آدابُ الإِقامةِ بمكَّةَ المكرَّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين.. والصَّلاة والسَّلام على سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: فإنَّ لله خواصّاً، في الأزمنةِ والأمكنةِ والأشخاص، ومن خواصِّ الله تعالى في الأمكنةِ ((مكَّة المكرَّمة)).
ومكةُ كما قال سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرُ أرضِ الله) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
فينبغي للحاج والمعتمر أن يغتنم بعد قضاء مناسكه فترةَ مُقامه بها؛ بأن يستكثر من الطواف والصلاة في المسجد الحرام، فالصَّلاة فيه أفضلُ منها في غيره من الأرض جميعها..
أخرج الشيخان عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلا المسجدَ الحرام).
ويستحبُّ التطوُّع بالطواف لكلِّ أحد، سواء الحاجُّ والمعتمرُ وغيرُه، ويستحبُّ في الليل والنَّهارِ وسائر الأوقات، ولا يُكرَهُ في ساعة من الساعات.. وكذا لا تُكرَهُ صلاةُ التطوُّعِ في وقت من الأوقات بمكَّةَ ولا بغيرها من بقاع الحرم كلِّه عند السادة الشافعية.. أما عند السادة الحنفية فالصلاةُ في الأوقات المكروهة حكمها في المسجد الحرام كغيره من المساجد، حتى إنَّ من طاف وأراد صلاةَ ركعتي الطواف الواجبة ينتظر خروجَ وقت الكراهة ليصلِّيَها.
ويستحبُّ لمن جلس في المسجد الحرام أن يكون وجهه إلى الكعبة المشرَّفة، ويقرب منها، وينظر إليها إيماناً واحتساباً، فإنَّ النظر إليها عبادة، وقد جاءت آثار في فضل النظر إليها..
ويستحبُّ أن يصلي قريباً من الكعبة إلا إن خشي المزاحمة والإيذاء.
وليكن شأنُه الدعاءُ والتضرُّعُ بخضوع وخشوع مع حضور القلب، وليكثر من الدعوات المهمة، ولا يشغل بصرَه بما يُلهيه عن المقام الذي هو فيه، بل يَلزَمُ الأدبَ وحفظَ الحُرمةِ والحضور..
ويستحبُّ الاستكثار من دخول الحِجر والصلاة فيه، فإنَّه من البيت، إلا إن خشي الإيذاءَ أو المزاحمة.
ويستحبُّ له أن ينوي الاعتكافَ كلَّما دخل المسجدَ الحرامَ، فإنَّ الاعتكافَ مستحبٌّ لكلِّ من دخل مسجداً من المساجد، فكيف الظنُّ بالمسجد الحرام؟!
فيقصد بقلبه حين يصير في المسجد أنه معتكفٌ لله تعالى.. ثمَّ يستمرُّ له الاعتكاف ما دام في المسجد، فإذا خرج زال اعتكافُه، فإذا دخل مرَّةً أخرى نوى الاعتكافَ، وهكذا كلَّما دخل؛ وهذا من المهمَّات التي يُستحبُّ المحافظةُ عليها والاعتناءُ بها.
ويستحبُّ الشربُ من ماء زمزم والاستكثار منه. روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال في زمزم: (إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ.. إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ) رواه الطَّبراني. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (ماء زمزم لما شرب له) رواه ابن ماجه. أي: سببٌ لنيل ما نويتَه بشربه.
وقد شرب جماعةٌ من العلماء ماءَ زمزمَ لمطالبَ لهم جليلةٍ فنالوها؛ فيستحبُّ لمن أراد الشرب للمغفرة أو الشفاء من مرضٍ ونحوِهِ أن يستقبلَ القبلةَ، ثم يذكرَ اسمَ الله تعالى، ثم يقول: (اللهمَّ إنَّه بلغَني أنَّ رسولَك صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ماءُ زمزمَ لما شُرِبَ له، اللهمَّ وإني أشربُهُ لتغفر لي، اللهمَّ فاغفر لي.. أو: اللهمَّ إني أشربه مستشفياً به من مرضي، اللهمَّ فاشفني.. ونحو هذا).. ويستحبُّ أن يتنفَّس ثلاثاً، ويتضلَّع منه، أي: يتملَّأ.
ويستحبُّ لمن دخل مكةَ حاجَّاً أو معتمراً أن يختم القرآنَ فيها قبل رجوعه، وأن يُكثر من ذكر الله تعالى والصَّلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم.
ويستحبُّ زيارةُ المواضعِ المشهورةِ بالفضل في مكة والحرم.
وقد سبق أنَّ الصلواتِ يتضاعف الأجرُ فيها في مكة، وكذا سائرُ أنواع الطاعات.. وقد ذهب جماعاتٌ من العلماء إلى أنَّه تتضاعف السيِّئات فيها أيضاً، وممَّن قال ذلك التَّابعيُّ الجليلُ مجاهد، والإمامُ أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهما.
وقال الإمامُ الحسنُ البصريُّ رضي الله عنه: صومُ يومٍ بمكَّة بمئة ألف، وصدقةُ درهمٍ بمئة ألف، وكلُّ حسنةٍ بمئة ألف.
فيستحبُّ أن يُكثِرَ فيها الصلاةَ والصومَ والصدقةَ والقراءةَ وسائرَ الطاعات التي تُمكِنُهُ.
وصلى الله تعالى على سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.