه . لقد عرف عبد أن هذا المرض العضال سوف يودي به إلى شفير القبر , فقرر أن يهبها كل ما يملك من مال وبيت ومكتبة وكتب ,وأعلن ذلك مرارا"أمام عوّاده وزائريه من أقاربه وأصدقائه . وذات يوم كان رأسه في حجر خضراء تمسح جبينه بباطن كفها ,وتكف شعره المبعثر على وجهه ,وتنظر إليه ,وينظر إليها ,إذ مال رأسه وهو يتمتم بالشهادة . وشعرت بوفاته ,فأغمضت عينيه ,ورفعت حنكه المسترخي ,وغطت وجهه بمنديل من حرير . وسمع الجيران بكائها فجاءوا مولولين ,باكين ,واجتمع أقاربهما ,فانسلّت من بين النساء ,وجهزت الماء الساخن لتغسيله ,وراح الرجال ينهمكون في غسله وتكفينه ,ثم حملوه في نعش إلى المقبرة . كانت خضراء تكثر الترحم عليه والدعاء له بالغفران ,وكانت عبارة ؛إنا لله و إليه راجعون لا تغادر فمها . لم تنثر شعرها ,ولم تشق جبينها ولم تقف إلى جانب (القاصودة )في (المعادة )لتعدد محاسن عبد ,فهي تعرفه تمام المعرفة ,بل بقيت جالسة في البيت ولم تخرج مع النساء إلى المقبرة . كانت صابرة محتسبة ,جلست تستقبل النساء المعزيات ,ولم تسمح لواحدة منهن بالبكاء والعويل ,وكانت تكفكف دموع الباكيات وتستر شعورهن بمناديلهن ,ثم تحضهن على الصبر . وطلبت من إحدى النساء أن تقرأ القرآن مدة المأتم التي استمرت سبعة أيام . انتهى المأتم ,فراحت خضراء إلى مكتبة زوجها الراحل لتبع الكتب وتعيش مما تدره عليها من أرباح .كان أقاربها الذين يذهبون إلى حلب يجلبون لها الكتب التي تختارها ,خدمة لها وعطفا"عليها كانت تتصدق كثيرا"على روح زوجها فلا ترد سائلا". وتصنع الطعام الذي كان يحبه فتوزعه على الفقراء والبائسين ,وتقرأ بعد صلاة الفجر القرآن الكريم ,وتهب روحه الطاهرة ثوابه . كانت تفكر به ليلا"ونهارا"...وكانت ....وكانت . مرت سنة على هذا الفراق القاسي ,فلم تعد خضراء تتمكن من فتح باب الدكان ,فلازمت فراشها .وهو فراش زوجها الذي كان ينام عليه ,وفي نفس الغرفة والزاوية . وشعرت هي الأخرى بالأجل يقترب منها شيئا"فشيئا",فكانت وهي في شدة الألم تذكر محاسن زوجها وسجاياه ,وتترحم عليه . وجلست حولها نسوة من قريباتها ,فراحت تطريه أمامهن بأحسن الأوصاف ,وأنبل المزايا ,تمدحه كأجمل ما يمدح عاشق معشوقه وولهان بمن تله في حب محبوبه .ونظرت في وجوههن مودّعة وقالت لهن :إنني لا زلت عذراء منذ أكثر من ثلاثين سنة من زواجي بالمرحوم عبد ,إنه لم يدخل بي رحمه الله فأنا بكر الآن كما كنت في بيت أهلي قبل الزواج ,وأخبركن ,أن هذا الحديث لم يعلم به أحد من الناس غيركن قبل الآن . لقد كان بارا"بي , لم يحرمني شيئا"طلبته منه ,أرجو منكن إذا متّ أن تنفقوا هذه الكتب على طلبة العلم ,وكذلك أثاث البيت ومحتوياته على روحه الطاهرة ,وأن تدفنوني بجانبه لأكون قريبة منه حيا"وميتا". وأخبرتهن أنها تحتفظ بمبلغ من المال لكفنها ودفها ,وأغمضت عينيها ,ولحقت بزوجها الراحل . وعمل المقربون بوصاتها ,فدفنوها بجانبه ,وأنفقوا الكتب على روح زوجها ,وراح الناس يضربون المثل بها في الوفاء وحسن العهد بين الزوجين فيقولون وفاء خضراء ) ودفنت خضراء في التراب ,ودفنت سيرتها في قلوب من عرفوها وذاكرتهم ,فكانت ألسنتهم تلهج بالدعاء لها كلما ذكروها أو ذكروا الوفاء . .تلك هي خضراء (بتول الفرات )رحمها الله .